الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي المبحث الثاني ـ
فرضية الصيام وأنواعه:
فرضية الصيام وتاريخها: صوم شهر رمضان
ركن من أركان الإسلام وفرض
_________
(1) التاريخ السياسي للدولة العربية، للدكتور عبد المنعم ماجد: 204/ 2).
(3/1628)
من فروضه (1)، بدليل القرآن والسنة
والإجماع:
أما القرآن: فقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام، كما كتب
على الذين من قبلكم، لعلكم تتقون} [البقرة:183/ 2] إلى قوله تعالى: {فمن
شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة:185/ 2].
وأما السنة: فقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادة
أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة،
وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً» (2)، وعن طلحة بن عبيد الله
أن رجلاً جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم ثائر الرأس فقال: يا رسول
الله، أخبرني ماذا فرض الله عليّ من الصيام؟ قال: شهررمضان، قال: هل علي
غيره؟ قال: لا، إلا أن تطوع شيئاً. قال: فأخبرني ماذا فرض الله علي من
الزكاة؟ فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام، قال: والذي
أكرمك لا أتطوع شيئاً، ولا أنقص مما فرض الله علي شيئاً، فقال النبي صلّى
الله عليه وسلم: «أفلح إن صدق، أو دخل الجنة إن صدق» (3).
وأجمع المسلمون على وجوب صيام شهر رمضان.
وفُرض صوم رمضان بعد صرف القبلة إلى الكعبة لعشر من شعبان في السنة الثانية
من الهجرة بسنة ونصف إجماعاً، وصام النبي صلّى الله عليه وسلم تسعة رمضانات
في تسع سنين، وتوفي النبي صلّى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول سنة إحدى
عشرة من الهجرة (4).
_________
(1) الفرق بين الركن والفرض: أن الركن يجب اعتقاده ولا يتم العمل إلا به،
سواء أكان فرضاً أم نفلاً، والفرض: ما يعاقب على تركه، وأركان الإسلام: أي
جوانبه التي يبنى عليها، فمتى فقد ركن منها لم يتم الإسلام.
(2) رواه البخاري ومسلم من طرق كثيرة عن ابن عمر.
(3) متفق عليه بين البخاري ومسلم.
(4) المجموع: 273/ 6 ومابعدها، الدر المختار: 109/ 2، كشاف القناع: 349/ 2،
بداية المجتهد: 274/ 1، المغني: 84/ 3.
(3/1629)
وجاحد وجوب صوم رمضان كافر يعامل كالمرتد،
فيستتاب، فإن تاب قبل منه، وإلا قتل حداً إذا لم يكن قريب عهد بالإسلام أو
نشأ بعيداً عن العلماء. أما تارك الصيام كسلاً بغير عذر،،ولم يكن جاحداً
لوجوبه، فهو فاسق، وليس بكافر.
أنواع الصيام:
الصوم أنواع: واجب، وتطوع، وحرام، ومكروه (1).
وقال الحنفية: الصوم ثمانية أنواع: فرض معين كصوم رمضان أداء، وغير معين
كقضاء رمضان وصوم الكفارات، وواجب معين كنذر معين، وغير معين كالنذر
المطلق، ونفل مسنون كصوم عاشوراء وتاسوعاء، ونفل مندوب أو مستحب كأيام
البيض من كل شهر، ومكروه تحريماً كصوم العيدين، ومكروه تنزيهاً كعاشوراء
وحده، وسبت وحده، ونيروز ومهرجان.
النوع الأول ـ الواجب:
وهو ثلاثة أقسام: منه ما يجب للزمان نفسه وهو صوم شهر رمضان، ومنه ما يجب
لعلة وهو صيام الكفارات، ومنه ما يجب بإيجاب الإنسان ذلك على نفسه، وهو
صيام النذر.
والصوم اللازم عند الحنفية نوعان: فرض وواجب. والفرض نوعان: معين
_________
(1) اللباب: 162/ 1،173، فتح القدير: 43/ 2 ومابعدها، 54، الدر المختار
وحاشيته: 112/ 2 - 116، مراقي الفلاح: ص105 ومابعدها، بداية المجتهد: 274/
1، 300، الشرح الصغير: 687/ 1،722، القوانين الفقهية: ص114، مغني المحتاج:
420/ 1، 433، 445 - 449، كشاف القناع: 349/ 2، 393 ومابعدها، 398، المغني:
89/ 3، 142، 163.
(3/1630)
كصوم أداء، وغير معين كصوم رمضان قضاء،
وصوم الكفارات، ولكنه أي الأخير فرض عملاً، لا اعتقاداً، ولذا لايكفر
جاحده.
والواجب نوعان: معين كالنذر المعين، وغير المعين كالنذر المطلق، وكقضاء ما
أفسده من صوم النفل.
النوع الثاني ـ الصوم الحرام عند
الجمهور أو المكروه تحريماً عند الحنفية: وهو ما يأتي:
1ً
- صيام المرأة نفلا ًبغير إذن زوجها أو
علمها برضاه إلا إذا لم يكن محتاجاً لها كأن كان غائباً أو محرماً بحج أو
عمرة أو معتكفاً، لخبر الصحيحين: «لا يحل لامرأة أن تصوم، وزوجها شاهد إلا
بإذنه» ولأن حق الزوج فرض، لا يجوز تركه لنفل، فلوصامت بغير إذنه صح، وإن
كان حراماً كالصلاة في دار مغصوبة، وللزوج أن يفطرها، لقيام حقه واحتياجه.
وهذا الصوم مكروه تنزيهاً عند الحنفية.
