الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي المبحث الثامن ـ
كيفية أداء الحج والعمرة:
عرفنا أن أداء الحج والعمرة له حالات ثلاث: الإفراد، التمتع، القران (2)،
وبينت الأفضل منها في المذاهب في بحث أركان الحج والعمرة.
أولاً ـ كيفية الإفراد: الإفراد أن يحرم بالحج وحده، ثم لا يعتمر حتى يفرغ
من حجه.
_________
(1) رواه أبو داود، وروى الدارقطني مثله عن سرَّاء بنت نبهان.
(2) راجع فتح القدير: 134/ 2 - 224، اللباب شرح الكتاب: 179/ 1 - 199،
القوانين الفقهية: ص 131 - 135، المهذب: 220/ 1 - 232، غاية المنتهى: 407/
1 - 412.
(3/2276)
وكيفيته: أن يغتسل أو يتوضأ قبل الإحرام،
والغسل أفضل منه، ويلبس ثوبين جديدين أوغسيلين إزاراً ورداء، ويتطيب، ويصلي
ركعتي الإحرام، في غير وقت الكراهة، ويقول: (اللهم إني أريد الحج فيسِّره
لي وتقبله مني)، ثم يلبي عقب صلاته، ناوياً بتلبيته الحج، ويكثر من التلبية
عقيب الصلوات، وفي الصعود والنزول والركوب ولقاء الرفقة، وبالأسحار.
فإذا لبى ناوياً فقد أحرم، فيمتنع عما نهى الله عنه من الرَّفث والفسوق
والجدال (1)، ولا يقتل صيداً ولا يشير إليه، ولا يدل عليه، ولا يلبس مخيطاً
ولا خفاً، ولا يغطي رأسه ولا وجهه، ولا يمس طيباً، ولا ينتف أو يقص شعراً
ولا ظفراً.
ولا بأس أن يغتسل بغير صابون؛ لأنه نوع طيب، وله أن يستظل بالبيت والمظلة،
وأن يشد في وسطه الهِمْيان (وهو ما يجعل فيه الدراهم ويشد على الوسط) ومثله
المنطقة.
فإذا دخل مكة ابتدأ بالمسجد الحرام بعد تأمين أمتعته، داخلاً ـ كماذكر
الحنفية ـ من باب السلام خاشعاً متواضعاً، ملاحظاً عظمة البيت وشرفه، فإذا
عاين البيت كبر الله تعالى وهلل ثلاثاً ودعا بما أحب، فإنه من أرجى مواضع
الإجابة.
ثم يطوف غير المكي طواف القدوم؛ لأنه تحية البيت، مبتدئاً بالحجر الأسود،
مستقبلاً له، مكبراً مهللاً (2)، رافعاً يديه كرفعهما للصلاة، مستلماً له
بباطن كفيه، ثم مقبِّلاً له إن استطاع من غير أن يؤذي مسلماً (3)، ثم يدور
حول الكعبة عن
_________
(1) الرفث: الجماع، أو الكلام الفاحش، والفسوق: المعاصي: والجدال: الخصام
مع الرفقة وغيرهم.
(2) يقول: (لا إله إلا الله، والله أكبر، اللهم أنت السلام، ومنك السلام،
وإليك يعود السلام، فحينا ربنا بالسلام، اللهم إيماناً بك، وتصديقاً
بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمدصلّى الله عليه وسلم).
(3) يقول في أثناء الطواف: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده،
ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده).
(3/2277)
يساره، ويطوف بالبيت سبعة أشواط، من وراء
الحطيم (الحِجْر)، ويستلم الحجَر والركن اليماني في كل شوط يمر بهما، ويختم
الطواف بالاستلام كما ابتدأ به، ثم يصلي عند مقام إبراهيم أو حيث تيسر من
المسجد، في وقت مباح غير مكروه.
وليس على أهل مكة طواف القدوم، وإذا لم يدخل المحرم مكة وتوجه إلى عرفات
ووقف بها، سقط عنه طواف القدوم، ولا شيء عليه لتركه.
