الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

الفَصْلُ الأوَّل: الأيمان
الكلام عن الأيمان يتناول المباحث الأربعة الآتية:

المبحث الأول ـ تعريف اليمين ومشروعيتها وأنواعها وحكم كل نوع.
المبحث الثاني ـ صيغة اليمين.
المبحث الثالث ـ شروط اليمين.
المبحث الرابع ـ أحوال اليمين التي يحلف عليها فعلاً، وفيه أحد عشر مطلباً:
المطلب الأول ـ الحلف على الدخول.
المطلب الثاني ـ الحلف على الخروج.
المطلب الثالث ـ الحلف على الكلام.
المطلب الرابع ـ الحلف على الأكل والشرب.
المطلب الخامس ـ الحلف على اللبس والكسوة.
المطلب السادس ـ الحلف على الركوب.
المطلب السابع ـ الحلف على الجلوس.

(4/2441)


المطلب الثامن ـ الحلف على السكنى.
المطلب التاسع ـ الحلف على الضرب والقتل.
المطلب العاشر ـ الحلف على ما يضاف إلى غير الحالف.
المطلب الحادي عشر ـ الحلف على أمور شرعية.
المبحث الأول ـ تعريف اليمين ومشروعيّتها وأنواعها وحكم كل نوع:
تعريف اليمين: اليمين في اللغة لها معان ثلاثة:
أولها ـ القوة، ومنه قوله تعالى: {لأخذنا منه باليمين} [الحاقة:45/ 69] أي بالقوة، ثانيها ـ اليد اليمنى وقد سمي العضو باليمين لوفور قوته.
ثالثها ـ القسم أو الحلف، وأطلقت اليمين على الحلف؛ لأن الناس كانوا إذا تحالفوا يأخذ كل واحد منهم بيمين صاحبه.
وفي اصطلاح الفقهاء كما قال الحنفية: عبارة عن عقد قوي به عزم الحالف على الفعل أوالترك. وسمي هذا العقد باليمين؛ لأن العزيمة تتقوى بها (1).

مشروعية اليمين: اليمين مشروعة؛ لأن الله تعالى أقسم وأمر نبيه صلّى الله عليه وسلم بالقسم، مثل قوله سبحانه: {والليل إذا يغشى} [الليل:1/ 92] {والشمس وضحاها} [الشمس:1/ 91] {والنجم إذا هوى} [النجم:1/ 53] {والتين والزيتون} [التين:1/ 95] أي وربِّ هذه الأشياء على اعتبار أن المحلوف به محذوف. والنبي أمر بالحلف في ثلاثة مواضع: فقال سبحانه: {ويستنبئونك
_________
(1) راجع المبسوط للسرخسي: 8 ص126، فتح القدير: 4 ص 2، تبيين الحقائق للزيلعي: 3ص 106 ومابعدها، الدر المختار بهامش رد المحتار: 3 ص 48 ومابعدها، مغني المحتاج: 4 ص 320، الفتاوى الهندية: 2 ص 48.

(4/2442)


أحق هو؟ قل: إي وربي، إنه لحق وما أنتم بمعجزين} [يونس:10/ 53]، وقال تعالى: {قل: بلى وربي لتأتينكم} [سبأ:3/ 34]، وقال عز وجل: {قل: بلى وربي لتبعثن} [التغابن:7/ 64].
وقد ثبت في السنة تشريع اليمين (1)، فقال صلّى الله عليه وسلم: «إني ـ والله ـ إن شاء الله، لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير، وتحللتها» (2) أي أديت كفارتها.
لكن لايملك الحالف الرجوع عن اليمين والنذر والطلاق، وإنما تلزمه بمجرد النطق بها.
واليمين وإن كانت في الأصل مباحة عند الفقهاء إلا أنه يكره الإفراط في الحلف بالله تعالى لقوله سبحانه: {ولا تطع كل حلاف مَهين} [القلم:10/ 68] وهذا ذم له يقتضي كراهة فعله. ولذا كان الإمام الشافعي رضي الله عنه يقول: «ما حلفت بالله تعالى صادقاً ولا كاذباً» (3)، وقد تقرر أن اليمين مكروهة للنهي عنها بقوله تعالى:
{ولا تجعلوا الله عُرْضة لأيمانكم} [البقرة:224/ 2] أي لا تكثروا الحلف بالله، لأنه ربما يعجز الحالف عن الوفاء به، إلا أن تكون اليمين في طاعة من فعل واجب أو مندوب وترك حرام أو مكروه، فتكون طاعة. وعلى هذا ليس من الأدب مع الله تعالى اتخاذ اليمين طريقاً للإقناع والتأثير وإنفاق السلعة والترغيب في المعاملات، أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «الحلف مَنْفَقة للسلعة، مَمْحقة للبركة».
_________
(1) المغني لابن قدامة الحنبلي: 8 ص 676 - 682، تبيين الحقائق، المرجع السابق.
(2) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي موسى الأشعري، وفي رواية: «إلا كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير» وفي لفظ بالعكس (راجع جامع الأصول: 12 ص301، نصب الراية: 297/ 3).
(3) المغني، المرجع السابق: ص 678، الميزان للشعراني: 2 ص18، 130، مغني المحتاج: 4ص 325، الفتاوى الهندية: 2 ص 49.

(4/2443)


وذكر المالكية أن اليمين بغير الله مكروهة، وقيل: حرام، أما اليمين بنحو (اللات والعزى) فإن اعتقد تعظيمها فهو كفر، وإلا فهو حرام. وذكر الحنابلة أن الأيمان خمسة أنواع:
أحدها ـ واجب: وهي التي ينجي بها إنساناً معصوماً من الهلاك.
والثاني ـ مندوب: وهو الذي تتعلق به مصلحة من إصلاح بين متخاصمين، أو إزالة حقد من قلب مسلم عن الحالف أو غيره أو دفع شر.
والثالث ـ المباح: مثل الحلف على فعل مباح أو تركه، والحلف على الإخبار بشيء هو صادق فيه أو يظن أنه فيه صادق.
والرابع ـ المكروه: وهو الحلف على فعل مكروه أو ترك مندوب.
والخامس ـ المحرم: وهو الحلف الكاذب، فإن الله تعالى ذمه بقوله: {ويحلفون على الكذب وهم يعلمون} [المجادلة:14/ 58] ولأن الكذب حرام.

أنواع اليمين: اليمين بالله تعالى ثلاثة أنواع: يمين منعقدة، ويمين الغموس، ويمين اللغو، قال محمد في كتاب (الأصل): «الأيمان ثلاثة: يمين مكفَّرة، ويمين لا تكفَّر، ويمين نرجو ألا يؤاخذ الله بها صاحبها. وفسر الثالثة بيمين اللغو» (1).
1 - اليمين الغَموس: عرفها الحنفية والمالكية بأنها: اليمين الكاذبة قصداً في الماضي أو في الحال، أو هي الحلف على أمر ماض أو في الحال متعمداً الكذب فيه نفياً أو إثباتاً، مثل قول الحالف: (والله لقد دخلت هذه الدار) وهو يعلم أنه ما دخلها، أو قوله عن رجل: (والله إنه خالد) مع علمه أنه عامر ونحو ذلك.
_________
(1) البدائع: 2/ 3.

(4/2444)


وحكمها عند الجمهور ومنهم الحنفية والمالكية والحنابلة على الراجح عندهم (1): أنه يأثم فيها صاحبها، ويجب عليه التوبة والاستغفار، ولا كفارة عليه بالمال. استدلوا بقول الرسول صلّى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين هو فيها فاجر، ليقتطع بها مال امرئ مسلم حرم الله عليه الجنة وأدخله النار» (2) وفي الصحيحين: «لقي الله وهو عليه غضبان». قال ابن مسعود: «كنا نعد من اليمين التي لا كفارة لها: اليمين الغموس» وعن سعيد بن المسيب قال: «هي من الكبائر، وهي أعظم من أن تُكفَّر»، يروى عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس واليمين الغموس» (3). والمعقول يؤيدهم وهو أن الذي أتى به الحالف أعظم من أن تكون فيه الكفارة، فلا ترفع الكفارة إثمها، ولا تشرع فيها، وقد سميت بالغموس؛ لأنها تغمس صاحبها في الإثم أو في النار.
وقال الشافعية وجماعة: تجب الكفارة في اليمين الغموس، أي تسقط الكفارة الإثم فيها كما تسقطه في غير الغموس؛ لأنه وجدت من الحالف اليمين
_________
(1) راجع المبسوط: 8 ص 127، البدائع: 3 ص3، 15، الفتاوى الهندية: 2 ص 48، فتح القدير: 4 ص 3، تبيين الحقائق: 3 ص107، الشرح الكبير للدردير بهامش حاشية الدسوقي: 2 ص 128، بداية المجتهد: 1 ص 396، المغني: 8 ص 686، القوانين الفقهية: ص 160.
(2) أخرجه ابن حبان في صحيحه عن أبي أمامة، ورواية الصحيحين ومثلها رواية أبي داود والترمذي هي عن عبد الله بن مسعود، ورواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات عن العرس بن عميرة، ورواه أحمد والطبراني أيضاً عن أبي موسى بلفظ: «من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال أحد لقي الله عز وجل، وهو عليه غضبان» (راجع جامع الأصول: 12 ص 295، مجمع الزوائد: 4 ص 178، نصب الراية: 3 ص 292).
(3) رواه البخاري من حديث ابن عمر، قال: جاء أعرابي إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ما الكبائر؟ فذكر في الحديث الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس، وفيه قال السائل: وما اليمين الغموس؟ قال: «الذي يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها كاذب» (راجع نيل الأوطار: 8 ص 235، سبل السلام: 4 ص 105 ومابعدها).

(4/2445)


بالله تعالى والمخالفة مع القصد، فتلزمه الكفارة كما تلزمه في اليمين المنعقدة على أمر في المستقبل، والله تعالى يقول: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم الأيمان} [المائدة:89/ 5] وهذا النص عام يعم الحلف في الماضي والمستقبل، فتكون الآية موجبة الكفارة في اليمين الغموس، لكونها من الأيمان المنعقدة، وتعلق الإثم في هذه اليمين لا يمنع الكفارة، كما أن الظهار
منكر من القول وزور، وتتعلق به الكفارة (1).

2 - اليمين اللغو: اختلف العلماء في تحديد المراد منها، فقال الجمهور (2): هي أن يخبر عن الماضي أوعن الحال على الظن أن المخبر به كما أخبر، وهو بخلافه، في النفي والإثبات. وبعبارة أخرى: هي أن يحلف على شيء يظنه كما حلف، فلم يكن كذلك. مثل قول الحالف: (والله ماكلمت زيداً) وفي ظنه أنه لم يكلمه، و: (والله لقد كلمت زيدا ً) وفي ظنه أنه كلمه، وهو بخلاف الواقع. أو يقول: (والله إن هذا الطائر لغراب) وفي ظنه أنه كذلك، ثم تبين في الواقع أن الطائر حمام مثلاً.
وقال الشافعي (3): لغو اليمين: ما لم تنعقد عليه النية. أو بعبارة أخرى: يمين اللغو: هي التي يسبق اللسان إلى لفظها بلا قصد لمعناها، أو يريد اليمين على شيء، فسبق لسانه إلى غيره، بدليل قوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم الأيمان} [المائدة:89/ 5] وروي عن ابن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم أنهم قالوا: «هو قول الرجل: لا والله، وبلى
_________
(1) مغني المحتاج: 4 ص 325، المهذب للشيرازي: 2 ص 128.
(2) المراجع السابقة: البدائع: ص 3 ص 17، الفتاوى الهندية: ص 49، بداية المجتهد: ص 395، المغني: ص 688، القوانين الفقهية: ص 159.
(3) مغني المحتاج، المرجع السابق: ص 324، المهذب، المرجع السابق.

(4/2446)


والله» (1) ولأن ما سبق إليه اللسان من غير قصد لا يؤاخذ به، كما لو سبق لسانه إلى كلمة الكفر.
واتفق الفقهاء على أن يمين اللغو لا كفارة فيها، لقوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} [المائدة:89/ 5]، ولأنها يمين غير منعقدة، فلم تجب فيها كفارة، ولأنها لا يقصد بها المخالفة، فأشبه ذلك ما لو حنث ناسياً (2).
والشافعية يرون أن يمين اللغو تكون على أمر في الماضي أو الحال أو المستقبل؛ لأن الأدلة التي ذكروها لم تفرق بين الماضي والمستقبل، فكان الحلف لغواً على كل حال.
والحنفية يقولون: لا لغو في المستقبل، بل اليمين على أمر في المستقبل تعتبر يميناً منعقدة، وتجب فيها الكفارة إذا حنث الحالف، سواء قصد اليمين أو لم يقصد، وإنما تختص يمين اللغو في الماضي أو الحال فقط (3) بدليل قوله تعالى:
{لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} [المائدة:89/ 5]، واللغو في اللغة: اسم للشيء الذي لا حقيقة له، بل على ظن من الحالف أن الأمر كما حلف عليه، والحقيقة بخلاف ذلك، وهكذا اليمين على أمر في الماضي أو الحال، فهو مما لا حقيقة له إذ ليس فيه قصد اليمين: وهو المنع عن شيء أو الحث على شيء، فكان لغواً. أما اليمين في المستقبل فهي يمين منعقدة، كما سيأتي بيانه في اليمين المعقودة.
_________
(1) روى خبر عائشة البخاري والشافعي ومالك موقوفاً، وصحح ابن حبان رفعه، ورواه أبو داود مرفوعاً، وأخرجه البيهقي أيضاً. ونقله ابن المنذر عن ابن عمر وابن عباس وغيرهما من الصحابة وجماعة من التابعين (راجع جامع الأصول: 12 ص 307، نيل الأوطار: 8 ص 235 ومابعدها، سبل السلام: 4 ص 107).
(2) المغني: 8 ص 687 ومابعدها، البدائع: 3 ص 17، القوانين الفقهية: ص 159.
(3) البدائع: 3 ص 3 - 4.

(4/2447)


3 - اليمين المنعقدة أو المعقودة أو المؤكدة: هي ما يحلف على أمر المستقبل أن يفعله أو لا يفعله، وحكم هذه اليمين وجوب الكفارة عند الحنث (1) لقوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم الأيمان، فكفارته ... } [المائدة:89/ 5]، الآية. والمراد به اليمين في المستقبل، بدليل قوله تعالى: {واحفظوا أيمانكم} [المائدة:89/ 5]، ولا يتصور الحفظ عن الحنث والمخالفة إلا في المستقبل، ولأنه تعالى قال: {ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها} [النحل:91/ 16]، والنقض إنما يتصور في المستقبل (2).
ووجوب الكفارة في هذه اليمين أمر مقرر بالاتفاق بعد الحنث، سواء أكانت اليمين على فعل واجب، أم ترك واجب، أم فعل معصية، أم ترك مندوب أم ترك المباح أم فعله (3).
فإن كانت اليمين على فعل واجب مثل قوله: (والله لأصلين صلاة الظهر اليوم) أو: (لأصومن رمضان) فإنه يجب عليه الوفاء بيمينه، ولا يجوز له الامتناع عنه لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» (4) فإن امتنع عن البر يأثم ويحنث (5) ويلزمه الكفارة (6).
_________
(1) الحنث: الإثم والذنب من حنث بكسر النون يحنث بفتحها.
(2) المبسوط: 8 ص 127، فتح القدير: 4 ص 5، تبيين الحقائق: 3 ص 109، البدائع: 3ص 17، المغني: 683/ 8، 689.
(3) البدائع: المرجع والمكان السابق.
(4) رواه البخاري وأحمد وأصحاب السنن الأربعة عن عائشة رضي الله عنها، وتتمة الحديث: «ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» (راجع نصب الراية: 3 ص 300، نيل الأوطار: 8ص240).
(5) البر: هو الموافقة لما حلف عليه. والحنث: مخالفة ما حلف عليه من نفي أو إثبات، والبر عند المالكية: لا يكون إلا بأكمل الوجوه، والحنث يتحقق بأقل الوجوه، فمن حلف أن يأكل رغيفاً، لم يبر إلا بأكل جميعه، وإن حلف ألا يأكله، حنث بأكل بعضه (القوانين الفقهية: ص 161) وقال الحنفية: لا يتحقق البر والحنث إلا بفعل كل المحلوف عليه (البدائع: 3 ص 12، مختصر الطحاوي: ص 308).
(6) البدائع: المرجع السابق، المغني: 8 ص 682.

(4/2448)


وإن كانت اليمين على ترك الواجب أو على فعل المعصية كأن قال: (والله لا أصلي صلاة الفرض) أو: (لا أصوم رمضان) أو قال: (والله لأشربن الخمر) أو: (لأقتلن فلانا ً) أو: (لا أكلم والدي) ونحو ذلك، فإنه يجب عليه للحال الكفارة بالتوبة والاستغفار، ثم يجب عليه الحنث والكفارة بالمال؛ لأن عقد هذه اليمين معصية (1) وقد قال صلّى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين، فرأى غيرها خيراً منها، فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه» (2).
وإن كانت اليمين على ترك المندوب مثل: (والله لا أصلي نافلة، ولا أصوم تطوعاً، ولا أعود مريضاً ولا أشيع جنازة) ونحو ذلك، أو على فعل المكروه مثل: (والله لألتفت في الصلاة) فالأفضل له ألا يفعل المكروه ويفعل المندوب أي يحنث، ويكفر عن يمينه، للحديث السابق: (من حلف على يمين .. ) ولقوله تعالى: {ولا يأتل (3) أولو الفضل منكم والسعة} .. [النور:22/ 24] الآية، نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقد حلف ألا يبرّ مِسْطحاً بسبب اشتراكه في حديث الإفك على عائشة (4).
وإن كانت اليمين على مباح تركاً أو فعلاً، كدخول دار، وأكل طعام، ولبس ثوب ونحوه، فالأفضل له البر أي ترك الحنث، لما فيه من تعظيم الله تعالى، وقد
_________
(1) البدائع: المرجع نفسه، مغني المحتاج: 4 ص 325، المغني: 8 ص 682.
(2) رواه أحمد في مسنده ومسلم والترمذي وصححه عن أبي هريرة، ورواه أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه عن عبد الرحمن بن سمرة، ورواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه عن عدي بن حاتم وروي عن غير هؤلاء أيضاً (راجع جامع الأصول: 12 ص 300، مجمع الزوائد: 4 ص 183، نصب الراية: 3 ص 296، نيل الأوطار: 8 ص 237، سبل السلام: 4 ص 103).
(3) أي لايحلف، وقيل: المراد لايمتنع.
(4) البدائع: 3 ص 16، مغني المحتاج: 4 ص 326، المغني: 8 ص 681 وما بعدها.

(4/2449)


قال سبحانه: {ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها} [النحل:91/ 16] وله أن يُحنث نفسه، ويكفر عن يمينه (1).

حكم الناسي والمكره: الكفارة تجب في اليمين المنعقدة عند الحنفية والمالكية، سواء أكان الحانث عامداً أم ساهياً أم مخطئاً أم نائماً أم مغمى عليه أم مجنوناً أم مكرهاً (2) لأن الآية القرآنية وهي: {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان} [المائدة:89/ 5] لم تفرق بين عامد وناس وغيره، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «ثلاثة جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق واليمين» (3)، فمن حلف بعتق أو طلاق ألا يفعل شيئاً، ففعله ناسياً حنث؛ لأن هذا يتعلق به حق آدمي، فتعلق الحكم به مع النسيان كالإتلاف.
وقال الشافعية والحنابلة (4): لا كفارة ولا حنث على غير المكلف كالصبي والمجنون والنائم، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» (5) ولا كفارة أيضاً على المغمى عليه
_________
(1) المراجع السابقة، القوانين الفقهية: ص 160.
(2) البدائع: 3 ص17، تبين الحقائق: 3ص109، بداية المجتهد: 2ص 402، القوانين الفقهية: ص 161، فتح القدير 4ص6، الفتاوى الهندية: 2ص 49، الدر المختار: 3ص53، المغني: 8ص 726، الشرح الكبير: 2ص 142.
(3) نص الحديث ليس هكذا، وإنما لفظه (النكاح والطلاق والرجعة) أخرجه أبو داوود وابن ماجه والترمذي والحاكم في المستدرك والدارقطني والبيهقي. فاستبدال اليمين بالرجعة من صنع الفقهاء (راجع نصب الراية: 3ص 293 وما بعدها).
(4) المهذب للشيرازي: 2 ص 128، حاشية الباجوري على متن أبي شجاع: 2ص 323، المغني: 8ص 676، 684 وما بعدها.
(5) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وصححه الحاكم وأخرجه ابن حبان عن عائشة، ورواه بعضهم عن علي وعمر وابن عباس وأبي هريرة وغيرهم (راجع مجمع الزوائد: 6 ص 251، سبل السلام: 3 ص 180) وله ألفاظ منها لفظ رواية عائشة: «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق».

(4/2450)


والسكران غير المتعدي بسكره، والساهي، إذ إنهم في معنى المذكورين في الحديث، فلا تنعقد اليمين منهم، كذلك لاتنعقد من المكرَه لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ليس على مقهور يمنين» (1) ولقوله عليه السلام: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ومااستكرهوا عليه» (2).

شروط انعقاد اليمين:
يشترط لانعقاد اليمين الشروط العامة التالية:
1ً - أن يكون الحالف بالغاً عاقلاً: فلا تنعقد يمين الصبي والمجنون، لرفع المؤاخذة عنهما، روى أبو داود عن علي رضي الله عنه، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يَعْقِل».
2ً - ألا تكون اليمين لغواً: وهي مايجري على ألسنة الناس بغير قصد اليمين كما تقدم، مثل قولهم: (بلى والله، ولا والله).
_________
(1) أخرجه الدارقطني عن واثلة بن الأسقع وأبي أمامة، ثم قال: عنبسة ـ أحد رجال السند ـ ضعيف، قال في التنقيح: حديث منكر، بل موضوع، وفيه جماعة ممن لايجوز الاحتجاج بهم (راجع نصب الراية: 3 ص 294).
(2) رواه الطبراني في الكبير عن ثوبان، ورواه أيضاً عن أبي الدرداء، وأخرجه ابن ماجه وابن حبان والحاكم عن ابن عباس مرفوعاً، ورواه ابن ماجه أيضاً عن أبي ذر، ورواه أبو نعيم في الحلية عن ابن عمر، وكل هذه الروايات بلفظ: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان ومااستكرهوا عليه» إلا حديث أبي الدرداء وثوبان فهو بلفظ: «إن الله تجاوز عن أمتي ثلاثة: الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه» ولكن ابن عدي في الكامل رواه عن أبي بكرة بلفظ: «رفع الله عن هذه الأمة ثلاثاً: الخطأ، والنسيان، والأمر يكرهون عليه» ورواه الطبراني في الأوسط عن عقبة بن عامر بلفظ: «وضع عن أمتي الخطأ والنسيان ومااستكرهوا عليه» وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن، وفيه ضعف. وهكذا يظهر أن لفظ: «رفع عن أمتي .. » ليس موجوداً، وإن كان الفقهاء لايذكرونه إلا بهذا اللفظ (راجع نصب الراية: 2ص62، التلخيص الحبير: 1ص109، مجمع الزوائد: 6 ص 250).

(4/2451)


3ً - أن يكون الحلف بذات الله تعالى مثل: أقسم بالله، أو بأحد أسمائه تعالى، مثل: أقسم بالرحمن أو برب العالمين، أو بصفة من صفاته تعالى مثل: أقسم بعزة الله، أو بعلمه أو بإرادته أو بقدرته.
وسأبحث بعض الشروط المختلف فيها والمتفق عليها فيما سيأتي.

أنواع اليمين المنعقدة: يشترط لانعقاد اليمين كما سيأتي أن يكون المحلوف عليه متصور الوجود حقيقة عند الحلف، ويشترط أيضاً لبقاء اليمين أن يكون المحلوف عليه متصور الوجود حقيقة بعد اليمين. وبناء على هذا الشرط عند الحنفية انقسمت اليمين المنعقدة إلى أنواع:
النوع الأول - أن تكون اليمين على ماهو متصور الوجود عادة.
النوع الثاني ــ أن تكون اليمين على ماهو غير متصور الوجود أصلاً.
النوع الثالث ــ أن تكون اليمين على ماهو متصور الوجود في نفسه، لكن لايوجد على مجرى العادة.

النوع الأول ــ أن تكون اليمين على ماهو متصور الوجود عادة:
إذا كان المحلوف عليه أمراً يتصور حدوثه بحسب العادة والإمكان، فإما أن يكون الحلف في حالة الإثبات أي الإيجاب، أو في حالة النفي أي السلب.

أولاً ـ إن كان الحلف في حالة الإثبات: فإما أن يكون الإثبات مطلقاً عن الوقت أو مؤقتاً (1).
_________
(1) راجع البدائع: 3 ص 12، المغني: 8 ص 786، 791.

(4/2452)


آـ فإن كان الحلف في الإثبات مطلقاً عن التأقيت: مثل: (والله لآكلن هذا الرغيف) أو: (لأدخلن الدار) أو: (لآتين دمشق) فما دام الحالف والمحلوف عليه قائمين، فاليمين باقية لا يحنث؛ لأن الحنث يتحقق عند عدم البر باليمين، وتصور البر ممكن في هذه الحالة: وهو فعل المحلوف عليه مرة في مدة العمر، فإذا هلك الحالف أو المحلوف عليه، حنث لحصول العجز عن تحقيق مقتضى البر، غير أنه إذا هلك المحلوف عليه يحنث وقت هلاكه، وإذا هلك الحالف يحنث في آخر جزء من أجزاء الحياة.
ب ـ وإن كان الحلف في الإثبات مؤقتاً: مثل: (والله لآكلن هذا الرغيف اليوم) أو: (لأدخلن هذه الدار اليوم) فما دام الحالف والمحلوف عليه قائمين، والوقت باقياً لا يحنث؛ لأن البر في الوقت مرجو فتبقى اليمين. وإن كان الحالف والمحلوف عليه قائمين، ولكن مضى الوقت، فإنه يحنث باتفاق الحنفية؛ لأن اليمين كانت مؤقتة بوقت، فإذا لم يفعل المحلوف عليه حتى انتهى الوقت، فإنه يحنث.
أما إذا هلك أحدهما في الوقت المحدد: فإن هلك الحالف في الوقت ثم مضى الوقت فلا يحنث باتفاق الحنفية والحنابلة؛ لأن الحنث في اليمين المؤقتة بوقت يقع في آخر أجزاء الوقت، وهو في تلك اللحظة ميت، والميت لا يوصف بالحنث.
وإن هلك المحلوف عليه وهو الرغيف مثلاً قبل مضي الوقت، فتبطل اليمين عند أبي حنيفة ومحمد وزفر.
وقال أبو يوسف والشافعية والحنابلة: لا تبطل اليمين، ويحنث، وتجب الكفارة. واختلفت الرواية عنه في وقت الحنث، روي عنه أنه يحنث عند غروب

(4/2453)


شمس اليوم المحدد فيه وقت اليمين، وروي عنه أنه يحنث للحال، قيل: وهو الصحيح من مذهبه.

ثانياً ـ إذا كان الحلف في حالة النفي: فإما أن يكون النفي مطلقاً عن التأقيت أو مؤقتاً.
آـ فإن كان الحلف في النفي مطلقاً عن الوقت: مثل: (والله لا آكل هذا الرغيف) أو: (لا أدخل هذه الدار) فإن فعل مرة حنث؛ لأنه لم يتحقق منه البر، وإذا هلك الحالف أو المحلوف عليه قبل الفعل: لا يحنث، لأنه تحقق منه شرط برّه في اليمين: وهو الامتناع عن الفعل.
ب ـ وإن كان الحلف في النفي مؤقتاً: مثل: (والله لا آكل هذا الرغيف اليوم) فإن مضى اليوم قبل الأكل، والحالف والمحلوف عليه قائمان، فقد بر في يمينه، لأنه وجد منه شرط البر، وهو ترك الأكل في اليوم كله. وإن هلك الحالف أو المحلوف عليه في اليوم برَّ في يمينه أيضاً؛ لأن شرط البر عدم الأكل، وقد تحقق. وإن فعل المحلوف عليه في الوقت المحدد حنث، لوجود شرط الحنث، وهو الفعل في الوقت.

