الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

مبحثان ملحقان بمصارف الزكاة: (1)
1 ً - سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة: إن من الثمار اليانعة للصحوة الإسلامية المباركة العناية بفريضة الزكاة وترشيد صرفها إلى المستحقين المحتاجين أو الذين هم نتاج نمو الدعوة الإسلامية في أرجاء العالم، للدلالة على إسهام شريعة الله تعالى في تحقيق التكافل أو التضامن الاجتماعي، وحل مشكلات الاقتصاد العالمية والمحلية، على أساس من الوعي الديني الصحيح، والدافع الذاتي القوي المتفاعل مع تطلعات واحتياجات المجتمع، دون حاجة إلى الإجبار والإكراه، أو القسر والضغط والتهديد بعقوبات رادعة زاجرة.
وإذا كان من أصول السياسة الشرعية الحكيمة وجود قواعد الاستحسان والاستصلاح وسد الذرائع، فإن من أهم تطبيقاتها تخصيص أحد مصارف الزكاة الثمانية، وهو سهم المؤلفة قلوبهم، لعلاج ظاهرة اجتماعية وهي الحاجة إلى تثبيت الإيمان والإسلام في قلوب الذين يدخلون حديثاً في الإسلام، أو استمالة نفوس بعض المترددين في الاعتقاد الذي ينتظرون من يقدم لهم شيئاً من الأموال والمنافع والخدمات، أو تسخير طاقاتهم المادية والمعنوية في سبيل الدفاع عن حرمات الإسلام ومبادئه وقضايا الأمة المصيرية في معركتها المستمرة مع الأعداء الحاقدين، والكتاب المغرضين، وأصحاب المواقف المشبوهة.
وإني أبين هنا بكل وضوح حقيقة مصرف «المؤلفة قلوبهم» أحد مصارف الزكاة الثمانية التي نصت عليها الآية (60) من سورة التوبة، وهي: {إنما الصدقات للفقراء، والمساكين، والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب،
_________
(1) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة (أبو أكرم الحلبيّ): في المجلد الأخير للكتاب، ملحق: فتاوى وتوصيات مؤتمر الزكاة الأول

(3/1996)


والغارمين، وفي سبيل الله، وابن السبيل، فريضةً من الله، والله عليم حكيم} [التوبة:60/ 9].
خطة البحث:
1 - معنى المؤلف قلوبهم، وهل نسخ سهمهم بعد موت الرسول صلّى الله عليه وسلم، أو مازال باقياً لم ينسخ؟
2 - الأحوال التي يستعمل فيها هذا السهم، ومدى حاجة الإسلام والمسلمين إليه في هذا الزمان.
3 - تأليف قلوب الذين يؤمل إسلامهم أو تأثيرهم في توجيه المجتمع لصالح الدعوة الإسلامية.
4 - استخدام هذا المصرف في إيجاد مؤسسات لرعاية المسلمين الجدد.
5 - تأليف قلوب بعض الحكومات والدول غير الإسلامية، والتي تحوي جاليات إسلامية لتحقيق الأمن لها، أو بعض الدول غير الإسلامية التي تعارض إقامة مشاريع إسلامية على أرضها.
6 - المشاركة في سهم المؤلفة قلوبهم في التبرعات التي تجمع للكوارث والنكبات التي تصيب بعض الدول غير الإسلامية كالزلازل والفيضانات.
7 - صرف جزء من سهم المؤلفة قلوبهم في الأمور الدعائية لتحسين النظرة إلى الإسلام والمسلمين.
وأبدأ ببيان هذه العناصر تباعاً.

(3/1997)


1 - معنى المؤلفة قلوبهم، وهل نسخ سهمهم بعد موت الرسول صلّى الله عليه وسلم، أو مازال باقياً لم ينسخ؟ المؤلفة قلوبهم: هم قوم من الكفار يراد بإغراء المال استمالة قلوبهم إلى الإسلام فيرجى خيرهم، أو منع أذاهم وضررهم بسبب الخوف من شرهم، أو جماعة من المسلمين ضعفاء النية في الإسلام يعطون من الزكاة لتقوية إسلامهم وتثبيتهم على الدين، أو ترغيب نظرائهم في الإسلام، أو لجباية الصدقات من قومهم، أو لقتال من يليهم ويجاورهم من الكفار (1). أو هم كما قال الحسن وابن جريح: الذين كانوا يتألفون بالعطية، ولا حسبة لهم في الإسلام (2).
وعرفهم الطبري بأنهم قوم كانوا يتألفون على الإسلام، ممن لم تصح نصرته، استصلاحاً به نفسه وعشيرته، كأبي سفيان بن حرب، وعيينة بن بدر، والأقرع بن حابس ونظرائهم من رؤساء القبائل، وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل (3).
وعرفهم القرطبي بقوله: هم قوم كانوا في صدر الإسلام ممن يظهر الإسلام، يتألفون بدفع سهم من الصدقة إليهم لضعف يقينهم (4).
وقد ورد في السنة النبوية أحاديث كثيرة تدل على جواز التأليف لمن لم يرسخ إيمانه من مال الله عز وجل، منها إعطاؤه صلّى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، وعباس بن مرداس، ومالك بن عوف
_________
(1) المجموع للنووي: 206/ 6 وما بعدها.
(2) الأموال: ص 606.
(3) تفسير الطبري: 112/ 10.
(4) تفسير القرطبي: 178/ 8.

(3/1998)


النضري وحكيم بن حزام وغيرهم، كل إنسان منهم مئة من الإبل (1) إلا عبد الرحمن بن يربوع وحويطب بن عبد العزى، فإنه أعطى كل رجل منهما خمسين. وهؤلاء جميعاً قوم من رؤساء قريش وصناديد العرب الطلقاء لهم شوكة وقوة وأتباع كثيرون، بعضهم أسلم حقيقة، وبعضهم أسلم ظاهراً لا حقيقة وكان من المنافقين، وبعضهم كان من المسالمين.
وروي أيضاً أنه صلّى الله عليه وسلم أعطى عَلْقمة بن عُلاَثة مئة من الإبل، ثم قال للأنصار لما عتبوا عليه، «ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاء والإبل، وتذهبون برسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟» ثم قال لما بلغه أنهم قالوا: يعطي صناديد نجد ويدعنا؟ «إنما فعلت ذلك لأتألفهم» كما في صحيح مسلم (2).
وأخرج الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أنس رضي الله عنه: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يكن يُسأل شيئاً على الإسلام إلا أعطاه، قال: فأتاه رجل فسأله، فأمر له بشاء كثير بين جبلين من شاء الصدقة، قال فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم أسلموا، فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة».
وأخرج أحمد والبخاري عن عمرو بن تَغْلِب: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتي بمال أو سبي، فقسمه، فأعطى رجالاً، فبلغه أن الذين ترك عتبوا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فوالله، إني لأعطي الرجل، وأدع الرجل، والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي، ولكني أعطي أقواماً لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكل أقواماً إلى ما جعل في قلوبهم من الغنى والخير منهم عمرو بن تغلب، فوالله ما
_________
(1) نيل الأوطار: 166/ 4، فتح القدير: 14/ 2.
(2) المرجع السابق والمكان السابق.

(3/1999)


أحب أن لي بكلمة رسول الله صلّى الله عليه وسلم حُمْر النعم». وقال الزهري حينما سئل عن المؤلفة قلوبهم: هم من أسلم من يهودي أو نصراني، وإن كان غنياً (1).
تدل هذه الأحاديث وغيرها دلالة واضحة على أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يعطي بعض الكفار ومن لم يرسخ الإيمان في قلبه من الزكاة مال الله عز وجل. ثم امتنع أبو بكر وعمر رضي الله عنهما من إعطاء المؤلفة قلوبهم، أما أبو بكر فامتنع من إعطاء أبي سفيان وعيينة والأقرع وعباس بن مرداس، وقال عمر: «إنا لا نعطي على الإسلام شيئاً، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر».
وفي ضوء هذا الواقع برز خلاف بين العلماء في مدى بقاء سهم المؤلفة قلوبهم، هل ما زال باقياً لم ينسخ، أو أنه نسخ بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلم؟
انقسم العلماء في هذا الشأن فريقين: فريق يقول بالنسخ: وأنه لا سهم لأحد في الصدقة المفروضة إلا لذي حاجة إليها. وفريق آخر يقول بأن حكم المؤلفة باق لم ينسخ، فهم في كل زمان ولهم حق في الصدقات (2).
ويحتاج الأمر إلى إيراد آراء المذاهب، كل مذهب على حدة، لوجود الخلاف أحياناً في المذهب الواحد، ووجود تفصيل في بعض المذاهب.

ذهب الحنفية (3) إلى سقوط سهم المؤلفة قلوبهم، وانتساخ سهمهم وذهابه بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم، إما لزوال علة الحكم وهي إعزاز الدين والحاجة إليهم في صدر الإسلام حال ضعف المسلمين، فبعد أن اعتز الإسلام زالت الحاجة، فهو من قبيل انتهاء الحكم لانتهاء علته
الغائية التي كان لأجلها الدفع أو الإعطاء، فإن الدفع
_________
(1) تفسير الطبري: 112/ 10.
(2) المرجع السابق: ص 113.
(3) البدائع: 44/ 2، رد المحتار على الدر المختار: 82/ 2 - 83، فتح القدير مع الهداية: 2/ 41.

