الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

البَابُ الثَّالث: الصِّيامُ والاعتكاف وفيه فصلان: الأول عن الصيام، والثاني عن الاعتكاف

(3/1612)


الفَصْلُ الأوَّل: الصِّيام وفيه ثمانية مباحث:
المبحث الأول ـ تعريف الصوم، وركنه وزمنه وفوائده، وفضل رمضان، وليلة القدر، وأهم الأحداث التاريخية الواقعة في رمضان.
المبحث الثاني ـ فرضية الصيام وأنواعه (الصوم المفروض وصوم التطوع).
المبحث الثالث ـ متى يجب الصوم؟ وكيفية إثبات الشهر واختلاف المطالع.
المبحث الرابع ـ شروط الصوم ـ شروط الوجوب وشروط الصحة.
المبحث الخامس ـ سنن الصوم وآدابه ومكروهاته.
المبحث السادس ـ الأعذار المبيحة للفطر.
المبحث السابع ـ ما يفسد الصوم ومالا يفسده.
المبحث الثامن ـ قضاء الصوم وكفارته وفديته.
ملحق ـ ما يلزم الوفاء به من المنذور.
وأبدأ بالأول فالأول فيما يأتي:

(3/1615)


المبحث الأول ـ تعريف الصوم وزمنه وفوائده، وفضل رمضان وليلة القدر، وأهم الأحداث التاريخية في رمضان:
وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول ـ تعريف الصوم، وركنه وزمنه وفوائده:
تعريف الصوم: الصوم لغة: الإمساك والكف عن الشيء، قال: صام عن الكلام، أي أمسك عنه، قال تعالى إخباراً عن مريم: {إني نذرت للرحمن صوماً} [مريم:26/ 19] أي صمتاً وإمساكاً عن الكلام، وقال العرب: صام النهار: إذا وقف سير الشمس وسط النهار عند الظهيرة (1).
وشرعاً: هو الإمساك نهاراً عن المفطِّرات بنية من أهله من طلوع الفجر إلى غروب الشمس (2). أي أن الصوم امتناع فعلي عن شهوتي البطن والفرج، وعن كل شيء حسي يدخل الجوف من دواء ونحوه، في زمن معين: وهو من طلوع الفجر الثاني أي الصادق إلى غروب الشمس، من شخص معين أهل له: وهو المسلم العاقل غير الحائض والنفساء، بنية وهي عزم القلب على إيجاد الفعل جزماً بدون تردد، لتمييز العبادة عن العادة.

وركن الصوم: الإمساك عن شهوتي البطن والفرج، أو الإمساك عن المفطرات، وزاد المالكية والشافعية ركناً آخر وهو النية ليلاً.
_________
(1) وقال الشاعر:
خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج واخرى تعلك اللجما
وأراد بالصائمة الممسكة عن الصهيل.
(2) اللباب: 162/ 1، الشرح الصغير: 681/ 1 - 698، مغني المحتاج: 420/ 1، المغني: 84/ 3، كشاف القناع: 348/ 2 ومابعدها.

(3/1616)


وزمن الصوم: من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ويؤخذ في البلاد التي يتساوى الليل والنهار فيها، أو في حالة طول النهار أحياناً كبلغاريا بتقدير وقت الصوم بحسب أقرب البلاد منها، أو بتوقيت مكة. ودليله قوله تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} [البقرة:187/ 2] وعبر بالخيط مجازاً، يعني بياض النهار من سواد الليل، وهذا يحصل بطلوع الفجر. قال ابن عبد البر: في قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم» دليل على أن الخيط الأبيض هو الصباح، وأن السحور لا يكون الا قبل الفجر، بالإجماع.
وفوائد الصيام كثيرة من الناحيتين الروحية والمادية:
فالصوم طاعة لله تعالى، يثاب عليها المؤمن ثواباً مفتوحاً لا حدود له، لأنه لله سبحانه، وكرم الله واسع، وكرم الله واسع، وينال بها رضوان الله، واستحقاق دخول الجنان من باب خاص أعد للصائمين يقال له الريان (1) ويبعد نفسه عن عذاب الله تعالى بسبب ما قد يرتكبه من معاص، فهو كفارة للذنوب من عام لآخر، وبالطاعة يستقيم أمر المؤمن على الحق الذي شرعه الله عز وجل، لأن الصوم يحقق التقوى التي هي امتثال للأوامر الإلهية واجتناب النواهي، قالله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم، لعلكم تتقون} [البقرة:183/ 2].
والصوم مدرسة خلقية كبرى يتدرب فيها المؤمن على خصال كثيرة، فهو جهاد للنفس، ومقاومة للأهواء ونزعات الشيطان التي قد تلوح له، ويتعود به
_________
(1) روى البخاري ومسلم والنسائي والترمذي عن سهل بن سعد عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة باباً يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد» (الترغيب والترهيب: 82/ 2 - 83).