2ً
- صوم يوم الشك: وهو يوم الثلاثين من
شعبان إذا تردد الناس في كونه من رمضان، وللفقهاء عبارات متقاربة في
تحديده، واختلفوا في حكمه، مع اتفاقهم على عدم الكراهة وإباحة صومه إن صادف
عادة للمسلم بصوم تطوع كيوم الاثنين أو الخميس.
فقال الحنفية (1): هو آخر يوم من شعبان
يوم الثلاثين إذا شك بسبب الغيم أمن رمضان هو أم من شعبان. فلو كانت السماء
صحواً ولم ير هلال أحد فليس بيوم شك.
وحكمه: أنه مكروه تحريماً إذا نوى أنه من رمضان أو من واجب آخر. ويكره
_________
(1) فتح القدير: 53/ 1 وما بعدها، الدر المختار: 119/ 2 وما بعدها، مراقي
الفلاح، ص 107.
(3/1631)
أيضاً صوم ما قبل رمضان بيوم أو يومين،
لحديث: «لا تَقدَّموا رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا رجل كان يصوم صوماً،
فيصومه» (1) فيكره صومه إلا أن يوافق صوماً كان يصومه المسلم، خوفاً من أن
يظن أنه زيادة على صوم رمضان، ولا يكره صوم نفل جزم به بلا ترديد بينه وبين
صوم آخر، فلا يصام يوم الشك إلا تطوعاً.
وقال المالكية على المشهور (2): إنه يوم
الثلاثين من شعبان إذا كان بالسماء في ليلته (أي ليلة الثلاثين) غيم، ولم
ير هلال رمضان. فإن كانت السماء صحواً لم يكن يوم شك؛ لأنه إذا لم تثبت
رؤية هلال رمضان، كان اليوم من شعبان جزماً. وهذا كمذهب الحنفية.
والراجح عند الدردير والدسوقي وغيرهما أن يوم الشك: صبيحة الثلاثين من
شعبان إذا كانت السماء صحواً أو غيماً، وتحدث بالرؤية من لا تقبل شهادته
كعبد أو امرأة أو فاسق. أما يوم الغيم فهو من شعبان جزماً؛ لخبر الصحيحين:
«فإن غم عليكم، فأكملوا عدة شعبان ثلاثين».
وحكمه: أنه يكره صومه للاحتياط على أنه من رمضان، ولا يجزئه صومه عن رمضان،
فمن أصبح فلم يأكل ولم يشرب، ثم تبين له أن ذلك اليوم من رمضان، لم يجزه،
وجاز صومه لمن اعتاد الصوم تطوعاً سرداً أو يوماً معيناً كيوم الخميس
مثلاً، فصادف يوم الشك، كما جاز صومه تطوعاً، وقضاء عن رمضان سابق، وكفارة
عن يمين أوغيره، ولنذر يوم معين أو يوم قدوم شخص مثلاً، فصادف يوم الشك.
ويندب الإمساك (الكف عن المفطر) يوم الشك ليتحقق الحال، فإن ثبت رمضان وجب
الإمساك لحرمة الشهر، ولو لم يكن أمسك أولاً.
_________
(1) رواه الأئمة الستة في كتبهم عن أبي هريرة (نصب الراية: 440/ 2).
(2) الشرح الكبير: 513/ 1، الشرح الصغير: 686/ 1 وما بعدها، القوانين
الفقهية: ص115، شرح الرسالة: 293/ 1 - 295.
(3/1632)
وقال الشافعية
(1): يوم الشك: هو يوم الثلاثين من شعبان في حال الصحو، إذا تحدث الناس
برؤية الهلال ليلته، ولم يعلم من رآه، ولم يشهد برؤيته أحد، أو شهد بها
صبيان أو عبيد أو فسقة أو نساء، وظن صدقهم، أو شهد شخص عدل ولم يكتف به.
وليس إطباق الغيم بشك، كما أنه إذا لم يتحدث أحد من الناس بالرؤية فليس
بشك، بل هو يوم من شعبان، وإن أطبق الغيم، لخبر الصحيحين المتقدم: «فإن غم
عليكم، فأكملوا عدة شعبان ثلاثين».
وحكمه: أنه يحرم ولا يصح التطوع بالصوم يوم الشك، ولقول عمار بن ياسر رضي
الله عنه: «من صام يوم الشك، قد عصى أبا القاسم صلّى الله عليه وسلم» (2).
وحكمة التحريم: توفير القوة على صوم رمضان، وضبط زمن الصوم وتوحيده بين
الناس، دون زيادة. وكذلك يحرم صوم يوم أو يومين قبل رمضان، والأظهر أنه
يلزم الإمساك من أكل يوم الشك، ثم ثبت كونه من رمضان، لأن صومه واجب عليه،
إلا أنه جهله.
ويجوز صوم يوم الشك عن القضاء والنذر والكفارة، ولموافقة عادة تطوعه، ونحوه
مما له سبب يقتضي الصوم، على الأصح مسارعة لبراءة الذمة، فيما عدا
الاعتياد، وعملاً في الاعتياد بالحديث المتقدم: « ... إلا رجل كان يصوم
صوماً، فليصمه» ويجب الإمساك على من أصبح يوم الشك مفطراً، ثم تبين أنه من
رمضان، ثم يقضيه بعد رمضان فوراً، وإن صامه متردداً بين كونه نفلاً من
شعبان أو فرضاً من رمضان، لم يصح فرضاً ولا نفلاً إن ظهر أنه من رمضان.
_________
(1) مغني المحتاج: 433/ 1،438.
(2) رواه أصحاب السنن الأربعة، وصححه الترمذي وغيره.