(3/2000)


كان لإعزاز الدين، وقد أعز الله الإسلام وأغنى عنهم، كما قال ابن عابدين نقلاً عن البحر الرائق. وقال المرغيناني في الهداية: وقد سقط سهم المؤلفة قلوبهم، لأن الله تعالى أعز الإسلام، وأغنى عنهم، وعلى ذلك انعقد الإجماع.
أو سقط سهمهم، لأن الحكم نسخ بقوله صلّى الله عليه وسلم لمعاذ في آخر الأمر عن الزكاة: «خذها من أغنيائهم، وردها في فقرائهم» (1).
أو لأن الناسخ كما ذكر الكاساني هو إجماع الصحابة على ذلك، فإن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ما أعطيا المؤلفة قلوبهم شيئاً من الصدقات، ولم ينكر عليهما أحد من الصحابة رضي الله عنهم، فإنه روي أنه لما قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم جاؤوا إلى أبي بكر، واستبدلوا الخط منه لسهامهم (أي إصدار كتاب رسمي بحقوقهم) فبدل لهم الخط، ثم جاؤوا إلى عمر رضي الله عنه، وأخبروه بذلك، فأخذ الخط من أيديهم ومزقه، وقال: «إن رسول الله كان يعطيكم ليؤلفكم على الإسلام، فأما اليوم، فقد أعز الله دينه، فإن ثَبَتُّم على الإسلام، وإلا فليس بيننا وبينكم إلا السيف» فانصرفوا إلى أبي بكر، فأخبروه بما صنع عمر رضي الله عنهما، وقالوا: «أنت الخليفة أم هو؟ فقال: إن شاء الله هو»، ولم ينكر أبو بكر قوله وفعله، وبلغ ذلك الصحابة، فلم ينكروا، فيكون إجماعاً منهم على ذلك، ولأنه ثبت باتفاق الأمة أن النبي صلّى الله عليه وسلم إنما كان يعطيهم ليتألفهم على الإسلام، ولهذا سماهم الله «المؤلفة قلوبهم» والإسلام يومئذ في ضعف، وأهله قلة، وأولئك كثير، ذوو قوة وعدد، واليوم بحمد الله عزّ الإسلام وكثر أهله، واشتدت دعائمه، ورسخ بنيانه، وصار أهل الشرك أذلاّء. والحكم متى ثبت معقولاً بمعنى خاص ينتهي بذهاب ذلك المعنى.
_________
(1) رواه الجماعة عن ابن عباس رضي الله عنهما. ويروى أن عمر بن الخطاب حين جاءه عُيينة بن حصن قال: {الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ، فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ، وَمَنْ شاءَ فَلْيكْفُرْ} [الكهف:29/ 18].

(3/2001)


يعني: ليس اليوم مؤلفة.
وأخرج ابن أبي شيبة عن الشعبي قال: «إنما كانت المؤلفة على عهد النبي صلّى الله عليه وسلم، فلما ولّي أبو بكر انقطعت».

ويرى بعض المالكية (القاضي عبد الوهاب وصححه ابن بشير وابن الحاجب واعتمده العلامة خليل في مختصره: «أن حكم المؤلَّف قلبه (وهو كافر يعطى من الزكاة ليسلم، وقيل: مسلم حديث عهد بإسلام ليتمكن إسلامه) باق لم ينسخ، أي أن تأليفه بالدفع إليه ما يزال معمولاً به، لأن المقصود من دفع الزكاة إليه ترغيبه في الإسلام لأجل إنقاذ مهجته من النار».
والمشهور من المذهب والراجح انقطاع سهم المؤلفة قلوبهم، بعزة الإسلام، لأن المقصود من دفع الزكاة إليهم ترغيبهم في الإسلام لأجل إعانتهم لنا.
هذا إذا كان المؤلف كافراً يعطى ترغيباً له في الإسلام، فإن كان حديث عهد بإسلام، فحكمه باق اتفاقاً، ليتمكن إسلامه (1).
وعليه، فإن المالكية يوافقون الحنفية في القول بنسخ سهم المؤلفة للكفار، ويخالفونهم فيما إذا كانوا حديثي العهد بالإسلام، فالحكم باق فيهم. وهو قول عمروالحسن البصري والشعبي وغيرهم، فإنهم قالوا: (نقطع هذا الصنف بعز الإسلام وظهوره) (2)، وهو أيضاً رأي الإباضية الذين قالوا: هو عندنا سقوطه ما دام الإمام قوياً، وعنهم غنياً، وجاز إن نزل قوم بالإسلام منزلة خيف منهم ضعفه، تألفهم لدفع شرهم عنه وجلب نفعهم له (3).
_________
(1) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه: 495/ 1، الشرح الصغير: 660/ 1.
(2) تفسير القرطبي:181/ 8.
(3) شرح النيل:233/ 3.

(3/2002)


ومذهب الشافعية كالمالكية في التفصيل، فإنهم قالوا: إن المؤلفة قلوبهم من الكفار لا يعطون شيئاً من الزكاة بلا خلاف لكفرهم، والصحيح أنهم لا يعطون شيئاً البتة من خمس الخمس الآتي من الغنائم والفيء، والمرصد للمصالح العامة؛ لأن الله تعالى قد أعز الإسلام وأهله عن تألف الكفار، والنبي صلّى الله عليه وسلم إنما أعطاهم حين كان الإسلام ضعيفاً، وقد زال ذلك، والله أعلم.
وأما مؤلفة الإسلام، فصنف دخلوا في الإسلام، ونيتهم ضعيفة، فيعطون تألفاً ليثبتوا، وصنف آخر لهم شرف في قومهم نطلب بتأليفهم إسلام نظائرهم، وصنف إن أعطوا جاهدوا من يليهم أو يقبضوا الزكاة من مانعيها، والمذهب أنهم يعطون، والله أعلم (1).

وذهب الحنابلة إلى أن حكم المؤلف باق: وهو السيد المطاع في عشيرته ممن يرجى إسلامه أو يخشى شره كخوارج، أو يرجى بعطيته قوة إيمانه أو إسلام نظيره، أو جبايتها ممن لا يعطيها، أو دفع عن المسلمين، أو نصح في الجهاد، ويعطى ما يحصل به التأليف، ويقبل قوله في ضعف إسلامه، أي أنه يعطى عند الحاجة.
ودليلهم واضح وهو العمل بنص الآية في مصارف الزكاة، والنبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى حكم فيها، فجزأها ثمانية أجزاء» وكان يعطي المؤلفة كثيراً في أخبار مشهورة، ولم يزل كذلك حتى مات، ولا يجوز ترك كتاب الله وسنة رسوله إلا بنسخ، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، كما لا يصح النسخ بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم. ويحمل ترك عمر وعثمان وعلي إعطاءهم على عدم الحاجة إلى إعطائهم في خلافتهم، لا لسقوط سهمهم، فإن الآية من آخر ما نزل، وأعطى أبو بكر عدي بن حاتم والزِّبْرِقان بن بدر، ولأن المقصود من دفعها إليهم
ترغيبهم في الإسلام لأجل
_________
(1) كفاية الأخيار: 381/ 1، ط قطر، المهذب: 172/ 1.

(3/2003)


إنقاذ مهجهم من النار، لا لإعانتهم لنا حتى يسقط بفشو الإسلام (1). قال الزهري: لا أعلم شيئاً نسخ حكم المؤلفة.

ويوافق الشيعة الجعفرية والزيدية على هذا الرأي وهو أن حكم المؤلفة باق لم ينسخ ولم يبدل (2).
والخلاصة: أن المؤلفة الكفار يعطون من الزكاة في رأي، ولا يعطون منها في رأي آخر، وأما المؤلفة المسلمون فيعطون من الزكاة اتفاقاً إذا كانوا حديثي عهد بإسلام ليتمكن الإسلام في نفوسهم كما ذكر الدسوقي، لكن يلاحظ أن هذا الاتفاق منقوض بمخالفة الحنفية الذين قالوا بنسخ سهم المؤلفة قلوبهم مطلقاً كما تقدم.

والراجح لدي أن سهم المؤلفة باق لم ينسخ، ويعطون من الزكاة أو من سهم المصالح عند الحاجة، سواء أكانوا مسلمين أم كفاراً. قال أبو عبيد في كتاب الأموال: وأما ما قال الحسن وابن شهاب، فعلى أن الأمر ماض أبداً، وهذا هو القول عندي، لأن الآية محكمة، لا نعلم لها ناسخاً من كتاب ولا سنة (3).
وقال الشوكاني رحمه الله: والظاهر جواز التأليف عند الحاجة إليه، فإذا كان في زمن الإمام قوم لا يطيعونه إلا للدنيا، ولا يقدر على إدخالهم تحت طاعته بالقسر والغلب، فله أن يتألفهم، ولا يكون لفشو الإسلام تأثير؛ لأنه لم ينفع في خصوص هذه الواقعة، وقد عدّ ابن الجوزي أسماء المؤلفة قلوبهم في جزء مفرد، فبلغوا نحو الخمسين نَفْساً (4).
_________
(1) المغني: 666/ 2، كشاف القناع: 325/ 2، غاية المنتهى: 310/ 1، نيل المآرب: 319/ 1.
(2) المختصر النافع في فقه الإمامية: ص 83، البحر الزخار: 179/ 2 - 180.
(3) الأموال: ص 607.
(4) نيل الأوطار: 166/ 4 وما بعدها.

(3/2004)


وقال الطبري بعد أن أورد الخلاف بين العلماء في بقاء أو نسخ سهم المؤلفة: والصواب من القول في ذلك عندي أن الله جعل الصدقة في معنيين:
أحدهما ـ سد خَلَّة المسلمين، والآخر ـ معونة الإسلام وتقويته، فما كان في معرفة الإسلام وتقوية أسبابه، فإنه يعطاه الغني والفقير، لأنه لا يعطاه من يعطاه بالحاجة منه إليه، وإنما يعطاه معونة للدين، وذلك كما يعطاه بالجهاد في سبيل الله، فإنه يعطى ذلك غنياً كان أو فقيراً للغزو ـ الجهاد ـ لا لسد خلته، وكذلك المؤلفة قلوبهم يعطون ذلك، وإن كانوا أغنياء، بإعطائهموه أمر الإسلام وطلب تقويته وتأييده، وقد أعطى النبي صلّى الله عليه وسلم من أعطى من المؤلفة قلوبهم بعد أن فتح الله عليه الفتوح وفشا الإسلام وعز أهله، فلا حجة لمحتج بأن يقول: لا يتألف اليوم على الإسلام أحد لامتناع أهله بكثرة العدد ممن أرادهم، وقد أعطى النبي صلّى الله عليه وسلم من أعطى منهم في الحال التي وصفت (1).