النوع الثاني ـ أن تكون اليمين على ما هو مستحيل غير متصور الوجود أصلا ً:
هذا هو المستحيل عقلاً مثل قول الشخص: (والله لأشربن الماء الذي في هذا الكوز وليس في الكوز ماء، أو قوله: «والله لأقضين دين فلان غداً» فقضاه اليوم، أو أبرأه صاحب الدين اليوم، ثم جاء الغد، وحكمه أنه لا تنعقد اليمين عند

(4/2454)


أبي حنيفة ومحمد وزفر ومالك وأبي الخطاب من الحنابلة (1)؛ لأن اليمين إنما تعقد على متصورالوجود أو متوهم التصور، وليس ههنا واحد منهما، وإذا لم يكن البر باليمين متصوراً فلا يتصور الحنث، فلا فائدة في انعقاد اليمين.
وقال أبو يوسف والشافعي والقاضي من الحنابلة (2): تنعقد اليمين موجبة للكفارة في الحال؛ لأن الحالف حلف على فعل نفسه في المستقبل، كما لو حلف ليطلقن امرأته، فماتت قبل طلاقها، ولا يشترط عند هؤلاء أن تكون اليمين على أمر متصور الوجود.
وإن كان الحالف يعلم أنه لا ماء في الكوز، تنعقد اليمين عند أئمة الحنفية الثلاثة، وعند زفر: لا تنعقد.
ويجري هذا الخلاف السابق فيما إذا قال الحالف: (والله لأقتلن فلاناً) وهو لا يعلم بموته، فلا تنعقد اليمين عند أبي حنيفة ومحمد وزفر ومن وافقهم. وقال أبو يوسف ومن معه: تنعقد اليمين (3).
فإن كان الحالف عالماً بموت الشخص فإنه تنعقد اليمين عند الجمهور، وهو كالنوع الثالث وهو المستحيل عادة؛ لأنه لا يتصور أن يحييه الله، فيقتله، فيكون البر باليمين متصوراً، إلاأنه خلاف المعتاد. وقال زفر: لا تنعقد يمينه.
_________
(1) البدائع: 3 ص 11، تبيين الحقائق: 3 ص 134، الدر المختار: 3 ص 109، المغني: 8 ص 730، القوانين الفقهية: ص 163.
(2) المراجع السابقة، مغني المحتاج: 4 ص 320.
(3) رتب الحنفية كيفية الأخذ بأقوال أئمتهم فقالوا: يأخذ القاضي والمفتي وغيرهما بقول أبي حنيفة على الإطلاق سواء أكان معه أحد أصحابه أو انفرد بالرأي، ولكن ذلك في غير بحوث القضاء والمواريث فإن الفتوى فيها على قول أبي يوسف لزيادة تجربته،، ثم يؤخذ بقول أبي يوسف ثم بقول محمد ثم بقول زفر والحسن بن زياد. ويؤخذ بقول الصاحبين إذا خالفا الإمام فيما كان الاختلاف فيه بحسب تغيير الزمان وفيما أجمع عليه المتأخرون كالمزارعة والمعاملة (الدر المختار رد المحتار: 4 ص 325، 65/ 1).

(4/2455)


النوع الثالث ـ أن تكون اليمين على ما هو مستحيل عادة:
إذا كان الأمر المحلوف عليه متصور الوجود في نفسه، ولكنه مستحيل بحسب العادة كالصعود في السماء، والطيران في الهواء، أو تحويل الحجر ذهباً، أو شرب ماء دجلة كله، أو قطع المسافة البعيدة في برهةوجيزة، فإنه تنعقد اليمين عند أبي حنيفة وصاحبيه وبقية أئمة المذاهب (1)؛ لأن البر متصور الوجود في نفسه بأن يقدر الله تعالى الحالف على ذلك، كما أقدر الملائكة والجن والأنبياء على صعود السماء، وكذلك انقلاب الحجر ذهباً ممكن بتحويل الله تعالى، وهكذا كل ما ذكر إلا أن الحالف عاجز عن الأمر عادة، فبالنظر لتصور وجود المحلوف عليه حقيقة انعقدت اليمين، وبالنظر للعجز عن تحقيق المحلوف عليه عادة حنث في الحال، ووجبت الكفارة، كما لو حلف ليطلقن امرأته، فماتت.
وقال زفر رحمه الله تعالى: لاينعقد يمين هذا الحالف: لأنه مستحيل عادة فيلحق بالمستحيل حقيقة، وبما أن اليمين لا ينعقد في المستحيل حقيقة فلا ينعقد كذلك في المستحيل عادة (2).
فإذا كانت هذه اليمين مؤقتة مثل: (والله لأصعدن السماء اليوم) فإنه عند أبي حنيفة ومحمد: يحنث في آخر اليوم؛ لأن البر يجب في المؤقتة في آخر اليوم عندهما، ويكون الوقت ظرفاً موسعاً.
وقال أبو يوسف: يحنث في الحال، لتحقق عجزه عن البر في الحال. وهذا هو الصحيح من مذهبه (3).
_________
(1) راجع البدائع: 3ص11 ومابعدها، تبيين الحقائق: 3ص135، الدر المختار: 3ص111، مغني المحتاج: 4ص320، المهذب: 3ص140، الشرح الكبير للدردير: 2ص126، المغني: 8ص 730، الميزان: 2ص129، 132.
(2) مراجع الحنفية السابق ذكرها.
(3) مراجع الحنفية السابقة.

(4/2456)


يمين الفور: هناك نوع آخر من اليمين المنعقدة أي اليمين في المستقبل: وهو ما تكون اليمين مؤقتة دلالة أو معنى ومؤبدة لفظاً، وهي المسماة يمين الفور: وهي كل يمين خرجت جواباً لكلام، أو بناء على أمر، فتتقيد بذلك بدلالة الحال، مثل أن يقول شخص لآخر: (تعال تغد معي) فقال: (والله لا أتغدى) فلم يتغد معه، ثم رجع إلى منزله، فتغدى، وحكمها: أنه لا يحنث في يمينه استحساناً، والقياس أن يحنث وهو قول زفر.
وجه القياس: أن الحالف منع نفسه عن الغداء في عموم الحالات، فتقييد اليمين في بعض الحالات دون بعض تخصيص للعموم.
ووجه الاستحسان: أن كلام الحالف خرج جواباً للسؤال، فينصرف إلى ما وقع السؤال عنه، والسؤال وقع عن الغداء المدعو إليه، فينصرف الجواب إليه، كأنه أعاد السؤال وقال: (والله لا أتغدى الغداء الذي دعوتني إليه): يعني أن قصد الحالف متجه إلى الامتناع عن الغداء المدعو إليه بحسب عرف الناس، والأيمان مبنية على العرف عند الحنفية كما سيأتي بيانه.
وهناك مثال آخر ليمين الفور وهو: إذا أرادت امرأة إنسان أن تخرج من الدار فقال لها زوجها: (إن خرجت فأنت طالق) فقعدت تاركة الخروج ساعة، ثم خرجت بعدئذ لا يحنث استحساناً؛ لأن دلالة الحال تدل على التقيد بذلك الخروج، كأنه قال: (إن خرجت هذه الخرجة فأنت طالق) فإن ذكر ما يدل على خلاف المقصود، كأن بين أن المراد الخروج مطلقاً في هذا اليوم، فيبطل اعتبار الفور، ويبطل أيضاً اعتبار الفور ويحنث بمطلق التغدي إن قال: (إن تغديت اليوم (1)).
_________
(1) راجع المبسوط: 8 ص 131، 186، البدائع: 3 ص 13، الدر المختار: 3 ص 29 ومابعدها، فتح القدير: 4 ص 42.

(4/2457)


قضاء الحق قبل وقته: إذا حلف شخص أن يقضي حق غيره في وقت، فقضاه قبله، لم يحنث بيمينه عند الحنفية والحنابلة؛ لأن مقتضى هذه اليمين تعجيل القضاء قبل خروج الوقت، فإذا قضاه قبله، فقد قضى قبل خروج الوقت، وزاد خيراً، ولأن مبنى الأيمان على النية، ونية هذا بيمينه أداء الحق قبل خروج الوقت.
وقال الشافعي ـ نقلاً عن ابن قدامة ـ: يحنث إذا قضاه قبله؛ لأنه ترك فعل ما حلف عليه مختاراً، فحنث كما لو قضاه بعده (1).

فعل بعض المحلوف عليه: إن حلف ليفعلن شيئاً، لم يبر عند الحنابلة إلا بفعل جميعه، وإن حلف ألا يفعله وأطلق، ففعل بعضه، ففيه روايتان عند الحنابلة، أرجحهما أنه يحنث بفعل البعض (2).
المبحث الثاني ـ صيغة اليمين:
تنقسم اليمين بحسب اللفظ المقسم به إلى خمسة أنواع:
1 - يمين بالله تعالى صراحة باستعمال اسم من أسماء الله الحسنى.
2 - يمين بالله تعالى صراحة باستعمال صفة من صفات الله.
3 - يمين بالله تعالى بطريق الكناية.
4 - يمين بالله تعالى من حيث المعنى.
5 - يمين بغير الله تعالى صورة ومعنى.
_________
(1) المغني: 790/ 8، الشرح الكبير: 153/ 2.
(2) المغني: 782/ 8، 792.

(4/2458)


1 - اليمين باسم من أسماء الله تعالى:
إن الحلف المباح: هو الحلف بالله تعالى، وإن الحالف بغير الله عاص، وقد اتفق العلماء على إباحة الأيمان بأسماء الله سبحانه، سواء أكان الاسم خاصاً لا يطلق إلا على الله تعالى نحو: الله، والرحمن، أم مشتركاً في الإطلاق على الله تعالى وعلى غيره كالعليم والحكيم والكريم والحليم ونحو ذلك؛ لأن هذه الأسماء وإن أطلقت على المخلوقات إلا أنها تنصرف إلى الخالق بدلالة القسم، إذ القسم بغير الله تعالى لا يجوز، فكان المراد بالاسم اسم الله تعالى.

حروف القسم: هي الباء، والواو، والتاء، كأن يقول الحالف: بالله، أو والله، أوتالله، وهو بحسب استعمال العرب، وقد ورد الشرع بتأييد اللغة مثل قوله تعالى: {والله ربِّنا ما كنا مشركين} [الأنعام:23/ 6] {وتالله لأكيدن أصنامكم} [الأنبياء:57/ 21] {وأقسموا بالله} [فاطر:42/ 35] وقال صلّى الله عليه وسلم: «والله لأغزون قريشاً ـ ثلاث مرات، ثم قال في الثالثة: إن شاء الله» (1)، وقال عليه السلام فيما يرويه عمر: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله، أو ليصمت» قال عمر: «فما حلفت بها بعد ذلك ذاكراً ولا آثراً» (2).
_________
(1) رواه أبو داود وابن حبان والبيهقي وأبو يعلى وابن عدي عن عكرمة عن ابن عباس، بعضهم رواه مسنداً، وبعضهم رواه مرسلاً، قال ابن أبي حاتم في العلل: الأشبه إرساله، وقال ابن القطان: الصحيح مرسل (جامع الأصول: 12 ص 299، نصب الراية: 3 ص 302، مجمع الزوائد: 4 ص 182، نيل الأوطار: 8 ص 220).
(2) رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة وأحمد ومالك والبيهقي عن عمر قال: سمعت عمر يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله ينهاكم .. الحديث» ومعنى قول عمر: «ما حلفت به ذاكراً» أي عن ذكر مني وعلم «ولا آثراً»: ولا راويا لها عن أحد أنه حلف بأبيه (راجع جامع الأصول: 12 ص 293، 311، نصب الراية: 3 ص 295، سبل السلام: 4 ص 101، نيل الأوطار: 8 ص 227).

(4/2459)


والباء والواو يستعملان في جمع ما يقسم به من أسماء الله تعالى وصفاته. أما التاء فإنه لا يستعمل إلا في اسم الله تعالى، تقول: تالله، ولا تقول: تالرحمن، تعزة الله تعالى.
ولو لم يذكر الحالف شيئاً من هذه الأدوات بأن قال: (اللهِ لا أفعل كذا) يكون يميناً عند الجمهور. وقال الشافعية: لو قال: (الله) ورفع أو نصب أو جر فليس بيمين إلا بنية (1).

2 - اليمين بصفة من صفات الله تعالى:
صفات الله تعالى ثلاثة أقسام:
أحدها ـ ما لا يستعمل في عرف الناس وعاداتهم إلا في الصفة نفسها، فالحلف بها يكون يميناً، مثل: «وعزة الله، وعظمته، وجلاله، وكبريائه» يكون حالفاً؛ لأن الحلف بهذه الصفات أمر متعارف بين الناس.
الثاني ـ أن يحلف بصفة تستعمل صفة لله ولغيره على السواء، فالحلف بها يكون يميناً أيضاً، مثل (وقدرة الله تعالى، وقوته وإرادته، ومشيئته ورضاه، ومحبته، وكلامه) (2) فإنه يكون حالفاً؛ لأن هذه الصفات، وإن استعملت في غير صفة الله، لكن تعين المراد منها بقرينة القسم، إذ لا يجوز القسم بغير اسم الله تعالى وصفاته.
_________
(1) راجع هذا المبحث في البدائع: 3 ص 5، فتح القدير: 4 ص 8، تبيين الحقائق للزيلعي 3 ص 109، 111، الدر المختار: 3 ص 54، بداية المجتهد: 1 ص 394، مغني المحتاج: 4 ص 320 - 323، المهذب: 2 ص 129، المغني: 8 ص 677، 689 - 693.
(2) الحلف بكلام الله أي بصفته يمين، كما في البدائع: 3 ص 6 وهو مذهب أبي حنيفة وصاحبيه. وقال صاحب الدر: وأما الحلف بكلام الله فيدور مع العرف أي لأن الكلام صفة مشتركة، والتعارف إنما يعتبر في الصفة المشتركة لا في غيرها (الدر المختار: 3 ص 56).

(4/2460)


ومما يلحق بهذا القسم: أن يقول الحالف: (وأمانة الله) في ظاهر الرواية عند الحنفية، وهو مذهب المالكية والحنابلة أيضاً. وذكر الطحاوي: أنه لايكون يميناً وإن نوى، دليله: أن أمانة الله فرائضه التي تعبد بها عباده من الصلاة والصوم وغيرهما. قال الله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال .. } [الأحزاب:72/ 33] الآية، فكان حلفاً بغير اسم الله عز وجل، فلا يكون يميناً.
ودليل ظاهر الرواية: أن الأمانة المضافة إلى الله تعالى عند القسم يراد بها صفته، بدليل أن «الأمين» من أسماء الله تعالى، وهو مشتق من الأمانة، فكان المراد بها ـ لا سيما في حالة القسم ـ صفة الله.
وقال المالكية: اليمين المنعقدة الموجبة للكفارة: الحلف بالله وبأسمائه كالعزيز والرحيم، وبصفاته كعلمه وقدرته وسمعه وبصره وكلامه ووحدانيته، وقدمه وبقائه وعزته وجلاله وعهده وميثاقه وذمته وكفالته وأمانته، وكذلك باسمه وحقه. ويلحق بذلك القرآن والمصحف على المشهور.
وقال الشافعية في الراجح عندهم: لا ينعقد اليمين بأمانة الله إلا أن ينوي الحلف بصفة الله تعالى؛ لأن الأمانة تطلق على الفرائض والودائع والحقوق، كما في الآية السابقة.
ومن هذا القسم: (وعهد الله) (1) فهو يمين، وهذا باتفاق الحنفية والمالكية والحنابلة، وفي وجه عند الشافعية؛ لأن العادة الحلف بها والتغليظ بألفاظها كالحلف بالله وصفات، وفي الوجه الثاني عند الشافعية وهو الراجح: لا تعتبر يميناً ما لم ينو الحالف بها اليمين؛ لأنها تحتمل أن المراد بالعهد: هو استحقاق الله ما
_________
(1) المراد بعهد الله: أي إلزامه وتكاليفه.

(4/2461)


تعبدنا به، فهو يمين، وتحتمل أن المراد بها ما أخذ علينا من العهد في العبادات، فليس بيمين، لأنه يمين بشيء محدث (1).
ومن هذا القسم أيضاً: (ووجه الله) فهو يمين؛ لأنه الوجه المضاف إلى الله تعالى يراد به الذات، قال تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} [القصص:88/ 28] أي ذاته.
ولو قال الحالف: (وأيم الله) كان يميناً وكذلك إذا قال: (لعمر الله) (2).
وقال الشافعية لو قال: (وأيم الله) أو (لعمر الله) ونوى به اليمين، كان يميناً (3).
وقال المالكية والحنابلة كالحنفية: إذا قال الحالف: (وأيم الله) أو (أيمن الله) أي بركته، فهو يمين تجب كفارته؛ لأن الحلف بذلك متعارف، وكذا إذا حلف بقوله (لعمر الله) (4).
الثالث ـ أن يحلف بصفة تستعمل لله تعالى، ولغيره، لكن استعمالها في غير الصفة هو الغالب، فالحلف بها لا يكون يميناً، مثل قول الحالف: (وعلم الله) (ورحمة الله)، (وكلام الله) أو غضبه أو سخطه أو رضاه (5)، لا يكون هذا يميناً؛
_________
(1) راجع هذا المبحث في البدائع: 3 ص 6، فتح القدير: 4 ص 14، الفتاوى الهندية: 2 ص 49، الشرح الكبير للدردير: 3 ص 127، المغني: 8 ص 697، 703، المهذب: 2 ص 130، القوانين الفقهية: ص 158.
(2) البدائع، المرجع السابق، الدر المختار: 3ص 58، تبيين الحقائق: 3 ص 110.
(3) راجع المهذب: 2 ص 130، مغني المحتاج: 4 ص 324 وأصل الكلمة: وأيم أي أيمن فحذفت منه النون لكثرة الاستعمال كما حذفوها في (يكن) فقالوا (يك).
(4) الشرح الكير، المرجع السابق، المغني: 8 ص 691، 693، والمراد من قوله: (لعمر الله) أي البقاء والحياة.
(5) أي إذا أريد بهذه الصفات آثارها، فلا يكون الحلف بها يميناً إلا بالنية

(4/2462)


لأنه يراد بهذه الصفات آثارها عادة، لا نفسها، فالعلم يراد به المعلوم غالباً، والرحمة يراد بها الجنة، قال تعالى: {ففي رحمة الله هم فيها خالدون} [آل عمران:107/ 3] والغضب والسخط يراد به أثر الغضب والسخط عادة:
وهو العذاب والعقوبة، لا الصفة نفسها، فلا يصير بذلك حالفاً إلا إذا نوى به الصفة، وكذا العرب لم تتعارف القسم بعلم الله تعالى، فلا يكون يميناً بدون النية (1). والخلاصة: أن المعول عليه هو العرف، فما تعارفه الناس أنه يمين فهو يمين وإلا فلا.
وقال الشافعية والحنابلة: الحلف بكلام الله وعلمه وقدرته يمين إلا أن ينوي بالعلم المعلوم، وبالقدرة المقدور، كما يقال: (اللهم اغفر لنا علمك فينا) أي معلومك منا ومن زلاتنا. ويقال: انظر (قدرة الله) أي مقدوره (2).

الحلف على المصحف: الحلف على القرآن أو المصحف يمين باتفاق العلماء من مالكية وشافعية وحنابلة، وكذا عند الحنفية على ما رجحه الكمال بن الهمام والعيني؛ لأن الحالف بالمصحف إنما قصد الحلف بالمكتوب فيه: وهو القرآن، فإنه ما بين دفتي المصحف بإجماع المسلمين. وذلك إلا أن يريد الحالف بقوله (القرآن) الخطبة أو الصلاة، أو يريد بقوله (المصحف) الورق أو الجلد أو النقوش. وقد كان الحنفية يرون أن الحلف بالقرآن أو المصحف ليس يميناً، لأنه حلف بغير الله تعالى. ولكن بما أن القرآن كلام الله فهو من صفاته تعالى، لذا قال ابن الهمام: ولا يخفى أن الحلف بالقرآن الآن متعارف، فيكون يميناً، وقال العيني: وعندي أن المصحف يمين، لا سيما في زماننا (3).
_________
(1) البدائع: 3 ص 6، تبيين الحقائق: 3 ص 109، فتح القدير: 4 ص 9، الدر المختار: 3 ص 58.
(2) مغني المحتاج: 4 ص 321 ومابعدها، المغني: 8 ص 690 ومابعدها، المهذب: 2 ص 129.
(3) انظر فتح القدير: 4 ص 9 - 10، البدائع: 3 ص 8، الفتاوى الهندية: 2 ص 50، الدر المختار: 3 ص 56، الشرح الكبير للدردير: 2 ص 127، مغني المحتاج: 4 ص 322، المغني: 8 ص 695، 707.

(4/2463)


ومن حلف بحق القرآن، لزمته عند الجمهور كفارة واحدة؛ لأن تكرر اليمين بالله سبحانه لا يوجب أكثر من كفارة واحدة، فالحلف بصفة من صفاته أولى أن تجزئه كفارة واحدة. ونص الإمام أحمد على أنه تلزمه بكل آية كفارة يمين، لما رواه الأثرم عن مجاهد من قوله صلّى الله عليه وسلم: «من حلف بسورة من القرآن، فعليه بكل آية كفارة يمين صبر، فمن شاء بر، ومن شاء فجر».

الحلف بحق الله: اتفق المالكية والحنابلة، والشافعية في الأصح على أن الحلف بحق الله يعتبر يميناً مكفَّرة؛ لأن الحق اسم من أسماء الله تعالى، أو أن المراد به صفة لله تعالى؛ لأن لله حقوقاً يستحقها لنفسه من البقاء والعظمة والجلال والعزة، فكان الحلف بذلك كقوله: (وقدرة الله) (1).
وأما مذهب الحنفية في الحلف بحق الله ففيه اختلاف: فقال أبو حنيفة ومحمد وفي رواية عن أبي يوسف: لا يكون يميناً؛ لأن حق الله يراد به طاعة الله ومفروضاته، وليست هذه صفة لله، إذ الطاعات حقوقه كما يتبادر إلى الفهم شرعاً وعرفاً، فيكون حلفاً بغير الله.
وقالوا: فلو قال (والحق) يكون يميناً بالاتفاق. ولو قال: (حقاً) لا يكون يميناً؛ لأن الحق من أسماء الله تعالى، قال سبحانه: {ويعلمون أن الله هو الحق المبين} [النور:25/ 24] فذكره معرفاً بأل ينصرف إلىه، والحلف به متعارف. أما إذا ذكر منكَّراً بدون أل فهو مصدر منصوب بفعل مقدر، فكأنه قال: أفعل هذا الفعل لا محالة، فيراد به تحقيق الوعد، فقوله (حقاً) بمنزلة قوله: (صدقاً) وليس في ذلك شيء من معنى الحلف.
_________
(1) الشرح الكبير للدردير، مغني المحتاج، المرجعان السابقان، المغني، المرجع السابق: ص691.

(4/2464)


والرواية الأخرى عن أبي يوسف: أن الحلف بحق الله يكون يميناً؛ لأن الحق من صفات الله تعالى، وهو حقّيته أي كونه تعالى ثابت الذات موجودها، فكأنه قال: (والله الحق) والحلف به متعارف، فوجب كونه يميناً (1) وهذا هو رأي بقية الأئمة كما عرفنا.

الحلف بـ (لعمر الله): هي يمين موجبة الكفارة عند الجمهور؛ لأنه أقسم بصفة من صفات ذات الله، كالحلف ببقاء الله تعالى. وقال الشافعي: إن قصد اليمين فهي يمين وإلا فلا. وإن قال: (وأيم الله وأيمن الله) فهي عند الجمهور يمين موجبة للكفارة. وقال الشافعي: هي يمين إن قصد اليمين كما تقدم سابقاً (2) .....
الحلف بلفظ (أقسم بالله ونحوه): إذا قال الحالف: (أقسم بالله، أو أحلف بالله أو أشهد بالله أو أعزم بالله لأفعلن كذا)، يكون يميناً، سواء نوى اليمين أو أطلق عند الحنفية والحنابلة، وفي الأصح عند الشافعية في حالة الإطلاق.
وقال المالكية: يكون يميناً إن نوى وأراد اليمين بالله، فإن لم يرد اليمين بالله فليست بيمين. والمراد بالنية: التقدير أي إن قدر أن هذا اللفظ يمين، فإذا لم يقدره ويلاحظه فلا يمين عليه.
والدليل على أن الحلف بذلك يمين هو عرف الناس واستعمالهم، قال الله تعالى: {فيقسمان بالله} [المائدة:106/ 5] {وأقسموا بالله} [الأنعام:109/ 6] ويدل عليه أنه لو قال الحالف: بالله ولم يقل: أقسم أو أشهد: أي لم يذكر الفعل، كان يميناً، وإنما كان يميناً بتقدير الفعل قبله؛ لأن الباء تتعلق بفعل مقدر، فإذا ذكر الفعل ونطق بالمقدَّر كان أولى بثبوت حكمه.
_________
(1) فتح القدير: 4 ص 11، البدائع: 3 ص 7، تبيين الحقائق: 3 ص 111، الدر المختار: 3ص62، الفتاوى الهندية: 2 ص 49.
(2) المغني: 691/ 8 - 693.

(4/2465)


وكذلك الحكم إن ذكر الفعل بلفظ الماضي، فقال: (أقسمت بالله أو حلفت بالله لأفعلن كذا)، يكون يميناً (1).

الحلف على الغير: قال الشافعية وغيرهم (2): إذا قال شخص لغيره: (أقسم عليك بالله، أو أسألك بالله لتفعلن كذا)، وأراد يمين نفسه فهو يمين، ويسن للمخاطب أن يبر الحالف، لما روى البخاري «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر بإبرار المقسم» وهذا على سبيل الندب لا على سبيل الإيجاب، بدليل أن أبا بكر قال: «أقسمت عليك يا رسول الله لتخبرني بما أصبت مما أخطأت، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: لا تقسم يا أبا بكر» ولم يخبره، ولو وجب عليه إبراره لأخبره، فإن لم يبره فالكفارة على الحالف، وإن أراد يمين المخاطب أو لم يرد يميناً، بل أراد التشفع بالله عز وجل في الفعل لم يكن يميناً.
الحلف بقوله (أقسم لأفعلن كذا): إذا ذكر الحالف القسم والخبر المقسم عليه، ولم يذكر المقسم به أي لفظ الجلالة بأن قال: (أشهد) أو (أحلف) أو (أقسم) أو (أعزم) لأفعلن كذا، كان يميناً عند جمهور الحنفية وفي رواية عن أحمد وهي الراجحة في مذهبه؛ لأن القسم لما لم يجز بغير الله تعالى، دل على أن هنالك مقسماً به محذوفاً: وهو اسم الله تعالى، مثل (واسأل القرية) أي أهلها، ولأن العرب تعارفت الحلف على هذا الوجه، قال الله تعالى: {يحلفون لكم لترضوا عنهم} [التوبة:96/ 9] ولم يقل: بالله، وقال عز وجل: {إذ أقسموا ليصرمُنَّها مصبحين} [القلم:17/ 68] ولم يذكر بالله. وقال سبحانه: {إذا جاءك المنافقون
_________
(1) البدائع، فتح القدير: ص 12 المرجعان السابقان، بداية المجتهد: 1 ص 398، الشرح الكبير للدردير: 2 ص 127، مغني المحتاج: 4 ص 323، المهذب: 2 ص 131، المغني: 8 ص 700 ومابعدها، شرح الباجوري: 2 ص 321.
(2) مغني المحتاج: 4 ص 324، المهذب: 2 ص 131، المغني: 8 ص 731.

(4/2466)


قالوا: نشهد إنك لرسول الله} ـ إلى قوله ـ {اتخذوا أيمانهم جنة} [المنافقون:1/ 63] فسماها الله يميناً.
وقال المالكية مثل قولهم حالة ذكر المقسم به، وهي الرواية الثانية عن أحمد، وقول زفر عند الحنفية: إن نوى اليمين بالله كان يميناً وإلا فلا؛ لأنه يحتمل القسم بالله وبغيره، فلم تكن يميناً حتى يصرفه بنية إلى ما تجب به الكفارة، واستثنى المالكية من ذلك لفظ (أعزم) فإنه لا يكون يميناً وإن نوى، لأن معنى (أعزم): أقصد وأهتم.
وقال الشافعية: لا يكون يميناً وإن نوى؛ لأن ذكر المقسم به ركن من أركان اليمين (1).

تكرار المقسم به: إذا ذكر الحالف المقسم به مكرراً بدون حرف العطف مثل قوله: (والله الرحمن الرحيم الطالب الغالب المدرك): كان يميناً واحدة بلا خلاف. وإن كرر المقسم به بواسطة حرف عطف مثل قوله: (والله والله) أو (والله والرحمن) لا أفعل كذا: كان يمينين في أرجح الروايتين عن أئمة الحنفية ما عدا زفر؛ لأنه لما عطف أحد الاسمين على الآخر كان الثاني غير الأول؛ لأن المعطوف غير المعطوف عليه، فكان كل واحد منهما يميناً على حدة. أما إذا لم يعطف أحدهما على الآخر، فيجعل الثاني صفة للأول.
وقال زفر وهي الرواية الثانية عن أبي حنيفة: يكون ذلك يميناً واحدة في الحالتين؛ لأن حرف العطف قد يستعمل للاستئناف، وقد يستعمل للصفة، فإنه
_________
(1) المراجع السابقة: البدائع: ص 7، فتح القدير: ص 13، الدردير: ص 128، مغني المحتاج: ص323، المغني: 8 ص 702، 732، تبيين الحقائق: 3ص110، بداية المجتهد: ص 398.

(4/2467)


يقال: فلان العالم والزاهد والجواد والشجاع، فاحتمل المغايرة، واحتمل الصفة، فلا تثبت يمين أخرى مع الشك (1).