ثم يسعى بين الصفا والمروة سبعاً، يصعد على كل منهما، ويستقبل البيت،
مكبراً مهللاً، مصلياً على النبي صلّى الله عليه وسلم، داعياً الله تعالى
بحاجته، ويرمل بين الميلين الأخضرين، مبتدئاً بالصفا، مختتماً بالمروة.
ثم يقيم بمكة محرماً، يطوف بالبيت كلما بدا له، ثم يخرج في ثامن ذي الحجة
إلى منى، فيبيت فيها، ويصلي فيها خمس صلوات (الظهر والعصر والمغرب والعشاء
والفجر).
وفي اليوم التاسع يتوجه إلى عرفات، فيصلي مع الإمام أو منفرداً في مسجد
نمرة صلاة الظهر والعصر مقصورتين مجموعتين جمع تقديم، مستمعاً للخطبة بأذان
واحد وإقامتين. ويستحب أن يغتسل قبل الوقوف.
ثم يتوجه إلى الموقف، فيقف بقرب الجبل، وعرفات كلها موقف إلا بطن عُرَنة،
وينبغي للإمام أن يقف بعرفة على راحلته، ويدعو، ويعلم الناس المناسك،
ويستحب أن يجتهد في الدعاء. ومن أدرك الوقوف بعرفة ما بين زوال الشمس من
يوم عرفة إلى طلوع الفجر من يوم النحر، فقد أدرك الحج. ومن مرَّ بعرفة وهو
نائم أو مغمى عليه، أو لم يعلم أنها عرفة، أجزأه ذلك عند الحنفية عن
الوقوف.
فإذا غربت الشمس، أفاض الإمام والناس معه على هينتهم على طريق المأزمين،
حتى يأتوا المزدلفة، فينزلوا بها. والمستحب أن ينزل بقرب جبل قُزَح وهو
(3/2278)
المشعر الحرام. ويصلي الإمام بالناس المغرب
والعشاء جمع تأخير مع قصر العشاء، بأذان واحد، وإقامة واحدة عند الحنفية،
ولا يجوز عند أبي حنيفة ومحمد أن يصلي المغرب في الطريق إلى المزدلفة،
وعليه إعادتها ما لم يطلع الفجر.
فإذا طلع الفجر يوم النحر، صلى الإمام بالناس الفجر بغَلَس لأجل الوقوف، ثم
وقف بمزدلفة وجوباً عند الحنفية ولو لحظة، ووقته من طلوع الفجر إلى طلوع
الشمس، ووقف الناس معه، فدعا وكبر وهلل ولبى وصلى على النبي صلّى الله عليه
وسلم، ويلتقط حصى الرمي سبعين من المزدلفة.
والمزدلفة كلها موقف إلا بطن مُحَسِّر (وهو وادٍ بين منى ومزدلفة).
ثم أفاض الإمام والناس معه قبل طلوع الشمس حتى يأتوا منى، فيرمي جمرة
العقبة من بطن الوادي بسبع حَصَيات مثل حصى الخذف، ويكبر مع كل حصاة، ولا
يقف عندها؛ لأنه لا رمي بعدها، ويقطع التلبية مع أول حصاة (1)،إن رمى قبل
الحلق، فإن حلق قبل الرمي قطع التلبية؛ لأنها لا تثبت مع التحلل.
ثم يذبح تطوعاً إن أحب لأنه مفرد، ثم يحلق أو يقصر بمقدار الأنملة، والحلق
أفضل من التقصير، فيحل له حينئذ كل شيء إلا النساء، وإلا الصيد والطيب عند
المالكية.
ثم يأتي مكة يوم العيد أو بعده بيوم أو يومين، فيطوف طواف الزيارة (وهو
طواف الفرض) سبعة أشواط، ثم يسعى بين الصفا والمروة، إن لم يكن سعى عقيب
طواف القدوم، ويرمل الذكر في الأشواط الثلاثة الأولى من الطواف،
_________
(1) هذا رأي الجمهور، وقال المالكية: تقطع التلبية بزوال الشمس من يوم
عرفة.
(3/2279)
ويضطبع (1) فيه إن سعى الآن؛ لأن الرمل
والاضطباع مشروعان في كل طواف بعده سعي.