2 - الأحوال التي يستعمل فيها هذا السهم، ومدى حاجة الإسلام والمسلمين إليه في هذا الزمان:
المؤلفة قلوبهم كما ذكر النووي وغيره قسمان: مسلمون وكفار (2). أما الكفار فنوعان: نوع يرجى خيره، وآخر يخاف شره. وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم يعطيهم، وقد أوضحت أن الراجح دوام إعطائهم عند الحاجة بعد النبي صلّى الله عليه وسلم، إذ لم يثبت النسخ بدليل معتبر، والحاجة تتكرر في كل زمان، وتقتضيها أحوال النفوس في القوة والضعف.
_________
(1) تفسير الطبري: 113/ 10.
(2) المجموع: 206/ 6 وما بعدها، كشاف القناع: 325/ 2 وما بعدها، ونقل ذلك السيد رشيد رضا في تفسير المنار: 574/ 10 وما بعدها.

(3/2005)


وأما المسلمون فهم أربعة أنواع:
أحدها ـ قوم لهم شرف وهم السادة المطاعون في عشائرهم: فيعطون ليرغب نظراؤهم في الإسلام؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أعطى الزبرقان بن بدر وعدي بن حاتم.
والثاني ـ قوم أسلموا، ونيتهم في الإسلام ضعيفة: فيعطون لتقوى نيتهم، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أعطى أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، والأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، لكل منهم مئة من الإبل، كما تقدم. ويعطون بعد النبي صلّى الله عليه وسلم؛ لأن المعنى الذي به أعطوا قد يوجد بعد النبي صلّى الله عليه وسلم.
والثالث ـ قوم يليهم قوم من الكفار أن أعطوا قاتلوهم.
والرابع ـ قوم يليهم قوم من أهل الصدقات أن أعطوا جبوا الصدقات.
والخلاصة: يكون مجموع الفريقين ستة أصناف.
يتبين من هذا أن أحوال استعمال سهم المؤلفة قلوبهم كثيرة، ويقدر ولي الأمر المسلم المصلحة في إعطائهم في كل زمان أخذاً برأي الحنابلة والشيعة مطلقاً، وعملاً باتفاق الفقهاء إذا كانوا مسلمين حديثي عهد بالإسلام، ليتمكن الإسلام في قلوبهم.
ويمكن إيراد أمثلة واقعية في عصرنا لأحوال المؤلفة:
أولاً ـ درء المخاطر والمفاسد عن المسلمين: إذا كان بعض غير المسلمين في موقع استراتيجي حيوي يمكن أن ينفذ منه الأعداء، ويدخلوا إلى بلاد الإسلام، فيجوز إعطاؤهم من الزكاة لدفع الأخطار وحماية البلاد ورعاية المصالح الإسلامية. فقد نص الفقهاء على إعطاء المؤلفة إذا كان يرجى بعطائهم النصح في الجهاد، أو الدفع عن المسلمين، بأن كانوا في الثغور أطراف بلاد الإسلام، أو كف شرهم كالخوارج ونحوهم.

(3/2006)


ثانياً ـ الاستعانة بغير المسلمين في الجهاد: إذا احتاج المسلمون إلى الاستعانة بغيرهم في الحروب، إما لضعف في المسلمين، أو لتوافر خبرة فنية عسكرية في غيرهم، أو لأغراض حربية أخرى، فيجوز صرف جزء من الزكاة في هذا المجال، للضرورة والمصلحة.
ثالثاً ـ جباية الصدقات ونحوها: إذا تعذرت جباية الصدقات ونحوها من ضرائب الخراج والعشور (الرسوم الجمركية) وأمكن استيفاؤها من طريق بعض الكفار، فلا مانع من إعطائهم شيئاً من الزكاة، لأن بهذا العطاء يحصل المسلمون على أموال أخرى متعذرة التحصيل أو ميئوسة الدفع. والفقهاء نصوا على إعطاء المؤلفة إذا كان لهم قوة على جباية الزكاة ممن لا يعطيها إلا بالتخويف والتهديد.
رابعاً ـ نشر الدعوة الإسلامية ومقاومة وسائل التبشير: إن إرساليات التبشير بالنصرانية وحملات التنصير في بعض البلاد الإسلامية كأفريقيا وأندونيسيا وغيرها، تحتاج لمزيد من المقاومة والحد منها وإيقاف أنشطتها بمختلف الوسائل، وحينئذ يمكن صرف جزء كبير من الزكاة في هذا المجال، كما يجوز إعطاء الزكاة في سبيل نشر الدعوة الإسلامية بمختلف الطرق، سواء بالمبعوثين المتخصصين، أم بطباعة الكتب الصغيرة التي تعرّف بالإسلام وترد على اتهامات ودسائس وشبهات المغرضين، لأن الهدف الأصلي من تشريع سهم المؤلفة هو الترغيب في الإسلام وتثبيت عقيدته بين الناس.
خامساً ـ الإسهام في تخفيف ويلات الكوارث من زلازل وفيضانات ومجاعات على أن تكون مقرونة بالدعوة إلى الإسلام: إذا كان المبشرون وبعض الدول النصرانية يستغلون هذه الحالات، ويبادرون إلى تقديم بعض المساعدات المادية والغذائية للمحتاجين، فأولى بنا نحن المسلمين أن نسهم بأقصى ما وسعنا من

(3/2007)


الدعم المادي المقرون ببيان سريع لفضائل الإسلام وبساطة عقيدته ويسر أحكامه في أوقات الشدة والرخاء، لأن المقصود من الزكاة سد حاجة المحتاجين، وإعانة المسلمين وتقوية الإسلام.
سادساً ـ إغراء رؤساء الدول الفقيرة أو الأقوام المتخلفة، أو القبائل والعشائر البائسة ببعض المنح والمبالغ المالية أو الهدايا، لتأليف قلوبهم أو رجاء إسلامهم أو كف شرهم، أو تقليد رعاياهم واتِّباعهم لهم في الدخول بالإسلام، كما كان يفعل النبي صلّى الله عليه وسلم مع رؤساء قريش وصناديد العرب، كما تقدم. وقد نص الفقهاء على إعطاء المؤلفة رجاء إسلام نظرائهم، وأعطى أبو بكر عدي بن حاتم والزبرقان بن بدر، مع حسن نياتهما وإسلامهما، رجاء إسلام نظرائهما.
سابعاً ـ تقوية ضعاف الإيمان: نص فقهاؤنا ومنهم الحنابلة على أنه يعطى سهم المؤلفة لمسلم يرجى بعطيته قوة إيمانه، لما روى أبو بكر في كتاب التفسير عن ابن عباس في قوله تعالى: {والمؤلفة قلوبهم} [التوبة:60/ 9] قال: «هم قوم كانوا يأتون رسول الله صلّى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يرضخ لهم من الصدقات، فإذا أعطاهم من الصدقة قالوا: هذا دين صالح، وإن كان غير ذلك عابوه» (1).

3 ـ تأليف قلوب الأفراد الذين يؤمل إسلامهم أو تأثيرهم في توجيه المجتمع لصالح الدعوة الإسلامية:
إن الهدف الأصلي من تخصيص سهم المؤلفة في مصارف الزكاة هو نشر الدعوة الإسلامية بإغراءات مالية تجتذب بعض النفوس الضعيفة التي يستهويها
_________
(1) تفسير الطبري: 112/ 10.

(3/2008)


المال وحب النفع المادي، ويكثر هذا الصنف في المجتمعات الفقيرة أو الضعيفة أو قليلة الإنتاج أو محدودة الدخل.
فإذا لوحظ وجود هذا الميل عند بعض الأفراد الذين يرجى إسلامهم، أو كان لهم شيء من النفوذ والتأثير في مجتمعاتهم لصالح الدعوة الإسلامية، لزمت المبادرة لإعطائهم شيئاً من مال الله تعالى، سواء على مستوى بعض الحكومات غير المسلمة، أو بعض الهيئات والتجمعات والقبائل، أو بعض الأفراد العاديين، أو الخطباء والكتاب ونحوهم ممن يرجى تأثيرهم في توجيه المجتمع نحو دعوة الله للحق والخير والتوحيد.
ونص فقهاؤنا كما تقدم على أن من أنواع المؤلفة: من يعطى ليقوى إيمانه، أو إسلام نظيره، أو نصحه في الجهاد، أو الدفع عن المسلمين ونحوه، وكان النبي صلّى الله عليه وسلم يعطي من الزكاة صنفاً أسلموا ونيتهم في الإسلام ضعيفة، فيتألفون لتقوى نيتهم ويثبتوا (1).

4 - استخدام هذا المصرف في إيجاد مؤسسات لرعاية المسلمين الجدد:
يجوز للمزكي دفع الزكاة لوكيل عنه يتولى صرفها في بعض أو جميع مستحقيها أو مصارفها المنصوص عليهم في القرآن الكريم، لكن يجب دفع الزكاة على الفور باتفاق الفقهاء.
وبناء عليه يمكن تخصيص أو إيجاد مؤسسات عامة ينفق عليها من سهم العاملين، وتتولى تفقد أحوال المسلمين الجدد في أنحاء العالم، وإمدادهم بما يحتاجون، ورعايتهم مادياً ومعنوياً، صحياً وثقافياً، بإعطائهم شيئاً من أموال
_________
(1) كشاف القناع: 326/ 2، المجموع: 209/ 6، تفسير ابن كثير: 365/ 2.

(3/2009)


الزكاة، لتثبيتهم على الدين وتشجيعهم وإشعارهم بالنصرة والعون أمام أقوامهم، لأن المهم هو رعاية من أسلم والحفاظ عليه.
قال أبو عبيد: فإذا كان قوم، هذه حالهم، لا رغبة لهم في الإسلام إلا للنيل، وكان في ردتهم ومحاربتهم إن ارتدوا ضرر على الإسلام، لما عندهم من العز والمنعة، فرأى الإمام أن يرضخ لهم من الصدقة، فعل ذلك لخلال ثلاث ـ إحداهن ـ الأخذ بالكتاب والسنة.
والثانية ـ البقيا على المسلمين.
والثالثة ـ أنه ليس بيائس أن تمادى بهم الإسلام أن يفقهوه وتحسن فيه رغبتهم (1).
وقال السيد رشيد رضا: الأولى من المرابطين في الثغور وحدود بلاد الأعداء بالتأليف في زماننا، قوم من المسلمين يتألفهم الكفار ليدخلوهم تحت حمايتهم، أو في دينهم، فإننا نجد دول الاستعمار الطامعة في استعباد جميع المسلمين وفي ردهم عن دينهم، يخصصون من أموال دولهم سهماً للمؤلفة قلوبهم من المسلمين، فمنهم من يؤلفون لأجل تنصيره وإخراجه من حظيرة الإسلام، ومنهم من يؤلفونه لأجل الدخول في حمايتهم ومشاقة الدول الإسلامية أو الوحدة الإسلامية، ككثير من أمراء جزيرة العرب وسلاطينها!! أفليس المسلمون أولى بهذا منهم (2).

