الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي المبحث السادس -
واجبات الحج:
واجبات الحج والعمرة التي يجزئ الدم بتركها مختلف فيها بين الفقهاء كما
عرفنا: فواجبات الحج عند الحنفية اثنان وعشرون وأوصلها في كتاب اللباب إلى
خمسة وثلاثين، منها:: السعي، والوقوف بالمزدلفة ولو بمقدار لحظة في النصف
الثاني من الليل، ورمي الجمار، والحلق أو التقصير، وطواف الوداع. وذلك عند
الحنفية للآفاقي غير الحائض، أي من هو خارج المواقيت.
وواجبات العمرة عندهم اثنان: السعي، والحلق أو التقصير.
وواجبات الحج عند المالكية خمسة: طواف القدوم على الأصح، والوقوف
بالمزدلفة، ورمي الجمار، والحلق أو التقصير على المشهور والمبيت بمنى،
وواجب العمرة هو الحلق أو التقصير.
وواجبات الحج عند الشافعية خمسة: الإحرام من الميقات الزماني والمكاني،
ورمي الجمار، والمبيت في المزدلفة أي الوقوف فيها، والمبيت بمنى على
الراجح، وطواف الوداع. وأعمال العمرة كلها أركان عندهم، إلا الإحرام من
الحل فإنه واجب، كما أن الحلق أو التقصير ركن في الحج والعمرة على المشهور.
وواجبات الحج عند الحنابلة ستة: إحرام من الميقات، ووقوف بعرفة نهاراً
للغروب، ومبيت بمزدلفة لبعد نصف الليل، ومبيت بمنى، ورمي الجمرات مرتباً،
وحلق أو تقصير، وطواف وداع.
وواجبات العمرة اثنان: حلق أوتقصير، وإحرام من الحل. وقد بينت أحكام
الإحرام من الميقات، والسعي، وأنواع الطواف، وبقي علينا بحث الواجبات
الأخرى فيما يلي:
(3/2244)
المطلب الأول ـ
الوقوف بالمزدلفة:
صفته الشرعية، ركنه، مكانه، زمانه، حكم فواته عن وقته، سننه (1).
أولاً ـ صفة الوقوف بالمزدلفة: الوقوف بالمزدلفة واجب باتفاق المذاهب لا
ركن، فمن تركه لزمه دم، والمبيت بها واجب عند الحنابلة، سنة عند الحنفية،
والمالكية، وعند الشافعية قولان: واجب أو سنة، والراجح عند النووي والسبكي
الوجوب، ومحل القولين: حيث لا عذر، أما المعذور فلا دم عليه جزماً، ومن
المعذورين: من جاء عرفة ليلاً فاشتغل بالوقوف عنه، ومن أفاض من عرفة إلى
مكة وطاف للركن وفاته الوقوف بمزدلفة، قال الأذرعي: وينبغي حمله على من لم
يمكنه الدفع إلى المزدلفة، أي بلا مشقة، فإن أمكنه وجب جمعاً بين الواجبين.
ومن المعذورين: ما لو خافت المرأة طروء الحيض أو النفاس فبادرت إلى مكة
بالطواف. وفي كفاية الاختيار: المبيت بالمزدلفة سنة، وقدر الواجب عند
الحنفية: ساعة ولو لطيفة ولو ماراً، كما في عرفة، وقدر السنة: امتداد
الوقوف إلى الإسفار جداً.
وعند الحنابلة: البقاء بها لما بعد منتصف الليل، فإن دفع بعد نصف الليل فلا
شيء عليه، وعند الشافعية: الحصول بها لحظة فيما بعد منتصف الليل.
وعند المالكية: بقدر حط الرحال وصلاة العشاءين، وتناول شيء من أكل أو
_________
(1) البدائع:135/ 2 ومابعدها،155 ومابعدها، الدر المختار:214/ 2 - 245، فتح
القدير:169/ 2 - 173، اللباب:186/ 1 ومابعدها، الشرح الصغير: 57/ 2
ومابعدها، القوانين الفقهية: ص133، الإيضاح: ص55 ومابعدها، مغني
المحتاج:499/ 1 ومابعدها،409/ 1 ومابعدها، المغني:417/ 2 - 426،450 - 456،
شرح المجموع: 120/ 8، كفاية الاختيار: 430/ 1.
(3/2245)
شرب فيها. ورأي الجمهور غير الحنابلة أيسر
المذاهب الذي يسع الناس الآن لكثرة الحجيج وصعوبة المبيت.
وأما إتيان المشعر الحرام: وهو جبل قُزَح في المزدلفة فهو مستحب عند
الحنفية، سنة على المعتمد عند المالكية، وسنة عند الشافعية والحنابلة.
ودليل وجوب المبيت بالمزدلفة: قوله تعالى: {فإذا أفضتم من عرفات، فاذكروا
الله عند المشعر الحرام} [البقرة:198/ 2] وقول النبي صلّى الله عليه وسلم:
«من شهد صلاتنا هذه ـ أي صلاة الفجر ـ ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة
قبل ذلك ليلاً أو نهاراً، فقد تم حجه، وقضى تفثه» رواه الخمسة وصححه
الترمذي.
وللمزدلفة أسماء: مزدلفة وجَمْع والمشعر الحرام، وحد المزدلفة: من مأزمي
عرفة إلى قرن محسِّر، وما على يمين ذلك وشماله من الشعاب، ففي أي موضع منها
وقف أجزأه، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «المزدلفة موقف» (1).
ثانياً ـ ركن الوقوف بالمزدلفة: قال الحنفية: ركنه: كينونته بمزد لفة، سواء
أكان بفعل نفسه أم فعل غيره، بأن يكون محمولاً بأمره، أو بغير أمره وهو
نائم أومغمى عليه، أو مجنون أو سكران، نواه أو لم ينو، علم بها أو لم يعلم،
ولو ماراً كالوقوف بعرفة.
وقال المالكية: يجب النزول بالمزدلفة بقدر حط الرحال وصلاة العشاءين،
وتناول شيء من أكل أو شرب فيها، فإذا لم ينزل فدم، والوقوف بالمشعر الحرام
سنة على المعتمد.
_________
(1) رواه أبو داود وابن ماجه.
(3/2246)
وقال الشافعية: الواجب الذي يكفي في المبيت
بالمزدلفة الحصول بها لحظة، كالوقوف بعرفة، فيكفي المرور بها، وإن لم يمكث،
ووقته بعد نصف الليل. ويسن تقديم النساء والضعََفَة بعد نصف الليل إلى منى،
وشعارهم: التلبية والتكبير تأسياً به صلّى الله عليه وسلم (1)، ويبقى غيرهم
حتى يصلوا الصبح مغلِّسين.
وقال الحنابلة: المبيت بمزدلفة واجب، من تركه فعليه دم، ومن بات بها لم يجز
له الدفع قبل منتصف الليل، فإن دفع بعده فلا شيء عليه، لقوله صلّى الله
عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم» وإنما أبيح الدفع بعد نصف الليل بما ورد من
الرخصة فيه، قال ابن عباس: «كنت فيمن قدم النبي صلّى الله عليه وسلم في
ضَعَفة أهله من مزدلفة إلى منى» وكذلك رخص لأسماء (2).
ولا تشترط الطهارة عن الجنابة والحيض، ولأنه عبادة لا تتعلق بالبيت، فتصح
من غير طهارة كالوقوف بعرفة ورمي الجمار.
ثالثاً ـ مكان الوقوف بالمزدلفة: المزدلفة (وهي ما بين منى وعرفة) كلها
موقف إلا بطن مُحَسِّر (وهو واد بين منى ومزدلفة)، فيصح الوقوف في أي جزء
من أجزاء مزدلفة، وينزل في أي موضع شاء منها إلا وادي محسر، لقوله صلّى
الله عليه وسلم: «عرفات كلها موقف، إلا بطن عُرَنة، ومزدلفة كلها موقف إلا
وادي محسر» (3).
