الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي المطلب السابع ـ
المصيب في الاجتهاد اتفق الأصوليون على أن الناظر
في القضايا العقلية المحضة (2) والمسائل
_________
(1) الرد على من أخلد إلى الأرض: ص24.
(2) القضايا العقلية: هي التي يصح للناظر درك حقيقتها بنظر العقل قبل ورود
الشرع كإثبات الإله الصانع وصفاته وبعثة الرسل وتصديقهم بالمعجزات، وحدوث
العالم، وجواز رؤية الله تعالى، وخلق القرآن والأعمال، وخروج الموحدين من
النار.
(1/134)
الأصولية (1): يجب أن يهتدي إلى الحق
والصواب فيها، لأن الحق فيها واحد، لايتعدد، والمصيب فيها واحد بعينه، وإلا
اجتمع النقيضان. فمن أصاب الحق فقد أصاب، ومن أخطأ فهو آثم، ونوع الإثم
يختلف: فإن كان الخطأ فيما يرجع إلى الإيمان بالله ورسوله فالمخطئ كافر،
وإلا فهو مبتدع فاسق، لأنه عدل عن الحق، وضل، كالقول بعدم رؤية الله تعالى،
وخلق القرآن (2).
ويلحق بذلك المسائل القطعية المعلومة من الدين بالضرورة (أي البداهة)،
كوجوب الصلوات الخمس والزكاة والحج وصوم رمضان وتحريم الزنا والقتل والسرقة
وشرب الخمر ونحوها مما علم قطعاً من دين الله، فليس كل مجتهد فيها مصيباً،
بل الحق فيها واحد لايتعدد، وهو المعلوم لنا، فالموافق له مصيب، والمخالف
له مخطئ آثم.
أما المسائل الفقهية الظنية أي الأحكام التي ليس فيها دليل قاطع، فهي محل
الاجتهاد، ولا إثم على المجتهد فيها، لكن اختلف الأصوليون فيها، هل كل
مجتهد فيها مصيب أو أن المصيب واحد؟.
ومنشأ الخلاف في هذا: هل لله تعالى في
كل مسألة حكم معين في الأمر نفسه قبل اجتهاد المجتهد، أو ليس له حكم معين،
وإنما الحكم فيها هو ماوصل إليه المجتهد باجتهاده؟.
_________
(1) المسائل الأصولية: مثل كون الإجماع والقياس وخبر الواحد حجة، لأن
أدلتها قطعية، فيعتبر المخالف فيها آثماً مخطئاً.
(2) المستصفى: 105/ 2، الإحكام للآمدي: 146/ 3، شرح المحلي على جمع
الجوامع: 318/ 2، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب: 293/ 2، مسلم الثبوت:
328/ 2، كشف الأسرار: 1137/ 4، التلويح: 118/ 2، الملل والنحل: 201/ 1،
إرشاد الفحول: ص228.
(1/135)
فقال الأشعري والغزالي والقاضي الباقلاني: لاحكم لله قبل اجتهاد المجتهد،
وحكم الله ما أدى إليه اجتهاد المجتهد، فالحكم يتبع الظن، وما غلب على ظن
المجتهد هو حكم الله، أي أن كل مجتهد مصيب، لأنه أدى ماكلف به.
وقال جمهور العلماء والشيعة: إن لله في كل واقعة حكماً معيناً قبل
الاجتهاد، فمن صادفه فهو المصيب، ومن لم يصادفه كان مخطئاً. فالمصيب واحد،
له أجران، والمخطئ غيره وله أجر واحد (1).
ثم اختلف هؤلاء، فقالت طائفة من الفقهاء والمتكلمين: هذا الحكم لادليل ولا
أمارة عليه، بل هو كدفين يعثر عليه الطالب مصادفة. وهو رأي غير معقول
لامعنى له، إذ كيف يكلف الله العباد بحكم لا دليل عليه؟.
وقال الأكثرون: قد نصب الله على هذا الحكم أمارة ظنية، والمجتهد ليس مكلفاً
بإصابة الدليل لخفائه وغموضه، فمن لم يصبه كان معذوراً مأجوراً، وهذا هو
القول الصحيح، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا حكم الحاكم فاجتهد
فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر». |