الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

المبحث الثالث ـ مواقيت الحج والعمرة الزمانية والمكانية:
وفيه مطلبان:

المطلب الأول ـ وقت الحج والعمرة:
1 - وقت الحج: للحج وقت معين، أشار إليه القرآن الكريم في آية: {يسألونك عن الأهلة قل: هي مواقيت للناس والحج} [البقرة:189/ 2] وقوله تعالى: {الحج أشهرٌ معلومات} [البقرة:179/ 2] أي معظمه في أشهر معلومات.
وأشهر الحج عند المالكية (1): هي الأشهر الثلاثة كلها: وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة (2)، فهي كلها محل للحج، لعموم قوله سبحانه: {الحج أشهرٌ معلومات} [البقرة:197/ 2] فوجب أن يطلق على جميع أيام ذي الحجة؛ لأن أقل الجمع ثلاثة. ويبتدئ وقت الإحرام من أول شوال في أول ليلة عيد الفطر، ويمتد لفجر يوم النحر (الأضحى)، فمن أحرم قبل فجر الأضحى بلحظة، وهوبعرفة، فقد أدرك الحج، وبقي عليه طواف الإفاضة والسعي بعدها؛ لأن الركن عندهم الوقوف بعرفة ليلاً، وقد حصل.
ويكره الإحرام قبل بدء شوال، لكنه ينعقد ويصح عندهم، كما يكر هـ الإحرام قبل مكانه المخصص له الآتي بيانه. والسبب في صحة الإحرام قبل ميقاته الزماني والمكاني: أنه وقت كمال، لا وقت وجوب.
_________
(1) بداية المجتهد:315/ 1، الشرح الصغير: 17/ 2 ومابعدها، الشرح الكبير: 21/ 2 ومابعدها.
(2) قال عمر وابنه وابن عباس: «أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة».

(3/2121)


ويجزئ تأخر طواف الإفاضة إلى آخر شهر ذي الحجة.
فالمدة من بدء شوال لما قبيل فجر يوم الأضحى: وقت لجواز ابتداء الإحرام بالحج. ومن طلوع فجر الأضحى لآخر ذي الحجة: وقت لجواز التحلل من الحج. والأفضل لأهل مكة الإحرام من أول ذي الحجة على المعتمد.
وأشهر الحج عند الحنفية والحنابلة (1): شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، لما روي عن العبادلة الأربعة (ابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير) ولقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «يوم الحج الأكبر: يوم النحر» (2)، فكيف يجوز أن يكون يوم الحج الأكبر ليس من أشهره؟ ولأن يوم النحر فيه ركن الحج، وهو طواف الزيارة، وفيه كثير من أفعال الحج، كرمي جمرة العقبة والنحر والحلق والطواف والسعي والرجوع إلى منى، ولأن الحج يفوت بمضي عشر ذي الحجة، ومع بقاء الوقت لا يتحقق الفوات.
وهذا يدل على أن المراد من قوله تعالى: {الحج أشهرٌ معلومات} [البقرة:197/ 2] شهران وبعض الثالث، لا كله. وما بعد عشر ذي الحجة ليس من أشهره؛ لأنه ليس بوقت لإحرامه ولا لأركانه، فهو كالمحرَّم.
ولا يمتنع التعبير بلفظ الجمع عن شيئين وبعض الثالث، كالقروء الثلاثة يحتسب منها الطهر الذي طلقها فيه، وقوله تعالى في الآية السابقة: {فمن فرض فيهن الحج} أي في أكثرهن.
فإن قدم الإحرام بالحج على هذه الأشهر، جاز إحرامه، وانعقد حجاً، ولا ينقلب عمرة، لعموم قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة:196/ 2]
_________
(1) فتح القدير: 220/ 2 ومابعدها، الكتاب مع اللباب: 198/ 1، المغني: 271/ 3، 295، كشاف القناع: 472/ 2.
(2) رواه أبو داود، وروى البخاري أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم النحر: «هذا يوم الحج الأكبر».

