الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي الفَصْلُ الثَّاني: النّذور
خطة الموضوع:
أذكر في هذا البحث ثلاثة أمور: تعريف النذر وشروط النذر، وحكم النذر.
تعريف النذر وركنه: النذر لغة: الوعد
بخير أو شر، وشرعاً: الوعد بخير خاصة.
وقال بعضهم: هو التزام قربة لم تتعين (1). وركنه عند الحنفية: هو الصيغة
الدالة عليه مثل قول الشخص: (لله علي كذا) و (علي كذا) أو (علي نذر) أو
(هذا هدي) أو (صدقة) أو (مالي صدقة) أو (ما أملك صدقة) ونحوها (2).
وللنذر عند الجمهور غير الحنفية أركان ثلاثة: الناذر، والمنذور، وصيغة
النذر. فأما الناذر: فهو كل مكلف مسلم، فلا نذر للصبي والمجنون والكافر.
وأما المنذور فنوعان: مبهم ومعين،
فالمبهم: ما لا يبين نوعه كقوله: لله علي نذر، وحكمه أن فيه في رأي
المالكية كفارة يمين. والمعين: أربعة أنواع:
_________
(1) مغني المحتاج: 354/ 4 وقال الراغب: النذر أن توجب على نفسك ما ليس
بواجب لحدوث أمر.
(2) البدائع: 81/ 5.
(4/2552)
الأول ـ قربة، فيجب الوفاء بها.
الثاني ـ معصية، فيحرم الوفاء بها. الثالث ـ مكروه، فيكره الوفاء به.
الرابع ـ مباح، فيباح الوفاء به وتركه، وليس على من تركه شيء.
وأما الصيغة، فنوعان أيضاً: مطلق ومقيد.
فأما المطلق فما كان شكراً لله على نعمة أو لغير سبب، مثل لله علي أن أصوم
كذا أو أصلي كذا، وهو مستحب عند المالكية، ويجب الوفاء به.
وأما المقيد: فهو المعلق بشرط، كقوله: إن قدم فلان أو شفى الله مريضي فعلي
كذا. وحكمه: أنه يلزم الوفاء به بتحقق الشرط.
وهو مباح عند المالكية وقيل: مكروه.
شروط النذر: هناك شروط في الناذر وشروط
في المنذور به، أما شروط الناذر فهي ما يأتي (1):
أولاً ـ الأهلية من العقل والبلوغ: فلا ينعقد نذر المجنون والصبي غير
المميز والصبي المميز؛ لأن هؤلاء غير مكلفين بشيء من الأحكام الشرعية،
فليسوا أهلاً للالتزام.
ثانياً ـ الإسلام: فلا يصح نذر الكافر، حتى لو نذر، ثم أسلم، لا يلزمه
الوفاء بنذره لعدم أهليته للقربة أو التزامها.
_________
(1) انظر البدائع، المرجع السابق: ص 81 ومابعدها، مغني المحتاج، المرجع
السابق، الشرح الكبير للدردير: 161/ 2، القوانين الفقهية: ص 167 ومابعدها.
(4/2553)
وأما الحرية فليست بشرط لصحة النذر، فيصح
نذر المملوك. وكذلك الاختيار أو الطواعية ليس بشرط عند الحنفية، وهو شرط
عند الشافعية فلا يصح نذر المكره عندهم لخبر: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان
ومااستكرهوا عليه» (1).
وأما شروط المنذور به فهي مايلي (2):
أولاً ـ أن يكون المنذور به متصور الوجود في نفسه شرعاً: فلا يصح النذر بما
لايتصور وجوده شرعاً كمن قال: (لله علي أن أصوم ليلاً) أو قالت المرأة:
(لله علي أن أصوم أيام حيضي) لأن الليل ليس محل الصوم، والحيض مناف له
شرعاً؛ إذ الطهارة عن الحيض والنفاس شرط وجود الصوم الشرعي.
ثانياً ـ أن يكون المنذور به قربة: كصلاة وصيام وحج وصدقة، فلا يصح النذر
بما ليس بقربة كالنذر بالمعاصي بأن يقول: (لله علي أن أشرب الخمر) أو (أقتل
فلاناً) أو (أضربه) أو (أشتمه) وهذا باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم (3)
لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لانذر في معصية الله، ولا فيما لا يملكه ابن
آدم» (4) وقوله عليه السلام: «لا نذر إلا مايُبتغى به وجه الله تعالى» (5)
وقوله أيضاً:
«من نذر أن يطيع
_________
(1) رواه الطبراني في الكبير عن ثوبان، وهو حديث صحيح، وروي عن غيره، وقد
سبق تخريجه، وهو بلفظ: «إن الله تجاوز عن أمتي ثلاثة: الخطأ والنسيان
وماأكرهوا عليه».
(2) البدائع، المرجع السابق: ص 82 ومابعدها.
(3) انظر بداية المجتهد: 409/ 1، المحلى: 3/ 8، مختصر الطحاوي: ص 316، مغني
المحتاج: 354/ 4، المغني: 3/ 9، المهذب: 242/ 1، القوانين الفقهية: ص 168.
(4) رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن عمران بن حصين رضي الله عنه، وروى
النسائي وأبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله عليه
وسلم قال: «لا نذر، ولا يمين فيما لا تملك، ولا في معصية، ولا في قطيعة
رحم» (نصب الراية: 300/ 3، جامع الأصول: 188/ 12، نيل الأوطار: 238/ 8).
(5) رواه أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص (جامع الأصول، المرجع
السابق) وروى أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلّى الله عليه
وسلم قال: «لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله تعالى» (نيل الأوطار: 242/
8).
(4/2554)
الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا
يعصه» (1) ولأن حكم النذر: وجوب المنذور به، ووجوب فعل المعصية محال، وعليه
فإنه يحرم الوفاء بالمعصية، ولايجب عند الجمهور على الناذر شيء. وقال أبو
حنيفة: عليه كفارة يمين، كما سيأتي.
وكذلك لايلزم النذر بالمباحات من الأكل والشرب واللبس والركوب وطلاق
المرأة؛ لأن هذه الأمور ليست قربة لله، فلا تلزم بالنذر.
