الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي المبحث الثاني عشر ـ
الفوات والإحصار:
الفوات: ما يفوت به الحج، وحكم الفوات
(1):
ما يفوت به الحج: من أحرم بالحج مطلقاً
فرضاً أو نفلاً، صحيحاً أوفاسداً، ثم فاته الوقوف بعرفة حتى طلع الفجر من
يوم النحر، فقد فاته الحج؛ لأن وقت الوقوف يمتد إليه، ولأن الحج عرفة.
قال ابن جزي المالكي: وكذلك يفوت الحج بفوات أعماله كلها، وإذا أقام بعرفة
حتى طلع الفجر من يوم النحر، سواء أكان وقف بها أم لم يقف. والعمرة لا
تفوت؛ لأنها غير مؤقتة بوقت.
حكم الفوات: قال الحنفية: من فاته الحج
وجب عليه أن يتحلل بأفعال العمرة: بأن يطوف ويسعى من غير إحرام جديد لها،
ويحلق أو يقصر، ثم يقضي الحج من عام قابل، ولا دم عليه؛ لأن التحلل وقع
بأفعال العمرة، فكانت في حق فائت الحج بمنزله الدم في حق المحصَر، فلا يجمع
بينهما، فلو كان الفوات سبباً للزوم الهدي للزم المحرم هديان: للفوات
والإحصار.
وقال الجمهور: من فاته الحج تحلل بعمرة من طواف وسعي وحلق أوتقصير، وقضى
على الفور من عام قابل، ولزمه الهدي في وقت القضاء، وسقط عنه ما بقي من
المناسك كالنزول بمزدلفة والوقوف بالمشعر الحرام والرمي والمبيت بمنى.
أما دليل الفوات: فهو أن آخر الوقوف آخر
ليلة النحر، فمن لم يدرك الوقت حتى طلع الفجر يومئذ، فاته الحج، بلا خلاف
بين العلماء؛ لقول جابر:
«لا
_________
(1) البدائع: 220/ 2 ومابعدها، فتح القدير: 303/ 2 ومابعدها، اللباب: 214/
1 ومابعدها، الشرح الصغير: 130/ 2 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 142،
المهذب: 233/ 1، المغني: 526/ 3 - 530، مغني المحتاج: 537/ 1، حاشية
الشرقاوي: 511/ 1 ومابعدها.
(3/2344)
يفوت الحج حتى يطلع الفجر من ليلة جَمْع،
قال أبو الزبير، فقلت له: أقال رسول الله ذلك؟ قال: نعم» (1)، وقول النبي
صلّى الله عليه وسلم: «الحج عرفة، فمن جاءقبل صلاة الفجر ليلة جَمْع، فقد
تم حجه»: يدل على فواته بخروج ليلة جمع أي ليلة المزدلفة.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من وقف بعرفات بليل فقد أدرك الحج، ومن
فاته عرفات بليل، فليحل بعمرة، وعليه الحج من قابل» (2).
ودليل التحلل بعمرة: هو ما روي عن الصحابة كعمر وابن عمر (3) وغيرهما،
ولأنه يجوز فسخ الحج إلى العمرة من غير فوات، فمع الفوات أولى.
ودليل لزوم القضاء من قابل، سواء أكان الفائت واجباً أم تطوعاً: هو ما روي
عن الصحابة: عمر وابنه وابن عباس وابن الزبير ومروان، وقال صلّى الله عليه
وسلم: «من فاته عرفات فاته الحج، فليحل بعمرة، وعليه الحج من قابل» (4)،
ولأن الحج يلزم بالشروع فيه، فيصير كالمنذور، بخلاف سائر التطوعات.
وأما لزوم الهدي عند الجمهور خلافاً للحنفية: فلقول الصحابة المذكورين،
ولما روى عطاء: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من فاته الحج فعليه دم،
وليجعلها عمرة، وليحج من قابل» (5)، ولأنه حل من إحرامه قبل إتمامه فلزمه
هدي، كالمحرم لم يفت حجه، فإنه يحل قبل فواته.
_________
(1) رواه الأثرم بإسناده.
(2) رواه الدارقطني عن ابن عمر، وضعفه.
(3) رواه الشافعي في مسنده، وروى مالك في الموطأ بإسناد صحيح عن هبار بن
الأسود أن عمر رضي الله عنه أفتى بوجوب القضاء والدم، واشتهر في الصحابة.
