الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

البَاب التَّاسع: الذّبائح والصّيد وفيه فصلان:
الفصل الأول ـ في الذبائح
الفصل الثاني ـ في الصيد

(4/2755)


الفَصْلُ الأوَّل: الذّبائح وفيه مقدمة في الذبح وحكمه، وأربعة مباحث:
المبحث الأول ـ في الذابح أو المذكي.
المبحث الثاني ـ في الذبح أو التذكية (صفة التذكية، شروطها، سننها، مكروهاتها، أنواعها، ما يحرم أكله من المذبوح ـ أثر ذكاة الأم في الجنين، أثر الذكاة في المشرف على الموت أو المريض، أثر الذكاة في غير المأكول).
المبحث الثالث ـ في آلة الذبح.
المبحث الرابع ـ في الذبيحة أو المذكى ـ ما يؤكل من الحيوان وما لا يؤكل.

(4/2757)


المقدمة ـ تعريف الذبح وحكمه شرعا ً:
الذبح أو الذكاة أو التذكية لغة: القطع أو الشق وإزهاق الحيوان. واصطلاحاً: يختلف بحسب الواجب قطعه في كل مذهب. فعند الحنفية والمالكية (1): هو فري العروق، والعروق التي تقطع في الذكاة أربعة: الحلقوم، والمريء، والودجان (2). ومحله ما بين الَّلبة والَّلحيين (عظمي الحنك)، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «الذكاة: ما بين الَّلبة والِّلحية» (3) أي محل الذكاة: ما بين اللبة واللحيين. واللبة: أسفل العنق. واللحية شعر الذقن. والنحر: فري الأوداج، ومحله: آخر الحلق، والذكاة الاضطرارية: جرح في أي موضع كان من البدن.
وعند الشافعية والحنابلة (4): الذكاة: ذبح حيوان مقدور عليه مباح أكله بقطع الحلقوم والمري. ومحله الحلق: أعلى العنق، أو اللبة: أسفل العنق فيسمى نحراً (5)، أوعقر مزهق للروح عند التعذر في أي موضع كان. والخلاصة باتفاق المذاهب أن الذكاة: هي ذبح أو نحر أوعقر حيوان مباح الأكل.
وحكمه: أنه شرط حل الأكل في الحيوان البري المأكول، فلا يحل شيء من الحيوان المأكول بغير ذكاة شرعية، لقوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم
_________
(1) البدائع: 41/ 5، تكملة الفتح: 52/ 8، اللباب مع الكتاب: 225/ 3 ومابعدها، الشرح الكبير: 99/ 2.
(2) الحلقوم هو الحلق، والمري: مجرى الطعام والشراب، والودجان: عرقان عظيمان في جانبي العنق، بينهما الحلقوم والمريء.
(3) قال الزيلعي عنه: غريب بهذا اللفظ، وأخرج الدارقطني عن أبي هريرة: «ألا إن الذكاة في الحلق واللبة» وإسناده ضعيف جداً. وأخرجه عبد الرزاق موقوفاً على ابن عباس وعلى عمر: «الذكاة في الحلق واللبة» (نصب الراية: 185/ 4).
(4) مغني المحتاج: 265/ 4،270، كشاف القناع: 201/ 3.
(5) يسن نحر الإبل، وذبح البقر والغنم (نيل الأوطار: 122/ 5).

(4/2758)


الخنزير، وما أهل لغير الله به، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع، إلا ما ذكيتم} [المائدة:3/ 5] فقد علق الحل بالتذكية.
ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه، فكلوا ما لم يكن سناً أو ظفراً، وسأحدثكم عن ذلك: أما السن فعظم، وأما الظُّفر فمدى الحبشة» (1).
والحكمة من الذبح: مراعاة صحة الإنسان العامة، ودفع الضرر عن الجسم، بفصل الدم عن اللحم وتطهيره من الدم؛ لأن تناول الدم المسفوح حرام بسبب إضراره بالإنسان، لأنه مباءة الجراثيم والمكروبات، ولكل دم زمرة أو فصيلة تناسبه، فيمنع الاختلاط بين الدماء، ويعد الدم نجساً تنفيراً منه. قال بعض العلماء: والحكمة في اشتراط الذبح وإنهار الدم تمييز حلال اللحم والشحم من حرامهما، وتنبيه على تحريم الميتة لبقاء دمها.