_________
(1) رواه الشيخان (نصب الراية:72/ 3).
(2) متفق عليه.
(3) رواه خمسة من الصحابة: جابر عند ابن ماجه، وجبير بن مطعم عند أحمد،
وابن عباس عند الطبراني والحاكم، وابن عمر عند ابن عدي، وأبو هريرة عند ابن
عدي، وهو ضعيف إلا حديث ابن عباس قال عنه الحاكم: صحيح على شرط مسلم،
ويراجع، ولفظه «عرفه كلها موقف، وارفعوا عن بطن عرنة، والمزدلفة كلها موقف،
وارفعوا عن بطن محسر» (نصب الراية: 60/ 3 ومابعدها).
(3/2247)
ويكره النزول في المحسر عند الحنفية، لكن
لو وقف به أجزأ مع الكراهة.
والأفضل أن يكون وقوفه خلف الإمام على الجبل الذي يقف عليه الإمام وهو جبل
قُزَح (المشعر الحرام وهو آخر المزدلفة)؛ لأنه روي أنه صلّى الله عليه وسلم
وقف عليه، وقال: «خذوا عني مناسككم» (1).
رابعاً ـ زمان الوقوف بالمزدلفة: للفقهاء رأيان:
1 - رأي الحنفية: هو أن زمان الوقوف هو ما بين طلوع الفجر من يوم النحر
وطلوع الشمس؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم في حديث جابر وابن عمر دفع قبل
طلوع الشمس، فمن وقف بها قبل طلوع الفجر، أو بعد طلوع الشمس لا يعتد به.
وقد ر الواجب منه ساعة ولو لطيفة، وقدر السنة: امتداد الوقوف إلى الإسفار
جداً، والسنة أن يبيت ليلة النحر بمزدلفة، والبيتوتة ليست بواجبة، إنما
الواجب هو الوقوف، والأفضل أن يكون وقوفه بعد الصلاة، فيصلي صلاة الفجر
بغلس، ثم يقف عند المشعر الحرام، فيدعو الله تعالى، ويسأله حوائجه إلى أن
يسفر، ثم يفيض منها قبل طلوع الشمس إلى منى، ولو أفاض بعد طلوع الفجر قبل
صلاة الفجر، فقد أساء ولا شيء عليه لتركه السنة.
2 - ورأي الجمهور: هو أن زمان الوقوف هو الليل، وتفصيل ذلك ما يأتي:
قال المالكية: زمان الوقوف في أي جزء من أجزاء الليل بقدر حط الرحال وصلاة
العشاءين وتناول شيء من الأكل أو الشرب. والسنة: المبيت بالمزدلفة ليلة
_________
(1) رواه جابر في حديثه الطويل المتقدم.
(3/2248)
النحر، فإذا طلع الفجر صلوا الصبح بغلس، ثم
نهضوا إلى المشعر الحرام (وهو آخر المزدلفة وجبل صغير فيها) وذلك سنة على
المعتمد، فيقفون للتضرع والدعاء إلى الإسفار، ثم يدفعون منها قبل طلوع
الشمس إلى منى، ويسرعون في وادي محسر.
وقال الشافعية: وقت الوقوف بالمزدلفة بعد نصف الليل، فمن لم يكن فيها في
النصف الثاني، أراق دماً.
وقال الحنابلة: المبيت بالمزدلفة حتى يطلع الفجر واجب، من تركه فعليه دم،
فإذا صلى الصبح في أول وقته وقف عند المشعر الحرام، فيرقى عليه إن أمكنه،
وإلا وقف عنده فذكر الله تعالى ودعا واجتهد، لقوله تعالى: {فإذا أفضتم من
عرفات، فاذكروا الله عند المشعر الحرام} [البقرة:198/ 2] وفي حديث جابر:
«أن النبي صلّى الله عليه وسلم أتى المشعر الحرام، فرقى عليه، فدعا الله،
وهلله وكبره، ووحده». ومن بات بالمزد لفة لم يجز له الدفع قبل نصف الليل،
فإن دفع بعده فلا شيء عليه.
خامساً ـ حكم فوات الوقوف بالمزدلفة عن وقته:
قال الحنفية: إن فات الوقوف فإن كان لعذر، فلا شيء عليه، لأنه صلّى الله
عليه وسلم قدم ضعفة أهله، ولم يأمرهم بالكفارة، وإن كان فواته لغير عذر،
فعليه دم؛ لأنه ترك الواجب من غير عذر، وإنه يوجب الكفارة.
وقال الجمهور: ترك الوقوف بالمزدلفة يوجب الدم.
سادساً ـ سنن الوقوف بالمزدلفة:
يستحب في المزدلفة ما يأتي:
(3/2249)
1ً - الاغتسال فيها
بالليل للوقوف بالمشعر الحرام وللعيد، ولما فيها من الاجتماع، فمن لم يجد
ماء تيمم، كما ذكر النووي في الإيضاح.
2ً - الجمع بين صلاتي
المغرب والعشاء جمع تأخير، بإقامة لكل صلاة، كجمع التقديم في نمرة، ويجمع
منفرداً أو مع الإمام.
3ً - إحياء هذه الليلة
بالعبادة من الصلاة والتلاوة والذكر والدعاء والتضرع.
4ً - التأهب بعد نصف الليل
وأخذ حصى الجمار من المزدلفة، لجمرة العقبة يوم النحر وهي سبع حصيات،
ولأيام التشريق الثلاثة ثلاثاً وستين حصاة، فصار المجموع سبعين حصاة، بقدر
حصى الخَذْف وهي دون أنملة، نحو حبة الباقلا، ويكره أن يكون أكبر من ذلك،
ويكره كسر الحجارة له إلا لعذر بل يلتقطها صغاراً، وقد ورد نهي عن كسرها
ههنا، لأنه يفضي إلى الأذى.
ومن أي موضع أخذ جاز، لكن يكره من المسجد ومن المواضع النجسة ومن الجمرات
التي رمي بها، لقول ابن عباس: «ما تقبل منها رفع، وما لم يتقبل ترك، ولولا
ذلك لسد ما بين الجبلين».
ولا يكره غسل حصى الجمار، واستحب النووي وبعض الحنابلة أن يغسلها، لأنه روي
عن ابن عمر أنه غسله، وقال في غاية المنتهى للحنابلة: لا يسن غسل غير نجس.
5ً - الوقوف بالمشعر
الحرام، والصعود عليه إن أمكنه، وإلا وقف عنده أو تحته.
6ً - صلاة الصبح في أول
وقتها، والمبالغة في التبكير بها في هذا اليوم آكد من باقي الأيام، اقتداء
برسول الله صلّى الله عليه وسلم، وليتسع الوقت لوظائف أخرى، فإنها كثيرة في
هذا اليوم، فليس في أيام الحج أكثر عملاً منه.
(3/2250)
7ً - الوقوف عند
المشعر الحرام بعد صلاة الفجر مستقبل الكعبة، فيدعو ويحمد الله تعالى
ويكبره ويهلله ويوحده ويكثر من التلبية، ويستحب أن يقول في دعائه:
(اللهم كما أوقفتنا فيه، وأريتنا إياه، فوفقنا لذكرك كما هديتنا، واغفر لنا
وارحمنا كما وعدتنا بقولك، وقولك الحق: {فإذا أفضتم من عرفات، فاذكروا الله
عند المشعر الحرام، واذكروه كما هداكم، وإن كنتم من قبله لمن الضالين. ثم
أفيضوا من حيث أفاض الناس، واستغفروا الله، إن الله غفور رحيم}
[البقرة:198/ 2 - 199]، ويقول أيضاً: (الله أكبر ـ ثلاثاً ـ لا إله إلا
الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد).