(3/1633)
وقال الحنابلة
(1): يوم الشك: هو يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال ليلته، مع كون
السماء صحواً لا علة فيها من غيم أو قَتَر ونحوهما، أو شهد برؤية الهلال من
ردت شهادته لفسق ونحوه، فهم في تحديده كالشافعية.
وحكمه كما قال المالكية: يكره ويصح صوم يوم الشك بنية الرمضانية احتياطاً،
ولا يجزئ إن ظهر منه، إلا إذا وافق عادة له، أو وصله بصيام قبله، فلا
كراهة، للحديث المتقدم: «لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا رجل كان
يصوم صوماً، فليصمه» وإلا أن يصومه عن قضاء أو نذر أو كفارة، فلا كراهة؛
لأن صومه واجب إذاً. وإن صامه موافقة لعادة ثم تبين أنه من رمضان، فلا
يجزئه عنه، ويجب عليه الإمساك فيه، وقضاء يوم بعده. والخلاصة: إن صوم يوم
الشك مكروه عند الجمهور، حرام عند الشافعية.
3ً
- صوم عيد الفطر والأضحى وأيام التشريق بعده:
مكروه تحريماً عن الحنفية، حرام لا يصح عند باقي الأئمة (2)، سواء أكان
الصوم فرضاً أم نفلاً، ويكون عاصياً إن قصد صيامها، ولا يجزئه عن الفرض لما
روى أبو هريرة: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين: يوم
فطر، ويوم أضحى» (3) والنهي عند غير الحنفية يقتضي فساد المنهي عنه
وتحريمه. وروى مسلم في صحيحه عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «أيام منى أيام
أكل وشرب وذكْر الله تعالى». وقصر المالكية تحريم صوم التشريق على يومين
بعد الأضحى، وقال الجمهور: ثلاثة أيام بعده، وأما صوم اليوم الرابع عند
المالكية فمكروه فقط.
_________
(1) المغني: 89/ 3، كشاف القناع: 350/ 2 - 351،398 ومابعدها.
(2) الدر المختار: 114/ 2، مراقي الفلاح: ص106، القوانين الفقهية: ص114،
مغني المحتاج: 433/ 1، المهذب: 189/ 1، المغني: 163/ 3، كشاف القناع: 399/
2.
(3) متفق عليه، وعن أبي سعيد الخدري عند الشيخين (البخاري ومسلم) مثله.
(3/1634)
وتحريم الصوم في أيام العيدين عند
الشافعية، ولو لمتمتع بالحج والعمرة، للنهي عن صيامها كما رواه أبو داود
بإسناد صحيح. واستثنى الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة) حالة الحج
للمتمتع والقارن، فأجازوا لهما صيامهما، لقول ابن عمر وعائشة:
«لم يرخص في أيام التشريق أن يُصَمْنَ إلا لمن لم يجد الهدي» (1).
4ً
- صوم الحائض والنفساء حرام ولا يصح ولا
ينعقد، كما أبنت في مبحث الحيض والنفاس، وعليهما قضاء الصوم دون الصلاة.
5ً
- قال الشافعية: يحرم صوم النصف الأخير من
شعبان الذي منه يوم الشك، إلا لوِرْد بأن اعتاد صوم الدهر أو صوم
يوم وفطر يوم أو صوم يوم معين كالاثنين فصادف ما بعد النصف، أو نذر مستقر
في ذمته، أو قضاء لنفل أو فرض، أو كفارة، أو وصل صوم ما بعد النصف بما
قبله، ولو بيوم النصف.
ودليلهم حديث: «إذا انتصف شعبان، فلا تصوموا» (2) ولم يأخذ به الحنابلة
وغيرهم لضعف الحديث في رأي أحمد.
6ً
- صيام من يخاف على نفسه الهلاك بصومه.
النوع الثالث ـ الصوم المكروه:
هو كصوم الدهر (3)، وإفراد يوم الجمعة بالصوم، وإفراد يوم السبت،
_________
(1) رواه البخاري.
(2) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة، وهو حسن، كما ذكر
السيوطي وصححه ابن حبان وغيره (سبل السلام: 171/ 2).
(3) الدهر: الأبد المحدود، وأما قوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تسبوا
الدهر، فإن الدهر هو الله» فمعناه أن ما أصابك من الدهر فالله فاعله، ليس
الدهر، فإذا سببت به الدهر، فكأنك أردت الله سبحانه (مغني المحتاج: 448/
1).
(3/1635)
وصوم يوم الشك وصوم يوم أو يومين قبل رمضان
عند الجمهور، ويحرم الأخيران عند الشافعية، والراجح عند المالكية عدم كراهة
صوم الدهر وإفراد الجمعة بالصوم. والكراهة فيهما عند غير المالكية تنزيهية.
وللفقهاء تفصيلات في بيان الصوم المكروه:
فقال الحنفية (1): الصوم المكروه قسمان:
مكروه تحريماً، ومكروه تنزيهاً. والمكروه تحريماً: هو صوم أيام العيدين
والتشريق وصوم يوم الشك، لورود النهي السابق عن صيامها، فإذا صامها انعقد
صومه مع الإثم، ولا يلزم القضاء لمن شرع في صومه وأفسده، لأن المبدأ
الأصولي عندهم هو أن النهي المتوجه إلى وصف من أوصاف العمل اللازم له يقتضي
فساد الوصف فقط، ويبقى أصل العمل على مشروعيته.