5 - تأليف قلوب بعض الحكومات والدول غير الإسلامية، والتي تحوي جاليات إسلامية لتحقيق الأمن لها، أو بعض الدول غير الإسلامية التي تعارض إقامة مشاريع إسلامية على أرضها:
إن أي دعم للإسلام والمسلمين أمر مطلوب شرعاً، سواء فيما يتعلق باعتناق الإسلام ديناً، أو رعاية المسلمين، والحفاظ على وجودهم وأمنهم وهويتهم
_________
(1) الأموال: ص 607.
(2) تفسير المنار: 574/ 10.

(3/2010)


الشخصية الذاتية، أو حماية المصالح الإسلامية بنشر الدعوة إلى الله، وإقامة المساجد والمراكز الإسلامية، وتوفير مختلف الإمكانات لتعليم القرآن، ونشر التربية الإسلامية، وتوعية الشباب والفتيات، وتحذيرهم من مخاطر ذوبان الشخصية الإسلامية، والتأثر بتقاليد وعادات غير المسلمين.
لذا كان مشروعاً إنفاق المال في هذا السبيل، وإعطاء شيء من المساعدات من الزكاة وغيرها لبعض الحكومات والدول غير الإسلامية لحماية الجاليات الإسلامية وتحقيق الأمن لها وتمكينها من ممارسة شعائر الإسلام، وإبقاء الصبغة الإسلامية في الأسماء، والممارسات السلوكية، وتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في قضايا الزواج والطلاق والأيمان والنذور ونحوها من الأمور الخاصة اللصيقة بالشخصية، والمميزة لأوضاع المسلمين عن غيرهم.
كما يكون مشروعاً تقديم بعض المعونات لبعض الدول غير الإسلامية للسماح للمسلمين بإقامة بعض المشاريع الإسلامية على أرضها، كبناء المساجد والمراكز والمدارس الإسلامية، ففي ذلك حماية للمسلمين أنفسهم من الضياع والانحراف وتشوه الصبغة الإسلامية النقية، وحفظ الطابع الإسلامي والعقيدة الإسلامية في نفوس أبنائها، فإن أخطر ما يهدد وجود الجاليات الإسلامية في أمريكا وأوربا وغيرهما من بلاد العالم هو ذوبان الصبغة الإسلامية من نفوس الجيل الثاني الذي ولد أو تربى في تلك البلاد غير الإسلامية. أما الآباء والأمهات الذين هاجروا إلى تلك البلاد (المغتربون) وهم الجيل الأول، فيغلب عليهم تمسكهم بشيء من الدين والأخلاق الإسلامية أو العربية، والاعتزاز باللغة العربية في كلامهم وكتاباتهم.

(3/2011)


6 - المشاركة في سهم المؤلفة قلوبهم في التبرعات التي تجمع للكوارث والنكبات التي تصيب بعض الدول غير الإسلامية كالزلازل والفيضانات:
إن تحسين العلاقات بين المسلمين وغيرهم في مختلف البلاد غير الإسلامية أمر محمود في مضمار السياسة الشرعية؛ لأن تحسن العلاقات يخدم المصالح الإسلامية، وتعكر العلاقات وتوترها يضر بمصلحة المسلمين، وعلى التخصيص في حال الضعف، وفي ظروفنا الراهنة. وإذا كان الهدف من الجهاد في الإسلام هو الوصول إلى توطيد العلاقات السلمية، وحماية الأوضاع والظروف الأمنية، وإقرار المصالح المشروعة عن طريق المعاهدات، فإن كل ما يؤدي إلى هذه الغاية يكون جائزاً شرعاً.
لكن نظراً لكون فريضة الزكاة ذات صلة وثقى وأصيلة برعاية أحوال المسلمين المحتاجين وتحقيق التكافل الاجتماعي بين المسلمين، وكونها مصبوغة بصبغة العبادات، فإنه يقتصر بقدر الإمكان على هذه النواحي وعلى مصارف الزكاة المنصوص عليها صراحة في القرآن الكريم، ولا يصح حينئذ دفع شيء من أموال الزكاة لتخفيف كوارث الأمم الأخرى.
لكن لا مانع شرعاً من دفع شيء من أموال المسلمين العامة من غير الزكاة لغيرهم لدفع شرهم ورفع ضررهم ورجاء خيرهم، كما صرح الفقهاء، فيجوز أن ندفع شيئاً من أموالنا بصفة تبرعات في أوقات المحن والأزمات، والكوارث والنكبات كالزلازل والفيضانات، ففي ذلك نوع من الوقاية وسد الذرائع. وقد أجاز بعض الشافعية إعطاء الكفار من موارد بيت المال العامة، لتأليف قلوبهم، وهو خمس الخمس من الفيء وغيره، لأنه مرصد للمصالح العامة، وهذا منها.
وأما غير الشافعية الذين أجازوا دفع الزكاة للكفار لتأليف قلوبهم عند

(3/2012)


الحاجة، فلا ينطبق قولهم على هذه الأحول، وإنما أرادوا أن يكون التأليف مؤدياً بطريق مباشر أو غير مباشر إلى الدخول في الإسلام، قال قتادة: «المؤلفة قلوبهم: هم أناس من الأعراب ومن غيرهم كان نبي الله صلّى الله عليه وسلم يتألفهم بالعطية كيما
يؤمنوا» (1). ويبعد في تصور المنكوبين وحكوماتهم المعاصرة في الغالب الاتجاه نحو الإسلام من قريب أو بعيد في مثل هذه الأحوال، كل ما في الأمر أنهم يقدرون الدوافع الإنسانية الخيِّرة في المشاركة في التبرعات من أجل تخفيف وطأة الكوارث العامة، وتوجه عادة خطابات شكر دبلوماسية على تلك المبادرات الطيبة المصحوبة بالشعور الإنساني الكريم والعاطفة الأخوية بين أبناء المجتمع الإنساني، لأن الخلْق كلهم عيال الله، وأحبهم إلى الله تعالى أنفعهم لعياله، كما ثبت في السنة النبوية، ولأن الإسلام دين الرحمة العامة للعالمين.

7 - صرف جزء من سهم المؤلفة قلوبهم في الأمور الدعائية لتحسين النظرة إلى الإسلام والمسلمين:
نحن اليوم في العالم المعاصر نتأثر كثيراً بأساليب الدعاية والإعلام وبما يكتبه مشاهير الكتاب، وتتصدره الصحف اليومية والمجلات المتداولة، لذا كان لزاماً علينا أن نتفاعل بمعطيات العصر، ونستفيد منها في الإيجابيات والسلبيات، فنعرض أجمل ما لدينا من أفكار ومبادئ ونظريات وقيم خلقية شخصية واجتماعية، إنسانية ومادية، ونحارب كل مايحاك ضد شريعتنا وأخلاقنا ونظمنا من مؤامرات، ويوجه إليها من مفتريات واتهامات، ويعرض في ثناياها من شبهات وتأويلات باطلة.
ونكون في الحالين إيجاباً وسلباً في حركة جهاد يمليه علينا الواجب ويقتضيه
_________
(1) تفسير الطبري: 112/ 10.

(3/2013)


الدين، أخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم».
ولا مانع بالإضافة لما تجود به نفوس المسلمين بالتبرع بالأموال في سبيل الله، من صرف جزء من أموال الزكاة من سهم «في سبيل الله» أو من سهم «المؤلفة قلوبهم» لأصحاب الأقلام والألسنة لتحسين النظرة إلى الإسلام والمسلمين، وبيان حكمة التشريع، والدفاع عن الإسلام وقضايا المسلمين الوطنية والاجتماعية في أنحاء العالم ضد الافتراءات والاتهامات، ولتفنيد الشبهات، وصد التيارات وغزوات الفكر والثقافة المشوهة، وقد تبين سابقاً أن الطبري أجاز صرف سهم المؤلفة لتقوية الإسلام.
ويفضل شرعاً أن يكون صرف شيء من أموال المسلمين في الجانب الدعائي أو الإعلامي من موارد بيت المال العامة؛ لأن تلك الموارد مرصدة للمصالح العامة.
والخلاصة: إن صرف شيء من أموال الزكاة في أي مجال يحتاج لتقدير واع من ولي الأمر العادل، واستشارة العلماء المتخصصين أهل الرأي والمشورة. وإذا أهملت الحكومات هذا الجانب، جاز للجمعيات أو المؤسسات الإسلامية العامة، لا للأفراد، القيام بهذا الواجب وتأليف غير المسلمين بالأساليب المختلفة للدفاع عن الإسلام ونشر الدعوة الإسلامية ورعاية أموال المسلمين الجدد.

