السيل
الجرار المتدفق على حدائق الأزهار
كتاب الأيمان
مدخل
...
كتاب الإيمان
[ فصل
إنما يوجب الكفارة الحلف من مكلف مختار مسلم
غير أخرس بالله أو بصفة لذاته أو لفعله لا
يكون على ضدها كالعهد والأمانة والذمة أو
بالتحريم مصرحا بذلك قصد إيقاع اللفظ ولو
أعجميا أو كانيا قصده والمعنى بالكتابة أو
أخلف أو أعزم أو أقسم أو أشهد أو علي يمين أو
أكبر الأيمان غير مريد للطلاق على أمر مستقبل
ممكن ثم حنث بالمخالفة ولو ناسيا أو مكرها له
فعل ولم يرتد بينهما وتنعقد على الغير في
الأصح ولا يأثم بمجرد الحنث]
قوله: "فصل: إنما يوجب الكفارة الحلف من
مكلف".
أقول : وجه اشتراط التكليف أن الصبي والمجنون
غير مخاطبين بالأحكام الشرعية وهذا منها وقد
دل الدليل على ذلك كما أوضحنا غير مرة وهكذا
اشتراط الاختيار لأن المكره مرفوع عنه الخطاب
بحكم الشرع وهو أيضا مع الإكراه غير معقد
لليمين وقد قال تعالى: {بِمَا عَقَّدْتُمُ
الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89]، وقد رفع الله
سبحانه الخطاب على من تكلم بكلمة الكفر مكرها
قال: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ
مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل: 106]،
وأيضا خطاب لمكره بيمينه االتي أكره عليها هو
من تكليف ما لا يطيقه العبد وقد رفعه الله عن
عباده كما في الكتاب العزيز وفي السنة
الصحيحة.
وأما اشتراط أن يكون مسلما فلكون الكافر غير
داخل في الخطابات الواردة في ذلك بتكفير
الأيمان وحفظها وإن كان آثما بالحلف الباطل
فإن ذلك الإثم هو باعتبار العقاب في الدار
الآخرة.
(1/683)
وأما اشتراط أن
يكون غير أخرس فوجهه أن لا يمكن منه الحلف فلا
يثبت عليه حكمه.
قوله: "بالله أو بصفة لذاته أو لفعله".
أقول : أما الحلف بالله فهو الثابت في الشرع
ثبوتا لا شك فيه ولا شبهة حتى ثبت في الصحيحين
[البخاري "6646"، مسلم "1646"]، وغيرهما [أبو
داود "3249"، الترمذي "1534"، النسائي "7/5"،
أحمد "2/11، 17، 142"، ابن ماجة "2094"]، من
حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: "من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت"،
وهكذا ثبت في رواية هذا الحديث عند مسلم
"4/1646"، وغيره النسائي "3764"، بلفظ: "من
كان حالفا فلا يحلف إلا بالله"، وفي هذا
المعنى أحاديث.
وأما الحلف بالصفات فقد ثبت أنه كان أكثر حلفه
صلى الله عليه وسلم أن يقول: "لا ومقلب
القلوب"، [البخاري "6646"، مسلم "1646"،
الترمذي "1540"، النسائي "7/2"، وثبت عنه أنه
كان كثيرا ما يحلف فيقول والذي نفسي بيده
وهكذا ثبت في الصحيحين وغيرهما عنه صلى الله
عليه وسلم فقال: "وأيم الذي نفس محمد بيده"،
وثبت أيضا فيهما وغيرهما أنه قال في زيد بن
حارثة: "وأيم الله إن كان لخليقا للإمارة"،
وثبت أيضا فيهما [البخاري "11/521"، مسلم
"2426"]، وغيرهما [الترمذي "1430" أبو داود
"4373"، النسائي "8/73، 74"، أحمد 6/162"، ابن
ماجة "2547"]، أنه قال: "وأيم الله لو أن
فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها"، وثبت في
الكتاب العزيز الأمر منه سبحانه لرسوله صلى
الله عليه وسلم بأن يحلف بالرب عزوجل فقال:
{قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يوونس:
53]، {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ}
[التغابن: 4]، {قُلْ بَلَى وَرَبِّي
لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سيأ: 3].
والحاصل أن ما ورد في الإذن بالأقسام به في
الكتاب والسنة فهو القسم الذي تلزم فيه
الكفارة وتثبت له أحكام اليمين وقد ألحقوا
بذلك سائر صفات الذات والفعل التي لا يكون
الله سبحانه على ضدها.
وأما قوله: "كالعهد والأمانة والذمة" فهذه لا
بد من ورود الإذن بها ولا سيما ورد النهي من
بعضها كما في حديث بريدة عند أبي داود "3253"،
بإسناد رجاله ثقات قال قال الله صلى الله عليه
وأله وسلم: "ليس منا من حلف بالأمانة" ، وأخرج
الطبراني في الأوسط بإسناد رجاله ثقات من حديث
ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا
يحلف بالأمانة فقال: "ألست الذي تحلف
بالأمانة؟"، قال في النهاية يشبه أن تكون
الكراهة فيه لأجل أنه أمر أن يحلف بأسماء الله
وصفاته و الأمانه أمر من أموره فنهوا عنها من
أجل التسوية بينها وبين أسماء الله كما نهوا
أن يحلفوا بآبائهم انتهى ولا يخفاك أن العهد
والذمة مشاركان للأمانه في هذه العلة.
قوله: "أو بالتحريم".
أقول: لم يأذن الله لعباده بهذا الحلف وعاتب
عليه رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: {يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ
(1/684)
مَا أَحَلَّ
اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ
أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1]. ولا يدل قوله
سبحانه: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ
تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]، على
أن الحلف كان بالتحريم لاحتمال الآية فإن
الحالف بالله أن لا يفعل الشيء يصدق عليه أنه
قد حرمه على نفسه والروايات من الأحاديث
الحاكية لهذه القصة التي سبب نزول هذه الآية
مختلفة.
والحاصل أن التحريم والتحليل هو إلى الله
عزوجل لا إلى العبد فكل تحريم لما أحله الله
يوجبه العبد على نفسه لا حكم له ولا اعتبار به
ولا يصير به الحلال حراما ولا يكون يمينا لما
قدمنا من الاحتمال وعلى كل تقدير فلا يجوز
لأحد من العباد أن يفعل شيئا عاتب الله عليه
ورسوله فإن فعل كان ذلك لغوا لا اعتداد به.
قوله: "مصرحا بذلك".
أقول : الاعتبار بما يصدق عليه أنه يمين شرعية
على الصفة المتقدمة فما كان من الألفاظ لا
يحتمل غير اليمين فهو يمين فإن أراد خلافه أو
سبقه لسانه لا يلزمه اليمين من غير فرق بين
الصريح والكناي.ة
والحاصل أن الاعتبار بالقصد في كل لفظ فلا يتم
قوله قصد إيقاع اللفظ لأنه لا اعتبار بمجرد
قصد إيقاع اللفظ بل الأعمال بالنيات وقد تقدم
الكلام على هذا في الطلاق وفي كثير من
الأبواب.
قوله: "أو حلف أو أعزم أو أقسم".
أقول : أما لفظ أحلف أو أقسم فهو لا يراد بهما
إلا اليمين وإن لم يحلف بالمقسم به فيكونا مع
قصد الحلف يمينا وقد أخرج أحمد "6/114"،
بإسناد رجاله رجال الصحيح من حديث عائشة أن
امرأة أهدت إليها تمرا في طبق فأكلت بعضه وبقي
بعضه فقالت أقسمت عليك إلا أكلت بقيته فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبريها فإن
الإثم على المحنث"، فجعل النبي صلى الله عليه
وسلم قولها هذا يمينا وأمرها أن تبرها وأخرج
أيضا أحمد وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن
صفوان وكان صديقا للعباس أنه لما كان يوم
الفتح جاء بأبيه إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال: يا رسول الله بايعه على الهجرة,
فأبى وقال: "إنه لا هجرة" فانطلق إلى العباس
فقام العباس معه فقال يا رسول الله قد عرفت ما
بيني وبين فلان وأتاك بأبيه لتبايعه على
الهجرة فأبيت فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"لا هجرة"، فقال العباس: أقسمت عليك لتبايعنه
فبسط رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فقال:
"هات أبررت عمي ولا هجرة". وثبت في الصحيحين
[البخاري "7046"، مسلم "2269"]، وغيرهما [أبو
داود "3268"، الترمذي "2494"، ابن ماجة
"3918"، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي
بكر: "لا تقسم"، لما قال له لتحدثني بالذي
أخطأت فسمى صريح اليمين قسما.
