الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي المبحث الحادي عشر ـ
جزاء الجنايات
تطرأ على المحرم عوارض: هي الجنايات، والإحصار، والفوات. أما الجنايات فهي
جمع جناية، وهي لغة: ما تجنيه من شر، وشرعاً: ما حرم من الفعل بسبب الإحرام
أو الحرم.
والجنايات نوعان:
1ً
- جناية على الإحرام: هي ارتكاب مخالفة
لأعمال الحج أو العمرة، أو اقتراف محظور من محظورات الإحرام السابقة، وترك
واجب من واجبات الحج، ولو كان الجاني ناسياً أو جاهلاً أو مكرهاً أو
مخطئاً، أو مغمى عليه، بشرط أن يكون الجاني عند الحنفية محرماً بالغاً، فلا
شيء على الصبي عند الحنفية والمالكية والحنابلة؛ لأن عمده خطأ، لكن لو وطئ
يفسد حجه ويمضي في فاسده، وفي وجوب القضاء عليه عند الحنابلة وجهان: الأول:
لا يجب لعدم تكليفه، والثاني: يجب كوطء البالغ.
(3/2317)
وأوجب الشافعية في الأصح على الصبي الفدية
والقضاء إذا ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام وكان عامداً لا ناسياً أو
مكرهاً، بناء على أن عمده عمد، وهو أحد القولين المشهورين (1).
والحاصل أنه يفسد حج الصبي بالجماع بلا خلاف بين أئمة المذاهب الأربعة
خلافاً لداود الظاهري، وقال الدسوقي المالكي: لا يفسد حجه.
2ً
- جناية على الحرم: وهي التعرض لصيد
الحرم وشجره، سواء من المحرم أو غيره، إذا كان الشخص مكلفاً (بالغاً
عاقلاً) ولو ناسياً أو جاهلاً أو مكرهاً أو مخطئاً. وذلك يوجب ضمان المثل
أو القيمة، وسوف أبينه في بحث خصوصيات الحرم.
أما الجناية على الإحرام: فقد توجب دماً
(2) واحداً أو أكثر، أو صدقة، أو دون ذلك، أو قيمة، على النحو التالي (3)،
وهو يشمل بحث الفدية وجزاء الصيد.
أولاً ـ الجناية التي توجب بدنة (ناقة أو بقرة) يوزع لحمها على فقراء
الحرم:
1ً - الجماع في أثناء
الإحرام قبل التحلل الأول وبعد وقوف عرفة: ويفسد حجه عند الجمهور، ولا يفسد
حجه عند الحنفية، فإن جامع المحرم زوجته قبل
_________
(1) شرح المجموع:28/ 7، الإيضاح: ص 99.
(2) يراد بكلمة الدم عند الإطلاق: هو وجوب الشاة أو سبع بدنة أو بقرة
كالواجب في الأضحية.
(3) الدر المختار:2733/ 2 - 296، فتح القدير:224/ 2 - 254، الكتاب مع
اللباب: 199/ 1 - 210، القوانين الفقهية: ص 138 ومابعدها، بداية المجتهد:
346/ 1 - 356، الشرح الكبير: 54/ 1 - 71، الشرح الصغير: 84/ 2 - 98، مغني
المحتاج: 521/ 1 - 526، المهذب: 210/ 1 - 217، غاية المنتهى: 384/ 1 - 391،
المغني:255/ 3، 492 - 526، 544 ومابعدها، مراقي الفلاح: ص 26 ومابعدها،
حاشية الشرقاوي: 510/ 1 ومابعدها.
(3/2318)
الوقوف فإنه يفسد حجه، وعليه شاة فقط عند
الحنفية، ويمضي في فاسده من حج أو عمرة حتى التمام، ثم يقضيه بالاتفاق
فوراً في العام المقبل إن كان حجاً، وبعد تمام الفاسد إن كان عمرة.
وأوجب المالكية الهدي من الأنعام (الإبل ثم البقر ثم الضأن ثم المعز)
بالجماع أو الإنزال بغير الاحتلام قبل الوقوف مطلقاً أو بعد الوقوف قبل
طواف الإفاضة ورمي جمرة العقبة يوم النحر.
2ً - إذا طاف طواف الإفاضة
جنباً أو حائضاً أو نفساء.
ثانياً ـ الجناية التي توجب دمين: هي جناية القارن عند الحنفية، وهي كل
جناية يجب بها على المفرد دم واحد، فعليه مثلاً دمان إذا حلق قبل الذبح، دم
للتأخير ودم للقران على المذهب، وقال الشافعية والمالكية والحنابلة: القارن
والمفرد في كفارات الإحرام واحد؛ لأن القارن كالمفرد في الأفعال، فكان
كالمفرد في الكفارات، فتلزمه بالجماع بدنة واحدة بسبب الإفساد لاتحاد
الإحرام، ويلزمه مع ذلك شاة للقران. والمتمتع كالقارن (1).
ثالثاً ـ الجناية التي توجب دماً واحداً إما على سبيل التخيير أو الترتيب:
1 ً - لبس المخيط وتغطية الرأس والحلق وقص الأظفار والتطيب:
قال الحنفية: إن لبس المحرم ثوباً مخيطاً أوغطى رأسه يوماً كاملاً، فعليه
دم (شاة) يفرق لحمها على فقراء الحرم، وإن كان أقل من ذلك، فعليه صدقة.
_________
(1) شرح المجموع: 7 385/ 7،394، 400، 418.
(3/2319)
وإن حلق موضع الحجامة، فعليه دم عند أبي
حنيفة، وقال الصاحبان: عليه صدقة؛ لأنه غير مقصود في ذاته.
وإن حلق ربع الرأس فصاعداً أو ربع اللحية، فعليه دم، وإن حلق أقل من الربع
فعليه صدقة؛ لأن حلق بعض الرأس ارتفاق كامل لأنه معتاد، فتتكامل به
الجناية، ويتقاصر فيما دونه.
وإن قص في مجلس واحد أظافر يديه ورجليه جميعاً، أو أظافر يديه فقط أو أظافر
يد واحدة أو رجل واحدة، فعليه شاة. وإن تعدد المجلس بأن قص أظافر يديه في
مجلس، ثم أظافر رجليه في مجلس واحد وجب عليه دمان.
وإن قص أقل من خمسة أظافر متفرقة من يديه ورجليه، فعليه صدقة عند أبي حنيفة
وأبي يوسف.
وإن طيب المحرم عضواً كاملاً كالرأس والفم واليد والرجل فأكثر أو جسمه كله،
فعليه دم (شاة)؛ لأن المعتبر الكثرة، وحد الكثرة: هو العضو.
وإن طيب المحرم ثوبه، لزمه دم بشرط لبسه يوماً كاملاً.
وإن خضب رأسه أو يده أو لحيته بحناء وجب دم.