2ً - مصرف الزكاة (في الرقاب):
إن لفريضة الزكاة شأناً كبيراً في الإسلام، وهي تقترن دائماً بفريضة الصلاة، لتصلح العلاقة مع الله تعالى بالصلاة، والعلاقة مع أبناء المجتمع المسلم بالزكاة، ولا يكون أداء الزكاة محقِّقاً الهدف المنشود منها ما لم يلتزم المزكي صرفها حسبما

(3/2014)


أمر الله تعالى به في قوله: {إنما الصدقات للفقراء، والمساكين، والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب، والغارمين، وفي سبيل الله، فريضةً من الله والله عليم حكيم} [التوبة:60/ 9].
ومصرف «وفي الرقاب» هو المصرف الخامس من مصارف الزكاة الثمانية التي حددتها الآية، وأبانت أوصاف مستحقي الزكاة.
وبالرغم من أن الغالب وجوده الآن في عصرنا في البلاد الإسلامية أربعة أنواع وهم الفقير والمسكين والغارم وابن السبيل، فإن هناك حاجة ماسة للتعرف على مصرف «في الرقاب» بعد إلغاء الرق من العالم في العصر الحديث، ووجود حالات تقتضي صرف الزكاة فيها مثل استعباد الشعوب الإسلامية، وإنقاذ المسلمين من أشكال الاستعمار المختلفة، ومن أهمها الاستعمار الاستيطاني، ومساعدة الأسرى على الافتداء من براثن العدو، وإطلاق سراح السجناء والمسلمين من معتقلات الأعداء الجماعية والفردية وما فيها من معاملة وحشية منافية لأبسط مبادئ الإنسانية وحقوق الإنسان، كما في فلسطين المحتلة من قبل اليهود الذين أقاموا فيها على حساب الشعب الفلسطيني دولة إسرائيل بالتعاون مع الدول الكبرى، وبالدعم المتواصل لها.
خطة البحث:
يمكن بحث مصرف «في الرقاب» في ضوء الخطة التالية:
1 - معنى: في الرقاب.
2 - غياب الرق في العصر الحالي.

(3/2015)


3 - السوابق التاريخية في العهود الإسلامية لاستخدام هذا المصرف في غير المكاتبين.
4 - من مصارف «في الرقاب» في هذا الزمان «فكاك الأسرى» وتفصيل المذاهب الفقهية في سهم «في الرقاب».
5 - التطبيق الأصلي لهذا المصرف في إعانة المكاتب لتحرير نفسه من الرق.
6 - هل تعطى الشعوب الإسلامية التي تئن تحت وطأة الحكومات الكافرة لتحرير نفسها من الاحتلال الذي تخضع له؟

1 - معنى في الرقاب:
إن ظاهر الكلمة وإطلاقها يقتضي تعميم المعنى بحيث يشمل تحرير الأنفس البشرية وعتقها وتخليصها من قيد العبودية للبشر، وفك الرقاب من الكتابة أو الرق أو الأسر، كما ذكر الزمخشري في الكشاف (1).وقال الزجاج في قوله تعالى: «وفي الرقاب»: وفيه محذوف، والتقدير: وفي فك الرقاب (2).
وإنما عبر الله تعالى في الأصناف الأربعة الأولى باللام: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم} [التوبة:60/ 9] وفي الأصناف الأربعة الأخيرة بـ «في»: {وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل} [التوبة:60/ 9] للإيذان بأن الأربعة الأخيرة أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره؛ لأن «في» كما جاء في الكشاف للوعاء، فنبّه على
_________
(1) الكشاف: 198/ 2، طبع طهران.
(2) تفسير الرازي: 114/ 16، ط دار الفكر في بيروت ....

(3/2016)


أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات، ويجعلوا مظنّة لها ومصبّاً (1). وكذلك في فك الغارمين من الغرم تخليص لهم وإنقاذ، وهكذا الشأن في مصرف: «في سبيل الله» إنقاذ جماعي للأمة بالجهاد، وكذا «ابن السبيل» ننقذه من أزمة وقوعه في الإفلاس، وانقطاعه في أثناء السفر إلى بلده.
وقال البجيرمي الشافعي: أضاف الله تعالى في الآية الكريمة الصدقات إلى الأصناف الأربعة بلام الملك، وإلى الأربعة الأخيرة بـ «في» الظرفية للإشعار بإطلاق الملك في الأربعة الأولى، وتقييده في الأربعة الأخيرة، حتى إذا لم يحصل الصرف في مصارفها، استرجع، بخلافه في الأولى (2).
وقال الرازي في تفسيره: ولما ذكر الله تعالى الرقاب أبدل بحرف اللام حرف «في» فقال: «وفي الرقاب» فلا بد لهذا الفرق من فائدة، وتلك الفائدة هي أن تلك الأصناف الأربعة المتقدمة يدفع إليهم نصيبهم من الصدقات حتى يتصرفوا فيها كما شاؤوا، وأما «في الرقاب» فيوضع نصيبهم في تخليص رقبتهم عن الرق، ولا يدفع إليهم، ولا يمكنوا من التصرف في ذلك النصيب كيف شاؤوا، بل يوضع «في الرقاب» بأن يؤدى عنهم. وكذا القول في الغارمين يصرف المال في قضاء ديونهم، وفي الغزاة يصرف المال إلى إعداد ما يحتاجون إليه في الغزو، وابن السبيل كذلك. والحاصل: أن في الأصناف الأربعة الأولى يصرف المال إليهم حتى يتصرفوا فيه كما شاؤوا، وفي الأربعة الأخيرة لا يصرف المال إليهم، بل يصرف إلى جهات الحاجات المعتبرة في الصفات التي لأجلها استحقوا سهم الزكاة (3) أي أنه لا يشترط التمليك.
_________
(1) الكشاف، المرجع والمكان السابق.
(2) بجيرمي علي الخطيب: 313/ 2، ط دار المعرفة في بيروت.
(3) التفسير الكبير: 115/ 16، المجلد 8.

(3/2017)


وأكثر العلماء على أن المراد بقوله تعالى: {وفي الرقاب} [التوبة:60/ 9] المكاتبون (1) المسلمون الذين لا يجدون وفاء ما يؤدون، ولو مع توافر القدرة والقوة والكسب، لأنه لا يمكن الدفع إلى الشخص الذي يراد فك رقبته إلا إذا كان مكاتباً، ولو اشتري بالسهم عبيد، لم يكن الدفع إليهم وإنما هو دفع إلى سادتهم، ولم يتحقق التمليك المطلوب في أداء الزكاة، ويؤكده تعالى: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} [النور:33/ 24] وفسر ابن عباس «في الرقاب» بأنهم المكاتبون.
ويرى الإمامان مالك وأحمد وغيرهما أنه يشترى بسهم «في الرقاب» رقيق، فيتعين، لأن كل موضع ذكرت فيه الرقبة، يراد بها عتقها. والعتق والتحرير لا يتصور إلا في القن (العبد الخالص العبودية) كما في الكفارات.
وشرط إعطاء المكاتب: هو كونه مسلماً محتاجاً، كما تقدم بيانه.
وتخصيص سهم للرقاب في الزكاة دليل واضح على تشوف وتعطش الإسلام إلى التحرير والحرية أو فك الرقاب من قيد العبودية؛ ومن حكمة الله تعالى أنه نص في القرآن على التحرير أو العتق، ولم ينص على الاسترقاق، لأن الإسلام أول من نادى بتخليص العالم من ظاهرة الرق بفتح منافذ العتق والترغيب فيه؛ لأن الإنسان خلق حراً، فإذا طرأ في الماضي بعض الأحوال العارضة التي تقتضي المصلحة العامة فيها أن يكون الأسير رقيقاً، جاز الرق على سبيل المعاملة بالمثل مع الأعداء، إذ لا يعقل ألا يسترق المسلمون أحياناً بعض الأسرى، والأعداء يسترقون أسرى المسلمين.
_________
(1) المكاتب: هو العبد الذي كاتبه سيده على أقساط معينة، فإذا وفّاها صار حراً. والكتابة مندوبة لتحرير العبيد وإعتاقهم لقوله تعالى: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً} [النور:33/ 24] أي من أجل تحرير الرقاب.

(3/2018)


2 - غياب الرق في العصر الحالي: كان الرق مشروعاً عند الأمم القديمة والفلاسفة وأهل الكتاب من اليهود والنصارى، وكان الرومان أول من استعبد الأسرى وسخر الشعوب المغلوبة، وكانت وجوه الاسترقاق عندهم بالذات متعددة.
وكان الرق عماد الحركة التجارية والزراعية، وعدّ نظاماً أساسياً في حياة الشعوب القديمة ودعامة في كيانها الاقتصادي والاجتماعي.
ولم ير أهل الإسلام المجتهدون ـ والحالة هذه - إلغاء الرق في العالم، حتى لا تصطدم دعوة الإسلام مع مألوف النفوس، ولئلا تضطرب الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، فيكثر المجادلون والمعارضون، وينتشر الفقر والعوز في المجتمع، وتتعدد حينئذ جرائم العبيد قبل تحريرهم.
وبما أن الأصل في الإنسان وفي تشريع الإسلام هو الحرية، وأن الحرية مما يحرص الإسلام على وجودها وحمايتها، فإن الإسلام عالج قضية الرق بالتدريج، وهيأ أسباباً للقضاء على الرق، ومنع سائر مصادره ما عدا رق الأسر بسبب الحرب العادلة لدفع العدوان وحفظ التوازن مع الأمم الأخرى، ومعاملة بالمثل، وما عدا الرق بسبب الوراثة، ثم فتح منافذ عديدة لإنهاء الرق ورغَّب فيها من طريق العتق والتحرير إما قربة مجردة لله تعالى وطريق نجاة في الآخرة، وإما كفارة عن كثير من الجرائم والذنوب كالقتل واليمين التي حنث بها الحالف، والظهار من الزوجة، وجعل مصير الأسرى في الغالب إما المن (إطلاق السراح بدون مقابل) وإما الفداء أو المفاداة (تبادل الأسرى). وأوصى بمعاملة الرقيق بالحسنى، وخصص سهماً من الصدقات التي تجبى لتنفق في سبيل تحرير الرقاب.
وأثمرت توجيهات الإسلام في تهيئة الضمير البشري للإحساس بهذه

(3/2019)


الظاهرة المرضية والعمل على القضاء عليها تدريجاً، بدلاً من مفاجأة العالم بالتحريم الفوري البات.
وأدى هذا إلى إثبات حقيقة واضحة ماثلة للعيان هي أن الإسلام لا يتعارض مع إلغاء الرق من العالم، بل يحض عليه، ويرغب في استئصال موارده، علماً بأنه لا يجوز استرقاق حر أصلاً، ويمقت ما عرف بتجارة الرقيق والنخاسة، ويحرم كل ما كان حاصلاً في أواسط أفريقيا من اصطياد الرقيق ومعاملتهم أسوأ المعاملة، ولا يقر بحالٍ استعبادَ الشعوب واستعمارها الذي حل بصفة جماعية محل الرق الفردي، كما لا يجيز بديلاً آخر لدى أمريكا وبريطانيا وهو التفرقة العنصرية بين الأبيض والأسود.
وهكذا ظل نظام الرقيق معمولاً به في العصور الوسطى وما بعدها إلى أن استنكرت الدول الأوربية الإتجار في الرقيق بصفة عامة في مؤتمر فيينا سنة 1815م، ووقعت اتفاقيات كثيرة بعد هذا التاريخ، آخرها اتفاقية جنيف الإضافية في 7 أيلول (سبتمبر) 1956 التي ألغت الرق وتجارة الرقيق والحالات المماثلة للرق (1).