وأما قوله: "أو أعزم" فليس في هذا ما يفيد
اليمين ولكنه كان كثير الوقوع من السلف لا
سيما الأكابر منهم كانوا يقولون فيما يريدون
وقوعه من غيرهم أو عدم وقوعه عزمت
(1/685)
عليك لتفعلن
كذا أو عزمت عليك لتتركن كذا وكانوا يرون أن
ذلك قسما ويسارعون إلى الامتثال.
وأما قوله: "أو أشهد" فقد سمى الله سبحانه
الأيمان شهادة في آية اللعان.
وأما قوله: "علي يمين أو أكبر الأيمان" فظاهر
أنه أراد بهذا اليمين.
قوله: "على أمر مستقبل ممكن".
أقول : وجهه أنه لا يتحقق الحنث الموجب
للكفارة إلا في الأمور المستقبلة لأن الحلف
على الأمر الماضي إن كان الحالف عالما بأنه
على خلاف ما حلف عليه فهي اليمين الغموس وإن
كان غير عالم فهو اليمين اللغو وسيأتي أنه لا
كفارة فيهما.
وأما قوله: "ولو ناسيا أو مكرها" فالظاهر
أنهما لا حنث عليهما ولا تلزمهما الكفارة لرفع
خطاب الشرع عنهما كما في حديث: "رفع عن أمتي
الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"، وقد تقدم
الكلام على هذا الحديث وظاهر الرفع يعم الأمور
الدنيوية والأمور الأخروية إلا ما خصه الدليل
وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أن
الله سبحانه لما حكى عن القائلين: {رَبَّنَا
لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ
أَخْطَأْنَا} إلى آخر الآيات قال: "قد فعلت"
فقد ثبت بهذا الدليل الصحيح رفع الخطأ
والنسيان وعدم المؤاخذة بهما وكذلك ثبت به عدم
المؤاخذة بما هو خارج عن طاقة العبد فتكليف
المكره هو تكليف بما لا طاقة له به.
وأما قوله: "ولم يرتد بينهما" فوجهه أن
الإسلام يجب ما قبله كما ثبت ذلك بالدليل
الصحيح.
قوله: "وتنعقد على الغير على الأصح".
أقول : هذا الإنعقاد يخالف ما تقدم له في قوله
ممكن فإن المراد الإمكان للحالف وهو لا يتمكن
من فعل غيره وقد عرفناك أن الخطاب بما لا يمكن
هو من المؤاخذة للعبد بما لا طاقة له به وقد
رفع الله سبحانه ذلك عن عباده.
قوله: "ولا يأثم بمجرد الحنث".
أقول : ينبغي أن يقال الحنث يختلف باختلاف
المحلوف عليه فإن حلف على أن يفعل ما لا يجوز
فعله كان الحنث واجبا عليه وإن حلف على شيء
غيره خير منه كان الحنث مندوبا كما في
الأحاديث الثابتة في الصحيحين [البخاري
"6622"، مسلم "19/1652"]، وغيرهما [أحمد
"5/62ـ 63"، أبو داود "3278"، النسائي
"7/10"]، من طرق جماعة من الصحابة: "من حلف
على شيء فرأى غيره خيرا منه فليأت الذي هو خير
وليكفر عن يمينه"، بل ثبت في الصحيح عنه صلى
الله عليه وسلم أنه قال: "والله لا أحلف على
شيء فأرى خيرا منه إلا أتيت الذي هو خير وكفرت
عن يميني".
ولا يبعد أن يكون الحنث من هذه الصورة واجبا
لقوله: "فليأت الذي هو خير" وإن كان المحلوف
على فعله مباحا فترك الحنث أفضل لأن الله
سبحانه قد أمر بحفظ الأيمان ومعنى
(1/686)
حفظها هو عدم
المخالفة لما يقتضيه وإن كان المحلوف على عدم
فعله مما يجب فعله كان الحنث واجبا وإن كان
مما يجب تركه كان الحنث حراما.
وبهذا تعرف أن الحنث في بعض الصور يوجب الإثم
على الحانث وفي بعضها يوجب الثواب للحانث فهذه
الكلية التي جاء بها المصنف غير مسلمة.
[ فصل
ولا تلزم في اللغو وهي ما ظن صدقها فانكشف
خلافه والغموس وهي ما لم يعلم أو يظن صدقها
ولا بالمركبة ولا بالحلف بغير الله ولا الإثم
ما لم يسو في التعظيم أو تضمن كفرا أو فسقا.
قوله: "فصل: ولا يلزم من اللغو وهي ما ظن
صدقها فانكشف خلافه".
أقول : قد اختلف أهل العلم في تفسير اللغو على
ثمانية أقوال ولا يخفى أن الواجب الرجوع إلى
معنى اللغو لغة إذا لم يثبت له معنى في الشرع
يخالف معناه اللغوي فإن ثبت فالرجوع إلى
المعنى الشرعي مقدم على المعنى اللغوي كما
تقرر في الأصول.
واللغو في اللغة الباطل ولكنه ثبت عن عائشة أن
البخاري "4613"، وغيره أنها قالت نزلت هذه
الآية: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ
بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225،
المائدة: 89]، في قول الرجل لا والله وبلى
والله والصحابة أعرف بمعاني القرآن فالرجوع
إلى أقوالهم هو الواجب وقد روي عنها وعن جماعة
من الصحابة تفاسير مختلفة لمعنى اللغو ولكنهم
لم يذكروا أن ما قالوه هو ما نزل به القرآن مع
عدم ثبوت ذلك من وجه تقوم به الحجة على أنه قد
روى أبو داود "3254"، قول عائشة هذا مرفوعا
بلفظ قالت عائشة إن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: "هو كلام الرجل في بيته كلا والله
وبلى والله"، وهكذا أخرجه مرفوعا ابن حبان
والبيهقي وصحح الدارقطني الوقف وقد روي عن ابن
عباس وابن عمر وابن عمرو مثل قول عائشة.
وقد أوضحنا الكلام في هذه المسألة في شرح
المنتقى وفي التفسير فليرجع إلى ذلك.
قوله: "والغموس وهي ما لم يعلم أو يظن صدقها".
أقول : هذه اليمين هي التي ورد الوعيد الشديد
عليها وثبت في صحيح البخاري "11/555"، 12/191،
12/264"، وغيره أحمد "6/359، 360"، الترمذي
"3021" من حديث ابن عمرو قال جاء أعرابي إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله
ما الكبائر فذكر الحديث وفيه اليمين الغموس
وفيه قلت وما اليمين الغموس قال: "التي يقتطع
بها مال أمريء مسلم فهو فيها كاذب".
وأخرج أحمد "2/362"، وأبو الشيخ من حديث أبي
هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1/687)
"خمس ليس لهن
كفارة"، وذكر منها اليمين التي يقتطع بها مالا
بغير حق فصرح النبي صلى الله عليه وسلم بأن
اليمين الغموس هي "التي يقتطع بها مال امريء
مسلم هو فيها كاذب" وسماها غموسا فلم يبق
بحاجة إلى البحث عن معنى الغموس لغة فإن هذا
معنى شرعي قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم
صرح فيه بلفظ الغموس وبين معناها ثم ذكرأنه
ليس لها كفارة فأفاد بذلك عدم لزوم كفارة
الحنث فيها فصح كلام المصنف بالدليل ولا يرد
عليه شيء من التشكيكات التي هي دأب من لم يكن
من المؤثرين للدليل على القال والقيل.