(3/2122)


لكن لا يجوز له شيء من أفعال الحج إلا في أشهره، فمتى أحرم انعقد إحرامه؛ لأنه مأمور بالإتمام، ولأن الإحرام عند الحنفية شرط، فأشبه الطهارة في جواز التقديم على الوقت، ولأن الإحرام تحريم أشياء وإيجاب أشياء، وذلك يصح في كل زمان، فصار كتقديم الإحرام على الميقات المكاني، فهم شبهوا ميقات الزمان بميقات المكان، وعلى كل: يكره الإحرام بالحج قبل أشهر الحج، لما أخرجه البخاري عن ابن عباس: «من السنة ألا يُحرَم بالحج إلا في أشهر الحج».
وأما الشافعية (1) فقالوا كالحنفية والحنابلة: أشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة: وهو إلى أن يطلع الفجر من يوم النحر، لكنهم رأوا أنه إن أحرم شخص بالحج في غير أشهره، انعقد إحرامه بالعمرة؛ لأنها عبادة مؤقتة، فإذا عقدها في غير وقتها، انعقد غيرها من جنسها، كصلاة الظهر إذا أحرم بهاقبل الزوال، فإنه ينعقد إحرامه بالنفل، فهم شبهوا ميقات الزمان بوقت الصلاة، فلا يقع الحج قبل الوقت. ودليلهم الآية: {الحج أشهرٌ معلومات} [البقرة:197/ 2] تقديره وقت الحج أشهر، أو أشهر الحج أشهر معلومات، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، ومتى ثبت أنه وقته، لم يجز تقديم إحرامه عليه كأوقات الصلوات.
ولا يصح في السنة الواحدة أكثر من حجة؛ لأن الوقت يستغرق أفعال الحجة الواحدة، فلا يمكن أداء الحجة الأخرى.

2 - وقت العمرة: اتفق العلماء (2) على أن العمرة تجوز في أي وقت من أوقات السنة، في أشهر الحج وغيرها، أي إن ميقات العمرة الزماني جميع العام، فهو وقت لإحرام العمرة، لعدم المخصص لها بوقت دون آخر، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم
_________
(1) مغني المحتاج: 471/ 1، المهذب: 200/ 1.
(2) اللباب:215/ 1، بداية المجتهد: 315/ 1، المجموع: 133/ 7 ومابعدها، المهذب: 200/ 1، مغني المحتاج: 471/ 1، كشاف القناع: 472/ 2، المغني: 226/ 3، القوانين الفقهية: ص130.

(3/2123)


اعتمر عمرتين في ذي القعدة وفي شوال (1)، وقال عليه الصلاة والسلام: «عمرة في رمضان تعدل حجة» (2) وقال فيما رواه مسلم: «دخلت العمرة في الحج ـ مرتين، لا بل لأبد أبد» ومعناه في أصح الأقوال أن العمرة يجوز فعلها في أشهر الحج إلى يوم القيامة، والمقصود به إبطال ماكانت الجاهلية تزعمه من امتناع العمرة في أشهر الحج.

تفصيل القول في تكرار العمرة: لا يكره عند الجمهور تكرار العمرة في السنة، فلا بأس أن يعتمر في السنة مراراً، لحديث عائشة السابق من اعتماره عليه السلام عمرتين في ذي القعدة وشوال، أي في آخر شوال وأول ذي القعدة.
وحديث أنس في الصحيحين: «اعتمر صلّى الله عليه وسلم أربع عمر، كلهن في ذي القعدة التي مع حجته» وحديث أبي هريرة في الصحيحين أيضا: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما» وبناء عليه قال الشافعية: يسن الإكثار من العمرة، ولو في اليوم الواحد، إذ هي أفضل من الطواف على المعتمد، لكن حديث عائشة هو أقوى الأدلة، وأما الأحاديث الأخرى فليست دلالاتها ظاهرة من سنة واحدة.
وقال المالكية: تكره العمرة في السنة أكثر من مرة؛ لأنها عبادة تشتمل على الطواف والسعي، فلا تفعل في السنة إلا مرة، كالحج. ونوقش ذلك بأن الحج مؤقت لا يتصور تكراره في السنة، والعمرة غير مؤقتة، فتصور تكرارها كالصلاة.

متى تكره العمرة؟ يكره فعل العمرة كراهة تحريم عند الحنفية في يوم عرفة (الوقفة) ويوم النحر (العيد) وأيام التشريق الثلاثة عقب العيد؛ لأنها أيام الحج، فكانت متعينة له.
_________
(1) رواه أبو داود في سننه بإسناد صحيح عن عائشة.
(2) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن أم معقل الصحابية رضي الله عنها، ورواه البخاري ومسلم عن ابن عباس.