(4) رواه الدارقطني عن ابن عباس.
(5) رواه النجاد بإسناده.
(3/2345)
بقاء الفائت محرماً لعام آخر: إن اختار من
فاته الحج البقاء إحرامه ليحج من قابل، فله ذلك؛ لأن تطاول المدة بين
الإحرام وفعل النسك لا يمنع إتمامه، كالعمرة، والمحرم بالحج في غير أشهره.
صفة القضاء:
قال الجمهور: إذا فات القارن الحج حل، وعليه مثل ما أهل به من قابل؛ لأن
القضاء يجب على حسب الأداء في صورته ومعناه، ويلزمه هديان: هدي للقران،
وهدي فواته.
وقال الحنفية: يطوف ويسعى لعمرته، ثم لا يحل حتى يطوف ويسعى لحجه.
الخطأ في وقت الوقوف: إذا أخطأ الناس،
فوقفوا في اليوم الثامن أو في اليوم العاشر أي في غير ليلة عرفة، أجزأهم
ذلك، ولم يجب عليهم القضاء، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «يوم عرفة الذي
يعرّف فيه الناس» (1)، ولأن الخطأ نجم عن شهادة الشاهدين برؤية الهلال قبل
الشهر بيوم، فوقفوا يوم الثامن، أو غم عليهم الهلال، فوقفوا يوم العاشر،
ومثل هذا لا يؤمن في القضاء، فسقط.
فإن اختلفوا فأصاب بعض، وأخطأ بعض، وقت الوقوف، لم يجزئهم؛ لأنهم غير
معذورين في هذا.
_________
(1) رواه الدارقطني عن عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وروى
الدارقطني أيضاً وغيره عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال:
«فطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون».
(3/2346)
الإحصار:
معناه، أحكامه ومنها مكان ذبح دم الإحصار
ووقته، ما يقضيه المحصر، زوال الإحصار (1).
أولاً ـ معنى الإحصار: الإحصار لغة: المنع، وشرعاً عند الحنفية: منع المحرم
عن أداء الركنين (الوقوف والطواف). وعند الجمهور: منع المحرم من جميع الطرق
عن إتمام الحج أو العمرة.
والمنع عند الحنفية: إما بعدو أو مرض أو ضياع نفقة أو حبس أو كسر أو عرج
وغيرها من الموانع التي تمنع المحرم من إتمام ما أحرم به حقيقة أو شرعاً.
ومن أحصر بمكة وهو ممنوع من الركنين: الوقوف والطواف، كان محصراً؛ لأنه
تعذر عليه الإتمام، فصار كما إذا أحصر في الحل، وإن قدر على أحد الركنين،
فليس بمحصر؛ لأنه إن قدر على الطواف تحلل به، وإن قدر على الوقوف فقد تم
حجه، فليس بمحصر.
والمنع الذي يعدّ به المحرم محصراً عند الجمهور: هو ما يكون بعدو، فالإحصار
بعدو بعد الإحرام مبيح للتحلل إجماعاً. ولا يجوز التحلل بعذر المرض أوالحبس
في دَين يتمكن من أدائه، أو ذهاب نفقة، فمن مرض يصبر حتى يبرأ، فإذا برئ
أتم ما أحرم به من حج أو عمرة. وعلى المدين أن يؤدي الدين ويمضي في
_________
(1) البدائع: 175/ 2 - 182، فتح القدير: 295/ 2 - 302، اللباب: 212/ 1 -
214، بداية المجتهد: 342/ 1 - 346، القوانين الفقهية: ص141، الشرح الصغير:
133/ 2 - 136، الشرح الكبير: 93/ 2 - 98، مغني المحتاج: 532/ 1 - 537،
المجموع: 242/ 8 - 268، المهذب: 233/ 1 - 235، المغني: 356/ 3 - 364، كشاف
القناع: 607/ 2 - 614، الإيضاح: ص 97 - 98.
(3/2347)
حجه، فإن فاته الحج في الحبس لزمه المسير
إلى مكة، ويتحلل بعمل عمرة، ويلزمه القضاء. ومن ذهبت نفقته بعث بهدي إن كان
معه ليذبحه بمكة، وكان على إحرامه حتى يقدر على الوصول إلى البيت. وعليه،
فكل من تعذر عليه الوصول إلى البيت بغير حصر العدو من مرض أو عرج أو ذهاب
نفقة وضياع طرق ونحوه، لا يجوز له التحلل بذلك، بل يصبر حتى يزول عذره.