والمكروه تنزيهاً: هو إفراد صيام يوم عاشوراء (العاشر من المحرم) عن التاسع
أوعن الحادي عشر، وإفراد يوم الجمعة في قول البعض، ويوم السبت، ويوم
النيروز (يوم في طرف الربيع) والمهرجان (يوم في طرف الخريف) بالصوم إلا أن
يوافق ذلك عادته، فتزول علة الكراهة، أما الجمعة فلقوله صلّى الله عليه
وسلم: «لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تختصوا يوم الجمعة
بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم» (2). وأما السبت:
فلقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم،
فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة أو عود شجرة، فليمضغه» (3). وأما النيروز
والمهرجان فلأن فيه تعظيم أيام نهينا عن تعظيمها.
_________
(1) الدر المختار: 114/ 2 ومابعدها، مراقي الفلاح: ص106.
(2) رواه مسلم، ورواه الجماعة عن أبي هريرة بلفظ «لا تصوموا يوم الجمعة إلا
وقبله يوم أو بعده يوم» (نيل الأوطار: 249/ 4).
(3) رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي عن عبد الله بن بُسْر عن أخته
الصماء (نيل الأوطار: 251/ 4).
(3/1636)
ويكره تنزيهاً أيضاً صوم الدهر؛ لأنه
يضعفه، ولحديث «لا صام من صام الأبد» (1) ويكره صوم الصمت: وهو أن يصوم ولا
يتكلم بشيء، وعليه أن يتكلم بخير وبحاجة دعت إليه. ويكره صوم الوصال ولو
بين يومين فقط، وهو ألا يفطر بعد الغروب أصلاً حتى يتصل صوم الغد بالأمس،
للنهي عنه، قال صلّى الله عليه وسلم: «إياكم والوصال» (2) وقالت عائشة:
«نهاهم النبي صلّى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم، فقالوا: إنك تواصل؟
قال: إني لست كهيئتكم، إني يطعمني ربي ويسقيني» (3).
ويكره صوم المسافر إذا أجهده الصوم، وصوم المرأة تطوعاً بغير رضا زوجها،
وله أن يفطرها، لقيام حقه واحتياجه، إلا أن يكون مريضاً أو صائماً أو
محرماً بحج أو عمرة.
وقال المالكية (4): قال العلامة خليل:
يندب صوم الدهر ولا يكره، للإجماع على لزومه لمن نذره، ولو كان مكروهاً أو
ممنوعاً لما لزم على القاعدة، ويندب صوم يوم الجمعة ولا يكره لأن محل النهي
عن ذلك على خوف فرضه، وقد انتفت هذه العلة بوفاته عليه الصلاة والسلام،
وقال ابن جزي: المكروه: صوم الدهر، وصوم يوم الجمعة خصوصاً إلا أن يصوم
يوماً قبله، أو يوماً بعده، وصوم السبت خصوصاً، وصوم يوم عرفة بعرفة، وصوم
يوم الشك: وهو آخر يوم من شعبان احتياطاً إذا لم يظهر الهلال. وصوم اليوم
الرابع من النحر، إلا لقارن أو متمتع أو لمن لزمه هدي لنقص في الحج، أو في
حالة النذر والكفارات، فلا يكره.
_________
(1) متفق عليه بين أحمد والشيخين عن عبد الله بن عمرو (نيل الأوطار: 254/
4).
(2) متفق عليه عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 219/ 4).
(3) متفق عليه (نيل الأوطار: 219/ 4).
(4) القوانين الفقهية: ص 115،119، الشرح الصغير: 686/ 1،692 - 694،722 -
723، الشرح الكبير مع الدسوقي: 534/ 1.
(3/1637)
ويكره صوم التطوع لمن عليه صوم واجب
كالقضاء، وصوم الضيف بدون إذن المضيف، وصوم يوم المولد النبوي، لأنه شبيه
بالأعياد.
ويكره نذر صوم يوم مكرر ككل خميس، لأن التزام يوم متكرر أو دائم يؤدي إلى
التثاقل والندم، فيكون لغير الطاعة أقرب. ويكره تطوع بصوم قبل صوم واجب غير
معيَّن، كقضاء رمضان وكفارة. أما المعين فلا يكره التطوع فيه. ويكره تعيين
صوم الثلاثة البيض من كل شهر وهي الثالث عشر وتالياه، فراراً من التحديد،
كما يكره صوم ستة من شوال إن وصلها بالعيد مظهراً لها، ولا يكره إن فرقها
أو أخرها أو صامها سراً، لانتفاء علة اعتقاد الوجوب.
وقال الشافعية (1): يكره إفراد الجمعة
بالصوم، وإفراد السبت والأحد بالصوم، وصوم الدهر غير العيد والتشريق لمن
خاف به ضرراً أو فوت حق واجب أو مستحب، للنهي المتقدم عنها في الأحاديث
السابقة، ولخبر البخاري: «إن لربك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولجسدك
عليك حقاً»، وعليه حمل خبر الصحيحين: «لا صام من صام الأبد».
ويستحب صوم الدهر لمن لم يخف ضرراً أو فوت حق، لإطلاق الأدلة، ولأنه صلّى
الله عليه وسلم قال: «من صام الدهر ضيقت عليه جهنم هكذا، وعقد تسعين» (2).
وهذا موافق لمذهب الحنابلة أيضاً.
ويكره صوم المريض والمسافر والحامل والمرضع والشيخ الكبير إذا خافوا مشقة
_________
(1) مغني المحتاج: 447/ 1 ومابعدها، المهذب: 188/ 1 ومابعدها.