(3/2124)


وقال المالكية: يستثنى المحرم بحج من كون وقت العمرة جميع العام، فلا يصح إحرامه بعمرة إلا إذا فرغ من جميع أفعال الحج من طواف وسعي ورمي لجميع الجمرات، إن لم يتعجل، وبقدر رميها من اليوم الرابع بعد الزوال إن تعجل، أي إنه لا يصح إحرامه بالعمرة إلا بعد الفراغ بالفعل من رمي اليوم الرابع إن لم يتعجل، أو بقدره إذا تعجل بأن قدم طوافه وسعيه.
وكره الإحرام بعد رميه اليوم الرابع إلى الغروب منه، فإن أحرم بها بعد الرمي في اليوم الرابع وقبل الغروب صح إحرامه ووجب عليه تأخير طوافه وسعيه بعد الغروب، وإلا لم يعتد بفعله على المذهب، وأعادهما بعده، وإلا فهو باق على إحرامه أبداً.
وقال الشافعية: يمتنع على الحاج الإحرام بالعمرة، ما دام عليه شيء من أعمال الحج، كالرمي؛ لأن بقاء حكم الإحرام كبقاء الإحرام نفسه، ولا تكره في وقت، ولا يكره تكرارها كما تقدم بيانه.
ورأى الحنابلة: أنه لا كراهة للعمرة بالإحرام بها يوم النحر ويوم عرفة وأيام التشريق، كالطواف المجرد؛ إذ الأصل عدم الكراهة، ولا دليل عليها.

المطلب الثاني ـ ميقات الحج والعمرة المكاني:
الميقات لغة: الحد، وشرعاً: موضع وزمان معين لعبادة مخصوصة. ولا يجوز للإنسان أن يجاوز الميقات إلا محرماً بحج أو عمرة، وإلا وجب عليه دم أو العودة إليه. فإن قدم الإحرام على الميقات جاز بالاتفاق. وهو أفضل عند الحنفية إن أمن اقتراف المحظورات. ودليل الجواز والأفضلية قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة:196/ 2] وإتمامهما أن يحرم بهما من دويرة أهله، كما قال علي وابن مسعود، ولأن إتمام الحج مفسر به، والمشقة فيه أكثر والتعظيم أوفر.

(3/2125)


ويختلف نوع الميقات بين من كان بمكة وبين الآفاقي: القادم لمكة من غير أهلها (1).

أولاً ـ ميقات من كان مقيماً بمكة: من كان بمكة مكياً أو آفاقياً فميقاته في الحج: الحَرم ـ مكة نفسها؛ لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يحرموا بالحج من جوف مكة، فقال: «حتى أهل مكة يهلّون منها» (2) ومثله من منزله في الحرم خارج مكة، وندب إحرامه في المسجد الحرام.
وميقاته في العمرة: من أدنى الحِلّ ولو بأقل من خطوة من أي جانب شاء، ليتحقق وقوع السفر؛ لأن أداء الحج في عرفة، وهي في الحل، فيكون الإحرام من الحرم، وأداء العمرة في الحرم. فيكون الإحرام من الحِلّ ليجمع في إحرامه بين الحل والحرم، إذ هو شرط في كل إحرام. فإن أحرم بها في الحرم، انعقد وعليه دم إلا إن خرج بعد إحرامه إليه.
وأفضل بقاع الحل للإحرام بالعمرة: الجِعْرانة عند الشافعية؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم اعتمر منها، كما روى الشيخان، ثم التنعيم لأمره صلّى الله عليه وسلم عائشة بالاعتمار منه، ثم الحديبية (3). وأفضلها عند الحنفية والحنابلة: التنعيم؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «أمر
_________
(1) فتح القدير: 131/ 2 - 134، البدائع: 163/ 2 - 167، اللباب: 178/ 1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 130، حاشية الباجوري: 328/ 1، الشرح الكبير: 22/ 2، الشرح الصغير: 18/ 2 - 25، مغني المحتاج: 473/ 1 - 476، المهذب: 202/ 1 - 204، كشاف القناع: 466/ 2 - 469، المغني: 257/ 3 - 267.
(2) رواه الشيخان. وروى مسلم عن جابر: «أمرنا النبي صلّى الله عليه وسلم لما حللنا أن نحرم من الأبطح» (نصب الراية: 16/ 3).
(3) الجعرانة: قرية في طريق الطائف على ستة فراسخ من مكة. والتنعيم: المكان المعروف بمساجد عائشة. والحديبية: بئر بين طريقي جدة والمدينة على ستة فراسخ من مكة.

