الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي البَابُ الخامسُ: الحجّ والعُمْرة
فيه فصول ثلاثة:
الفصل الأول ـ أحكام الحج والعمرة.
الفصل الثاني ـ خصائص الحرمين ـ مكة والمدينة.
الفصل الثالث ـ آداب السفر للحج وغيره وآداب الحاج العائد بعد رجوعه من
سفره.
ويلاحظ أنني أخرت بحث الحج عن الصلاة والزكاة والصوم؛ لأن الصلاة عماد
الدين ولشدة الحاجة إليها لتكررها كل يوم خمس مرات، ثم الزكاة لكونها قرينة
لها في أكثر المواضع في القرآن، ثم الصوم لتكرره كل سنة، وأما الحج ففي
العمر مرة.
(3/2061)
الفَصْلُ الأوَّل: أحكامُ الحجّ والعُمرة
وهو يشتمل على أمور ثلاثة:
الأول ـ بيان مقدمات هذه العبادة بمعرفة حكم كل من الحج والعمرة وشروطهما.
والثاني ـ مقومات الحج والعمرة وهي الأفعال المطلوبة والمتروكات بالإحرام،
وفيه توضيح الأركان والواجبات والسنن.
والثالث ـ اللواحق وهي أحكام الأفعال التابعة للإحرام، من إحصار وفوات،
وجزاء جنايات، وهدي. وهذا الفصل هو صلب موضوع هذا الباب الذي خصصته لبيان
الدعامة الرابعة من دعائم الإسلام بعد بيان الدعامات الثلاث: وهي الصلاة
والصوم والزكاة.
ويمكن بحث موضوعاته في المباحث الثلاثة عشر التالية:
المبحث الأول ـ تعريف الحج والعمرة ومكانتهما
في الإسلام وحكمتهما وحكمهما.
المبحث الثاني ـ شروط الحج والعمرة (شروط الوجوب والصحة أو الأداء)
وموانعهما.
(3/2063)
المبحث الثالث ـ مواقيت الحج والعمرة
الزمانية والمكانية.
المبحث الرابع ـ أعمال الحج والعمرة وصفة حجة النبي صلّى الله عليه وسلم
وعمرته.
المبحث الخامس ـ أركان الحج والعمرة.
المبحث السادس ـ واجبات الحج.
المبحث السابع ـ سنن الحج والعمرة.
المبحث الثامن ـ كيفية أداء الحج والعمرة.
المبحث التاسع ـ كيفية التحلل من الحج.
المبحث العاشر ـ محظورات الإحرام ومباحاته.
المبحث الحادي عشر ـ جزاء الجنايات في الحج أو العمرة.
المبحث الثاني عشر ـ الإحصار والفوات.
المبحث الثالث عشر ـ الهدي.
وأبدأ ببيانها على الترتيب المذكور.
المبحث الأول ـ تعريف الحج والعمرة ومكانتهما في الإسلام وحكمتهما وحكمهما:
أولاً ـ تعريف الحج والعمرة: الحج لغة: القصد مطلقاً، وعن الخليل قال:
الحج: كثرة القصد إلى من تعظمه.
وشرعاً: قصد الكعبة لأداء أفعال مخصوصة، أو هو زيارة مكان مخصوص
(3/2064)
في زمن مخصوص بفعل مخصوص. والزيارة: هي
الذهاب. والمكان المخصوص: الكعبة وعرفة. والزمن المخصوص: هو أشهر الحج: وهي
شوال وذو القعدة وذو الحجة، والعشر الأوائل من ذي الحجة، ولكل فعل زمن خاص،
فالطواف مثلاً عند الجمهور: من فجر النحر إلى آخر العمر، والوقوف بعرفة: من
زوال الشمس يوم عرفة لطلوع فجر يوم النحر. والفعل المخصوص: أن يأتي
مُُحْرماً بنية الحج إلى أماكن معينة (1).
وتاريخ مشروعيته على الصحيح: أن الحج
فرض في أواخر سنة تسع من الهجرة، وأن آية فرضه هي قوله تعالى: {ولله على
الناس حج البيت} [آل عمران:97/ 3] نزلت عام الوفود أواخر سنة تسع وهو رأي
أكثر العلماء، وأنه صلّى الله عليه وسلم لم يؤخر الحج بعد فرضه عاماً
واحداً، وإنما أخره عليه السلام للسنة العاشرة لعذر، وهو نزول الآية بعد
فوات الوقت (2)، فكان حجه بعد الهجرة حجة واحدة سنة عشر، كما روى أحمد
ومسلم.