ويقف حتى يسفر جداً، لما في حديث جابر المتقدم: «أن النبي صلّى الله عليه
وسلم لم يزل واقفاً حتى أسفر جداً» ثم يدفع قبل طلوع الشمس اتباعاً لفعل
النبي صلّى الله عليه وسلم، وشعاره التلبية والذكر، للآية السابقة:
{فإذا أفضتم من عرفات ... } [البقرة:198/ 2] ولأن النبي صلّى الله عليه
وسلم لم يزل يلبي حتى رمى الجمرة (1).
8ً - تقديم الضَّعَفة من
النساء وغيرهن قبل طلوع الفجر إلى منى ليرموا جمرة العقبة قبل زحمة الناس،
ويكون تقديمهم بعد نصف الليل. وهذه هي السنة عند الشافعية.
أما غيرهم فيمكثون حتى يصلوا الصبح بمزدلفة، كما سبق، فإذا صلوها، دفعوا
متوجهين إلى منى.
9ً - الإسراع في وادي
مُحَسِّر (وهو واد فاصل بين مزدلفة ومنى) (2) إن كان
_________
(1) متفق عليه عن الفضل بن عباس.
(2) ويسمى وادي النار أيضاً، وهو خمس مئة ذراع وخمسة وأربعون ذراعاً.
(3/2251)
ماشياً، وتحريك دابته من كان راكباً، بقدر
رمية حجر، حتى يقطعوا عرض الوادي، للاتباع في الراكب، كما روى مسلم، ويقاس
الماشي عليه، ولنزول العذاب فيه على أصحاب الفيل القاصدين هدم البيت.
وفيما عدا ذلك المستحب الإتيان إلى المزدلفة والدفع منها بالسكينة والوقار
لما في حديث جابر السابق: «أيها الناس السكينة السكينة» (1).
المطلب الثاني ـ رمي الجمار في منى وحكم المبيت
فيها:
أما الرمي فأبين معناه، ووجوبه والإنابة فيه، ووقته، ومكانه، وشروطه، أو
عدد الجمار وقدرها وجنسها ومأخذها، ومقدار ما يرمى كل يوم عند كل موضع،
وكيفية الرمي وما يسن في ذلك وما يكره، وحكمه إذا تأخر عن وقته (2). ثم
أبيّن حكم المبيت بمنى.
أولاً ـ معنى رمي الجمار وحكمته وحد منى: رمي الجمار في اللغة: هو القذف
بالأحجار الصغار وهي الحصى، إذ الجمار جمع جمرة، والجمرة: هي الحجر الصغير
وهي الحصاة، وفي الشرع: هو القذف بالحصى في زمان مخصوص ومكان مخصوص وعدد
مخصوص كما سيأتي. فلو وضع الحصى وضعاً لم يجزئ، لعدم الرمي وهو القذف. وإن
طرحها طرحاً أجزأه، لوجود الرمي، إلا أنه رمي خفيف، يقصد به رجم إبليس.
_________
(1) وروى البخاري عن ابن عباس: «أيها الناس، عليكم السكينة، فإن البر ليس
بالإيضاع».
(2) البدائع:136/ 2 - 139،156 - 159، الدر المختار:245/ 2 - 249، القوانين
الفقهية: ص134، اللباب:188/ 1 - 190، الشرح الصغير: 58/ 2 ومابعدها، 63 -
69، مغني المحتاج: 501/ 1، 504، 506 - 509، الإيضاح: ص58 - 60، المغني:
424/ 3 - 430، غاية المنتهى: 410/ 1 - 411، 414.
(3/2252)
وحكمته: أنه عمل رمزي يمثل مقاومة الشيطان
الذي يريد إيقاع الناس بالمعاصي، بالفعل المادي، ليس في وقته فحسب وإنما في
كل وقت؛ لأن المحسوس يدل على المعقول، وهو أيضاً اقتداء بفعل سيدنا إبراهيم
عليه السلام وزوجته هاجر وابنه إسماعيل حينما أوحي إلى إبراهيم بذبح ولده،
فكان كل منهم يرمي إبليس بحصيات لإنهاء وساوسه بألا يفعل الذبح، ولتحقيق
امتثال أمر الله، دون تردد أو تثبيط عنه.
وحد منى: ما بين وادي مُحْسِّر وجمرة العقبة، ومنى: شِعْب طوله نحو ميلين،
وعرضه يسير، أما الجبال المحيطة به فما أقبل منها عليه فهو من منى، وما
أدبر منها فليس من منى.
والجمرات ثلاث: الأولى (أو الصغرى)، والوسطى، وجمرة العقبة (أو الكبرى أو
الأخيرة)، والأولى تلي مسجد الخَيْف، ومسجد الخيف أو مسجد إبراهيم عليه
السلام على أقل من ميل عن مكة. وجمرة العقبة: في آخر منى من جهة مكة، وليست
العقبة التي تنسب إليها هذه الجمرة من منى، وهي الجمرة التي بايع رسول الله
صلّى الله عليه وسلم الأنصار عندها قبل الهجرة وهي صخرة عظيمة في أول منى
بالنسبة للآتي من مكة، وهي كلها تقع في وسط الشارع. وتبعد الأخيرة عن
الوسطى نحو 551 متراً، ويبدأ الحاج بالأولى، ويختم بالثالثة.
ثانياً ـ وجوب الرمي والإنابة فيه: رمي الجمار (جمرة العقبة يوم النحر،
والجمار الثلاث أيام التشريق) واجب اتفاقاً، اتباعاً لفعل النبي صلّى الله
عليه وسلم، قال جابر: «رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم يرمي الجمرة على
راحلته يوم النحر، ويقول: لتأخذوا عني مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحُجّ
بعد حَجَّتي هذه» (1).
_________
(1) رواه أحمد ومسلم والنسائي (نيل الأوطار:65/ 5).
(3/2253)
وتجوز الإنابة في الرمي لمن عجز عن الرمي
بنفسه لمرض أو حبس، أو كبر سن أو حمل المرأة، فيصح للمريض بعلة لا يرجى
زوالها قبل انتهاء وقت الرمي، وللمحبوس وكبير السن والحامل أن يوكل عنه من
يرمي عنه الجمرات كلها، ويجوز التوكل عن عدة أشخاص، على أن يرمي الوكيل عن
نفسه أولاً كل جمرة من الجمرات الثلاث، ويستحب أن يناول النائب الحصى إن
قدر، ويكبر هو، فيقول: (الله أكبر ـ ثلاثاً ـ لا إله إلا الله، والله أكبر،
الله أكبر، ولله الحمد) كما نقل عن الشافعي رحمه الله.
ولكن يجب عند المالكية على الموكل دم، وفائدة الاستنابة: سقوط الإثم عن
الموكل، ويبقى ملزماً بإراقة دم. وتوكيل المرأة غيرها في حال الزحمة
الشديدة أولى من المرض في تقديري.
ثالثاً ـ وقت الرمي: أـ رمي جمرة العقبة (أو
الكبرى): يدخل وقته عند الشافعية والحنابلة من نصف ليلة النحر،
والأفضل أن يكون بعد طلوع الشمس؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر أم
سلمة ليلة النحر، فرمت جمرة العقبة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت (1). ورميها
هو تحية منى فلا يبتدأ فيها بغيره.
ووقته عند المالكية والحنفية: بعد طلوع الشمس يوم العيد، لقوله صلّى الله
عليه وسلم: «لا ترموا حتى تطلع الشمس» (2) ويقطع المفرد بالحج والقارن
التلبية عند الجمهور عند ابتداء رمي هذه الجمرة عند أول حصاة، لما رواه
الجماعة عن الفضل بن عباس
_________
(1) رواهاه أبو داود.
(2) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن الأربعة) عن ابن عباس، وصححه الترمذي
ولفظه: «قدَّم ضعَفَة أهله، وقال: لا ترموا حتى تطلع الشمس» (نيل الأوطار:
67/ 5).