(3/1617)


الإنسان خلق الصبر على ما قد يُحرَم منه، وعلى الأهواء والشدائد التي قد يتعرض لها، إذ يجد الطعام الشهي يطبخ أمامه، والروائح تهيج عصارات معدته، والماء العذب البارد يترقرق في ناظريه، فيمتنع منه، منتظراً وقت الإذن الرباني بتناوله.
والصوم يعلِّم الأمانة ومراقبة الله تعالى في السر والعلن؛ إذ لا رقيب على الصائم في امتناعه عن الطيبات إلا الله وحده.
والصوم يقوي الإرادة، ويشحذ العزيمة، ويعلِّم الصبر، ويساعد على صفاء الذهن، واتقاد الفكر، وإلهام الآراء الثاقبة إذا تخطى الصائم مرحلة الاسترخاء، وتناسى ما قد يطرأ له من عوارض الارتخاء والفتور أحياناً، قال لقمان لابنه: «يا بني، إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة».
والصوم يعلِّم النظام والانضباط؛ لأنه يجبر الصائم على تناول الطعام والشراب في وقت محدد وموعد معين. والصوم يشعر بوحدة المسلمين الحسية في المشارق والمغارب، فهم جميعاً يصومون ويفطرون في وقت واحد؛ لأن ربهم واحد، وعبادتهم موحدة.
وينمي الصوم في الإنسان عاطفة الرحمة والأخوة، والشعور برابطة التضامن والتعاون التي تربط المسلمين فيما بينهم، فيدفعه إحساسه بالجوع والحاجة مثلاً إلى صلة الآخرين، والمساهمة في القضاء على غائلة الفقر والجوع والمرض، فتتقوى أواصر الروابط الاجتماعية بين الناس، ويتعاون الكل في معالجة الحالات المرضية في المجتمع.
والصوم فعلاً يجدد حياة الإنسان بتجدد الخلايا وطرح ماشاخ منها، وإراحة المعدة وجهاز الهضم، وحمية الجسد، والتخلص من الفضلات المترسبة والأطعمة

(3/1618)


غير المهضومة، والعفونات أو الرطوبات التي تتركها الأطعمة والأشربة، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «صوموا تصحوا» (1)، وقال طبيب العرب: الحارث بن كَلْدة: «المعدة بيت الداء، والحِمْية رأس كل دواء».
والصيام جهاد للنفس، وتخليصها مما علق بها من شوائب الدنيا وآثامها، وكسر حدة الشهوة والأهواء، وتهذيبها وضبطها في طعامها وشرابها، بدليل قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب: من استطاع منكم الباءة، فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» (2) وقال الكمال بن الهمام (3): الصوم ثالث أركان الإسلام بعد «لا إله إلا الله، محمد رسول الله» والصلاة، شرعه سبحانه لفوائد أعظمها كونه موجباً أشياء:
منها: سكون النفس الأمارة، وكسر سورتها في الفضول المتعلقة بجميع الجوارح من العين واللسان والأذن والفرج، فإن به تضعف حركتها في محسوساتها، ولذا قيل: إذا جاعت النفس شبعت جميع الأعضاء، وإذا شبعت جاعت كلها.
ومنها: كونه موجباً للرحمةوالعطف على المساكين، فإنه لما ذاق ألم الجوع في بعض الأوقات، ذكر من هذا حاله في عموم الأوقات، فتسارع إليه الرقة عليه، فينال بذلك ما عند الله تعالى من حسن الجزاء.
ومنها: موافقة الفقراء بتحمل ما يتحملون أحياناً، وفي ذلك رفع حاله عند الله تعالى.
_________
(1) رواه ابن السني وأبو نعيم في الطب عن أبي هريرة، وهو حديث حسن.
(2) رواه الجماعة عن ابن مسعود (نيل الأوطار: 99/ 6) والباءة: مؤن الزواج وتكاليفه، والوجاء: أي يضعف شهوة النكاح، تشبيهاً بقطع السيف.
(3) فتح القدير: 43/ 2 ومابعدها.