ثالثاً ـ أن يكون قربة مقصودة: فلا يصح النذر بعيادة المرضى وتشييع الجنائز
والوضوء وتكفين الميت والاغتسال ودخول المسجد ومس المصحف والأذان وبناء
الرباطات (2) والمساجد ونحوها؛ لأن هذه الأمور، وإن كانت قُرَباً لله إلا
أنها ليست قرباً مقصودة لذاتها عادة. ومن المعلوم أن النذر قربة مقصودة
لذاتها كاليمين، فلا يصح نذر ماليس عبادة أو طاعة مقصودة لنفسها (3)، وإنما
يصح نذر الصلاة والصوم والحج والعمرة والاعتكاف ونحوها؛ لأنها عبادات
مقصودة، ومن جنسها واجب شرعاً، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من نذر
أن يطيع الله فليطعه».
وقال الشافعية: الصحيح انعقاد النذر بكل قربة لاتجب ابتداء كعيادة مريض
وتشييع جنازة والسلام على الغير أو على نفسه إذا دخل بيتاً خالياً، وتشميت
العاطس، وزيارة القادم؛ لأن الشارع رغب فيها، والعبد يتقرب بها، فهي
كالعبادات. وأما القرب التي يجب جنسها بالشرع كالصلاة والصوم والحج: فإنها
_________
(1) رواه البخاري وأحمد وأصحاب السنن الأربعة عن عائشة رضي الله عنها (انظر
تخريج وتحقيق أحاديث تحفة الفقهاء: 459/ 2 ومابعدها للمؤلف مع الأستاذ
المنتصر الكتاني).
(2) الرباطات: المعاهد المبنية والموقوفة للفقراء.
(3) انظر البدائع: 82/ 5، فتح القدير والعناية: 27/ 4، الدر المختار ورد
المحتار: 73/ 3.
(4/2555)
تلزم بالنذر قطعاً بدون خلاف، وكون
الاعتكاف يلزم بالنذر وهو أنه يوجد من جنسه في الشرع ماهو واجب وهو الوقوف
بعرفة والقعدة الأخيرة في الصلاة، فهذان يعتبران مكثاً كالاعتكاف (1).
ولو قال شخص: (لله علي أن أصوم يوم النحر، أو
أيام التشريق) يصح نذره عند أبي حنيفة وصاحبيه؛ لأنه نذر بقربة
مقصودة، فيصح النذر، كما لو نذر الصوم في غير هذه الأيام.
وقال جمهور العلماء وزفر من الحنفية: لايصح نذر يوم العيد أو أيام التشريق؛
لأنه نذر بما هو معصية؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن الصوم في
هذه الأيام، فقال: «ألا لاتصوموا، فإنها أيام أكل وشرب» (2) والمنهي عنه
يكون معصية، والنذر بالمعاصي لايصح بدليل قوله عليه السلام: «لانذر في
معصية الله، ولا فيما لايملكه ابن آدم» (3).
ولو قال: (لله علي أن أحج ماشيا ً)
يلزمه الحج ماشياً باتفاق الفقهاء، لأنه التزم المشي، وفيه زيادة قربة، قال
عليه السلام: «من حج ماشياً فله بكل خطوة حسنة من حسنات الحرم»، قيل: وما
حسنات الحرم؟ قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «واحدة بسبع مئة» (4) فإن عجز
عن المشي ركب، وعليه دم، أي شاة عند الحنفية والمالكية
_________
(1) مغني المحتاج: 370/ 4.
(2) هذا الحديث رواه أصحاب السنن وابن حبان والحاكم والبزار عن عقبة بن
عامر بلفظ أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أيام التشريق: أيام أكل وشرب
وصلاة فلا يصومها أحد» وروى البخاري ومسلم وأحمد عن أبي سعيد الخدري عن
رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أنه نهى عن صوم يومين: يوم الفطر ويوم
النحر» (راجع تخريج أحاديث تحفة الفقهاء للمؤلف مع الأستاذ الكتاني: 296/
1).
(3) المراجع السابقة في بحث شروط المنذور به، البدائع: 83/ 5.
(4) رواه ابن خزيمة والحاكم وقال: صحيح الإسناد عن زاذان رضي الله عنه،
ولفظه مختصراً: «من حج من مكة ماشياً حتى يرجع إلى مكة كتب الله له بكل
خطوة سبع مئة حسنة، كل حسنة مثل حسنات الحرم. قيل: وما حسنات الحرم؟ قال:
بكل حسنة مئة ألف حسنة» (الترغيب والترهيب: 166/ 2).
(4/2556)
والشافعية، وفي رواية عن أحمد. وأضاف مالك
رضي الله عنه أن الناذر يرجع عند العجز، ثم يمشي مرة أخرى من حيث عجز،
والدم عنده أي الهدي هو بدنة أو بقرة، أو شاة إن لم يجد بقرة أو بدنة (1).
ودليل هذه المسألة ماروي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن عقبة بن عامر أن
أخته نذرت أن تمشي إلى بيت الله الحرام، فأتى النبي صلّى الله عليه وسلم،
فسأله: فقال: «إن الله لغني عن نذر أختك، لتركب،، ولتهد ِ بدنة» (2) ولأن
المشي صار بالنذر نسكاً واجباً، فوجب بتركه الدم كالإحرام من الميقات.
والأرجح عند الحنابلة أنه إذا عجز عن المشي ركب، وعليه كفارة يمين، لأن
النبي صلّى الله عليه وسلم قال لأخت عقبة بن عامر لما نذرت المشي إلى بيت
الله: «لتمش ولتركب، ولتكفر عن يمينها» أخرجه أبو داود، وفي رواية
الجوزجاني والترمذي وبقية أصحاب السنن: «فلتصم ثلاثة أيام» ولقوله عليه
السلام: «كفارة النذر كفارة يمين» (3) ولأن المشي مما يوجبه الإحرام فلم
يجب الدم بتركه، وحديث الهدي ضعيف كما أشرنا في الحاشية.