وإن ادهن بزيت أو شيرج، لزمه دم، لأنهما أصل الطيب (1)، بخلاف بقية الأدهان
كالسمن والشحم ودهن اللوز. أما لو أكل الزيت أو داوى به جرحه أو شقوق رجليه
أو أقطر في أذنيه، فلا يجب عليه شيء، لا دم ولا صدقة باتفاق الحنفية، لأنه
ليس بطيب من كل وجه، لكن لو استعمل المسك والعنبر والغالية
_________
(1) ومن الأدهان الموجبة لذبح شاة: زيت الشعر ونحوه أو الكريم.
(3/2320)
والكافور ونحوهما مما هو طيب في نفسه، فإنه
يلزمه الدم بالاستعمال ولو على وجه التداوي. ولو جعله في طعام وإن لم يطبخ
فلا شيء فيه إذا كان مغلوباً، ويكره أكله، كما يكره شم الطيب والتفاح.
وإن تطيب أو حلق أو لبس ثوباً لعذر فهو مخير: إن شاء ذبح شاة، وإن شاء تصدق
على ستة مساكين بثلاثة
أصوع (1) من طعام لكل مسكين نصف صاع، وإن شاء صام ثلاثة أيام، لقوله تعالى:
{فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نُسُك}
[البقرة:196/ 2].
وقال الجمهور غير الحنفية: من لبس أو حلق شعره أو قلم أظفاره أو تطيب أو
ادهن أو أزال ثلاث شعرات متوالية عند الشافعية أو أزال أكثر من شعرتين أو
ظفرين عند الحنابلة: يخير في الفدية بين ذبح شاة يتصدق بها، أو صيام ثلاثة
أيام، أو إطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع، وذبح الشاة يسمى نسكاً،
فالنسك أحد خصال الفدية، سواء فعل المحظور عمداً أو خطأ أو جهلاً، والتخيير
ثابت مع العسر واليسر في أي مكان شاء، ودليل التخيير الآية السابقة: {ففدية
من صيام أو صدقة أو نسك} [البقرة:196/ 2] وقوله صلّى الله عليه وسلم لكعب
بن عُجرة: «أيؤذيك هوامّ رأسك؟ قال: نعم، قال: انسك شاة، أو صم ثلاثة أيام،
أو أطعم فَرقاً من الطعام (2) على ستة مساكين» وقيس بالحلق وبالمعذور
غيرهما. فهذه الفدية عند الجمهور عامة للمعذور وغيره، وخاصة عند الحنفية
بالمعذور. وشعر الرأس وغيره سواء في وجوب الفدية؛ لأن الشعر كله جنس واحد
في البدن، ويجزئ البر والشعير والزبيب في الفدية، كما في الفطرة وكفارة
اليمين. والواجب
_________
(1) جمع صاع، وهو جملة قلة، وجمع الكثرة صيعان. وجمعه على آصع من خطأ
العوام، والصاع (2751) غراماً عند الجمهور، وعند الحنفية (3800 غم).
(2) الفرق: ثلاثة آصع.
(3/2321)
عند الحنابلة فدية واحدة مالم يكفر عن
الأول، فإن كفر عن الأول ثم حلق ثانياً، فعليه كفارة ثانية. وإذا حلق
المحرم رأس حلال أو قلم أظفاره،! فلا فدية عليه عند الجمهور، وقال أبو
حنيفة: يلزمه صدقة؛ لأنه أتلف شعر آدمي، فأشبه شعر المحرم. وإن حلق رأس
محرم بإذنه أو حلقه حلال بإذنه، فالفدية على المحلوق. وإن كان المحلوق
مكرهاً أونائماً، فلا
فدية على المحلوق رأسه عند المالكية والحنابلة، وقال أبو حنيفة: على
المحلوق رأسه الفدية، وعن الشافعي كالمذهبين (1).
وهذه الفدية عند الشافعية والحنابلة تجب في مقدمات الجماع بشهوة كإمناء
بنظرة ومباشرة بغير إنزال، وإمذاء بتكرار نظر أو تقبيل أو لمس أو مباشرة.
وتجب أيضاً في الجماع الثاني بعد الجماع الأول، وفي حالة الجماع بين
التحللين. والإنزال بغير الاحتلام عند المالكية كالجماع يفسد الحج ويوجب
الهدي.
2ً - الجماع ومقدماته:
قال الحنفية: إن قبل أو لمس بشهوة أنزل أو لم ينزل في الأصح، أواستمنى
بكفه، فعليه دم؛ لأن دواعي الجماع محرمة لأجل الإحرام مطلقاً، فيجب الدم
مطلقاً.
وإن جامع في أحد السبيلين من آدمي ولو ناسياً أو مكرهاً أو كانت نائمة، قبل
الوقوف بعرفة، فسد حجه، ووجب عليه شاة أو سُبْع بدنة، ويمضي وجوباً في حجه
الفاسد كغيره ممن لم يفسد حجه، ووجب عليه القضاء فوراً، ولو كان حجه نفلاً،
لوجوبه بالشروع فيه، ولم يقع الموقع المطلوب. لكن ليس على صبي أو مجنون
أفسد حجه دم ولا قضاء.
_________
(1) المغني: 494/ 3 - 496.
(3/2322)
فإن جامع بعد الوقوف بعرفة قبل الحلق أو
الطواف، لم يفسد حجه، ويجب عليه بدنة، كما بينت؛ لأنه أعلى أنواع الجناية
فغلظت عقوبتها.
وإن جامع ثانياً فعليه شاة؛ لأنه وقع في إحرام مهتوك.
وإن جامع بعد الوقوف والحلق، فعليه شاة، لبقاء إحرامه في حق النساء فقط أي
بين التحللين الأول والثاني.
ومن جامع في العمرة قبل أن يطوف لها أربعة أشواط، أفسدها؛ لأن الطواف في
العمرة بمنزلة الوقوف في الحج، ومضى فيها، وقضاها فوراً، ووجب عليه شاة؛
لأنها عند الحنفية سنة. وإن وطئ بعد ما طاف لها أربعة أشواط، وقبل الحلق،
فعليه شاة، ولا تفسد عمرته، ولا يلزمه قضاؤها.
وقد سبق بيان رأي غير الحنفية في هذا المحظور، فعند الشافعية والحنابلة إن
كان الوطء قبل التحلل الأول يجب عليه بدنة، فإن عدمها لزمه بقرة، فإن عدمها
لزمه سبع شياه، فإن عدمها قوم البدنة بدراهم واشترى بقيمتها طعاماً وتصدق
به، فإن عجز صام عن كل مد يوماً. فإن وطئ بين التحللين أو بعد الإفساد لزمه
شاة، كما في الحلق ونحوه.
3ً - ترك واجب من واجبات
الحج:
قال الحنفية: إن طاف طواف القدوم جنباً فعليه شاة لغلظ الجنابة. وإن طاف
طواف الزيارة محدثاً، فعليه شاة؛ لأنه أدخل النقص في الركن. وإن طاف للقدوم
محدثاً فعليه صدقة، وإن طاف للزيارة جنباً، فعليه بدنة لغلظ الجنابة.