3 - السوابق التاريخية في العهود الإسلامية لاستخدام هذا المصرف في غير المكاتبين:
رغب الإسلام في العتق وتحرير الرقاب بصفة عامة، وجعل أساس النجاة في الآخرة فك رقبة، قال الله تعالى: {فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة؟ فك رقبة} [البلد:11/ 90 - 13]. وروى ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم
_________
(1) راجع كتابي: آثار الحرب في الفقه الإسلامي ـ دراسة مقارنة: ص 441 - 445.

(3/2020)


أنه قال: «أيما مؤمن أعتق مؤمناً في الدنيا، أعتق الله تعالى بكل عضو منه عضواً من النار» (1).
وبادر الصحب الكرام كأبي بكر الصديق إلى إعتاق نفوس المسلمين المستضعفين الذين كانوا يعذبون من قبل زعماء قريش في صدر الإسلام، مثل بلال الحبشي وكذلك فعل عبد الله بن عمر، فإنه ما مات حتى أعتق ألف رقبة.
ولجأ بعض الخلفاء المسلمين إلى استخدام مصرف «في الرقاب» في إعتاق الرقيق غير المكاتبين، كما حدث في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز، قال يحيى بن سعيد: بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات إفريقية، فاقتضيتها، وطلبت فقراء نعطيها لهم، فلم نجد بها فقيراً، ولم نجد من يأخذها مني، قد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس، فاشتريت بها رقاباً، فأعتقتهم، وولاؤهم للمسلمين (2).
ولا شك بأن هذا الفعل أصبح في تقديري قدوة فعلية سار على منواله أئمة المسلمين وعامتهم في العصور المختلفة.
وسيأتي بيان وقائع أخرى في هذا الموضوع في بحث أدّلة المذاهب على كيفية صرف سهم «في الرقاب».

4 - من مصارف «في الرقاب» في هذا الزمان «فكاك الأسرى» وتفصيل المذاهب الفقهية في سهم «في الرقاب»:
يحسن في هذا الموضوع بيان آراء العلماء من الصحابة والتابعين وغيرهم بصفة عامة، ثم بيان المذاهب الفقهية وأدلتها.
_________
(1) رواه الطبراني عن عمرو بن عَبْسة بلفظ: « .. وأيما رجل أعتق مسلماً، فكل عضو من المعتِق بعضو من المعتَق فداء له من النار».
(2) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم: ص 59، ط مكتبة وهبة بمصر .....

(3/2021)


آراء العلماء في بيان المقصود من الرقاب بصفة عامة:
للعلماء أقوال أربعة في تفسير الرقاب (1):
القول الأول: إن المراد بقوله «في الرقاب» في فك الرقاب، فهذا السهم موضوع لعتق الرقاب، يشترى به عبيد فيعتقون، وهو قول ابن عباس وابن عمر والحسن، وأبي عبيد، ومذهب مالك وأحمد وإسحاق وعبيد الله بن الحسن العنبري، فيجوز للإمام أن يشتري رقاباً من مال الصدقة، يعتقها عن المسلمين، ويكون ولاؤهم لجماعة المسلمين في رأي المالكية.
وإن اشتراهم صاحب الزكاة وأعتقهم جاز.
والقول الثاني: إن سهم الرقاب موضوع في المكاتبين ليعتقوا به، فلا يبتاع من الرقاب صاحب الزكاة نسمة يعتقها بجرّ ولاء. وهذا قول أبي موسى الأشعري ومقاتل وسعيد بن جبير والليث بن سعد وابن وهب وابن زيد، وهو مذهب الشافعي وأبي ثور، ورواية عن مالك. واحتجوا بما روي عن ابن عباس رضي الله عنها أنه قال: قوله تعالى {وفي الرقاب} [التوبة:60/ 9] يريد المكاتب، وتأكد هذا بقوله تعالى: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} [النور:33/ 24].
قال القرطبي: والصحيح الأول: لأن الله عز وجل قال: {وفي الرقاب} [التوبة:60/ 9] فإذا كان للرقاب سهم من الصدقات، كان له أن يشتري رقبة، فيعتقها، ولا خلاف بين أهل العلم أن للرجل أن يشتري الفرس فيحمل عليه في
_________
(1) تفسير الرازي: 114/ 16 وما بعدها، ط دار الفكر في بيروت، تفسير القرطبي: 182/ 8 ومابعدها، طبع دار الكاتب العربي بالقاهرة، تفسير ابن كثير: 365/ 2. أضواء البيان للشيخ محمد الأمين الشنقيطي: 470/ 2 وما بعدها، ط عالم الكتب في بيروت، الأموال لأبي عبيد: ص 797 وما بعدها، ط مكتبة الكليات الأزهرية .....

(3/2022)


سبيل الله، فإذا كان له أن يشتري فرساً بالكمال من الزكاة، جاز أن يشتري رقبة بالكمال، لا فرق بين ذلك.
والقول الثالث: قول أبي حنيفة وأصحابه وقول سعيد بن جبير والنخعي: أنه لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة، ولكن يعتق منها في رقبة، ويعان بها مكاتب، أي أنها لإعتاق العبد المبعض والمكاتب؛ لأن قوله تعالى: {وفي الرقاب} [التوبة:60/ 9] يقتضي أن يكون له فيه مدخل، وذلك ينافي كونه تاماً فيه. والأولى جعل القولين الثاني والثالث قولاً واحداً.
والقول الرابع: قول الزهري، قال: سهم الرقاب نصفان: نصف للمكاتبين من المسلمين، ونصف يشترى به رقاب ممن صلوا وصاموا، وقدم إسلامهم، فيعتقون من الصلاة. وهو رأي أبي عبيد.
وأضاف الشافعية أصحاب القول الثاني إلى ما سبق قولهم: والاحتياط في سهم الرقاب دفعه إلى السيد بإذن المكاتب، والدليل عليه أنه تعالى أثبت الصدقات للأصناف الأربعة الذين تقدم ذكرهم بلام التمليك، وهو قوله: {إنما الصدقات للفقراء ... } [التوبة:60/ 9].
والخلاصة: إن العلماء ما عدا المالكية والحنابلة اتفقوا على صرف سهم «في الرقاب» في إعتاق العبد المكاتب، واختلفوا في أمرين: إعتاق الرقاب، وفك الأسارى. أما إعتاق الرقاب فقال الكيا الطبري: إن العتق إبطال ملك، وليس بتمليك، وما يدفع إلى المكاتب تمليك، ومن حق الصدقة ألا تجزي إلا إذا جرى فيها التمليك. وهذا رأي الحنفية والشافعية، فلا يصرف شيء من الزكاة في إعتاق العبد القن (الخالص العبودية)
ورأى المالكية والحنابلة أنه يمكن المساهمة بشيء من الزكاة في إعتاق الرقاب مطلقاً. وإليه مال البخاري وابن المنذر.

(3/2023)


قال القرطبي: قد ورد حديث ينص على جواز عتق الرقبة، وإعانة المكاتب معاً، أخرجه أحمد والدارقطني عن البراء بن عازب قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: «دلَّني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار، قال: لئن كنت أقصرت الخطبة، لقد أعرضت المسألة، أعتق النسمة وفك الرقبة: فقال: يا رسول الله، أوليستا واحدة؟ قال: لا، عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة: أن تعين في ثمنها». وناقشه الحنفية بقولهم: ليس فيه ما يستلزم كون هذا هو معنى «وفي الرقاب» المذكور في الآية.
ويؤيده في المكاتب حديث آخر رواه الخمسة إلا أبا داود (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف».
وأما فك الأسارى: فقال أصبغ وابن القاسم: لا يجوز صرف الزكاة في فكاك الأسرى. والمشهور عند المالكية أنه لا تجزئ الزكاة في فك أسير، وهذا قول الحنفية والشافعية. وقال ابن حبيب وابن عبد الحكم: يجوز؛ لأنها رقبة ملكت بملك الرق، فهي تخرج من رق إلى عتق، وكان ذلك أحق وأولى من فك الرقاب الذي بأيدينا؛ لأنه إذا كان فك المسلم عن رق المسلم عبادة، وجائزاً من الصدقة، فأحرى وأولى أن يكون ذلك في فك المسلم عن رق الكافر وذله. وهذا قول الحنابلة.

تفصيل المذاهب الفقهية في سهم «في الرقاب» وأدلتهم:
اتجهت المذاهب الفقهية اتجاهين في بيان سهم «في الرقاب» الاتجاه الأول المضيق للحنفية والشافعية: وهو قصر صرف هذا السهم على المكاتبين، والاتجاه الثاني الموسع ـ للمالكية والحنابلة: وهو صرف هذا السهم في تحرير الرقاب وإعتاق
_________
(1) الخمسة: أحمد وأصحاب السنن الأربعة. ورواه أيضاً الحاكم.