تكرار الخبر المقسم عليه: إذا كرر الحالف الخبر المقسم عليه بأن قال: (والله لا أفعل كذا، لا أفعل) أو قال: (والله لا أكلم فلاناً والله لا أكلمه) فإنه يكون عند الحنفية يمينين إلا إذا أراد بالكلام الثاني الإخبار عن الأول، فإنه يكون يميناً واحدة. والدليل على الحالة الأولى: أن الحالف لما أعاد المقسم عليه، علم أنه أراد به يميناً أخرى، إذ لو أراد الصفة أو التأكيد لما أعاد المقسم عليه (2).
3 - اليمين بالله تعالى بطريق الكناية:
إذا حلف إنسان بالخروج من الإسلام مثل أن يقول: إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني أو مجوسي أو بريء من الإسلام أو من رسول الله أو من القرآن أو كافر، أو يعبد من دون الله أو يعبد الصليب أو نحوه مما يكون اعتقاده كفراً، فهذا ما اختلف فيه فقهاؤنا: فقال الحنفية (3) وفي رواية عن أحمد: يكون يميناً موجبة للكفارة إذا فعل الشيء المحلوف عليه؛ لأن الناس تعارفوا الحلف بهذه الألفاظ من لدن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير، ولو لم يكن ذلك حلفاً لما تعارفوا؛ لأن الحلف بغير الله تعالى معصية، فدل تعارفهم على أنهم جعلوا المذكور كناية عن الحلف بالله عز وجل، وإن لم يعقل وجه الكناية فيه، كقول العرب: (لله علي أن أضرب ثوبي حطيم (4) الكعبة) فهذا جعل كناية عن النذر بالتصدق في عرفهم، وإن لم يعقل وجه الكناية فيه.
_________
(1) البدائع: 3 ص 9، فتح القدير: 4 ص 13، الدر المختار: 3 ص 57.
(2) البدائع: 3 ص 10.
(3) البدائع: المرجع السابق: ص 8، فتح القدير: 4 ص 13، الدر المختار: 3 ص 59، الفتاوى الهندية: 2 ص 51.
(4) الحطيم: جدار حجر الكعبة، وقيل: ما بين الركن وزمزم والمقام.

(4/2468)


وقال المالكية والشافعية والحنابلة في الرواية الصحيحة عندهم: لا يكون ذلك يميناً لخلوه عن ذكر اسم الله تعالى وصفته، ولا كفارة عليه بالحنث فيه، والحلف به معصية، والتلفظ به حرام. هذا إذا قصد بيمينه تبعيد نفسه عن المحلوف عليه، أما لو حلف على قصد الرضا بالتهود وما في معناه إذا فعل الفعل، كفر في الحال، فإن لم يعرف قصده، لا يحكم بكفره، كما رجح الشافعية (1). ويؤيد هذا الرأي ماروى بريدة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من حلف أنه بريء من الإسلام، فإن كان كاذباً فقد قال، وإن كان صادقاً فلم يرجع إلى الإسلام سالماً» (2).
هذا إذا أضاف اليمين إلى المستقبل، فأما إذا أضاف اليمين إلى الماضي بأن قال: (إني يهودي أو نصراني إن فعلت كذا في الماضي) كاذباً قصداً، فهذا يمين الغموس، ولا كفارة فيه عند جمهور الفقهاء، كما بان سابقاً.
لكن هل يكفرُ بقوله هذا؟
اختلف مشايخ الحنفية في ذلك، والصحيح ما روى الحاكم الشهيد عن أبي يوسف أنه لا يكفر؛ لأنه ما قصد به الكفر، ولا اعتقده، وإنما قصد به ترويج كلامه وتصديقه فيه.
وكذلك لا يكفُر في الصحيح إذا قال: (يعلم الله أني فعلت كذا) وهو يعلم
_________
(1) بداية المجتهد: 1 ص 396، الشرح الكبير للدردير: 2 ص 128، مغني المحتاج: 4 ص 324، المهذب: 2 ص 129، المغني: 8 ص 698، القوانين الفقهية: ص 158.
(2) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي وصححه من حديث بريدة بلفظ «من حلف، فقال: إني بريء من الإسلام، فإن كان كاذباً، فهو كما قال؛ وإن كان صادقاً، فلن يرجع إلى الإسلام سالماً». وروى أبو يعلى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين فهو كما قال: إن قال: إني يهودي فهو يهودي، وإن قال: إني نصراني فهو نصراني، وإن قال: إني مجوسي فهو مجوسي» وفيه عنبس بن ميمون وهو متروك (راجع جامع الأصول: 12 ص 295، سبل السلام: 4 ص 102، نيل الأوطار: 8 ص 233، مجمع الزوائد: 4 ص 177).

(4/2469)


أنه لم يفعل. وقيل: إنه يكفر إذا علم أن قوله هذا مكفر؛ لأنه بالإقدام عليه صار مختاراً للكفر، واختيار الكفر كفر (1).

الحلف بتحريم شيء من ماله: قال الحنابلة والحنفية (2) إن قال: (الحل علي حرام)، أو قال: (هذا حرام علي إن فعلت)، ثم فعل، فهو مخير إن شاء ترك ماحرمه على نفسه، وإن شاء كفَّر. وقال المالكية والشافعية: ليس بيمين ولا شيء عليه؛ لأنه قصد تغيير المشروع، فلغا ما قصده. والراجح الرأي الأول لقوله تعالى: {يا أيها النبي لِم تحرمُ ما أحل الله لك} ـ إلى قوله ـ {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} [التحريم:1/ 66].
هل اليمين بحسب نية الحالف أو المستحلف؟ اتفق الفقهاء على أن اليمين في الدعاوى تكون بحسب نية المستحلف، واختلفوا في مثل الأيمان على الوعود ونحوه، فقال قوم: بحسب نية الحالف، وقال قوم آخرون: بحسب نية المستحلف.
أما المالكية فقالوا: اليمين على نية المستحلف، ولا تقبل نية الحالف؛ لأن الخصم كأنه قبل هذه اليمين عوضاً عن حقه، ولأنه ثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «اليمين على نية المستحلف» وفي رواية «يمينك على ما يصدقك به صاحبك» (3).
_________
(1) البدائع: 3 ص 8، تحفة الفقهاء: 2 ص 443، الطبعة القديمة، الدر المختار: 3 ص 61.
(2) المغني: 699/ 8 ومابعدها، 733.
(3) أخرج مسلم وابن ماجه هاتين الروايتين عن أبي هريرة، وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه الرواية الثانية، وهو حجة لمن قال: الاعتبار بقصد المحلّف سواء أكان حاكماً أو دائناً عادياً ظالما أو مظلوماً، صَادقاً أو كاذباً (راجع نيل الأوطار: 8 ص 218، جامع الأصول: 12 ص 307، الإلمام: ص 427، سبل السلام: 4 ص 102).

(4/2470)


وأما الحنفية فقد فصلوا في رواية عن أبي حنيفة، فقالوا: اليمين على نية الحالف إذا كان مظلوماً، لأنه لا يقتطع بيمينه حقاً، فلا يأثم وإن نوى غير الظاهر من كلامه، وإن كان ظالماً فعلى نية المستحلف، لأنه يكون حينئذ آثماً إن نوى به غير ما حلف عليه. والمعول عليه عندهم هو أن اليمين على نية المستحلف إلا إذا كانت اليمين بالطلاق أو العتاق ونحوهما، فتعتبر نية الحالف إذا لم ينو خلاف الظاهر ظالماً كان الحالف أو مظلوماً، وكذلك إذا كانت اليمين بالله تعالى وكان الحالف مظلوماً، فإنه تعتبر نية الحالف أيضاً. والظالم: من يريد بيمينه إبطال حق الغير.
ووافق الحنابلة أبا حنيفة، فمن حلف فتأول في يمينه أي قصد بكلامه محتملاً يخالف ظاهره، فله تأويله إن كان مظلوماً، وإن كان ظالماً لم ينفعه تأويله.
وأما الشافعية فقالوا: العبرة في اليمين بنية الحالف؛ لأن المقصود من الأيمان هو المعنى القائم بالنفس، لا ظاهر اللفظ (1).

4 - اليمين بغير الله تعالى صورة ومعنى (الحلف بمخلوق):
إذا حلف الإنسان بغير الله تعالى، كالإسلام أو بأنبياء الله تعالى أو بملائكته أو بالكعبة أو بالصلاة والصوم والحج، أو قال: (عليَّ سخط الله وعذابه) أو بالآباء أو الأمهات أو الأبناء، أو بالصحابة أو بالسماء أو بالأرض أو بالشمس أو بالقمر والنجوم ونحوها، ومثل: (لعمرك وحياتك وعيشك وحقك) فلا يكون يميناً
_________
(1) راجع هذا المبحث في بداية المجتهد: 1 ص 403، البدائع: 3 ص 20، الأشباه والنظائر لابن نجيم: 1 ص 81، مغني المحتاج: 4 ص 321، المغني: 8 ص 727، 763 ومابعدها، الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه: 2 ص 139، القوانين الفقهية: ص162، الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة: ص 35.

(4/2471)


بإجماع العلماء، وهو مكروه (1). قال الشافعي: أخشى أن يكون معصية ولا يجب عليه كفارة؛ لأنه حلف بغير الله تعالى، والناس وإن تعارفوا الحلف بالآباء ونحوهم لكن الشرع نهى عنه، وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت» (2)، «فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليذر» (3) وقال عليه السلام: «من حلف بغير الله فقد أشرك» (4) ولأن هذا النوع من الحلف لتعظيم المحلوف به، وهذا التعظيم لايستحقه إلا الله تعالى.

5 - اليمين بغير الله تعالى صورة ولكنها يمين بالله معنى:
وهي اليمين بغير القربات التي يتقرب بها إلى الله تعالى، وهي الحلف بالطلاق والعتاق، أو كالمشي إلى مكة، والصوم والصدقة وغيرها، وذلك بذكر
_________
(1) البدائع، المرجع السابق: ص 8، 21، فتح القدير: 4 ص 9، الفتاوى الهندية: 2 ص 48، الدر المختار: 3 ص 56، الشرح الكبير للدردير: 2 ص 128، مغني المحتاج: 4 ص 320، المهذب: 2 ص 129، المغني: 8 ص 677، 704، القوانين الفقهية: ص 158.
(2) رواه النسائي، وأخرجه مسلم بلفظ: «لاتحلفوا بالطواغي ولا بآبائكم» عن عبد الرحمن بن سمرة، ورواه البزار والطبراني في الكبير عن سمرة بلفظ: «لاتحلفوا بالطواغيت ولاتحلفوا بآبائكم واحلفوا بالله» وإسناد البزار ضعيف، وفي إسناد الطبراني مساتير (راجع جامع الأصول: 12 ص 294، مجمع الزوائد: 4 ص 177) والمقصود بالطواغي والطواغيت: الأوثان، وكل ماكان أهل الجاهلية يقدسونه ويعبدونه، وكذلك الشياطين، وكل رأس في ضلالة فهو طاغوت.
(3) هذه العبارة من حديث آخر بلفظ: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت» وفي رواية: «أو ليسكت» أخرجه أصحاب الكتب الستة ومالك وأحمد والبيهقي عن ابن عمر، وقد سبق تخريجه (راجع جامع الأصول: 12 ص 293، نصب الراية: 3 ص 295).
(4) رواه أحمد بهذا اللفظ عن ابن عمر، ورواه أبو داود والترمذي وحسنه الحاكم وصححه بلفظ: «من حلف بغير الله، فقد كفر» ورواه الترمذي وابن حبان بلفظ: «فقد كفر وأشرك» للمبالغة في الزجر والتغليظ في ذلك، وهو في الجملة محمول على من اعتقد فيما حلف به من التعظيم مايعتقده في الله تعالى (راجع جامع الأصول: 12 ص 293، نيل الأوطار: 8 ص 227، سبل السلام: 4 ص 101).

(4/2472)


الشرط والجزاء (1)، وبما أنه مانع عن تحصيل الشرط، وحامل على البر، فهو بمنزلة ذكر اسم الله تعالى. ويتحقق هذا الحلف باستعمال أحد حروف الشرط وهي: إن، وإذا، وإذا ما، ومتى، ومتى ما، ومهما، وكلما.
مثل قوله لامرأته: (إذا دخلت هذه الدار فأنت طالق) أو: (إن دخلت) أو: (متى دخلت) أو: (إذا مادخلت) أو: (متى مادخلت) فإن وجد الدخول طلقت؛ لأن هذه حروف الشرط، فإذا وجد الشرط، حنث في يمينه، فإن تكرر دخولها لاتطلق؛ لأن هذه الحروف لاتقتضي التكرار (2).
وحكمها: أنه يلزمه تنفيذ ما حلف به، ولا كفارة فيه.

ولو قال لامرأته: (كلما دخلت هذه الدار فأنت طالق) يحنث بدخولها الدار، فإن تكرر دخولها مرة ثانية أو ثالثة، تكرر وقوع الطلاق، فتطلق طلقة واحدة في كل مرة؛ لأن كلمة (كلما) تقتضي تكرار الأفعال، وهي قد دخلت على فعل الدخول. هذا إذا تكرر الدخول في حالة زوجية واحدة، فإن طلقت ثلاثاً، فتزوجت بزوج آخر، وعادت إليه، ثم دخلت الدار في المرة الرابعة، لايقع الطلاق عند أئمة الحنفية ماعدا زفر، لأن محل الجزاء قد فات (3).
ولو قال: (كل امرأة أتزوجها فهي طالق) فتزوج امرأة، تطلق لوجود الشرط، ولو تزوجها ثانية لاتطلق؛ لأن الطلاق توقف على الزواج لا على طريق
_________
(1) الشرط: العلامة، فسمي ماحلف عليه الحالف شرطاً: علامة على تحقق الجزاء، والجزاء: هو مادخل عليه حرف التعليق وهو حرف الفاء إذا كان الجواب متأخراً ذكره عن الشرط مثل: إن دخلت الدار فأنت طالق، فإن تقدم الجزاء فلا حاجة إلى حرف الفاء.
(2) البدائع: 3 ص 21، القوانين الفقهية: ص 159.
(3) البدائع، المرجع السابق: ص 23.

(4/2473)


التعليق بالشرط، بل لأنه أوقع الطلاق على امرأة متصفة بأنه تزوجها، ويحصل الاتصاف عند التزوج. ولو تزوج امرأة أخرى تطلق؛ لأن كلمة (كل) توجب عموم الأسماء أي كل ما يوصف بأنه امرأة، ولا توجب عموم الأفعال وتكرارها (1).

الجمع بين شرطين في يمين: إذا جمع الحالف بين شرطين بأن عطف أحدهما على الآخر بحرف الواو لايقع الطلاق إلا عند وجود الشرطين، مثل قوله: (إن دخلت هذه الدار وهذه الدار) فلا يقع الطلاق إلا عند دخول الدارين جميعاً، سواء قدم الشرط أو أخره أو كان متوسطاً، ولايشترط الترتيب في دخول الدارين؛ لأن حرف الواو لمطلق الجمع، ولعطف الشيء على جنسه، فيكون الشرط معطوفاً على الشرط لا على الجزاء.
وكذلك إن عطف بحرف (الفاء) لابد من تحقق الشرطين أيضاً بأن قال: (إن دخلت هذه الدار، فهذه الدار، فأنت طالق) إلا أنه يشترط هنا دخول الدارين على الترتيب والتعقيب بلا تراخ.
وكذلك إن كان العطف بحرف (ثم) لابد من تحقق الشرطين بأن قال: (إن دخلت هذه الدار، ثم هذه الدار، فأنت طالق) فيقع الطلاق بدخول الدارين على الترتيب مع التراخي بأن يدخل الدارين الأولى ثم الثانية بعد مدة ساعة من الزمن أو أكثر منها؛ لأن حرف (ثم) للترتيب والتعقيب مع التراخي.
والحكم لايختلف في الجمع بين الشرطين، سواء كرر حرف العطف بدون الفعل، كما تقدم، أو كرر حرف العطف مع الفعل بأن قال: (إن دخلت هذه الدار ودخلت هذه الدار) وذلك بالواو أو بالفاء أو بحرف (ثم) (2).
_________
(1) البدائع: ص 21.
(2) البدائع: 3 ص 31.

(4/2474)


فإن قال: (الأيمان تلزمني) يحمل على العرف الثابت عند المالكية، والمراد به في بعض البلاد الطلاق الثلاث، فيلزمه (1).

تكرار الأيمان في مجلس واحد أو في مجلسين: إذا حلف إنسان فقال: (والله لا أكلم فلاناً) ثم قال في ذلك المجلس، أو في مجلس آخر: (والله لا أكلم فلاناً) أو قال لامرأته: (إن دخلت هذه الدار فأنت طالق) ثم قال بعدئذ: (إن دخلت هذه الدار فأنت طالق) فهنا ثلاثة احتمالات: إما ألا يكون له نية، أو نوى بالثانية التغليظ والتشديد، أو نوى بالثانية الأولى.
آ - فإن لم يكن نية: فلا شك أنهما يمينان، حتى لو فعل كان عليه كفارتان، فلو كلم فلاناً لزمه كفارتان، وفي اليمين بالطلاق يقع طلقتان إن تحقق الشرط.
ب - وإن نوى باليمين الثانية التغليظ: فكذلك عليه يمينان، ويلزمه كفارتان إذا كلم فلاناً، كما أنه يقع عليه طلاقان بدخول الدار. ودليل هاتين الحالتين هو أنه لما أعاد المقسم عليه مع المقسم به، علم أنه أراد به يميناً أخرى.
جـ ــ وإن نوى باليمين الثانية الأولى: كان عليه يمين واحدة، لأنه نوى التكرار، وهو مستعمل في العرف للتأكيد، إلا أن في مسألة الطلاق لايصدق قضاء، ويصدق ديانة؛ لأن كلامه ظاهر في تكرار اليمين، فإن نوى خلاف الظاهر، صدق فيما بينه وبين الله تعالى (2).
وقال المالكية (3) كالحنفية: إذا حلف الحالف على شيء واحد بعينه مراراً كثيرة، ففي كل يمين كفارة، إلا أن ينوي أو يريد التأكيد.
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 160.
(2) البدائع، المرجع السابق: ص 10، الفتاوى الهندية: 2 ص 53، تحفة الفقهاء: 2 ص 446 ومابعدها.
(3) بداية المجتهد: 1 ص 407، الشرح الكبير: 2 ص 135 ومابعدها.

(4/2475)


وقال الحنابلة (1): إذا كرر الحالف اليمين على شيء واحد، مثل قوله: (والله لأغزون قريشاً، والله لأغزون قريشاً، والله لأغزون قريشاً)، فحنث، فليس عليه إلا كفارة واحدة.
وعن الشافعي قولان (2): أحدهما كالحنابلة، والآخر كالمالكية، والراجح فيما يظهر أنهم كالمالكية.
وسبب الاختلاف: هل الموجب للتعدد هو تعدد الأيمان بالجنس أو بالعدد، فمن قال: اختلافها بالعدد، قال: لكل يمين كفارة إذا كرر. ومن قال: اختلافها بالجنس، قال: في هذه المسألة يمين واحدة.

المبحث الثالث ــ شروط صحة اليمين:
اشترط الحنفية شروطاً لصحة اليمين بالله تعالى، سواء بالنسبة للحالف والمحلوف عليه وركن اليمين (3).

1ً - شروط الحالف: يشترط في الحالف شرطان:
أولهما - أن يكون الحالف عاقلاً بالغاً قاصداً إلى اليمين: فلا يصح يمين الصبي والمجنون والنائم.
ثانيهما - أن يكون مسلماً: فلا يصح يمين الكافر؛ لأن كفارة اليمين عبادة، والكافر ليس من أهلها. والدليل على أن الكفارة عبادة: أنها لاتتأدى بدون النية، وكذا لا تسقط بأداء الغير عن الحانث، وهذان حكمان مختصان بالعبادات، إذ غير
_________
(1) المغني: 8 ص 705.
(2) المهذب: 2 ص 131، مغني المحتاج: 4 ص 323.
(3) البدائع: 3 ص 10 - 15، فتح القدير: 4 ص 3 ومابعدها، الفتاوى الهندية: 2 ص 48.

(4/2476)


العبادة لاتشترط فيه النية، ويسقط بأداء الغير مثل الديون ورد المغصوب ونحوها، والكافر ليس من أهل العبادات، فلاتجب بيمينه الكفارة.
وقال غير الحنفية (1): تصح اليمين من الكافر، وتلزمه الكفارة سواء حنث في أثناء كفره، أو بعد إسلامه، بدليل أن عمر رضي الله عنه نذر في الجاهلية أن يعتكف في المسجد الحرام، فأمره النبي صلّى الله عليه وسلم بالوفاء بنذره (2)، ولأن الكافر من أهل اليمين بالله تعالى، بدليل قوله تعالى: {فيقسمان بالله} [المائدة:106/ 5].
وأما الحرية فليست بشرط، فتصح يمين العبد، وكفارته بالصوم حال رقه، وكذا الطواعية والاختيار ليس شرطاً عند الحنفية والمالكية، فتصح اليمين من المكره؛ لأنها من التصرفات التي لاتحتمل الفسخ، فلا يؤثر الإكراه في اليمين كالطلاق والنذر ونحوهما.
وقال الشافعية والحنابلة: يشترط أن يكون الحالف مختاراً، فلا تنعقد يمين المكره؛ لأنها من التصرفات التي لاتحتمل الفسخ، فلا يؤثر الإكراه في اليمين كالطلاق والنذر ونحوهما.
وقال الشافعية والحنابلة: يشترط أن يكون الحالف مختاراً، فلا تنعقد يمين المكره، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ليس على مقهور يمين» (3) ولأنه قول حمل عليه بغير حق، فلم يصح ككلمة الكفر، كما سبق بيانه في أنواع اليمين.
_________
(1) مغني المحتاج: 4 ص 320، المغني: 8 ص 676، الميزان للشعراني: 2 ص 130.
(2) رواه أصحاب الكتب الستة عن ابن عمر أن عمر قال: «يارسول الله، إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف يوماً في المسجد الحرام؟ قال: أوف بنذرك» وزاد البخاري في رواية: «فاعتكف ليلة» الفعل بصيغة الأمر (انظر جامع الأصول: 12 ص 185، الإلمام: ص 312، سبل السلام: 4 ص 115، نيل الأوطار: 8 ص 249، نصب الراية: 3 ص300).
(3) حديث ضعيف، وقد سبق تخريجه.

(4/2477)


2ً - شرط المحلوف عليه: يشترط في المحلوف عليه عند أبي حنيفة ومحمد وزفر شرط واحد: وهو أن يكون متصور الوجود (1) حقيقة عند الحلف، وفي حال بقاء اليمين. وهو شرط انعقاد اليمين على أمر في المستقبل، وشرط لبقاء اليمين أيضاً، فلا ينعقد اليمين على ماهو مستحيل الوجود حقيقة، ولايبقى إذا صار بحال يستحيل وجوده.
وقال أبو يوسف: ليس هذا بشرط لانعقاد اليمين ولا لبقائها، وإنما الشرط فقط أن تكون اليمين على أمر في المستقبل.
واتفق أبو حنيفة وصاحباه على أن كون اليمين متصور الوجود عادة ليس بشرط لانعقاد اليمين، وقال زفر: هو شرط، لاتنعقد اليمين بدونه.

ويتوضح الخلاف بالأمثلة التطبيقية على كل من الحالتين: المستحيل حقيقة، والمستحيل عادة، وذكر بعضها في بحث أنواع اليمين.
أما أمثلة النوع الأول وهو المستحيل حقيقة فهي: لو قال إنسان: (والله لأشربن الماء الذي في هذا الكوز) فتبين أنه لا ماء فيه، لاتنعقد اليمين عند أبي حنيفة ومحمد وزفر، لعدم تحقق شرط انعقاد اليمين: وهو تصور شرب الماء الذي حلف عليه.
وعند أبي يوسف: تنعقد اليمين لوجود الشرط بحسب رأيه: وهو مجرد إضافة اليمين إلى المستقبل.
فإن كان الحالف يعلم أنه لا ماء في الكوز، فهو من المستحيل عادة: تنعقد اليمين عند أئمة الحنفية الثلاثة، وعند زفر: لاتنعقد. ويجري هذا الخلاف فيما لو وقَّت اليمين فقال: (والله لأشربن الماء الذي في هذا الكوز اليوم).
_________
(1) أي متصور البر والوفاء بمقتضى ما حلف عليه.

(4/2478)


وإذا قال الحالف: (والله لأقتلن فلاناً): مع أن فلاناً هذا ميت، وهو لايعلم بموته، لاتنعقد اليمين عند أبي حنيفة ومحمد وزفر، وعند أبي يوسف: تنعقد.
ويجري هذا الخلاف فيما إذا قال شخص: (والله لأقضين دين فلان غداً) فقضاه اليوم، أو أبرأه صاحب الدين قبل مجيء الغد، لايحنث في يمينه عند الطرفين وزفر والحنابلة. وعند أبي يوسف والشافعي: يحنث.
وكذا إذا قال الزوج في اليمين بالطلاق: (إن لم أشرب هذا الماء اليوم فامرأتي طالق) ثم أهريق الماء قبل انقضاء اليوم: لايحنث عند الطرفين وزفر، وعند أبي يوسف: يحنث.

وأما أمثلة النوع الثاني: وهو المستحيل عادة فهي: لو قال شخص: (والله لأمسن السماء) أو (لأصعدن السماء) أو (لأحولن هذا الحجر ذهباً) وحكمه: أنه تنعقد اليمين عند أئمة الحنفية الثلاثة. وعند زفر: لاتنعقد.
الأدلة: استدل أبو يوسف على المستحيل حقيقة فقال: إن الحالف شرَط لحنثه عدم تحقق فعل من الأفعال: وهو القتل أو شرب الماء مثلاً، فإذا تحقق الشرط حنث، كما في المستحيل عادة.
واستدل أبو حنيفة ومحمد وزفر: بأن اليمين تنعقد بقصد البر والوفاء بما حلف عليه، والكفارة تجب لستر الذنب الذي حصل بعدم البر وهو الحنث، فإذا لم يكن البر متصور الوجود حقيقة لايتصور الحنث، فلم يكن في انعقاد اليمين فائدة، فلاتنعقد. وهذا بخلاف المستحيل عادة، فإن البر متصور الوجود في نفسه حقيقة بأن يقدر الله تعالى الحالف على صعود السماء مثلاً، كما أقدر الملائكة والأنبياء عليهم السلام، إلا أنه عاجز عن ذلك عادة، فيحنث للعجز عن تحقيق مقتضى يمينه في العادة.

(4/2479)


واستدل زفر على عدم انعقاد اليمين في المستحيل عادة بقوله: المستحيل عادة يلحق بالمستحيل حقيقة، وبما أنه لاتنعقد اليمين في المستحيل حقيقة، فلا تنعقد في المستحيل عادة.
واستدل جمهور الحنفية على انعقاد اليمين في المستحيل عادة: بأن الذي ينبغي مراعاته هو حقيقة الشيء والعادة فيه، فإذا قررنا انعقاد اليمين فقد اعتبرنا الحقيقة والعادة معاً، وهو أولى من النظر إلى العادة فقط، أو إهدار الحقيقة كما يرى زفر.
والخلاصة: إن زفر سوّى في الحكم بين المستحيل حقيقة والمستحيل عادة وهو عدم انعقاد اليمين، وأن أبا يوسف سوَّى في الحكم بين النوعين وهو انعقاد اليمين، وأن أبا حنيفة ومحمد فرقا بين المستحيل حقيقة والمستحيل عادة، فتنعقد اليمين في النوع الثاني دون الأول.
ووافق بقية أئمة المذاهب رأي جمهور الحنفية في المستحيل عادة. وأما في المستحيل عقلاً فقد اتفق الشافعي والقاضي من الحنابلة مع أبي يوسف في الرأي. كما اتفق مالك وأبو الخطاب من الحنابلة مع أبي حنيفة ومحمد وزفر رحمهم الله جميعاً، وسبق ذكر ذلك كله.

3ً ــ شرط ركن اليمين: ركن اليمين بالله تعالى: هو اللفظ الذي يستعمل في اليمين بالله تعالى، وهو مركب من المقسم عليه والمقسم به. وقد تكلمت عن المقسم به تحت عنوان: صيغة اليمين.
الاستثناء في اليمين: اشترط جميع الفقهاء (1) في ركن اليمين نفسه:
_________
(1) راجع المغني لابن قدامة الحنبلي: 8 ص 715 ومابعدها، البدائع: 3 ص 15، مختصر الطحاوي: ص 308، بداية المجتهد: 1 ص 399، القوانين الفقهية: ص 166 ومابعدها .....