والأفضل أن يعيد الطواف ما دام بمكة ولا ذبح عليه.
ومن طاف طواف الصَّدَر (الوداع) محدثاً، فعليه صدقة، وإن طاف جنباً، فعليه
شاة.
(3/2323)
ومن ترك من طواف الزيارة ثلاثة أشواط فما
دونها، فعليه شاة. وإن ترك أربعة أشواط، بقي محرماً أبداً حتى يطوفها.
وإن ترك طواف الوداع أو أربعة أشواط منه، فعليه شاة، ومن ترك من طواف
الوداع ثلاثة أشواط فعليه صدقة.
ومن أعاد أي طواف على طهارة، سقط الدم، لإتيانه به على الوجه المشروع،
والأصح وجوب الإعادة في حال الجنابة، وندبها في حال الحدث، ومن طاف وربع
عضو من العورة مكشوف، أعاد الطواف ما دام بمكة، وإن لم يعد حتى خرج من مكة،
فعليه دم.
ومن ترك السعي بين الصفا والمروة، فعليه شاة، وحجه تام.
ومن أفاض من عرفة قبل الإمام والغروب، فعليه دم، ويسقط بالعود قبل الغروب،
لا بعده.
ومن ترك الوقوف بالمزدلفة، فعليه دم.
ومن ترك رمي الجمار في الأيام كلها بغروب شمس آخر أيام الرمي وهو اليوم
الرابع، فعليه دم واحد، وإن ترك رمي يوم فعليه دم، وإن ترك رمي إحدى الجمار
الثلاث. فعليه صدقة.
وإن ترك رمي جمرة العقبة، فعليه دم.
ومن أخر الحلق حتى مضت أيام النحر، فعليه دم عند أبي حنيفة، وكذا لو أخر
طواف الزيارة عن أيام النحر، فعليه دم عنده. وقال الصاحبان: لا شيء عليه.
(3/2324)
ويجب ذبح شاة على القارن والمتمتع
بالاتفاق، كما بينت سابقاً. وكل ما وجب فيه دم على المفرد وجب فيه دمان على
القارن: دم لحجته ودم لعمرته، إلا في حال تجاوز الميقات من غير إحرام عليه
إن عاد دم واحد.
وقال المالكية (1): دماء الحج أو العمرة ثلاثة: الفدية، وجزاء الصيد،
والهدي، وقد عرفنا الفدية، أما الهدي فيجب في خمسة أنواع: جبر ما تركه من
الواجبات كترك التلبية أو طواف القدوم أو رمي الجمار أو المبيت بمنى
والمزدلفة وغير ذلك، وهدي المتعة والقران، وكفارة الوطء ونحوه كمذي وقبلة
بفم، وجزاء الصيد، وهدي الفوات. والهدي مرتب، بخلاف الفدية وجزاء الصيد.
وقال الشافعية: حاصل الدماء الواجبة في الحج أربعة أنواع:
الأول - دم ترتيب وتقدير: ومعنى الترتيب: أنه يلزمه الذبح، ولايجوز العدول
إلى غيره إلا إذا عجز عنه. ومعنى التقدير: أن الشرع قدر مايعدل إليه بما
لايزيد ولاينقص. وهو دم التمتع والقران والفوات، والمنوط بترك مأمور: وهو
ترك الإحرام من الميقات، والمبيت بمزدلفة ومنى، وطواف الوداع، والواجب ذبح
شاة للموسر، فإن عجز صام عشرة أيام.
والثاني - دم ترتيب وتعديل: بمعنى أن الشرع أمر فيه بالتقويم والعدول إلى
غيره بحسب القيمة، ويلزمه في حال الجماع، فيجب فيه بدنة، ثم بقرة، ثم سبع
شياه، فإن عجز قوم البدنة بدراهم، والدراهم طعاماً، وتصدق به، فإن عجز صام
عن كل مد يوماً.
ويلزم في حال الإحصار، فعليه شاة، ثم طعام بالتعديل، فإن عجز عن
_________
(1) الشرح الصغير:119/ 2، القوانين الفقهية: ص139.
(3/2325)
الطعام، صام عن كل مد يوماً، لقوله تعالى:
{فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة:196/ 2].
والثالث- دم تخيير وتقدير: أي إنه يجوز العدول إلى غيره مع القدرة عليه.
فيتخير في حلق ثلاث شعرات أو قلم ثلاثة أظفار بالتتابع، بين ذبح وإطعام ستة
مساكين لكل مسكين نصف صاع، وصوم ثلاثة أيام. ويتخير أيضاً في حال التطيب
ودَهْن الرأس أو اللحية وبعض شعور الوجه، واللبس، ومقدمات الجماع،
والاستمناء، والجماع غير المفسد. والفدية تجب في حلق الشعر ولو ناسياً أو
جاهلاً بالحرمة، لعموم الآية: {ولاتحلقوا رؤوسكم} [البقرة:196/ 2]، بخلاف
الناسي والجاهل في التمتع باللبس والطيب والدهن والجماع ومقدماته: لاتجب
الفدية عليه لاشتراط العلم والقصد فيه.
والرابع ـ دم تخيير وتعديل: وهو دم جزاء الصيد والشجر، فيجب مثل الصيد،
أوشراء حَبّ لأهل الحرم بقدر قيمته، يوزع على الفقراء، أو الصيام عن كل مد
يوماً. فإن لم يكن للصيد مثل، خيِّر بين الإطعام أوالصيام إلا الحمام فيجب
فيه شاة، والدليل آية المائدة 95: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد
وأنتم حُرُم، ومن قتله منكم متعمداً، فجزاءٌ مِثْل ُما قتل من النَّعَم،
يحكم به ذوا عدل منكم، هدياً بالغ الكعبة، أو كفارةٌ طعام مساكين، أو عَدْل
ُ ذلك صياماً ليذوق وبال أمره .. } [المائدة:95/ 5] وأما شجر الحرم ونباته
فيحرم قطعه ويجب ضمانه بالقطع أو القلع، سواء النبات الذي ينبت بنفسه
والمستنبت، ففي الشجرة الكبيرة بقرة، وفي الصغيرة شاة، عملاً بما رواه
الشافعي عن ابن الزبير. فإن صغرت الشجرة جداً، ففيها القيمة.
وقال الحنابلة: الفدية: ما يجب بسبب نسك أو حرم، وله تقديماً على فعل محظور
لمعذور، وهي نوعان: تخيير وترتيب.
(3/2326)
فالتخيير: يكون بين ذبح شاة، أو صيام ثلاثة
أيام أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين مد بُر أو نصف صاع يجزئ في الفطرة.
وذلك كفدية لبس المخيط، وطيب، وتغطية رأس، وإزالة أكثر من شعرتين أو ظفرين،
ومقدمات الجماع كما تقدم، وجزاء صيد كما سأبين.