(3/1619)


وقال في الإيضاح: اعلم أن الصوم من أعظم أركان الدين وأوثق قوانين الشرع المتين، به قهر النفس الأمارة بالسوء، وإنه مركب من أعمال القلب، ومن المنع عن المآكل والمشارب والمناكح عامة يومه، وهو أجمل الخصال، غير أنه أشق التكاليف على النفوس (1)، وقد مدحه الله بآية {إن المسلمين والمسلمات} ... {والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات} [الأحزاب:35/ 33].

المطلب الثاني ـ فضل رمضان وليلة القدر:
رمضان سيد الشهور، فيه بدأ نزول القرآن، وهو شهر الطاعة والقربة والبر والإحسان، وشهر المغفرة والرحمة والرضوان، فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وبه عون المؤمن على أمر دينه وطلب إصلاح دنياه، وهو موسم تكثر فيه مناسبات إجابة الدعاء.
وقد ورد في السنة النبوية ما يدل على فضل رمضان وفضل الصوم فيه.
من ذلك ما يأتي:
1ً - «سيد الشهور شهر رمضان، وسيد الأيام يوم الجمعة» (2) «ولو يعلم العباد ما في شهر رمضان لتمنى العباد أن يكون شهر رمضان سنة» (3). وروى الطبراني عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال يوماً وقد حضر رمضان:
_________
(1) حاشية ابن عابدين: 109/ 2.
(2) رواه الطبراني في الكبير عن عبد الله بن مسعود، وفيه انقطاع (مجمع الزوائد: 140/ 3).
(3) رواه الطبراني في الكبير وابن خزيمة في صحيحه والبيهقي من طريقه عن أبي مسعود الغفاري، وفي راو من سنده كلام (الترغيب والترهيب: 102/ 2، مجمع الزوائد: 141/ 3).

(3/1620)


«أتاكم رمضان شهر بركة، يغشاكم الله فيه، فيُنزل الرحمة، ويحُطُّ الخطايا، ويستجيب فيه الدعاء، ينظر الله تعالى إلى تنافسكم فيه، ويباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيراً، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله عز وجل».
2ً - «إذا جاء رمضان فتِّحت أبواب الجنة، وغلِّقت أبواب النار، وصُفِّدت الشياطين» (1).
3ً - «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفِّرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر» (2).
4ً - «كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنةُ بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضَعْف، قال الله تعالى: إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخُلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك» (3).
وفي رواية للترمذي، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن ربكم يقول: «كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضِعْف، والصوم لي وأنا أجزي به، والصوم جُنَّة (4) من النار، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وإن جَهِل على أحدكم جاهل وهو صائم، فليقل: إني صائم، إني صائم».
_________
(1) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة (الترغيب والترهيب: 97/ 2).
(2) رواه مسلم عن أبي هريرة (الترغيب والترهيب: 92/ 2).
(3) رواه مسلم عن أبي هريرة. والخلوف: تغير رائحة الفم (الترغيب والترهيب: 81/ 2).
(4) الجُنة: ما يستر ويقي مما يخاف منه، ومعنى الحديث: إن الصوم يستر صاحبه، ويحفظه من الوقوع في المعاصي.

(3/1621)


5ً - «من قام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه» (1) أي من أحيا لياليه بصلاة التراويح أوغيرها بالذكر والاستغفار وتلاوة القرآن تصديقاً لما وعده الله على ذلك من أجر، محتسباً ومدخراً أجره عند الله تعالى لا غيره، بخلوص عمله لله، لم يشرك به غيره، غفرت له ذنوبه غير حقوق العباد، فتتوقف على إبراء الذمة، أو المسامحة.
6ً - عن سلمان رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان، قال: «يا أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوّعاً، من تقرب فيه بخصلة من الخير، كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه، كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه.
وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزاد في رزق المؤمن فيه، من فطَّر فيه صائماً، كان مغفرة لذنوبه وعتقَ رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء.
قالوا: يا رسول الله، ليس كلُّنا يجدُ ما يفطر الصائم؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعطي الله هذا الثواب من فطر صائماً على تمرة، أو على شَرْبة ماء، أو مَذْقة (2) لبن.
وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، من خفف عن مملوكه فيه غفر الله له، وأعتقه من النار.
_________
(1) متفق عليه عند البخاري وغيره (أصحاب الكتب الستة) عن أبي هريرة. واحتساباً: أي طلباً لوجه الله تعالى وثوابه. والاحتساب من الحَسْب كالاعتداد من العد، أي يعتد عمله.
(2) مزيج خليط.