(4/2480)


أن يخلو عن الاستثناء (1)، مثل: إن شاء الله تعالى، أو إلا أن يشاء الله، أو ماشاء الله، أو إلا أن يبدو لي غير هذا، أو إلا أن أرى غير هذا، أو إلا أن أحب غير هذا، أو قال: إن أعانني الله، أو يسّر الله، أو قال: بمعونة الله، أو بتيسيره ونحو ذلك.
فإن قال الحالف شيئاً مما ذكر متصلاً مع لفظ اليمين، لم تنعقد اليمين أي أن للاستثناء بالمشيئة تأثيراً في اليمين بالاتفاق. وإن فصل الاستثناء عن لفظ اليمين انعقدت. ودليله قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من حلف فقال: إن شاء الله لم يحنث» (2) وروى أبو داود: «من حلف فاستثنى: فإن شاء رجع، وإن شاء ترك» (3) فقول النبي عليه الصلاة والسلام: «من حلف فاستثنى» يقضي كونه عَقِبه لا منفصلاً عنه.
وذكر المالكية شروطاً ثلاثة لتعطيل اليمين بالاستثناء بالمشيئة أو بإلا وهي ما يأتي (4):
أحدها ـ النطق باللسان، ولا يكفيه مجرد النية إلا في الاستثناء بمشيئة الله.
الثاني ـ اتصاله باليمين من غير فصل إلا بنحو سعال أو عطاس أو تثاؤب وشبه ذلك. وقال الشافعي: لا بأس بالسكتة الخفيفة للتذكر أو للتنفس أو انقطاع الصوت.
_________
(1) إذا قال الحالف مع يمينه: (إن شاء الله)، فهذا يسمى استثناء، روى ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من حلف فقال: إن شاء الله فقد استثنى».
(2) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة، وعند النسائي: «من حلف على يمين، فقال: إن شاء الله، فقد استثنى» (راجع جامع الأصول: 12ص 298، نصب الراية: 3ص302).
(3) رواه مالك والشافعي وأحمد وأصحاب السنن الأربعة وابن حبان والحاكم من حديث ابن عمر، وفي لفظ: «من حلف على يمين، فقال: إن شاء الله، فقد استثنى» وفي رواية الترمذي: «من حلف على يمين فقال: إن شاء الله، فلا حنث» رجاله رجال الصحيح إلا أن القاسم لم يدرك ابن مسعود (المرجعان السابقان، مجمع الزوائد: 4 ص 182، الإلمام: ص 427، نيل الأوطار: 8 ص 219، سبل السلام: 4 ص 103).
(4) القوانين الفقهية: ص 167، 171، الشرح الكبير: 2 ص 129، 161.

(4/2481)


الثالث ـ قصد حل اليمين: فلو قصد تأكيد اليمين أو التفويض إلى الله أو التأدب والتبرك، لم ينفعه الاستثناء.
أما النذر فلا ينفع فيه الاستثناء بالمشيئة.
ووافقهم بقية الفقهاء في الشرطين الأولين (1). وإن قال: إلا أن يشاء فلان، فإن لم تعلم مشيئته لغيبة أو جنون أو موت، انحلت اليمين، لأنه لم يوجد الشرط. وإن عرفت مشيئته فشاء، لزمه الفعل.

المبحث الرابع ـ أحوال اليمين التي يحلف عليها فعلا ً:
يحلف الإنسان عادة على الأحوال المحيطة به من أكل وشرب ودخول وخروج وجلوس وركوب وسكنى ولبس وكلام وضرب ونحوها، قاصداً حث نفسه أو غيره على فعل الشيء أو المنع منه، فإن خالف مقتضى يمينه حنث ووجبت عليه الكفارة. لهذا كان مناسباً أن يعنون لهذا المبحث بأحوال اليمين التي يكون الكلام عنها في أحد عشر مطلباً بحسب ما هو الأغلب وقوعه بين الناس.
وقبل البدء بالكلام عن هذه المطالب أحقق هذه المسائل المهمة التي اختلف فيها الفقهاء، والتي يتوقف إصدار الحكم في أهم موضوعات هذه المطالب على معرفتها وهي:

هل الأيمان مبنية على العرف أو النية أوصيغة اللفظ؟ قال الحنفية: الأيمان مبنية على العرف والعادة لا على المقاصد والنيات، لأن غرض الحالف: هو المعهود المتعارف عنده، فيتقيد بغرضه. هذا هو الغالب
_________
(1) المغني: 8 ص 716 وما بعدها.

(4/2482)


عندهم، وقد تبنى الأيمان عندهم على الألفاظ لا على الأغراض (1).
وقال الشافعية: الأيمان مبنية على الحقيقة اللغوية أي بحسب صيغة اللفظ، لأن الحقيقة أحق بالإرادة والقصد، إلا أن ينوي شيئاً فيعمل بنيته، مثاله: لو حلف إنسان ألا يأكل رؤوساً، فأكل رؤوس حيتان (مفرده: حوت) فمن راعى العرف قال: لا يحنث، ومن راعى دلالة اللغة قال: يحنث. وكذلك يحنث من حلف لا يأكل لحماً، فأكل شحماً مراعاة لدلالة اللفظ، وقال الآخرون: لا يحنث.
والخلاصة: أن الشافعي يتبع مقتضى اللغة تارة، وذلك عند ظهورها وشمولها، وهو الأصل العام، وتارة يتبع العرف إذا اشتهر واطرد ......
وقال مالك في المشهور من مذهبه: المعتبر في الأيمان التي لا يقضى (2) على حالفها بموجبها وكذلك النذور هو النية (أي نية الحالف في غير الدعاوى ففيها تعتبر نية المستحلف كما بان سابقاً)، فإن عدمت فقرينة الحال، فإن عدمت فعرف اللفط أي ماقصد الناس من عرف أيمانهم، فإن عدم فدلالة اللغة، وقيل: لايراعى إلا النية أو ظاهر اللفظ اللغوي فقط، وقيل: يراعى النية وبساط الحال أي السبب الحامل على اليمين (3)، أو المقام وقرينة السياق في اصطلاح علم المعاني. ولاينفع في النذر الاستثناء بالمشيئة.
_________
(1) قال ابن عابدين في رسائله (1 ص 304): كل من هاتين القاعدتين مقيدة بالأخرى، فقولهم: (الأيمان مبنية على العرف) معناه العرف المستفاد من اللفظ لا الخارج عن اللفظ اللازم له. وقولهم: (الأيمان مبنية على الألفاظ لا الأغراض) معناه الألفاظ العرفية. وإذا تعارض الوضع الأصلي للكلمة والوضع العرفي ترجح الوضع العرفي.
(2) أي التي لايصدر فيها حكم قضائي، وإنما يترك شأنها للحالف بينه وبين الله تعالى، وذلك في الأمور التي تكون علاقتها بنفس الإنسان أو بالله سبحانه. أما الأمور التي تتعلق بالناس فهذه مما يقضى فيها على الحالف.
(3) حدود ابن عرفة: ص 137.

(4/2483)


وأما الأيمان التي يقضى بها على صاحبها: ففي مجال الاستفتاء تراعى هذه الضوابط على هذا الترتيب، وإن كان مما يقضى بها عليه لم يراع فيها إلا اللفظ إلا أن يؤيد ما اد عاه من النية قرينة الحال أو العرف.
قال الشاطبي: من مذهب مالك أن يترك الدليل للعرف، فإنه رد الأيمان إلى العرف، مع أن اللغة تقتضي في ألفاظها غير مايقتضيه العرف. كمن حلف لايدخل بيتاً: لايحنث بدخول المسجد، لأنه لا يسمى بيتاً في العرف (1).
وقال الحنابلة: يرجع في الأيمان إلى النية أي نية الحالف، فإن نوى بيمينه مايحتمله اللفظ انصرفت يمينه إليه، سواء أكان مانواه موافقاً لظاهر اللفظ، أم مخالفاً له (2) لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ مانوى» (3) فإن لم ينو شيئاً رجع إلى سبب اليمين وما هيجها أو أثارها لدلالته على النية. فإن حلف لا يأوي مع امرأته في هذه الدار، فإن كان سبب يمينه غيظاً من جهة الدار لضرر لحقه منها أو منة عليه بها، اختصت يمينه بها. وإن كان لغيظ لحقه من المرأة يقضي جفاءها ولا أثر للدار فيه، تعلق ذلك بإيوائه معها في كل دار.
هذا .. وقد عرفنا أنه ينقسم هذا المبحث إلى أحد عشر مطلباً أذكرها فيما يأتي:
_________
(1) الاعتصام: 141/ 2.
(2) انظر هذا المبحث في تبيين الحقائق: 3ص116 ومابعدها، البدائع: 3 ص38، الفتاوى الهندية: 2ص63، الدر المختار: 3 ص 78، رسائل ابن عابدين: 1 ص 292، الأشباه والنظائر لابن نجيم: 1 ص 82، بداية المجتهد: 1 ص 398، 402 ومابعدها. الشرح الكبير للدردير: 2 ص 135، 139 ومابعدها، مغني المحتاج: 4 ص 335 ومابعدها، المغني: 8 ص 763 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 161 ومابعدها، 171.
(3) رواه البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو حديث متواتر عن ثلاثين صحابياً (شرح مسلم: 13 ص 53، الأربعين النووية: ص 16، النظم المتناثر من الحديث المتواتر للسيد جعفر الكتاني: ص 17).

(4/2484)


المطلب الأول ــ الحلف على الدخول:
أبدأ ببيان الأفعال أو الأحوال التي يحلف عليها فعلاً، وأولها الدخول لمكان باعتباره من أهم الأسباب التي تثير المشكلات، وتستدعي الحلول بعد انعقاد الأيمان المحلوفة لمنع المرء نفسه أو غيره من الدخول إلى مكان من الأمكنة.

معنى الدخول:
الدخول: هو الانتقال من خارج المكان إلى داخله. فإن حلف إنسان لايدخل هذه الدار وهو فيها، فمكث بعد يمينه، لايحنث استحساناً، والقياس أن يحنث وهو قول غير الحنفية، ووجه ذلك أن المداومة على الفعل هي بحكم إنشاء الفعل. ووجه الاستحسان: أن معنى الدخول المذكور وهو (الانتقال من خارج الشيء إلى داخله) لايتحقق؛ لأن الدوام هو المكث، والمكث استقرار في الشيء فيستحيل أن يكون انتقالاً.
ولو حلف ألا يدخل داراً أو بيتاً أو مسجداً أو حماماً، فعلى أي وجه دخل: من الباب أو غيره، حنث لوجود الدخول، فإن نزل على سطحها، حنث عند الجمهور غير الشافعية؛ لأن سطح الدار منها، إذ الدار اسم لما تدور عليه الدائرة، والدائرة أحاطت بالسطح. وكذا لو أقام على حائط من حيطانها؛ لأن الحائط مما تدور عليه الدائرة، فكان كسطحها، وهذا هو مذهب المالكية والحنابلة في أن سطح الدار منها، وحكمه كحكمها.
وقال الشافعية: لايحنث بصعود سطح من خارج الدار، لأنه لايسمى داخل الدار لغة ولا عرفاً، لأنه حاجز يقي الدار الحر، والبرد، فهو كحيطانها.

(4/2485)


ولو قام على ظلة للدار شارعة (1) أو كنيف شارع (2): فإن كان مفتح ذلك إلى الدار يحنث، لأنه ينسب إليها، فيكون من جملة الدار وإلا فلا يحنث.
وإن قام على أسكفَّة (3) الباب: فإن كان الباب إذا أغلق كانت الأسكفة خارجة عن الباب لم يحنث لأنه خارج، وإن بقيت من داخل الدار حنث، لأنه داخل؛ لأن الباب يغلق على مافي داخل الدار، لا على ما في الخارج.
ولو دخل دهليز (4) الدار حنث باتفاق الحنفية والشافعية؛ لأنه من داخل الدار. ولو دخل ظلة باب الدار لا يحنث، لأنها اسم للخارج.
وإن أدخل الحالف إحدى رجليه في الدار، ولم يدخل الأخرى لا يحنث بالاتفاق؛ لأنه لم يوجد الدخول مطلقاً، وهو الانتقال بكله، وإنما دخل بعضه، وكذا إذا أدخل رأسه دون قدميه (5).
ولو حلف لا يدخل داراً، فدخل داراً بعد انهدامها ولا بناء عليها لا يحنث.
_________
(1) الظلة: كل ما أظلك من بناء أو جبل أو سحاب أي سترك وألقى ظله عليك من الحر والبرد. وقول الفقهاء: ظلة الدار يريدون بها السدة التي فوق باب الدار، أي الساباط الذي يكون على باب الدار، ولايكون فوقه بناء. وكذلك إذا كان فوقه بناء إلا أن مفتحه إلى الطريق، وهو المراد بقوله: ظلة شارعة أي سقيفة تابعة للدار، ولكنها فوق طريق يسير فيه الناس. والشارعة مؤنث الشارع. وإنما لم يحنث في الحالة الأولى: فلأنه لاينطلق عليه اسم البيت ولعدم البيتوتة فيه. وفي الحالة الثانية: لايحنث لأنه ليس من جملة البيت المنسوب إلى شخص.
(2) الكنيف: هو الكنَّة التي تشرع فوق باب الدار، أي السقفية.
(3) الأسْكفَّة - بضم الألف والكاف وتشديد الفاء: وهي خشبة الباب التي يوطأ عليها.
(4) الدهليز - بكسر الدال: ما بين الباب والدار.
(5) انظر ما ذكر في البدائع: 3 ص 36، المبسوط: 8 ص 168، الفتاوى الهندية: 2 ص 64، تبيين الحقائق: 3 ص 118، فتح القدير: 4 ص 29، 34، الدر المختار: 3 ص 80، وانظر ما ذكر من مذاهب غير الحنفية في كتاب المغني:8 ص 772، 775، 778، مغني المحتاج: 4 ص 332، المهذب: 2 ص 132، القوانين الفقهية: ص 162، الشرح الكبير: 154/ 2.

(4/2486)


ولو عين المحلوف عليه، فقال: (والله لا أدخل هذه الدار) فذهب بناؤها بعد يمينه، ثم دخلها، يحنث.
والفرق بين الصورتين: هو أنه إذا ذكر الحالف لفظ الدار منكَّراً، فإن النكرة تنصرف إلى المتعارف، وهي الدار المبنية، فما لم يوجد البناء وهو وصف الدار لا يحنث، وأما إذا قال: (هذه الدار) فهو إشارة إلى الشيء المعين الحاضر، فيراعى ذات المعين، لا صفته؛ لأن الوصف للتعريف، والإشارة كافية للتعريف، وذات الدار قائمة بعد الانهدام؛ لأن الدار في اللغة اسم للعَرْصة يقال: دار عامرة ودار غير عامرة، وقد شهدت أشعار العرب بذلك، والعرصة قائمة بعد انهدام الدار.
ولو أعيد البناء فدخلها يحنث سواء ذكر الدار منكراً أو معيناً (1).
وقال الشافعية والمالكية: إن حلف لا يدخل هذه الدار فانهدمت، وصارت ساحة، أو جعلت حانوتاً أو بستاناً أومسجداً أو حماماً، فدخلها، لم يحنث، لأنه زال عنها اسم الدار. ثم إن أعيدت بغير تلك الآلة أي بأدوات بناء جديدة من حجارة واسمنت ونحوها لم يحنث بدخولها، لأنها غير تلك الدار. وإن أعيدت بآلتها الأولى ففيه وجهان: أحدهما وهو الأصح: يحنث، والآخر: لا يحنث (2).

الحلف على عدم دخول مسجد: لو قال شخص: (لا أدخل هذا المسجد) فهدم فصار صحراء ثم دخله، فإنه يحنث لأنه مسجد، وإن لم يكن مبنياً. وإذا دخل سطح المسجد يحنث، لأنه مسجد.
_________
(1) البدائع، المرجع السابق: ص 37، الدر المختار: 3 ص 81، فتح القدير: 4 ص 30 - 32 قال الشاعر:
الدار دار وإن زالت حوائطها والبيت ليس ببيت بعد تهديم
(2) المهذب: 2 ص 132، مغني المحتاج: 4 ص 332، الشرح الكبير للدردير: 2 ص 158.

(4/2487)


الحلف على عدم دخول بيت: ولو حلف: لا يدخل بيتاً أو هذا البيت، فدخله بعدما انهدم ولابناء فيه، لا يحنث؛ لأن البيت اسم لما يبات فيه، ولا يبات إلا في البناء، وكذلك لا يطلق اسم البيت إلا على المبنى المسقف.
الحلف على عدم دخول الفسطاط: لو حلف: (لا يدخل هذا الفسطاط) وهو مضروب في مكان، فقلع وضرب في مكان آخر، فدخله، يحنث؛ لأن اليمين يقع على عين الشيء، والعين باقية لا تتبدل بنقلها من مكان إلى مكان.
عدم الجلوس إلى الحائط أو الأسطوانة: إذا حلف: (لا يجلس إلى هذا الحائط، أو إلى هذه الأسطوانة) فهدما، ثم بنيا بأنقاضهما، فجلس إليه: لا يحنث؛ لأن الشيء الجديد غير القديم، فإن الحائط إذا هدم زال اسمه عنه، وكذا الأسطوانة.
الحلف على القلم والمقص ونحوهما: إذا حلف: (لا يكتب بهذا القلم) فكسر القلم، بحيث لم تبق صورته، ثم براه، فكتب به، لم يحنث، لأنه إذا كسر، فقد زال عنه اسم القلم، فبطلت اليمين.
وكذلك إذا حلف على مقص أو سكين أو سيف، فكسر، ثم أعيد ثانية: لا يحنث؛ لأن اسم الشيء قد زال بالكسر.
ولو نزع الحالف مسمار المقص ونصاب السكين وجعل مكانه مسماراً آخر، أو نصاباً آخر: يحنث؛ لأن اسم الشيء لم يزل عنه، وإنما تغير وصف التركيب.

الحلف على عدم دخول الدار ثم جعلها شيئاً آخر: لو حلف: (لا يدخل هذه الدار) فجعلها بستاناً أو حماماً أو مسجداً: لا يحنث، لأنها صارت شيئاً آخر من حيث الانتفاع بها والغرض من استعمالها (1).
_________
(1) المبسوط: 8 ص 171، البدائع، المرجع السابق.

(4/2488)


وإن حلف: (لا يدخل بيتاَ) فدخل مسجداً أو بِيعة أو كنيسة أو بيت نار (1)، أو دخل الكعبة، أو حماماً أو دهليزاً وظلة باب دار: لم يحنث بالاتفاق؛ لأن البيت ما أعدَّ للبيتوتة، وهذه البقاع ما بنيت لها ولأن هذه الأشياء لا تسمى بيتاً في العرف والعادة، ومن المعلوم عند الحنفية أن الأيمان مبنية على العرف. وكذلك لا يحنث إن دخل صُفَّة (2) في عرفنا الحاضر؛ لأن الصُفَّة لا تسمى بيتاً في العرف والعادة (3).
وهذا هو الحكم المقرر أيضاً عند الشافعية (4)؛ لأن هذه الأشياء لا تدخل في إطلاق اسم البيت، ولأن البيت اسم لما جعل للإيواء والسكنى، وهذه الأشياء لم تجعل لذلك، ولا تسمى بيتاً عرفاً. ويحنث عندهم بدخول أو سكنى كل بيت من طين أو حجر أو آجر أو خيمة أو بيت شعر أو جلد، لأن اسم البيت يقع على ذلك كله حقيقة في اللغة، سواء أكان الحالف حضرياً أم بدوياً. وخالفهم المالكية (5)، فقالوا: إن حلف ألا يدخل على فلان بيتاً، حنث إن دخل عليه في الحمام لا في المسجد.

الحلف على عدم دخول باب الدار: لو حلف: (لا يدخل من باب هذه الدار)، فدخلها من غير الباب، لم يحنث بالاتفاق، لعدم الشرط وهو الدخول من الباب. ولو جُعل للدار باب آخر، فدخل منه يحنث؛ لأن الحلف على باب
_________
(1) البيعة بكسر الباء، معبد النصارى، والكنيسة: معبد اليهود، وبيت النار: معبد المجوس.
(2) الصفَّة: موضع مظلل وهو بيت صيفي يكون مسقوفاً بجريد النخل ونحوه. وصفة المسجد: مقعد بالقرب منه مظلل.
(3) المسبوط، المرجع السابق: ص 169، الفتاوى الهندية: 2 ص 63، البدائع، المرجع السابق: ص 38، فتح القدير: 4 ص 29، 32، تبيين الحقائق: 3 ص 117، الدر المختار: 3 ص 80.
(4) المهذب: 2 ص 132، مغني المحتاج: 4 ص 332، 334.
(5) القوانين الفقهية: ص 163.

(4/2489)


منسوب إليها، فيستوي القديم والحادث إلا إن عين ذلك الباب في حلفه، ولو نواه ولم يعينه يدين فيما بينه وبين الله تعالى، لأن لفظه يحتمله، ولا يدين في القضاء، لأنه خلاف الظاهر، حيث أراد بالمطلق المقيد.
ولو حلف: (لا يدخل من باب الدار): فمن أي باب دخل حنث إلا إذا أراد به الباب المعروف، فيدين فيما بينه وبين الله تعالى، دون القضاء (1).

الحلف على عدم دخول دار فلان: وإن حلف لا يدخل دار فلان فدخل داراً بين فلان وبين آخر، فإن كان فلان ساكناً فيها بالإجارة حنث، وإذا كان مالكاً بعضها حنث من باب أولى. وإن لم يكن ساكناً فيها لا يحنث، لأن الدار مضافة إلى الشخصين إضافة ملك، وكل الدار ليست مضافة إلى أحدهما، لأن بعض الدار لا يسمى داراً، وحينئذ لا يقال: إن الدار لفلان.
وهذا يفترق عما إذا حلف لا يزرع أرض فلان، فزرع أرضاً بين فلان وشخص آخر، فإنه يحنث، لأن كل جزء من الأرض يسمى أرضا، وبعض الدار لا يسمى داراً كما ذكرت.
وكذلك قال المالكية والشافعية في الأظهر (2): من حلف لا يدخل على زيد، فدخل بيتاً فيه زيد وغيره حنث مطلقاً، لوجود صورة الدخول عليه. لكن لو حلف لا يسلم على فلان، فسلَّم على قوم هو فيهم واستثناه، لا يحنث، وإن أطلق حنث في الأظهر، كالدخول.

الحلف على عدم دخول بيت فلان: لو حلف شخص لا يدخل بيت فلان،
_________
(1) البدائع، المرجع السابق: ص 38، فتح القدير، المرجع السابق: ص 34، المغني: 773/ 8.
(2) مغني المحتاج: 334/ 4 ومابعدها، الشرح الكبير: 145/ 2 ومابعدها.

(4/2490)


ولا نية له، فدخل صحن داره، وفلان ساكن فيها لا يحنث حتى يدخل البيت؛ لأن البيت اسم لموضع يبات فيه عادة، ولا يبات في صحن الدار عادة، فإن نواه يصدق، لأنه شدد على نفسه.

الحلف على عدم دخول الدار إلا مجتازا ً: لو حلف لا يدخل هذه الدار إلا مجتازاً أوعابر سبيل: فإن دخل وهو لا يريد الجلوس، لا يحنث، لأنه عقد يمينه على كل دخول، واستثنى دخولاً بصفة الاجتياز، وقد دخل على الصفة المستثناة.
فإن دخل يعود مريضاً، ومن رأيه الجلوس عنده، يحنث، لأنه دخل لا على الصفة المستثناة.
وإن دخل لايريد الجلوس، ثم بدا له بعد ما دخل فجلس، لا يحنث؛ لأنه لم يحنث بدخوله، والبقاء على الدخول ليس بدخول. وإن نوى بقوله: (لا يدخلها إلا مجتازاً) النزول فيها والدوام: لا يحنث بالجلوس، لأنه يقول: دخلت عابر سبيل: بمعنى أنه لم يدم على الدخول ولم يستقر (1).

الحلف بالدخول على فلان: لو حلف إنسان لا يدخل على فلان، فدخل عليه في بيته: فإن كان يقصده بالدخول حنث، وإن لم يقصده لا يحنث، وكذلك إذا دخل عليه في بيت رجل آخر، ولم يقصده بالدخول، لا يحنث. وإنما اعتبر القصد حتى يصير داخلاً عليه؛ لأن الإنسان إنما يحلف ألا يدخل على غيره استخفافاً به وتركاً لإكرامه عادة، وهذا لا يكون إلا مع القصد.
وذكر الكرخي عن ابن سماعة في نوادره خلاف هذا، فقال في رجل قال: (والله لا أدخل على فلان بيتاً) فدخل بيتاً على قوم، وفيهم فلان، ولم يعلم به الحالف، فإنه حانث بدخوله، فلم يعتبر القصد للدخول على فلان.
_________
(1) البدائع: ص 39.

(4/2491)


ودليله أنه جعل شرط الحنث الدخول على فلان، وقد وجد الشرط، والعلم بشرط الحنث ليس بشرط في الحنث، كمن حلف لا يكلم زيداً، فكلمه وهو لا يعرف أنه زيد. ولكن ظاهر المذهب هو الرأي الأول.
ولو علم الحالف أن فلاناً في القوم، فدخل ينوي الدخول على القوم لا عليه: لا يحنث فيما بينه وبين الله عز وجل، لأنه إذا قصد غيره لم يكن داخلاً عليه، ولا يصدق قضاء؛ لأن الظاهر دخوله على الجماعة وما في اعتقاده لا يعرفه القاضي.
فإن دخل عليه في مسجد أو ظلة أو سقيفة أو دهليز دار: لم يحنث لأن الدخول يقع على الدخول المعتاد، وهو الذي يدخل الناس فيه بعضهم على بعض، ولا يكون هذا إلا في البيوت.
فإن دخل في فسطاط (1) أو خيمة أو بيت شعر: لم يحنث إلا أن يكون المحلوف عليه من أهل البادية، لأنهم يسمون ذلك بيتاً، والتعويل في شأنه على العرف والعادة.
ولو دخل عليه في داره، وفلان في بيت من الدار: لم يحنث، لأنه ليس بدخول عليه. وإن كان في صحن الدار، يحنث، لأنه يكون داخلاً عليه إذا شاهده.
وإن دخل عليه في المسجد أو الكعبة أو الحمام، لا يحنث لأن المقصود بهذه اليمين الامتناع من الدخول في المواضع التي يُكرَّم الناس بالدخول عليهم فيها، وهذا لا يوجد في هذه المواطن.
_________
(1) الفسطاط: بيت من شعر.

(4/2492)


ولو دخل الحالف داراً ليس فيها فلان، فدخل فلان تلك الدار: لا يحنث، لأنه ما دخل على فلان، بل فلان دخل عليه فلا يحنث (1).
وذكر المالكية (2): أن من حلف ألا يدخل دار فلان، فدخل داراً مكتراة له، حنث عندهم وعند الحنفية والحنابلة إن لم ينو دار الملك لأن الدار تضاف إلى ساكنها. ومن حلف ألا يدخل دار فلان، فانتقلت عن ملكه، لم يحنث بدخولها. وإن قال: (هذه الدار) حنث. وقال الشافعية: لا يحنث إلا بدخول دار يملكها؛ لأن الإضافة إلى المالك.
واتفق الفقهاء (3) على أن من حلف لايدخل داراً، فأكره على دخولها، ولم يمكنه الامتناع، لم يحنث؛ لأن الفعل غير موجود منه ولا منسوب إليه.

المطلب الثاني ـ الحلف على الخروج:
الخروج مقابل للدخول وهو: الانتقال من داخل الشيء إلى خارجه. فلا يكون المكث بعد الخروج خروجاً، كما لا يكون المكث بعد الدخول دخولاً، والخروج كما يكون من البلدان والدور والمنازل والبيوت، يكون من الأخبية والفساطيط والخيم والسفن لوجود تعريف الخروج، وذلك كالدخول.
والخروج من الدور المسكونة: أن يخرج الحالف بنفسه ومتاعه وعياله، كما إذا حلف لا يسكن فيها.
والخروج من القرى والبلدان: أن يخرج الحالف ببدنة خاصة.
_________
(1) انظر البدائع: 3 ص 41.
(2) القوانين الفقهية: ص 162، المغني: 773/ 8، الشرح الكبير: 154/ 2.
(3) المغني: 771/ 8.

(4/2493)


وهذا مبني عل العرف، فإن من خرج من الدار، وأهله ومتاعه فيها لا يعد خارجاً من الدار، ومن خرج من البلد يعد خارجاً منها، وإن كان أهله ومتاعه فيها (1). وهذا هو مذهب الحنابلة أيضاً (2)، فالحلف على الخروج يقتضي الخروج بنفسه وأهله، كما لو حلف لا يسكنها. أما من حلف على الخروج من هذه البلدة، فتتناول يمينه عند الحنابلة الخروج بنفسه؛ لأن الدار يخرج منها صاحبها عادة في اليوم مرات، فظاهر حاله أنه لم يرد الخروج المعتاد، أما الخروج من البلد فهو بخلاف ذلك.
وقال الشافعية: يتحقق معنى الخروج بأن يخرج الحالف بنفسه بنية الانتقال، لأنه المحلوف عليه، ولا يضر بقاء أهله ومتاعه (3).

ويترتب على مذهب الحنفية ما يأتي (4):
الحلف على الخروج من البيت: لو قال رجل لامرأته: (إن خرجت من البيت فأنت طالق) فخرجت من البيت إلى صحن الدار، حنث، لأنه نوى ما يحتمله لفظه: وهو الانتقال من داخل الشيء إلى خارجه، ولأن البيت غير الدار، لأن البيت اسم لمسقف واحد، والدار اسم لحدود يجمع البيوت والمنازل، وبناء عليه إذا قال: (إن دخل فلان بيتك) فدخل صحن دارها، دون بيتها، لم يحنث.
والحكم في هذين المثالين مبني على عرف الذين كانوا في عصر المجتهدين،
_________
(1) البدائع: 3 ص 42، فتح القدير: 4 ص 38، الدر المختار: 3 ص 85، الفتاوى الهندية: 2 ص 69، 73.
(2) المغني: 8 ص 770.
(3) مغني المحتاج: 4 ص 329.
(4) انظر البدائع: 3 ص 42 ومابعدها، المبسوط: 8 ص 173 ومابعدها.

(4/2494)


أما في عرف المتأخرين، فإن اسم البيت يطلق على الدار والمنزل، فيحنث في الثاني دون الأول.
الحلف على الخروج من الدار: وإن قال: (إن خرجت من هذه الدار فأنت طالق) فخرجت من هذه الدار من أي باب كان، ومن أي موضع كان: من فوق حائط، أو سطح أو نقب: حنث، لوجود شرط الحنث، وهو الخروج من الدار.