قوله: "ولا بالمركبة".
أقول : اليمين لغة وشرعا لا يصدق على مثل هذه
المركبة فإنه ليس فيها لفظ القسم بالله أو
بصفة لذاته فلا يصدق عليها أنها يمين حتى
يحتاج إلى إخراجها عن اليمين التي تجب فيها
الكفارة ولا مدخل لها في مباحث اليمين فإن وجد
فيها ما يفيد النذر فالكلام فيها كالكلام في
النذر وسيأتي وإن لم يكن فيها ما يفيد ذلك فلا
يلزم فيها شيء لا وفاء ولا كفارة ومن ادعى غير
هذا فعليه الدليل والأموال معصومة بعصمة
الإسلام فلا يحل الحكم على شيء منها بإخراجه
عن ملك مالكه إلا بنا قل شرعي تقوم به الحجة.
قوله: "ولا بالحلف بغير الله".
أقول : الكفارة إنما أوجبها الله سبحانه في
الأيمان الشرعية والحلف بغير الله سبحانه ليس
من الأيمان الشرعية بل من الأيمان التي ورد
الوعيد عليها والزجر عنها وهذا النهي خاص
بالعباد فليس لأحدهم أن يحلف بغير الله كائنا
ما كان ولا يجوز الإقسام بما أقسم الله به من
مخلوقاته فإنه سبحانه لا يسأل عما يفعل وهم
يسألون وله أن يقسم بما شاء كيف شاء من
مخلوقاته وعلى العباد أن يمتثلوا ما شرعه لهم
على لسان رسوله من ترك الحلف بغير الله سبحانه
وهذا ظاهر واضح لا يخفى.
قوله: "ولا الإثم ما لم يسو في التعظيم".
أقول : أقل ما تقتضيه الأحاديث الكثيرة في
النهي عن الحلف بغير الله والوعيد الشديد عليه
أن يكون الفاعل لذلك آثما لأنه أقدم على فعل
محرم والإثم لازم من لوازم الحرام وأما
الاستدلال على عدم الإثم بما ورد في غاية
الندرة والقلة كحديث: "أفلح وأبيه إن صدق"،
فمن الغرائب والمغالظ وكيف تهمل المناهي
والزواجر التي وردت موردا يقرب من التواتر
بمثل هذا الذي تعرض العلماء لتأويله بوجوه من
وجوه التأويل التي يجب استعمالها والمصير
إليها فيما خالف السنن الظاهرة المشتهرة على
أنه قد تقرر في الأصول أن فعله صلى الله عليه
و آله وسلم لما نهى عن الأمة يدل على اختصاصه
به وأما التسوية في التعظيم فهي موجبة للإثم
الشديد لمجردها ولو كانت في غير اليمين بل ذلك
نوع من أنواع الإشراك بالله سبحانه وهكذا ما
تضمن كفرا أو فسقا فإنه يأثم بمجرد ذلك وقد
وردت الأدلة بأن الحالف بما يقتضي الكفر يلزمه
ما حلف به ويكون كما قال وورد أنه يؤمر بأن
يقول: "لا إله إلا الله" [البخاري "6650"،
مسلم
(1/688)
"5/1647"]،
وذلك يدل على خروجه من الإسلام وهكذا إذا جاء
بما يدل على ذلك من غير يمين فإنه يكون ردة.
[ فصل
وللمحلف على حق بماله التحليف به نيته وإلا
فللحالف إن كانت واحتملها اللفظ بحقيقته أو
مجازه وإلا اتبع معناه من عرفه ثم عرف بلده ثم
منشئه ثم الشرع ثم اللغة ثم حقيقتها ثم مجازها
فالبيع والشراء لهما وللسلم والصرف صحيحا أو
فاسدا معتادا ولما تولاه مطلقا أو أجازه أو
أمر به إن لم يعتد توليه.
ويحنث بالعتق ونحوه فيما حلف ليبيعنه والنكاح
وتوابعه لما تولاه أو أقر به مطلقا لا البناء
ونحوه فكالبيع والنكاح للعقد وسره لما حضره
شاهدان والتسري للحجبة والوطء وإن عزل والهبة
ونحوها للإيجاب بلا عوض ولا للصدقة والنذر
والكفالة لتدرك المال أو الزوجة والخبز له
وللفتيت كبارا والإدام لكل ما يؤكل به الطعام
غالبا إلا الماء والملح للعرف واللحم لجسد
الغنم والبقر والإبل وشحم ظهورها والشحم شحم
الألية والبطن والرؤوس لرؤوس الغنم وغيرها إلا
لعرف والفاكهة لكل ثمرة تؤكل وليست قوتا ولا
دواء ولا إداما والعشاء لما يعتاد تعشيه
والتعشي لما بعد العصر إلا نصف الليل وهذا
الشيء لأجزأه المشار إليه على أي صفة كانت إلا
الدار فما بقيت فإن التبس المعين المحلوف منه
بغيره لم يحنث ما بقي قدره والحرام لما يحل
حال فعله والحلي للذهب والفضة ونحوها إلا خاتم
الفضة ويعتبر حال الحالف والسكون للبث محصوص
يعد به ساكنا ودخول الدار لتواري حائطها ولو
تسلقا إلى سطحها ومع اللبس والمساكنة والخروح
والدخول على الشخص والمفارقة بحسب مقتضى الحال
والوفاء يعم الحوالة والإبراء ورأس الشهر لأول
ليلة منه والشهر إلى آخر جزء منه والعشاء إلى
ثلث الليل إلا لقربى في آخره والظهر إلى بقية
تسع خمسا والكلام لما عدا الذكر المحض منه
والقراءة للتلفظ والصوم ليوم والصلاة لركعتين
والحج للوقوف وتركها لترك الإحرام بها والمشي
إلى ناحية لوصولها والخروج والذهاب للإبتداء
بنيته وإلا بإذني للتكرار وليس من الإيذان
والدرهم لما يتعامل به من الفضة ولو زائفا
ورطل من كذا لقدره منه ولو مشاعا].
قوله: "فصل: وللمحلف على حق بماله التحليف به
نيته".
(1/689)
أقول : هكذا
ورد الدليل فأخرج أحمد "2/228، 331"، ومسلم
"1653"، والترمذي "1354"، وابن ماجة "2121"،من
حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "يمينك على ما يصدقك به صاحبك"،
وفي لفظ لمسلم "21/1653"، وابن ماجة "2120"،
من هذا الحديث: "اليمين على نية المستحلف"،
ومعنى هذا الحديث ظاهر واضح وإيراد الأبحاث
المتضمنة للتشكيك فيه حاصلها الرد على رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله: "فللحالف إن كانت" إلخ فقد حكى
الإجماع على ذلك القاضي عياض والنووي ويدل
عليه حديث سويد بن حنظلة قال خرجنا نريد رسول
الله صلى الله عليه وسلم ومعنا وائل بن حجر
فأخذه عدو له فتخرج القوم أن يحلفوا وحلفت أنه
أخي فخلي عنه فأتينا إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: "أنت كنت أبرهم
وأصدقهم صدقت المسلم أخو المسلم"، أخرجه أحمد
"13/134، 135"، وأبو داود "3256"، وابن ماجه
2119"، ورجاله ثقات وهو من رواية إبراهيم بن
عبد الأعلى عن جدته عن سويد بن حنظلة وعزاه
المنذري إلى مسلم فينظر في صحة ذلك.
وقد أبان رسول الله صلى الله عليه وسلم لسويد
أن يمينه بارة صادقة وأوضح له أن لذلك وجها إن
كان مقصودا له وإن لم يكن مقصودا له فقد صح
حلفه وبر في يمينه لما حصل بها من تخليص رجل
من المسلمين من يد ظالمة وما ذكره من تقديم ما
يدل عليه العرف فوجهه ظاهر لأن الحالف إنما
يقصد في يمينه ما يتعارف به أهل بلده.