(3/2254)
قال: «كنت رديف النبي صلّى الله عليه وسلم
من جَمْع إلى منى، فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة» (1) والمعتمر يقطع
التلبية عند بدء الطواف.
وقال المالكية: تقطع التلبية إذا زالت الشمس من يوم عرفة إذا راح إلى
الموقف. ويستمر وقت رمي هذه الجمرة إلى آخر النهار - نهار العيد، لما روى
البخاري: «أن رجلاً قال للنبي صلّى الله عليه وسلم: إني رميت بعدما أمسيت،
فقال: لا حرج» والمساء: بعد الزوال.
ب ـ رمي الجمرات الثلاث أيام التشريق:
بعد زوال الشمس في كل يوم أي بعد الظهر بالاتفاق، لقول ابن عباس: «رمى رسول
الله صلّى الله عليه وسلم الجمار حين زالت الشمس» (2) فلا يجوز الرمي قبل
الزوال، ويستمر الوقت للغروب.
وإن أخر الرمي إلى الليل كان قضاء عند المالكية، لخروج وقت الأداء وهو
النهار الذي يجب فيه الرمي، وعليه دم بالتأخير، والواجب دم واحد في تأخير
حصاة فأكثر.
وقال الحنفية: إن أخر الرمي إلى الليل، ورمى قبل طلوع الفجر، جاز، ولا شيء
عليه؛ لأن الليل وقت الرمي في أيام الرمي. ويجوز عند أبي حنيفة الرمي في
اليوم الثالث من أيام التشريق، وهو اليوم الرابع من أيام الرمي، قبل
الزوال، لقول ابن عباس: «إذا افتتح النهار من آخر أيام التشريق جاز الرمي».
وقال الحنابلة: لا يجزئ رمي إلا نهاراً بعد الزوال، غير سقاة ورعاة فيرمون
ليلاً ونهاراً.
_________
(1) نيل الأوطار: 322/ 4.
(2) رواه أحمد وابن ماجه والترمذي (نيل الأوطار: 79/ 5).
(3/2255)
وقال الشافعية: وقت الرمي: من الزوال إلى
الغروب، فلو ترك رمي يوم تداركه في باقي الأيام، وعلى هذا يبقى وقت الرمي
في أيام التشريق إ لى الغروب من كل يوم، ولكن لو أخر رمي يوم ومنه رمي جمرة
العقبة إلى ما بعده من أيام الرمي يقع أداء، فلا يخرج وقت الرمي بالغروب
على المعتمد.
ولرعاء الإبل وأهل السقاية (1) تأخير الرمي عن وقت الاختيار يوماً فقط،
ويؤدونه في تاليه قبل رميه، لا رمي يومين متواليين.
وإذا رمى في اليوم الثاني من أيام التشريق بعد الزوال، فأراد أن ينفر من
منى إلى مكة، وهو المراد من النفر الأول، فله ذلك، لقوله تعالى: {فمن تعجل
في يومين فلا إثم عليه} [البقرة:2/ 203] أي بترك الرمي في اليوم الثالث،
والأفضل ألا يتعجل، بل يتأخر إلى آخر أيام التشريق، وهو اليوم الثالث منها،
فيستوفي الرمي في الأيام كلها، ثم ينفر، وهو معنى النفر الثاني في قوله
تعالى: {ومن تأخر فلا إثم عليه} [البقرة:203/ 2].
قال ابن عباس في هذه الآية: «فمن تعجل في يومين غفر له، ومن تأخر غفر له».
وكذا قال ابن مسعود في قوله تعالى: {فلا إثم عليه} [البقرة:203/ 2]: رجع
مغفوراً له، وذلك مشروط بالتقوى، لقوله تعالى: {لمن اتقى} [البقرة:203/ 2].
ووقت التعجيل عند الجمهور في ثاني أيام التشريق، وهو النفر الأول، يكون قبل
غروب الشمس للآية السابقة، وحديث عبد الرحمن بن يعمر عند أبي داود
_________
(1) أهل السقاية: موضع بالمسجد الحرام يسقى فيه الماء، ويجعل في حياض يسبل
للشاربين، فيسقط عنهم المبيت، لأنه صلّى الله عليه وسلم رخص للعباس أن يبيت
بمكة ليالي منى، لأجل السقاية، رواه الشيخان.
(3/2256)
وابن ماجه: «أيام منى ثلاثة، فمن تعجل في
يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه» واليوم: اسم للنهار، فمن أدركه
الليل، فما تعجل في يومين، فإن غربت الشمس وهو بها لم يخرج حتى يرمي من غد
بعد الزوال.
وقال الحنفية: للحاج أن ينفر ما لم يطلع الفجر من اليوم الرابع من أيام
العيد، فإذا طلع الفجر، لم يكن له أن ينفر لدخول وقت الرمي (1).
رابعاً ـ مكان الرمي: الرمي في يوم النحر: عند جمرة العقبة، وفي الأيام
الأخر عند ثلاثة مواضع: عند الجمرة الأولى، والوسطى، والعقبة، بشروط وقوع
ذلك كله مكان وقوع الجمرة، لا مكان الرمي، فلو رمى الجمرة من مكان بعيد،
فوقعت الحصاة عند الجمرة، أجزأه، وإن لم تقع عندها، لم تجزئه، إلا إذا وقعت
عند الحنفية بقرب منها؛ لأن ما يقرب من ذلك المكان، كان في حكمه، لكونه
تبعاً له.
خامساً ـ شروط الرمي: يشترط لصحة الرمي مطلقاً ما يأتي:
1ً - أن يكون الرمي بيد،
ويكون المرمي عند الجمهور حجراً اتباعاً للسنة، فلا يكفي الرمي بقوس، ولا
الرمي بالرجل ولا بالمقلاع، ولا بالطين، ولا بغير الحصى كجوهر وذهب وزبرجد
وفيروزج وياقوت ونحاس وغير ذلك من المعادن. وقال الحنفية: يجوز الرمي بكل
ما كان من جنس الأرض كالحجر والمدر والطين وكل ما يجوز التيمم به، ولو كفاً
من تراب، فيقوم مقام حصاة واحدة، ولا يجوز بخشب
_________
(1) فتح القدير: 298/ 2، الشرح الصغير: 64/ 2، السراج الوهاج: ص 165، كشاف
القناع: 511/ 2، طبع بيروت، المغني والشرح الكبير: 479/ 3، ط بيروت.
(3/2257)
وعنبر ولؤلؤ وجواهر؛ لأنه إعزاز لا إهانة،
ولا بذهب وفضة، لأنه يسمى نثاراً لا رمياً، ولا بعر؛ لأنه ليس من جنس
الأرض.
2ً - أن يكون الحصى كحصى
الخذف (1): وهو أكبر من الحمص ودون البندق، كالفولة أو النواة، ولا يجزئ
صغير جداً كالحمصة ويكره كبير ويجزئ. وهذا شرط عند المالكية، سنة عند
غيرهم، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر الصحابة أن يرموا بمثل حصى الخذف
(2).
3ً - أن يسمى الفعل رمياً:
فلا يكفي الوضع في المرمى؛ لأنه لا يسمى رمياً، ولأنه خلاف الوارد، ويشترط
قصد الجمرة (3) بالرمي، فلو رمى إلى غيرها كأن رمى في الهواء، فوقع في
المرمى، لم يكف. ولو وقع الرمي على الحائط الذي بجمرة العقبة، كما يفعله
كثير من الناس فأصابه، ثم وقع في المرمى لا يجزئ. كما لا يجزئ لو وقعت
الحصاة دون الجمرة التي هي محل الرمي، ولم تصل الحصاة إليها، ولو وقعت
الحصاة في شق من بناء الجمرات أجزأت على التحقيق.
4ً - أن يقع الحصى في
المرمى، فإن وقع دونه، لم يجزئه بالاتفاق؛ لأنه مأمور بالرمي ولم يرم.