الخروج من الباب: ولو قال: (إن خرجت من باب هذه الدار فأنت طالق) فخرجت من أي باب كان، سواء من الباب القديم أو من الباب الحادث بعد اليمين، حنث في يمينه لوجود شرط الحنث: وهو الخروج من باب الدار. فلو خرجت من السطح أو من فوق حائط أو نقب: لا يحنث، لأنه ليس بباب.
ولو عين باباً في يمينه فقال: (إن خرجت من هذا الباب) لا يحنث ما لم تخرج من الباب المعين. وإن خرجت من باب آخر، لا يحنث، لأنه قد يكون للتعيين فائدة أو غرض معين، فيعتبر ذلك.

الخروج لأمر معين: لو قال: (إن خرجت من هذه الدار إلا في أمر كذا) فخرجت في ذلك الأمر مرة، ثم خرجت لأمر آخر: يحنث، لأنه حرم عليها جميع حالات الخروج إلا خروجاً مقيداً بصفة معينة، فإذا وجد منها الخروج المستثنى لا يحنث، وإن وجد خروج آخر يحنث.
وإن عنى بيمينه الخروج مرة يصح. وتكون (إلا) بمعنى (حتى) مجازاً، كأنه قال: (إن خرجت من هذه الدار حتى تخرجي في أمر كذا) فإذا خرجت في ذلك الأمر يسقط اليمين، لتحقق الغاية من اليمين، ولكن هذا يثبت ديانة لا قضاء، لأنه مخالف لحقيقة اللفظ.

(4/2495)


الخروج مع فلان: لو قال: (إن خرجت من الدار مع فلان فأنت طالق) فخرجت وحدها أو مع غير فلان، ثم خرج فلان ولحقها: لم يحنث، لأن حرف (مع) للمصاحبة والقران، فيقتضي مقارنتها في الخروج، ولم يوجد، لأن الدوام على الخروج ليس بخروج.
بعض الحالات المتعلقة بالخروج من الدار: لو قال: (إن خرجت من هذه الدار فأنت طالق) فدخلت في صحن الدار أو في بيت علو أو كنيف شارع (1) إلى الطريق العام، فإنه لا يحنث، لأن هذا لا يسمى خروجاً من الدار.
هل الدوام على الشيء بحكم ابتداء الشيء؟ لو قال لها وهي خارجة من الدار: (إذا خرجت من الدار فأنت طالق) لا يحنث. وكذلك إذا كانت في الدار، فقال: (إن دخلت هذه الدار .. إلخ) لا يحنث، ويقع اليمين على خروج ودخول مستأنف.
أما لو قال: (إن قمت أو قعدت أو لبست أو ركبت) وهي قائمة أو قاعدة أو لابسة أو راكبة، فدامت على ذلك ساعة، يحنث.
هذا هو مذهب الحنفية؛ لأن الخروج معناه الانتقال من الداخل إلى الخارج والدخول عكسه، وهذا مما لا دوام له، فلا يعتبر الدوام على الخروج خروجاً. أما الركوب ونظائره ففعل له دوام أي تتجدد أمثاله، فيكون له حكم الابتداء. ودليل التفرقة أنه يقال: ركبت أمس واليوم، ولبست أمس واليوم، ولا يقال: دخلت أمس واليوم إلا لدخول مبتدأ جديد (2).
وزعم الحنفية أن مذهب الشافعي يعتبر الدوام على الدخول والخروج له حكم
_________
(1) أي السقيفة الممتدة خارج البيت إلى الشارع.
(2) البدائع: 3 ص 36.

(4/2496)


ابتداء الفعل، وهذا غير صحيح، فإن نصوص المذهب الشافعي صريحة في أنه لو حلف إنسان ألا يدخل الدار وهو فيها، أو لا يخرج منها، وهو خارج، فلا حنث في الصورتين؛ لأن الدخول هو الانفصال من خارج إلى داخل، والخروج عكسه، ولم يوجد المعنى في الاستدامة، فلهذا لا يسمى دخولاً ولا خروجاً. أما الدوام على اللبس والركوب والقيام والقعود فله حكم الابتداء، فلو استمر في هذه الأحوال حنث (1) كما لاحظنا عند الحنفية.

ومثل الركوب: الأكل والضرب: فلو قال لها وهي في الأكل والضرب: (إذا أكلت أو ضربت، فأنت طالق) فدامت على ذلك: يقع اليمين؛ لأن كل جزء من هذا الفعل يسمى أكلاًوضرباً.
ومثل الدخول والخروج: (الحيض والمرض): فلو قال رجل لامرأته وهي حائض أو مريضة:
(إن حضت أو مرضت، فأنت طالق) فإن اليمين يقع على ما يستجد ويحدث من الحيض والمرض، كما هو عرف الناس.
ولو نوى ما يحدث من الحيض في هذه المدة أو يزاد من المرض: يصح، لأن الحيض ذو أجزاء، يحدث حالاً فحالاً، فتصح نيته.
ولو قال: (إن حضت غدا ً) وهو لا يعلم أنها حائض، فإن اليمين يقع على الحيض المستجد الحادث. وإن كان يعلم أنها حائض، فإن اليمين يقع على هذه الحيضة إذا دام الحيض منها إلى أن يطلع الفجر واستمر ثلاثة أيام في رأي الحنفية، لأنه لما علم أنها حائض وقد حلف، فقد أراد استمرار الحيض، وما لم يكن ثلاثة أيام لا يكون حيضاً.
_________
(1) مغني المحتاج: 4 ص 321.

(4/2497)


الحلف على الخروج بدون إذن: قد يحلف الرجل بطلاق امرأته إذا لم يأذن لها بالخروج، بإحدى الصيغ الآتية:
1 - أن يقول: (أنت طالق إن خرجت من هذه الدار إلا بإذني أو برضاي) ونحوه.
2 - أن يقول: (أنت طالق إن خرجت من هذه الدار حتى آذن لك أو حتى أرضى).
3 - أن يقول: (أنت طالق إن خرجت من هذه الدار إلا أن آذن لك أو إلا أن أرضى).
وأبدأ بالحالة الأولى وهي:

1 - أن يقول: (إلا بإذني أو برضاي): إذا قال رجل لامرأته: (أنت طالق إن خرجت إلا بإذني أو بأمري أو برضاي أو بعلمي) أو قال: (إن خرجت من هذه الدار بغير إذني، أو بغير أمري، أو بغير رضاي، أو بغير علمي) ففي هذه الحالات كلها يحنث إن خرجت بغير إذنه، ويشترط الإذن في كل مرة، حتى لو أذن لها مرة فخرجت، ثم عادت، ثم خرجت بغير إذنه مرة أخرى، حنث. وكذلك لو أذن لها مرة، فقبل أن تخرج نهاها عن الخروج، ثم خرجت بعدئذ يحنث. وإن وجد خروج بإذن فهو خروج مستثنى من يمينه، فلا يكون داخلاً تحت اليمين، فلا يحنث.
والسبب فيه أنه جعل كل خروج شرطاً لوقوع الطلاق، واستثنى خروجاً موصوفاً بصفة: وهو أن يكون الخروج مصحوباً بالإذن؛ لأن الباء في اللغة للإلصاق، مثل كتبت بالقلم أي أنه التصقت الكتابة بالقلم، فكل خروج لايكون

(4/2498)


بتلك الصفة، كان داخلاً في اليمين، وصار شرطاً للحنث. قال الله تعالى: {وما نتنزل إلا بأمر ربك} [مريم:64/ 19] أي لا يوجد نزول إلا بهذه الصفة.
ونظيره: ما لو قال لامرأته: (إن خرجت إلا بملاءة، أو بقناع أو إلا راكبة فأنت طالق) فإن وجد الخروج المستثنى لا يحنث، وإن وجد لا على ذلك الوصف: يحنث؛ لأن المستثنى غير داخل في اليمين، وغير المستثنى داخل، فيحنث، لوجود الشرط.
فإن أراد بقوله: (إلا بإذني) مرة واحدة: تصح نيته، ويعمل بمقتضى نيته ديانة فيما بينه وبين الله عز وجل. أما قضاء فيعمل أيضاً بموجب النية عند أبي حنيفة ومحمد، وفي رواية عن أبي يوسف. وقيل: لا يعمل بنيته قضاء، لأنه نوى خلاف الظاهر؛ لأن ظاهر هذا الكلام يقتضي تكرار الإذن في كل مرة كما تقدم، وهو الرأي الراجح الذي عليه الفتوى عند الحنفية.
أما وجه قول الطرفين: فهو أن تكرار الإذن لم يثبت بظاهر اللفظ، وإنما ثبت بإضمار الخروج، فإذا نوى مرة واحدة، فقد نوى ما يقتضيه ظاهر كلامه. والحقيقة أن ظاهر الكلام: هو تكرار الإذن. وأما إذا أريد باليمين الإذن مرة واحدة، فهذا مما يحتمله الكلام فقط، ولذا كان المعول عليه في الفتيا، هو رأي أبي يوسف، فيصدق الحالف في أنه نوى مرة واحدة ديانة لا قضاء، لأنه نوى التخفيف عن نفسه، فلا يصدق في القضاء.
والحيلة في هذه اليمين المتطلبة تكرار الإذن: أن يقول الزوج لامرأته: (أذنت لك الدهر كله) أو (أذنت لك أبداً) أو (كلما شئت الخروج فقد أذنت لك) فيثبت الإذن في كل مرة وجد فيها الخروج؛ لأن كلمة (كلما) توجب التعميم والتكرار.

(4/2499)


وكذلك لا يحنث إذا قال الزوج: (أذنت لك عشرة أيام) فخرجت مراراً في مدة العشرة.
ولو أذن الزوج لامرأته في قوله: (إلا بإذني) مرة واحدة، ثم نهاها عن الخروج بعد صدور الإذن الخاص يصح نهيه، حتى لو خرجت بعد ذلك بغير إذنه: يحنث في يمينه؛ لأنه صح رجوعه عن الإذن، واليمين باقية، فجعل كأنه لم يأذن.

أما لو أذن الزوج لامرأته إذناً عاماً: ثم نهاها عن الخروج بعدئذ نهياً عاماً عن جميع حالات الخروج، فهل يؤثر هذا النهي أو لا؟ قال محمد: يعمل بموجب النهي، ويبطل إذنه الصادر منه بالخروج، حتى إنها لو خرجت بعدئذ بغير إذنه، يحنث، بدليل أنه لو أذن لها مرة، ثم نهاها يصح نهيه، فكذا إذا أذن لها في كل مرة، وجب العمل بنهيه، ويزول الإذن بالنهي.
وقال أبو يوسف: لا يؤثر نهيه في الإذن السابق ويظل ساري المفعول، لأن الإذن العام بالخروج يرفع اليمين، لأنه بالإذن ألغى شرط وقوع الطلاق: وهو الخروج بدون إذن، فإذا وجد النهي العام عن الخروج فلا يؤثر، لأنه لا يمين هناك. وهذا بخلاف الإذن الخاص بالخروج مرة واحدة، فإنه لم ترتفع اليمين، فجاء النهي عن الخروج واليمين باقية، فصح النهي (1).

2 - أن يقول: (حتى آذن لك): إذا قال رجل لامرأته: (أنت طالق إن خرجت من هذه الدار حتى آذن لك أو آمر، أو أرضى أو أعلم) فيكفي الإذن مرة واحدة، وتسقط اليمين، حتى لو أذن لها مرة، فخرجت ثم عادت، ثم خرجت بغير إذن لا يحنث، وكذا إذا أذن لها مرة ثم نهاها قبل أن تخرج، ثم خرجت بعدئذ
_________
(1) المبسوط: 8 ص 173، البدائع: 3 ص 43 ومابعدها، فتح القدير: 4 ص 40، تبيين الحقائق: 3 ص 122، الدر المختار: 3 ص 89 ومابعدها.

(4/2500)


لا يحنث؛ لأن كلمة (حتى) تفيد الغاية، وهي بمعنى (إلى) وكلمة (إلى) لانتهاء الغاية، فينتهي اليمين بانتهاء ما بعد (حتى) فيصير وجود الإذن من الحالف غاية لمنع الخروج، فلا تبقى اليمين بعد وجود الغاية. فإذا حدث خروج بعدئذ، لا يحنث إذ لا يمين هناك؛ لأن اليمين سقطت بالإذن، فلا يعتبر النهي بعده. أما قبل الإذن فاليمين باقية فيحنث بالخروج.
ولو نوى بقوله: (حتى آذن لك) حصول الإذن في كل مرة: يصدق ديانة وقضاء، لأنه نوى التشديد على نفسه (1).

3 - أن يقول: (إلا أن آذن لك): إذا قال رجل لامرأته: (أنت طالق إن خرجت من هذه الدار إلا أن آذن لك، أو آمر أو أعلم، أو أرضى) فهذا بمنزلة قوله: (حتى آذن) عند عامة العلماء. فلو أذن لها مرة واحدة، فخرجت، ثم خرجت مرة أخرى بغير إذنه لم يحنث، لأن (إلا أن) كلمة تفيد معنى الغاية، فتنتهي اليمين بها، كما إذا قال: (حتى آذن لك).
والسبب في أن كلمة (إلا أن) تفيد معنى الغاية، مع أنها من حروف الاستثناء: هو أن صدر الكلام الذي قبل أداة الاستثناء ليس من جنس الإذن، حتى يستثنى الإذن منه، فيجعل مجازاً عن كلمة (حتى) لمناسبة بينهما: وهو أن حكم ما قبل الغاية مخالف لما بعدها، كما أن حكم ما قبل الاستثناء يخالف ما بعده.
وقال الفراء من علماء النحو: قول القائل: (إلا أن آذن لك) مثل قوله: (إلا بإذني) يتطلب تكرار الإذن في كل مرة من مرات الخروج، لأن المعنى (إلا خروجاً بإذني)، إذ (أن) والفعل المضارع بعدها في تأويل المصدر، فصار تقدير
_________
(1) انظر المراجع السابقة.

(4/2501)


الكلام: (إن خرجت من الدار إلا خروجاً إذني) وهذا كلام غيرمستقيم، فلزم تقدير الباء، فيصير (إلا خروجاً بإذني) وإسقاط الباء في اللفظ مع ثبوتها في التقدير أمر جائز في اللغة، كما روي عن رؤبة بن العجاج أنه قيل له: كيف أصبحت؟ فقال: (خير، عافاك الله) أي بخير. وكذا يحذفون الباء في القسم، فيقولون: (الله) مكان قولهم: (بالله) وإذا كان حذف الباء جائزاً قدرت في الكلام لضرورة تصحيحه، والدليل عليه قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم} [الأحزاب:53/ 33] أي إلا بإذن لكم يتكرر بتكرار الدخول في كل مرة.
ورد الحنفية بأن تصحيح الكلام بجعل (إلا) بمعنى (حتى) و (إلى) أولى من تصحيح الكلام بالتقدير الذي قاله الفراء؛ لأن التصحيح بجعل كلمة قائمة مقام أخرى أولى من التصحيح بطريق الإصنمار والتقدير، لأن الأول تغيير بتصرف في الوصف، والإضمار إثبات أصل الكلام، ولا شك أن التصرف في الوصف بالتغيير والتبديل أولى من إثبات أصل الكلام. وأما قوله عز وجل: {إلا أن يؤذن لكم} [الأحزاب:53/ 33] فإنه اقتضى تكرار الإذن في كل مرة لابمقتضى اللفظ، بل بدليل آخر: وهو أن دخول دار الغير بغير إذنه حرام، ولأن الله تعالى قال؛ {إن ذلكم كان يؤذي النبي} [الأحزاب:53/ 33] ومعنى الأذى موجود في كل ساعة، فشرط الإذن في كل مرة (1).
وقال غير الحنفية (2): الحكم في أنواع الألفاظ الثلاثة السابقة واحد، وهو أنه متى خرجت بغير إذنه، طلقت وانحلت يمينه؛ لأن حرف (إن) لا يقتضي
_________
(1) المراجع السابقة.
(2) المغني: 796/ 8، الشرح الكبير: 148/ 2، 157.

(4/2502)


تكراراً، فإذا حنث مرة انحلت اليمين؛ لأنه علق الطلاق على شرط، وقد وجد فيقع الطلاق، كما لو لم تخرج بإذنه. لكن الحنابلة قالوا: لابد من تكرار الإذن، كما سيأتي بيانه.

تعليق الخروج بإذن فلان: لو قال الرجل لامرأته: (إن خرجت إلا بإذن فلان) فمات فلان قبل الإذن، بطلت اليمين عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. وقال أبو يوسف رحمه الله: اليمين باقية، حتى لو خرجت بعدئذ يحنث. وهذا الخلاف مفرع على اختلافهم فيمن حلف (ليشربن الماء الذي في هذا الكوز، ولا ماء فيه). فعند الطرفين: لا تنعقد اليمين؛ لأن تصور البر شرط لانعقاد اليمين ولبقائها في المستقبل عندهما. وعند أبي يوسف: تنعقد اليمين، لأنه لا يشترط هذا الشرط عنده، وإنما يكفي أن تكون اليمين على أمر في المستقبل.
الإذن بالخروج دون أن تسمع المرأة: إن أذن الرجل لامرأته المحلوف عليها بالخروج من حيث لا تسمع عادة، فخرجت، بغير الإذن: يحنث عند أبي حنيفة ومحمد، لأن الإذن إعلام، قال الله تعالى: {وأذان من الله ورسوله} [التوبة:3/ 9] أي إعلام، والإذن بحيث لا تسمع يكون إعلاماً، فلا يكون إذناً، فلم يوجد مأذون فيه، فيحنث، ولأنه حرم عليها الخروج إلا خروجاً مأذوناً فيه مطلقاً بحيث يأذن وتسمع، والخروج الذي حصل مأذون فيه من جهة واحدة، فلم يكن هذا خروجاً مستثنى، فبقي داخلاً تحت الحرمة.
وقال أبو يوسف: لا يحنث؛ لأن شرط الحنث وجود خروج غير مأذون فيه مطلقاً، والخروج الذي حصل مأذون فيه من وجه لوجود كلام الإذن فلم يوجد شرط الحنث، فلا يحنث بالشك.

الحلف مقيد ببقاء الولاية: إذا حلف رجل على زوجته ألا تخرج من الدار،

(4/2503)


أو سلطان حلَّف رجلاً ألا يخرج من بلدة إلا بإذنه، ثم بانت المرأة من الزوج، أو عزل السلطان عن عمله، ثم خرجت المرأة والرجل بغير إذن: لم يحنث الحالف، وسقطت اليمين؛ لأن اليمين تقع على الحال التي يملك الحالف فيها الإذن: وهي بقاء الولاية، فإذا زالت الولاية زالت اليمين. وتنطبق هذه القاعدة على ما إذا حلَّف الدائن مدينه ألا يخرج من بلده إلا بإذنه، فاليمين مقيدة بحال قيام الدين، فإن خرج وعليه دين: يحنث. وإن خرج بعد أداء الدين أو إبراء المدين منه: لا يحنث؛ لأن اليمين سقطت، وإنما تتقيد اليمين ببقاء الدين. وهذا من تطبيقات يمين الفور التي تتقيد بدلالة الحال. ويترتب عليه أنه إن عاد الدين أو غيره على المدين لم تعد اليمين (1).
والخلاصة: إن مذهب الحنفية يشترط تكرار الإذن في كل خروج في قول الحالف: (إلا بإذني). أما قوله: (حتى آذن) أو (إلا أن آذن) فلا يقتضي تكرار الإذن، وإنما يكفي الإذن مرة واحدة، ثم تسقط اليمين.

مذاهب غير الحنفية في هذه الألفاظ: قال المالكية والشافعية: يكفي إذن واحد بالخروج في هذه الصور الثلاث: (إلا بإذني) و (حتى آذن لك) و (إلا أن آذن لك).
فإذا أذن الحالف مرة واحدة تنحل اليمين، ولا يحنث بخروجها بعدئذ، لأن اليمين تعلقت بخروج واحد بحرف لا يقتضي التكرار، وإذا خرجت بغير إذن حنث. وإن خرجت بإذن بر في يمينه؛ لأن البر يتعلق بما يتعلق به الحنث.
وقال الحنابلة: لا بد من تكرار الإذن في كل حالة من حالات الخروج في
_________
(1) انظر هذه القضايا الثلاث في البدائع: 3 ص 45 - 46.

(4/2504)


الصور الثلاث السابقة؛ لأن الحالف علق الطلاق بشرط، فإذا وجد الشرط وقع الطلاق، وتنحل اليمين إن حنث مرة واحدة (1).

المطلب الثالث ـ الحلف على الكلام:
لا بد من وقوع الكلام من الإنسان، لأنه يحتاج إلى إيصال ما في نفسه إلى غيره للوصول إلى مقاصده وأغراضه. وللكلام أهميته في التوفيق أو التنازع بين اثنين. ويحتاج المرء في الغالب إلى القسم لحمل نفسه أو غيره على التكلم أو الامتناع من التكلم. وسأذكر أهم حالات الحلف على الكلام: وهو إما أن يكون مطلقاً أو مؤقتاً.

أما المطلق: فهو أن يحلف ألا يكلم فلاناً، فيقع على الأبد، حتى لو كلمه ولو بالسلام في أي وقت وفي أي مكان وعلى أي حال، حنث. ومن حالاته ما يأتي:
الحلف على عدم تكليم فلان: لو حلف شخص على ألا يكلم فلاناً فناداه من مكان بعيد: فإن كان فلان هذا في موضع بحيث يسمع مثله لو أصغى إليه أذنه، فإنه يحنث عند الحنفية والحنابلة وفي قول عند المالكية، وإن لم يسمعه. وإن كان في موضع لا يسمع في مثله عادة بسبب بعد المسافة، فإنه لا يحنث. وكذا إذا كان المخاطب أصم بحيث لو أصغى إليه أذنه لا يسمع: لا يحنث.
والسبب: هو أن تكليم فلان: عبارة عن إسماع كلامه إياه، إلا أن الإسماع أمر باطن خفي، فأقيم السبب الظاهرالمؤدي إليه مقامه، وهو إمكان السماع في الموضع القريب.
_________
(1) انظر المغني: 8 ص 796 ومابعدها، الشرح الكبير للدردير: 2 ص 148، 157، الميزان للشعراني: 2 ص 132.

(4/2505)


ولو حلف ألا يكلم فلاناً، فكلمه وهو نائم فأيقظه: حنث، لأنه كلمه وأسمعه، ولو لم يوقظه لم يحنث، وهو المختار عند عامة مشايخ الحنفية خلافاً لما ذكر القدوري من أنه إذا كان بحيث يسمع لو لم يكن نائماً يحنث؛ لأنه قد كلمه ووصل إلى سمعه إلا أنه لم يفهم لنومه، فصار كما إذا ناداه وهو في مكان بحيث يسمع إلا أنه لم يفهم لاشتغاله بأمر آخر. ورأي عامة المشايخ هو الأرجح، لأنه إذا لم يوقظه كان كما إذا ناداه من بعيد، وهو بحيث لا يسمع صوته، ولأن الإنسان لا يعد مكلماً للنائم إذا لم يتيقظ بكلامه، كما لا يعد متكلماً مع الغائب.
ولو مر الحالف على جماعة فيهم المحلوف عليه، فسلم عليهم: حنث لأنه كلمه وكلم غيره بالسلام، فإن قصد بالسلام الجماعة دونه لم يحنث وتصح نيته فيما بينه وبين الله تعالى، لأنه نوى تخصيص كلامه، وإطلاق الكل وإرادة البعض جائز، ولكن لا يقبل منه هذا الادعاء قضاء، لأنه خلاف الظاهر من كلامه (1).
ولو سلم في الصلاة والمحلوف عليه معه في الصلاة: فإما أن يكون الحالف إماماً أو مقتدياً:
1 - فإن كان الحالف إماماً ينظر: إن كان المحلوف عليه خلفه، فسلم، لم يحنث بالتسليمة الأولى. وإن كان على يمينه: لا يحنث أيضاً؛ لأن التسلمية الأولى كلام في الصلاة؛ لأن المصلي يخرج بها عن الصلاة، فلا تكون من كلام الناس، بدليل أنها لا تفسد الصلاة.
وإن كان شماله فقد اختلف المشايخ فيه: فقال بعضهم: يحنث، وقال بعضهم: لا يحنث.
_________
(1) انظر البدائع: 3 ص 47 ومابعدها، الفتاوى الهندية: 2 ص 89 وما بعدها، تبيين الحقائق: 3 ص 136، فتح القدير: 4 ص 63، الدر المختار: 3 ص 112، المغني: 822/ 8.

(4/2506)


2 - وإن كان الحالف مقتدياً: فكذلك لا يحنث عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن المقتدي لا يصير خارجاً عن الصلاة بسلام الإمام عندهما.
وقال محمد: يحنث لأن المقتدي يصير خارجاً عن صلاته بسلام الإمام عنده، فقد تكلم كلاماً خارج الصلاة مع فلان، فيحنث.

ولو حلف لا يكلم فلاناً، فكتب إليه كتاباً، فانتهى الكتاب إليه، أو أرسل إليه رسولاً، فبلغ الرسالة إليه، أو أشار إليه بالإصبع: لا يحنث؛ لأن هذا ليس بكلام، وذلك باتفاق الحنفية، والشافعية في الجديد. وقال الحنابلة والمالكية على الراجح: يحنث إلا أن يكون أراد ألا يشافهه (1).
الحلف على عدم التكلم: من حلف لا يتكلم اليوم، فقرأ القرآن، أو صلى، أو سبح: لم يحنث، استحساناً، ومثله التهليل والتكبير، وهو يتناول القراءة والتسبيح في الصلاة وخارجها؛ لأن هذا لا يسمى كلاماً عرفاً، أما في الصلاة فليس بكلام عرفاً ولا شرعاً، قال عليه الصلاة والسلام: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، وإنما هي التهليل والتسبيح وقراءة القرآن» (2) وقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث ألا نتكلم في الصلاة» (3)، ولأن الكلام مفسد، ولو كانت هذه الأشياء من كلام الناس لأفسدت.
_________
(1) البدائع، المرجع السابق: ص 48، تبيين الحقائق، المرجع السابق، القوانين الفقهية: ص 164، مغني المحتاج: 345/ 4. المغني: 820/ 8، الشرح الكبير: 146/ 2.
(2) رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود وابن حبان والبيهقي والطبراني عن معاوية بن الحكم السلمي (نصب الراية: 2 ص 66، نيل الأوطار: 2 ص 315).
(3) رواه أحمد والنسائي وأبو داود وابن حبان في صحيحه عن ابن مسعود (انظر نيل الأوطار، المرجع السابق: ص 314).

(4/2507)


وأما في غير الصلاة فلا يحنث، لأنه لا يسمى متكلماً في عرفنا المتأخر بل قارئاً ومسبحاً، ومبنى الأيمان على العرف (1). وكذلك قال الشافعية والحنابلة: لا يحنث مطلقاً سواء قرأ في الصلاة أم في غيرها؛ لأن الكلام في العرف لا يطلق إلا على كلام الآدميين.
وهذا هو مذهب الشافعية خلافاً لما زعم الحنفية من أن مذهب الشافعي مخالف لهم، فإنهم قالوا: لو حلف لا يتكلم فسبح الله تعالى أو حمده أو هلله أو كبره أو دعا أو قرأ قرآناً في الصلاة أو خارجها، ولو كان عليه حدث أكبر، فلا حنث بذلك، لانصراف الكلام إلى كلام الآدميين في محاوراتهم (2).

وأما الحلف على الكلام مؤقتا ً: فهو نوعان: معين ومبهم.
أما المعين: فنحو أن يحلف الرجل بالليل: لا يكلم فلاناً يوماً، فيحنث بكلامه من وقت الحلف إلى أن تغيب الشمس من الغد، فيدخل في يمينه بقية الليل. وكذلك لو حلف بالنهار لا يكلمه ليلة: إنه يحنث بكلامه من حين حلف إلى طلوع الفجر. ولو حلف في بعض النهار لا يكلمه يوماً فاليمين على بقية اليوم والليلة المستقبلة إلى مثل تلك الساعة التي حلف فيها من الغد.
فإن قال في بعض اليوم: (والله لا أكلمك اليوم)، فاليمين على باقي اليوم، فإذا غربت الشمس سقطت اليمين. وكذلك إذا قال بالليل: (والله لا أكلمك الليلة)، فإذا طلع الفجر، سقطت اليمين.
ولو حلف لايكلمه شهرا ً: يقع على ثلاثين يوماً تبتدئ من حين الحلف. ولو قال: الشهر، يقع على بقية الشهر، ولو حلف لايكلمه السنة، يقع على بقية السنة.
_________
(1) البدائع: 3 ص 48، فتح القدير: 4 ص 65، تبيين الحقائق: 3 ص 137، الدر المختار: 3 ص 114، المغني: 824/ 8.
(2) مغني المحتاج: 4 ص 345.