المحصر بمكة: من حصر بمكة عن البيت بعدو
أو مرض أو حبس ولو بحق، ووقف بعرفة، فقد أدرك الحج، ولا يحل إلا بطواف
الإفاضة، ولو بعد سنين.
شرط التحلل: لكن إن شرط المحرم التحلل
بمرض، تحلل به، لما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: «دخل رسول
الله صلّى الله عليه وسلم على ضُبَاعة بنت الزبير، فقال لها: أردت الحج،
فقالت: والله، ما أجدني إلا وجعة، فقال: حجي واشترطي، وقولي: اللهم
مَحِلِّي حيث حبستني» ويقاس عليه غيره. ولا يسقط عنه الدم عند الحنفية
والشافعية إذا شرط عند الإحرام أنه يتحلل إذا أحصر.
وقال الحنابلة: لاشيء عليه، لاهدي ولا قضاء ولاغيره، فإن للشرط تأثيراً في
العبادات.
الأدلة:
استدل الحنفية: على عموم أسباب الإحصار بعموم قوله تعالى: {فإن أحصرتم فما
استيسر من الهدي} [البقرة:196/ 2] والمنع كما يكون من العدو، يكون من المرض
وغيره، والعبرة بعموم اللفظ لابخصوص السبب، إذ الحكم يتبع اللفظ لا السبب.
وعن الكسائي وأبي معاذ أن الإحصار من المرض، والحصر من العدو، فعلى هذا
كانت الآية خاصة في الممنوع بسبب المرض.
(3/2348)
واستدل الجمهور: بأن آية الإحصار المذكورة:
{فإن أحصرتم .. } [البقرة:196/ 2] نزلت في أصحاب رسول الله صلّى الله عليه
وسلم حين أحصروا من العدو، وفي آخر الآية الشريفة دليل عليه، وهو قوله عز
وجل: {فإذا أمنتم} [البقرة:196/ 2] والأمان: من العدو يكون (1).
وروي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما أنهما قالا: «لا حصر إلا من
عدو».
شروط التحلل عند المالكية: يرى المالكية
أن للمحصر خمس حالات يصح له الإحلال في أربع منها: وهي أن يكون العذر
طارئاً بعد الإحرام، أو متقدماً ولم يعلم به، أو علم وكان يرى أنه لا يصده،
وأن يشرط الإحلال فيما إذا شك هل يصدونه أو لا؟
ويمتنع الإحلال في حالة واحدة، هي إن صد عن طريق، وهو قادر على الوصول من
غيره.
رفض الإحرام: إن قال المحرم: أنا أرفض
الإحرام وأحل، فلبس الثياب، وذبح الصيد، وعمل ما يعمله الحلال، يظل محرماً،
ويكون الإحرام باقياً في حقه، تلزمه أحكامه، ويلزمه جزاء كل جناية جناها
عليه، فعليه في كل فعل فعله دم، وإن وطئ فعليه أيضاً للوطء بدنة، مع ما يجب
عليه من الدماء، ويفسد حجه. وليس عليه لرفضه الإحرام شيء؛ لأنه مجرد نية لم
تؤثر شيئاً.
_________
(1) لكن قال ابن رشد في (بداية المجتهد: 345/ 1): الأظهر أن قوله سبحانه:
{فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج} [البقرة:196/ 2] أنه في غير
المحصر، بل هو في التمتع الحقيقي، فكأنه قال: فإذا لم تكونوا خائفين، لكن
تمتعتم بالعمرة إلى الحج، فما استيسر من الهدي، ويدل على هذا التأويل قوله
سبحانه: {ذلك لمن لَمْ يكن أهله حاضري المسجد الحرام} [البقرة:196/ 2]
والمحصر يستوي فيه حاضر المسجد الحرام وغيره بإجماع.
(3/2349)
تحليل الزوجة من حج
تطوع: ذكر الشافعية والحنفية أن للزوج تحليل زوجته،
كما له منعها ابتداء من حج أو عمرة تطوع أو فرض في الأظهر لم يأذن فيه،
لئلا يتعطل حقه من الاستمتاع، كما له أن يخرجها من صوم النفل، وإن أذن لها،
لم يجز لرضاه بالضرر. وتحليلها في الحال من غير ذبح هدي عند الحنفية، ومع
الهدي عند الشافعية. والمراد بتحليله إياها: أن يأمرها بالتحلل، وتحللها
كتحلل المحصر. فإن لم يأمرها، لم يجز لها التحلل. وليس للزوج تحليل الرجعية
أو البائن، بل يحبسها للعدة، فإن انقضت عدتها أتمت عمرتها أو حجها إن بقي
الوقت، وإلا تحللت بعمرة، ولزمها القضاء ودم الفوات.