(3/2024)


العبيد مطلقاً، سواء في مذهب الحنابلة أكانوا مكاتبين أم خالصي العبودية. أما صرف شيء منه في فكاك الأسرى فأجازه الحنابلة دون المالكية في المشهور لديهم.
وأذكر خلاصة رأي كل مذهب على حدة ثم أعقبه بأدلة الاتجاهين:
1 - قال الحنفية (1): الصنف الخامس «في الرقاب» هم المكاتبون غير الهاشميين، فيعان المكاتبون من الزكاة في فك رقابهم، وإن ملك المكاتب نصاباً زائداً على بدل الكتابة.
2 - وقال الشافعية (2): الصنف الخامس: الرقاب: وهم المكاتبون كتابة صحيحة لغير مزك، فيعطون، ولو بغير إذن ساداتهم، أو قبل حلول النجوم (الأقساط) ما يعينهم على العتق، إن لم يكن معهم ما يفي بنجومهم. أما مكاتب المزكي فلا يعطى من زكاته شيئاً لعود الفائدة إليه مع كونه ملكه.
3 - وقال المالكية (3): تصرف الزكاة لرقيق مؤمن لا كافر، يعتق منها، بأن يشترى منها رقيق فيعتق، أو يكون عنده عبد أو أمة يقوِّمه قيمة عدل ويعتقه عن زكاته، وهذا معنى قوله تعالى: {وفي الرقاب} [التوبة:60/ 9].
ويشترط في الرقيق أن يكون خالصاً، لم تنعقد حرىة فيه كمكاتب، ومدبر، ومعتق لأجل، وأم ولد، وإلا فلا يجزئ، والمشهور أن العتق صحيح، وإن لم يجزئ عن الزكاة.
_________
(1) أحكام القرآن للجصاص:125/ 3، ط بيروت، فتح القدير: 263/ 2، ط دار الفكر في بيروت، حاشية ابن عابدين (رد المحتار على الدر المختار): 341/ 2، ط البابي الحلبي بمصر.
(2) شرح المجموع للنووي: 146/ 6 وما بعدها، مطبعة المدني بالقاهرة، بجيرمي علي الخطيب:313/ 2 وما بعدها، ط دار المعرفة في بيروت.
(3) مواهب الجليل للحطاب: 350/ 2، الطبعة الثانية 1978، الشرح الصغير للدردير وحاشية الصاوي عليه: 661/ 1.

(3/2025)


ويشترط أيضاً ألا يعتق الرقيق بالملك نفسه على رب المال، كالأبوين والأولاد والحواشي القريبة: الإخوة والأخوات، لقوله صلّى الله عليه وسلم ـ فيما رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم عن سمرة ـ «من ملك ذا رحم محرم فهو حر». فإن اشترى رب المال من زكاته من يعتق عليه فلا يجزئه إلا أن يدفعها الإمام، فيشتري بها والد ربّ المال ولده، ويعتقه، فيجزئ حيث لا تواطؤ.
ويكون ولاء المعتق إذا عتق من الزكاة للمسلمين، سواء صرح المعتق بذلك أو سكت، بل ولو شرطه لنفسه، وأما لو قال: أنت حر عني وولاؤك للمسلمين، فلا تجزئه عن الزكاة، والعتق لازم، والولاء له؛ لأن الولاء لمن أعتق.
والمشهور عند المالكية أنه لا تجزئ الزكاة في فك الأسير، وقال ابن حبيب: هو أحق وأولى من فك الرقاب التي بأيدينا، ووافقه ابن عبد الحكم.
4 - ومذهب الحنابلة (1) كما ذكروا في كتبهم المعتمدة: أن الصنف الخامس: الرقاب: وهم المكاتبون المسلمون الذين لا يجدون وفاء ما يؤدون، ولو مع القوة والكسب، لعموم قوله تعالى: {وفي الرقاب} [التوبة:60/ 9]. قال في المبدع: لا يختلف المذهب أنهم، أي المكاتبون من الرقاب، بدليل قوله: أعتقت رقابي، فإنه يشملهم؛ وفي قوله تعالى: {فكاتبوهم} [النور:33/ 24] إشعار به ولأنه يملك المال على سيده، ويصرف إليه أرش جنايته، فكان الإعطاء له إعطاء لسيده، لا في الرقاب.
وللمكاتب الأخذ قبل حلول نجم (قسط) لئلا يؤدي إلى فسخ الكتابة عند حلول النجم، ولا شيء معه.
_________
(1) كشاف القناع للبهوتي: 279/ 2 وما بعدها، ط عالم الكتب في بيروت، الروض المربع بشرح زاد المستنقع للشيخ منصور بن يونس البهوتي: ص 151، المغني والشرح الكبير: 709/ 2.

(3/2026)


والأولى دفع الزكاة إلى سيد المكاتب، من دفع الزكاة إلى المكاتب.
ويجوز أن يشتري المزكي من الزكاة رقبة لا تعتق عليه. فيعتقها، لقول ابن عباس. ويجوز أن يعتق قِنّه أو مكاتَبه عنها؛ لأنه فك رقبة الأسير، فهو كفك رقبة العبد من الرق، ولأن فيه إعزازاً للدين، أشبه ما يدفع إلى الغارم لفك رقبته من الدين.
والولاء عند الحنابلة للمعتق: لما رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إنما الولاء لمن أعتق». أما ما أعتقه الساعي من الزكاة أو الإمام منها، فولاؤه للمسلمين، لأنه نائب عنهم.

أدلة المذاهب:
أدلة الاتجاه الأول للحنفية والشافعية ومن وافقهم من السلف:
استدل هؤلاء على أن سهم «في الرقاب» يصرف في مساعدة المكاتبين على تحرير أنفسهم بما يلي:
1 - إن قوله عز وجل: {وفي الرقاب} [التوبة:60/ 9]، كقوله تعالى: {وفي سبيل الله} [التوبة:60/ 9] وهناك يجب الدفع إلى المجاهدين، فكذا يجب هنا الدفع إلى الرقاب، ولا يكون دفعاً إليهم إلا على مذهبنا أي للمكاتبين.
وأما من قال: يشترى به عبيد، فليس بدفع إليهم، وإنما هو دفع إلى ساداتهم، ولأن في جميع الأصناف يسلم السهم إلى المستحق ويملكه إياه، فينبغي أن يكون كذلك هنا، ولأن ما قالوه يؤدي إلى تعطيل هذا السهم في حق كثير من الناس؛ لأن من الناس من لا يجب عليه من الزكاة لهذا السهم ما يشتري به رقبة يعتقها، وإن أعتق بعضها قوِّم عليه الباقي، ولا يلزمه صرف زكاة الأموال الباطنة

(3/2027)


إلى الإمام بالإجماع، فيؤدي إلى تفويته. وأما على مذهبنا فيمكنه صرفه إليهم، ولو كان درهماً.
وتخصص كلمة «في الرقاب» بالمكاتبين لعدم وجود قرينة لصرف الزكاة إلى القن، وقد وجدت القرينة في الكفارة بالعبد القن، وهي أن التحرير لا يكون إلا في القن، ولم توجد هذه القرينة في مسألتنا، فحملناه على المكاتبين لما ذكرناه أولاً (1).
وخلاصة هذا الدليل اشتراط التمليك لمستحق الزكاة، وهذا يتصور في المكاتب دون العبد القن (الخالص العبودية) فلا تصرف الزكاة في الإعتاق، أي إعتاق الرقبة من الزكاة، وإنما يعان المكاتبون من الزكاة على الكتابة. ويلاحظ أن اختلاف التعبير بين الأصناف الأربعة الأولى وبين الأربعة الأخيرة دليل على عدم اشتراط التمليك المطلق في الأخيرة كما ذكر الرازي.
2 - إن عتق الرقبة لا يسمى صدقة، وما أعطي في ثمن الرقبة فليس بصدقة، لأن بائعها أخذه ثمناً لعبد، فلم تحصل بعتق الرقبة صدقة، والله تعالى إنما جعل الصدقات في الرقاب، فما ليس بصدقة فهو غير مجزئ (2).
وأيضاً فإن الصدقة تقتضي تمليكاً، والعبد لم يملك شيئاً بالعتق، وإنما سقط عن رقبته، وهو ملك للمولى، ولم يحصل ذلك الرق للعبد، لأنه لو حصل له، لوجب أن يقوم فيه مقام المولى، فيتصرف في رقبته، كما يتصرف المولى، فثبت أن الذي حصل للعبد إنما هو سقوط ملك المولى، وإنه لم يملك بذلك شيئاً، فلا يجوز أن يكون ذلك مجزياً من الصدقة، إذ شرط الصدقة وقوع الملك للمتصدق عليه.
_________
(1) شرح المجموع:146/ 6 - 147.
(2) أحكام القرآن للجصاص الرازي: 135/ 3.

(3/2028)


وأيضاً فإن العتق واقع في ملك المولى غير منتقل إلى الغير، ولذلك ثبت ولاؤه منه، فغير جائز وقوعه عن الصدقة. ولما قامت الحجة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن الولاء لمن أعتق،
وجب ألا يكون الولاء لغيره، فإذا انتفى أن يكون الولاء إلا لمن أعتق، ثبت أن المراد به المكاتبون (1). والجواب عن اشتراط التمليك ذكر سابقاً.
3 - روى عبد الرحمن بن سهل بن حنيف عن أبيه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من أعان مكاتباً في رقبته أو غازياً في عسرته، أو مجاهداً في سبيله، أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله» فثبت بذلك أن الصدقة على المكاتبين معونة لهم في رقابهم حتى يعتقوا، وذلك موافق لقوله تعالى: {وفي الرقاب} [التوبة:60/ 9].
فلما قال: {وفي الرقاب} [التوبة:60/ 9] كان الأولى أن يكون في معونتها بأن يعطى المكاتب حتى يفك العبد رقبته من الرق، وليس هو ابتياعها وعتقها؛ لأن الثمن حينئذ يأخذه البائْع، وليس في ذلك قربة (2)، وإنما القربة في أن يعطى العبد نفسه حتى يفك به رقبته، وذلك لا يكون إلا بعد الكتابة، لأنه قبلها يحصل للمولى، وإذا كان مكاتباً فما يأخذه لا يملكه المولى، وإنما يحصل للمكاتب، فيجزي من الزكاة (3).
4 - إن عتق الرقبة يسقط حق المولى عن رقبته من غير تمليك، ولا يحتاج فيه إلى إذن المولى، فيكون بمنزلة من قضى دين رجل بغير أمره، فلا يجزي من زكاته، وإن دفعه إلى الغارم، فقضى به دين نفسه، جاز، كذلك إذا دفعه إلى المكاتب،
_________
(1) المرجع والمكان السابق.
(2) وهذا كلام عجيب، أليس بذل المال في سبيل إعتاق الرقيق من أعظم القربات عند الله تعالى؟ قال الله تعالى: {وما أدراك ما العقبة؟ فك رقبة} [البلد:12/ 90 - 13].
(3) المرجع السابق ....