(3/1622)


واستكْثِروا فيه من أربع خصال: خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غِنَاء بكم عنهما، فأما الخصلتان اللتان تُرضون بهما ربكم: فشهادة أن لا إله إلا الله، وتستغفرونه. وأما الخصلتان اللتان لا غناء بكم عنهما: فتسألون الله الجنة، وتعوذون به من النار.
ومن سقى صائماً، سقاه الله من حوضي شَرْبة لا يظمأ حتى يدخل الجنة» (1).

ليلة القدر: يستحب طلب ليلة القدر؛ لأنها ليلة شريفة مباركة معظمة مفضلة، ترجى إجابة الدعاء فيها، وهي أفضل الليالي حتى ليلة الجمعة (2)، قال تعالى: {ليلة القدر خير من ألف شهر} [القدر:3/ 97] أي قيامها والعمل فيها خير من العمل في ألف شهر خالية منها، وقال صلّى الله عليه وسلم: «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه» (3) وعن عائشة أن النبي كان إذا دخل العشر الأواخر أحيا الليل، وأيقظ أهله وشد المئزر» (4) أي اعتزل النساء، ولأحمد ومسلم: كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها.
وهي مختصة بالعشر الأواخر في ليالي الوترمن رمضان، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «التمسوها في العشر الأواخر من شهر رمضان، في كل وتر» (5).
وأرجح الأقوال عند العلماء أنها في ليلة السابع والعشرين من رمضان، قال
_________
(1) رواه ابن خزيمة في صحيحه، ثم قال: صح الخبر، ورواه من طريق البيهقي، ورواه أبو الشيخ ابن حيان في الثواب باختصار عنهما (الترغيب والترهيب: 94/ 2 ومابعدها).
(2) المهذب: 189/ 1، المجموع: 492/ 6 - 503، المغني: 178/ 3 - 183، كشاف القناع: 401/ 2 - 404.
(3) رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة.
(4) متفق عليه (نيل الأوطار: 270/ 4).
(5) متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري، وأبي ذر.

(3/1623)


أبي بن كعب: «والله لقد علم ابن مسعود أنها في رمضان، وأنها في ليلة سبع وعشرين، ولكن كره أن يخبركم فتتكلوا» (1)، وعن معاوية «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر: ليلة سبع وعشرين» (2) ويرجحه قول ابن عباس: «سورة القدر: ثلاثون كلمة، السابعة والعشرون فيها: هي» (3) وروى أحمد بإسناد صحيح عن ابن عمر حديثاً نصه: «من كان متحرّيها فليتحرها ليلة سبع وعشرين، أو قال: تحروها ليلة سبع وعشرين».

والحكمة في إخفائها: أن يجتهد الناس في طلبها، ويجدّوا في العبادة طمعاً في إدراكها، كما أخفيت ساعة الإجابة يوم الجمعة، وأخفي اسمه الأعظم في أسمائه، ورضاه في الحسنات، إلى غير ذلك.
والمستحب أن يدعو المؤمن فيها بأن يقول: «اللهم إنك عفو، تحب العفو، فاعف عني» لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، أرأيت إن وافقت ليلة القدر، ماذا أقول فيها؟ قال: «قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو، فاعف عني» (4).

وأما علاماتها: فالمشهور فيها ما ذكره أبي بن كعب عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن الشمس تطلع في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها» (5) وفي بعض الأحاديث:
_________
(1) رواه الترمذي وصححه.
(2) رواه أبو داود مرفوعاً، والراجح وقفه على معاوية، وله حكم الرفع (سبل السلام: 176/ 2).
(3) قال ابن حجر في فتح الباري: وقد اختلف في تعيينها على أربعين قولاً، وأرجحهما كلها أنها في وتر العشر الأواخر، وأنها تنتقل. وقال الصنعاني: وأظهر الأقوال أنها في السبع الأواخر (المصدر السابق).
(4) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) غير أبي داود، وصححه الترمذي والحاكم (المصدر السابق).
(5) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه (نيل الأوطار: 272/ 4).