(2) رواه البيهقي وأحمد، ومعنى «ضيقت عليه» أي عنه، فلم يدخلها، أو لا يكون
له فيها موضع (نيل الأوطار: 255/ 4)
(3/1638)
ورأى الجمهور أن الحديث في صوم الدهر على
ظاهره، وحملوه على من صام الأيام المنهي عنها. شديدة، وقد يحرم صومهم إذا
خافوا الهلاك أو تلف عضو بترك الغذاء. ولا يكره صوم يوم النيروز والمهرجان.
وقال الحنابلة (1): مثل الشافعية؛ وزادوا أنه يكره صوم الوصال: وهو ألا
يفطر بين اليومين، وتزول الكراهة بأكل تمرة ونحوها، ويكره صوم بسفر قصر ولو
بلا مشقة، فلو سافر ليفطر حرم السفر والفطر. ويكره إفراد رجب بالصوم؛ لأن
النبي صلّى الله عليه وسلم «نهى عن صيامه» (2)، ولأن فيه إحياء لشعار
الجاهلية بتعظيمه، وتزول الكراهة بفطره فيه، ولو يوماً، أو بصومه شهراً آخر
من السنة، ولايكره إفراد شهر غير رجب بالصوم.
ويكره إفراد يوم نيروز (اليوم الرابع من الربيع) ويوم مهرجان (اليوم التاسع
عشر من الخريف) بالصوم، وهما عيدان للكفار، لما فيه من موافقة الكفار في
تعظيمهما.
ويكره أيضاً صوم يوم الشك، كما سبق، وتقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، ولا
يكره تقدمه بأكثر من يومين.
النوع الرابع ـ صوم التطوع أو الصوم المندوب:
التطوع: التقرب إلى الله تعالى بما ليس بفرض من العبادات، مأخوذ من قوله
تعالى: {ومن تطوع خيراً} [البقرة:158/ 2]، وقد يعبر عنه بالنافلة كما في
الصلاة، لقوله تعالى: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك} [الإسراء:79/ 17]. ولا
_________
(1) كشاف القناع: 397/ 2 - 399، غاية المنتهى: 334/ 1.
(2) رواه ابن ماجه عن ابن عباس، وهو ضعيف. وكل حديث روي في فضل صوم رجب أو
الصلاة فيه فكذب باتفاق أهل العلم.
(3/1639)
شك أن الصوم ـ كما أبنت ـ من أفضل
العبادات، ففي الصحيحين: «من صام يوماً في سبيل الله، باعد الله تعالى وجهه
عن النار سبعين خريفاً» وفي الحديث المتقدم: «كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم
فإنه لي، وأنا أجزي به».
وأيام صوم التطوع بالاتفاق ما يلي:
1 - صوم يوم وإفطار يوم: أفضل صوم التطوع صيام يوم، وإفطار يوم، لخبر
الصحيحين: «أفضل الصيام صوم داود، كان يصوم يوماً، ويفطر يوماً» وفيه
«لاأفضل من ذلك» (1).
2 - صوم ثلاثةأيام من كل شهر، والأفضل أن تكون الأيام البيض أي أيام
الليالي البيض، وهي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، وسميت بيضاً
لابيضاضها ليلاً بالقمر، نهاراً بالشمس، وأجرها كصوم الدهر، بتضعيف الأجر،
الحسنة بعشر أمثالها من غير حصول المضرة أو المفسدة التي في صيام الدهر.
ودليلها ما روى أبو ذر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال له: «إذا صمت من
الشهر ثلاثة أيام، فصم ثالث عشرة، ورابع عشرة، وخامس عشرة» (2) وروي «أن
النبي صلّى الله عليه وسلم كان يصوم عدة ثلاثة أيام من كل شهر» (3).
_________
(1) متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو، ولفظه: «صم يوماً وأفطر يوماً،
فذلك صيام داود، وهو أفضل الصيام، قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك، فقال: لا
أفضل من ذلك» (نيل الأوطار: 254/ 4).
(2) رواه الترمذي وحسنه، والنسائي وابن حبان في صحيحه، وأحمد (نيل الأوطار:
252/ 4 ومابعدها، سبل السلام: 168/ 2).
(3) رواه أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة من حديث ابن مسعود، وأخرج مسلم من
حديث عائشة «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام،
ما يبالي في أي الشهر صام» (سبل السلام: 168/ 2).
(3/1640)
3 - صوم يوم الاثنين والخميس من كل أسبوع،
لقول أسامة بن زيد إن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يصوم يوم الاثنين
والخميس، فسئل عن ذلك فقال: «إن أعمال الناس تعرض يوم الاثنين ويوم الخميس»
(1)، وفي لفظ: «وأحب أن يُعْرَض عملي وأنا صائم».
4 - صوم ستة أيام من شوال، ولو متفرقة، ولكن تتابعها أفضل عقب العيد مبادرة
إلى العبادة، ويحصل له ثوابها ولو صام قضاء أو نذراً أو غير ذلك، فمن صامها
بعد أن صام رمضان، فكأنما صام الدهر فرضاً، لما روى أبو أيوب «من صام
رمضان، ثم أتبعه ستاً من شوال، فذاك صيام الدهر» (2) وروى ثوبان: «صيام شهر
بعشرة أشهر، وصيام ستة أيام بشهرين، فذلك سنة» (3) يعني أن الحسنة بعشر
أمثالها، الشهر بعشرة أشهر، والستة بستين، فذلك سنة كاملة.
5 - صوم يوم عرفة: هو تاسع ذي الحجة لغير الحاج، لخبر مسلم: «صيام يوم عرفة
أحتسب على الله أنه يكفر السنة التي قبلها، والسنة التي بعده» وهو أفضل
الأيام لخبر مسلم: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه من النار من يوم
عرفة»، وأما قوله صلّى الله عليه وسلم: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم
الجمعة» فمحمول على غير يوم عرفة بقرينة ما ذكر (4).