(3/2126)


عبد الرحمن بن أبي بكر أن يُعمر عائشة من التنعيم» (1) لأنها أقرب الحل إلى مكة، ثم الجعرانة، ثم الحديبية.
وللشخص عند المالكية: أن يحرم من الجعرانة أو التنعيم.

ثانياً ـ أهل الحل: وهم الذين منازلهم داخل المواقيت الخمسة كأهل بستان بني عامر وغيرهم، فهم داخل المواقيت وخارج الحرم.
قال المالكية: من كان منزله أقرب إلى مكة من الميقات، فميقاته من منزله في الحج أو العمرة.
وقال الشافعية والحنابلة: من سلك طريقاً لا ينتهي إلى ميقات، أحرم من محاذاته في بر أو بحر، فإن حاذى ميقاتين أحرم من محاذاة أقربهما إليه، فإن استويا في القرب إليه أحرم من محاذاة أبعدهما من مكة، وإن لم يحاذ ميقاتاً أحرم على مرحلتين من مكة. ومن مسكنه بين مكة والميقات، فيمقاته مسكنه.
ومن جاوز ميقاتاً وهو غير مريد للنسك، ثم أراده، فميقاته موضعه.
وقال الحنفية: ميقات أهل الحل للحج أو العمرة دويرة أهلهم، أو من حيث شاؤوا من الحل الذي بين دويرة أهلهم وبين الحرم، لقوله عز وجل: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة:196/ 2] وقد فسرها علي وابن مسعود بأن تحرم بهما من دويرة أهلك. فلا يجوز لهم أن يجاوزوا ميقاتهم للحج أو العمرة إلا محرمين. والحل الذي بين دويرة أهلهم وبين الحرم كشيء واحد، فيجوز إحرامهم إلى آخر أجزاء الحل.
_________
(1) متفق عليه.

(3/2127)


والخلاصة: إن ميقات الحج والعمرة لمن كان داخل المواقيت هو بالاتفاق: الحل وذلك من أماكنهم، ويجوز لهم عند الحنفية دخول مكة لحاجة من غير إحرام.

ثالثاً ـ الآفاقي أو أهل الآفاق: وهم الذين منازلهم خارج المواقيت التي وقَّت لهم ولمن مر عليها من غيرهم ممن أراد الحج أو العمرة رسول ُ الله صلّى الله عليه وسلم وهي خمسة، كما في حديث الصحيحين عن ابن عباس: «أنه صلّى الله عليه وسلم وقَّت لأهل المدينة ذا الحُلَيفة، ولأهل الشام الجُحْفة، ولأهل نجد قَرْن المنازل، ولأهل اليمن يَلَمْلَم، وقال: فهنّ لهنّ، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، لمن كان يريد الحج والعمرة،
فمن كان دونهن فمهَلُّه من أهله، وكذلك حتى أهل مكة يُهلُّون منها» (1) فإنه شمل أربعة مواقيت.
وأما ذات عرق: ففي صحيح مسلم عن جابر مرفوعاً قال: «مَهَلّ أهل المدينة من ذي الحليفة والطريقِ الآخر من الجحفة، ومَهلُّ أهل العراق من ذات عِرْق» (2).
هذه هي المواقيت الخمسة لغير المقيم بمكة، منقسمة بحسب جهات الحرم، ولا يجوز أن يتجاوزها الإنسان مريداً مكة بالحج أو بالعمرة، إلا محرماً بأحد هذين النسكين وهي ما يأتي:
1 - ميقات أهل المدينة: ذو الحليفة (آبار علي): مكان على ستة أميال من المدينة، وعشر مراحل من مكة، فهو أبعد المواقيت (460 كم).
2 - ميقات أهل الشام ومصر والمغرب كله: الجُحفة (رابغ): موضع على
_________
(1) نيل الأوطار: 295/ 4.
(2) نيل الأوطار: 295/ 4.