والترتيب:
أـ إما بذبح شاة حال اليسار، وصيام عشرة أيام حال الإعسار، وذلك كدم التمتع
والقران، وترك واجب، وفوات، وإحصار، والصوم في غير الإحصار: ثلاثة في أيام
الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله، ولا يجب تتابع ولا تفريق في الأيام، ومن لم
يصم الثلاثة في أيام منى، صام بعدها عشرة، وعليه دم مطلقاً، وعلى المحصر
دم، فإن لم يجد ثمنه أو عدمه، صام عشرة أيام بنية التحلل ثم حل، ولا إطعام
فيه.
ب ـ وإما بذبح بدنة ونحوها في الحج، وشاة في العمرة، فإن عجز صام عشرة
أيام: ثلاثة في الحج، وسبعة إذا رجع، وذلك في حال الوطء وإنزال مني بمباشرة
دون فرج، أو بتكرار نظر أو تقبيل أو لمس بشهوة، أواستمناء، ولو خطأ.
والمرأة المطاوعة كالرجل، لا النائمة والمكرهة، ولا شيء على من فكر فأنزل
أو احتلم أوأمذى بنظرة، ولا على من قتل القمل وعقد النكاح.
رابعاً ـ ما يوجب الصدقة: الصدقة: نصف صاع من البر (1)، أو قيمة ذلك من
الدراهم عند الحنفية. وتجب الصدقة عند الحنفية
فيما يأتي من الحالات التي أشرت إليها سابقاً وهي:
_________
(1) وهو عند الحنفية 1900 غم، وعند الجمهور 1375 غم.
(3/2327)
أـ إن طيب المحرم أقل من عضو كامل.
ب ـ إن حلق أقل من ربع الرأس أو اللحية أو حلق شاربه.
جـ ـ إن لبس المخيط أو ستر رأسه أقل من يوم أو أقل من ليلة.
د ـ إن قص أقل من خمسة أظافير متفرقة، فلكل ظفر صدقة.
هـ ـ إن طاف للقدوم أو للوداع أو لكل طواف تطوع محدثاً، فإن طاف للقدوم
جنباً أو طاف طواف الزيارة محدثاً فعليه شاة، وإن طاف للزيارة جنباً فعليه
بدنة. وإن طاف للوداع جنباً فعليه شاة.
وـ إن ترك شوطاً من أشواط طواف الوداع أو السعي، أو نقص حصاة من إحدى
الجمار.
ز ـ إن حلق المحرم رأس غيره، سواء أكان الغير محرماً أم حلالاً. ولا شيء
عليه إن طيب عضو غيره أو ألبسه مخيطاً إجماعاً.
وقال المالكية: في قلم الظفر ترفهاً
أوعبثاً، لا لإماطة الأذى، حفنة من طعام. وفي إزالة الشعر والشعرات والقملة
والقملات لعشر لغير إماطة الأذى: حفنة من طعام يعطيها لفقير، فإن قلم أكثر
من ظفر مطلقاً أو قلم واحداً فقط لإماطة الأذى، أو أزال أكثر من عشر
مطلقاً، أو قتل أو طرح أكثر من عشر قملات مطلقاً لإماطة الأذى، فتلزمه
فدية.
وقال الشافعية: الأظهر أن في الشعرة
والظفر مد طعام، وفي الشعرتين والظفرين مدين أي نصف صاع، وفي ثلاث شعرات
وثلاثة أظفار فدية كاملة (شاة).
(3/2328)
وقال الحنابلة
كالشافعية: في كل شعرة أو ظفر مد من طعام، وفي قطع بعض الظفر أوبعض الشعرة
مثل ما في جميعه. والمذهب وجوب الفدية الكاملة في حلق ثلاث شعرات وقلم
ثلاثة أظفار.
خامساً ـ ما يوجب أقل من نصف صاع: وهو التصدق بما شاء: قال الحنفية: إن قتل
جرادة، أو قملة أو اثنتين أوثلاثاً أو ألقاها من بدنه أو ثوبه، أو ألقى
ثوبه بالشمس لتموت، أو دل عليها غيره، يتصدق بما شاء ككف طعام؛ لأن القملة
متولدة من التفث الذي على البدن. ولو قتل قملة وجدها على الأرض لم يكن عليه
شيء. والجراد من صيد البر.
زمان الفدية ومكانها:
قال الحنفية (1): النسك: أي ذبح الشاة
أو البدنة يختص بالحرم بالاتفاق؛ لأن الإراقة لم تعرف قربة إلا في زمان أو
مكان، وهذا لم يختص بزمان، فتعين اختصاصه بالمكان.
وأما الصوم: فيجزئ في أي موضع شاء؛ لأنه عبادة في كل مكان، ولا يشترط تتابع
الأيام. وكذا الصدقة تصح في أي مكان شاء.
وقال المالكية (2): الفدية: وهي كفارة
ما يفعله المحرم من الممنوعات إلا الصيد والوطء، لا تختص بأنواعها الثلاثة
(الصيام والصدقة والنسك) بمكان أو زمان، فيجوز تأخيرها لبلده أو غيره في أي
وقت شاء. أما الهدي الواجب جزاء للصيد أو الوطء فمحله منى أو مكة، فإن وقف
بالهدي بعرفة بجزء من الليل ذبحه بمنى، وإلا فبمكة.
_________
(1) الدر المختار: 288/ 2، اللباب: 201/ 1.
(2) الشرح الصغير: 93/ 2، القوانين الفقهية: ص 138 ومابعدها.
(3/2329)
وقال الشافعية
(1): الدم الواجب بفعل حرام كالحلق لعذر أو ترك واجب عليه غير ركن كدم
الجبرانات ودم التمتع والقرآن والحلق: لايختص بزمان، ويختص ذبحه بالحرم في
الأظهر، ويجب صرف لحمه إلى مساكين الحرم وفقرائه: القاطنين منهم والغرباء،
فكل الدماء الواجبة وبدلها من الطعام تختص تفرقتها بالحرم على مساكينه،
وكذا يختص به الذبح، إلا دم المحصر، فيذبح حيث أحصر. ودم الفوات يجزئ قبل
دخول وقت الإحرام بالقضاء، كالتمتع إذا فرغ من عمرته، فإنه يجوز له أن يذبح
قبل الإحرام بالحج على المعتمد.
وقال الحنابلة (2): ما وجب لترك واجب،
أو بفعل محظور من هدي أو إطعام يكون في الحرم. ويلزم ذبح هدي التمتع
والقران والمنذور بالحرم، ويفرق لحمه على مساكينه.
والأفضل نحر ما وجب بحج بمنى، وما وجب بعمرة بالمروة، ومن عجز عن إيصال
المذبوح للحرم حتى بوكيله، ينحره حيث قدر، ويفرقه بمنحره. وتجزئ فدية أذى
في الرأس، ولبس المخيط، وتغطية الرأس، والطيب، وفدية فعل المحظور غير
الصيد: خارج الحرم، ولو بلا عذر. ويدخل وقت ذبح الفدية من حين فعل الجناية،
وقبله بعد وجود سببه المبيح ككفارة يمين، ويكون جزاء الصيد بعد جرحه، وفدية
ترك الواجب عند تركه. ويجزئ دم الإحصار حيث أحصر. ويصح الصوم في كل مكان.