والعمرة لغة: الزيارة، وقيل: القصد إلى مكان عامر، وسميت بذلك؛ لأنها تفعل
في العمر كله. وشرعاً: قصد الكعبة للنسك وهو الطواف والسعي (3). ولايغني
عنها الحج وإن اشتمل عليها.
ثانياً ـ مكانة الحج والعمرة في الإسلام وحكمتهما: الحج: هو الركن الخامس
من أركان الإسلام، فرضه الله تعالى على المستطيع، والعمرة مثله، فهما أصلان
عند الشافعية والحنابلة، لقوله تعالى:
_________
(1) الدر المختار:189/ 2، اللباب: 177/ 1، فتح القدير: 120/ 2، مغني
المحتاج: 459/ 1 ومابعدها، المغني: 217/ 3، الشرح الكبير مع الدسوقي: 2/ 2،
كشاف القناع: 437/ 2.
(2) حاشية ابن عابدين نقلاً عن ابن القيم: 190/ 2.
(3) مغني المحتاج: 460/ 1، كشاف القناع:436/ 2 وما بعدها.
(3/2065)
{وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة:196/ 2]
وهي سنة عند المالكية والحنفية، كما سأبين، وقد اعتمر النبي صلّى الله عليه
وسلم أربع عُمَر، كلهن في ذي القعْدة إلا التي مع حَجَّته (1): الأولى من
الحديبية سنة ست من الهجرة، والثانية سنة سبع وهي عمرة القضاء، والثالثة
سنة ثمان عام الفتح، والرابعة مع حجته سنة عشر، وكان إحرامها في ذي القعدة
وأعمالها في ذي الحجة.
قال القاضي حسين من الشافعية: الحج أفضل العبادات لاشتماله على المال
والبدن، وقال الحليمي: الحج يجمع معاني العبادات كلها، فمن حج فكأنما صام
وصلى واعتكف وزكى ورابط في سبيل الله وغزا، ولأنا دعينا إليه، ونحن في
أصلاب الآباء كالإيمان الذي هو أفضل العبادات.
والراجح عند الشافعية والحنابلة أن الصلاة أفضل منه (2)؛ لأن الصلاة عماد
الدين.
وهل الحج أفضل من الجهاد؟ اختلفت
الأحاديث المشتملة على بيان فاضل الأعمال من مفضولها، فتارة تجعل الأفضل
الجهاد، وتارة الإيمان، وتارة الصلاة، وتارة غير ذلك، من هذه الأحاديث:
حديث الشيخين عن أبي هريرة قال: «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أي
الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله وبرسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: ثم الجهاد في
سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: ثم حج مبرور»،ومنها حديث الجماعة إلا أبا
داود عن أبي هريرة أيضاً: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج
المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» والمبرور: المقبول، ورجح النووي أنه الذي
لا يخالطه شيء من الإثم.
_________
(1) رواه مسلم عن أنس (شرح مسلم: 234/ 8 وما بعدها).
(2) المرجعان والمكانان السابقان رقم (3).
(3/2066)
قال الشوكاني (1): وأحق ما قيل في الجمع
بين الأحاديث: أن بيان الفضيلة يختلف باختلاف المخاطب، فإذا كان المخاطب
ممن له تأثير في القتال، وقوة مقارعة الأبطال، قيل له: أفضل الأعمال:
الجهاد، وإذا كان كثير المال، قيل له: أفضل الأعمال: الصدقة، ثم كذلك يكون
الاختلاف على حسب اختلاف المخاطبين.
وقال المالكية (2): الحج ولو تطوّعاً أفضل من الجهاد، إلا في حالة الخوف من
العدو، فيفضل الجهاد على حج التطوع.
حكمة المشروعية: يتحقق بالحج والعمرة
فرض الكفاية وهو إحياء الكعبة كل سنة بالعبادة، وتمتاز العمرة عن الحج
بإمكانها في كل أيام العام أو العمر، فهي أيسر من الحج الذي يتقيد بأيام
معلومات.
وللحج فوائد شخصية وجماعية، أما أهم فوائده
الشخصية فهي ما يأتي: يكفِّر الحج الذنوب الصغائر ويطهر النفس من
شوائب المعاصي، وقال بعض العلماء كبعض الحنفية: والكبائر أيضاً، بدليل
الحديث السابق: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له
جزاء إلا الجنة» فلا يقتصر لصاحبه من الجزاء على تكفير بعض ذنوبه، بل لا بد
أن يدخل الجنة، ولقوله صلّى الله عليه وسلم أيضاً: «من حج، فلم يرفُث، ولم
يفسُق، رجع من ذنوبه كيومَ ولدته أمُّه» (3) أي بغير ذنب.