(3/2128)


ثلاث مراحل من مكة (187 كم). وبما أن أهل الشام الآن يمرون بميقات أهل المدينة وبهذا الميقات، فيخيرون بالإحرام منهما؛ لأن الواجب على من مرّ بميقاتين ألا يتجاوز آخرهما إلا محرماً، ومن الأول أفضل.
3 - ميقات أهل العراق وغيرهم من أهل المشرق: ذات عِرْق: قرية على مرحلتين من مكة مشرفة على وادي العقيق، في الشمال الشرقي من مكة (194كم).
4 - ميقات أهل اليمن وتهامة والهند: يَلَمْلَم: جبل جنوبي مكة على مرحلتين منها.
5 - ميقات أهل نجد والكويت والإمارات والطائف: قَرْن المنازل: جبل على مرحلتين من مكة، ويقال له أيضاً قرن الثعالب. وهو قريب من المكان المسمى الآن بالسيل (94 كم).
ومن تجاوز الميقات دون إحرام وجب عليه الدم إلا إذا عاد إليه، ولا يسقط عنه الدم عند المالكية، وإن رجع إليه بعد إحرامه، على تفصيل سيأتي. وإذا تجاوز الميقات بنية الإقامة في مكان غير الحرم، جاز له ذلك إذا نوى الإقامة مدة خمسة عشر يوماً عند الحنفية، فهي أقل مدة الإقامة في مذهبهم؛ لأن حكم الوطن لا يثبت إلا بنية الإقامة لتلك المدة.

من حاذى الميقات ومن لم يحاذه: من سلك طريقاً في بر أو بحر أو جو بين ميقاتين، فإنه يجتهد حتى يكون إحرامه بحذو الميقات الذي هو إلى طريقه أقرب، ويحرم من محاذاة أقرب الميقاتين إليه، وإن كان الآخر أبعد إلى مكة. فإن استويا في القرب إليه، أحرم من محاذاة أبعدهما من مكة. وإن لم يعرف حذو الميقات المقارب لطريقه، احتاط فأحرم من بعد، بحيث يتيقن أنه لم يجاوز الميقات إلا

(3/2129)


محرماً؛ لأن الإحرام قبل الميقات جائز، وتأخيره عنه لا يجوز، فالاحتياط فعل ما لا شك فيه. وإن لم يحاذ ميقاتاً مما سبق، أحرم على مرحلتين (89 كم) من مكة، إذ لا ميقات أقل مسافة من هذا القدر.

حكم الداخل إلى مكة بعد أن حج واعتمر: قال الشافعية (1): من حج واعتمر حجة الإسلام وعمرته، ثم أراد دخول مكة لحاجة لا تتكرر، كزيارة أوتجارة أو رسالة، أو كان مكياً مسافراً، فأراد دخولها عائداً من سفره، فهل يلزمه الإحرام بحج أو عمرة؟ فيه تفصيل:
أـ إن دخلها لقتال بغاة أو قطاع طريق أو غيرهما من القتال الواجب أوالمباح، أو دخلها خائفاً من ظالم أو غريم يمسه، وهو معسر لا يمكنه الظهور لأداء النسك إلا بمشقة ومخاطرة، لم يلزمه الإحرام بلا خلاف؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح بغير إحرام (2)؛ لأنه كان لا يأمن أن يقاتل.
ب ـ يستحب لكل داخل إلى مكة لا يتكرر دخوله الإحرام، ويكره الدخول بغير إحرام، فمن دخل مكة لحاجة لا تتكرر كالتجارة والزيارة وعيادة المريض، فالأصح عند الشافعية أنه يستحب له الإحرام، ولا يجب مطلقاً. وقال مالك وأحمد: يلزمه، وقال أبو حنيفة: إن كانت داره في الميقات أو أقرب إلى مكة، جاز دخوله بلا إحرام، وإلا فلا.
جـ ـ من كان يتكرر دخوله كالحطاب والحشاش والصياد والسقّاء والبريد والسائقين ونحوهم، يجوز دخوله بغير نسك، لما روى ابن عباس: «لا يدخل أحد
_________
(1) المجموع: 10/ 7 - 16، المهذب: 195/ 1، الدر المختار: 212/ 2 ومابعدها، الشرح الصغير: 24/ 2، المغني: 268/ 3 وما بعدها.
(2) رواه مسلم والنسائي عن جابر (نيل الأوطار: 300/ 4).