ثانياً ـ أحكام الإحصار: يتعلق بالمحصر أحكام، لكن الأصل فيه حكمان: أحدهما
ـ جواز التحلل عن الإحرام، والثاني ـ وجوب قضاء ما أحرم به بعد التحلل.
أما جواز التحلل من الإحرام وهو الحكم الأول: فيقتضي بيان
معنى التحلل ودليل جوازه، وما يتحلل به، ومكان وزمان ذبح الهدي.
أما معنى التحلل: فهو فسخ الإحرام والخروج منه بالطريق الموضوع له شرعاً.
وأما دليل جوازه فقوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي}
[البقرة:196/ 2] وفيه إضمار، ومعناه: فإن أحصرتم عن إتمام الحج والعمرة،
وأردتم أن تحلوا، فاذبحوا ما تيسر من الهدي، إذ الإحصار نفسه لا يوجب
الهدي.
وأما ما يتحلل به: فإن أمكنه الوصول إلى البيت، تحلل بعمل عمرة، وإن تعذر
عليه ذلك ذبح الهدي، فيبعث عند الحنفية بالهدي أو بثمنه ليشتري به هدياً،
فيذبح عنه، وما لم يذبح لا يحل، سواء عند الحنفية شرط الشخص عند الإحرام
الإحلال بغير ذبح عند الإحصار أو لم يشترط.
(3/2350)
والهدي: بدنة أو بقرة أو شاة.
ورأي الجمهور: أن من أحصر تحلل بهدي، سواء أكان حاجاً أم معتمراً أم
قارناً، للآية السابقة: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة:196/ 2]
والآية نزلت بالحديبية حين صدّ المشركون النبي صلّى الله عليه وسلم عن
البيت، وكان معتمراً، فنحر ثم حلق، وقال لأصحابه: «قوموا فانحروا، ثم
احلقوا» (1).
وإن كان قارناً فعليه عند الشافعية والحنابلة دم واحد، وعند الحنفية دمان،
بناء على أصل أن القارن عند الحنفية محرم بإحرامين، فلا يحل إلا بهذين،
وعند الآخرين محرم بإحرام واحد، ويدخل إحرام العمرة في الحجة، فيكفيه دم
واحد.
فإن لم يكن مع المحصر هدي، وعجز عنه، انتقل عند الحنابلة إلى صوم عشرة
أيام: ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، لأنه دم واجب للإحرام، فكان
له بدل كدم التمتع والطيب واللباس، ويبقى على إحرامه حتى يصوم أو ينحر
الهدي؛ لأنهما أقيما مقام أفعال الحج، فلم يحل قبلهما. وانتقل عند الشافعية
في الأصح إلى الإطعام، فتقوَّم الشاة دراهم، ويخرج بقيمتها طعاماً، فإن عجز
صام عن كل مد يوماً، وإذا انتقل إلى الصوم، له التحلل في الحال في الأظهر.
وقال الحنفية والمالكية: ليس للهدي الواجب بالإحصار بدل؛ لأنه لم يذكر في
القرآن.
والتحلل عند الشافعية والحنابلة يكون بثلاثة أشياء: ذبح، ونية التحلل
بالذبح، وحلق أو تقصير، لحديث «إنما الأعمال بالنيات» ولأن النبي صلّى الله
عليه وسلم حلق يوم الحديبية، وفعله في النسك دال على الوجوب.
_________
(1) رواه البخاري وأحمد عن ابن عمر (نيل الأوطار: 9/ 5).
(3/2351)
والحلق شرط أيضاً عند المالكية، وليس بشرط
للتحلل، وإنما يحل المحصر بالذبح بدون الحلق في قول أبي حنيفة ومحمد،
لإطلاق نص الآية السابقة: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة:196/
2] فمن أوجب الحلق فقد جعله بعض الموجب، وهذا خلاف النص، ولأن الحلق للتحلل
عن أفعال الحج، والمحصر لا يأتي بأفعال الحج، فلا حلق عليه، والحديث في
الحلق بالحديبية محمول على الندب والاستحسان.