سادساً ـ الجناية التي توجب القيمة أو المثل (جزاء الصيد وقطع النبات):
أوجب أبو حنيفة القيمة بقتل الصيد، وأوجب الجمهور المثل في المثلي أو
القيمة.
_________
(1) مغني المحتاج: 530/ 1 - 532.
(2) غاية المنتهى:388/ 1 ومابعدها.
(3/2330)
قال أبو حنيفة
(1): تجب القيمة بقتل الصيد أو الدلالة عليه. والصيد المقصود: هو كل حيوان
بري متوحش بأصل خلقته، سواء أكان مباحاً أم مملوكاً مأكولاً أم غير مأكول
كالأسد والنمر إذا لم يكن صائلاً، وكالنسر والبوم والغزال والنعام ونحوها،
فلا يعد صيداً الكلب والهر والحية والعقرب والذباب والبعوض والبرغوث
والقراد والسلحفاة، والفراشة والدجاج والبط ونحوها.
وتجب القيمة على قاتله سواء أكان عامداً أم مخطئاً أم ناسياً لإحرامه، أم
مبتدئاً بقتل الصيد أم عائداً إليه (أي تكرر منه)؛ لأنه ضمان إتلاف، فأشبه
غرامات الأموال.
وتقدر القيمة عند أبي حنيفة وأبي يوسف: بأن يقوم الصيد في المكان الذي قتله
المحرم فيه، أو في أقرب المواضع منه إن كان في برية، يقوّمه ذوا عدل لهما
خبرة في تقويم الصيد، لقوله تعالى: {فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم يحكم به
ذوا عدل منكم} [المائدة:95/ 5] وقال في الهداية: والواحد يكفي، والاثنان
أولى؛ لأنه أحوط وأبعد من الغلط، كما في حقوق العباد.
ثم يخير المحكوم عليه بالقيمة: إن شاء اشترى بها هدياً فذبح بمكة إن بلغت
القيمة هدياً مجزئآً في الأضحية من إبل أو بقر أوغنم؛ وإن شاء اشترى بها
طعاماً، فتصدق به على كل مسكين نصف صاع من بُر، أو صاعاً من تمر أوشعير؛
وإن شاء صام يوماً عن كل نصف صاع من بر أو صاع من تمر أو شعير. فإن فضل من
الطعام أقل من نصف صاع فهو مخير: إن شاء تصدق به، وإن شاء صام عنه يوماً
كاملاً. وتجب قيمة الحشيش والشجر النابت بنفسه الذي لا ينبته الناس في حرم
مكة إذا قطعه الشخص البالغ إلا الإذخر والكمأة، سواء أكان محرماً أم
حلالاً، وتوزع القيمة مثل توزيع جزاء صيد الحرم.
_________
(1) اللباب: 206/ 1 وما بعدها.
(3/2331)
وقال المالكية
(1): جزاء الصيد أحد ثلاثة أنواع على التخيير كالفدية، بخلاف الهدي، يحكم
بالجزاء من غير المخالف ذوا عدل فقيهان اثنان، فلا يكفي واحد أو كون الصائد
أحدهما، ولا يكفي كافر، ولا فاسق، ولامرتكب ما يخل بالمروءة، ولا جاهل غير
عالم بالحكم في الصيد؛ لأن كل من ولّي أمراً، فلا بد من أن يكون عالماً بما
وُلّي به.
وأنواع الجزاء الثلاثة هي:
النوع الأول: مثل الصيد الذي قتله من النَّعَم (الإبل والبقر والغنم) قدراً
وصورة أو قدراً، بشرط كونه مجزئاً كما تجزئ الأضحية سناً وسلامة من العيوب.
فلا يجزئ صغير ولا معيب.
النوع الثاني ـ قيمة الصيد طعاماً: بأن يقوَّم بطعام من غالب طعام أهل ذلك
المكان الذي يخرج فيه. وتعتبر القيمة يوم التلف بمحل التلف، ويعطى لكل
مسكين بمحل التلف مدّ بمد النبي صلّى الله عليه وسلم، فإن لم يوجد فيه
مساكين فيعطى لمساكين أقرب مكان له.
النوع الثالث - عدل ذلك الطعام صياماً: لكل مد صوم يوم، في أي مكان شاء من
مكة أو غيرها، وفي أي زمان شاء، ولايتقيد بكونه في الحج أو بعد رجوعه.
وطريق تقدير الحكمين لجزاء الصيد: في النعامة أو الفيل بَدَنة، وفي حمار
الوحش أو بقرة الوحش بقرة، وفي الضَّبْع والثعلب والظبي وحمام حرم مكة
_________
(1) الشرح الصغير: 112/ 2 - 118.
(3/2332)
ويمامه شاة. وفيما دون ذلك كفارة طعام أو
صيام بتقويم الحكمين. ولا جزاء عندهم فيما حرم قطعه من الشجر في حرمي مكة
والمدينة.
وكذلك قال الشافعية (1) مثل المالكية:
إن أتلف المحرم صيداً له مثل من النعم ففيه مثله، وإن لم يكن له مثل ففيه
قيمة، ويتخير في جزاء إتلاف الصيد المثلي بين ثلاثة أمور: ذبح مثله والتصدق
به على مساكين الحرم، أو أن يقوم المثل بالدراهم ويشتري به طعاماً لمساكين
الحرم، أو يصوم عن كل مد يوماً. وغير المثلي: يتصدق بقيمته طعاماً أو يصوم
عن كل مد يوماً. ففي النعامة بدنة، وفي بقر الوحش وحماره بقرة، وفي الغزال
عنز، وفي الأرنب عَنَآق، وفي اليَرْبوع جَفْرة (أنثى المعز إذا بلغت أربعة
أشهر وفصلت عن أمها)، وفي الضبع كبش، وفي الثعلب شاة، وفي الضب: جدي. وما
لا نقل فيه يحكم بمثله من النعم عدلان، لقوله تعالى: {يحكم به ذوا عدل
منكم} [المائدة:95/ 5] ويجب فيما لا مثل له مما لا نقل فيه من السُّنة أو
عن الصحابة كالجراد وبقية الطيور ما عدا الحمام: القيمة، عملاً بالأصل في
القيميات. وتقدر القيمة بموضع الإتلاف أو التلف لا بمكة على المذهب. ويلزم
في الكبير كبير، وفي الصغير صغير، وفي الذكر ذكر، وفي الأنثى أنثى، وفي
الصحيح صحيح، وفي المعيب معيب إن اتحد جنس العيب، وفي السمين سمين، وفي
الهزيل هزيل، ولو فدى المريض بالصحيح أو المعيب أو الهزيل بالسمين
فهو أفضل، وما لا مثل له مما فيه نقل وهو الحمام في الواحدة منها شاة.