_________
(1) انظر البدائع: 84/ 5، بداية المجتهد: 411/ 1، مغني المحتاج: 363/ 4
ومابعدها، المهذب: 245/ 1 ومابعدها، المغني: 8/ 9.
(2) رواه أبو داود عن عبد الله بن عباس بهذا اللفظ، ورواه أحمد وأبو يعلى
الموصلي في مسنديهما بلفظ: «إن الله غني عن نذر أختك، ولتركب ولتصم ثلاثة
أيام» ورواه أحمد وأصحاب الكتب الستة عن عقبة بن عامر بلفظ: «لتمش ولتركب»
وفي رواية: «إن الله تعالى لا يصنع بشقاء أختك شيئاً، مرها فلتختمر،
ولتركب، ولتصم ثلاثة أيام» (جامع الأصول: 185/ 12، مجمع الزوائد: 189/ 4،
نصب الراية: 305/ 3، نيل الأوطار: 246/ 8، سبل السلام: 113/ 4).
(3) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن عقبة بن عامر بلفظ:
«كفارة النذر كفارة يمين» وهو حديث صحيح، وهناك روايات أخرى استوفيناها في
تخريج أحاديث تحفة الفقهاء: 464/ 2 وما بعدها.
(4/2557)
رابعاً ـ أن يكون المال المنذور به مملوكاً
للناذر وقت النذر، أو يكون النذر مضافاً إلى المِلْك، أو إلى سبب الملك:
فلو نذر في الحال صدقة مالا يملكه لايصح بالاتفاق لقوله عليه الصلاة
والسلام: «لانذر فيما لايملكه ابن آدم». ولو أضاف النذر إلى الملك مثل: كل
مال أملكه في المستقبل فهو صدقة، أو أضافه إلى سبب الملك مثل: كل ما أشتريه
أو أرثه فهو صدقة: يصح النذر عند الحنفيةخلافاً للشافعي رحمه الله لقوله عز
وجل: {ومنهم من عاهد الله: لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين}
[التوبة:75/ 9] إلى قوله تعالى: {فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه
بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون} [التوبة:77/ 9] فهذه الآية
الشريفة تدل على صحة النذر المضاف إلى الملك (1).
ودليل الشافعي على أنه لا يصح النذر بالتصدق بما لا يملكه الإنسان: هو حديث
عمران بن الحصين أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا نذر في معصية الله،
ولا فيما لايملكه ابن آدم» (2).
خامساً ـ ألا يكون المنذور فرضاً أو واجباً: فلا يصح النذر بشيء من
الفرائض، سواء أكان فرض عين كالصلوات الخمس وصوم رمضان، أم فرض كفاية
كالجهاد وصلاة الجنازة، ولا بشيء من الواجبات سواء أكان عيناً كالوتر وصدقة
الفطر والأضحية أم كفائياً كتجهيز الموتى وغسلهم ورد السلام، لأن إيجاب
الواجب لا يتصور (3).
_________
(1) البدائع: 90/ 5.
(2) المهذب: 242/ 1.
(3) البدائع، المرجع السابق.
(4/2558)
حكم النذر: هذا البحث يتطلب الكلام في أمور
ثلاثة هي: أصل الحكم، وفيه تعرف أدلة مشروعية النذر، وقت ثبوت الحكم،
وكيفية ثبوت الحكم.
1 - أصل حكم النذر: اختلف العلماء: هل
النذر مكروه أو قربة؟ فقال الحنفية: النذر في الطاعات مباح، سواء أكان
مطلقاً أم معلقاً على شرط. وقال جماعة: النذر تقرب. ورأى المالكية أن النذر
المطلق مندوب، وهو ماليس بمعلق على شيء ولا مكرر بتكرر الأيام كنذر صوم كل
يوم خميس، وهو ما أوجبه على نفسه شكراً لله تعالى على نعمة وقعت، كمن شفى
الله مريضه أو رزق ولداً أو زوجة، فنذر. أما المكرر كنذر صوم كل يوم خميس
فمكروه، وأما المعلق مثل إن شفى الله مريضي فعلي صدقة، ففي كراهته وإباحته
تردد، قال الباجي بالكراهة، وقال ابن رشد بالإباحة، وهذا هو الراجح، لكن
النذور المعلقة لاتغير من قضاء الله شيئاً، وإنما هي وسيلة لاستخراج الصدقة
من البخيل.
وقال الشافعية والحنابلة: إنه مكروه كراهة تنزيه لا تحريم، فلا يستحب بدليل
ماروى ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر، وقال: «إنه
لايرد شيئاً، وإنما يستخرج به من البخيل» وفي لفظ: «أنه لايأتي بخير وإنما
(1) ... إلخ» ولأن
_________
(1) أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وأصحاب السنن إلا الترمذي عن ابن عمر، وصح
أيضاً مسنداً فيما يرويه الجماعة إلا أبا داود من طريق أبي هريرة. قال
الخطابي: معنى نهيه عليه السلام عن النذر إنما هو تأكيد لأمره وتحذير عن
التهاون به بعد إيجابه، ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يفعل لكان في ذلك
إبطال حكمه وإسقاط لزوم الوفاء به، إذ كان بالنهي عنه قد صار معصية، فلا
يلزم الوفاء به: أي أن الحديث متأول وليس على ظاهره، وبمثله قال ابن الأثير
في النهاية، وأضاف قوله: وإنما وجه الحديث أنه قد أعلمهم أن ذلك أمر لا يجر
لهم في العاجل نفعاً، ولا يصرف عنهم ضراً، ولا يرد قضاء، فلا تنذروا على
أنكم تدركون بالنذر شيئاً لم يقدره الله لكم أو تصرفون به عنكم ما جرى به
القضاء عليكم، فإذا فعلتم ذلك فاخرجوا عنه بالوفاء فإن الذي نذرتموه لازم
لكم. وقيل: الحديث على ظاهره فإنه صريح بكراهة النذر، لأنه إنما يفعله
البخيل يستخرج به من ماله ما لا تسخو به نفسه إلا قهراً إذا تحقق غرضه
المنذور عليه. (راجع المحلى: 4/ 8، جامع الأصول: 181/ 12، 243، نيل
الأوطار: 240/ 8، سبل السلام: 110/ 4).