وقال المالكية: المحصر بعدو أو فتنة في حج أو عمرة يتربص ما رجا كشف ذلك،
فإذا يئس تحلل بموضعه حيث كان من الحرم وغيره، ولا هدي أو دم عليه. فإن كان
معه هدي نحره وتحلل بالنية والحلق بشرطين: أولهما ـ إن لم يعلم بالمانع عند
إرادة إحرامه. وثانيهما ـ أن ييأس من زوال المانع قبل الوقوف بعرفة،
والمعتمد عند أشياخ المالكية أنه لا يتحلل إلا بحيث لو سار إلى عرفة من
مكانه، لم يدرك الوقوف، فإن علم أو ظن أو شك أنه يزول المانع قبل الوقوف،
فلا يتحلل حتى يفوت، فإن فات الوقوف فعل عمرة.
وأما مكان ذبح الهدي عند الحنفية: فهو
الحرم، لقوله تعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله} [البقرة:2/
196] ولو كان كل موضع محلاً له، لم يكن لذكر المحل فائدة، ولأنه عز وجل
قال: {ثم مَحِلّها إلى البيت العتيق} [الحج:33/ 22] أي إلى البقعة التي
فيها البيت. فلا يجوز عندهم ذبح دم الإحصار إلا في الحرم، فيبعث شاة تذبح
في الحرم، ويواعد من يحملها يوماً بعينه يذبحها فيه، ثم يتحلل، أي يحل له
ما كان محظوراً. ويجوز للمحصر بالعمرة أن يذبح متى شاء. أما الصدقة والصوم
فيجزيان في أي مكان شاء.
وأما زمان ذبح الهدي: فيجوز عند أبي
حنيفة ذبح الهدي قبل يوم النحر،
(3/2352)
لإطلاق النص، ولأنه لتعجيل التحلل. وقال
الصاحبان: لا يجوز الذبح للمحصر بالحج إلا في يوم النحر كدم المتعة
والقران. وعلى الرأي الأول وهو الراجح: يكون زمان ذبح الهدي مطلق الوقت، لا
يتوقف بيوم النحر، سواء أكان الإحصار عن الحج أم عن العمرة.
وحكم التحلل أي أثره: صيرورته حلالاً
يباح له تناول جميع ما حظره الإحرام لارتفاع الحاظر، فيعود حلالاً كما كان
قبل الإحرام.
وقال الجمهور غير الحنفية: من تحلل ذبح شاة حيث أحصر في حل أو حرم وقت
حصره، لإطلاق الآية السابقة: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي}
[البقرة:196/ 2] ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم حينما منعه كفار قريش نحر
هديه وحلق رأسه بالحديبية، قبل يوم النحر، فله النحر في موضعه كما فعل
النبي.
لكن وإن جاز التحلل قبل يوم النحر، فالمستحب له عند الشافعية والحنابلة
وأبي حنيفة مع ذلك الإقامة على إحرامه، رجاء زوال الحصر، فمتى زال قبل
تحلله، فعليه المضي لإتمام نسكه، بغير خلاف.
والخلاصة ألا هدي على المحصر إن لم يكن معه عند المالكية، وعليه الهدي عند
الجمهور.
وأما ما يقضيه المحصر وهو الحكم الثاني
فهو مايأتي:
قال الحنفية: إذا تحلل المحصر بالحج، فعليه حجة وعمرة قضاء عما فاته؛ لأنه
في معنى فائت الحج الذي يتحلل بأفعال العمرة، فإن لم يأت بها قضاها. هذا
إذا لم يحج من عامه، فإن حج منه فلا عمرة عليه؛ لأنه ليس في معنى فائت
الحج.
(3/2353)
وعلى المحصر بالعمرة القضاء لما شرع فيه،
وعلى المحصر القارن حجة وعمرتان، أما الحج وإحدى العمرتين: فلما تبين أنه
في معنى فائت الحج، وأما الثانية: فلأنه خرج منها بعد صحة الشروع فيها.
والحاصل أنه يجب عند الحنفية على المحصر قضاء ما أحرم به بعد التحلل:
أـ فإن كان أحرم بالحجة لاغير: فإن بقي وقت الحج عند زوال الإحصار وأراد أن
يحج من عامه ذلك، أحرم وحج، وليس عليه نية القضاء، ولا عمرة عليه. وإن مضت
السنة فعليه قضاء حجة وعمرة، ولا تسقط عنه تلك الحجة إلا بنية القضاء.