أما الحاج فلا يسن له صوم يوم عرفة، بل يسن له فطره وإن كان قوياً، ليقوى
على الدعاء، واتباعاً للسنة، كما روى الشيخان، فصومه له خلاف الأولى، قال
_________
(1) رواه أبو داود.
(2) رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي، ورواه أحمد من حديث جابر (نيل
الأوطار: 237/ 4).
(3) رواه سعيد بن منصور بإسناده عن ثوبان.
(4) قيل: المكفر الصغائر دون الكبائر، ورد عليه: وهذا تحكم يحتاج إلى دليل،
والحديث عام، وفضل الله واسع لا يحجر.
(3/1641)
أبو هريرة رضي الله عنه: «نهى رسول الله
صلّى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة بعرفات» (1). ولا بأس بصومه للحاج عند
الحنفية إذا لم يضعفه الصوم.
6 - صوم الأيام الثمانية من ذي الحجة قبل يوم عرفة للحاج وغيره، لقول حفصة:
«أربع لم يكن يدعُهنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم: صيام عاشوراء،
والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر، والركعتين قبل الغداة» (2) وقد تقدم في بحث
«صلاة العيدين» أحاديث تدل على فضيلة العمل في عشر ذي الحجة عموماً، والصوم
مندرج تحتها.
7 - صوم تاسوعاء وعاشوراء: وهما التاسع والعاشر من شهر المحرم، ويسن الجمع
بينهما، لحديث ابن عباس مرفوعاً: «لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع
والعاشر» (3) ويتأكد صيام عاشوراء لقوله صلّى الله عليه وسلم فيه: «أحتسب
على الله تعالى أن يكفر السنة التي قبله» (4)، وإنما لم يجب صومه لخبر
الصحيحين: «إن هذا اليوم يوم عاشوراء، ولم يكتب عليكم صيامه، فمن شاء
فليصم، ومن شاء فليفطر» وحملوا الأخبار الواردة بالأمر بصومه على تأكد
الاستحباب.
والحكمة من صيام عاشوراء: ما بينه ابن عباس، قائلاً: «قدم النبي صلّى الله
عليه وسلم،
_________
(1) رواه أحمد وابن ماجه (نيل الأوطار: 239/ 4).
(2) رواه أحمد وأبو داود والنسائي (نيل الأوطار: 238/ 4).
(3) رواه الخلال بإسناد جيد، واحتج به أحمد، وروى مسلم: «لئن بقيت إلى قابل
لأصومن اليوم التاسع».
(4) روى الجماعة إلا البخاري والترمذي عن أبي قتادة قال: قال رسول الله
صلّى الله عليه وسلم: «صوم يوم عرفة يكفر سنتين ماضية ومستقبلة، وصوم يوم
عاشوراء يكفر سنة ماضية» وحكمة التفرقة: أن عرفة يوم محمدي: يعني أن صومه
مختص بأمة محمد صلّى الله عليه وسلم، وعاشوراء يوم موسوي، ونبينا محمد صلّى
الله عليه وسلم أفضل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين (نيل
الأوطار: 238/ 4)، وأحتسب: أطلب الأجر والثواب.
(3/1642)
فرأى اليهود تصوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟
قالوا: يومٌ صالح، نجَّى الله فيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى،
فقال: أنا أحق بموسى منكم، فصامه، وأمر بصيامه» (1).
فإن لم يصم مع عاشوراء تاسوعاء، سن عند الشافعية أن يصوم معه الحادي عشر،
بل نص الشافعي في الأم والإملاء على استحباب صوم الثلاثة. وذكر الحنابلة
أنه إن اشتبه على المسلم أول الشهر، صام ثلاثة أيام، ليتيقن صومها.
وتاسوعاء وعاشوراء آكد شهر الله المحرم.
ولا يكره عند الجمهور غير إفراد العاشر بالصوم.
8 - صيام الأشهر الحرم ـ وهي أربع: ثلاثة متوالية؛ وهي ذو القعدة وذو الحجة
والمحرَّم، وواحد منفرد وهو رجب، وهي أفضل الشهور للصوم بعد رمضان، وأفضل
الأشهر الحرم: المحرم، ثم رجب، ثم باقي الحرم، ثم بعد الحرم شعبان.
واستحباب صوم هذه الأشهر هو عند المالكية والشافعية (2)، واكتفى الحنابلة
باستحباب صوم المحرم، فهو عندهم أفضل الصيام بعد صيام شهر رمضان، لقوله
صلّى الله عليه وسلم: «أفضل الصلاة بعد المكتوبة جوف الليل، وأفضل الصيام
بعد رمضان شهر الله المحرَّم» (3)، وأفضل المحرم يوم عاشوراء، كما تقدم.
وقال الحنفية: المندوب في الأشهر الحرم أن يصوم ثلاثة أيام من كل منها، وهي
الخميس والجمعة والسبت.
_________
(1) متفق عليه (نيل الأوطار: 241/ 4).
(2) القوانين الفقهية: ص 114، الحضرمية: ص 118.
(3) رواه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة.
(3/1643)
9 - صوم شعبان: لحديث أم سلمة: أن النبي
صلّى الله عليه وسلم لم يكن يصوم من السنة شهراً تاماً إلا شعبان يصل به
رمضان (1)، وعن عائشة قالت: «لم يكن النبي صلّى الله عليه وسلم يصوم أكثر
من شعبان، فإنه كان يصومه كله» (2) وكره قوم صوم النصف الآخر من شعبان،
وقال الشافعية: لا يصح صومه، للحديث المتقدم: «إذا انتصف شعبان فلا
تصوموا».