_________
(1) نيل الأوطار: 282/ 4 ومابعدها.
(2) الشرح الكبير: 10/ 2.
(3) رواه عن أبي هريرة البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه، والترمذي إلا أنه
قال: «غفر له ماتقدم من ذنبه» والرفث: الفحش من القول، وقيل: هو الجماع.
والفسق: المعصية.
(3/2067)
وقال عليه السلام: «الحجاج والعُمَّار وفد
الله، إن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم» (1) وقال أيضاً: «يُغْفَر
للحاج، ولمن استغفر له الحاج» (2).
قال القاضي عياض: أجمع أهل السنة أن الكبائر لا يكفرها إلا التوبة، ولا
قائل بسقوط الدين، ولو حقاً لله تعالى، كدين الصلاة والزكاة.
فالحج يغفر الذنوب، ويزيل الخطايا إلا حقوق الآدميين، فإنها تتعلق بالذمة،
حتى يجمع الله أصحاب الحقوق، ليأخذ كل حقه، ومن الجائز أن الله تعالى
يتكرم، فيرضي صاحب الحق بما أعد له من النعيم وحسن الجزاء، فيسامح المدين
تفضلاً وتكرماً، فلا بد من أداء حقوق الآدميين، أما حقوق الله فمبنية على
تسامح الكريم الغفور الرحيم.
والحج يطهر النفس، ويعيدها إلى الصفاء والإخلاص، مما يؤدي إلى تجديد
الحياة، ورفع معنويات الإنسان، وتقوية الأمل وحسن الظن بالله تعالى.
ويقوي الحج الإيمان، ويعين على تجديد العهد مع الله، ويساعد على التوبة
الخالصة الصدوق، ويهذب النفس، ويرقق المشاعر ويهيج العواطف نحو بيت الله
العتيق.
ويذكر الحج المؤمن بماضي الإسلام التليد، وبجهاد النبي صلّى الله عليه وسلم
والسلف الصالح الذين أناروا الدنيا بالعمل الصالح.
والحج كغيره من الأسفار يعوِّد الإنسان على الصبر وتحمل المتاعب، ويعلم
_________
(1) رواه عن أبي هريرة النسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في
صحيحيهما، ولفظهما: «وفد الله ثلاثة: الحاج، والمعتمر، والغازي».
(2) رواه البزار والطبراني في الصغير، وابن خزيمة في صحيحه والحاكم،
ولفظهما: «اللهم اغفر للحاج، ولمن استغفر له الحاج».
(3/2068)
الانضباط والتزام الأوامر، فيستعذب الألم
في سبيل الله تعالى، ويدفع إلى التضحية والإيثار.
وبالحج يؤدي العبد لربه شكر النعمة: نعمة المال، ونعمة العافية، ويغرس في
النفس روح العبودية الكاملة، والخضوع الصادق الأكيد لشرع الله ودينه، قال
الكاساني (1): في الحج إظهار العبودية وشكر النعمة، أما إظهار العبودية فهو
إظهار التذلل للمعبود، وفي الحج ذلك؛ لأن الحاج في حال إحرامه يظهر الشعث
ويرفض أسباب التزين والارتفاق، ويظهر بصورة عبد سخط عليه مولاه، فيتعرض
بسوء حاله لعطف مولاه. وأما شكر النعمة: فلأن العبادات بعضها بدنية وبعضها
مالية، والحج عبادة لا تقوم إلا بالبدن والمال، ولهذا لا يجب إلا عند وجود
المال وصحة البدن، فكان فيه شكر النعمتين، وشكر النعمة ليس إلا استعمالها
في طاعة المنعم، وشكر النعمة واجب عقلاً وشرعاً.
وأما أهم فوائد الحج الجماعية: فهو أنه
يؤدي بلا شك إلى تعارف أبناء الأمة على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وأوطانهم،
وإمكان تبادل المنافع الاقتصادية الحرة فيما بينهم، والمذاكرة في شؤون
المسلمين العامة، وتعاونهم صفاً واحداً أمام أعدائهم، وغير ذلك مما يدخل في
معنى قوله تعالى: {ليشهدوا منافع لهم} [الحج:28/ 22].