ويكره تأخير الطواف عن الأيام الثلاثة (وهي يوم العيد ويومان بعده)، فإن
أخره عنها، لزمه دم عند أبي حنيفة.
ثم يعود إلى منى، فيقيم بها لأجل الرمي ووقته ما بعد الزوال من اليوم
الثاني من أيام النحر، مبتدئاً برمي الجمرة التي تلي مسجد الخَيْف بسبع
حصيات، يكبر مع كل حصاة، ويقف عندها ويدعو؛ لأن بعده رمي، ثم يرمي الجمرة
الوسطى، ويقف عندها ويدعو، ثم يرمي جمرة العقبة، ولكنه لا يقف عندها؛ لأنه
ليس بعدها رمي.
ثم يرمي في اليوم الثالث الجمار الثلاث بعد زوال الشمس، وله أن يتعجل النفر
إلى مكة بعدئذ أو يقيم لرمي الجمار الثلاث في اليوم الرابع بعد الزوال بعد
طلوع الفجر. وينزل بالمُحَصَّب (2) عند نفره إلى مكة.
وإذا أراد الحاج مغادرة مكة، طاف بالبيت سبعة أشواط لا يرمل فيها طواف
الوداع أو الصَّدَر، وهو واجب عند الجمهور غير المالكية إلا على أهل مكة،
ثم يعود إلى أهله، لفراغه من أعمال الحج.
والمرأة والخنثى المشكل في جميع ماسبق كالرجل، غير أنها لا تكشف رأسها،
وتكشف وجهها، ولا ترفع صوتها بالتلبية، ولا ترمُل في الطواف،
_________
(1) الرمل: أن يسرع الطائف مشيه مقارباً خطاه، والاضطباع: جعل وسط ردائه
تحت منكبه الأيمن ويكشفه إن تيسر، ويلقي طرفيه على عاتقه الأيسر، ولا يسن
ذلك في ركعتي الطواف لكراهته في الصلاة، ثم يعيده عند إرادة السعي.
(2) يقال له: الأبطح وخيف بن كنانة.
(3/2280)
ولاتهرول بين الميلين الأخضرين، ولا تحلق
رأسها، ولكن تقصِّر، وتلبس المخيط والخفين. وإذا كانت حائضاً أو نفساء فعلت
كل أفعال الحج غير الطواف بالبيت، فإنها تنتظر حتى تطهر.
وإن حاضت المرأة عند الإحرام اغتسلت وأحرمت، وإن حاضت بعد الوقوف بعرفة
وطواف الزيارة، انصرفت من مكة، ولا شيء عليها لترك طواف الصدر.
ثانياً ـ كيفية التمتع: التمتع لغة: الانتفاع، وشرعاً عند الحنفية: الجمع
بين إحرام العمرة وأفعالها، أو أكثرها، وإحرام الحج وأفعاله، في أشهر الحج،
من غير إلمام صحيح بأهله.
والمتمتع نوعان عند الحنفية: متمتع يسوق الهدي، ومتمتع لا يسوق الهدي. وحكم
الأول كالقارن إذا دخل مكة طاف وسعى، ولا يتحلل بعد العمرة، بل يظل محرماً،
حتى يحرم بالحج يوم التروية، وينحر الهدي يوم النحر، لقوله صلّى الله عليه
وسلم في حديث جابر المتقدم: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لما سقت
الهدي، ولجعلتها عمرة» فهذا يفيد أن التحلل لا يتأتى إلا بإفراد العمرة،
وعدم سوق الهدي، ولو كان التحلل يجوز مع سوق الهدي لاكتفى بقوله: «لجعلتها
عمرة» وتحللت (1). وإذا أراد المتمتع أن يسوق الهدي، أحرم، وساق هديه.
وصفة التمتع: أن يبتدئ من الميقات،
فيحرم بعمرة، ويدخل مكة، فيطوف للعمرة، ويسعى، ويحلق أو يقصر، ويتحلل من
عمرته بما فعل، ويقطع التلبية إذا ابتدأ بالطواف، ويقيم بمكة حلالاً.
_________
(1) فتح القدير: 214/ 2.