ب ـ وإن كان إحرامه بالعمرة لا غير، قضاها، لوجوبها بالشروع في أي وقت شاء؛
لأنه ليس لها وقت معين.
جـ ـ وإن كان قارناً فأحرم بالعمرة والحجة: فعليه قضاء حجة وعمرتين، أما
قضاء حجة وعمرة فلوجوبها بالشروع، وأما العمرة الأخرى فلفوات الحج في عامه
ذلك؛ لأن العمرة تتعين بالإحصار، لأنها أقل الواجبين، وهو شيء متيقن.
ودليلهم في الجملة على وجوب القضاء: أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما تحلل
زمن الحديبية قضى من قابل، وسميت عمرة القضاء، ولأنه حل من إحرامه قبل
إتمامه، فلزمه القضاء، كما لو فاته الحج.
وقال المالكية: على المتحلل بفعل عمرة أو بالنية حجة الفريضة، ولا تسقط عنه
بالتحلل المذكور. أما حجة التطوع: فيقضيها إذا كان التحلل لمرض أو خطأ عدد
أو حبس بحق، وأما لو كان التحلل لعدو أو فتنة أو حبس ظلماً، فلا يطالب
بالقضاء.
(3/2354)
وقال الشافعية: لا قضاء على المحصر المتطوع
إن تحلل من إحصار عام أو خاص، لعدم وروده، وقد أحصر مع النبي صلّى الله
عليه وسلم في الحديبية ألف وأربع مئة، ولم يعتمر معه في العام القابل إلا
نفر يسير، أكثر ما قيل: إنهم سبع مئة.
وإن لم يكن تطوعاً نظر: إن كان نسكه فرضاً مستقراً عليه، كحجة الإسلام فيما
بعد السنة الأولى من سني الإمكان، أو كانت قضاء أو نذراً، بقي في ذمته، كما
لو شرع في صلاة فرض ولم يتمها، فإنها تبقى في ذمته. وإن كان غير مستقر كحجة
الإسلام في السنة الأولى من سني الإمكان، اعتبرت الاستطاعة بعد زوال
الإحصار، إن وجدت وجب الحج، وإلا فلا.
وكذلك قال الحنابلة في الصحيح من المذهب: لا قضاء على المحصر إن تحلل ولم
يجد طريقاً أخرى إلا أن يكون واجباً، يفعله بالوجوب السابق؛ لأنه تطوع جاز
التحلل منه مع صلاح الوقت له، فلم يجب قضاؤه، كما لو دخل في الصوم يعتقد
أنه واجب، فلم يكن. وأما خبر قضاء العمرة الذي احتج به الحنفية، فلم ينقل
إلينا أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر أحداً بالقضاء، والذين اعتمروا مع
النبي صلّى الله عليه وسلم كانوا نفراً يسيراً، كما تقدم في مذهب الشافعية.
والخلاصة: إن الحنفية يوجبون القضاء، والجمهور لايوجبونه.
ثالثاً - زوال الإحصار:
قال الحنفية: إذا زال الإحصار قبل التحلل، فإن قدر على إدراك الهدي الذي
بعثه، ليذبح في الحرم، وعلى الحج، لم يجز له التحلل، ولزمه المضي، لزوال
العجز قبل حصول المقصود بالخلف، ويفعل بهديه مايشاء؛ لأنه ملكه، وقد كان
مخصصاً لمقصود استغنى عنه.
(3/2355)
وإن قدر على إدراك الهدي دون الحج، تحلل، لعجزه عن الأصل. وإن قدر على
إدراك الحج دون الهدي، جاز له التحلل استحساناً، لئلا يضيع عليه ماله
مجاناً، إلا أن الأفضل التوجه لأداء الحج.
وقال الجمهور: متى زال الحصر قبل تحلله، فعليه المضي لإتمام نسكه، وهذا لا
خلاف فيه. وإن زال الحصر بعد فوات الحج، تحلل بعمل عمرة، فإن فات الحج قبل
زوال الحصر، تحلل بهدي.
ووجوب المضي لإتمام النسك فيما إذا كانت حجته حجة الإسلام، أو كانت الحجة
واجبة؛ لأن الحج عند الأكثرين غير الشافعية يجب على الفور، فإن لم تكن
الحجة واجبة، فلا شيء عليه، كمن لم يحرم. |