5ً - رمي السبع واحدة واحدة
أي سبع رميات، وترتيب الجمرات بأن يبدأ بالجمرة التي تلي مسجد الخيف، وهي
أولاهن من جهة عرفات، ثم الوسطى، ثم جمرة العقبة، اتباعاً للسنة، كما روى
البخاري. وهذا عند الجمهور، فلو خالف الترتيب بأن قدم العقبة أو الوسطى، لم
يجزئ؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم رتبها في الرمي،
_________
(1) الخذف: هو رمي الحصى بالأصبعين.
(2) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) وصححه الترمذي عن جابر (نيل الأوطار:
64/ 5).
(3) الجمرة: هي البناء أو السارية الآن وما حوله من موضع الحصى.
(3/2258)
وقال: «خذوا عني مناسككم» وليس عدد السبع
شرطاً عند الحنابلة، فإن نقص حصاة أو حصاتين فلا بأس.
وقال الحنفية: الترتيب بين الجمرات سنة.
وإن شك في عدد الحصيات السبع، بنى على الأقل، وحقق المطلوب يقيناً، وإن رمى
دفعة واحدة لم يجزئ، وحُسب ذلك واحدة.
6ً - أن يكون الرمي من
المُحرم بنفسه، ويستنيب لعجزه كما بينت، ويشترط في النائب أن يكون رمى عن
نفسه أولاً، فلو لم يرم وقع عن نفسه كأصل الحج، ويندب أن يناول النائب
الحصى، ويكبر إن أمكن، وإلا تناولها النائب وكبر بنفسه.
ولا يشترط بقاء الحجر في المرمى، ولا كون الرامي خارجاً عن الجمرة، ولا
الطهارة، ولا طهارة الحصى، فتجزئ حصاة نجسة مع الكراهة.
مأخذها: وتؤخذ حصى الجمار من مزدلفة أو
من الطريق من محسر وغيره أو من أي مكان غير نجس، لما روي أن النبي صلّى
الله عليه وسلم أمر ابن عباس رضي الله عنهما أن يأخذ الحصى من مزدلفة (1)،
وعليه فعل المسلمين. وأخذ الحصى من مزدلفة: سنة فقط. ويكره عند الحنابلة
أخذ الحصى من منى وسائر الحرم، ومن المرحاض.
وإن رمى بحصاة أخذها من الجمرة أجزأه مع الكراهة عند الحنفية، لقوله صلّى
الله عليه وسلم في الصحيحين: «ارم ولا حرج» مطلقاً، والكراهة لأنها مردودة
لما روي: «من قبلت حجته رفعت جمرته».
_________
(1) رواه ابن عدي وأحمد والحاكم والنسائي (نصب الراية: 76/ 3)، وروى أحمد
ومسلم عن الفضل ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «عليكم بحصى
الخذف الذي يرمى به الجمرة» (نيل الأوطار:62/ 5).
(3/2259)
ولا يجزئه في رأي الفقهاء الآخرين؛ لأنها
حصى مستعملة، ولأن ما تقبِّل رفع، كما ورد وشوهد (1)، ولولا ذلك لسد الحصى
على التوالي الأزمان المتطاولة ما بين الجبلين.
مقدار ما يرمى كل يوم عند كل موضع: ترمى
جمرة العقبة يوم النحر بسبع حصيات، وترمى كل جمرة من الجمرات الثلاث في
أيام التشريق بسبع حصيات، فيكون المرمي في كل يوم إحدى وعشرين حصاة. ففي
حديث جابر عند مسلم «أنه صلّى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة بسبع حصيات،
يكبر مع كل حصاة منها». وفي حديث ابن عمر عند البخاري «أنه صلّى الله عليه
وسلم رمى كل جمرة بسبع حصيات، يكبر كلما رمى بحصاة».
سادساً ـ كيفية الرمي وسننه: 1 - يرفع الرجل أو الصبي يده بالرمي حتى يرى
بياض إبطه، بخلاف المرأة والخنثى.
2 - يكون الرمي باليد اليمنى.
3 - يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي، فيجعل مكة عن يساره ومنى عن يمينه،
ويستقبل العقبة، ثم يرمي، ولا يقف عندها؛ لأنه لا رمي بعده، والأصل أن كل
رمي بعده رمي يقف عنده، ويدعو، وما ليس بعده رمي لا يقف عنده، عملاً
_________
(1) روى الدارقطني والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:
«قلت: يارسول الله، هذه الجمار التي نرمي بها كل عام، فنحسب أنها تنقص،
فقال: إن مايقبل منها رفع، ولولا ذلك لرأيتها أمثال الجبال» وقال ابن عباس:
«أما علمت أن من يقبل حجه يرفع حصاه» (نصب الراية: 78/ 3 ومابعدها).
(3/2260)
بفعل النبي صلّى الله عليه وسلم (1).
ويستقبل القبلة في رمي الجمرات أيام التشريق، ويرمي الجمرتين الأوليين من
علوّ، ويدنو من الجمرة في رمي أيام التشريق بحيث لا يبلغه حصى الرامين، وفي
حال الاستقبال تكون مكة جهة يساره ومنى جهة يمينه. والحاصل أنه يرمي
الجمرتين الأوليين من فوقهما، والعقبة من أسفلها، ويدعو بعد الجمرة الأولى
والثانية وينصرف بعد جمرة العقبة من غير دعاء.
4 - يرمي عند الشافعية راجلاً، لا راكباً إلا في يوم النفر، فالسنة أن يرمي
راكباً لينفر عقبه، وثبت في الصحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم «أنه
يرمي راكباً إن كان أتى منى راكباً». وقال الحنابلة: يرميها راكباً أو
راجلاً كيفما شاء؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «رماها على راحلته (2)».
وقال الحنفية والمالكية: الأفضل الرمي ماشياً، أو راكباً.
5 - يكبر مع كل حصاة، فيقول:
(الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً، وسبحان الله
بكرة وأصيلاً، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي
ويميت وهو على كل شيء قدير. لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه مخلصين له
الدين ولو كره الكافرون. لا إله إلا الله وحده صدق وعده، ونصر عبده، وهزم
الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، والله أكبر) ودليل التكبير: ما ثبت في
أحاديث جابر المتقدم وابن مسعود وابن عمر (3). وإن قال: «اللهم اجعله حجاً
مبروراً، وذنباً مغفوراً، وعملاً مشكوراً» فحسن؛ لأن ابن مسعود وابن عمر
كانا يقولان نحو ذلك.
ثم يقف مستقبل القبلة ويدعو، ويذكر الله تعالى، ويهلل ويسبح بعد رمي
_________
(1) روى البخاري عن ابن عمر قال مبيناً فعل النبي صلّى الله عليه وسلم: «ثم
يأتي الجمرة التي عند العقبة، فيرميها بسبع حصيات، يكبر كلما رماها بحصاة،
ثم ينصرف، ولا يقف عندها» (نصب الراية: 77/ 3).
(2) رواه مسلم عن جابر في حديثه الطويل، ورواه أحمد عن ابن عمر.
(3) نصب الراية:76/ 3 ومابعدها.
(3/2261)
بفعل النبي صلّى الله عليه وسلم (1).
ويستقبل القبلة في رمي الجمرات أيام التشريق، ويرمي الجمرتين الأوليين من
علوّ، ويدنو من الجمرة في رمي أيام التشريق بحيث لا يبلغه حصى الرامين، وفي
حال الاستقبال تكون مكة جهة يساره ومنى جهة يمينه. والحاصل أنه يرمي
الجمرتين الأوليين من فوقهما، والعقبة من أسفلها، ويدعو بعد الجمرة الأولى
والثانية وينصرف بعد جمرة العقبة من غير دعاء.