(3/2281)
فإذا كان يوم التروية (الثامن من ذي الحجة)
أحرم بالحج من المسجد الحرام ندباً، ويشترط أن يحرم من الحرم؛ لأن
المتمتع في معنى المكي، وميقات المكي في الحج: الحرم، كما تقدم في
المواقيت. ثم يفعل ما يفعله الحاج المنفرد.
والأفضل أن يقدم الإحرام قبل يوم التروية، لما فيه من المسارعة وزيادة
المشقة.
وعليه دم التمتع (1)، فإن لم يجد الدم، صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة
إذا رجع، أي فرغ من أداء نسكه، ولو قبل وصوله إلى أهله.
فإذا حلق يوم النحر، فقد حل من الإحرامين جميعاً؛ لأن الحلق مُحلِّل في
الحج كالسلام في الصلاة، فيتحلل به عنهما.
وليس لأهل مكة عند الجمهور تمتع ولا قران، وإنما لهم الإفراد خاصة،
وقال الحنفية: يكره القران للمكي.
بطلان التمتع: يبطل تمتع المتمتع
إذا عاد إلى بلده بعد فراغه من العمرة، ولم يكن ساق الهدي؛ لأنه ألم
بأهله بين النسكين إلماماً صحيحاً. أما إذا كان قد ساق الهدي، فلا يكون
إلمامه صحيحاً، ولا يبطل تمتعه عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأنه يجب عليه
عند الأول، ويندب عند الثاني العود إلى الحرم لأجل الحلق؛ لأنه مقيد
بالحرم، والعود يمنع صحة الإلمام.
أما القارن فلا يبطل قرانه بالعود إلى بلده باتفاق الحنفية. فيكون
الفرق بين القران والتمتع عند الحنفية: هو أن التمتع يشترط فيه عدم
الإلمام بأهله، والقران لايشترط فيه عدم الإلمام بأهله.
_________
(1) وهو عند الحنفية دم شكر، فيأكل منه.
(3/2282)
متى يكون المحرم بالعمرة قبل أشهر الحج
متمتعاً؟ قال الحنفية: من أحرم بالعمرة قبل أشهر الحج، فطاف لعمرته أقل
من أربعة أشواط ثم لم يتمها حتى دخلت أشهر الحج، فتمَّمها في أشهره،
وأحرم بالحج، كان متمتعاً؛ لأن الإحرام عندهم شرط لا ركن، فيصح تقديمه
على أشهر الحج كما بينت، وإنما يعتبر أداء الأفعال في أشهر الحج، وقد
وجد الأكثر، وللأكثر حكم الكل.
أما إن طاف لعمرته قبل أشهر الحج أربعة أشواط فصاعداً، ثم حج من عامه
ذلك، لم يكن متمتعاً؛ لأنه أدى الأكثر قبل أشهر الحج، فصار كما إذا
تحلل منها قبل أشهر الحج.
والحاصل أن الأكثر له حكم الكل عند الحنفية، فإذا حصل الأكثر قبل أشهر
الحج، فكأنها حصلت كلها، والمتمتع: هو الذي يتم العمرة والحج في أشهر
الحج.
ثالثاً ـ كيفية القران: القران لغة: الجمع بين الشيئين مطلقاً، وشرعاً:
الجمع بين إحرام العمرة والحج في سفر واحد.
وصفة القران: أن يهل بالعمرة والحج
معاً من الميقات، إما حقيقة بنية الأمرين معاً، وإما حكماً عند الحنفية
خلافاً لغيرهم: بأن أحرم بالعمرة أولاً، ثم بالحج قبل أن يطوف لها أكثر
الطواف؛ لأن الجمع قد تحقق؛ لأن الأكثر منها قائم، ويصح العكس عند
الجمهور: بأن يحرم بالحج، ثم يدخل العمرة عليه، لكنه مكروه عند
الحنفية.
وإدخال الحج على العمرة عند الجمهور (غير الحنفية) يكون قبل شروع
المحرم في الطواف، فإن شرع فيه ولو بخطوة، فلايجوز إدخال الحج على
العمرة.