والحاصل أنه يحمل كلامه على ما هو الغالب على
قصده السابق إلى إرادته وإن كان ممن يعرف لغة
العرب أو يعرف ما نقله الشرع عنها صار بعد ذلك
النقل معنى شرعيا فإنه لا يحمل على ذلك مع
وجود العرف المستقر الشائع المتقرر عند الحالف
وقومه فإن كان لا عرف في ذلك الذي تكلم به كان
الرجوع في مثله إلى المعنى العربي أو الشرعي
إن كان الحالف ممن يعرفهما ويتكلم بهما ويقدم
المعنى الحقيقي على المعنى المجازي ويقدم
الشرعي على اللغوي وهكذا اعتبار صحيح لا بد
منه ولا وجه للاعتراض عليه للقطع بأن المقاصد
والإرادات هي التي يحمل عليها الكلام وكل
متكلم لا يريد إلا ما هو الغالب في لسانه
ولسان قومه ولو حمل كلامه على غير ذلك لكان
حملا للكلام على خلاف ما هو المراد منه
والمقصود به وذلك غلط أو مغالطة.
وقد أطال المصنف من ذكر هذه الأمثلة الحزبية
إلى آخر الفصل وذلك ينافي ما هو المقصود له من
الاختصار ولا يتعلق به كثير فائدة لأن غاية ما
فيه بيان ما هو السابق إلى الفهم في هذه
الأمور في عرف المصنف وأهل عصره من جهته
والأعراف تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة فإن
كان عرف الحالف مخالفا لشيء من هذه الصور التي
ذكرها المصنف كان الاعتماد على عرفه لا على ما
ذكره المصنف ها هنا مع أن ذكر هذه الصور مفسدة
وهي أنه يظن المقصرون أن الرجوع إليها محتم
وأن حمل كلام الحالف عليها متعين وإن
(1/690)
كان عرفه
مخالفا لها وهذا ظن باطل وخيال مختل وتوهم
فاسد وإن كان ما ذكره المصنف في بعض هذه الصور
بيانا للمعنى اللغوي أو الشرعي فقد عرفت أنه
لا يصار إلى ذلك إلا عند عدم العرف.
[ فصل
ويحنث المطلق بتعذر الفعل بعد إمكانه والمؤقت
بخروج آخره متمكنا من البر والحنث ولم يبر
والحالف من الجنس ببعضه ولو منحصرا إلا في عدد
منصوص وما لا يسمى كله ببعضه كالرغيف وإلا
مثبت المنحصر والمحلوف عليه والمعطوف بالواو
فبمجموعه لا مع لا أو باو فبواحد فينحل ويصح
الاستثناء متصلا غير مستغرق وبالنية دينا فقط
وإن لم يلفظ بعموم المخصوص إلا من عدد منصوص
ولا تكرر الكفارة بتكرر اليمين أو القسم ما لم
يتعدد الجزاء ولو مخاطبا بنحو لا كلمتك].
قوله: "فصل: ويحنث المطلق بتعذر الفعل بعد
إمكانه".
أقول : هذا كلام معقول المعنى واضح الوجه فإن
المحلوف عليه إذا أمكن ثم تعذر بعد الإمكان
فقد حصل الحنث بعدم إمكان الوفاء ولا فرق بين
أن يكون واجبا أو حراما وأما وجوب فعل الواجب
وتحريم فعل الحرام فأمره راجع إلى صفة الفعل
فما كان يجب عليه فيه الفعل واجب وما كان يجب
عليه فيه الترك ترك.
وأما اعتبار الإمكان فوجهه أنه لو لم يتمكن
بوجه من الوجوه ولا تراخى فيما يجب عليه فيه
الفعل أو الترك فورا لكان التكليف به من تكليف
ما لا يطاق وهو ممنوع.
وما ذكره من أنه يحنث بانقضاء وقت المؤقت مع
التمكن من البر والحنث فذلك صحيح لأن الحلف
لما أضيف إلى الوقت كان معتبرا فلا يمكن البر
بعد خروجه.
قوله: "والحالف من الجنس ببعضه ولو منحصرا".
أقول : قد تقرر أن دخول الألف واللام على
الجموع يوجب هدم الجمعية ومصيرها للجنس فإذا
حلف لا يلبس الثياب ولا يركب الدواب حنث بلبس
ثوب واحد وركوب دابة واحدة وهكذا ولو قال لا
لبس ثيابه ولا ركب دوابه فإن الإضافة تفيد
مفاد اللام ولا ينبغي أن يقال في مثل هذا إن
المعنى الحقيقي يشمل الجميع فلا يحنث إلا بلبس
الجميع أو ركوب الجميع لأنا نقول ها هنا أمر
هو قرينة قوية على عدم إرادة المعنى الحقيقي
وهو ما ذكرنا من انهدام معنى الجمعية وأما
المحصور بالعدد فلا شك أن الحنث أو البر لا
يكون إلا بذلك العدد ولو قيل أنه يحنث بالبعض
لكان معنى العدد ضائعا.
(1/691)
وأما كونه لا
يحنث فيما لا يسمى كله ببعضه كالرغيف فظاهر
لأن المعنى الحقيقي لا يتناول البعض وحده ولا
قرينة تصرف المعنى إلى ذلك.
وبقية ما ذكره المصنف في هذا الفصل أمرها واضح
ظاهر معلوم من علم اللغة والإعراب فلا نطيل
البحث بالكلام عليه وذكر وجهه وهكذا قوله إنها
لا تتكرر الكفارة بتكرر اليمين أو القسم فإنه
مما لا ينبغي أن يقع فيه خلاف والقسم هو
اليمين كما في كتب اللغة فكان أحد الأمرين
يغني عن ذكر الآخر.
[ فصل
والمركبة من شرط وجزاء إن تضمنت حثا أو منعا
أو تصديقا أو براءة فيمين مطلقا وإلا فحيث
يتقدم الشرط لا غير ولا لغو فيها وإذا تعلقت
أو القسم بالدخول ونحوه فعلا أو تركا
فللاستئناف لا لما في الحال لا السكون ونحوه
فللاستمرار بحسب الحال ومن حلف لا طلق لم يحنث
بفعل بشرط ما تقدم إيقاعه].
قوله: "فصل: والمركبة" الخ.
أقول : هذا التركيب لا يصدق عليه لغة ولا شرعا
أنه يمين فإن أراد المتكلم به النذر كان له
حكمه وإن لم يرد ذلك كان من التعليق للعتق أو
الطلاق أو نحوهما بشرط نحو إن دخلت الدار
فعبدي حر أو نحو ذلك و قد تقدم الكلام على مثل
هذا في الطلاق والعتق وقدمنا أيضا الكلام على
المركبة عند قول المصنف ولا بالمركبة ولا وجه
لما ادعاه المصنف من الإجماع على أنها يمين
فإن خلاف أهل العلم فيها محرر في كتب الخلاف
وقد استوفى ذلك ابن رشد المالكي في نهايته وقد
ذهب أهل الظاهر إلى أنها ليست بيمين ولا نذر
ولا يتعلق بها حنث ولا يلزم الوفاء بها.
(1/692)
[
باب الكفارة
والكفارة تجب من رأس المال على من حنث في
الصحة مسلما ولا يجزيء التعجيل وهي إما عتق
يتناول كل الرقبة بلا سعي ويجزيء كل مملوك إلا
الحمل والكافر وأم الولد ومكاتبا كره الفسخ
فإن رضيه استرجع ما قد سلم من بيت المال أو
كسوة عشرة مساكين مصرف للزكاة ما يعم البدن أو
أكثر إلى الجديد أقرب ثوبا أو قميصا أو
(1/692)
إطعامهم ولو
متفرقين عونتين بإدام ولو مفترقين فإن فاتوا
بعد الأولى استأنف ويضمن الممتنع أو تمليك كل
منهم صاعا من أي حب أو تمر يقتات أو نصفه برا
أو دقيقا وللصغير كالكبير فيهما ويقسط عليه
ولا يعتبر إذن الولي إلا في التمليك ويصح
الترديد في العشرة مطلقا لا دونهم وإطعام بعض
وتمليك بعض كالعونتين لا الكسوة والإطعام إلا
أن يجعل أحدهما قيمته تتمة الآخر فالقيمة
تجزيء عنهما في الأصح إلا دون المنصوص من غيره
ومن لا يملك إلا ما استثني أو بينه وبين ماله
مسافة ثلاث أو كان عبدا صام ثلاثا متوالية فإن
وجد أو عتق ووجد خلالها استأنف ومن وجد لإحدى
كفارتين قدم غير الصوم].