آراء المذاهب في الصوم المندوب:
للفقهاء تصنيفات لأيام الصوم المتطوع بها، هي ما يأتي:
قال الحنفية (3): صوم التطوع أنواع
ثلاثة: مسنون، ومندوب، ونفل: والمسنون: هو ما واظب عليه النبي صلّى الله
عليه وسلم، والمندوب أو المستحب: هو مالم يواظب عليه صلّى الله عليه وسلم،
وإن لم يفعله بعدما رغب إليه. والنفل: ما سوى ذلك وهو ما رغب فيه الشرع من
مطلق الصوم.
أما المسنون: فهو صوم عاشوراء مع التاسع.
وأما المندوب: فهو صوم ثلاثة أيام من كل شهر، ويندب كونها الأيام البيض:
وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وصوم الاثنين والخميس، وصوم ست من
شوال ولا يكره التتابع على المختار، وكل صوم ثبت طلبه والوعد عليه بالسنة
كصوم داود عليه السلام. ومنه صوم يوم الجمعة ولو منفرداً، فلا بأس بصيامه
عند أبي حنيفة ومحمد، لما روي عن ابن عباس أنه كان يصومه ولا يفطر.
_________
(1) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) ولفظ ابن ماجه، «كان يصوم شهري شعبان
ورمضان» (نيل الأوطار: 245/ 4).
(2) متفق عليه (المصدر والمكان السابق).
(3) الدر المختار ورد المحتار: 113/ 2 - 116، 171، مراقي الفلاح: ص 105
ومابعدها.
(3/1644)
ومنه صوم يوم عرفة، ولو لحاج لم يضعفه عن
الوقوف بعرفات، ولا يخل بالدعوات، فلو أضعفه كره.
وأما النفل: فهو ما سوى ذلك مما لم يثبت كراهيته.
وذكر الحنفية تصنيفاً آخر، فقالوا:
أنواع الصوم اللازم ثلاثة عشر: سبعة متتابعة: وهي رمضان، وكفارة ظهار وقتل،
ويمين، وإفطار رمضان بلا عذر، ونذر معين، وصوم اعتكاف واجب، وستة يخير فيها
بين التتابع والتفريق وهي: صوم النفل، وقضاء رمضان، وصوم القران والتمتع في
الحج إذا عجز عن الذبح، وفدية حلق، وجزاء صيد، ونذر مطلق عن التقييد بشهر
كذا وعن التتابع أو نيته.
وقال المالكية (1): التطوع ثلاثة أنواع:
سنة ومستحب ونافلة، فهم كالحنفية.
فالسنة: صيام يوم عاشوراء: وهو عاشر المحرم.
والمستحب: صيام الأشهر الحرم وشعبان والعشر الأول من ذي الحجة، ويوم عرفة،
وستة أيام من شوال، وثلاثة أيام من كل شهر، ويوم الاثنين والخميس.
والنافلة: كل صوم لغير وقت ولا سبب في غير الأيام التي يجب أو يمنع.
وذكر الشافعية (2): أن صوم التطوع
المؤكد قسمان: قسم لا يتكرر كصوم الدهر. وقسم يتكرر، وهو أنواع ثلاثة:
الأول ـ ما يتكرر بتكرر السنين: وهو صوم يوم عرفة لغير الحاج والمسافر،
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 114، بداية المجتهد: 298/ 1 - 118.
(2) مغني المحتاج: 446/ 1 ومابعدها، الحضرمية: ص 118.
(3/1645)
وعشر ذي الحجة، وعاشوراء وتاسوعاء، والحادي
عشر من المحرم، وست من شوال ويسن تواليها واتصالها بالعيد. وسن صوم الأشهر
الحرم (وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب) وكذا يسن صوم شعبان.
الثاني ـ مايتكرر بتكرر الشهور: وهي الأيام البيض: وهي الثالث عشر والرابع
عشر والخامس عشر من كل شهر، والأيام السود: وهي الثامن والعشرون وتالياه،
وعند نقص الشهر يعوض عنه أول الشهر، ويسن أن يصوم معها السابع والعشرين
احتياطاً.
وخصت أيام البيض وأيام السود بذلك لتعميم ليالي الأولى بالنور والثانية
بالسواد، فناسب صوم الأولى شكراً، والثانية لطلب كشف السواد، ولأن الشهر
ضيف قد أشرف على الرحيل، فناسب تزويده بذلك.
الثالث ـ ما يتكرر بتكرر الأسابيع: وهو الاثنين والخميس.
وسرد الحنابلة (1) أوقات صوم التطوع
فقالوا:
أفضل صوم التطوع يوم ويوم، ولا يكره صوم الدهر إلا لخائف ضرراً أو فوت حق.
وسن ثلاثة من كل شهر، وكونها أيام البيض أفضل: وهي الثالث عشر والرابع عشر
والخامس عشر،
وذلك كصيام الدهر، فإن الحسنة بعشر أمثالها.
ويسن صوم الاثنين والخميس، وستة من شوال، والأولى تتابعها وعقب العيد، إلا
لمانع كقضاء، ومن صامها مع رمضان، كأنما صام الدهر.
_________
(1) كشاف القناع: 393/ 2 - 396، غاية المنتهى: 334/ 1 ومابعدها.
