الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي المطلب التاسع ـ نقض
الاجتهاد وتغييره وتغير الأحكام بتغير الأزمان:
أولاً ـ تغير الاجتهاد: يجوز للمجتهد تغيير اجتهاده، فيرجع عن قول قاله
سابقاً، لأن مناط الاجتهاد هو الدليل، فمتى ظفر المجتهد به، وجب عليه الأخذ
بموجبه لظهور ماهو أولى بالأخذ به، مما كان قد أخذ به، ولأنه أقرب إلى الحق
والصواب (4).
جاء في كتاب عمر رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري قاضيه على الكوفة:
_________
(1) الرسالة للشافعي: ص 508، الملل والنحل للشهرستاني: 198/ 2، المنخول
للغزالي: ص466.
(2) أعلام الموقعين: 66/ 1، إرشاد الفحول: ص227.
(3) تاريخ الفقه الإسلامي للسايس: ص 31.
(4) إرشاد الفحول: ص232.
(1/137)
«ولايمنعنك قضاء قضيته اليوم، فراجعت فيه
نفسك، وهديت فيه لرشدك، أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير
من التمادي في الباطل».
ثانياً ـ نقض الاجتهاد: إذا أفتى مجتهد في حادثة ما، أو حكم الحاكم في نزاع
بين متخاصمين، ثم تغير اجتهاد كل منهما، فرأى المجتهد أو الحاكم حكماً
بخلاف مارآه أولاً، فما الذي يعمل به من الاجتهادين: السابق أم اللاحق، وهل
ينقض الاجتهاد السابق؟ وقبل الإجابة يلاحظ أن هناك فرقاً بين نقض الاجتهاد
وتغير الاجتهاد. وهو أن التغير أمر نظري لتقرير مبدأ العدول عن الاجتهاد
السابق، وأما نقض الاجتهاد فمجاله الحياة العملية والإفتاء وفض المنازعات
والخصومات بين الناس.
وقد ميز الأصوليون في مسألة نقض الاجتهاد بين المجتهد والحاكم (1).
أما المجتهد لنفسه إذا رأى حكماً معيناً، ثم تغير ظنه، لزمه أن ينقض
اجتهاده وما ترتب عليه. مثاله: إذا رأى المجتهد أن الخلع فسخ، فنكح امرأة
كان قد خالعها ثلاثاً، ثم رأى بعدئذ أن الخلع طلاق، لزمه مفارقة تلك
المرأة، ولايجوز له إمساكها، عملاً بمقتضى الاجتهاد الثاني، لأنه تبين أن
الاجتهاد الأول خطأ، والثاني صواب، والعمل بالظن واجب.
وأما الحاكم: إذا قضى في واقعة معينة باجتهاد، ثم تغير اجتهاده في واقعة
مماثلة، فإن كان حكمه مخالفاً لدليل قاطع، من نص، أو إجماع، أو قياس جلي
(2) نقض باتفاق العلماء، سواء من قبل الحاكم نفسه أو من أي مجتهد آخر،
لمخالفته الدليل.
_________
(1) المستصفى: 120/ 2، الإحكام للآمدي: 158/ 3، مسلَّم الثبوت:345/ 2،
فواتح الرحموت: 395/ 2، التقرير والتحبير: 335/ 3، شرح المحلي على جمع
الجوامع: 320/ 2، المدخل إلى مذهب أحمد: ص190، إرشاد الفحول: ص 232.
(2) وهو ماكانت العلة فيه منصوصة، أو كان قد قطع بنفي تأثير الفارق بين
الأصل والفرع.
(1/138)
وأما إذا كان حكمه في مجال الاجتهاديات، أو
الأدلة الظنية، فإنه لاينقض الحكم السابق، لأن نقضه يؤدي إلى اضطراب
الأحكام الشرعية وعدم استقرارها، وعدم الوثوق بحكم الحاكم، وهذا مخالف
للمصلحة التي نصب الحاكم لها، وهو فصل المنازعات. فلو أجيز نقض حكم الحاكم،
لما استقرت للأحكام قاعدة، ولبقيت الخصومات على حالها بعد الحكم، وذلك يوجب
دوام التشاجر والتنازع وانتشار الفساد ودوام العناد، وهو مناف للحكمة التي
لأجلها نصب الحكام، كما قال القرافي (1). والرائد في ذلك قول عمر حينما قضى
في مسألة إرثية بحكمين: «تلك على ماقضينا وهذا على مانقضي» وقول الفقهاء في
الفروع: «لاينقض الاجتهاد بالاجتهاد».
ثالثاً ـ تغير الأحكام بتغير الأزمان: لاينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان،
كما هو معروف مشهور، وذلك بسبب تغير العرف، أو تغير مصالح الناس، أو مراعاة
الضرورة، أو لفساد الأخلاق، وضعف الوازع الديني، أو لتطور الزمن وتنظيماته
المستحدثة. فيجب تغير الحكم الشرعي لتحقيق المصلحة ودفع المفسدة، وإحقاق
الحق والخير. وهذا يجعل مبدأ تغير الأحكام أقرب إلى نظرية المصالح المرسلة
منها إلى نظرية العرف.
ومما ينبغي ملاحظته أن الأحكام القابلة للتغير أو التطور هي المستنبطة
بطريق القياس أو المصلحة المرسلة، وذلك في نطاق المعاملات أو الأحكام
الدستورية والإدارية والعقوبات التعزيرية، مما يدور مع مبدأ إحقاق الحق
وجلب المصالح ودرء المفاسد.
_________
(1) الفروق: 104/ 2.
(1/139)
أما ما عدا ذلك من الأحكام الأساسية المقررة لغاية تشريعية أو مبدأ تنظيمي
عام، فهي أمور ثابتة لا تقبل التطور، مثل أصول العقيدة والعبادات والأخلاق
وأصول التعامل كحرمة محارم الإنسان، ومبدأ الرضائية في العقود، ووفاء
العاقد بعقده أو عهده، وضمان الضرر اللاحق بالغير، وتحقيق الأمن
والاستقرار، وقمع الإجرام، وحماية الحقوق الإنسانية العامة، ومبدأ
المسؤولية الشخصية، واحترام مبدأ العدالة والشورى. |