ويُشعر الحج بقوة الرابطة الأخوية مع المؤمنين في جميع أنحاء الأرض المعبر
عنها في قوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات:10/ 49] ويحس الناس
أنهم حقاً متساوون، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلا
بالتقوى.
_________
(1) البدائع: 118/ 2.
(3/2069)
ويساعد الحج على نشر الدعوة الإسلامية ودعم
نشاط الدعاة في أنحاء المعمورة، على النحو الذي بدأ به النبي نشر دعوته
بلقاء وفود الحجيج كل عام.
وأما الاعتماد على موسم الحج ليكون مؤتمراً شعبياً عاماً لمخاطبة المؤمنين،
فهو غير مطلوب شرعاً؛ لأن المعول في السياسة الإسلامية على رأي أهل الخبرة
والاختصاص والمشورة، فهم المرجع والمقصد، ولأن كثرة المسلمين الهائلة تمنع
تحقيق الفائدة المرجوة، ولأن تخطيط السياسة ووضع المنهج الإسلامي منوط برأي
الحكام المسلمين، ولم يعد بيد أحد من الأفراد العاديين شيء من النفوذ أو
السلطة لتحقيق شيء يذكر.
ثالثاً ـ حكم الحج والعمرة: اتفق العلماء على فرضية الحج مرة في العمر،
بدليل الكتاب والسنة.
أما الكتاب: فقول الله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه
سبيلاً، ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} [آل عمران:97/ 3] روي عن ابن
عباس: «ومن كفر باعتقاده أنه غير واجب» وقال تعالى: {وأتموا الحج والعمرة
لله} [البقرة:196/ 2] وقال سبحانه: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً،
وعلى كل ضامر، يأتين من كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله
في أيام معلومات} [الحج:27/ 22 - 28].
وأما السنة: فقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادة
أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقامِ الصلاة، وإيتاء الزكاة،
وحج البيت، وصوم رمضان» (1).
_________
(1) رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(3/2070)
كون فريضة الحج مرة:
الدليل على فرضية الحج مرة واحدة في العمر بأصل الشرع: هو حديث أبي هريرة،
قال: «خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس، قد فرض
الله عليكم الحج فحجُّوا، فقال رجل: أكلَّ عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى
قالها ثلاثاً، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: لو قلت: نعم، لوجَبَت ولما
استطعتم» (1) وحديث ابن عباس بمعناه، وفيه تعيين الرجل وهو الأقرع بن حابس،
وفيه أيضاً «من زاد فهو تطوع» (2)، ويؤكده أن الأمر لا يقتضي التكرار، فلا
يكون الأمر القرآني مفيداً تكرار الحج.
وأما حديث البيهقي وابن حبان الآمر بالحج في كل خمسة أعوام فمحمول على
الندب، ونصه عن الخدري: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: يقول الله
عز وجل: إن عبداً صحّحت له جسمه، ووسَّعت عليه في المعيشة، تمضي عليه خمسة
أعوام، لا يَفِد إلي لمحروم» أي من جمع له الصحة والقوة واليسار مندوب له
الحج كل خمس سنين، وإلا كان محروماً من الأجر ومطروداً من رضوان الله
تعالى.
وأجمع العلماء على أن الحج لا يجب إلا مرة (3)، والزائد عن ذلك تطوع، قال
صلّى الله عليه وسلم: «تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر
والذنوب، كما ينفي الكير خَبَث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة
ثواب إلا الجنة» (4).
وقد يجب الحج أكثر من مرة لعارض: كنذر بأن يقول: لله علي حجة؛ لأن النذر من
أسباب الوجوب في العبادات والقرب المقصودة، وكذلك يجب في حالة القضاء عند
إفساد التطوع.
_________
(1) رواه أحمد ومسلم والنسائي (نيل الأوطار: 279/ 4، شرح مسلم: 101/ 9).
(2) رواه أحمد والنسائي (نيل الأوطار، المكان السابق).
(3) شرح مسلم:101/ 9، المجموع:8/ 7، نيل الأوطار: 280/ 4، الدر المختار:
190/ 2، فتح القدير: 122/ 2.
(4) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن مسعود.
(3/2071)
وقد يحرم الحج كالحج بمال حرام، وقد يكره
كالحج بلا إذن ممن يجب استئذانه (1)، كأحد أبويه المحتاج إلى خدمته،
والأجداد والجدات كالأبوين عند فقدهما، وكالدائن الغريم لمدين لا مال له
يقضي به، وكالكفيل لصالح الدائن، فيكره خروجه بلا إذنهم أي الأب والدائن.