4 - يرمي عند الشافعية راجلاً، لا راكباً إلا في يوم النفر، فالسنة أن يرمي
راكباً لينفر عقبه، وثبت في الصحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم «أنه
يرمي راكباً إن كان أتى منى راكباً». وقال الحنابلة: يرميها راكباً أو
راجلاً كيفما شاء؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «رماها على راحلته (2)».
وقال الحنفية والمالكية: الأفضل الرمي ماشياً، أو راكباً.
5 - يكبر مع كل حصاة، فيقول:
(الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً، وسبحان الله
بكرة وأصيلاً، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي
ويميت وهو على كل شيء قدير. لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه مخلصين له
الدين ولو كره الكافرون. لا إله إلا الله وحده صدق وعده، ونصر عبده، وهزم
الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، والله أكبر) ودليل التكبير: ما ثبت في
أحاديث جابر المتقدم وابن مسعود وابن عمر (3). وإن قال: «اللهم اجعله حجاً
مبروراً، وذنباً مغفوراً، وعملاً مشكوراً» فحسن؛ لأن ابن مسعود وابن عمر
كانا يقولان نحو ذلك.
ثم يقف مستقبل القبلة ويدعو، ويذكر الله تعالى، ويهلل ويسبح بعد رمي الجمرة
الأولى، بقدر قراءة سورة البقرة، وكذا بعد رمي الثانية، لا الثالثة، بل
يمضي في طريقه بعد رميها للاتباع في ذلك، كما روى البخاري، إلا بقدر سورة
البقرة، فرواه البيهقي من فعل ابن عمر.
6 - يقطع التلبية عند الجمهور مع أول حصاة في رمي جمرة العقبة، إن رمى قبل
الحلق، وإن حلق قبل الرمي قطع التلبية؛ لأنها لا تثبت مع التحلل كما ثبت في
حديث جابر الطويل المتقدم وغيره. وقال المالكية كما بينا: يقطع التلبية من
ظهر يوم عرفة.
7 - يستحب أن يكون الحجر عند الجمهور مثل حصى الخذف، لا أكبر ولا أصغر.
وشرط المالكية ذلك، فلو رمى بأكبر منه كره وأجازه بالاتفاق، وكذا لو رمى
بأصغر منه أجزأه مع الكراهة عند الجمهور، ولا يجزئ صغير جداً عند المالكية.
8 - ويستحب أن يكون الحجر طاهراً، فلو رمى بنجس كره وأجزأه. ويكره أن يرمي
بما أخذه من المسجد أو من الحرم أو من الموضع النجس، أو بما رمى به غيره،
ولو رمى بشيءٍ من ذلك أجزأه.
ويندب عند المالكية وغيرهم تتابع الحصيات بالرمي، فلا يفصل بينها بشاغل من
كلام أو غيره، ولا تجب موالاة الرمي.
سابعاً ـ حكم تأخيرر الرمي عن وقته: رمي الجمار واجب كما عرفنا، فإن تأخرعن
وقته أو فات، وجب دم، على النحو المقرر فقهاً، فقال الحنفية (4): إذا ترك
من جمار يوم النحر حصاة أو حصاتين
_________
(1) روى البخاري عن ابن عمر قال مبيناً فعل النبي صلّى الله عليه وسلم: «ثم
يأتي الجمرة التي عند العقبة، فيرميها بسبع حصيات، يكبر كلما رماها بحصاة،
ثم ينصرف، ولا يقف عندها» (نصب الراية: 77/ 3).
(2) رواه مسلم عن جابر في حديثه الطويل، ورواه أحمد عن ابن عمر.
(3) نصب الراية:76/ 3 ومابعدها.
(4) البدائع: 2/ 138، اللباب: 1/ 205.
(3/2262)
أو ثلاثاً إلى الغد، فإنه يرمي ما ترك أو
يتصدق لكل حصاة نصف صاع من حنطة (1) إلا أن يبلغ قدر الطعام دماً فينقص ما
شاء. والأصل أن ما يجب في جميعه دم يجب في أقله صدقة، فلو ترك الرمي كله
إلى الغد، كان عليه دم عند أبي حنيفة، فإذا ترك أقله تجب عليه الصدقة إلا
أن يبلغ دماً، وإن ترك الأكثر منها فعليه دم في قول أبي حنيفة؛ لأن في
جميعه دماً عنده، فكذا في أكثره.
وإن ترك الرمي كله في سائر الأيام إلى آخر أىام الرمي، وهو اليوم الرابع،
فإنه يرميها فيه على الترتيب، وعليه دم عند أبي حنيفة؛ لأن الرمي مؤقت
عنده.
ولو ترك رمي الكل وهو الجمار الثلاث لزمه دم عند أبي حنيفة؛ لأن جنس
الجناية واحد، حظرها إحرام واحد، فيكفيها دم واحد، كما لو حلق ربع رأسه،
فإنه يجب عليه دم واحد، ولو حلق جميع رأسه يلزمه دم واحد أيضاً، وكذا لو
طيب عضواً واحداً أو طيب أعضاءه كلها، أو لبس ثوباً واحداً أو لبس ثياباً
كثيرة، لا يلزمه في ذلك كله إلا دم واحد.
فإذا ترك رمي الكل حتى غربت الشمس من آخر أيام التشريق وهو آخر أيام الرمي،
يسقط عنه الرمي، وعليه دم واحد باتفاق الحنفية، لفوات وقته، وتعذر القضاء،
وتركه الواجب عن وقته.
وقال المالكية (2): إذا أخر رمي حصاة فأكثر من الجمار لليل أو ليوم بعده،
وجب عليه دم، لخروج وقت الأداء وهو النهار، ودخول وقت القضاء.
ويقضي رمي جمرة العقبة أو اليوم الثاني أو الثالث قبل غروب شمس اليوم
الرابع، سواء أخره لعذر أم لا، أو خالف ترتيب الجمرات، وعليه دم.
_________
(1) الصاع الشرعي أو البغدادي 2751 غراماً.
(2) الشرح الصغير: 63/ 2، 68، الشرح الكبير مع الدسوقي: 47/ 2 ومابعدها.
(3/2263)
ويفوت الرمي بغروب الرابع، وعليه دم. ويلزم
الدم أيضاً العاجز إذا استناب في الرمي، ويأثم أيضاً إذا لم يستنب لتقصيره،
وعلى النائب دم ثان إن أخر الرمي لليل لغير عذر.
وقال الشافعية (1): إذا ترك رمي يوم أو رمي جمرة العقبة يوم النحر، تداركه
في باقي الأيام من أيام التشريق في الأظهر، عملاً بنص الحديث المبيح لتأخير
الرمي للرعاء وأهل السقاية، وبالقياس عليهم في غيرهم، إذ لا فرق بين
المعذور وغيره، كما في الوقوف بعرفة والمبيت بالمزدلفة، ولا دم عليه إن
تداركه لحصول الانجبار بالمأتي به، وإن لم يتداركه فعليه دم في رمي يوم أو
يومين أو ثلاثة أو يوم النحر مع أيام التشريق، لاتحاد جنس الرمي، فأشبه حلق
الرأس. والمذهب وجوب دم كامل في ترك ثلاث حصيات؛ لأن الثلاث أقل الجمع، كما
لو أزال ثلاث شعرات متواليات، وروى البيهقي عن ابن عباس بإسناد صحيح أنه
قال: «من ترك نسكاً فعليه دم» وفي ترك الحصاة الواحدة مدّ، وفي الثنتين
مدّان.
وقال الحنابلة (2): إذا أخر رمي يوم إلى ما بعده، أو أخر الرمي كله إلى آخر
أيام التشريق، ترك السنة، ولا شيء عليه، كما قال الشافعية، إلا أنه يقدم
بالنية رمي اليوم الأول ثم الثاني، ثم الثالث؛ لأن أيام التشريق وقت للرمي،
فإن أخره من أول وقته إلى آخره، لم يلزمه شيء، كما لو أخر الوقوف بعرفة إلى
آخر وقته، ولأنه وقت يجوز الرمي فيه، فجاز في آخره كاليوم الأول.