(4/2559)
النذر لو كان مستحباً لفعله النبي صلّى
الله عليه وسلم وأفاضل أصحابه، لكن مع هذا من نذر طاعة لله عز وجل لزمه
الوفاء بها بأدلة من القرآن والسنة والمعقول (1).
أما القرآن: فقوله تعالى: {وليوفوا نذورهم} [الحج:29/ 22] {يوفون بالنذر
ويخافون يوماً كان شره مستطيرا} [الإنسان:7/ 76] {يا أيها الذين آمنوا
أوفوا بالعقود} [المائدة:1/ 5] {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا}
[الإسراء:34/ 17] {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم} [النحل:91/ 16] والنذر نوع
من العهد من الناذر مع الله عز وجل، والعقود: العهود.
وأما السنة: ـ فقوله عليه السلام: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» وقوله عليه
الصلاة والسلام «من نذر وسمى (2) فعليه الوفاء بما سمى» (3) وكلمة «على»
تفيد الإيجاب.
وأما المعقول: فهو أن المسلم يحتاج إلى أن يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى
بنوع من القرب المقصودة التي يجوز له تركها، طمعاً في نيل الدرجة العليا
عند الله تعالى، وبما أن النذر يوجب فعل المنذور به، فيكون النذر طريقاً
لإلزام النفس فعل الشيء ومنعها من الترك، فيتحقق المقصود للناذر.
وقد فصل الحنفية حكم ما يجب الوفاء به بالنظر
لتسمية المنذور به وعدم تسميته فقالوا:
_________
(1) المحلى: 3/ 8، المغني: 1/ 9، مغني المحتاج: 354/ 4، البدائع: 90/ 5،
بداية المجتهد: 409/ 1، الشرح الكبير لللدردير: 162/ 2.
(2) أي سمى شيئاً يفعله كالصلاة والصوم والحج ونحوها من الطاعات.
(3) قال الزيلعي في نصب الراية: 300/ 3 عن هذا الحديث: غريب. وفي وجوب
الوفاء بالنذر أحاديث ذكر منها أحاديث ابن عباس وعائشة وابن عمر وعمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده (وراجع أيضاً فتح القدير: 27/ 4).
(4/2560)
أولاً ـ إن نذر الناذر وسمى المنذور به:
مثل: (لله علي حج أو عمرة) أو قال: (إن شفى الله مريضي فعلي صدقة مئة ليرة)
فيجب عليه الوفاء بما سمى، سواء ـ كما لاحظنا ـ أكان النذر مطلقاً أم
معلقاً بشرط، ولا تجزئ عنه الكفارة.
وقال المالكية: النذر نوعان: مطلق ومقيد، فأما المطلق: فهو ما كان شكراً
لله على نعمة، أو لغير سبب كقوله: (لله علي أن أصوم كذا أو أصلي كذا)، وهو
مستحب ويجب الوفاء به، سواء ذكر لفظ النذر أو لم يذكره إلا إن قصد الإخبار
فلا يجب عليه شيء.
وأما المقيد فهو المعلق بشرط كقوله: إن قدم فلان، أو شفى الله مريضي، أو إن
قضى الله حاجتي فعلي كذا، وهو مباح، وقيل: مكروه ويلزم الوفاء به مطلقاً.
ولا اعتبار باختلاف الوجوه التي يقع النذر عليها من لَجاج أو غضب أو غيرهما
(1).
وقال الشافعية (2): إذا كان النذر معلقاً بشرط يفرق بين ما يريد الناذر
وقوعه، وبين ما لا يريد وقوعه أي يفرق بين نذر التبرر، ونذر اللَّجاج.
ونذر التبرر (3): بأن يلتزم الإنسان
قربة إن حدثت نعمة أو ذهبت نقمة، مثل: إن شفى الله مريضي فلله علي صوم أو
نحوه، ففي هذا النوع يلزم الناذر بالوفاء بنذره إذا حصل الشرط المعلق عليه.
ونذر اللَّجاج (4): ويسمى أيضاً يمين اللجاج، والغضب، ويمين الغَلَق: هو
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 168، الشرح الكبير: 161/ 2.
(2) راجع مغني المحتاج: 355/ 4 ومابعدها، المهذب: 243/ 1.
(3) هو تفعُّل من البر، سمي بذلك، لأن الناذر طلب به البر والتقرب إلى الله
تعالى، وهو يشمل نذر المجازاة أي المكافأة والنذر المطلق.
(4) اللجاج: هو التماحك والتمادي في الخصومة، سمي بذلك لوقوعه حال الغضب.
(4/2561)
الذي خرج مخرج اليمين بأن يقصد الناذر حث
نفسه على فعل شيء أو منعها غير قاصد للنذر ولا القربة، مثل: إن كلمت فلاناً
فلله علي صوم أو نحوه، فالأظهر في هذا النوع أن الناذر بالخيار: إن شاء وفى
بما التزم، وإن شاء كفر كفارة يمين، وهذا هو المقصود بحديث: (كفارة النذر
كفارة يمين) (1) فبما أنه لا كفارة في نذر التبرر قطعاً، فتعين أن يكون
المراد بالحديث نذر اللجاج.
وبه يتبين أن نذر اللجاج يكون حال
الخصومة بدافع من الغضب، ونذر التبرر لا يكون بدافع الخصومة أو الغضب.
والنذر المطلق: هو أن يلتزم الناذر قربة لله تعالى، دون تعليق على تحقق غرض
معين أو بدافع من الخصومة أو الغضب، مثل: لله علي صيام يوم الخميس.
وقال الحنابلة (2): حكم نذر اللجاج والغضب حكم اليمين ويخير كما قال
الشافعية بين فعل المنذور وبين كفارة اليمين، قال عليه السلام: «لا نذر في
غضب، وكفارته كفارة يمين» (3). وقال الإمام مالك: النذر لازم على أية جهة
وقع (4).