والكراهة عند الحنفية تحريمية.
وذكر المالكية والشافعية والحنفية أنه مع عصيان الحاج بمال حرام، فإنه يصح
الحج فرضاً أو نفلاً بالمال الحرام كالصلاة في الأرض المغصوبة، ويسقط عنه
الفرض والنفل، إذ لا منافاة بين الصحة والعصيان. وخالف الحنابلة فلم يجيزوا
الحج بالمال الحرام، إذ لا تصح عندهم الصلاة في الأرض المغصوبة.
نوع الفرضية: النُسُك إما فرض عين، وهو
على من لم يحج بالشروط الآتية، وإما فرض كفاية: وهو إحياء الكعبة كل سنة
بالحج والعمرة، وإما تطوع محض، ولا يتصور إلا في الأرقاء والصبيان، وإما
مندوب كل خمس سنوات.
تكرار العمرة: لا بأس عند الشافعية والحنابلة والحنفية أن يعتمر في السنة
مراراً (2)؛ لأن عائشة اعتمرت في شهر مرتين بأمر النبي صلّى الله عليه وسلم
عمرة مع قرانها، وعمرة بعد حجها، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال فيما
رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما».
وكره المالكية تكرار العمرة في السنة، وقال النخعي: ما كانوا يعتمرون في
السنة إلا مرة، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يفعله.
_________
(1) البدائع: 223/ 2، مغني المحتاج: 460/ 1،470، الشرح الكبير: 10/ 2.
(2) المغني:226/ 3، شرح مسلم: 118/ 9.
(3/2072)
هل وجوب الحج على
الفور أو على التراخي؟ للعلماء في ذلك اتجاهان:
قال أبو حنيفة وأبو يوسف والمالكية في أرجح القولين والحنابلة (1): يجب
الحج بعد توافر الاستطاعة وبقية الشروط الآتية على الفور في العام الأول،
أي في أول أوقات الإمكان، فيفسق وترد شهادته بتأخيره سنيناً؛ لأن تأخيره
معصية صغيرة، وبارتكابه مرة لا يفسق إلا بالإصرار، لأن الفورية ظنية، بسبب
كون دليلها ظنياً كما قال الحنفية، ويدل عليه أنه لو تراخى كان أداء، وإن
أثم بموته قبله، وقالوا: لو لم يحج حتى أتلف ماله، وسعه أن يستقرض ويحج،
ولو غير قادر على وفائه، ويرجى ألا يؤاخذه الله بذلك إذا كان ناوياً الوفاء
لو قدر. وذكر الحنابلة أن من فرط فيه حتى توفي أخرج عنه من جميع ماله حجة
وعمرة. واستدلوا بقوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه
سبيلاً} [آل عمران:97/ 3] وقوله: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة:196/
2] والأمر على الفور عندهم.
واستدلوا أيضاً بأحاديث منها: «حجوا قبل أن لا تحجوا» (2) وحديث «تعجَّلوا
إلى الحج يعني الفريضة، فإن أحدكم لا يدري ما يعرِض له» (3) وحديث «من لم
يحبسه مرض أو حاجة ظاهرة أو مشقة ظاهرة أو سلطان جائر، فلم يحج، فليمت
_________
(1) الدر المختار: 191/ 2 ومابعدها، البدائع: 119/ 2، الشرح الصغير: 4/ 2،
كشاف القناع: 465/ 2، المغني: 208/ 3، 241.
(2) حديث صحيح رواه الحاكم والبيهقي عن علي.
(3) رواه أحمد وأبو القاسم الأصبهاني عن ابن عباس، وفي سنده أبو إسرائيل
ضعيف الحفظ (نيل الأوطار:284/ 4).
(3/2073)
إن شاء يهودياً، وإن شاء نصرانياً» (1)
ورواية الترمذي: «من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله، ولم يحج فلا
عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً، وذلك لأن الله تعالى قال في كتابه:
{ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} (2) [آل عمران:97/ 3] وهي
مع غيرها تدل على وجوب الحج على الفور، فإنه ألحق الوعيد بمن أخر الحج عن
أول أوقات الإمكان؛ لأنه قال: «من ملك .. فلم يحج» والفاء للتعقيب بلا فصل،
أي لم يحج عقب ملك الزاد والراحلة، بلا فاصل.