ولا يكون رميه في اليوم الثاني قضاء وإنما هو أداء، مع ترك الأفضل؛ لأنه
وقت واحد.
_________
(1) مغني المحتاج: 508/ 1 ومابعدها.
(2) المغني: 455/ 3 ومابعدها، غاية المنتهى: 410/ 1، 414، 415، 421.
(3/2264)
فإن ترك الرمي أو خالف ترتيب الجمرات، وجب
دم.
وإن نقص حصاة أو حصاتين فلا بأس، ولا ينقص أكثر من ذلك، قال ابن عمر: «ما
أبالي رميت بست أو سبع».
حكم المبيت بمنى: المبيت بمنى ليلة
الثامن من ذي الحجة سنة اتفاقاً، لكن للفقهاء رأىان في المبيت بمنى في
ليالي التشريق: رأي أنه سنة، ورأي أنه واجب (1).
أما الرأي الأول فهو للحنفية، فإنهم
قالوا: المبيت بمنى ليلة الثامن من ذي الحجة سنة، وكذلك المبيت بمنى ليلتي
الحادي عشر والثاني عشر من ذي الحجة سنة أيضاً، فإن أقام بمنى لأجل الرمي
فعل الأفضل، وإن تركه لا شيء عليه، ويكون مسيئاً؛ لأن النبي صلّى الله عليه
وسلم أرخص للعباس أن يبيت بمكة للسقاية، كما أوضحت سابقاً.
وأما الرأي الثاني فهو للجمهور: وهو أن
المبيت بمنى ليلتي التشريق واجب، فمن تركه كان عليه دم عند المالكية
والشافعية، وتفصيل رأي كل مذهب ما يأتي:
قال المالكية: المبيت ليلة الحادي عشر والثاني عشر واجب، لكن رخص مالك
جوازاً لراعي الإبل فقط بعد رمي العقبة يوم النحر أن ينصرف إلى رعيه، ويترك
المبيت في هاتين الليلتين، ويأتي اليوم الثالث من أيام النحر، فيرمي
لليومين، اليوم الثاني الذي فاته، وهو في رعيه، والثالث الذي حضر فيه، ثم
إن شاء أقام لرمي الثالث من أيام الرمي.
_________
(1) فتح القدير:، اللباب: 183/ 2، الشرح الصغير وحاشيته: 65/ 2، مغني
المحتاج: 505/ 1 ومابعدها، المغني: 449/ 3، الإيضاح: ص 66 ومابعدها.
(3/2265)
وكذا رخص لصاحب السقاية في ترك المبيت
خاصة، فلا بد من أن يأتي نهاراً للرمي، ثم ينصرف؛ لأن ذا السقاية ينزع
الماء من زمزم ليلاً، ويفرغه في الحياض.
وقال الشافعية: المبيت بمنى ليلتي التشريق واجب اتباعاً للسنة مع خبر «خذوا
عني مناسككم» والواجب معظم الليل، خلافاً للمبيت بمزدلفة الذي يكتفى فيه
بساعة في النصف الثاني بمزدلفة، للتخفيف في أداء المناسك في تلك الليلة،
فمن ترك المبيت في منى وجب عليه دم.
ويسقط مبيت منى ومزدلفة والدم عن المعذورين وهم الرِّعاء وأهل السقاية؛
لأنه صلّى الله عليه وسلم رخص لرعاء الإبل أن يتركوا المبيت بمنى، وقيس
بمنى مزدلفة، ولأنه صلّى الله عليه وسلم رخص للعباس أن يبيت بمكة ليالي
منى، لأجل السقاية، كما روى الشيخان.
ويسقط مبيت منى ومزدلفة أيضاً عمن له عذرآخر كمن له مال يخاف ضياعه لو
اشتغل بالمبيت أو يخاف على نفسه أو مال معه أو له مريض يحتاج إلى تعهده، أو
يكون به مرض يشق معه المبيت أو نحو ذلك.
ويسقط مبيت مزدلفة لوانتهى ليلة العيد إلى عرفات، فاشتغل بالوقوف عن المبيت
فيها، وإنما يؤمر بالمبيت المتفرغون.
وقال الحنابلة: السنة لمن أفاض يوم النحر أن يرجع إلى منى؛ لأن «النبي صلّى
الله عليه وسلم أفاض يوم النحر، ثم رجع، فصلى الظهر بمنى» (1) وقالت عائشة:
«أفاض رسول الله صلّى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع
إلى منى، فمكث بها ليالي أيام التشريق» (2).
_________
(1) متفق عليه.
(2) رواه أبو داود.
(3/2266)
والمبيت بمنى ليالي منى واجب، لكن إن ترك
المبيت بمنى، فلا شيء عليه كما قال الحنفية؛ لأن الشرع لم يرد فيه بشيء.
وروي عن أحمد أيضاً: في الليالي الثلاث دم، لقول ابن عباس: «من ترك من نسكه
شيئاً، أو نسيه فليهرق دماً».
المطلب الثالث ـ الحلق أو التقصير:
هو إزالة شعر الرأس أو التقصير في حج أو عمرة في وقته.
وأبحث هنا وجوبه، مقدار الواجب، زمانه ومكانه، أثره المترتب عليه، حكم
تأخيره عن زمانه ومكانه (1).
أولاً ـ وجوب الحلق أو التقصير: رأى الجمهور: أن الحلق أو التقصير نسك
واجب، لقوله تعالى: {ثم ليقضوا تفثهم} [الحج:29/ 22] والتفث ـ كما قال ابن
عمر: «حلاق الشعر ولبس الثياب وما يتبع ذلك»، ولما روى أنس: «أن رسول الله
صلّى الله عليه وسلم أتى منى، فأتى الجمرة، فرماها، ثم أتى منزله بمنى
ونحر، ثم قال للحلاق: خذ، وأشار إلى جانبه الأيمن، ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه
الناس» (2)، وقال أبو هريرة: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اللهم
اغفر للمُحلِّقين، قالوا: يا رسول الله، وللمقصرين؟ قال: اللهم اغفر
للمحلقين، قالوا: يا رسول الله، وللمقصرين؟ قال: وللمقصرين (3)».
ورأى الشافعية: أن الحلق أو التقصير ركن في الحج والعمرة؛ لأنه نُسُك
_________
(1) البدائع: 140/ 2 - 142، بداية المجتهد: 340/ 1، الشرح الكبير: 46/ 2،
الشرح الصغير: 59/ 2، 62، 73، مغني المحتاج: 502/ 1، 513، المغني: 434/ 3 -
439، غاية المنتهىِ: 412/ 1، القوانين الفقهية: ص 134، الإىضاح: ص 58، 63.
(2) رواه أحمد ومسلم وأبو داود (نيل الأوطار: 68/ 5).
(3) متفق عليه (نيل الأوطار: 69/ 5).
(3/2267)
على المشهور؛ لأن الحلق أفضل من التقصير
للذكر، والتفضيل إنما يقع في العبادات دون المباحات، وروى ابن حبان في
صحيحه أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «لكل من حلق رأسه، بكل شعرة سقطت: نور
يوم القيامة».
ولا حلق على المرأة بالاتفاق، وإنما عليها التقصير، فهو سنة المرأة، لقوله
صلّى الله عليه وسلم: «ليس على النساء الحلق، إنما على النساء التقصير» (1)
وأخرج الترمذي عن علي حديث: «نهى أن تحلق المرأة رأسها» (2) وتقصيرها بأن
تأخذ من أطراف شعرها قدر أنملة، لما روي عن عمر رضي الله عنه حينما قيل له:
«كم تقصر المرأة؟ فقال: مثل هذه»، وأشار إلى أنملته.