(3/1624)


«
بيضاء مثل الطست» وروي أيضاً عنه صلّى الله عليه وسلم: «إن أمارة ليلة القدر: أنها ليلة صافية بلجة، كأن فيها قمراً ساطعاً، ساكنة ساجية، لا برد فيها ولاحر، ولا يحل لكوكب أن يرمى به فيها حتى تصبح، وإن أمارتها أن الشمس صبيحتها تخرج مستوية، ليس فيها شعاع، مثل القمر ليلة البدر، لايحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ» وروى ابن خزيمة من حديث ابن عباس مرفوعاً: «ليلة القدر طلقة لا حارّة ولا باردة، تصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة» ولأحمد من حديث عبادة: «لا حر فيها ولا برد، وإنها ساكنة صاحية، وقمرها ساطع»، وورد في علامتها أحاديث منها عن جابر بن سمرة عند ابن أبي شيبة، وعن جابر بن عبد الله عند ابن خزيمة، وعن أبي هريرة عنده، وعن ابن مسعود عند ابن أبي شيبة وعن غيرهم (1).

المطلب الثالث ـ أهم الأحداث التاريخية الواقعة في رمضان:
إن أهم حدث في رمضان هو نزول القرآن الكريم في ليلة الخامس والعشرين. ثم وقعت أحداث تاريخية فاصلة كبرى في شهر رمضان، تدل على أن الإسلام يقدر الأمور حق قدرها، وأن شعار الصوم هو القوة والجهاد والعمل، لا الضعف والهروب والفتور والكسل، فالمسلم يتفاعل مع واقع الحياة، ويتكيف مع الظروف، فلا يثنيه واجب ديني عن واجب معيشي أو حياتي، ولا تحد من عزيمته وهمته أهواء الدنيا، ومغريات الطعام والشراب، ولا يصح لمسلم أن يقول: إن الصوم يعطل الأعمال، ويؤخر المجتمعات، فسبيل الإسلام معروف وهو الجهاد، ودين الله وشرعه يسر لا عسر، فقد أباح الفطر وحضَّ عليه في السفر والحرب، وحكم بأن الصائمين حينئذ متنطعون متشددون، وبأن المفطرين في الجهاد ذهبوا
_________
(1) نيل الأوطار: 275/ 4.

(3/1625)


بالأجر كله، كما بيَّن النبي صلّى الله عليه وسلم في فتح مكة، وكان أول المفطرين. ودليل ما نقول: هذه الأحداث الكبرى التي وقعت في رمضان ونكتفي بذكر أشهرها، للاستدلال على أن النصر مرتبط بتطهير النفوس وصفائها وسموها وترفعها عن أدران المادة، وأن أيام رمضان مباركة ينتهز فيها الخير والنصر والفضل الإلهي، إذا توجهت القلوب لرب الأرض والسماء، قال الله تعالى:: {وما النصر إلا من عند الله} [آل عمران:126/ 3].

1 - معركة بدر الكبرى: وهي يوم الفرقان الذي فرق الله فيه بين الحق والباطل، فانتصر فيه الإسلام ـ رمز القيم العليا في التوحيد والتفكير والحياة السوية والأخلاق الصحيحة ـ واندحر الشرك والوثنية ـ رمز الانحدار والتخلف والتعقيد وإهدار الكرامة الإنسانية. والمعركة حدثت في يوم الجمعة في السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة، قال تعالى: {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة، فاتقوا الله لعلكم تشكرون} [آل عمران:123/ 3]، وقال ابن عباس: كانت يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان، وفيها قتل فرعون الأمة أبو جهل أكبر أعداء الإسلام.
2 - فتح مكة: وهو الفتح الأكبر لقوله تعالى: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} [الفتح:1/ 48] حدث في يوم الجمعة في العشرين أو الحادي والعشرين من رمضان من السنة الثامنة للهجرة، وقد تم به القضاء على فلول الوثنية، وتم به تحطيم الأصنام حول الكعبة. وفي رمضان من السنة الخامسة كان استعداد المسلمين لغزوة الخندق التي وقعت في شوال من العام نفسه.
3 - وقعت بعض أحداث غزوة تبوك في رمضان سنة 9هـ، وفي رمضان كانت معركة القادسية، ومعركة البويب، وفتح رودس.