قوله: "باب: والكفارة تجب من رأس المال".
أقول : قد ذكر الله سبحانه في الكتاب العزيز
أن هذه الكفارة هي كفارة الأيمان فأفاد ذلك
أنها واجبة على من حنث في يمينه وأما التفصيل
بين كونها من رأس المال أو من الثلث فمبني على
ما سيأتي في الوصايا وسيأتي الكلام عليه ويؤيد
وجوب الكفارة ما قدمنا من الأحاديث المشتملة
على الأمر بالتكفير كقوله صلى الله عليه وسلم:
"فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه".
قوله: "ولا يجزيء التعجيل".
أقول : يدل على هذا ما في الأحاديث الثابتة في
الصحيحين وغيرهما بلفظ فليأت الذي هو خير
وليكفر عن يمينه وفي لفظ للنسائي وأبي داود من
حديث عبد الرحمن ابن سمرة: "إذا حلفت على يمين
فكفر عن يمنيك ثم أئت الذي هو خير"، وفي صحيح
مسلم من حديث عدي بن حاتم قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "إذا حلف أحدكم على يمين
فرأى غيرها خيرا منها فليكفرها وليأت الذي هو
خير".
وفي هاتين الروايتين دليل على جواز إخراج
الكفارة قبل الحنث ويجمع بينهما وبين سائر
الروايات المصرحة بتأخير الكفارة عن الحنث بأن
الكل جائز ويعكر على هذه الرواية المصرحة
بالترتيب بلفظ نعم فإنها تدل على أن تقديم
الكفارة على الحنث متحتم ولا يعارضها رواية
تأخير الكفارة لأنها بالواو والواو لمطلق
الجمع ولا تدل على الترتيب وهذه الروايات
المصرحة بتأخير الكفارة معارضة بما ذكرنا من
حديث عدي بن حاتم فإنه قدم الكفارة في هذه
الرواية وأخر الحنث كما قدم الحنث في تلك
الروايات وأخر الكفارة والكل بلفظ الواو التي
لمطلق الجمع فتبقى رواية الترتيب بثم خالصة عن
المعارض وقد صححها ابن حجر في بلوغ المرام
وأخرج نحوها أبو عوانة في صحيحه وكذلك الحاكم
أخرج نحوها عن عائشة وأخرج الطبراني من حديث
أم سلمة بلفظ: "فليكفر عن يمينه ثم ليفعل الذي
هو خير".
فهذه الأحاديث متعاضدة على تقديم الكفارة على
الحنث قال ابن المنذر رأى ربيعة والأوزاعي
ومالك والليث وسائر فقهاء الأمصار غير أهل
الرأي يعني الحنفية أن الكفارة تجزىء
(1/693)
قبل الحنث إلا
أن الشافعي استثنى الصيام فقال لا يجزىء إلا
بعد الحنث وقال وعن مالك روايتان ووافق
الحنفية أشهب من المالكية وداود الظاهري وخالف
داود من أصحابه ابن حزم وذكر عياض أن عدة من
قال بجواز تقديم الكفارة من الصحابة أربعة عشر
صحابيا قال وتبعهم فقهاء الأمصار إلا أبا
حنيفة وقد استوفيت هذا البحث في شرح المنتقى
فليرجع إليه.
قوله: "وهي إما عتق" الخ.
أقول : كان على المصنف أن يقتدي بالكتاب
العزيز فيقدم ما قدمه ويؤخر ما أخره وما يظن
من أن العتق أفضل فهو مجرد دعوى فإن الأفضل هو
ما بدأ الله به وإن كان غيره أكثر قيمة منه
وقد ثبت مشروعية الابتداء بما بدأ الله سبحانه
به كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "أبدأ بما
بدأ الله به"، [مسلم "84/1780"،وهو الصحيح.
قوله: "ويجزئ كل مملوك".
أقول : هذا هو الأصل المرجوع إليه مع الإطلاق
كما في الآية ومن اشترط الإيمان جعل هذه الآية
المطلقة مقيدة بآية كفارة القتل والكلام في
جواز هذا التقييد أو عدمه مستوفى في الأصول
والظاهر أنه لا وجه للقول بالتقييد لأن ذنب
كفارة القتل مغلظ وذنب كفارة اليمين مخفف ولا
يقيد ما هو مخفف بما هو مغلظ فإنه اختلاف يوجب
بقاء المطلق على إطلاقه ولا سيما مع اختلاف
السبب فإنه بمجرده مانع من التقييد وأما
استثناء الحمل فصحيح لأنه لا يصدق عليه وقت
عتقه عن الكفارة أنه رقبة مملوكة.
وأما استثناء الكافر فلا وجه له لأنه قد جاز
تملكه فأجزأ عتقه عن الكفارة.
وأما استثناء أم الولد والمكاتب فصحيح لأنهما
قد صارا مستحقين للعتق بسبب آخر.
قوله: "أو كسوة عشرة مساكين" الخ.
أقول : لا وجه لقوله مصرف للزكاة بل المعتبر
من صدق عليه معنى المسكنة وإن منع من صرف
الزكاة فيه مانع آخر كالهاشمي ودعوى أن
الكفارة لا تحل لهم محتاج إلى دليل والقول
بأنها من أوساخ الناس وأنه لا يحل لهاشمي ما
كان كذلك منقوض بصدقه النفل فإنها من أوساخ
الناس ولعله قد تقدم لنا كلام على قول المصنف
ويحل لهم ما عدا الزكاة والفطرة والكفارات
فيرجع إليه والمراد ما يصدق عليه أنه كسوة لغة
أو شرعا فإن كان الثوب الواحد يقال له كسوة
كان وحده مجزيا وإن كان لا يصدق إلا على ثوبين
أو أكثر فلا بد من ذلك ولكنه قد كثر في لسان
العرب وفي عبارات أهل الإسلام قولهم ثوبا كساه
كساه جبة كساه قميصا فأفاد ذلك أن الثوب
الواحد يكفي وأما ما روي مرفوعا أن الكسوة
عباءة لكل مسكين فلم يصح من وجه تقوم به
الحجة.
قوله: "أو إطعامهم" الخ.
أقول : المعتبر ما يصدق عليه مسمى الإطعام ولا
شك أن من صنع طعاما لعشرة وأطعمهم إياه يصدق
عليه أنه قد أطعم عشرة مساكين ويكفي في ذلك
مرة واحدة ليلا أو نهارا ولا دليل
(1/694)
على أنه يجب
إطعامهم مرتين وأما كون ذلك الإطعام بإدام فلا
يصح هذا الاشترط إلا على فرض أنه لا يصدق
الإطعام إلا على مجموع الطعام والإدام وهو
خلاف ما تدل عليه لغة العرب وعرف أهل الشرع
كما يفيد ذلك واقعات كثيرة من أيام النبوة.
وأما التمليك فإن ورد دليل يدل على أنه إطعام
فذاك والعجب ممن قال إنه لا يجزيء إلا التمليك
مع القطع بأن الإطعام يصدق على إطعامهم الطعام
المصنوع صدقا مجمعا عليه لا خلاف فيه بين أهل
اللغة وأهل الشرع وأما كونه الترديد في العشرة
فظاهر لا يحتاج إلى النص عليه وهكذا إطعام بعض
وتمليك بعض فإنه لا بأس بذلك إن صدق الإطعام
على التمليك كما تقدم لا إطعام البعض وكسوة
البعض فإنه غير ما أمر الله به شرعا لعباده
لأن الفاعل لذلك لم يكفر بالإطعام ولا
بالكسوة.