ثانياً ـ وإن كان النذر لا تسمية فيه: أي إن المنذور به غير مسمى، فحكمه
وجوب مانواه الناذر إن نوى شيئاً، سواء أكان النذر مطلقاً عن الشرط أم
مقيداً
_________
(1) رواه مسلم وأحمد وأبو داود والنسائي والترمذي، وزاد فيه: «إذا لم
يسمّه» وصححه عن عقبة بن عامر بهذا اللفظ قال ابن حجر: وهو صحيح، وروي
بألفاظ أخرى عن عائشة وابن عباس وعمران بن حصين وأبي هريرة (راجع سبل
السلام: 111/ 4، نيل الأوطار: 243/ 8 وما بعدها، نصب الراية: 295/ 3،
الإلمام: ص 309، تخريج أحاديث التحفة: 465/ 2).
(2) المغني: 696/ 8، 2/ 9.
(3) رواه النسائي عن عمران بن الحصين رضي الله عنه (راجع المحلى: 8/ 8،
جامع الأصول: 189/ 12 ومابعدها) ورواه الطبراني في الكبير والأوسط عن ابن
عباس بلفظ «ولا يمين في غضب» (مجمع الزوائد: 186/ 4).
(4) بداية المجتهد: 409/ 1، الشرح الكبير للدردير: 161/ 2.
(4/2562)
بشرط، بأن قال: (لله علي نذر) أو قال: (إن
فعلت كذا فلله علي نذر) فإن نوى صوماً أو صلاة أو حجاً أو عمرة لزمه الوفاء
به للحال حالة كون النذر مطلقاً، وعند وجود الشرط إذا كان النذر معلقاً
بشرط، ولا تجزئ كفارة اليمين.
وإن لم تكن هناك نية عند الناذر وهو النذر المبهم، فعليه كفارة اليمين.
وهذه الكفارة تجب حالاً إذا كان النذر مطلقاً عن الشرط، فإن كان معلقاً على
شرط فتجب الكفارة عند تحقق الشرط. والدليل قوله عليه الصلاة والسلام:
«النذر يمين، وكفارته كفارة يمين» (1).
ووجوب الكفارة مقرر عند الحنفية سواء أكان الشرط الذي علق به النذر مباحاً
أم معصية، ويجب عليه أن يحنث نفسه ويكفر عن يمينه (2)، لقوله عليه الصلاة
والسلام: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، فليأت الذي هو خير،
وليكفر عن يمينه» (3).
وإذا كان النذر مبهماً ونوى الناذر فيه صياماً ولم ينو عدداً معيناً: فعليه
صيام ثلاثة أيام.
وإن نوى في قوله (لله علي نذر) طعاماً ولم ينو عدداً: فعليه طعام عشرة
مساكين، لكل مسكين نصف صاع من حنطة، أي حوالي نصف رطل شامي.
_________
(1) نص الحديث: هو ما رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس
مرفوعاً أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من نذر نذراً لم يسمّه،
فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذراً في معصية الله فكفارته كفارة يمين، ومن
نذر نذراً لا يطيقه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذراً أطاقه فليف به»
وهناك روايات أخرى مثل حديث عقبة بن عامر: «كفارة النذر كفارة يمين» (راجع
تخريج أحاديث تحفة الفقهاء: 464/ 2 ومابعدها) وقد سبقت الإشارة إليه.
(2) راجع مذهب الحنفية بهذا التفصيل في المبسوط: 136/ 8، البدائع: 90/ 5 -
92، فتح القدير: 27/ 4، الفتاوى الهندية: 60/ 2.
(3) رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه عن عدي بن حاتم. ورواه آخرون عن
غيره، وقد سبق تخريجه (انظر نيل الأوطار: 237/ 8).
(4/2563)
ولو قال: (لله علي صدقة) فعليه نصف صاع.
ولو قال: (لله علي صوم) فعليه صوم يوم بالاتفاق.
ولو قال: (لله علي صلاة) فعليه ركعتان بالاتفاق.
والعلة في حكم هذه الصور: هو أن النذر لم يذكر فيه التقدير، فاعتبر أدنى ما
ورد به الأمر في الشرع؛ لأن النذر يعتبر بحسب ما جاء به الأمر.
وقال المالكية (1): من نذر صوم أيام لزمه الأيام التي نواها، وإن لم يعين
عدداً كفاه يوم واحد. ولو نذر صوم الدهر لزمه، ولا شيء عليه في أيام العيد
والحيض ورمضان، وله الفطر في المرض والسفر، ولا قضاء عليه، إذ لا يمكنه.
وإن نذر صلاةً، لزمه ما نوى، وإلا كفته ركعتان. وإن نذر صدقة جميع ماله أو
حلف بذلك، فحنث، كفاه الثلث. وإن عين مقداراً معيناً كالنصف أو الثلثين،
لزمه ما نوى. وإن نذر المشي إلى مكة، فإن ذكر الحج أو العمرة، لزمه ذلك،
وإن لم يذكر الحج أو العمرة ولا نواهما، وجب عليه الحج أو العمرة، كما
بينت. ومن نذر أن يضحي ببدنة، لم تقم مقامها بقرة مع القدرة عليها، أما مع
العجز فيجزئه بقرة في رأي مالك.
وكذلك قال الشافعية (2): من نذر المشي إلى بيت الله أو إتيانه، فالمذهب
وجوب إتيانه بحج أو عمرة. وإن نذر أن يحج أو يعتمر ماشياً، فالأظهر وجوب
المشي، فإن قال: أحج ماشياً فمن حيث يحرم، وإن قال: أمشي إلى بيت الله
تعالى، فمن دويرة أهله في الأصح. هذا إذا كان قادراً على المشي، لأنه التزم
جعل
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 168 - 170، الشرح الكبير: 166/ 2.
(2) مغني المحتاج: 362/ 4 ومابعدها.
(4/2564)
الشيء وصفاً للعبادة، أما إذا لم يكن
قادراً على المشي، فلا يلزمه المشي، ويجوز له الركوب، لعجزه عن المشي.