(4/2508)


ولو قال: (والله لا أكلمك يوماً ولا يومين)، فهو مثل قوله: والله لا أكلمك ثلاثة أيام في قول أبي حنيفة ومحمد، وفي رواية عن أبي يوسف. وذكر محمد في الجامع الصغير أنه يقع على يومين. ودليله: أن كل واحد منهما يمين منفردة، فصار لكل يمين مدة على حدة، وبذلك أصبح على اليوم الأول يمينان، وعلى اليوم الثاني يمين واحدة.
ودليل الرأي الأول: أن الحالف عطف اليومين على اليوم، والمعطوف غير المعطوف عليه، فاقتضى يومين آخرين غير الأول (1).

وأما المبهم: فنحو أن يحلف ألا يكلم فلاناً زمناً أو حيناً أو الزمان أو الحين: فإنه يقع على ستة أشهر؛ لأن الحين يستعمل، ويراد به الوقت القصير: قال الله تعالى: {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون} [الروم:17/ 30] وقد يراد به الوقت الطويل، وهو أربعون سنة، قال تعالى: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر} [الإنسان:1/ 76] وقد يراد به الوقت الوسط: وهو ستة أشهر، قال تعالى: {تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها} [إبراهيم:25/ 14] قيل: أي ستة أشهر، فحمل على الوسط، لأنا لا نعلم أنه يريد القليل أو الكثير.
ولو قال: (لا أكلمه دهراً أو الدهر) فقال أبو حنيفة: إن كانت له نية فهو على ما نوى، وإن لم تكن له نية، فلا أدري ما الدهر.
وقال الصاحبان: إذا قال: دهراً أي (منكَّراً) فهو ستة أشهر، وإذا قال: الدهر أي (معرفاً) فهو على الأبد.
_________
(1) البدائع، المرجع السابق: ص 48 وما بعدها، تبين الحقائق، المرجع السابق.

(4/2509)


وقال بعض مشايخ الحنفية: لا خلاف في الدهر أنه الأبد، وإنما قال أبو حنيفة: (لا أدري ما الدهر) إذا قال: (دهرا ً) (1).
وقال الشافعية والحنابلة (2): إن حلف ألا يكلمه زمناً أو وقتاً أو دهراً أو عمراً فإنه يقع على القليل والكثير، فيبر بالقليل والكثير؛ لأن هذه الأسماء لا حد لها في اللغة، وتقع على القليل والكثير، فوجب حمله على أقل ما يتناوله اسمه. أما إذا حلف ألا يكلمه الدهر أو الأبد أو الزمان، فذلك على الأبد، لأن ذلك بالألف واللام، وهي للاستغراق، فتقتضي الدهر كله.

ولو قال: (والله لا أكلمك يوم الجمعة) فله أن يكلمه في غير يوم الجمعة؛ لأن الجمعة اسم ليوم مخصوص. وكذلك لو قال: (جمعاً) له أن يكلمه في غير يوم الجمعة، لأن الجُمَع جمع جمعة وهي يوم الجمعة فلا يتناول غيره، بخلاف ما إذا قال: (لا أكلمه أياما ً): إنه يدخل فيه الليالي.
ثم إذا قال (والله لا أكلمك جمعا ً) فهو على ثلاث جمع؛ لأن أقل الجمع الصحيح ثلاثة، فيحمل عليه. وإذا قال: (الجمع) يقع اليمين على عشر جمع عند أبي حنيفة، وكذلك الأيام والأزمنة والأحايين والشهور والسنين: يقع اليمين على عشرة أيام، وعشرة أحايين أو أزمنة وعشرة أشهر وعشر سنين؛ لأن أكثر ما تناوله اسم الأيام ونحوه: هو عشرة؛ لأن بعد العشرة لا يقال: أيام، بل يقال: أحد عشر يوماً، ومئة يوم، وألف يوم.
وقال الصاحبان: في الجُمَع والسنين يقع على الأبد، وكذا في الأحايين والأزمنة، وفي الأيام يقع على سبعة، وفي الشهور على اثني عشر؛ لأن الأصل
_________
(1) البدائع: 3 ص 50، فتح القدير: 4 ص 72.
(2) المغني: 789/ 8.

(4/2510)


عندهما فيما دخل عليه حرف التعريف هو (اللام) من أسماء الجمع: أن ينظر إن كان هناك معهود ينصرف إليه كالسبعة في الأيام بحسب أيام الأسبوع، والاثني عشر في الشهور، وإن لم يكن هناك معهود ينصرف إلى جميع الجنس، فيستغرق العمر كالسنين والأحايين والأزمنة.
أما الأصل عند أبي حنيفة فهو كما لاحظنا: أن ينصرف الاسم إلى أقصى ما يطلق عليه لفظ الجمع عند اقترانه بالعدد: وذلك عشرة (1).

ومن حلف ألا يكلمه حينا ً، فكلمه قبل الستة أشهر، حنث عند الحنفية والحنابلة (2)؛ لأن الحين المطلق في كلام الله أقله ستة أشهر، قال تعالى: {تؤتي أكلها كل حين} [إبراهيم:25/ 14] فسره جماعة بستة أشهر. وقال مالك: الحين سنة؛ لأنه فسر بعام. وقال الشافعي وأبو ثور: لا قدر له، ويبر بأدنى زمن؛ لأن الحين اسم مبهم يقع على القليل والكثير.
ولو حلف (لا يكلمه أياما ً) فهو على ثلاثة أيام وهو الصحيح، لأنه ذكر لفظ الجمع منكراً، فيقع على أدنى الجمع الصحيح: وهو ثلاثة. وفي رواية: يقع على عشرة أيام عند أبي حنيفة، وعند الصاحبين: على سبعة.
ولو قال: (لا أكلمك سنين) فهو على ثلاث سنين باتفاق الحنفية والمالكية، لما ذكر أن أقل الجمع ثلاثة، فيحمل عليه (3).
والخلاصة: أن أبا حنيفة وصاحبيه يقولون في الجمع المنكر: إنه يقع على أقل الجمع وهو ثلاثة، أما في الجمع المعرف: فالأصل عند أبي حنيفة: أن يقع على
_________
(1) البدائع، المرجع السابق: ص 51، فتح القدير، المرجع السابق: ص 75.
(2) المغني: 788/ 8.
(3) البدائع: 3 ص 52، فتح القدير: 4 ص 73، الشرح الكبير: 155/ 2.

(4/2511)


أقصى ما يطلق عليه لفظ الجمع عند اقترانه بالعدد وهو العشرة. والأصل عند الصاحبين: أن يقع على المعهود إن كان هناك معهود، وإلا فيقع على جميع الجنس.

ولو حلف (لايكمله العمر) فهو على جميع العمر إذا لم تكن له نية. ولو قال: عمراً: فعن أبي يوسف روايتان: في رواية وهي الأظهر: يقع على ستة أشهر كالحين. وفي رواية: يقع على يوم.
ولو حلف (لا يكلم فلاناً أياماً كثيرة): فهو على عشرة أيام عند أبي حنيفة. وعند الصاحبين: يقع على سبعة أيام.
ولو حلف (لا يكلمه إلى بعيد) يقع على شهر فصاعداً.
ولو حلف (لا يكلمه إلى قريب) فهو على أقل من شهر.
ولو حلف (لا يكلمه عاجلاً أو آجلاً) فالعاجل: يقع على أقل من شهر؛ لأن الشهر في حكم الكثير؛ لأنه يجعل زمناً آجلاً في الديون، فكان بعيداً. والآجل: يقع على الشهر فصاعداً.
ولو حلف (لا يكلمه مليا ً) يقع على شهر كالبعيد.
ولو حلف (ألا يكلمه الشتاء) فأوله إذا لبس الناس الألبسة الشتوية، وآخره إذا ألقوها بحسب البلد الذي حلف فيه، والصيف على ضده: وهو من حين خلع الألبسة الشتوية إلى لبسها. والخريف والربيع معروفان بحسب المعلوم في اللغة (1).
ومن حلف ألا يفعل شيئاً ففعل بعضه حنث إلا إن أراد الكل، فمن حلف ألا
_________
(1) البدائع، المرجع السابق.

(4/2512)


يزور شخصين أو لا يكلمهما فزار أو كلم أحدهما، إلا أن يكون أراد ألا يجتمع فعله بهما (1).

المطلب الرابع ـ الحلف على الأكل والشرب والذوق ونحوها:
الأكل: ـ هو إيصال ما يتأتى فيه المضغ بفمه إلى جوفه، مضَغه أو لم يمضغه، كالخبز واللحم والفاكهة ونحوها.
والشرب: ـ هو إيصال ما لا يتأتى فيه المضغ إلى جوفه، مثل كل المائعات من الماء والنبيذ واللبن والعسل الممزوج بالماء ونحوها (2).
والذَّوْق: ـ هو إيصال المذوق إلى الفم ابتلعه أو لا، بعد أن وجد طعمه، لأن الذوق أحد الحواس الخمس التي تعلم بها الأشياء، ولذا يتحقق العلم بالطعم سواء ابتلع الشيء المذاق أو مجه، فكل أكل فيه ذوق، وليس كل ذوق أكلاً.

الحلف على الذَّوْق: بناء عليه: إذا حلف لا يأكل ولا يشرب فذاق، لم يحنث. وإذا حلف لا يذوق طعاماً أو شراباً، فأدخله في فمه وعرف طعمه، حنث لحصول الذوق، وتحقق معناه الذي ذكر.
ولو حلف لا يذوق شيئاً وعنى به أكله وشربه: فإنه تصح نيته ويصدق ديانة بينه وبين الله عز وجل، ولا يصدق قضاء، ولا يحنث بالذوق، لأنه قد يراد بالذوق: الأكل والشرب في عرف الناس، يقول الرجل: ما ذقت اليوم شيئاً، وماذقت إلا الماء ـ يريد به الأكل والشرب.
_________
(1) المغني: 782/ 8.
(2) المبسوط: 8 ص 175، البدائع: 3 ص 56، تبيين الحقائق: 3 ص 124، فتح القدير: 4ص44، الدر المختار: 3 ص 94، الفتاوى الهندية: 2 ص 75.

(4/2513)


وأما السبب في أنه يصدق ديانة، فلأنه نوى ما يحتمله كلامه، ولا يصدق قضاء لعدوله عن ظاهر الكلام إلى معنى آخر.

ولو حلف لا يذوق ماء: فتمضمض في الوضوء: لا يحنث في يمينه، وإن حصل له العلم بطعم الماء؛ لأن ذلك لا يسمى ذوقاً عرفاً وعادة، لأن قصده التطهر، لا معرفة طعم المذوق (1).
ولو حلف لا يشم شيئا ً، فالشم عند الحنابلة يشمل كل نبت أو زهر طيب الرائحة، مثل الورد والبنفسج والنرجس. وقال الشافعي: لا يحنث إلا بشم الريحان الفارسي؛ لأنه المتعارف (2).
الحلف على الأكل:
1 - لو حلف لا يأكل الرمان أو العنب، فمصه ورمى تفله وبلع ماءه، لا يحنث في الأكل، ولا في الشرب؛ لأن المص ليس بأكل ولا شرب، بل هو مص. وإن ابتلع العنب أو الرمان من غير مضغ: يحنث لأنه أكل.
2 - مفهوم أكل الطعام: لو حلف لا يأكل طعاماً: فإن الطعام يقع بالاتفاق على الخبز، واللحم، والحلوى والفاكهة وما يؤكل على سبيل الإدام مع الخبز؛ لأن الطعام في اللغة: اسم لما يطعم، لقوله تعالى: {كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرَّم إسرائيل على نفسه} [آل عمران:93/ 3] أما في العرف فقد اختص بما يؤكل بنفسه أو مع غيره عادة.
_________
(1) المبسوط: 175/ 8، البدائع: 67/ 3 ومابعدها، تبيين الحقائق: 125/ 3، الدر المختار: 73/ 3، الفتاوى الهندية: 75/ 2، 84.
(2) المغني: 813/ 8 وما بعدها.

(4/2514)


وكذلك إذا حلف لا يأكل من طعام فلان، فأكل شيئاً مما ذكر من طعام فلان: يحنث. فإن أخذ من نبيذ فلان أو مائه، فأكل به بخبز نفسه: لا يحنث؛ لأن هذا لا يسمى طعاماً، لأنه لا يؤكل مع الخبز عادة، ولأن الشخص يسمى حينئذ طعام نفسه عادة.
ولو حلف ألا يأكل قوتاً، فأكل خبزاً أوتمراً أو زبيباً أو لحماً أو لبناً، حنث؛ لأن كل واحد من هذه يقتات في بعض البلدان.

3 - كيفية أكل اللبن والخل: لو حلف لا يأكل هذا اللبن، فأكله مع الخبز أو التمر، أو حلف لا يأكل هذا الخل، فأكله مع الخبز: يحنث باتفاق الحنفية والشافعية؛ لأن أكل اللبن هكذا يكون عادة، وكذلك الخل لأنه من جملة الإدام، قال صلّى الله عليه وسلم: «نعم الإدام الخل» (1) ولو شربه لا يحنث، لأن هذا ليس بأكل (2).
4 - اليمين معلقة ببقاء العين لا بعد تغيرها: لو حلف لا يأكل هذا اللبن، فأكل مما يتخذ منه كالجبن والأقط (3) ونحوهما، لا يحنث بالاتفاق؛ لأنه قد تغير، فلا يبقى له اسم العين المحلوف عليها. ومثله: ما لو حلف ألا يأكل من هذه البيضة، فصارت فرخاً، فأكل من فرخ خرج منها، أو حلف لا يشرب من هذه الخمر، فصارت خلاً: لا يحنث، لأنه تغير عن أصله.
_________
(1) رواه أحمد في مسنده وأصحاب السنن الأربعة عن جابر بن عبد الله، ورواه مسلم والترمذي وأحمد وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها وهو حديث صحيح، ولفظ حديث جابر: «نعم الأدم الخل» (نيل الأوطار: 221/ 8) والإدام: ما يؤتدم به، وجمع الإدام أدم بضم الهمزة، مثل: كتاب وكتب، والأدم بإسكان الدال مفرد كالإدام.
(2) البدائع، المرجع نفسه: ص 56، تبيين الحقائق، المرجع السابق، الشرح الكبير: 144/ 2، مغني المحتاج: 338/ 4، 340، 342. المغني: 806/ 8.
(3) الأقط (بفتح الهمزة وكسر القاف): ما يتخذ من اللبن المخيض: يطبخ ثم يترك حتى يمصل.

(4/2515)


وذكر الحنابلة (1) أن اللبن يتناول لبن الأنعام أوالصيد أو لبن الآدمية؛ لأن الاسم يتناوله حقيقة وعرفاً، وسواء أكان حليباً أم رائباً مائعاً أم مجمداً؛ لأن الجميع لبن.
ومثله أيضاً لو حلف ألا يأكل من هذا البُسْر فصار رُطَباً (2) أو لا يأكل من هذا الرطب فصار تمراً، أو لا يأكل من هذا العنب شيئاً، فصار زبيباً فأكله: لم يحنث في جميع ما ذكر باتفاق الحنفية والشافعية والمالكية؛ لأن الأصل أن اليمين متى تعلقت بعين تبقى ببقاء العين، وتزول بزوالها، إلا أن العين في الرطب وإن لم تتبدل، لكن زال بعضها: وهو الماء بالجفاف، فإذا جف الرطب، فقد زال عنه الماء، فصار آكلاً بعض العين المشار إليها فلا يحنث، وذلك كما لو حلف لا يأكل هذا الرغيف، فأكل بعضه.
وقال الحنابلة (3): لو حلف ألا يأكل هذا الرطب، فأكله تمراً حنث، كما يحنث من أكل كل ما تولد من ذلك الرطب. أما لو حلف ألا يأكل تمراً، فأكل رطباً، لم يحنث، وكذا لو حلف ألا يأكل عنباً، فأكل زبيباً أو دبساً، أو لا يكلم شاباً فكلم شيخاً، أو لا يشتري جدياً فاشترى تيساً لم يحنث؛ لأن اليمين تعلقت بالصفة دون العين، ولم توجد الصفة.
ومن حلف لا يأكل طعاماً يشتريه فلان، فاشتراه فلان وغيره، فأكل منه ولم تكن له نية، حنث عند المالكية والحنفية والحنابلة (4) لأن فلاناً مشتر لنصفه وهو طعام وقد أكله، فيجب أن يحنث كما لو اشتراه فلان فخلطه بما اشتراه غيره، فأكل
_________
(1) المغني: 803/ 8.
(2) البسر: هو التمر إذا تلون ولم ينضج، والرطب: ما نضج من البسر قبل أن يصير تمراً.
(3) المغني: 800/ 8،802.
(4) القوانين الفقهية: ص 163، مغني المحتاج: 352/ 4، المغني: 780/ 8.

(4/2516)


الجميع. وقال الشافعية: لا يحنث؛ لأن كل جزء لم ينفرد أحدهما بشرائه، فلم يحنث به، كما لو حلف لا يلبس ثوباً اشتراه زيد، فلبس ثوباً اشتراه زيد وغيره.
وهذا بخلاف الحالات الآتية:

لو حلف لا يأكل من لحم هذا الحَمل (1) أو هذا الجدي (2) فأكل منه بعدما صار كبشاً أو تيساً: فإنه يحنث عند الحنفية؛ لأن العين قائمة لم تتغير، واليمين وقعت على الذات المعينة.
وإذا حلف ألا يكلم هذا الشاب، فكلمه بعدما شاخ: حنث لأن العين قائمة لم تتغير، وإنما الذي تغير هو الوصف، لا بعض الشخص المحلوف عليه.

أما لو حلف لا يكلم شاباً، فكلم شيخاً: فإنه لا يحنث بالاتفاق؛ لأن اليمين وقعت على نكرة موصوفة بصفة الشباب، وذكر الصفة بمنزلة اشتراط الشرط، ومن المعلوم أن صفة الشباب لا تنطبق على الشيوخ.
اختلاف الحنفية في حكم خلط اللبن بالماء: إذا حلف إنسان لا يذوق من هذا اللبن شيئاً، فصب فيه ماء فذاقه أو شربه: ينظر إذا كان اللبن غالباً: حنث، لأنه إذا كان غالباً يسمى لبناً، وإذا كان الماء غالباً لا يحنث، وهذا ينطبق على النبيذ إذا صبه في خل، أو الماء المالح إذا صب على ماء عذب، فالعبرة فيه للغلبة، وهذا باتفاق الصاحبين، غير أن أبا يوسف اعتبر الغلبة في اللون أو الطعم، لا في الأجزاء، فإن بقي لون اللبن أو طعمه يحنث وإن كان اللبن أقل. أما إذا ذهب طعم اللبن أو لونه فلا يحنث، وإن كانت أجزاء اللبن أكثر، لأنه إذا كان اللون والطعم كان اسم الشيء باقياً.
_________
(1) الحمل: أي الخروف.
(2) الجدي: ذكر الماعز في السنة الأولى.

(4/2517)


ونظر محمد إلى غلبة الأجزاء، فقال: إن كانت أجزاء المحلوف عليه غالبة يحنث، وإن كانت مغلوبة لا يحنث؛ لأن الحكم يتعلق بالأكثر ويكون الأقل تبعاً للأكثر.
وذكر محمد: أنه لو حلف إنسان لا يأكل سمناً، فأكل سويقاً لتَّه (1) بسمن ولا نية له أخرى: إن كانت أجزاء السمن تستبين في السويق ويوجد طعمه يحنث. وإن كان لا يوجد طعمه، ولا يرى مكانه لم يحنث لأنها إذا استبانت لم تصر مستهلكة ضِمْن غيرها، فكأنه أكل السمن بنفسه منفرداً، وإذا لم تستبن أجزاء السمن، فقد صارت مستهلكة في غيرها، فلا يعتد بها.

اختلاط الشيء بجنسه: إذا اختلط المحلوف عليه بجنسه كاللبن المحلوف عليه إذا اختلط بلبن آخر، قال أبو يوسف: حكمه حكم خلط اللبن بالماء تعتبر فيه الغلبة، فإن كانت الغلبة لغير المحلوف عليه، لم يحنث في يمينه، لأنه في معنى الشيء المستهلك في غيره.
وقال محمد: يحنث وإن كان المحلوف عليه مغلوباً؛ لأن الشيء لا يصير مستهلكاً بجنسه، وإنما يصير مستهلكاً بغير جنسه، وحينئذ يعتبر كأنه غير مغلوب.
ولكن يلاحظ أن الإمام محمد لم يجعل خلط الجنسين استهلاكاً أي (إعداماً لذات الشيء) إذا كان الجنس والنوع والصفة في كل منهما واحداً، فإذا اختلف النوع كلبن الضأن ولبن المعز، أو اختلفت الصفة كالماء العذب والماء المالح، فيجعل
_________
(1) السويق: هو الناعم من دقيق الحنطة والشعير، ولت السويق: خلطه بالسمن.

(4/2518)


خلطهما استهلاكاً، ويعتبر الحكم في الخليط للغلبة كما في حالة اختلاط الجنسين (1).

5 - الحلف على الإدام: لو حلف لا يأكل إداماً، فالإدام: كل مايصطبغ (2) به مع الخبز عادة كاللبن والزيت والمرق والخل والعسل ونحوها، وما لا يصطبغ به فليس بإدام مثل: اللحم والجبن والبيض، وهذا قول أبي حنيفة، وفي رواية عن أبي يوسف. وقال محمد وبقية الفقهاء وفي رواية أخرى عن أبي يوسف: إن كل ما يؤكل بالخبز: فهو إدام مثل اللحم والبيض والجبن، بدليل ما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «سيد إدام أهل الجنة اللحم» (3) ولأن الإدام من الائتدام وهو الموافقة، والموافقة بين هذه الأشياء وبين الخبز في الأكل أمرها ظاهر، فكانت إداماً، ولأن الناس يأتدمون بها عرفاً وعادة. وهذا هو الرأي الأظهر المفتى به عند الحنفية.
وبناء عليه هناك ثلاثة أوجه في أكل الإدام:
آـ إن أكل ما يؤتدم به كالزيت والخل يحنث بالاتفاق؛ لأن هذه الأشياء تصير تبعاً للخبز، ولا تؤكل مقصودة بنفسها، وهذا هو معنى الإدام.
ب ـ إن أكل مع الخبزوالجبن واللحم والبيض: يحنث على الرأي المختار، وهو قول محمد. ولا يحنث على الرأي المرجوح وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف.
_________
(1) أنظر ما ذكر في المبسوط: 8/ 182 وما بعدها، الفتاوى الهندية: 2/ 76 وما بعدها، البدائع: 3/ 62 ومابعدها، فتح القدير: 4/ 45 وما بعدها، تبين الحقائق: 3/ 126، الدر المختار: 3/ 97.
(2) يقال اصطبغ بالصبغ أي الإدام: ائتدم.
(3) رواه ابن ماجه وابن أبي الدنيا عن أبي الدرداء مرفوعاً به بلفظ: «سيد طعام أهل الدنيا وأهل الجنة: اللحم» وسنده ضعيف، ورواه ابن قتيبة في غريبه والطبراني عن بريدة مرفوعاً أيضاً بلفظ: «سيد طعام أهل الدنيا والآخرة اللحم» رواه أبو نعيم في الطب عن علي ابن أبي طالب بلفظ: «سيد طعام أهل الدنيا والآخرة: اللحم» أو «خير طعام .. » (أنظر نيل الأوطار: 8/ 222 , المقاصد الحسنة للسخاوي: ص 244 , الجامع الصغير: 2/ 35).

(4/2519)


وأما الأرز: فإن كان في بلد يؤكل تبعاً للخبز يكون إداماً عند محمد، فيحنث بأكله، وإن كان يؤكل مقصوداً بنفسه في عرف الناس كما في بلاد الشرق الأقصى، فلا يحنث، لأنه ليس إداماً عندهم.
جـ ـ وإن أكل مع الخبز عنباً وسائر الفواكه أو البقول: لا يحنث بالاتفاق، لأنه تؤكل وحدها، ولا تؤكل إداماً مقصوداً، بل هي تبع للأكل مع الإدام، إلا في موضع تؤكل تبعاً للخبز غالباً
مراعاة للعرف (1).

6 - عدم أكل اللحم: لو حلف لا يأكل لحماً، فأي لحم أكل من سائر الحيوان غير السمك حنث. أما إن أكل سمكاً فلا يحنث وإن سماه الله عز وجل لحماً في قوله تعالى: {لحماً طرياً} [فاطر:12/ 35] لأنه لا يسمى لحماً في العرف ولا يراد به عند الإطلاق اسم اللحم، فإن الرجل يقول: ما أكلت اللحم كذا يوماً، وإن كان قد أكل سمكاً، وإطلاق القرآن عليه مجرد تسمية. وهذا هو مذهب الشافعية أيضاً (2)، ولا يشمل الكَرْش والكَبِد والطِّحال والقلب في الأصح عند الشافعية، ويشمل لحم الرأس واللسان وشحم الظهر والجَنْب.
وقال المالكية والحنابلة: يحنث بأكل شحم الظهر والجنب وبأكل السمك، لأن الله سماه لحماً في قوله سبحانه: {وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً} [النحل:14/ 16]، وقال: {ومن كلٍّ تأكلون لحماً طرياً} [فاطر:12/ 35]، ولأنه من جسم حيوان (3).
_________
(1) امبسوط: 8/ 177، البدائع 3/ 57، الدر المختار: 3/ 103 وما بعدها، فتح القدير: 4/ 54، تبين الحقائق: 3/ 131، المغني: 8/ 805.
(2) المهذب 2/ 134، مغني المحتاج: 4/ 336.
(3) المغني: 8/ 809 , 811 وما بعدها , الشرح الكبير: 2/ 143.

(4/2520)


واللحم عند الحنابلة لا يشمل الشحم والمخ والدماغ، إلا إن أراد اجتناب الدسم، فيحنث بأكل الشحم.
ولو أكل شحم الظهر يحنث عند الحنفية؛ لأنه لحم سمين. ولو أكل شحم البطن والألية: لا يحنث، لأنه لا يسمى لحماً، ولا يباع مع اللحم أيضاً، فإن نواه يحنث؛ لأنه شدد على نفسه، ولأن فيه معنى اللحم من وجه وهو الدسومة. وكذلك يحنث إن نوى لحم السمك، لأنه لحم ناقص في معنى اللحمية.
ولو أكل أحشاء البطن مثل الكرش والكبد والقلب والكلي والرئة والأمعاء والطحال: ذكر الكرخي أنه يحنث في عادة أهل الكوفة في زمن أبي حنيفة، لأن ذلك يباع مع اللحم، وأما في الموضع الذي لا يباع مع اللحم كما في عرفنا الحاضر فلا يحنث به.
ولو أكل لحم الرأس من الحيوانات، سوى السمك: يحنث؛ لأن الرأس عضو من أعضاء الحيوان، فكان لحمه كلحم سائر الأعضاء، بخلاف ما إذا حلف لايشتري لحماً، فاشترى رأساً: إنه لا يحنث، لأن مشتريه لا يسمى مشتري لحم، وإنما يقال: اشترى رأساً (1).

7 - عدم أكل الشحم: ولو حلف لا يأكل شحماً فاشترى شحم الظهر لم يحنث عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد؛ لأنه لا يسمى شحماً عرفاً وعادة، بل يسمى لحماً سميناً، فلا يتناوله اسم الشحم عند الإطلاق، وتسمية الله تعالى إياه شحماً لا يدل على دخوله تحت اليمين إذا لم يكن متعارفاً، والأيمان مبنية على العرف، وإنما يحنث بشحم البطن والأمعاء.
_________
(1) المبسوط: 8/ 176، البدائع: 3/ 58، فتح القدير: 4/ 47, تبين الحقائق: 3/ 127، الدر المختار: 3/ 99.

(4/2521)


وقال الصاحبان والمالكية: يحنث بأكل شحم الظهر أيضاً، لقوله تعالى: {ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما} [الأنعام:146/ 6] والمستثنى من جنس المستثنى منه، فدل أن شحم الظهر شحم حقيقة (1) وهذا ما يؤيده عرف اليوم أنه شحم.

8 - عدم أكل الرأس أو شرائه: لو حلف لا يأكل رأساً أو لا يشتري: إن نوى الرؤوس كلها انصرف إليها، لأنه نوى حقيقة كلامه وشدد على نفسه. وإن لم يكن له نية فإن اسم الرأس يتناول جميع ما يباع في بلد الحالف من الرؤوس.
وكان أبو حنيفة رحمه الله يقول أولاً: يدخل فيه رأس الإبل والبقر والغنم، ثم رجع فقال: يحنث في رأس البقر والغنم خاصة. وقال الصاحبان: لا يحنث إلا في رأس الغنم خاصة.
قال متأخرو الحنفية: وهذا اختلاف عصر وزمان وتبدل عادة لا اختلاف حجة وبرهان، إذ مسائل الأيمان مبنية على العرف، فتدورمعه (2).
وقال الشافعية (3): من حلف لا يأكل الرؤوس، ولا نية له، حنث برؤوس تباع وحدها، وهي
رؤوس الغنم قطعاً، وكذا الإبل والبقر على الصحيح؛ لأن ذلك هو المتعارف. ولا يحنث بأكل رؤوس طير وحوت وصيد وخيل إلا ببلد تباع فيه مفردة، لكثرتها واعتياد أهلها، فيحنث بأكلها فيه؛ لأنها كرؤوس الأنعام في حق غيرهم.
_________
(1) المراجع السابقة: فتح القدير: ص 48، تبيين الحقائق: ص 128، الدر المختار: ص100، مغني المحتاج: 337/ 4، الشرح الكبير: 144/ 2.
(2) انظر المبسوط، المرجع السابق، فتح القدير، المرجع السابق: ص 52، تبيين الحقائق: ص130، الدر المختار: ص 102، البدائع: ص 59.
(3) مغني المحتاج: 335/ 4.