وأما إجزاء القيمة فإن صدق عليه أنه إطعام
فذاك وإلا فلا يجزئ.
وأما إجزاء الصوم فهو المنصوص عليه في الآية:
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} وظاهر الآية أنه يجزيء
الصوم للثلاث متفرقا بعد التقييد بالتتابع
لكنه قد قرأ ابن مسعود متتابعات فأفاد ذلك
وجوب التتابع إذا صح إسناد هذه القراءة إليه.
(1/695)
باب النذر
[ فصل
يشترط في لزومه التكليف والاختيار حال اللفظ
واستمرار الإسلام إلى الحنث ولفظه صريحا
كأوجبت أو تصدقت أو على أو مالي كذا أو نحوها
أو كناية كالعدة والكتابة والشرط غير مقترن
بصريح نافذ وفي المال المال كون مصرفه قربة أو
مباحا يتملك.
وإنما ينفذ من الثلث مطلقا ومقيدا يمينا أو لا
مملوكا في الحال أو سببه أو في المال إن قيده
بشرط فأضاف إلى ملكه وحنث بعده كما أرثه من
فلان ومتى تعلق بالعين المملوكة اعتبر بقاؤها
واستمرار الملك إلى الحنث ولا تدخل فروعها
المتصلة والمنفصلة الحادثة قبل الحنث غالبا
وتضمن بعده ضمان أمانة قبضت لا باختيار
المالك.
ولا تجزيء القيمة عن العين ويصح تعليق تعيينها
في الذمة وإذا عين مصرفا تعين ولا يعتبر
القبول باللفظ وتبطل بالرد والفقراء لغير ولده
ومنفقه والمسجد للمشهور ثم
(1/695)
معتاد صلاته ثم
حيث شاء وفي الفعل كونه مقدورا معلوم الجنس
جنسه واجب وإلا فالكفارة إلا في المندوب
والمباح فلا شيء.
ومتى تعذر أوصى على نحو الحج والصوم كالفرض
وعن غيرهما كغسل الميت لكفارة يمين كمن التزم
ترك محظور أو واجب ثم فعله أو العكس أو نذرا
ولم يسم.
وإذا عين للصلاة والصوم والحج زمانا أثم
للتأخير لم يجزه التقديم إلا في الصدقة ونحوها
فيجزيه وفي المكان تفصيل وخلاف ومن نذر بإعتاق
عبده فأعتق بر ولو بعوض أو عن كفارته].
قوله: "باب: النذر فصل ويشترط في لزومه
التكليف والاختيار" الخ.
أقول : أما اشتراط التكليف فلكون الصغير
والمجنون لا يلزمهما ما أوجبه الله على عباده
فضلا عن أن يلزمهما ما أوجباه على أنفسهما
وأما اشتراط الاختيار فلكون المكره قد رفع عنه
قلم التكليف بالأدلة الشرعية كما قدمنا ذلك في
غير موضع.
وها هنا بحث ينبغي التكلم عليه وهو أن النذر
قد أجمع المسلمون على صحته ووجوب الوفاء به
كما حكى هذا الإجماع النووي في شرح مسلم وحكاه
غيره أيضا ومدح الله في كتابه العزيز من يفي
بالنذر فقال: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ
وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ
مُسْتَطِيراً} [الإنسان: 7]، وثبت عنه صلى
الله عليه وسلم في الصحيح من حديث عائشة أنه
قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن
يعصيه فلا يعصه"، وورد ما يدل على كراهته إذا
لم يدل على تحريمه كحديث ابن عمر في الصحيحين
[البخاري "6608"، مسلم "2/1639"]، وغيرهما
[أبو داود "3288"، النسائي "3801"، ابن ماجة
"2122"]، قال نهى رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن النذر وقال: "إنه لا يرد شيئا وإنما
يستخرج به من البخيل" وفي الصحيحين وغيرهما
أيضا من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "لا يأتي ابن آدم النذر
بشيء لم أكن قدرته ولكن يلقيه النذر إلى القدر
فيستخرج الله فيؤتيني عليه ما لم يكن يؤتيني
عليه من قبل"، أي يعطيني قال أبو عبيدة القاسم
بن سلام النهي عن النذر والتشديد فيه ليس هو
أن يكون مأثما ولو كان كذلك ما أمر الله أن
يوفى به ولا حمد فاعله ولكن وجهه عندي تعظيم
شأن النذر وتغليظ أمره لئلا يستهان بشأنه
فيفرط في الوفاء به ويترك القيام به وذكر
المازري أن وجه النهي أن الناذر يأتي بالقربة
مستثقلا لها لما صارت عليه عليه ضربة لازب وكل
ملزوم فإنه لا ينشط للفعل نشاط مطلق الاختيار.
وذكر القاضي عياض أنه وقع الإخبار بذلك على
سبيل الإعلام بأنه لا يغالب القدر ولا يأتي
الخير بسببه والنهي عن اعتقاد خلاف ذلك خشية
أن يقع ذلك في ظن بعض الجهلة وذكر ابن الأثير
نحو هذا في النهاية.
وهذا التأويل الثالث هو أظهر ما قيل فالنذر في
طاعة الله مشروع والوفاء به واجب يثاب
(1/696)
عليه العبد
ثواب الواجب والنذر في معصية حرام يأثم الفاعل
له ويحرم عليه الوفاء وتجب عليه الكفارة كما
في حديث عائشة عند أحمد "6/247"، وأهل السنن
أبو داود "3290"، الترمذي "1524"، النسائي
"7/26"، ابن ماجة "2125"، قالت: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "لا نذر في معصية وكفارته
كفارة يمين"، وفي إسناده مقال طويل ويعضده ما
أخرجه أبو داود بإسناد حسن من حديث ابن عباس
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نذر
نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين"، ويعضده
أيضا حديث عقبة بن عامر عند مسلم "13/1645"،
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"كفارة النذر كفارة اليمين".
قوله: "واستمرار الإسلام إلى الحنث".
أقول : وجهه أنه قربة ولا قربة لكافر فلا يصح
منه في حال كفره أن يفي بنذر نذره يتضمن
القربة وأما إذا نذر بقربة في حال كفره ثم
أسلم فقد قام الدليل الصحيح أنه يفي بنذره لما
أخرجه ابن ماجة من حديث عمر بن الخطاب بإسناد
رجاله رجال الصحيح قال نذرت نذرا في الجاهلية
فسألت النبي صلى الله عليه وسلم بعدما أسلمت
فأمرني أن أفي بنذري.
وثبت في الصحيحين [البخاري "2032، 2043، 4320،
6697، 3144"، مسلم "1656"]، وغيرهما [أبو داود
"3325"، الترمذي "1539"، النسائي "3820، 3821،
3822"، ابن ماجة "2129"، أحمد "1/37، 419"]،
عنه أنه قال قلت يا رسول الله إني نذرت في
الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام
فقال: "أوف بنذرك" وزاد البخاري في رواية:
"فاعتكف ليلة".
وأخرج أحمد وابن ماجة عن ميمونة بنت كردم قال
كنت ردف أبي فسمعته يسأل رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال يا رسول الله إني نذرت أن أنحر
ببوانة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أبها وثن أو طاغية؟"، قال: لا, قال: "أوف
بنذرك"، ورجال إسناده في سنن ابن ماجة رجال
الصحيح.
وأخرجه أحمد "3/419"، أيضا من حديث كردم بن
سفيان أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله
عن نذر نذره في الجاهلية فقال: "ألوثن أو
لنصب؟"، قال: لا ولكن لله, قال: "أوف لله ما
جعلت له انحر على بوانة وأوف بنذرك".