(3/2283)
ويلحق القران عند الحنفية التمتع إذاساق
المتمتع الهدي، كما أوضحت، فلا يتحلل بعد العمرة، كما هو شأن المتمتع،
بل يظل محرماً حتى ينحر الهدي يوم النحر.
ويقول القارن عقيب صلاة ركعتي الإحرام: (اللهم إني أريد الحج والعمرة،
فيسرهما لي، وتقَّبلهما مني) لبيك اللهم لبيك ... إلخ.
فإذا دخل القارن مكة، طاف بالبيت سبعة أشواط، يرمل في الثلاث الأُول
منها، ويسعى بعدها بين الصفا والمروة. وهذه أفعال العمرة.
ثم يشرع عند الحنفية بأفعال الحج كالمُفرِد، ويطوف بعد السعي المذكور
طواف القدوم، ويطوف طواف الإفاضة للحج، ويسعى أيضاً بين الصفا والمروة
كالمفرد، لقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة:196/ 2]
وتمامها أن يأتي بأفعالهما على الكمال، ولم يفرق بين القارن وغيره.
ويدل له أن صبيّ بن معبد لما طاف طوافين وسعى سعيين، قال له عمر: «هديت
لسنة نبيك» (1)، وقال علي في القارن: «إذا أهللت بالحج والعمرة، فطف
لهما طوافين، واسع لهما سعيين بالصفا والمروة». (2).
وقال الجمهور (3): يكفي للقارن طواف واحد وسعي واحد، لما روى الترمذي
وصححه أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف
واحد،
_________
(1) قال الزيلعي: هذا الحديث لم يقع هكذا، فقد أخرجه أبو داود والنسائي
وابن ماجه عن الصبيّ بن معبد الثعلبي، قال: «أهللت بهما معا ً»، فقال
عمر: «هديت لسنة نبيك» (نصب الراية: 109/ 3).
(2) رواه محمد بن الحسن في كتاب الآثار (نصب الراية: 111/ 3).
(3) المغني: 456/ 3 ومابعدها، مغني المحتاج: 514/ 1.
(3/2284)
وسعي واحد، حتى يحل منهما جميعاً» (1) لكن
يطوف القارن كالمفرد طواف القدوم قبل طواف الإفاضة، ويسعى بعده إن لم
يكن سعى عقب طواف القدوم.
وقالت عائشة: « ... وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة، فإنما طافوا
طوافاً واحدا» (2) وقال صلّى الله عليه وسلم لعائشة لما جمعت بين الحج
والعمرة: «يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك» (3).
دم التمتع والقران: اتفق العلماء على أن المتمتع والقارن يلزمهما إذا
أحرما بالحج الهدي (4)، لقوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج، فما
استيسر من الهدي} [البقرة:196/ 2].
ودم القران والتمتع: دم شكر فيأكل منه صاحبه عند الحنفية، ولا يأكل
منهما عند الشافعية. وإن لم يدخل القارن مكة، وتوجه إلى عرفات، فقد صار
عند الحنفية رافضاً لعمرته بالوقوف، وسقط عنه دم القران، وعليه دم
لرفضه عمرته، وهو دم جبر لا يجوز أكله منه، ووجب عليه قضاؤها؛ لأنه
بشروعه فيها أوجبها على نفسه، ولم يوجد منه الأداء، فلزمه القضاء.
ويسقط عند الشافعية دم التمتع إن عاد لإحرام الحج إلى الميقات.
واختلف الفقهاء في وقت ذبح دم التمتع
والقران (5):
فقال الجمهور: يجب ذبح شاة أو بقرة أو بدنة أو سُبْع بدنة أيام النحر
بمنى بعد رمي جمرة العقبة يوم العيد وقبل الحلق؛ لأنه صلّى الله عليه
وسلم نحر هديه على هذه الصفة.
_________
(1) وأخرجه أيضاً ابن ماجه عن ابن عمر، ورواه أحمد بلفظ «من قرن بين
حجة وعمرة، أجزأه بهما طواف واحد» (نصب الراية: 108/ 3).
(2) متفق عليه بين البخاري ومسلم.
(3) أخرجه مسلم.
(4) المغني: 469/ 3، مغني المحتاج: 516/ 1.