والأظهر ضمان قطع نبات الحرم المكي الرطب الذي لا يستنبت، وقطع أشجاره، ففي
قطع الشجرة الحرمية الكبيرة، بقرة لها سنة، وفي الصغيرة شاة، وفي الشجرة
الصغير جداً: قيمتها. والمذهب وهو الأظهر أن النبات المستنبت وهو
_________
(1) مغني المحتاج: 524/ 1 - 529.
(3/2333)
ما استنبته الآدميون من الشجر كغيره في
الحرمة والضمان، لكن يحل الإذخر والشوك وغيره كالعوسج من كل مؤذ، كالصيد
المؤذي، فلا ضمان في قطعه، والأصح حل أخذ نبات الحرم من حشيش ونحوه لعلف
البهائم وللدواء، وللتغذي، للحاجة إليه، ولأن ذلك في معنى الزرع، ولا يضمن
في الجديد صيد المدينة مع حرمته.
وقال الحنابلة (1) أيضاً مثل الشافعية:
يخير في جزاء الصيد بين مثل له، أو تقويمه بمحل تلف أو قربه بدراهم يشتري
بها طعاماً، فيطعم كل مسكين مد بُر، أو نصف صاع من غيره، أو يصوم عن طعام
كل مسكين يوماً، وإن بقي دون طعام صام. ويخير فيما لا مثل له من القيميات
بين إطعام وصيام، ولا يجب تتابع فيه.
ويضمن نبات الحرم المكي وشجره حتى المزروع إلا الإذخر والكمأة والثمرة،
فيجب في الشجرة الصغيرة شاة، وفيما فوقها بقرة، ويخير بين ذلك وبين تقويم
الجزاء، وتوزع قيمته كجزاء الصيد، وتجب قيمة الحشيش. ولاجزاء في قطع ما حرم
من صيد المدينة وشجرها.
ضوابط جزاء الصيد:
أفاض ابن قدامة في بيان أحكام جزاء الصيد (2)، أوجزها فيما يلي:
أولاً ـ وجوب الجزاء على المحرم بقتل الصيد: أجمع أهل العلم على وجوبه،
لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حُرُم، ومن قتله
منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم} [المائدة:95/ 5].
_________
(1) غاية المنتهى: 384/ 1 - 397.
(2) المغني: 504/ 3 - 526.
(3/2334)
وقتل الصيد نوعان: مباح ومحرم.
فالمحرم: قتله ابتداء من غير سبب يبيح قتله، ففيه الجزاء. والمباح ثلاثة
أنواع:
أحدها: أن يضطر إلى أكله، فيباح له ذلك بغير خلاف نعلمه، لقوله تعالى: {ولا
تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة:195/ 2] ومتى قتله ضمنه، سواء وجد غيره
أم لم يجد.
الثاني: إذا صال عليه صيد، فلم يقدر على دفعه إلا بقتله، فله قتله، ولا
ضمان عليه، وهذا موافق لرأي الشافعي وأبي حنيفة، لأنه قتله لدفع شره، فلم
يضمنه كالآدمي الصائل.
الثالث: إذا خلص صيداً من سبع أو شبكة صياد، أو أخذه ليخلص من رجله خيطاً
ونحوه، فتلف بذلك، فلا ضمان عليه؛ لأنه فعل أبيح لحاجة الحيوان، فلم يضمن
ما تلف به.
ثانياً ـ الجزاء واجب في الخطأ والعمد: وهذا متفق عليه بين أئمة المذاهب،
لقول جابر: «جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الضبع يصيده المحرم
كبشاً» وقال عليه الصلاة والسلام: «في بيض النعام يصيبه المحرم: ثمنه، ولم
يفرق» (1) ولأنه ضمان إتلاف استوى عمده وخطؤه كمال الآدمي.
ثالثاً ـ الجزاء لا يجب إلا على المحرم: ولا فرق بين إحرام الحج وإحرام
العمرة، سواء أكان مفرداً أم قارناً، لعموم النص فيهما، ولا خلاف في ذلك.
رابعاً ـ الجزاء لا يجب إلا بقتل الصيد: لأنه الذي ورد به النص بقوله
تعالى: {لا تقتلوا الصيد} [المائدة:95/ 5] والصيد: ما جمع ثلاثة أوصاف: وهو
أن
_________
(1) رواهما ابن ماجه.
(3/2335)
يكون مباحاً أكله، لا مالك له، ممتنعاً
وحشياً، فلا جزاء فيما ليس بمأكول كسباع البهائم والمستخبث من الحشرات
والطير وسائر المحرمات. وهذا قول أكثر أهل العلم، إلا أنهم أوجبوا الجزاء
في المتولد بين المأكول وغيره، كالمتولد من الضبع والذئب، تغليباً لتحريم
قتله.
ولا جزاء اتفاقاً بذبح وأكل ما ليس بوحشي، كبهيمة الأنعام كلها والخيل
والدجاج ونحوها. والاعتبار في ذلك بالأصل لا بالحال.
خامساً ـ وجوب الجزاء في صيد البر دون صيد البحر بغير خلاف: لقوله تعالى:
{أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة، وحرِّم عليكم صيد البر ما
دمتم حرماً} [المائدة:96/ 5].
ولا فرق بين حيوان البحر الملح، وبين ما في الأنهار والعيون، فإن اسم البحر
يتناول الكل، لقوله تعالى: {وما يستوي البحران، هذا عذب فرات سائغ شرابه،
وهذا ملح أجاج، ومن كلٍ تأكلون لحماً طرياً} [فاطر:12/ 35] وحيوان البحر:
ماكان يعيش في الماء ويفرخ ويبيض فيه، كالسمك ونحوه، وإن كان مما يعيش في
البر والبحر كالسلحفاة والسرطان فهو كالسمك لا جزاء فيه. أما طير الماء
ففيه الجزاء باتفاق أهل العلم. وكذا الجراد فيه الجزاء في قول الأكثرين.
سادساً ـ كيفية وجوب الجزاء بقتل الصيد: قال أبو حنيفة: الواجب القيمة؛ لأن
الصيد ليس بمثلي. وقال الجمهور: الواجب المثل من النعم؛ لقوله تعالى:
{فجزاء مثل ما قتل من النعم} [المائدة:95/ 5] وجعل النبي صلّى الله عليه
وسلم في الضبع كبشاً، وأجمع الصحابة على إيجاب المثل، فقالوا: «في النعامة
بدنة» وحكم ابن عباس وأبو عبيدة «في حمار الوحش ببدنة» وحكم عمر «فيه
ببقرة»، فليس المراد حقيقة المماثلة، فإنها لاتتحقق بين النعم والصيد، لكن
أريدت المماثلة من حيث الصورة، وهو الأرجح لدي.
(3/2336)
والمتلف من الصيد قسمان:
1 - قسم قضت فيه الصحابة: فيجب فيه ما قضت، وبه قال الحنابلة والشافعية.