وأخرج أبو داود "3313"،من حديث عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده أن امرأة قالت يا رسول الله
إني نذرت أن أنحر بمكان كذا وكذا مكان كان
يذبح فيه أهل الجاهلية؟ قال: "لصنم أو لوثن؟"
قالت: لا, قال: "أوفي بنذرك" وهو شاهد للحديث
الأول وإن لم يذكر فيه أنها نذرت في الجاهلية
لأن الظاهر أنها لا تنذر هذا النذر إلا في
الجاهلية لا في الإسلام.
قوله: "صريحا كأوجبت" الخ.
أقول : قد عرفناك غير مرة أنه لا تعويل على
خصوص الألفاظ بل المعتبر ما يدل على المقصود
بأي دلالة كانت والمشروط فيه يقع عند حصول
شرطه ويلزم الوفاء به إن كان قربة
(1/697)
وإلا وجبت
الكفارة لما تقدم من الأدلة والوفاء بالوعد
وبالنذر واجب للأدلة الدالة على أن خلف الوعد
من خصال النفاق.
قوله: "وفي المال كون مصرفه قربة".
أقول : وجه هذا الأدلة التي قدمناها في وجوب
الوفاء بالنذر في طاعة الله ومن ذلك حديث عمرو
بن شعيب عن أبيه عن جده عند أحمد وأبي داود
والطبراني والبيهقي أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: "لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه
الله"، قال في مجمع الزوائد في إسناده عبد
الله بن نافع المدني وهو ضعيف انتهى ولكن هذا
المدني لم يكن في إسناد أبي داود لأنه أخرجه
عن أحمد بن عبدة الضبي عن المغيرة بن عبد
الرحمن عن أبيه عبد الرحمن عن عمرو بن شعيب
وفي رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده المقال
المشهور ولكنه لا يخرج حديثه بذلك عن كونه
حسنا.
وهذا الحديث وحديث: "من نذر أن يطيع الله
فليطعه" المتقدم يدلان على أنه لا يصح أن يكون
مصرف النذر مباحا ومنطوقهما أرجح ومفهوم حديث:
"لا نذر في معصية الله" وسيأتي مزيد كلام في
المباح.
وما قيل من أن كون الفعل قربة وصف عائد إلا
الناذر لا إلى المصرف فهو مدفوع بأنها لا
تتحقق القربة في فعل الناذر إلا مع ملاحظة كون
الصرف في ذلك المصرف قربة فمن هذه الحيثية صح
نسبة القربة إلى المصرف.
قوله: "وإنما ينفذ من الثلث" إلخ,
أقول : لما يدل على هذا دليل يخصه وفي القياس
على الوصايا لقوله صلى الله عليه وسلم فيها:
"الثلث والثلث كثير"، نظرا لأن الوصايا مضافة
إلى ما بعد الموت وهذا منجز في حال الحياة فإن
كان مضافا إلى ما بعد الموت كان له حكم
الوصية.
وقد استدل على هذا بما روي من رده صلى الله
عليه وسلم لصدقة من تصدق بجميع ماله كصاحب
الثوبين وصاحب البيضة الذهب وفيه نظر لأنه صلى
الله عليه وآله وسلم علل ذلك بأن الفاعل لذلك
يتكفف الناس من بعد ذلك.
وهكذا لا يصح قياس هذا على من أعتق الستة
الأعبد مع كونه لا يملك غيرهم فأنفذ النبي صلى
الله عليه وسلم اعتق اثنين وأرق أربعة لأن ذلك
الذي أعتق هؤلاء كان عليه دين فباع النبي صلى
الله عليه و آله وسلم الأربعة في دينه.
والظاهر أن النذر في حال الصحة نافذ من جميع
المال كسائر التصرفات المالية وأما من ادعى
تخصيص النذر بهذا الحكم فعليه الدليل.
ويمكن الاستدلال لذلك بحديث كعب بن مالك
الثابت في الصحيحين [البخاري "4418"، مسلم
"2769"، أنه قال يا رسول الله إن من توبتي أن
أنخلع من مالي صدقة فقال: "أمسك عليك بعض
مالك"، وفي لفظ لأبي داود "3321"، قلت: فنصفه؟
قال: "لا"، قلت: فثلثه؟
(1/698)
قال: "نعم"،
وفي لفظ لأبي داود "3319"،أنه قال له: "يجزيء
عنك الثلث" وهكذا ما روي من حديث أبي لبابة
عند أحمد "3/452، 453"، وأبي داود "3320".
وأما ما ذكره من اشتراط كونه مملوكا أو سببه
فصحيح لا يحتاج إلى ذكر وجهه وهكذا إذا نذر
بما يرثه من مورثه فإنه صحيح لأنه قيد النذر
بوصول ذلك إلى ملكه ولم ينذر بما لم يملك حتى
يكون النذر بما لا يملك العبد الذي ورد النهي
عنه.
وهكذا اشتراط بقاء العين المنذور بها إلى حضور
الوقت أو حصول الشرط الذي قيد النذر به فإنه
لا بد من ذلك ومع التلف لا يلزمه شيء.
وأما ما ذكره من أنها لا تدخل فروعها المتصلة
الحادثة قبل الحنث فالظاهر في مثل هذا أنه
يرجع إلى قصد الناذر فإن قصد النذر بالعين
مجردة عن فروعها الحادثة لم تدخل الفروع وإن
قصد أنها من جملة النذر دخلت وإن كان لا قصد
له فالظاهر أن فروع العين المنذور بها لاحقة
بها,
قوله: "وتضمن العين بعده ضمان أمانة قبضت لا
بإختيار المالك".
أقول : لا ضمان عليه في هذا إلا لجنابة أو
تفريط ولا يضمن بغير ذلك ولا وجه لذلك لا من
رواية ولا من رأي صحيح فإن المنذور به هو قبل
النذر ملك الناذر فمع الجناية أو التفريط قد
تسبب للضمان ووجب عليه العوض ومع التلف بغير
هذين السببين لا سبب لتضمينه أصلا.
وأما ما ذكره من كونها لا تجزيء القيمة فذلك
ظاهر لأن النذر تعلق بالعين فلا وفاء إلا
بإخراجها فالعدول إلى قيمتها لا يجزيء عنها
إلا بدليل.
وما ذكره من كون الناذر إذا عين مصرفا تعين
فوجهه ظاهر لأن له أن يصرف ما يقرب به إلى من
شاء وكيف شاء مع وجود مطلق القربة وإن كان
غيرها أعلى منها.
وأما كونه لا يعتبر القبول بل يكفي عدم الرد
فعدم الرد قبول تام وقد عرفناك غير مرة أن
اعتبار الألفاظ إما مجرد جمود أو قصور عن
إدراك حقائق الأمور.
قوله: "والفقراء لغير ولده ومنفقه".
أقول : المعتمد في مثل هذا العرف الشائع بين
القوم الذين منهم الناذر فإن ثبت هذا العرف
فهو المقدم على لغة العرب وغيرها لأن الناذر
لا يقصد بكلامه إلا عرف أهل جهته فإن عرف من
قصده أنه أراد المعنى اللغوي والشرعي وجب
العمل بذلك وإن لم يقصد ولا وجد كان الظاهر
دخول ولده ومنفقه في عموم الفقراء لأنهما من
جملتهم ولا مانع من ذلك لا من شرع ولا عقل
وأما دخول الناذر نفسه فعلى الخلاف في دخول
المخاطب في خطاب نفسه.
وهكذا الكلام في النذر على المسجد من غير
تعيين فإن المعتبر ما يطلق عليه هذا الإسم في
عرف الناذر وأهل بلده فإن لم يكن عرف رجع إلى
مقصده فإن لم يكن له قصد فالظاهر أن مراده
المسجد الذي يصلي فيه وإن كانت مساجد البلد
كثيرة فصلاته في أحدها فيها وجه
(1/699)
وتخصيص وإن كان
يصلي في جميع مساجد بلده أو يصلي في بيته كان
الأولى بذلك أقرب مسجد إلى بيته فإذا استوت في
القرب كان الأولى ما يكثر فيه المصلون وتقام
فيه الجماعات لكثرة من الناس وإلا حصص المنذر
به بينها لعدم المزية الموجبة للترجيح لبعضها
على بعض.