(3/2130)


مكة إلامحرماً، ورخص للحطابين» (1) ولأن في إيجاب الإحرام على هؤلاء مشقة.
وأما أهل الحرم: فلا إحرام عليهم بالدخول إلى مكة بلا خلاف، كما لا تشرع تحية المسجد لمن انتقل من موضع منه إلى موضع آخر منه.
ومن أراد دخول الحرم ولم يرد دخول مكة، فحكمه حكم دخول مكة، على التفصيل والخلاف السابق.
وإذا وجب الإحرام لدخول الحرم، فدخل بغير إحرام، عصى، ولا يلزمه القضاء عند الشافعية على المذهب، خوفاً من التسلسل، قال بعض الشافعية: كل عبادة واجبة إذا تركها لزمه القضاء أو الكفارة إلا الإحرام لدخول مكة، وإمساك يوم الشك إذا ثبت أنه من رمضان، فمن ترك مع أنه يجب عليه إمساكه، لم يلزمه قضاء الإمساك ولا الكفارة.
وقال أبو حنيفة: يلزمه القضاء؛ إذ يجب قضاء كل الواجبات.
د ـ من لا يكلف الحج كالعبد والصبي والكافر إذا أعتق العبد أو بلغ الصبي أو أسلم الكافر، وأرادوا الإحرام: فإنهم عند الحنابلة والمالكية يحرمون من موضعهم ولا دم عليهم؛ لأنهم أحرموا من الموضع الذي وجب عليهم الإحرام معه، فأشبهوا المكي ومن قريته دون الميقات إذا أحرم منها.
ويجب على جميعهم الدم عند الشافعية؛ لأن كل واحد منهم ترك الواجب عليه.
وقال الحنفية: لا دم على الكافر الذي يسلم، والصبي الذي يبلغ، وأما العبد فعليه دم.
_________
(1) رواه ابن أبي شيبة، وفيه راو ضعيف (المرجع السابق، نصب الراية: 15/ 3).

(3/2131)


هل الإحرام من الميقات أفضل أو من دار أهله؟ قال الحنفية (1): الإحرام من بلده أفضل إن كان في أشهر الحج، وأمن على نفسه، لقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة} [البقرة:196/ 2] قال علي وابن مسعود: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «من أحرم من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام بحج أوعمرة، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أو وجبت له الجنة» (2)، ولأنه أكثر عملاً، وأحرم عمر من إيليا (القدس)، وقال للضبِّي بن معبد الذي أحرم من داره: «هديت لسنة نبيك صلّى الله عليه وسلم» (3).
وقال جمهور الفقهاء (4): الإحرام من الميقات أفضل، لأنه الموافق للأحاديث الصحيحة، ولفعل النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، فإنهم أحرموا من الميقات، ولا يفعلون إلا الفضل، وأحرم النبي بحجة الوداع من الميقات بالإجماع، وكذا في عمرة الحديبية، كما رواه البخاري في المغازي، ولأن في مصابرة الإحرام بالتقدم عن الميقات عسراً وتغريراً بالعبادة، وإن كان جائزاً.
ويدل له قوله صلّى الله عليه وسلم: «يستمتع أحدكم بحله ما استطاع، فإنه لا يدري ما يعرض له في إحرامه» (5)، وروى الحسن «أن عمران بن حصين أحرم من مصره، فبلغ ذلك عمر، فغضب: وقال: يتسامع الناس أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم أحرم من مصره» وقال: «إن عبد الله بن عامر أحرم من خراسان، فلما قدم
_________
(1) البدائْع: 164/ 2، اللباب: 178/ 1.
(2) رواه أبو داود وأحمد عن أم سلمة، وفي لفظ رواه ابن ماجه: «من أهل بعمرة من بيت المقدس غفر له» وهو ضعيف (نيل الأوطار: 298/ 4).
(3) رواه النسائي وأبو داود.
(4) بداية المجتهد: 314/ 1، مغني المحتاج: 475/ 1، المغني: 264/ 3.
(5) رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أبي أيوب.