وليس على الحاج عند الحنفية إذا حلق أن يأخذ شيئاً من لحيته؛ لأن الواجب
حلق الرأس بالنص وهو قوله تعالى: {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق
لتدخُلُنَّ المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلِّقين رؤوسكم ومقصرين}
[الفتح:27/ 48] وقال الشافعية: يسن أن يأخذ من شاربه أو لحيته شيئاً، ليكون
قد وضع من شعره شيئاً لله تعالى.
والأصلع الذي لا شعر على رأسه يجب عند الحنفية أن يُمر الموسى على رأسه،
لقوله صلّى الله عليه وسلم: «وما أمرتكم به، فأتوا منه ما استطعتم» (3)
فصاحب الشعر يجب عليه إزالته، وإمرار الموسى على رأسه، فإذا سقط أحدهما
لتعذره وجب الآخر، فإذا عجز عن تحقيق الحلق، فلم يعجز عن التشبه بالحالقين.
ويستحب عند الجمهور إمرار الموسى على رأس الأصلع، لقول ابن عمر: «من جاء
يوم النحر، ولم يكن على رأسه شعر، أجرى الموسى على رأسه».
_________
(1) رواه الدارقطني وأبو داود عن ابن عباس (نيل الأوطار: 70/ 5).
(2) وروت عائشة مثله: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى المرأة أن تحلق
رأسها».
(3) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة، ولفظه: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما
أمرتكم به ... ».
(3/2268)
ثانياً ـ مقدار الواجب:
الأفضل حلق جميع الرأس بالاتفاق، لقوله تعالى: {مُحَلِّقين رؤوسكم ومقصرين}
[الفتح:27/ 48] فإن العرب تبدأ بالأهم والأفضل، ولحديث أبي هريرة المتقدم،
الذي جعل فيه التقصير في المرتبة الثالثة بعد الحلق.
والرأس يقع على جميعه، فإن حلق بعض الرأس لم يجزه عند الحنفية أقل من
الربع، وإن حلق ربع الرأس أجزأه مع الكراهة؛ لأن ربع الرأس يقوم مقام كله
في القربات المتعلقة بالرأس، كمسح ربع الرأس في الوضوء، والكراهة لترك
المسنون: وهو حلق جميع الرأس.
وأما تقدير التقصير: فهو عند المالكية والحنابلة بقدر الأنملة أو أزيد أو
أنقص بيسير، والأنملة: رأس الأصبع من المفصل الأعلى.
وأوجب الحنفية ما يزيد على قدر الأنملة، حتى يحقق التقصير من جميع الشعر،
ويتيقن من استيفاء قدر الواجب، فيخرج عن العهدة بيقين.
وقال الشافعية: أقل إزالة شعر الرأس أو التقصير: ثلاث شعرات، لقوله تعالى:
{محلِّقين رؤوسكم} [الفتح:27/ 48] أي شعر رؤوسكم؛ لأن الرأس لا يحلق،
والشعر جمع، وأقله ثلاث، أو أن يقدر لفظ الشعر منكراً فيكتفى في الوجوب
بمسمى الجمع. ولو لم يكن هناك إلا شعرة وجب إزالتها.
والإزالة: إما حلقاً أو تقصيراً وإحراقاً أو نتفاً.
ومن لا شعر برأسه يستحب إمرار الموسى عليه، وعند الحنفية: يجب كما تقدم.
(3/2269)
ثالثاً ـ زمان الحلق ومكانه:
يرى أبو حنيفة: أن الحلق يختص بالزمان والمكان، فزمانه: أيام النحر، ومكانه
الحرم، فلو أخر الحلق عن أيام النحر أو حلق خارج الحرم، يجب عليه دم؛ لأنه
صلّى الله عليه وسلم حلق في أيام النحر في الحرم، فصار فعله بياناً لمطلق
الكتاب، ويجب عليه بتأخيره دم؛ لأن تأخير الواجب بمنزلة الترك في حق وجوب
الجابر.
وقال المالكية: لو أخر الحلق ولو سهواً لبلده، ولو قربت، فعليه دم.
أما لو أخر الحلق عن أيام الرمي الثلاثة بعد يوم النحر، ففي قول ضعيف عليه
دم، والمقرر في المدونة ألا دم عليه، فإن حلق بمكة أيام التشريق، أو بعدها،
أو حلق في الحل في أيام منى، فلا شيء عليه.
وقال الشافعية، والحنابلة في الراجح من الروايتين عندهم: يدخل وقت الرمي
والذبح والحلق بنصف ليلة النحر، لكن السنة تقديم رمي، فنحر، فحلق، فطواف
إفاضة.
والحلق والطواف والسعي لا آخر لوقتها، فلا دم على من أخر الحلق عن أيام منى
أو قدمه على رمي، أو نحر أو طاف قبل رمي ولو كان عالماً، ودليلهم أن الله
تعالى بيَّن أول وقت الحلق بقوله: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي
مَحِلَّه} [البقرة:196/ 2]،ولم يتبين آخره، فمتى أتى به أجزأه كطواف
الزيارة والسعي، ولأن الأصل عدم التأقيت، ويبقى الحاج محرماً حتى يأتي بما
عليه من الحلق والطواف والسعي، لكن الأفضل فعلها يوم النحر، ويكره تأخيرها
عن يوم النحر، ويكون تأخيرها عن أيام التشريق أو عن خروجه عن مكة أشد
كراهة.
(3/2270)
رابعاً ـ الأثر المترتب على الحلق أو
التقصير أو حكمه: حكم الحلق أو التقصير: صيرورة المحرم حلالاً، فيحل له كل
شيء إلا النساء عند الحنفية، أي إن المحرم إذا رمى جمرة العقبة ثم حلق، حل
له كل ما كان محظوراً بالإحرام إلا النساء، فيبقى ما كان محرماً عليه من
النساء من الوطء والقبلة واللمس لشهوة، وعقد الزواج عند الجمهور غير
الحنفية، ويحل له ماسواه، فإن حلق أو قصر ورمى العقبة، حل له عندهم كل شيء
إلا النساء، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا رميتم وحلقتم، فقد حل لكم
الطيب والثياب، وكل شيء إلا النساء» (1) وفي لفظ «إذا رمى أحدكم جمرة
العقبة، وحلق رأسه، فقد حل له كل شيء إلا النساء» (2)، أي الوطء والمباشرة
فيما دون الفرج.
وقال الشافعية والحنابلة: يحل كل شيء بالرمي والحلق إلا عقد النكاح (3)،
والوطء، والمباشرة فيما دون الفرج، لحديث: «إذا رميتم الجمرة، فقد حل لكم
كل شيء إلا النساء» (4).
وقال المالكية: يحل بالرمي والحلق كل شيء إلا النساء والصيد والطيب، ولا
يحل شيء من هذه الأمور إلا بطواف الإفاضة.
ويقال للتحلل بعد الحلق: التحلل الأول، وبعد الطواف: التحلل الأكبر كما
سنبين.
_________
(1) رواه سعيد عن عائشة.
(2) رواه الأثرم وأبو داود، إلا أنه قال: هو ضعيف.
(3) وهذا على الأظهر عند الشافعية، كما رجح النووي رحمه الله.
(4) رواه النسائي بإسناد جيد.
(3/2271)
خامساً ـ حكم تأخير الحلق عن الزمان والمكان: إذا أخر الحلق عن زمانه أو
مكانه، وجب الدم عند أبي حنيفة، ويجب الدم عند المالكية فقط إذا رجع إلى
بلده جاهلاً أو ناسياً، والراجح ألا يجب شيء بالتأخير عن أيام التشريق
الثلاثة بعد يوم النحر، ما لم يرجع لبلده.
وقال الشافعية والحنابلة وأبو يوسف: لا يجب الدم بتأخير الحلق عن أيام
الرمي، أو لما بعد العودة إلى البلد، كما تقدم. |