(5) اللباب: 193/ 1، الشرح الصغير: 120/ 2، مغني المحتاج: 516/ 1،
المغني: 475/ 3.
(3/2285)
وقال الشافعية: الأفضل الذبح يوم النحر
للاتباع وخروجاً من خلاف الأئمة الثلاثة، لكن وقت وجوب الدم هو الإحرام
بالحج؛ لأنه حينئذ يصير متمتعاً بالعمرة إلى الحج، والأصح جواز ذبحه
إذا فرغ من العمرة. ويختص ذبح الهدي بالحرم، والقدرة على الذبح في
الحرم أيضاً، سواء أقدر عليه في بلده أم في غيره أم لا.
فإن لم يجد هَدْياً يجب عليه صيام ثلاثة أيام في الحج، آخرها يوم عرفة،
ثم يصوم سبعة أيام إذا رجع إلى أهله، وإن صامها بمكة بعد فراغه من
الحج، جاز.
وللفقهاء آراء في وقت الصيام البديل عن
الهدي عند العجز عنه، وفي تتابع الأيام وغير ذلك:
فقال الحنفية (1): يجوز الصوم ولو
كانت الأيام متفرقة، فلا يشترط تتابعها، ووقت صيام الأيام الثلاثة وقت
أشهر الحج بعد الإحرام بالعمرة، لقوله تعالى: {فصيام ثلاثة أيام في
الحج} [البقرة:196/ 2] أي في أشهره؛ لأن نفس الحج لا يصلح ظرفاً
للصيام، لكن الأفضل أن يصوم قبل يوم التروية بيوم، ويجوز قبل يوم عرفة،
فإن فاته صوم الأيام الثلاثة في أيام الحج، حتى جاء يوم النحر، لم
يُجْزه إلا الدم؛ لأن الصوم بدل عن الهدي، والآية خصت الصوم بوقت الحج،
فمن تأخر عن الصيام إلى يوم النحر، تحلل، ولزمه دمان: دم التمتع ودم
التحلل قبل نحر الهدي.
وله أن يصوم الأيام السبعة بعد تمام أيام الحج في أي مكان شاء، لقوله
تعالى: {وسبعة إذا رجعتم} [البقرة:196/ 2] أي فرغتم من أفعال الحج، لكن
في غير أيام التشريق.
_________
(1) الدر المختار: 264/ 2 ومابعدها، اللباب: 193/ 1 ومابعدها.
(3/2286)
وجاز صوم الأيام الثلاثة قبل الشروع في
أعمال الحج.
وقال المالكية (1): تجب متابعة
الأيام الثلاثة وكذا السبعة في الصوم، وصوم الثلاثة يكون في أيام الحج
آخرها يوم عرفة. ومن جهل أو نسي، صام أيام منى الثلاثة. ويكون صوم
السبعة بعد ذلك إن شاء تعجلها في طريقه لأهله، وإن شاء أخرها إلى بلده.
ولا يجوز صوم الثلاثة قبل الشروع في أعمال الحج.
وقال الشافعية (2): يندب تتابع صوم
الثلاثة وكذا السبعة. ولو فاتته الثلاثة في الحج، فالأظهر أنه يلزمه
قضاؤها؛ لأنه صوم مؤقت، فيقضى كصوم رمضان، ويلزمه أن يفرق في قضائها
بينها وبين السبعة، بقدر أربعة أيام (يوم النحر وأيام التشريق) وبقدر
إمكان السير إلى أهله على العادة الغالبة، كما في الأداء، فلو صام عشرة
أيام ولاء، حصلت الثلاثة، ولا يعتد بالبقية لعدم التفريق.
والصوم يكون عند العجز عن الهدي حساً بأن فقده، وفقد ثمنه، أو للعجز
عنه شرعاً بأن وجده بأكثر من ثمن مثله، أو كان محتاجاً إليه، أو إلى
ثمنه أوغاب عنه ماله أو نحو ذلك.