المبحث الأول ـ الذابح الذابح أحد أصناف ثلاثة: صنف تحرم ذكاته بالاتفاق، وصنف تجوز تذكيته بالاتفاق، وصنف مختلف فيه (2).
ف الذابح الذي لا تؤكل ذبيحته وتحرم بالاتفاق: هو الكافر من غير أهل الكتاب، كالمشرك أو الوثني عابد الأصنام، والملحد الذي لا يدين بدين، والمرتد وإن تدين بدين أهل الكتاب، والزنديق، لقوله تعالى: {وما ذُبح على النُّصُب} [المائدة:3/ 5] وقوله: {وما أهل لغير الله به} [المائدة:3/ 5] لأنه يحرم الاتجاه
_________
(1) رواه الجماعة عن رافع بن خديج (نيل الأوطار: 141/ 8).
(2) بداية المجتهد: 435/ 1، القوانين الفقهية: ص 180، الميزان: 60/ 2، رحمة الأمة بهامش الميزان للدمشقي: 154/ 1، البدائع: 45/ 5، المهذب: 251/ 1، المغني: 564/ 8، كشاف القناع: 203/ 6.

(4/2759)


بالذبح إلى غير الله تعالى، والمرتد لا يقر على الدين الذي انتقل إليه، وبناء عليه تحرم اللحوم المستوردة من البلاد الوثنية كاليابان، أو الشيوعية كروسيا والصين، أو التي لا تدين بدين سماوي كالهند. كماتحرم ذبيحة الباطنية إلا من ثبت إيمانه بالإسلام وترك ملته.

والذابح المتفق على ذكاته: هو المسلم البالغ العاقل الذكر، الذي لا يضيع الصلاة، لقوله تعالى: {إلا ما ذكيتم} [المائدة:3/ 5] والخطاب فيه موجه للمسلمين.
وأشهر المختلف في تذكيته بين الفقهاء: أهل الكتاب والمجوس والصابئون، والمرأة والصبي والمجنون والسكران، والسارق والغاصب.
1ً ـ ذبيحة الكتابي: فأما أهل الكتاب: فتجوز من حيث المبدأ ذبائحهم بالإجماع (1) لقوله تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب} ـ أي ذبائحهم ـ {حل لكم، وطعامكم حل لهم} [المائدة:5/ 5]. والجائز: هو ما يعتقدونه في شريعتهم حلالاً لهم، ولم يحرم عليهم، كلحم الخنزير، ولو لم يعلم أنهم سموا الله تعالى، أو كانت الذبيحة لكنائسهم وأعيادهم ولو اعتقدوا تحريمه كالإبل. قال ابن عباس: «وإنما أحلت ذبائح اليهود والنصارى من أجل أنهم آمنوا بالتوراة والإنجيل» (2).
إلا أن الإمام مالك قال: ذبائحهم المحرمة عليهم مكروهة لنا، كالإبل والشحوم الخالصة، وهي المذكورة في قوله تعالى: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل
_________
(1) البدائع، المكان السابق، تكملة الفتح: 52/ 8، تبيين الحقائق: 287/ 5، رد المحتار: 208/ 5، بداية المجتهد: 436/ 1، الشرح الكبير: 99/ 2، المنتقى على الموطأ: 112/ 2، مغني المحتاج: 266/ 4 ومابعدها، المغني: 567/ 8 ومابعدها. تفسير القرطبي: 76/ 6، أحكام القرآن للجصاص: 146/ 1.
(2) رواه الحاكم وصححه.

(4/2760)


ذي ظفر (1)، ومن البقر والغنم، حرمنا عليهم شحومهما، إلا ما حملت ظهورهما، أو الحوايا، أو ما اختلط بعظم} [الأنعام:146/ 6]. وأجازها الجمهور لأنها مسكوت عنها في شرعنا، فتبقى على أصل الإباحة.
وكذلك تكره عند المالكية والشافعية وفي رواية عن أحمد المذبوحة لكنائسهم وأعيادهم، لما فيها من تعظيم شركهم، ولأن الذابح قصد بقلبه الذبح لغير الله، ولم يذكر اسم الله عليه. وهذا هو الأصوب.
وأما إذا علم أن الذابح سمى على الذبيحة غير اسم الله، بأن ذبح النصراني باسم المسيح، واليهودي باسم العزير، فقال الجمهور بعدم الحل لقوله تعالى: {وما أهل لغير الله به} [المائدة:3/ 5] {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} [الأنعام:121/ 6] وهذا هو الأولى بالصحة؛ لأن المراد بحل ذبائحهم ما ذبحوه بشرطه كالمسلم.
وقال المالكية: بكراهة ذلك في غير حرمة، لعموم آية {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} [المائدة:5/ 5] لأنه قد علم الله أنهم سيقولون على ذبائحهم مثل ذلك، ولأن تسميتهم باسم الإله حقيقة ليست على طريق العبادة، فكانت التسمية منهم وعدمها على سواء.
وقيد الشافعية حل ذبيحة الكتابي وزواج الكتابية بشرط هو ما يأتي (2):إن لم يكن الكتابي إسرائيلياً: فالأظهر الحل إن علم دخول قومه (أي أول من تدين من آبائه) في ذلك الدين (أي دين موسى وعيسى عليهما السلام) قبل نسخه وتحريفه، لتمسكهم بذلك الدين حين كان حقاً.
_________
(1) قال قتادة: تفسير كل ذي ظفر: هي الإبل والنعام والبط وكل ما ليس بمشقوق الأصابع.
(2) مغني المحتاج: 187/ 3 وما بعدها.