(4/2522)


9 - عدم أكل البيض: إذا حلف لا يأكل بيضاً: فإن نوى بيض كل شيء، يقع عليه عند الحنفية؛ لأنه نوى حقيقة كلامه، وشدد على نفسه وإن لم تكن له نية فيقع على ماله قشر: وهو بيض الطير والدجاج والأوز، بدلالة العرف (1).ويقع اسم البيض عند الشافعية (2) على كل ما يفارق بائضه في الحياة كدجاجة ونعامة وحمام، لا سمك وجراد.
10 - عدم أكل الطبيخ: لو حلف لا يأكل طبيخاً: فإن نوى اللحم وغيره يقع عليه، لأنه طبيخ حقيقة، وفيه تشديد على نفسه. وإن لم ينو شيئاً ينصرف إلى المتعارف عليه وهو كل مطبوخ بالماء. وكان العرف السابق يعني بالطبيخ: اللحم المطبوخ بالماء ليسهل أكله، ويعني أيضاً المرقة المتخذة منه لما فيها من أجزاء اللحم.
11 - عدم أكل الشواء: لو حلف لا يأكل شواء ونوى أكل لحم مشوي بالنار: يحنث بأكل أي مشوي، لأنه نوى حقيقة كلامه وإن لم يكن له نية فإنما يقع على اللحم خاصة لتعارف الناس في السابق عليه، وأما اليوم فينصرف إلى ما يتعارفه الناس أيضاً.
12 - عدم أكل الحلو: إذا حلف لا يأكل حلواء أو حلواً أو حلاوة: فالأصل الذي كان مقرراً عند السابقين: هو أن الحلو: هو ما ليس من جنسه حامض. وغير الحلو: ما كان من جنسه حامض، والمرجع فيه إلى العرف.
فيحنث بأكل الخبيص والعسل والسكر والرطب والتمر والتين وأشباهها، لأنه ليس من جنسها حامض، ولا يحنث بأكل العنب الحلو والبطيخ الحلو والرمان الحلو والإجاص الحلو والتفاح الحلو والزبيب؛ لأن من جنسها ما ليس بحلو، فلم يخلص معنى الحلاوة فيها.
_________
(1) البدائع: 59/ 3.
(2) مغني المحتاج: 336/ 4.

(4/2523)


وأما الحلواء: فيقع على المصنوع من الحلاوة وحدها، أو مع غيرها كالخبيص والناطف: وهو ما يصنع من الطحينة والسكر (1).
والحقيقة أن تفسير الحلوى وغيرها مرجعه إلى العرف كما قالوا، ففي عرفنا يراعى ما هو المقصود من الحلويات أو الحلاوة عند الناس.
قال ابن عابدين: وفي زماننا، الحلو: كل ما يتحلى به من فاكهة وغيرها كتين وعنب وخبيصة وكنافة وقطائف، وأما الحلاوة والحلوى: فهي اسم لنوع خاص كالجوزية والسمسمية مما يعقد، وكذا ما يطبخ من السكر أوالعسل بطحين أو نشا (2).

13 - عدم أكل الفاكهة: الكلام في الحلف على ألا يأكل الفاكهة على النحو الذي ذكره فقهاء الحنفية بحسب عرفهم السابق يتناول أصنافاً ثلاثة أعرضها هنا عرضاً تاريخياً، ثم أذكر الحكم الفقهي الدائم:
الصنف الأول: يحنث به باتفاق الحنفية: وهو أنه يقع على ثمرة كل شجرة سوى العنب والرطب والرمان، سواء منها الطري واليابس؛ لأنه ينطبق عليها اسم الفاكهة: وهو كل ما يتفكه به ويؤكل قبل الطعام وبعده، أي يتنعم به زيادة على المعتاد.
الصنف الثاني: لا يحنث به بالاتفاق أيضاً: وهو أن يأكل القثاء والخيار والجزر؛ لأن معنى التفكه غير موجود فيها بحسب المعتاد، لأنها من البقول بيعاً وأكلاً.
_________
(1) المبسوط: 178/ 8، البدائع: 59/ 3، فتح القدير: 52/ 4، تبيين الحقائق: 129/ 3.
(2) رد المحتار على الدر المختار: 103/ 3.

(4/2524)


الصنف الثالث: اختلفوا فيه وهو العنب والرطب والرمان: فعند أبي حنيفة لا يحنث بها؛ لأن الفاكهة من التفكه: وهو التنعم بما لا يتعلق به البقاء زيادة على المعتاد، وهو مما لا يصلح غذاء ولا دواء، وهذه الأشياء مما يتغذى بها ويتداوى بها، لأن الرطب والعنب يؤكلان غذاء، ويتعلق بهما بقاء الجسد. وبعض الناس في بعض المواضع يكتفون بها. والرمان يؤكل للتداوي، فليس في هذه الأشياء معنى التفكه الكامل، فلا يتناولها اسم الفاكهة، ويؤيده قوله تعالى: {فأنبتنا فيها حباً، وعنباً وقضباً، وزيتوناً ونخلاً، وحدائق غُلْباً، وفاكهة وأبّا، متاعاً لكم ولأنعامكم} [عبس:27/ 80 - 32] فالله سبحانه عطف الفاكهة على العنب، والمعطوف غير المعطوف عليه.
وقال الصاحبان: يحنث بأكل هذه الأشياء؛ لأن معنى التفكه موجود فيها عرفاً، فإنها أعز الفواكه، والتنعم بها يفوق التنعم بغيرها.
هذا هو مذهب الحنفية في الفاكهة، والعبرة الآن للعرف، فيحنث الحالف بكل ما يعد فاكهة عرفاً. وأما قول أبي حنيفة بأن العنب والرطب والرمان ليس بفاكهة، فهذا اختلاف عرف وزمان، وكان في زمنه لا تعد هذه الأشياء من جملة الفواكه، فأفتى بحسب عرف زمانه، وقد تغير العرف في زمان الصاحبين، فكانت فتواهما مخالفة لفتوى الإمام رضي الله عنه.
ولو حلف لا يأكل فاكهة يابسة فأكل الجوز واللوز والتين ونحوها: فإنه كان في الماضي يحنث؛ لأن اسم الفاكهة يطلق على الرطب واليابس منها، وأما في عرفنا فلا يحنث في الجوز واللوز، لأنه لا يتفكه بهما (1).
_________
(1) المبسوط: 179/ 8، البدائع: 60/ 3 ومابعدها، فتح القدير: 53/ 4، تبيين الحقائق: 130/ 4 ومابعدها، الدر المختار: 103/ 3.

(4/2525)


وقال المالكية والشافعية والحنابلة (1): يدخل في فاكهة: رُطَب النخيل وعنب ورمان وأتر ُجّ (نارنج) ورَطْب ويابس وليمون ونَبْق (ثمر حمل السدر)، وبِطّيخ ولبُّ فُسْتق وبُنْدق وغيرهما من اللبوب كلبّ لوز وجوز، في الأصح، ولا يشمل القثاء والخيار والجزر والباذنجان.

14 - عدم أكل الحنطة: لو حلف لا يأكل من هذه الحنطة يقع على أكل عينها مقلية (2) ومطبوخة، ولا يقع على الحنطة النيئة إلا بالنية، كما لا يقع على الخبز، وما يتخذ من الدقيق إلا أن ينويه فيحنث به، وهذا عند أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لأن اسم الحنطة لا يقع على الخبز حقيقة، فحملها على الخبز يكون حملاً على المجاز، والحقيقة أولى.
ورأى الشافعية (3) أنه يحنث بأكل الحنطة مطبوخة ونيئة ومقلية، ولا يحنث بأكل طحينها وسويقها وعجينها وخبزها. كذلك لا يتناول الرطب تمراً ولا بُسْراً (4)، ولا يتناول العنب زبيباً.
وقال الصاحبان رحمهما الله والمالكية: إن أكل الحنطة خبزاً حنث أيضاً، كما لو أكل من عينها؛ لأن المتعارف في إطلاق أكل الحنطة هو أكل المتخذ منها وهو الخبز، لا أكل عينها، يقال: فلان يأكل من حنطة كذا أي من خبزها، ومطلق الكلام يحمل على المتعارف. ومنشأ الخلاف في هذه القضية راجع إلى اختلافهم في مسألة في أصول الفقه: وهي أن الكلام إذا كان له حقيقة مستعملة ومجاز متعارف، فعند أبي حنيفة: الحقيقة أولى من المجاز المتعارف. وعند الصاحبين:
_________
(1) مغني المحتاج: 340/ 4 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 163، المغني: 804/ 8.
(2) المقلية: هي التي يغليها الناس على النار ويأكلونها قضماً، وهي التي تسمى في عرف بلادنا (بليلة).
(3) مغني المحتاج: 338/ 4.
(4) قال أهل اللغة: ثمر النخل أوله طلع وكافور، ثم خَلال، ثم بلح، ثم بسر، ثم رطب، ثم تمر.

(4/2526)


المجاز المتعارف أولى. فمن حلف لا يشرب من الفرات أو من هذا النهر فعند أبي حنيفة: يقع على الشرب كرعاً (1) حتى لو اغترف بإناء أو بيده: لا يحنث. وعند الصاحبين: يقع عليهما أخذاً بعموم المجاز.
وعموم المجاز: معناه أن يكون للمجاز أفراد كثيرة، ومن جملة أفراده محل الحقيقة، فتدخل الحقيقة في المجاز، كمن حلف لا يدخل دار فلان، فإنه مجاز عن المسكن، وحقيقته الدار المملوكة لفلان، فيدخل في اليمين: ما يسكنه كيفما كان، سواء أكان مستأجراً أم عارية أم ملكاً لعموم المجاز اتفاقاً.
عدم أكل الدقيق: ولو حلف لا يأكل من هذا الدقيق، فأكل مما يتخذ منه وهو الخبز: يحنث؛ لأن عينه لا يؤكل، وإنما يؤكل عادة خبزاً، ولا يستف إلا نادراً، والنادر ملحق بالعدم. فإن نوى لا يأكل عين الدقيق: لا يحنث بأكل ما يخبز منه، لأنه نوى حقيقة كلامه.
عدم أكل الخبز: ولو حلف لا يأكل خبزاً فيمينه على حسب المعتاد عند أهل البلد فيما يعتبر أكله خبزاً، وذلك خبز الحنطة والشعير، لأنه هو المعتاد في غالب البلدان (2).
والخبز في الحلف على أكله يتناول عند الشافعية (3) كل خبز كحنطة وشعير وأرز وباقلا (فول) وذ ُرة وحَمِّص.
وبناء على مسألة الدقيق: إذا حلف لا يأكل من هذه الشجرة فأكل من ثمرتها: يحنث؛ لأن عينها لا تؤكل.
_________
(1) كَرع في الماء أو الإناء: مد عنقه وتناول الماء بفيه من موضعه.
(2) انظر المبسوط: 181/ 8، البدائع، المرجع السابق: ص 61 ومابعدها، فتح القدير: 50/ 4 ومابعدها، تبيين الحقائق: 129/ 3، الدر المختار: 100/ 3 ومابعدها، الشرح الكبير: 145/ 2.
(3) مغني المحتاج: 339/ 4.

(4/2527)


15 - الحلف على عدم الأكل وقصد طعام خاص: لو حلف لا يأكل أو لا يشرب، أو لا يلبس، ونوى طعاماً خاصاً وشراباً خاصاً، وثوباً: فإنه لا يصدق؛ لأنه نوى خلاف مقتضى كلامه وهو لا عموم له، فلا يحتمل الخصوص، والنية إنما تعمل في الملفوظ لتعيين بعض محتملاته. أما لو قال: لا آكل طعاماً، أو لا ألبس ثوباً، ونوى طعاماً بعينه وثوباً بعينه: يصدق ديانة لا قضاء، لأنه نوى تخصيص كلامه الظاهر منه العموم ولكنه يحتمل الخصوص (1).
وذكر المالكية (2): أن من حلف ألا يأكل رغيفاً، فأكل بعضه، فإنه يحنث في المشهور، ولو حلف أن يأكله، لم يبر إلا بأكل جميعه. والقاعدة عندهم أن من حلف على فعل يحمل على أكثر ما يحتمله اللفظ على المشهور. ومن حلف على فعل شيء حنث بأكل ما يشتق منه، فمن حلف ألا يأكل قمحاً، حنث بأكل خبزه، ومن حلف ألا يأكل لبناً، حنث بأكل الجبن، ومن حلف ألا يأكل عنباً، حنث بأكل الزبيب.

الحلف على الشرب:
عرفنا معنى الشرب: وهو إيصال مالا يحتمل المضغ من المائعات إلى الجوف، فلو حلف لا يشرب، فأكل: لا يحنث، كما لو حلف لا يأكل، فشرب: لا يحنث؛ لأن الأكل والشرب فعلان متغايران. وإذا حلف لا يشرب ولا نية له: فأي شراب شرب من ماء أو غيره يحنث، لأنه منع نفسه عن الشرب عموماً، وسواء شرب قليلاً أو كثيراً، لأن بعض الشراب يسمى شراباً.

ولو حلف لا يشرب من دجلة أو من الفرات: قال أبو حنيفة: لا يحنث ما لم يشرب منه كرعاً: وهو أن يضع فاه عليه، فيشرب منه، فإن أخذ الماء بيده أو بإناء لم يحنث.
_________
(1) البدائع: ص 66، تبيين الحقائق: 133/ 3، الدر المختار: 105/ 3 ومابعدها.
(2) القوانين الفقهية: ص 164 ومابعدها.

(4/2528)


وقال الصاحبان: يحنث سواء شرب كرعاً أو بإناء أو اغترف بيده. دليلهما: أن مطلق اللفظ ينصرف إلى المتعارف عند أهل اللغة. والمتعارف عندهم: أن من رفع الماء من النهر بيده أو بإناء أنه يسمى شارباً من النهر، فيحمل مطلق الكلام على غلبة المتعارف، وإن كان مجازاً بعد أن كان متعارفاً، كما ذكرت قريباً، وهو مثل ما لو حلف لا يأكل من هذه الشجرة، فإنه ينصرف إلى الثمرة. ودليل أبي حنيفة: أن مطلق الكلام محمول على الحقيقة، وحقيقة الشرب من النهر: هو أن يكرع منه كرعاً بأن يضع فاه عليه فيشرب منه.

الشرب من الجب أو البئر: إن حلف لا يشرب من ماء هذا الجب (1) أو البئر فاغترف بإناء أو بيده من الأول واستقى من الثاني وشرب: يحنث بالاتفاق، لأنه لا يمكن الشرب منه كرعاً.
فلو حلف لا يشرب من هذا الجب: فهو على الاختلاف الذي ذكرته في الحلف من دجلة أو الفرات، فلا يحنث عند أبي حنيفة ما لم يكرع منه. وعند الصاحبين: يحنث مطلقاً (2).

الحلف على الغداء والعشاء والسحور: الغداء والعشاء والسحور عبارة عن أكل ما يقصد به الشبع عادة، ويعتبر غداء كل بلدة: ما تعارفه أهلها، فإن كان خبزاً فخبز، وإن كان لحماً فلحم، حتى إن الحضري إذا حلف على ترك الغداء، فشرب اللبن لم يحنث، والبدوي بخلافه، لأنه غداء في البادية أي أن المعتبر فيما يتغدى به عادة أهل بلد الحالف.
ولا بد من أن يأكل أكثر من نصف الشبع في غداء وعشاء وسحور.
_________
(1) الجب بضم الجيم: البئر العميقة.
(2) المبسوط: 186/ 8 ومابعدها، البدائع: 66/ 3، فتح القدير: 58/ 4 ومابعدها، تبيين الحقائق: 134/ 3.

(4/2529)


والغداء في الماضي: هو الأكل من طلوع الفجر إلى الظهر.
والعشاء في الماضي: هو الأكل من صلاة الظهر إلى نصف الليل؛ لأن مابعد الزوال يسمى عشاء، وعليه تسمى الظهر إحدى صلاتي العشاء في الحديث، فإنه ورد أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشاء ركعتين: يريد به الراوي: الظهر أو العصر.
وفي عرفنا اليوم يعتبر الأكل من طلوع الفجر إلى ارتفاع الضحى الأكبر فطوراً، ومابعده يدخل وقت الغداء وينتهي إلى العصر، لأنه أول وقت العشاء في عرفنا، وحينئذ يدخل وقت العشاء: وهو مابعد صلاة العصر، وهذا العرف يعمل به.

والسحور: هو الأكل من بعد نصف الليل إلى طلوع الفجر، مأخوذ من السحر وهو الثلث الأخير من الليل، وقد أطلق على النصف الثاني من الليل لقربه من الثلث الأخير.
وأما التضحي: فهو الأكل في وقت الضحى. ووقت الضحى: هو من بعد طلوع الشمس من الساعة التي تحل فيها الصلاة إلى نصف النهار؛ لأن هذا وقت صلاة الضحى.
وأما التصبيح: فهو ما بين طلوع الشمس إلى ارتفاع الضحوة الكبرى لأنه من الإصباح، وهذا يعرف بتسمية أهل اللغة.
ولو حلف ليأتينه غدوة: فهذا بعد طلوع الفجر إلى نصف النهار (1).
وإن حلف ألا يأكل شيئاً فشربه أو لا يشربه فأكله، لا يحنث عند الجمهور، وعن الإمام أحمد روايتان: إحداهما ـ يحنث؛ لأن اليمين على ترك أكل شيء أو شربه يقصد بها في العرف اجتناب ذلك الشيء، فحملت اليمين عليه إلا أن ينوي.
_________
(1) البدائع: 69/ 3، فتح القدير: 5/ 4، تبيين الحقائق: 132/ 3، الدر المختار: 105/ 3.

(4/2530)


والثانية ـ لا يحنث؛ لأن الأفعال أنواع كالأعيان (1).

المطلب الخامس ـ الحلف على اللبس والكسوة:
من حلف ألا يلبس ثوباً وهو لابسه، نزعه في الحال، فإن لم يفعل حنث بالاتفاق (2).

وإذا حلف إنسان (لا يلبس قميصاً أو سراويل أو رداء) فاتزر به: لا يحنث، وكذا إذا اعتم بشيء مما ذكر؛ لأن المطلق تعتبر فيه العادة، والاتزار والتعمم ليس بمعتاد في هذه الأشياء، فلا يحنث.
ولو حلف (لا يلبس هذا القميص أو هذا الرداء) فعلى أي حال لبسه حنث بالاتفاق (3).
حتى بالاتزار والتعمم؛ لأن اليمين إذا تعلقت بعين اعتبر فيها وجود اسم العين، ولا تعتبر فيها الصفة المعتادة.

ولو حلف (لا يلبس من غزل فلانة شيئا ً) فلبس ثوباً قد غزلته فلانة: يحنث في يمينه؛ لأن الغزل عينه لا يلبس، فيقع على ما يصنع منه، وهو الثوب. ولو نوى الغزل بعينه: لا يحنث إذا لبس الثوب، لأنه نوى حقيقة كلامه.
ولو حلف (لا يلبس ثوباً من غزل فلانة) يقع على الثوب، ولو نوى الغزل لايصدق.
ولو حلف (لا يلبس ثوباً من غزل فلانة) فلبس ثوباً من غزلها وغزل غيرها: لايحنث باتفاق الحنفية والشافعية؛ لأن الثوب اسم لشيء مقدر، فلا يقع على بعضه.
_________
(1) المغني: 816/ 8.
(2) المغني: 777/ 8.
(3) المغني: 779/ 8، الشرح الكبير: 154/ 2.

(4/2531)


وعند الحنابلة روايتان: إحداهما: يحنث كالصورة الآتية بعدها، والثانية: لايحنث.
ولو حلف (لا يلبس من غزل فلانة) فلبس ثوباً من غزلها وغزل غيرها: حنث بالاتفاق (1)، لأن البعض يسمى غزلاً.
أما لو حلف (لا يلبس من غزل فلانة) ولم يقل ثوباً: لم يحنث في التكة والزر والعروة والطوق؛ لأن هذا ليس بلبس في العادة، فلو لبس ثوباً تلابيبه (2) من غزل فلانة: يحنث؛ لأن هذا القدر ملبوس من غزلها بلبس الثوب (3).

ومن حلف (لا يلبس حليا ً) فلبس خاتم فضة لم يحنث؛ لأنه ليس بحلي عرفاً ولا شرعاً، حتى أبيح استعماله للرجال، وإن كان من ذهب حنث، لأنه حلي ولهذا لا يحل استعماله للرجال، ولو لبس عقد لؤلؤ يحنث عند الصاحبين، لأنه حلي حقيقة، والتحلي به معتاد، وهو الرأي المفتى به خلافاً لرأي أبي حنيفة القائل بأنه لا يحنث. وقال غير الحنفية: يحنث بلبس الفضة واللؤلؤ (4).
ولو حلف (لا يكسو فلاناً شيئاً) ولا نية له، فكساه قلنسوة، أو خفين أو جوربين: حنث؛ لأن الكسوة اسم لما يكسى به، وذلك يوجد في القليل والكثير.
ولو حلف (لا يكسو فلاناً ثوباً) فأعطاه دراهم يشتري بها ثوباً لم يحنث، لأنه لم يكسه، وإنما وهبه دراهم، وشاوره فيما يفعل بها.
_________
(1) المغني: 781/ 8.
(2) التلابيب: جمع تلبيب وهو ما في موضع اللبب من الثياب، واللبب واللبة: موضع القلادة من الصدر.
(3) انظر المبسوط: 2/ 9 ومابعدها، البدائع: 69/ 3 ومابعدها، تحفة الفقهاء، الطبعة القديمة: 483/ 2، فتح القدير: 96/ 4 ومابعدها.
(4) فتح القدير: ص97، المهذب: 136/ 2، المغني: 779/ 8.

(4/2532)


ولو أرسل له ثوب كسوة: حنث؛ لأن حقوق العقد أو اليمين لا تتعلق بالرسول، وإنما تتعلق بالمرسل (1).

المطلب السادس ـ الحلف على الركوب:
إذا حلف (لا يركب دابة) فهو يقع على الدواب التي يركبها الناس في حوائجهم في مواضع إقامتهم، كالفرس والحمار والبغل، فلو ركب ظهر إنسان أو بعيراً أو بقرة أو فيلاً: لا يحنث استحساناً إلا بالنية. والقياس أن يحنث في ركوب كل حيوان، لأن الدابة لفظ عام يشمل كل ما يدب على الأرض. قال تعالى: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} [هود:6/ 11] إلا أنهم استحسنوا وحملوا اليمين على ما يركبه الناس في حوائجهم غالباً: وهو الخيل والبغال والحمير تخصيصاً للعموم بالعرف والعادة.
قال صاحب الدر: وينبغي حنثه بالبعير في مصر والشام أي (إذا كان ممن يركب البعير كالمسافر وأهل البدو) وبالفيل في الهند للتعارف.
ولو حمل على الدابة مكرهاً فلا حنث.

ولو حلف (لا يركب فرسا ً) فركب برذوناً، أو حلف لا يركب برذوناً (2) فركب فرساً: لم يحنث؛ لأن كل حيوان يختلف عن الآخر، فالفرس عربي، والبرذون أعجمي.
ولو حلف (لا يركب) وقال: نويت الخيل: لا يصدق قضاء ولا ديانة، لأن المركوب ليس بمذكور، فلا يحتمل اللفظ التخصيص.
_________
(1) المبسوط: 4/ 9، البدائع: 71/ 3.
(2) البرذون: التركي من الخيل، والجمع البراذين، وخلافها العراب

(4/2533)


فإن حلف (لا يركب الخيل) فركب برذوناً أو فرساً: يحنث لأن الخيل اسم جنس، فيعم جميع أنواعه.
ولو حلف (لا يركب دابة) وهو راكبها فمكث على حاله ساعة: حنث؛ لأن الركوب له أمثال تتجدد مع الزمن، فله حكم الابتداء، مثل ما لو حلف لا يلبس وهو لا بس، أو لا يجلس وهو جالس (1).

المطلب السابع ـ الحلف على الجلوس:
إذا حلف (لا يجلس على الأرض) فجلس على شيء حائل بينه وبين الأرض كحصير أو بساط أو كرسي: لم يحنث، لأنه لا يسمى جالساً على الأرض؛ لأن الجالس على الأرض: من باشر الأرض، ولم يحل بينه وبينها شيء، بخلاف ما إذا حال بينه وبين الأرض ثيابه، فإنه لا يعتبر حائلاً لأن الثياب تبع له.
وإن حلف (لا يجلس على هذا الفراش) فجعل عليه فراشاً مثله، ثم جلس: لم يحنث؛ لأن الجلوس ينسب إلى الفراش الثاني دون الأول.
وخالف أبو يوسف في الفراش خاصة فقال: إذا حلف لا ينام على هذا الفراش، فجعل فوقه فراشاً آخر ونام عليه: حنث، لأنه يحصل به زيادة توطئة ولين، فيكونان مقصودين بالنوم عليهما.
واتفقوا على أنه لو حلف لا ينام على هذا الفراش فجعل فوقه ملاءة أي شرشفاً: حنث لأنه تبع للفراش، فلا يمنع أن يقال: نام على الفراش.
_________
(1) المبسوط، المرجع السابق: 12/ 3 وما بعدها، البدائع: 71/ 3، فتح القدير: 42/ 4 ومابعدها، الدر المختار ورد المحتار: 94، الفتاوى الهندية: 74/ 2.

(4/2534)


ولو حلف (لا يجلس على هذا السرير أو السطح) فجعل فوقه مصلى أو بساطاً، ثم جلس عليه: حنث؛ لأن السرير يجلس عليه هكذا غالباً، ويقال: نام على السطح، وإن كان نام على فراش.
فلو جعل فوق السرير سريراً أو بنى فوق السطح سطحاً: لم يحنث؛ لأن الجلوس ينسب إلى الثاني دون الأول.
ولو نوى الجلوس على ألواح هذا السرير مباشرة دون أن يكون فوقه شيء: يصدق ديانة فيما بينه وبين الله، لا قضاءً، لأنه خلاف المعتاد وإن كان حقيقة.

ولو قال: (والله لا أنام على ألواح هذا السرير) فجلس على بساط فوقه: لم يحنث، لأنه ما نام على ألواح.
ولو حلف (لا يجلس على الأرض) فجلس على السطح: يحنث لأنه يسمى أرض السطح (1).

المطلب الثامن ـ الحلف على السكنى:
إذا حلف (لا يسكن هذه الدار) فإن لم يكن ساكناً فيها فالسكنى: أن يسكنها بنفسه، وينقل إليها من متاعه ما يتأثث به، ويستعمله في منزله، فإذا فعل ذلك فهو ساكن، وحانث في يمينه؛ لأن السكنى هو الكون في المكان على طريق الاستقرار والمداومة، وهو يكون بما يسكن به عادة، ألا ترى أن من جلس في المسجد وبات فيه، لم يكن ساكناً في المسجد، ولو أقام فيه بما يتأثث به يسمى ساكن المسجد، فكان هذا معتبراً في اليمين.
وقال الشافعية والحنابلة (2): إن استدامة السكنى كابتدائها في وقوع اسم
_________
(1) البدائع: 71/ 3 ومابعدها، فتح القدير: 98/ 4، تبيين الحقائق: 155/ 3 ومابعدها.
(2) مغني المحتاج: 329/ 4، المغني: 767/ 8 وما بعدها.

(4/2535)


السكنى عليها، فإذا حلف ساكن الدار لايسكنها، فمتى أقام فيها بعد يمينه زمناً يمكنه فيه الخروج، حنث. وإن أقام لنقل متاعه لم يحنث؛ لأن الانتقال لايكون إلا بالأهل والمال، فيحتاج أن ينقل ذلك معه، حتى يكون منتقلاً. وإن أكره على المقام لم يحنث، لحديث العفو عن الاستكراه.

وإن كان الرجل ساكناً في الدار فحلف لا يسكنها: فإنه لا يبر في يمينه ما لم ينتقل بنفسه وأهله وولده ومتاعه وخادمه ومن يقوم بشأنه في منزله، لأن السكنى في الدار بهذه الأشياء، فكان ترك السكنى فيها بضدها، فإذا لم يأخذ في النقلة من ساعته مع الإمكان: يحنث في يمينه. وهنا ثلاثة افتراضات:
أحدها ـ إذا انتقل بأهله ومتاعه في الحال: لم يحنث عند أئمة الحنفية الثلاثة، ولا يؤثر وجود السكنى القليلة، لأنه لا يمكن الاحتراز عنه، فكان مستثنى دلالة. وقال زفر: يحنث لوجود شرط الحنث وهو السكنى.
الثاني ـ لو انتقل بنفسه، ولم ينتقل بأهله ومتاعه: يحنث عند أئمة الحنفية والحنابلة؛ لأن السكنى في المكان ـ كما تقدم ـ هي الكون في الشيء على وجه الاستقرار، ولا يكون هذا إلا بما يسكن به عادة، فإذا حلف لا يسكنها وهو فيها، فالبر في إزالة ما كان به ساكناً، فإذا لم يفعل حنث، ولأن من حلف لا يسكن هذه الدار فخرج بنفسه، وأهله ومتاعه فيها يسمى في العرف والعادة ساكن الدار. هذا بخلاف ما إذا حلف لا يسكن في بلد فخرج منه وترك أهله فيه: لم يحنث؛ لأن العادة لا يقال لمن بدمشق وأهله بحلب: إنه ساكن بحلب.
وقال الإمام الشافعي (1): لا يحنث، ويكفي أن يخرج ببدنه بنية التحول، لأن اليمين على سكناه، وقد ترك السكنى، فلم يحنث بترك أهله ومتاعه، كما لو
_________
(1) انظر مغني المحتاج: 329/ 4، المهذب: 132/ 2.