وقال مالك: يستأنف الحكم فيه، لقوله تعالى: {يحكم به ذوا عدل} [المائدة:95/
5] لكن مذهب المالكية موافق للرأي الأول كما تقدم. ويدل للحنابلة وموافقيهم
ما روي عن جابر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم جعل في الضبع يصيدها المحرم
كبشاً» (1) وروى جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلم: قال: «في الضبع كبش
إذا أصاب المحرم، وفي الظبي شاة، وفي الأرنب عناق، وفي اليربوع جفرة» (2).
2 - وقسم لم تقض فيه الصحابة: فيرجع إلى قول عدلين من أهل الخبرة، لقوله
تعالى: {يحكم به ذوا عدل منكم} [المائدة:95/ 5] فيحكمان فيه بأشبه الأشياء
به من النعم من حيث الخلقة، لا من حيث القيمة، بدليل أن قضاء الصحابة لم
يكن بالمثل في القيمة. ولم يشترط الحنابلة في الحاكم كونه فقيهاً خلافاً
للمالكية، وإنما شرطوا فيه العدالة، للنص عليها.
ويجوز عند الحنابلة والشافعية كون قاتل الصيد أحد العدلين، لعموم قوله
تعالى: {يحكم به ذوا عدل منكم} [المائدة:95/ 5] والقاتل مع غيره ذوا عدل
منا.
سابعاً ـ نوع الجزاء: قال الحنابلة والشافعية: في كبير الصيد مثله من
النعم، وفي الصغير: صغير، وفي الذكر: ذكر، وفي الأنثى أنثى، وفي الصحيح
صحيح، وفي المعيب: معيب، لقوله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل من النعم}
[المائدة:95/ 5] مثل الصغير صغير.
_________
(1) رواه أبو داود وابن ماجه عن جابر.
(2) رواه الدارقطني.
(3/2337)
والجفرة: التي قد فطمت ورعت.
وقال المالكية: يجب ما يجزئ في الأضحية، ففي الصغير كبير، وفي المعيب صحيح،
لقوله تعالى: {هدياً بالغ الكعبة} [المائدة:95/ 5] ولا يجزئ في الهدي صغير
ولا معيب.
ضمان جزء الصيد: أضاف الحنابلة: إن أتلف
جزءاً من الصيد وجب ضمانه؛ لأن جملته مضمونة، فكان بعضه مضموناً كالآدمي
والأموال، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا ينفَّر صيدها» فالجرح
أولى بالنهي، والنهي يقتضي التحريم، وما كان محرماً من الصيد وجب ضمانه
كنفسه. ويضمن بمثله من مثله. هذا إن اندمل الصيد ممتنعاً، فإن اندمل غير
ممتنع ضمنه جميعه؛ لأنه عطَّله، فصار كالتالف، ولأنه مفض إلى تلفه، فصار
كالجارح له جرحاً يتيقن به موته. قال ابن قدامة: وهذا مذهب أبي حنيفة.
ضمان مضاعفات الجرح: إن جرح المحرم
صيداً، فوقع في شيء تلف به: ضمنه؛ لأنه تلف بسببه، وكذلك إن نفره فتلف في
حال نفوره، ضمنه. فإن سكن في مكان وأمن من نفوره ثم تلف، لم يضمنه. ويجوز
عند الحنابلة إخراج جزاء الصيد بعد جرحه وقبل موته.
قاعدة الضمان: وكل ما يضمن به الآدمي
يضمن به الصيد من مباشرة وتسبب. وما جنت عليه دابته بيدها أو فمها من
الصيد. فالضمان على راكبها، أو قائدها أو سائقها، وما جنت برجلها، فلا ضمان
عليه؛ لأنه لا يمكن حفظ رجلها.
كيفية ضمان الطير: قال الجمهور: في
النعامة بدنة، وفي الحمام شاة؛ لأن النعامة تشبه البعير في خلقته، فكانت
البدنة مثلاً لها، وتوجب الآية المثل: {فجزاء مثل ما قتل من النعم}
[المائدة:95/ 5] ولأن الآثار عن الصحابة ذكرت في الحمام شاة، وكذلك ما كان
أكبر من الحمام كالحباري والكركي والكروان والحجل والأوز الكبير من طير
الماء، فيه شاة.
(3/2338)
وقال أبو حنيفة: الواجب هو القيمة.
ولا خلاف في أن ضمان غير الحمام ونحوه من الطير هو القيمة في المكان الذي
أتلفه فيه. وكذلك يضمن بيض الطير بقيمة الطير، لقول ابن عباس: «في بيض
النعام قيمته».
وقال المالكية (1): يجب في الجنين وفي البيض عُشر دية الأم.
ثامناً ـ التخيير في جزاء الصيد: اتفقت المذاهب على أن قاتل الصيد مخير في
الجزاء بين أحد أمور ثلاثة، بأيها شاء كفَّر، سواء أكان موسراً أم معسراً،
والأمور الثلاثة: هي ذبح النظير، وتقويم النظير بدراهم ثم بطعام، لكل مسكين
مد، وصيام يوم عن كل مد، لقوله تعالى: {هدياً بالغ الكعبة، أو كفارة طعام
مساكين، أو عدل ذلك صياماً} [المائدة:95/ 5] و «أو» في الأمر للتخيير، بين
المثل أو الإطعام أوالصيام. وإذا اختار المثل ذبحه، وتصدق به على مساكين
الحرم، لقوله تعالى: {هدياً بالغ الكعبة} [المائدة:95/ 5] والهدي يجب ذبحه،
ولا يجزئه أن يتصدق به حياً على المساكين، لتسميته هدياً، وله ذبحه في أي
وقت شاء، ولا يختص ذلك بأيام النحر.
كيفية تقدير الطعام ونوعه:
قال الشافعية والحنابلة: متى اختار الإطعام: فإنه يقوم المثل بالدراهم،
والدراهم بطعام ويتصدق به على المساكين؛ لأن المثل الواجب إذا قوم، لزمت
قيمة مثله. ولا يجزئ إخراج القيمة؛ لأن الله تعالى خير بين ثلاثة أشياء
ليست القيمة منها. ونوع الطعام المخرج: هو الذي يخرج في الفطرة وفدية
الأذى: وهو الحنطة والشعير والتمر والزبيب. وقال مالك: يقوم الصيد لا
المثل؛ لأن التقويم إذا وجب لأجل الإتلاف، قوم المتلف كالذي لا مثل له.
_________
(1) الشرح الصغير: 118/ 2.
(3/2339)
تقدير الصيام:
في الصيام: يصوم عند الجمهور: عن كل مد يوماً؛ لأنها كفارة دخلها الصيام
والإطعام، فكان في مقابلة المد ككفارة الظهار: المد فيها في مقابلة إطعام
المسكين. وإذا بقي ما لا يعدل يوماً، صام يوماً كذلك.