(3/2029)


فملكه، أجزأه عن الزكاة، وإذا أعتقه لم يجزه؛ لأنه لم يملكه، وحصل العتق بغير قبوله ولا إ ذنه (1).
5 - أخرج عن الحسن البصري والزهري وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم قالوا: في الرقاب هم المكاتبون (2).
6 - أخرج الطبري في تفسيره من طريق محمد بن إسحاق عن الحسن بن دينار عن الحسن البصري أن مكاتباً قام إلى أبي موسى الأشعري، وهو يخطب يوم الجمعة، فقال له: أيها الأمير، حث الناس عليّ، فحث عليه أبو موسى، فألقى الناس عليه، هذا يلقي عمامة، وهذا يلقي ملاءة، وهذا يلقي خاتماً حتى ألقى الناس عليه سواداً كبيراً، فلما رأى أبو موسى ما ألقي عليه قال: اجمعوه، ثم أمر به فبيع، فأعطى المكاتب مكاتبته، ثم أعطى الفضل في الرقاب، ولم يرد على الناس. وقال: إن هذا الذي أعطوه في الرقاب.
وهذا في تقديري لا يمنع من صرف الزكاة في إعتاق الرقبة.

أدلة الاتجاه الثاني للمالكية والحنابلة ومن وافقهم من السلف:
استدل هؤلاء على صرف سهم «في الرقاب» في إعتاق الرقيق بما يأتي:
1 - أن الرقاب أعم من أن يعطى المكاتب أو يشتري المزكي رقبة فيعتقها استقلالاً، فهو تعبير مطلق يؤخذ فيه على إطلاقه.
2 - لو اختصت الرقاب بالمكاتب لدخل في حكم الغارمين؛ لأنه غارم.
_________
(1) المرجع السابق.
(2) فتح القدير: 263/ 2.

(3/2030)


3 - إن شراء الرقبة لتعتق أولى من إعانة المكاتب؛ لأنه قد يعان ولا يعتق، لأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، ولأن الشراء يتيسر في كل وقت، بخلاف الكتابة.

الرأي الراجح:
يتبين من مقارنة أدلة المذاهب المتقدمة رجحان رأي أصحاب الاتجاه الثاني؛ لأن قوله تعالى: {وفي الرقاب} [التوبة:60/ 9] مطلق، والمطلق يجري على إطلاقه. والذي أرجحه من الآراء هو قول ابن عباس وابن عمر والحسن البصري والزهري وأبي عبيد ومذهب الحنابلة: وهو جعل «في الرقاب» في معونةالمكاتبين وفي عتق الأرقاء جميعاً وفي فكاك الأسرى، عملاً بإطلاق التعبير القرآني: «في الرقاب». قال ابن عباس: الرقاب أعم من المكاتبين، فلا بأس أن تعتق الرقبة من الزكاة. ولا خوف من أن يصير إلى المزكي ميراث عتيقة بالولاء، لأن صاحب الولاء يتحمل دية وأرش وتعويض الجنايات التي يرتكبها المعتَق، فيكون أحدهما بالآخر، أي الغنم بالغرم. وإذا كان يجوز عود الزكاة إلى الأقارب ميراثاً للمزكي في سنة النبي صلّى الله عليه وسلم، فلا مانع من رجوع الولاء للمزكي، قال أبو عبيد: فإذا كانت السعة منه صلّى الله عليه وسلم في رجوع الصدقة بعينها ميراثاً للمزكي، فرجوع وراثة الولاء أوسع وأحرى بالجواز (1).
وهذا الاتجاه يجمع بين الآراء المختلفة، وهو الظاهر وهو الحق، لأن الآية تحتمل الأمرين (المكاتب والرقيق القن) وحديث البراء المتقدم فيه دليل على أن فك الرقاب غير عتقها، وعلى أن العتق وإعانة المكاتبين على مال الكتابة من الأعمال المقربة من الجنة، والمبعدة من النار.
_________
(1) الأموال: ص 799.

(3/2031)


5 - التطبيق الأصلي لهذا المصرف في إعانة المكاتب لتحرير نفسه من الرق:
رغب الله تعالى في كتابة العبد على أقساط معينة مؤجلة ليتمكن من عتق نفسه واسترداد حريته، في قوله تعالى: {والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً، وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} [النور:33/ 24] وقد أخرج النسائي من حديث علي رضي الله عنه مرفوعاً أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «في الآية ربع الكتابة» (1). وقد فسر قوله تعالى: {وفي الرقاب} [التوبة:60/ 9] بإعانة المكاتبين. وأخرج ابن جرير وغيره عن علي رضي الله عنه أنه قال: أمر الله السيد أن يدع الربع للمكاتب من ثمنه. وهذا تعليم من الله وليس بفريضة، ولكن فيه أجر. وقد أوردتُ أحاديث في أدلة المذاهب لعون المكاتب. وعملاً بهذا الأمر الإلهي والأحاديث الواردة في ترغيب السيد بمكاتبة عبده، بادر الناس في الماضي إلى مساعدة المكاتب من الزكاة وغيرها لتحرير رقبته من العبودية، حتى وإن ملك نصاباً زائداً على بدل الكتابة، كما يرى الحنفية، وبشرط ألا يكون مع المكاتب ما يفي بنجومه (أقساطه) كما يرى الشافعية والحنابلة، فيعطى المكاتب وفاء دينه لعجزه عن وفاء ما عليه، ولو مع قدرته على التكسب ولو قبل حلول أجل ميعاد تسديد النجم (القسط). ويعطى من الصدقات غير الزكاة في مذهب المالكية.
والتطبيق الفعلي لسهم «في الرقاب» وصرفه في المكاتبين كان في الغالب يتم بإعطائهم من الزكاة النقدية أو العينية، كالزروع والثمار والأنعام، أو من الصدقات، كما دل عليه الحديث السابق في أدلة المذاهب عن الحسن البصري أن مكاتباً قام إلى أبي موسى الأشعري، وهو يخطب يوم الجمعة، عارضاً حاجته،
_________
(1) وليس في الآية تعرض لمقدار ما يعطى المكاتب، إنما فيها الأمر بالمساعدة، ولهذا قال النسائي: والصواب وقفه.

(3/2032)


وطلب حث الناس على مساعدته، فاستجاب أبو موسى لطلبه، وأمر الناس بمعاونته، فبادروا إلى إلقاء بعض أمتعتهم عليه، فجمعت ثم بيعت وأعطى ـ أبو موسى ـ المكاتب مكاتبته، ثم أعطى الفضل الزائد في مكاتبين آخرين، ولم ترد الأمتعة على الناس.
والقصد من المساعدة واضح وهو تمكين المكاتب من تحرير نفسه من الرق، وتصفية آثار العبودية؛ لأن الإسلام شجع على العتق، وتخليص الأرقاء من الرق. ولا سبيل إلى التحرير إذا لم يعتقه سيده إلا بالمعاوضة، أي الكتابة على أقساط معينة، أخرج أبو داود بإسناد حسن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم».

6 - هل تعطى الشعوب الإسلامية التي تئن تحت وطأة الحكومات الكافرة لتحرير نفسها من الاحتلال الذي تخضع له؟ الاصطلاح الشرعي لكلمة «الرقاب» واضح في أن المراد بهم تحرير الأرقاء من العبودية، فردا كانوا أو جماعة. أما الاستعمار وأشكاله العنصرية البغيضة فلا ينطبق عليه مفهوم الاسترقاق أو الرق المعروف، لذا يصعب القول بأن الاستعمار كالاسترقاق، أو أن تعطى الشعوب المستعمرة من سهم «الرقاب» لتحرير نفسها من الاستعمار. ولكن رأينا السيد الشيخ رشيد رضا يجيز إعطاء الشعوب المستعمرة من الزكاة للتحرر من الاستعباد وإعادة مجد الإسلام، بل لإعادة ما سلبه الأجانب من دار الإسلام، إذا لم يكن مصرف «في الرقاب» مستعملاً في تحرير الأفراد بسبب إلغاء الرق من العالم (1). وتابعه على ذلك أستاذنا المرحوم الشيخ محمود شلتوت في كتابه: «الإسلام عقيدة وشريعة» وسبب هذا الاتجاه أن الصرف حينئذ
_________
(1) تفسير المنار: 515/ 10، ط دار المعرفة في بيروت.

(3/2033)


يعد إنقاذاً للمسلمين من رق الكفار، وما الزكاة المعطاة إلا بذل العشر أو ربع العشر مما فضل عن حاجة الأغنياء.
وهذا توسع في فهم مدلول «الرقاب» ومجاز في توجيه الكلمة نحو نظام مستحدث يختلف شرعاً وعملاً عن الرق المألوف، وإن أشبهه في عيوبه ومثالبه، فليس للمستعمرين أي حكم شرعي من أحكام الرق يمكن تطبيقه ما عدا وجوب جهادهم وطردهم من البلاد.
ويمكن مساعدة الشعوب المضطهدة أو المستعمرة أو التي احتلت أراضيها بالقوة والظلم والاغتصاب من مصرف «في سبيل الله» أي مصرف الجهاد، ولكن بقدر محدود ومن الصدقات الأخرى الحرة، ومن موارد الدولة العامة التي تنفق على المصالح العامة وتجبى على أساس آخر غير الزكاة.

خاتمة البحث
تبين من البحث أن مصرف «في الرقاب» أحد مصارف الزكاة يشمل بإطلاقه تحرير الأرقاء من الرق، ومعونة المكاتبين على تحرير أنفسهم، وفكاك الأسرى المسلمين من قيد الأسر وأغلال الحبس في بلاد الكفار.
وبما أن الرق انتهى ولله الحمد من العالم، فيمكن تخصيص جزء من الزكاة لفك الأسرى المسلمين أخذاً بمذهب الإمام أحمد رضي الله عنه؛ لأنه فيه فك رقبة من الأسر.
كما يمكن إعانة الشعوب المستعمرة من مصرف الجهاد: «في سبيل الله» لتتمكن من طرد المستعمرين وتحرير البلاد من رجسهم، وتخليصهم من ويلات الاستعمار.

(3/2034)