(3/1626)


4 - انتشر الإسلام في اليمن في السنة العاشرة في رمضان، وأرسل النبي صلّى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب على رأس سرية إلى اليمن، وحمل معه كتاباً إليهم.
5 - هدم خالد بن الوليد لخمس بقين من رمضان في السنة الثامنة البيت الذي كانت تعبد فيه العزى في نخلة، وقال للرسول صلّى الله عليه وسلم: «تلك العزى ولا تعبد أبداً» (1). ووجه الرسول صلّى الله عليه وسلم السرايا لهدم الأصنام.

6 - قدم في السنة التاسعة في رمضان وفد ثقيف من الطائف إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يريدون الإسلام، وهدم فيها صنم اللات الذي كانت تعبده ثقيف (2).
7 - في صبيحة يوم الجمعة في 25 من رمضان479 هـ حدثت موقعة الزلاَّقة (سهل يقع على مقربة من البرتغال الحالية) أو يوم العروبة والإسلام، وانتصر فيها جيش المرابطين المسلمين في الأندلس بقيادة يوسف بن تاشفين على جيش الفرنجة البالغ ثمانين ألف مقاتل بقيادة الفونس السادس ملك قشتالة.
8 - موقعة عين جالوت: (قرية بين بيسان ونابلس) حدثت في صبيحة يوم الجمعة في الخامس عشر من رمضان سنة 658 هـ الموافق 3 أيلول (سبتمبر) 1260م، بقيادة السلطان قُطُز سلطان المماليك في مصر، بعد أن صاح بأعلى صوته «وإسلاماه»، وانتصر فيها على المغول الذين ولوا الأدبار لا يلوون على شيء (3)، وتم فيها توحيد مصر وبلاد الشام (4). وإنقاذ الإسلام والمسلمين من
_________
(1) البداية والنهاية لابن كثير: 316/ 4.
(2) المرجع السابق: 316/ 5.
(3) الحركة الصليبية للدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور: 1136/ 2، ط ثانية، مكتبة الأنجلو المصرية.
(4) أما موقعة حطين شمال طبرية سنة 583 هـ/1187م فقد وقعت في يوم السبت 14 ربيع الآخر الموافق 4 تموز، ولكن دخل صلاح الدين الأيوبي القدس في ليلة السابع والعشرين من رجب في ذكرى الإسراء والمعراج في 12 أكتوبر (تشرين الأول) سنة 1187م (الحركة الصليبية: 808/ 2 - 811،822).

(3/1627)


همجية المغول، كما أن البطل صلاح الدين خاض معارك حاسمة ضد الصليبيين في رمضان.

9 - فتح الأندلس: في رمضان كانت معركة طريف تمهيداً لفتح الأندلس، وكانت معركة الزلاَّقة، ثم حدث فتح الأندلس في 28 رمضان سنة 92هـ/19 يوليو (تموز) 711 م بقيادة طارق بن زياد بعد أن هزم روذريق قائد القوط في موقعة حاسمة تعرف بـ «موقعة البحيرة» بعد أن استولى على مضيق جبل طارق وأحرق سفنه، وقال كلمته المشهورة: «البحر من ورائكم والعد ومن أمامكم»، ثم تم بعدها فتح قرطبة وغرناطة وطليطلة العاصمة السياسية للأندلس (1).
وفي رمضان كانت آخر المعارك مع الصليبيين لتطهير أرضنا وديارنا من أرجاسهم. وفي العاشر من رمضان سنة 1393هـ/1973م كانت معركة العبور، أي عبور القوات المصرية المسلحة قناة السويس من الضفة الغربية إلى الضفة الشرقية، بعد احتلال اليهود لها مدة نحو سبع سنوات في الخامس من شهر حزيران سنة 1967م، ووصلت في العاشر من شهر رمضان القوات السورية إلى شواطئ بحيرة طبرية. ولقّن الفلسطينيون العدو الصهيوني في رمضان في معركة الكرامة في نيسان (أبريل) سنة 1968م درساً لا ينساه مع قلتهم وتمكن العدو في موقع استراتيجي رائع.