نذر المباح ونذر المعصية:
إذا نذر الإنسان فعل مباح، كما إذا قال:
(لله علي أن أمشي إلى بيتي) أو (أركب فرسي) أو (ألبس ثوبي) أو نذر ترك مباح
كأن لا يأكل الحلوى: لم يلزمه الفعل ولا الترك لخبر أبي داود: «لا نذر إلا
فيما ابتغي به وجه الله تعالى» (1) ولخبر البخاري عن ابن عباس «بينما النبي
صلّى الله عليه وسلم يخطب إذا رأى رجلاً قائماً في الشمس، فسأل عنه،
فقالوا: هذا أبو إسرائيل، نذر أن يصوم ولا يقعد، ولا يستظل ولا يتكلم، قال:
مروه فليتكلم وليستظل، وليقعد، وليتم صومه» (2) وعن أبي هريرة قال: «نذرت
امرأة أن تمشي إلى بيت الله الحرام، فسئل نبي الله عن ذلك، فقال: إن الله
لغني عن مشيها، مروها فلتركب» (3) وأجاب جمهور الفقهاء عن حديث المرأة التي
قالت للنبي صلّى الله عليه وسلم حين قدم المدينة: «إني نذرت أن أضرب على
رأسك بالدف، فقال لها: أوفي بنذرك» (4) بأنه صار ذلك من القرب لما حصل
السرور للمسلمين بقدومه صلّى الله عليه وسلم وأغاظ الكفار، وأرغم
المنافقين.
_________
(1) رواه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (انظر تخريج أحاديث تحفة
الفقهاء: 461/ 2، نيل الأوطار: 242/ 8 ومابعدها، مجمع الزوائد: 186/ 4).
(2) وأخرجه أيضاً مالك وابن ماجه وأبو داود (انظر تخريج أحاديث التحفة،
المرجع السابق، جامع الأصول: 184/ 12، نيل الأوطار: 242/ 8، الإلمام ص 113)
ورواه الطبراني في الأوسط عن جابر بن عبد الله، وفيه حجاج بن أرطاة وهو
مدلس (راجع مجمع الزوائد: 187/ 4).
(3) رواه الترمذي عن أبي هريرة، وقال: هذا حديث صحيح. ولم يأمرها بكفارة
(جامع الأصول: 186/ 12).
(4) أخرجه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (جامع الأصول، المصدر
السابق: ص 188، نصب الراية: 300/ 3).
(4/2565)
ولكن ناذر المباح إن خالف مقتضى نذره فهل
عليه كفارة؟ قال الحنفية والمالكية والشافعية في الأصح: لا كفارة عليه لعدم
انعقاد النذر. وقال الحنابلة: يتخير ناذر المباح بين فعله فيبر، لحديث
المرأة التي نذرت أن تضرب بالدف السابق ذكره، وبين تركه وعليه كفارة يمين؛
لأنه ينعقد عندهم نذر المباح بدليل حديث الضرب بالدف (1).
وأما إذا نذر الإنسان معصية مثل: (لله
علي أن أشرب الخمر) و (أقتل فلاناً) أو (أضربه) أو (أشتمه) ونحوه: فلا يجوز
الوفاء به إجماعاً؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا نذر في معصية الله»
(2). وهل تجب الكفارة به؟
قال الحنفية والحنابلة: يجب على ناذر المعصية كفارة يمين، لا فعل المعصية،
بدليل حديث عمران بن الحصين وحديث أبي هريرة الثابت عن النبي صلّى الله
عليه وسلم أنه قال: «لا نذر في معصية الله، وكفارته كفارة يمين» (3).
_________
(1) انظر الموضوع في رحمة الأمة في اختلاف الأئمة للدمشقي بهامش الميزان:
149/ 1 ومابعدها، مغني المحتاج: 357/ 4، المغني: 5/ 9، تحفة الفقهاء،
الطبعة القديمة: 502/ 2، بداية المجتهد: 410/ 1، الشرح الكبير للدردير:
162/ 2، الفتاوى الهندية: 61/ 2، القوانين الفقهية: ص168.
(2) أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي عن عمران بن حصين بلفظ
«لا نذر في معصية، ولا فيما لا يملك ابن آدم» وفي لفظ «لا نذر في معصية
الله» عند مسلم (راجع جامع الأصول: 188/ 12، نصب الراية: 300/ 3، مجمع
الزوائد: 187/ 4).
(3) حديث عمران خرّجته في الحديث السابق فقد روي بلفظ: «لا نذر في معصية،
وكفارته كفارة يمين» وحديث أبي هريرة رواه أحمد وأصحاب السنن والبيهقي، قال
الحافظ ابن حجر: وإسناده صحيح إلا أنه معلول بأنه منقطع. ورواه أحمد وأصحاب
السنن عن عائشة بلفظ «لانذر في معصية، وكفارته كفارة يمين» واحتج به أحمد
وإسحاق، وصححه الطحاوي وأبو علي بن السَّكَن، وضعفه جمهور المحدثين، ورواه
أبو داود عن ابن عباس بلفظ «من نذر نذراً في معصية فكفارته كفارة يمين»
وإسناده حسن، إلا أنه في الأصح موقوف على ابن عباس بلفظ «من نذر نذراً في
معصية فكفارته كفارة يمين» وإسناده حسن، إلا أنه في الأصح موقوف على ابن
عباس (انظر جامع الأصول: 188/ 12، نيل الأوطار: 243/ 8 ومابعدها، سبل
السلام: 112/ 4).
(4/2566)
وقال المالكية والشافعية وجمهور العلماء:
لايلزمه في ذلك شيء، فلا كفارة عليه، لحديث عائشة عن النبي صلّى الله عليه
وسلم أنه قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا
يعصه» وأما حديثُ عمران وأبي هريرة، فقال ابن عبد البر: ضعف أهل الحديث
حديث عمران وأبي هريرة، وقالوا: لأن حديث أبي هريرة يدور على سليمان بن
أرقم، وهو متروك الحديث، وحديث عمران يدور على زهير بن محمد عن أبيه، وأبوه
مجهول، لم يرو عنه غير ابنه، وزهير أيضاً عنده مناكير، وأما حديث عقبة بن
عامر: (كفارة النذر كفارة يمين) فهو محمول على نذر اللجاج والغضب (1).