ووقت صوم الأيام الثلاثة: بعد الإحرام بالحج، للآية: {فصيام ثلاثة أيام
في الحج} [البقرة:196/ 2] فلا يجوز تقديمها على الإحرام بخلاف الدم؛
لأن الصوم عبادة بدنية، فلا يجوز تقديمها على وقتها كالصلاة، والدم
عبادة مالية فأشبه الزكاة.
وتستحب قبل يوم عرفة؛ لأن صومه في الحج مكروه، ويصوم بعد الثلاثة سبعة
إذا رجع إلى وطنه وأهله في الأظهر، إن أراد الرجوع إليهم، لقوله تعالى:
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 140، بداية المجتهد: 357/ 1.
(2) مغني المحتاج: 516/ 1 ومابعدها.
(3/2287)
{وسبعة إذا رجعتم} [البقرة:196/ 2] ولقوله
صلّى الله عليه وسلم:
«فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله»
(1)،فلا يجوز صومها في الطريق لذلك. فإن أراد الإقامة بمكة، صامها بها.
وفصل الحنابلة رأيهم في الصوم
فقالوا (2): لا يجب التتابع في صوم الأيام. ولكل من صوم الثلاثة
والسبعة وقتان: وقت جواز، ووقت استحباب.
فوقت الاستحباب أو الاختيار لصوم الثلاثة: هو أن يصومها ما بين إحرامه
بالحج ويوم عرفة، ويكون آخر الثلاثة يوم عرفة، للحاجة إلى الصوم في هذا
الوقت، وإن كان صومه غير مستحب.
وأما وقت جواز صوم الثلاثة: فهو إذا أحرم بالعمرة، كما قال الحنفية،
خلافاً للمالكية والشافعية القائلين بأنه لا يجوز الصوم إلا بعد
الإحرام بالحج. ودليل الأولين: أن إحرام العمرة أحد إحرامي التمتع،
فجاز الصوم بعده كإحرام الحج كتقديم الكفارة على الحنث. ودليل الآخرين
آية: {فصيام ثلاثة أيام في الحج} [البقرة:196/ 2].
وأما وقت الاختيار لصوم السبعة: فهو إذا رجع إلى أهله، للآية والحديث
المتقدمين. وأما وقت الجواز: فمنذ تمضي أيام التشريق سواء في الطريق أو
بمكة كيف شاء؛ لأن كل صوم لزمه وجاز في وطنه، جاز قبل ذلك كسائر
الفروض، وأما الآية {إذا رجعتم} [البقرة:196/ 2] فإن الله تعالى جوز له
تأخير الصيام الواجب، فلا يمنع ذلك الإجزاء قبله، كتأخير صوم رمضان في
السفر والمرض بقوله سبحانه: {فعدة من أيام أخر} [البقرة:184/ 2]، ولأن
الصوم وجد من أهله بعد وجود سببه، فأجزأه كصوم المسافر والمريض.
_________
(1) رواه الشيخان عن ابن عمر.
(2) المغني: 476/ 3 - 478.
(3/2288)
وإذا لم يصم المتمتع الأيام الثلاثة في الحج، صامها بعد ذلك ولو في
أيام منى، كما قال المالكية والشافعية خلافاً للحنفية؛ لأنه صوم واجب،
فلا يسقط بخروج وقته كصوم رمضان، والآية تدل على وجوبه لا على سقوطه،
ويصح الصوم في أيام منى لقول عمر وعائشة: «لم يرخص في أيام التشريق أن
يُصَمن إلا لمن لم يجد الهدي» (1) وهذا ينصرف إلى ترخيص النبي صلّى
الله عليه وسلم، ولأن الله تعالى أمر بصيام الثلاثة في الحج، ولم يبق
من أيام الحج إلا هذه الأيام، فيتعين الصوم فيها، فإذا صام هذه الأيام،
فحكمه حكم من صام قبل يوم النحر.
وإذا صام عشرة أيام، لم يلزمه التفريق بين الثلاثة والسبعة، خلافاً
للشافعية؛ لأنه صوم واجب في زمن يصح الصوم فيه، فلم يجب تفريقه، كسائر
الصوم.
ووقت وجوب الصوم: وقت وجوب الهدي؛ لأن الصوم بدل، فكان وقت وجوبه وقت
وجوب المبدل، كسائر الأبدال.
|