(3/2132)


على عثمان، لامه فيما صنع، وكرهه له» (1) قال البخاري: «كره عثمان أن يحرم من خراسان أو كرمان».
وهذا هو الأرجح لدي دفعاً للمشقة عن النفس، وبعداً عن التعرض لفعل محظورات الإحرام. وأما حديث الإحرام من بيت المقدس فيه ضعف، وأما قول عمر للضبي: «هديت لسنة نبيك» فإنه يعني في القران بين الحج والعمرة، لا في الإحرام من قبل الميقات، فإن سنة النبي صلّى الله عليه وسلم الإحرام من الميقات. وأما قول عمر وعلي: «إتمام العمرة أن تنشئها من بلدك» فمعناه أن تنشئ لها سفراً من بلد ك، تقصد له، ليس أن تحرم بها من دويرة أهلك. وهذا ما فسره به سفيان وأحمد، ولا يصح أن يفسر بالإحرام نفسه، فإن النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه ما أحرموا بها من بيوتهم.

جزاء من تجاوز الميقات بدون إحرام: لو جاوز الشخص ميقاتاً من المواقيت الخمسة، يريد الحج أو العمرة، بغير إحرام، ثم عاد قبل أن يحرم، وأحرم من الميقات، وجاوزه محرماً، لا يجب عليه دم بالإجماع؛ لأنه لما عاد إلى الميقات قبل أن يحرم، وأحرم، التحقت تلك المجاوزة بالعدم، وصار هذا ابتداء إحرام منه.
أما لو أحرم بعدما جاوز الميقات قبل أن يعمل شيئاً من أفعال الحج، ثم عاد إلى الميقات، ففيه آراء للفقهاء (2)، علماً بأن هذه الآراء تنطبق عند الحنفية على المكي الذي ترك ميقاته، فأحرم للحج من الحل، والعمرة من الحرم:
1 - قال أبو حنيفة: إن عاد إلى الميقات، ولبى، سقط عنه الدم، وإن لم يلب
_________
(1) رواهما سعيد والأثرم.
(2) البدائع: 165/ 2 - 167، الشرح الصغير: 24/ 2 ومابعدها، الشرح الكبير: 24/ 2 ومابعدها، مغني المحتاج: 474/ 1 وما بعدها، المغني: 261/ 3، 266.

(3/2133)


لا يسقط، لقول ابن عباس للذي أحرم بعد الميقات: «ارجع إلى الميقات، فلبّ، وإلا فلا حج لك» أوجب التلبية من الميقات، فلزم اعتبارها.
2 - قال الصاحبان والشافعية والحنابلة: من جاوز الميقات، فأحرم، لزمه دم إن لم يعد، وإن أحرم ثم عاد قبل تلبسه بنسك كالطواف سقط عنه الدم، لبى أو لم يلب، علم تحريم ذلك أو جهله؛ لأن حق الميقات في مجاوزته إياه محرماً، لا في إنشاء الإحرام منه، وسقوط الدم عنه لما روى ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من ترك نسكاً، فعليه دم» (1). وإن تجاوز الميقات بغير إحرام لزمه العود ليحرم منه، إلا إذا ضاق الوقت أو كان الطريق مخوفاً.
وينطبق هذا على المكي بالحرم إن لم يخرج إلى الميقات، وأتى بأفعال العمرة، عليه دم، وأجزأته، فلو خرج إلى الحل بعد إحرامه سقط الدم، كما لو جاوز الميقات ثم عاد إليه محرماً.
ولو أفسد المحرم من دون الميقات حجه، لم يسقط عنه الدم عند الحنابلة والشافعية. وقال الحنفية: يسقط؛ لأن القضاء واجب.
3 - وقال المالكية: من تجاوز الميقات وأحرم، لم يلزمه الرجوع إليه، وعليه الدم، لتعديه الميقات حلالاً، ولا يسقط عنه رجوعه له بعد الإحرام، لتعديه.
فإن لم يكن أحرم وجب الرجوع للميقات إلا لعذر كخوف فوات لحجة لو رجع، أو فوات رفقة، أو خاف على نفس أو مال أو عدم قدرة على الرجوع، فلا يجب عليه الرجوع حينئذ، ويجب عليه الدم لتعديه الميقات حلالاً.
_________
(1) روي موقوفاً ومرفوعاً، والموقوف رواه مالك وغيره بإسناد صحيح، بلفظ: «من نسي من نسكه شيئاً أو تركه، فليهرق دماً».

(3/2134)