(4/2536)


حلف لا يسكن في بلد، فخرج بنفسه وترك أهله فيه. وقال الشافعي محتجاً على الحنفية: إذا خرجت من مكة، وخلَّفت دفيترات بها أفأكون ساكناً بمكة؟!. ومن حلف لا يسكن داراً معينة أو لا يقيم فيها، فليخرج في الحال، فإن مكث بلا عذر حنث، حتى ولو أخرج متاعه؛ لأن المحلوف عليه سكناه، وهو موجود، إذ السكنى تطلق على الدوام كالابتداء، أما إن اشتغل بأسباب الخروج كجمع متاع وإخراج أهل ولبس ثوب، فلم يحنث بمكثه لذلك؛ لأنه لا يعدّ ساكناً، وإن طال مقامه بسبب ذلك. وكذلك الدوام على التزوج أو التطهر أو اللبس أو الركوب أو القيام أو القعود، له حكم ابتداء هذه الأفعال عندهم.
وهذا بعكس الوطء والصوم والصلاة وبقاء الطيب، الدوام فيها ليس كالابتداء باتفاق الفقهاء (1).
الثالث ـ إذا انتقل بنفسه وأهله وماله ومتاعه وترك من أثاثه شيئاً يسيراً فإن أبا حنيفة قال: يحنث لأن السكنى قد ثبتت بكل ذلك فيبقى مابقي شيء منه.
وقال أبو يوسف: يعتبرنقل الأكثر، لأن نقل الكل قد يتعذر في بعض الأوقات.
وقال محمد: يعتبر ماتقوم به السكنى، قالوا: وهذا القول أحسن وأرفق بالناس. ولاشك أن من خرج على نية ترك المكان وعدم الرجوع إليه، ونقل من أمتعته مايقوم به أمر سكناه. وهو على نية نقل الباقي يقال عنه: ليس ساكناً فيه، بل انتقل منه، وسكن في مكان آخر، وبهذا يترجح قول محمد.

فإن منع من الخروج والتحول بنفسه ومتاعه، وأوثقوه وقهروه: لايحنث وإن أقامـ على وضعه أياماً، لأنه ليس بساكن، إنما هو أسكن فيها عن إكراه، فلايحنث.
_________
(1) المغني: 778/ 8.

(4/2537)


وقال محمد: إذا خرج الحالف من ساعته، وخلف متاعه كله في المسكن، ومكث في طلب المنزل أياماً ثلاثة، فلم يجد مايستأجره وكان يمكنه أن يخرج من المنزل ويضع متاعه خارج الدار: لايحنث؛ لأن هذا من عمل النقلة عادة، لأن المعتاد أن ينتقل من منزل إلى منزل لا أن يلقي متاعه على الطريق.
وقال محمد أيضاً: وإن كان الساكن موسراً وله متاع كثير، وهو يقدر على أن يستأجر من ينقل متاعه في يوم، فلم يفعل، وجعل ينقل بنفسه الأول فالأول، ومكث في النقلة سنة وهو لايترك الاشتغال بالنقل: فإنه لايحنث، لأنه لا يلزمه الانتقال بأسرع الوجوه.
وإن حلف لا يسكن هذه الدار وهو ساكن فيها، فتحول ببدنه فقط، وقال: ذلك عنيت بيميني: يصدق ديانة فيما بينه وبين الله تعالى ولايصدق قضاء، لأنه نوى خلاف الظاهر والعادة.
وإن كان حلف وهو غير ساكن فيها وقال: نويت الانتقال ببدني فقط يصدق ديانة وقضاء، لأنه نوى مايحتمله كلامه، ولأنه شدد على نفسه (1).

هل الدوام على السكنى له حكم الابتداء؟ قال الحنفية: دوام السكنى واللبس والركوب له حكم الابتداء، حتى لو حلف لايلبس هذا الثوب وهو لابسه أو لايركب هذه الدابة وهو راكبها، أو لايسكن هذه الدار وهو ساكنها، واستمر على ماكان عليه: حنث؛ لأن هذه الأفعال تتجدد بحدوث أمثالها. وذلك بعكس الدخول والخروج والتزوج والتطهر: لايعتبر الدوام عليها بمثابة إنشائها.
_________
(1) المبسوط: 162/ 8 ومابعدها، الفتاوى الهندية: 69/ 2، البدائع: 72/ 3 ومابعدها، فتح القدير: 36/ 4 ومابعدها، تبيين الحقائق: 119/ 3.

(4/2538)


والضابط الفارق بينهما: أن مايمتد فلدوامه حكم الابتداء كالقعود والقيام والنظر ونحوه، ومالا يمتد لا دوام له كالخروج والدخول. وهذا هو مذهب الشافعية أيضاً (1).
ويترتب على هذا أن الحالف على السكنى واللبس والركوب ونحوها إذا انتقل للحال أو نزع الثوب حالاً، أو نزل عن الدابة حالاً: لايحنث. وقال زفر: يحنث لوجود اللبس والركوب والسكنى بعد اليمين، وإن قل الانتظار، وهو كاف للحنث (2).

المطلب التاسع ــ الحلف على الضرب والقتل:
إذا حلف إنسان بطلاق زوجته ليضربنها حتى يقتلها أو حتى ترفع ميتة ولانية له، فإن ضربها ضرباً شديداً بر في يمينه، لأنه يراد بمثل هذا القول في العادة شدة الضرب دون الإماتة.
وقال الشافعية: البر بما يسمى ضرباً، فلا يكفي وضع اليد عليها ورفعها، ولايشترط فيه إيلام لصدق الاسم بدونه إلا أن يقول: ضرباً شديداً.

ولو حلف «ليضربن غلامه عشرة أسواط» فجمع عشرة أسواط، وضربه مرة واحدة، وأصاب كل سوط جلده: بر في يمينه ولايحنث عند الحنفية والشافعية، لأنه ضربه عشرة أسواط. فأما إذا لم يصب كل سوط جلده: فإنه يحنث، لأنه لايسمى ضارباً عشرة أسواط.
وقال المالكية والحنابلة (3): من حلف أن يضرب غيره مئة سوط فجمعها
_________
(1) مغني المحتاج: 331/ 4، المهذب: 132/ 2.
(2) المبسوط، المرجع السابق: ص35، تبيين الحقائق، المرجع السابق، الدر المختار: 3 ص 83.
(3) القوانين الفقهية: ص 164، المغني: 819/ 8، الشرح الكبير: 143/ 2.

(4/2539)


ضغثاً فيه عشرة أعواد، ثم ضربه بها ضربة واحدة لم يبر بيمينه؛ لأن معنى يمينه أن يضربه عشر ضربات، ولم يضربه إلا ضربة واحدة، فلم يبر، كما لو حلف ليضربنه عشر مرات بسوط.

ولو قال: (والله لا أقتل فلاناً بدمشق) أو قال: (والله لا أتزوج فلانة بدمشق) فضرب فلاناً بحلب فمات بدمشق، أو زوجه الولي امرأة بحلب، فبلغها الخبر بدمشق، فأجازت العقد حنث في اليمينين جميعاً.
وكذلك لو حلف على الزمان، فقال: (لا أفعل ذلك يوم الجمعة) فمات المحلوف عليه يوم الجمعة، أو أجازت المرأة النكاح يوم الجمعة: حنث الحالف.
وهكذا يعتبر في القتل مكان زهوق الروح وزمانه، كما يعتبر في النكاح مكان الإجازة وزمانها. ويجري هذا في البيع والشراء: يعتبر مكان الإجازة ويوم الإجازة.
وقال محمد: يعتبر في العقد مكان الفاعل وزمانه، وفي القتل كما قال أبو يوسف: يعتبر مكان زهوق الروح بالنسبة للمقتول وزمانه (1).

ومن حلف (لا يضرب امرأته) ففعل بها أي فعل يوجعها كالعض وعصر الحلق وشد الشعر ولو ممازحاً: يحنث؛ لأن الضرب اسم لفعل مؤلم، وقد تحقق الإيلام. وقيل: لا يحنث في حال الملاعبة، لأنه يسمى في العرف ممازحة لا ضرباً.
وإذا قال شخص: (إن لم أقتل فلاناً فامرأتي طالق) وفلان ميت: فإن كان الحالف عالماً بموته حين حلف حنث للحال؛ لأن يمينه تنعقد لتصور البر فيه، لأن
_________
(1) البدائع: 76/ 3 ومابعدها، الفتاوى الهندية: 118/ 2.

(4/2540)


الله تعالى قادر على إعادة الحياة فيه إذ الروح لا تموت، فيمكن قتله، ثم إنه يحنث في الحال للعجز عن البر في يمينه عادة مثل الحلف على صعود السماء.

وإن لم يعلم بموته لا يحنث عند أبي حنيفة ومحمد، لأنه عقد يمينه على حياة كانت فيه، ولا يتصور إزالتها، وقال أبو يوسف: يحنث لأن تصور البر ليس بشرط عنده لانعقاد اليمين. وهذا الخلاف جرى كما ذكر سابقاً في مسألة الكوز إذا كان يعلم ألا ماء فيه، فحلف وقال: (إن لم أشرب الماء الذي في هذا الكوز فامرأتي طالق) (1).
أما إن حلف أن يضرب فلاناً في غد، فمات الحالف في يومه، فلا حنث عليه عند الحنابلة والشافعية، وإن مات المحلوف عليه في الغد، حنث؛ لأنه لم يفعل ما حلف عليه في وقته من غير إكراه ولا نسيان، وهو من أهل الحنث (2). وينطبق هذا الحكم على من قال: والله لأشربن ماء هذا الكوز غداً، فاندفق اليوم، أو لآكلن هذا الخبز غداً، فتلف اليوم، يحنث.

المطلب العاشر ـ الحلف على ما يضاف إلى غير الحالف:
الحلف على ما في ملك فلان: إذا حلف إنسان على ما في ملك فلان: يحنث إذا كان الشيء مملوكاً له وقت فعل المحلوف عليه، سواء أكان ما في ملك فلان مملوكاً له وقت الحلف، أم لم يكن مملوكاً له حينذاك، كأن حلف (لا يأكل طعام فلان أو لا يشرب شراب فلان أو لا يدخل دار فلان، أو لا يركب دابة فلان، أو لا يلبس ثوب فلان) ولم يكن شيء منها في ملكه، ثم استحدث الملك فيها،
_________
(1) فتح القدير: 101/ 4، تبيين الحقائق: 159/ 3، الدر المختار: 143/ 3 ومابعدها. مغني المحتاج: 347/ 4.
(2) المغني: 786/ 8 ومابعدها.

(4/2541)


فإن زال الملك عن فلان، فحدث الفعل المحلوف عليه: لا يحنث بالاتفاق. وأما في حال وجود الملك فيحنث وهو الحكم المقرر في ظاهر الرواية عند الحنفية؛ لأن هذه اليمين عقدت على المنع من الفعل في ملك فلان، فيعتبر الملك القائم يوم الفعل. وهناك رواية أخرى في النوادر عن محمد، ورواية أخرى أيضاً عن أبي يوسف.
لكن إذا حلف (لا يكلم زوج فلانة أو امرأة فلان أو صديق فلان، أو ابن فلان، أو أخ فلان) فإنه يقع على ما كان متحققاً وقت الحلف، ولا يشمل ما يحدث من زوجية وصداقة وولد في المستقبل، فإن زال عقد النكاح ورابطة الصداقة، فكلم المحلوف عليه حنث بالاتفاق.
وإذا حلف على ما في ملك فلان مع التعيين بالإشارة، كأن قال: (لا أدخل دار فلان هذا، أو لا أركب دابة فلان هذا، أو لا ألبس ثوب فلان هذا) فباع فلان داره أو دابته، أو ثوبه ثم دخل أو ركب أو لبس بعد زوال الملك عن فلان: لم يحنث عند أبي حنيفة وأبي يوسف إلا أن يعني ذات الشيء خاصة. وقال محمد: يحنث وإن زال ملك فلان إلا أن يعني ما دامت ملكاً لفلان، فأبو حنيفة وأبو يوسف اعتبرا الإشارة وإضافة الملك لفلان معاً وقت حدوث الفعل للحكم بالحنث فما لم يوجدا لا يحنث. ومحمد يعتبر الإشارة فقط.
واتفقوا على أنه لو حلف (لا أكلم هذا الشخص) أو (لا أدخل هذه الدار) أو (لا أركب هذه الدابة) حنث بالمخالفة، لأنه تعتبر العين المشار إليها (1).
_________
(1) البدائع: 79/ 3.

(4/2542)


بحثان ملحقان بهذا المطلب:
البحث الأول ـ الحلف على فعل صادر من غير الحالف:
إذا حلف إنسان (لا يلبس مما يشتريه فلان) فاشتراه فلان مع غيره: لم يحنث، لأنه لبس ثوباً اشترى فلان بعضه لا كله.
ولو حلف (لا يأكل مما يشتريه فلان) فاشتراه فلان مع غيره فأكل منه حنث؛ لأنه قد أكل ما اشتراه فلان، لأن بعض الطعام طعام حقيقة، ويسمى أيضاً طعاماً عرفاً. وهذا بخلاف ما إذا حلف (لا يدخل دار فلان) فدخل داراً بينه وبين آخر، فإنه لا يحنث، لأن بعض الدار لا يسمى داراً. وكذلك لو حلف (لا يلبس ثوباً لفلان أو يشتريه فلان، أو نسجه فلان) فلبس ثوباً اشتراه فلان مع آخر، أو نسجه مع غيره، لأن بعض الثوب لا يسمى ثوباً.
أما لو حلف (لا يلبس من نسج فلان) فنسجه فلان مع غيره، فإنه يحنث؛ لأنه يقال عنه: من نسج فلان.
ولو حلف (لا يأكل من طبيخ فلان، أو من خبز فلان) فأكل مما طبخ فلان مع غيره أو من خبز مشترك بينه وبين غيره، حنث؛ لأن كل جزء من الطبيخ طبيخ، وكل جزء من الخبز يسمى خبزاً.
أما لو حلف (لا يأكل من قِدْر طبخها فلان) فأكل مما طبخ فلان مع غيره فلا يحنث؛ لأن كل جزء من القِدْر ليس بقدر.
وكذا لو حلف (لا يأكل لفلان رغيفاً) فأكل رغيفاً مشتركاً: لا يحنث، لأن بعضه لا يسمى رغيفاً. والمقصود من الخباز: هو الذي يضرب الخبز في التنور أو

(4/2543)


الفرن، دون من عجنه وبسطه. وأما الطابخ: فهو الذي يوقد النار، دون الذي ينصب القدر، ويصب الماء واللحم فيه؛ لأن ذلك من مقدمات الطبخ؛ لأن الطبخ ما ينضج به اللحم، وهو يحصل بإيقاد النار.
ولو حلف (لا يأكل من كسب فلان) فالكسب: ما صار ملكاً للإنسان بفعله أو بقوله، مثل الاستيلاء على المباحات، والاصطياد، والبيع، والإجارة وقبول الهبة والصدقة والوصية ونحوها مما يحتاج إلى قبول لترتب الأثر الشرعي عليه.
أما الميراث: فليس بكسب للوارث؛ لأنه يثبت له الملك فيه من غير إرادة منه.
ولو مات المحلوف عليه، وقد كسب شيئاً فورثه رجل، فأكل الحالف منه: حنث؛ لأنه أكل من أكساب المحلوف عليه، وهو ليس كسباً للوارث، فيظل منسوباً للمورث.
أما لو باع المحلوف عليه كسبه إلى رجل، فأكل منه الحالف فلا يحنث؛ لأن ملكيته انتقلت إلى المشتري، فلم يبق منسوباً إلى المالك الأصلي (1).

البحث الثاني - فعل الغير بأمر الحالف:
لو حلف إنسان على فعل، فقال: (والله لا أفعل كذا) ثم أمر غيره بأن يفعله، ففعل، ينظر في طبيعة المحلوف عليه:
_________
(1) البدائع: 57/ 3، 64.

(4/2544)


1 - إن كان فعلاً له حقوق (1) ترجع إلى الفاعل كالبيع والشراء والإجارة، والقسمة: لا يحنث؛ لأن حقوق هذه العقود تختص بالعاقد المباشر لها دون الآمر وحينئذ لا ينسب الفعل إلى الآمر، وإنما ينسب إلى الفاعل باعتبار أنه العاقد في الحقيقة. وأما ما يرجع للآمر فهو حكم العقد أي (الغرض والغاية من إنشائه) ففي البيع: الحكم هو انتقال ملكية المبيع للمشتري وملكية الثمن للبائع.
ففي هذه الزمرة من العقود لا يحنث الحالف على فعلها كما بينت إلا إذا كان الحالف ممن لا يتولى القيام بهذه العقود بنفسه، كالقاضي والسلطان ونحوهما، فيحنث بمجرد أمر غيره بهذه الأفعال؛ لأن المعتاد أن تتم هذه العقود بواسطة غيره.
وكذلك لو كان الوكيل هو الحالف فإنه يحنث؛ لأن حقوق العقد راجعة إليه، وأنه هو العاقد حقيقة، لا الآمر.
2 - وإن كان المحلوف عليه فعلاً ترجع حقوقه إلى الآمر، أو كان مما ليس له حقوق، كالنكاح والطلاق والهبة والصدقة والكسوة وقضاء الحقوق واقتضائها والادعاء أمام القضاء والشركة: بأن حلف لا يشارك رجلاً، فأمر غيره بأن يعقد عقد الشركة معه، وكالضرب والذبح والقتل والبناء والخياطة والنفقة ونحوها، فإذا فعل الحالف هذه الأفعال بنفسه، أو أمر غيره ففعل، حنث؛ لأن مالا حقوق له أو ترجع حقوقه إلى الآمر، لا إلى الفاعل ينسب إلى الآمر، لا إلى الفاعل.

وأما عقد الصلح: ففيه روايتان عن أبي يوسف: في رواية إذا حلف لا يصالح، فوكل بالصلح لم يحنث؛ لأن الصلح عقد معاوضة كالبيع. وفي رواية: أنه يحنث؛ لأن الصلح إسقاط حق كالإبراء.
_________
(1) حقوق العقد: هي الأعمال التي لا بد منها للوصول إلى حكم العقد لتمام الغاية والغرض منه، مثل تسليم المبيع وقبض الثمن والرد بالعيب أو بخيار الرؤية أو الشرط.

(4/2545)


فإن قال الحالف في زمرة الأفعال التي ترجع الحقوق فيها إلى الآمر كالنكاح والطلاق: (نويت أن أباشر ذلك بنفسي) يصدق ديانة فيما بينه وبين الله تعالى، لا قضاء، لأنه نوى ما يحتمله كلامه إلا أنه خلاف الظاهر.
ولو قال الحالف فيما لا حقوق له كالضرب والذبح: (عنيت أن أباشر ذلك بنفسي) يصدق ديانة وقضاء؛ لأنه نوى حقيقة كلامه؛ لأن الضرب والذبح من الأفعال الحقيقية لا الحكمية أو الاعتبارية، فكانت العبرة فيه لمباشرة الفعل (1).

المطلب الحادي عشر ـ الحلف على تصرفات شرعية:
الكلام في المطالب السابقة كان محصوراً في الحلف على الأمور العادية التي يمارسها الإنسان عادة بحكم تقلب شؤونه في هذه الحياة. وهذا المطلب مخصص للبحث عن أحوال اليمين التي يحلفها الحالف على الأمور الشرعية، باعتبار أن الشارع له حكم فيها من ناحية الصحة والفساد، مثل البيع والشراء والهبة والعارية والصدقة والقرض والتزويج والصلاة والصوم ونحوها.

الحلف على عدم شراء الذهب والفضة: إذا حلف شخص (لايشتري ذهباً ولا فضة) فاشترى عملة نقدية فضية كالدراهم في الماضي، أو ذهبية كالدنانير، أو آنية أو سبيكة أو حلياً مصوغاً أو غيرها مما هو ذهب أو فضة: فإنه يحنث عند أبي يوسف. وقال محمد: لا يحنث في الدراهم والدنانير.
وسبب الخلاف هو أن أبا يوسف يعتبر الحقيقة اللغوية في هذه الأمور. ومحمد: يعتبر العرف السائد عند الناس.
_________
(1) البدائع: 82/ 3 ومابعدها، الفتاوى الهندية: 104/ 2.

(4/2546)


عدم شراء الصوف: لو حلف لا يشتري صوفاً، فاشترى شاة على ظهرها صوف: لم يحنث. والقاعدة في مثل هذا: أن من حلف لا يشتري شيئاً، فاشترى غيره، ودخل المحلوف عليه في البيع تبعاً: لم يحنث، وإن دخل مقصوداً يحنث. والصوف ههنا لم يدخل في العقد مقصوداً؛ لأن التسمية لم تتناول الصوف، وإنما دخل في العقد تبعاً للشاة (1).
عدم الهبة والصدقة ونحوهما لو حلف لا يهب لفلان شيئاً، أو لا يتصدق عليه، أو لا يعيره، أو لا ينحل له أو لا يعطيه، ثم وهب له أو تصدق عليه، أو أعاره أو نحله أو أعطاه فلم يقبل المحلوف عليه: يحنث عند جمهور الحنفية. وعند زفر: لا يحنث.
وأما القرض: فقد روي عن محمد أنه لا يحنث ما لم يقبل، وعن أبي يوسف روايتان: في رواية مثل قول محمد، وفي رواية: يحنث من غير قبول، وهو الأرجح؛ لأن القرض لا تتوقف صحته على تسمية عوض، فهو كالهبة. ووجه قول محمد: أن القرض يشبه البيع، لأنه تمليك بعوض.

عدم البيع والإجارة ونحوهما: إن حلف الشخص على عقد فيه عوض كالبيع والإجارة والصرف والسلم ونحوها، ففعل الحالف، ولم يقبل الآخر: لا يحنث.
والفرق بين عقود التبرعات كالهبة ونحوها، وعقود المعاوضات كالبيع ونحوه: هو أن التبرعات تفيد التمليك من جانب واحد وهو المتبرع، وأما القبول فهو شرط لثبوت الحكم في حق الجانب الآخر، أي أنه شرط فقط لترتب الأثر
_________
(1) البدائع: 81/ 3.

(4/2547)


الشرعي على العقد: وهو انتقال الملكية بالنسبة إليه، فإذا وجد مايطلق عليه اسم العقد لغة واصطلاحاً عند الفقهاء، يحنث.
وأما المعاوضات: فلا تفيد التمليك إلا بإرادة المتعاقدين لغة وشرعاً فلا يتحقق وجود اسم العقد إلا بوجود الإيجاب من أحد المتعاقدين، والقبول من المتعاقد الآخر، وحينئذ يحنث.
فإذا كان البيع صحيحاً وتم قبول المشتري: يحنث الحالف، وكذلك يحنث إن كان البيع فاسداً إن تحقق قبول المشتري وقبض المبيع فعلاً؛ لأن اسم البيع يتناول الصحيح والفاسد: وهو مبادلة شيء مرغوب فيه بشيء مرغوب فيه.
ولو باع بيعاً فيه خيار للبائع أو للمشتري: حنث عند محمد، ولم يحنث عند أبي يوسف. وجه قول محمد: أن البيع كما يطلق على البيع البات، أي الذي لاخيار فيه، يطلق أيضاً على البيع الذي فيه خيار، فإن كل واحد منهما يسمى بيعاً في عرف الناس، إلا أن انتقال الملكية في بيع الخيار يتوقف على أمر آخر هو إجازة البيع أو سقوط الخيار فأشبه البيع الفاسد.
ووجه قول أبي يوسف: أن وجود شرط الخيار يمنع نقل الملكية، فأشبه حالة وجود الإيجاب فقط من أحد المتعاقدين دون القبول (1).

الحلف على عدم الزواج: لو حلف (لا يتزوج هذه المرأة) فيقع على الزواج الصحيح دون الفاسد، فلو تزوج المرأة بنكاح فاسد: لا يحنث؛ لأن المقصود من النكاح هو حل المرأة، ولا يثبت الحل بالفاسد، بخلاف البيع، فإن المقصود منه الملك، ويثبت الملك بالفاسد.
_________
(1) البدائع، المرجع السابق: ص 83.

(4/2548)


وقال الشافعية (1): حلف لا يبيع أو لا يشتري، فعقد لنفسه أو غيره، حنث، ولا يحنث بعقد وكيله له. ولو حلف لا يُزوج أو لا يطلق أو لايضرب، فوكل من فعله لا يحنث، إلا أن يريد ألا يفعل هو ولا غيره. وإن حلف لا ينكح، حنث بعقد وكيله له، لا بقبوله هو لغيره. ورأى الحنابلة والمالكية (2) أن من حلف لا يفعل شيئاً كالشراء والضرب، فوكل في فعله حنث، إلا أن ينوي مباشرته بنفسه.

الحلف على عدم الصلاة والصوم: وكذلك لو حلف لا يصلي ولا يصوم، فيقع على الصحيح دون الفاسد، حتى لو صلى بغير طهارة أو صام بغير نية: لا يحنث؛ لأن المقصود منه التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، ولا يحصل التقرب بالفاسد من الصلوات أو الصيام.
أما إذا حلف في الماضي بأن قال: (والله ما تزوجت) أو (ما صليت) أو (ماصمت) فإنه يقع على الصحيح والفاسد؛ لأن القصد من كلامه هو الإخبار عن الصلاة وغيرها، واسم الصلاة أو النكاح أو الصوم يطلق على الصحيح والفاسد، فإن قصد الصحيح صدق قضاء.
ولو حلف (لا يصلي) فكبر، ودخل في الصلاة: لم يحنث حتى يركع ويسجد سجدة استحساناً؛ لأن الصلاة أفعال مختلفة من القيام والقراءة والركوع والسجود، والمتركب من أجزاء مختلفة: لا يوجد ما لم يكتمل كله، فما لم توجد هذه الأفعال كلها لا يوجد فعل الصلاة، وبالتالي لا يسمى مصلياً. وهذا بخلاف الصوم: ففي صوم ساعة يحصل فعل الصوم.

وبخلاف ما لو حلف (لا يصلي صلاة) لا يحنث، ما لم يصل ركعتين، لأن أدنى الصلاة ركعتان.
_________
(1) مغني المحتاج: 350/ 4.
(2) المغني: 724/ 8 ومابعدها.

(4/2549)


ولو حلف (لا يصلي الظهر): لا يحنث ما لم يتشهد التشهد الأخير: لأن صلاة الظهر مقدرة بأربع ركعات، فما لم توجد الأربع، لا توجد الظهر.
ولو حلف (لا يصوم) فأصبح صائماً لمدة ساعة ثم أفطر: يحنث لأنه يسمى صائماً بصوم ساعة واحدة، إذ الصوم هو الإمساك عن المفطرات على قصد التقرب، وبه وجد شرط الحنث.

ولو حلف (لا يصوم يوما ً): لا يحنث حتى يصوم يوماً كاملاً، لأنه جعل شرط الحنث صوماً مقدراً باليوم.
ولو حلف (لا يصوم صوما ً): لم يحنث مالم يصم اليوم؛ لأن أقل الصوم الشرعي يوم كامل.
ولو حلف (ليفطرن عند فلان) فأفطر بالماء في منزله، ثم تعشى عند فلان: حنث؛ لأن شرط بره هو الإفطار عند فلان، والإفطار اسم لما يضاد الصوم أي نقيض الصوم، وقد حصل المعنى بالإفطار في منزله بالماء. أما إن نوى بالإفطار تناول العشاء عند فلان: لا يحنث لأنه نوى به أمراً متعارفاً، يقال: (فلان يفطر عند فلان) إذا كان يتعشى عنده، حتى ولو كان أصل الإفطار يقع في منزله.
الحلف على (عدم الحج): لو حلف (لا يحج) أو (لا يحج حجة): لا يحنث حتى يطوف طواف الزيارة؛ لأن الحج عبادة مركبة من أجناس أفعال من الوقوف بعرفة، والطواف والسعي وغيرها، فيكون اسم الحج واقعاً على كل الأفعال حقيقة، لا على البعض، وللأكثر حكم الكل، فإذا طاف أكثر الطواف: حنث.
ولو حلف (لا يعتمر) فأحرم، وطاف أربعة أشواط: حنث؛ لأنه وجد

(4/2550)


الأكثر، وللأكثر حكم الكل كما تقدم، فإن جامع الرجل امرأته في الحج: لايحنث؛ لأن الحج قربة إلى الله تعالى، فتنعقد اليمين على الحج الذي هو قربة أي عبادة: وهو الحج الصحيح لا الفاسد؛ لأن الفاسد ليس بقربة (1).
_________
(1) البدائع: 84/ 3 ومابعدها، تحفة الفقهاء، الطبعة القديمة: 48/ 2 ومابعدها، فتح القدير: 93/ 4 ومابعدها، الفتاوى الهندية: 108/ 2 ومابعدها، المغني: 720/ 8.

(4/2551)