وقال أبو حنيفة: يصوم عن كل نصف صاع من بُرّ يوماً، إذ لا يجوز عنده أن
يطعم المسكين أقل من نصف صاع؛ لأن الطعام المذكور ينصرف إلى ما هو المعهود
في الشرع.
تاسعاً ـ ما لا مثل له من الصيد كالجراد: يخير قاتله بين أن يشتري بقيمته
طعاماً، فيطعمه للمساكين، وبين أن يصوم. ولا يجوز إخراج القيمة عند
الحنابلة في الظاهر، والشافعية، وإنما يتخير بين إخراج طعام بقيمته والصيام
بعدد الأمداد.
عاشراً ـ تكرار قتل الصيد والاشتراك في القتل: كلما قتل صيداً حكم عليه،
فيجب الجزاء بقتل الصيد الثاني، كما يجب عليه إذا قتله ابتداء؛ لأنه كفارة
عن قتل، فاستوى فيه المبتدئ والعائد كقتل الآدمي، ولأن هذه الكفارة بدل
متلف يجب به المثل أو القيمة، فأشبه بدل مال الآدمي.
ولو اشترك جماعة في قتل صيد، فعليهم جزاء واحد في رأي الحنابلة على الصحيح
والشافعية، لقوله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} [المائدة:95/ 5]
والجماعة قد قتلوا صيداً، فيلزمهم مثله، والزائد خارج عن المثل، فلا يجب.
وقال الحنفية (1) والمالكية: إذا اشترك المحرمان في قتل صيد، فعلى كل واحد
منهما الجزاء كاملاً؛ لأن كل واحد منهما جنى على إحرام كامل. وإذا اشترك
الحلالان في قتل صيد الحرم، فعليهما جزاء واحد؛ لأن الضمان هنا لحرمة
الحرم،
_________
(1) اللباب:211/ 1 ومابعدها.
(3/2340)
فجرى مجرى ضمان الأموال، كرجلين قتلا رجلاً
خطأ، يجب عليهما دية واحدة، وعلى كل واحد منهما كفارة.
وأضاف الحنابلة: إن كان شريك المحرم في قتل صيد مطلقاً حلالاً أو سبعاً،
فلا شيء على الحلال، ويحكم على الحرام.
وإن اشترك حرام وحلال في صيد حرمي، فالجزاء بينهما نصفان؛ لأن الإتلاف ينسب
إلى كل واحد منهما نصفه.
حادي عشر ـ تملك الصيد بالبيع ونحوه وزوال
ملكيته عنه، وتملكه بالإرث:
قال أكثر الفقهاء: إذا أحرم الرجل وفي ملكه صيد، لم يزل ملكه عنه، ولا يده
الحكمية، مثل أن يكون في بلده أو في يد نائب له في غير مكانه. ولا شيء عليه
إن مات، وله التصرف فيه بالبيع والهبة وغيرهما، ومن غصبه لزمه رده، ويلزمه
إزالة يده المشاهدة عنه، فإذا كان في قبضته أو رحله أو خيمته أو قفص معه أو
مربوطاً بحبل معه، لزمه إرساله.
والدليل على بقاء يد المالك عليه: أنه لم يفعل في الصيد فعلاً، فلم يلزمه
شيء، كما لو كان في ملك غيره.
ولا يملك المحرم الصيد ابتداء بالبيع ولا بالهبة ونحوهما من الأسباب، بدليل
حديث الصعب بن جثَّامة المتقدم أنه صلّى الله عليه وسلم رد الحمار الوحشي
على صاحبه، لأنه محرم. فإن أخذه بأحد هذه الأسباب، ثم تلف فعليه جزاؤه، وإن
كان مبيعاً فعليه القيمة أو رده إلى مالكه، فإن أرسله فعليه ضمانه كما لو
أتلفه، وليس عليه جزاء، وعليه رد المبيع أيضاً.
وإن ورث المحرم صيداً ملكه؛ لأن الملك بالإرث ليس بفعل من جهته وإنما يدخل
في ملكه حكماً، سواء اختار ذلك أو كرهه.
(3/2341)
............
جدول محظورات الإحرام ...............................
..... المحرّمات ................. ما يترتب على فعل شيءٍ منها عمداً أو
سهواً أو جهلاً أو لعذر
1 - لبس الرجل المخيط من .................... الفدية بذبح شاة
.............................
الثياب أو الحذاء وستر بلا عذر
.............................................................
2 - تغطية رأس الرجل ووجه المرأة .............. الفدية بذبح شاة
.............................
3 - إزالة الشعر من الجسم بأي ... الفدية بذبح شاة بحلق ربع الرأس عند
الحنفية، وإلا فعليه نوع في أي موضع .................... صدقة
................................ الفدية بذبح شاة بإزالة ما يزيد عن عشر
شعرات عند المالكية
................................ وإلا فعليه حفنة من طعام.
................................ الفدية بذبح شاة بإزالة ثلاث شعرات فأكثر
عند الشافعية
................................ والحنابلة، وإلا فعليه إطعام مسكين عند
الحنابلة، ومد لشعرة ................................ ومدان لشعرتين عند
الشافعية
4 - تقليم الأظافر ................ الفدية بالذبح بتقليم أظافر يد أو رجل
عند الحنفية، وأما عند ................................ الأئمة الآخرين
فعلى تفصيل إزالة الشعر.
5 - استعمال الطيب مطلقاً ...... الفدية بالذبح
..............................................
6 - صيد الحيوان أو التعرّض له ... جزاء عند الجمهور بالمثل أو التصدق
بقيمته طعاماً، أو الصيام
................................ عن كل مد يوماً
............................................
............................... جزاء بالقيمة عند أبي حنيفة، ويخير فيها
بين شراء هدي وذبحه
.............................. أو التصدق بطعام لكل
(3/2342)
مسكين نصف صاع من حنطة، أو صوم
.............................. يوم عن كل نصف صاع
.....................................
7 - قطع نبات حرم مكة أو شجرة ..... لا جزاء عند المالكي، وعليه القيمة عند
أبي حنيفة، وعليه ...................................... شاة أو بقرة عند
الشافعية والحنابلة بحسب كون الشجرة
...................................... صغيرة أو كبيرة، وقيمة النبات.
8 - الجماع ومقدماته التي فيها ....... فساد الحج بالجماع اتفاقاً، وكذا
بالإنزال عند المالكية
استمتاع بالنساء ..................... مع القضاء اتفاقاً، وذبح بدنة عند
الشافعية والحنابلة،
.................................... وهدي عند المالكية، وبدنة بعد الوقوف
عند الحنفية
.................................... وقبله شاة. ولافدية عند أحمد على
المرأة النائمة والمكرهة،
................................... ولا شيء عند الشافعية على من باشر
مقدمات الجماع ناسياً
................................... ولا على المجامع الناسي والجاهل
بالتحريم والمرأة المكرهة، ................................... ولا يفسد
الحج أيضاً بذلك عندهم.
(3/2343)
|