(3/1646)
ويسن صوم المُحرَّم، وهو أفضل الصيام بعد
رمضان، وآكده عاشوراء وهو كفارة سنة (1)، ثم تاسوعاء، ولا يكره إفراد
العاشر بالصوم. ويسن صوم أيام عشر ذي الحجة، وهي أفضل من العشر الأخير من
رمضان، وآكده يوم عرفة، وهو كفارة سنتين، والمراد كفارة الصغائر، فإن لم
تكن رُجي تخفيف الكبائر، فإن لم تكن فرفع درجات.
ولا يستحب صيام يوم عرفة لمن كان بعرفة من الحاج، بل فطره أفضل، لما روت أم
الفضل بنت الحارث «أنها أرسلت إلى النبي صلّى الله عليه وسلم بقدح لبن، وهو
واقف على بعيره بعرفة، فشرب» (2)، وأخبر ابن عمر أنه «حج مع النبي صلّى
الله عليه وسلم، ثم أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان، فلم يصمه أحد منهم» ولأنه
يُضعف عن الدعاء، فكان تركه أفضل.
ويكره إفراد رجب بالصوم، لما تقدم سابقاً في الصوم المكروه. ولا يكره إفراد
شهر غير رجب بالصوم؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم «كان يصوم شعبان ورمضان» أي
أحياناً، إذ لم يداوم على غير رمضان.
هل يلزم التطوع بالشروع فيه؟ للفقهاء
نظريتان في هذا الموضوع، الأولى للحنفية والمالكية، والثانية للشافعية
والحنابلة:
_________
(1) وينبغي فيه التوسعة على العيال، قال إبراهيم بن محمد بن المنتشر، وكان
أفضل أهل زمانه، أنه بلغه «من وسع على عياله يوم عاشوراء، وسَّع الله عليه
سائر سنته».
(2) متفق عليه.
(3/1647)
قال الفريق الأول (1): من دخل في صوم
التطوع أو في صلاة التطوع، لزمه إتمامه، فإن أفسده قضاه وجوباً، كما أنه
إذا سافر عمداً فأفطر لسفره، فعليه القضاء، لأن المؤدى قربة وعمل صار لله
تعالى، فتجب صيانته بالمضي فيه عن الإبطال، ولا سبيل إلى صيانة ما أداه إلا
بلزوم الباقي، وإذا وجب المضي وجب القضاء، ولأن الوفاء بالعقد مع الله
واجب، وحله حرام في كل عبادة يتوقف أولها على آخرها، لقوله تعالى: {ولا
تبطلوا أعمالكم} [محمد:33/ 47] وقال مالك: لا ينبغي أن يفطر من صام
متطوعاً، إلا من ضرورة، وبلغني أن ابن عمر قال: من صام متطوعاً، ثم أفطر من
غير ضرورة، فذلك الذي يلعب بدينه، وقياساً على النذر، فإن النفل ينقلب
واجباً بالنذر، ويجب أداؤه، لكن ذكر الحنفية أنه إذا شرع متطوعاً في خمسة
أيام: يومي العيدين وأيام التشريق، فلا يلزمه قضاؤها في ظاهر الرواية.
وقال الفريق الثاني (2): من دخل في تطوع غير حج وعمرة كأن شرع في صوم أو
صلاة أو اعتكاف أو طواف أو وضوء أو قراءة سورة الكهف ليلة الجمعة أو يومها،
أو التسبيحات عقب الصلاة، فلا يلزمه إتمامه، وله قطعه، ولا قضاء عليه، ولا
مؤاخذة في قطعه لكن يستحب له إتمامه، لأنه تكميل العبادة، وهو مطلوب، ويكره
الخروج منه بلا عذر، لظاهر قوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد:33/ 47]
وللخروج من خلاف من أوجب إتمامه، ولما فيه من تفويت الأجر.
_________
(1) اللباب شرح الكتاب: 171/ 1 ومابعدها، فتح القدير: 85/ 2، 105، الدر
المختار: 164/ 2، شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني: 296/ 1، فواتح
الرحموت: 114/ 1، كشف الأسرار: 632/ 1.
(2) مغني المحتاج: 437/ 1، 448، كشاف القناع: 400/ 2، المغني: 151/ 3
ومابعدها، شرح المحلي على جمع الجوامع: 69/ 1، غاية الوصول للأنصاري: ص 12،
أصول الفقه الإسلامي للمؤلف، 1ص 79 ومابعدها، ط ثانية بدار الفكر.
(3/1648)
فإن وجد عذر كمساعدة ضيف في الأكل إذا عز عليه امتناع مضيفه منه، أو عكسه،
فلا يكره الخروج منه، بل يستحب لخبر: «وإن لزَوْرك عليك حقاً» والزور:
الزائرون، وخبر «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه» (1).
ودليلهم على عدم لزوم النفل بالشروع فيه في الصوم: قوله صلّى الله عليه
وسلم: «الصائم المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام، وإن شاء أفطر» (2) وتقاس
الصلاة وبقية النوافل غير الحج والعمرة على الصوم، ولأن أصل مشروعية النفل
غير لازم، والقضاء يتبع المقضي عنه، فإذا لم يكن واجباً، لم يكن القضاء
واجباً، بل يستحب، وروي جواز قطع صوم التطوع عن ابن عمر وابن عباس وابن
مسعود.
أما التطوع بالحج أو العمرة فيحرم قطعه، لمخالفته غيره في لزوم الإتمام،
والكفارة بالجماع، لأن الوصول إليهما لا يحصل في الغالب إلا بعد كلفة
عظيمة، ومشقة شديدة، وإنفاق مال كثير، ففي إبطالهما تضييع لماله، وإبطال
لأعماله الكثيرة. |