وقال الشافعية (3) ومحمد من الحنفية: وجوب الحج على التراخي، وليس معناه
تعين التأخير، بل بمعنى عدم لزوم الفور، ويسن لمن وجب عليه الحج أوالعمرة
بنفسه أو بغيره ألا يؤخر ذلك عن سنة الإمكان، مبادرة إلى براءة ذمته،
ومسارعة إلى الطاعات، لقوله تعالى: {فاستبقوا الخيرات} [البقرة:148/ 2]
ولأنه إذا أخره عرّضه للفوات ولحوادث الزمان. ويجوز أن يؤخره من سنة إلى
سنة؛ لأن فريضة الحج نزلت على المشهور عندهم سنة ست، فأخر النبي صلّى الله
عليه وسلم إلى سنة عشر من غير عذر، فلو لم يجز التأخير لما أخره.
وهذا الرأي أولى ليسره على الناس وعدم الحكم بالتأثيم، ولأن الأحاديث التي
احتج بها الجمهور كلها ضعيفة، والحج فرض سنة ست عند نزول سورة آل عمران،
كما حقق الشافعية، ومن قال: إنه فرض سنة عشر فقد أخطأ؛ لأن السورة نزلت
قبلها قطعاً، لكن تعجيل الحج ضروري للاحتياط.
_________
(1) رواه سعيد بن منصور وأحمد وأبو يعلى والبيهقي عن أبي أمامة مرفوعاً،
وفيه ليث بن أبي سليم ضعيف (المرجع السابق).
(2) قال الترمذي: غريب، في إسناده مقال، وفيه ضعف.
(3) شرح المجموع: 82/ 7 ومابعدها، المهذب: 199/ 1، الإيضاح: ص 17، مغني
المحتاج: 460/ 1، 470.
(3/2074)
حكم العمرة:
قال الحنفية على المذهب والمالكية على أرجح القولين (1): العمرة سنة
(مؤكدة) مرة واحدة في العمر؛ لأن الأحاديث المشهورة الثابتة الواردة في
تعداد فرائض الإسلام لم يذكر منها العمرة، مثل حديث ابن عمر: «بني الإسلام
على خمس» فإنه ذكر الحج مفرداً، وروى جابر أن أعرابياً جاء إلى رسول الله
صلّى الله عليه وسلم، فقال: «يا رسول الله، أخبرني عن العمرة، أواجبة هي؟
فقال: لا، وأن تعتمر خير لك» (2) وفي رواية «أولى لك».
وروى أبو هريرة: «الحج جهاد والعمرة تطوع» (3).
وقال الشافعية في الأظهر، والحنابلة (4): العمرة فرض كالحج، لقوله تعالى:
{وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة:196/ 2] أي ائتوا بهما تامين ومقتضى
الأمر الوجوب، ولخبر عائشة رضي الله عنها قالت: «قلت: يا رسول الله، هل على
النساء جهاد؟ قال: نعم، جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة» (5).
ويظهر لي أن الرأي الثاني أصح، لدلالة هذه الآية، ولضعف أحاديث الفريق
الأول.
_________
(1) الدر المختار: 206/ 2، فتح القدير: 306/ 2، البدائع: 226/ 2، مراقي
الفلاح: ص126، الشرح الصغير: 4/ 2، القوانين الفقهية: ص142، بداية المجتهد:
1312/ 1. ويلاحظ أن الكاساني في البدائع اختار القول بوجوب العمرة كصدقة
الفطر والأضحية والوتر.
(2) رواه الترمذي وصححه أحمد والبيهقي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد (نيل
الأوطار: 281/ 4) لكن في إسناده الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف، وتصحيح الترمذي
له فيه نظر؛ لأن الأكثر على تضعيف الحجاج، قال النووي: اتفق الحفاظ على
ضعفه.
(3) رواه الدارقطني والبيهقي وابن حزم، وإسناده ضعيف، كما قال الحافظ ابن
حجر، وقال أيضاً: ولا يصح من ذلك شيء (نيل الأوطار، المكان السابق).
(4) مغني المحتاج: 460/ 1، الإيضاح في مناسك الحج للنووي، ص 71،
المغني:223/ 3 ومابعدها.
(5) رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما بأسانيد صحيحة.
(3/2075)
وذكر الحنابلة عن أحمد: أنه ليس على أهل مكة عمرة، بدليل أن ابن عباس كان
يرى العمرة واجبة، ويقول: يا أهل مكة، ليس عليكم عمرة، إنما عمرتكم طوافكم
بالبيت. وروي أيضاً عن عطاء، لأن ركن العمرة ومعظمها بالطواف بالبيت، وهم
يفعلونه، فأجزأ عنهم. |