2 - وقت ثبوت حكم النذر: أي الوقت الذي
يجب فيه المنذور به، ووقت الوجوب يختلف بحسب ما إذا كان النذر مطلقاً عن
الشرط، أو معلقا على شرط أو مقيداً بمكان، أو مضافاً إلى وقت في المستقبل.
ومن المعلوم أن المنذور به: إما أن يكون قربة بدنية كالصوم والصلاة، أو
قربة مالية كالصدقة (2).
ف إن كان النذرمطلقا ً: أي غير معلق
بشرط ولا مقيد بمكان أو زمان مثل: لله علي صوم شهر أو حجة أو صدقة أو صلاة
ركعتين ونحوه: فيجب عليه في الحال مطلقاً عن الشرط والزمان والمكان؛ لأن
سبب الوجوب وجد مطلقاً فيثبت مطلقاً، لكن يندب التعجيل.
وإن كان النذر معلقاً بشرط: إن شفى الله مريضي أو إن قدم فلان الغائب،
_________
(1) انظر الموضوع في مراجع نذر المباح: رحمة الأمة: ص 147 ومابعدها، مغني
المحتاج: ص 356 ومابعدها، المغني: ص 3، التحفة: ص 502، فتح القدير: 22/ 4،
المحلى: ص 8، بداية المجتهد: ص 409 ومابعدها، الدردير: ص 162، القوانين
الفقهية: ص 168.
(2) انظر البدائع: 93/ 5، فتح القدير: 26/ 4 ومابعدها، الدر المختار: 75/
3، 77، القوانين الفقهية: ص 168.
(4/2567)
فلله علي صوم شهر أو صلاة ركعتين أوالتصدق
بليرة ونحوه، فإذا وجد الشرط فعليه الوفاء بالنذر نفسه؛ لأن المعلق بالشرط
كالمنجز، فلو فعل المشروط قبل وجود الشرط يكون نفلاً؛ لأن المعلق بالشرط
غير موجود قبل وجود الشرط.
وإن كان مقيداً بمكان بأن قال: (لله علي أن أصلي ركعتين في موضع كذا) أو
(أتصدق على فقراء بلد كذا) يجوز أداؤه في غير ذلك المكان عند أبي حنيفة
وصاحبيه؛ لأن المقصود من النذر: هو التقرب إلى الله عز وجل، وليس لذات
المكان دخل في القربة.
وإن نذر صلاة ركعتين في المسجد الحرام، فأداها في أقل شرفاً منه أو فيما لا
شرف له أجزأه عند أئمة الحنفية المذكورين، وأفضل الأماكن: المسجد الحرام،
ثم مسجد النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم مسجد بيت المقدس، ثم الجامع، ثم
مسجد الحي، ثم البيت؛ لأن المقصود هو القربة إلى الله، وهو يتحقق في أي
مكان.
وخالف زفر في الحالتين: في حالةالتصدق في مكان، وحالة الصلاة في مكان، فإنه
يتعين عليه الوفاء بنذره في المكان المشروط؛ لأن الناذر أوجب على نفسه
الأداء في مكان مخصوص، فإذا أدى في غيره لم يكن مؤدياً ما عليه، وفي الصلاة
في مسجد، التزم الناذر زيادة قربة فيلزمه.
وقال المالكية (1): إن نوى الصلاة أو الاعتكاف في مكان أو سمى المسجد كأحد
المساجد الثلاثة لزمه الذهاب إليه دون غيرها.
وقال الشافعية (2): إذا نذر إنسان التصدق بشيء على أهل بلد معين لزمه فيه
الوفاء بالتزامه، ولو نذر صوماً في بلد لزمه الصوم؛ لأنه قربة، ولم يتعين
مكان
_________
(1) الشرح الصغير: 255/ 2، 265، القوانين الفقهية: ص 170.
(2) مغني المحتاج: 367/ 4، المهذب: 243/ 1 ومابعدها.
(4/2568)
الصوم في تلك البلد، فله الصوم في غيره.
ولو نذر صلاة في بلد لم يتعين لها ويصلي في غيرها؛ لأنها لا تختلف باختلاف
الأمكنة إلا المسجد الحرام أي الحرم كله، ومسجد المدينة والمسجد الأقصى إذا
نذر الصلاة في أحد هذه المساجد فيتعين لعظم فضلها، لقوله صلّى الله عليه
وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا،
والمسجد الأقصى» (1).
واستدلوا بدليل نقلي على تعيين مكان التصدق بالنذر: وهو ما روى عمرو ابن
شعيب عن أبيه عن جده: «أن امرأة أتت النبي صلّى الله عليه وسلم، فقالت: يا
رسول الله إني نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا ـ لمكان كان يذبح فيه أهل
الجاهلية ـ قال: لصنم؟ قالت: لا، قال: لوثن؟ قالت: لا، قال: أوفي بنذرك»
(2).
وكذلك قال الحنابلة (3): يتعين الاعتكاف في أحد المساجد الثلاثة إن نذر
الاعتكاف فيها.
_________
(1) رواه أحمد في مسنده والشيخان: البخاري ومسلم، والبيهقي وأبو داود
والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة، ورواه أحمد والشيخان والبيهقي والترمذي
وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري، ورواه ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو بن
العاص، وهو حديث صحيح (انظر نيل الأوطار: 253/ 8، سبل السلام: 114/ 4).
(2) رواه أبو داود في سننه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهو تتمة حديث
المرأة التي نذرت أن تضرب بالدف عند الرسول صلّى الله عليه وسلم السابق
تخريجه، وفي معناه أحاديث أخرى. قال ابن الأثير في النهاية: الفرق بين
الوثن والصنم: أن الوثن كل ما له جثة معمولة من جواهر الأرض أو من الخشب
والحجارة كصورة الآدمي تعمل، وتنصب، فتعبد. والصنم: الصورة بلا جثة. ومنهم
من لم يفرق بينهما، وأطلقهما على المعنيين. وقد يطلق الوثن على غير الصورة،
ومنه حديث عدي بن حاتم: «قدمت على النبي صلّى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب
من ذهب، فقال: ألق هذا الوثن عنك» (انظر نصب الراية: 300/ 3، نيل الأوطار:
249/ 8 ومابعدها، الإلمام: ص 309 ومابعدها، جامع الأصول: 187/ 12، مجمع
الزوائد: 191/ 4).