قوله: "وفي الفعل كونه مقدورا".
أقول : وجه هذا الاشتراط معلوم عقلا وشرعا أما
عقلا فلكون نذره بما لا يقدر عليه إذا كلف
بالوفاء به كان ذلك من تكليف ما لا يطاق وأما
شرعا فلكون ما لا يقدر عليه لا يملكه وقد ثبت
في الصحيح: "أنه لا نذر فيما لا يملك ابن آدم"
كما تقدم
وأما اشتراط أن يكون النذر معلوم الجنس فوجهه
أن إيجاب ما لا يعلم جنسه لغو فهو من باب من
نذر نذرا لم يسمه.
قوله: "جنسه واجب".
أقول : هذا الاشتراط لم يدل عليه رواية ولا
رأى صحيح والذي تقدم من الأدلة له مصرح بوجوب
الوفاء بما هو طاعة وبما ابتغي به وجه الله
والطاعة وابتغاء وجه الله لا تختصان بالواجب
بل بما فيه قربة وهي كائنة في فعل الواجب وترك
الحرام وفعل المندوب وترك المكروه ولا توجد في
المباح إلا عند النافين للمباح وقد قوينا هذا
القول برسالة بوجوه من المنقول والمعقول
وسميناها رفع الجناح عن نافي المباح.
قوله: "وإلا فالكفارة".
أقول : أما وجوب الكفارة حيث كان المنذور به
غير مقدور للناذر فيدل عليه ما أخرجه أبو داود
وابن ماجه من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: "من نذر نذرا ولم يسمه فكفارته
كفارة يمين ومن ينذر نذرا ولم يطقه فكفارته
كفارة يمين"، قال ابن حجر في بلوغ المرام
إسناده صحيح إلا أن الحفاظ رجحوا وقفه.
ومما يدل على عدم لزوم ما فيه مشقة من النذر
ما أخرجه البخاري وغيره من حديث ابن عباس قال:
بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو
برجل قائم فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل نذر
أن يقوم في الشمس ولا يقعد ولا يستظل ولا
يتكلم وأن يصوم فقال النبي صلى الله عليه آله
وسلم: "مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم
صومه"، فأمره بالوفاء بما هو طاعة وهو الصوم
وأمر بترك ما فيه مشقة ولا قربة فيه.
ومما ورد في عدم لزوم ما فيه مشقة وأنه يكفر
كفارة يمين ما أخرجه أحمد وأبو داود ورجاله
رجال الصحيح من حديث ابن عباس قال جاءت امرأة
إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول
الله إن أختي نذرت أن تحج ماشية فقال: "إن
الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا لتخرج راكبة
ولتكفر عن يمينها"، وفي رواية لأحمد من حديث
عقبة بن عامر أنها نذرت أخته أن تمشي إلى
الكعبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن الله لغني عن مشيها لتركب ولتهد بدنه"،
وأصل الحديث في الصحيحين [البخاري "4/78"ن
مسلم "11/1644"، بلفظ: "لتمش ولتركب".
(1/700)
وأما وجوب
الكفارة في غير معلوم الجنس وهو الذي لم يسم
فيدل عليه ما أخرجه ابن ماجه "2127"، والترمذي
"1258"، وصححه من حديث عقبة بن عامر قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفارة النذر
إذا لم يسم كفارة يمين" ويدل على ذلك أيضا
حديث ابن عباس المتقدم قريبا بلفظ: "من نذر
نذرا ولم يسمه فكفارته كفارة يمين".
وأما وجوب الكفارة في النذر الذي جنسه غير
واجب فقد قدمنا أن الطاعة وابتغاء وجه الله لا
يختصان بالواجب بل بما فيه قربة فلا يخرج عن
ذلك إلا ما ليس بقربة ولا يبتغى به وجه الله
وقد قدمنا حديث ابن عباس بلفظ: "من نذر نذرا
ولم يطقه فكفارته كفارة يمين"، وقد قدمنا أيضا
حديث عائشة بلفظ: "لا نذر في معصية وكفارته
كفارة يمين"، ويشهد لذلك ما أخرجه مسلم من
حديث عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "كفارة النذر كفارة اليمين"، وإنما
احتاج المصنف أن يستثني المندوب والمباح لأجل
قوله جنسه واجب وقد عرفناك أنه لا وجه للتقييد
بالوجوب فلا احتياج إلى هذا الاستثناء بل
الواجب الوفاء بما هو قربة وأما المباح فقد
قدمنا الكلام عليه.
قوله: "ومتى تعذر أوصى على نحو الحج" الخ.
أقول : قد استدل على هذا بما أخرجه أبو داود
"3307"، والنسائي "3818"،من حديث ابن عباس أن
سعد بن عبادة استفتى رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال: إن أمي ماتت وعليها نذر لم تقضه
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقضه
عنها"، ولا دلالة له على المطلوب وهو وجوب
الوصية فإنه لا وصية من أم سعد وغايته أن يقضي
الولد ما علمه من نذر على والده وإن لم يوص
ووهم من زعم أن هذا الحديث في الصحيحين وهما
فاحشا فإنه ليس فيهما ولا في أحدهما والذي
فيهما بلفظ آخر وليس في هذا اللفظ إلا في أبي
داود والنسائي.
وأما وجوب الكفارة عن غيره نحو الحج والصوم
كغسل الميت إذا تعذر بعد النذر فوجهه أنه إذا
تعذر بلا تفريط صار غير مقدور للناذر وقد
قدمنا الدليل على وجوب الكفارة بلفظ: "ومن نذر
نذرا لم يطقه فكفارته كفارة يمين".
وأما وجوب الكفارة على من التزم ترك محظور أو
واجب ثم فعله أو العكس فوجه ذلك فيما هو معصية
ما قدمنا من حديث: "من نذر نذرا في معصية
فكفارته كفارة يمين"، وأما ما كان واجب الفعل
أو الترك فالوفاء به واجب فإن ترك أثم ويدل
على وجوب الكفارة عليه حديث عقبة بن عامر عند
مسلم بلفظ: "كفارة النذر كفارة اليمين"، فإن
هذا الجنس من النذر مندرج تحت هذا العموم ولا
يصح لتخصيصه أو تقييده ما ورد في غيره بذكر
المعصية أو عدم التسمية.
قوله: "وإذا عين للصلاة والصوم والحج زمانا
تعين".
أقول : هذا صحيح لأن فعله في الزمان المخصوص
قد صار قيدا له لا يحصل الوفاء إلا به فلا
يجزيء التقديم وأما التأخير فالظاهر أيضا أنه
لا يجزيء وتلزم الكفارة لأنه قد صار غير
(1/701)
مقدور للناذر
لفوات وقته المقيد به وهكذا الصدقة الظاهر
أنها لا تجزيء في غير الوقت المعين لها وتلزم
الكفارة فلا وجه لاستثناء المصنف لها وهكذا
المكان يتعين فلا يجزيء من غيره وتحمل
الأحاديث الواردة في جواز فعل المندوب به في
غير المكان المعين كحديث أمره صلى الله عليه
وسلم لمن نذر أن يصلى في بيت المقدس أن يصلى
في المسجد الحرام أو في مسجده على ما فيه من
مشقة زائدة على الناذر وقد قدمنا أمره صلى
الله عليه وسلم لمن نذر الذبح ببوانة بالوفاء
بذلك.
وأما ما ذكره من أن من نذر بإعتاق عبده بر
بإعتاقه ولو لعوض أو عن كفارة فوجهه أنه قد
وقع مطلق العتق فصدق على هذا الناذر بأنه قد
أعتق كما نذر إلا أن يكون له قصد أنه العتق
المقيد بكونه للنذر فقط.
(1/702)
|