(3) كشاف القناع: 412/ 2.
(4/2569)
وإن كان مضافاً إلى وقت في المستقبل: بأن
قال: (لله علي أن أصوم رجب) أو: (أصلي ركعتين يوم كذا) أو: (أتصدق بدرهم في
يوم كذا)، فوقت الوجوب في الصدقة: هو وقت النذر باتفاق الحنفية، حتى إنه
يجوز تقديمها على الوقت المحدد.
واختلف الحنفية في الصوم والصلاة: فقال أبو حنيفة وأبو يوسف: وقت الوجوب
فيهما وقت النذر؛ لأن الوقت للتقدير، لا لتعين الواجب؛ لأن الأوقات في معنى
العبادة سواء. وبناء عليه يجوز تقديم المنذور به على الوقت.
وقال محمد: وقت الوجوب هو حين مجيء الوقت؛ لأن الناذر أوجب على نفسه الصوم
في وقت مخصوص، فلا يجب عليه قبل مجيئه بخلاف الصدقة؛ لأنها عبادة مالية، لا
تعلق لها بالوقت بل بالمال، فكان ذكر الوقت فيه لغواً بخلاف العبادة
البدنية.
ومن نذر أن يذبح ولده، نحر شاة عند أبي حنيفة، وجزوراً فداء عند مالك، وقال
الشافعي: لا شيء عليه؛ لأنها معصية. وقال أحمد في رواية عنه: عليه كفارة
يمين، وهذا قياس المذهب؛ لأن هذا نذر معصية أو نذر لجاج. وفي رواية ثانية
كما قال أبو حنيفة: كفارته ذبح كبش ويطعمه المساكين، عملاً بفداء ولد
إبراهيم حينما أمر بذبحه (1). ومن نذر ذبح نفسه أو أجنبي، ففيه أيضاً عن
أحمد روايتان.
3 - كيفية ثبوت حكم النذر: النذر إما أن
يضاف إلى وقت مبهم أو إلى وقت معين:
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 170، المغني: 708/ 8 ومابعدها.
(4/2570)
ف إن أضيف إلى
وقت مبهم بأن قال: (لله علي أن أصوم شهراً) ولا نية له: فحكمه حكم
الواجب المطلق عن الوقت (1). ومن المعروف أن علماء الأصول اختلفوا في وقت
وجوب الواجب. فقال بعضهم: على الفور، وقال الأكثرون: على التراخي: ففي أي
جزء من العمر يجوز القيام به ويتضيق الوجوب في آخر العمر إذا بقي من العمر
في غالب الظن قدر ما يسع الأداء، ويسن تعجيل الوفاء بالنذر، وهذا هو الرأي
الصحيح. وهو ينطبق على نذر الاعتكاف المضاف إلى وقت مبهم بأن قال: (لله علي
أن أعتكف شهراً) ولا نية له .. ولكن هناك فرقاً بين الصوم والاعتكاف: في
الصوم يخير الناذر بين متابعة الصوم وتفرقته، أما في الاعتكاف فيلزم الناذر
عند الجمهور غير الشافعية بالتتابع في النهار والليل؛ لأن طبيعة الاعتكاف
وهو اللبث على الدوام تتطلب القيام به على الاتصال، فلا بد من التتابع.
وأما الصوم فليس مبنياً على التتابع لوجود فاصل الليل بين كل يومين. فإن
قيد نذر الصوم بتفريق أو موالاة وجب.
وإن أضيف النذر إلى وقت معين بأن قال:
(لله علي صوم غد) فيجب عليه صوم الغد وجوباً مضيقاً ليس له تأخيره من غير
عذر، وإذا قال: (لله علي صوم رجب) فيجب عليه صيام شهر، سواء أكان قبل مجيء
رجب أم بمجرد مجيئه، ولا يجوز التأخير عن رجب من غير عذر. فإن صام رجب إلا
يوماً يقضي ذلك اليوم من شهر آخر، ولو أفطر رجب كله قضى في شهر آخر، لأنه
فوت الواجب عن وقته، فصار ديناً عليه (2)، والدين مقضي على لسان رسول الله
صلّى الله عليه وسلم (3).
_________
(1) الواجب المطلق: هو ما طلب الشارع فعله حتماً، ولم يعين وقتاً لأدائه،
كالكفارة الواجبة على من حلف يميناً وحنث، فليس لفعل هذا الواجب وقت معين،
فإذا شاء الحانث كفر بعد الحنث مباشرة، وإن شاء كفر بعد ذلك (انظر أصول
الفقه للمؤلف: 49/ 1).
(2) انظر هذا المطلب في البدائع: 94/ 5 ومابعدها، مغني المحتاج: 359/ 4
ومابعدها.
(3) أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي أمامة، قال الترمذي: حديث حسن وصححه
ابن حبان. ورواه أيضاً أحمد وأبو داود الطيالسي وأبو يعلى والدارقطني وابن
أبي شيبة وعبد الرزاق (نصب الراية: 57/ 4).
(4/2571)
وقال الشافعية: إن نذر صوم سنة معينة،
صامها وأفطر العيد والتشريق، وصام رمضان عنه ولا قضاء، ولا تقضي المرأة في
الأظهر أيام الحيض والنفاس. وإن أفطر يوماً بلا عذر وجب قضاؤه. فإن شرط
التتابع وجب في الأصح. ويقضي رمضان والعيدين والتشريق؛ لأنه التزم صوم سنة
ولم يصمها. وكذا تقضي المرأة في الأظهر أيام الحيض والنفاس.
ومن شرع في صوم نفل، فنذر إتمامه، لزمه على الصحيح.
ولو قال: (إن قدم زيد، فلله علي صوم اليوم التالي ليوم قدومه): لزمه صومه
فيه.
(4/2572)
|