(4/2761)


وإن كان الكتابي إسرائيلياً (1) فالشرط فيه: ألا يعلم دخول أول آبائه في ذلك الدين بعد بعثة تنسخه، بأن علم دخول أول آبائه في ذلك الدين قبل البعثة، أو شك. فإن علم دخوله فيه بعد تحريفه، أو بعد بعثه لا تنسخه، كبعثة بين موسى وعيسى، فإنه يحل ذبحه، وتزوج الأنثى (2). وفي علمي أنه لا دليل للشافعية على هذا الشرط؛ لأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم أكلوا من ذبائح الكتابيين وتزوجوا من نسائهم، ولم يبحثوا عن توافر هذا الشرط.

2ً ـ ذبيحة المجوس: لا تؤكل ذبيحة المجوس وصيدهم (3)؛ لأنهم مشركون ليسوا من أهل الكتاب، إذ يعتقد المجوسي بخالقين اثنين: للخير والشر، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم، ولا آكلي ذبائحهم» (4) وقد روى أحمد بإسناده عن قيس بن سكن الأسدي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنكم نزلتم بفارس من النَّبط، فإذا اشتريتم لحماً، فإن كان من يهودي أو نصراني، فكلوا، وإ ن كان ذبيحة مجوسي، فلا تأكلوا».
3ً ـ ذبيحة الصابئة: الصابئون إن وافقوا أهل الكتاب في أصول العقائد تؤكل ذبائحهم، وإن لم يوافقوهم وكان دينهم بين المجوسية والنصرانية، أو يعتقدون بتأثير النجوم، فلا تؤكل ذبائحهم (5). وهذا التفصيل وهو رأي الشافعية هو الأولى خلافاً لمن قال بالحل كأبي حنيفة، أو بالحرمة مطلقاً وهم المالكية.
_________
(1) وهو المنسوب إلى إسرائيل، وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام.
(2) ولم يجز الشيعة الإمامية أكل ذبيحة الكتابي لقول جعفر الصادق: «لا تأكلوا ذبائحهم» ولأن الإله الذي يذكرون اسمه ـ إن ذكروه ـ هو أبو المسيح أو أبو عزير، فوجود هذا اللفظ كعدمه. (المختصر النافع في فقه الإمامية: ص 251).
(3) تبيين الحقائق: 287/ 5، البدائع: 45/ 5، الدر المختار: /209، بداية المجتهد: 438/ 1، مغني المحتاج: 266/ 4، المغني: 570/ 8.
(4) غريب بهذا اللفظ، وروي من طريق آخر، مطعون السند (نصب الراية: 181/ 4). ومن تمسك بحل ذبيحة المجوسي كأبي ثور احتج بالشق الأول منه وهو «سنوا بهم سنة أهل الكتاب».
(5) القوانين الفقهية: ص 180، بداية المجتهد: 438/ 1.

(4/2762)


4ً ـ ذبيحة المرأة والصبي: تحل ذبيحة المرأة ولو حائضاً، والصبي المميز (1)؛ لأن للمرأة أهلية كاملة، لكن يستحب كون الذابح رجلاً؛ لأنه أقوى على الذبح من المرأة، ولأن للصبي قصداً صحيحاً، فأشبه البالغ. وتصح ذبيحة غير المميز مع الكراهة عند الشافعية؛ لأن له قصداً وإرادة في الجملة. ولا تصح ذبيحته عند جمهور الفقهاء لأنه لا قصد له، فلا يعقل التسمية، ولا يضبط الذبيحة، أي فلا يعلم شرائط الذبح من فري الأوداج والتسمية.
5ً ـ المجنون والسكران: لا تحل ذبيحتهما عند الجمهور، لأنه لا قصد لهم كالصبي غير المميز، وأجاز الشافعية في الأظهر مع الكراهة ذبيحتهما؛ لأن لهما قصداً وإرادة في الجملة (2).
6ً ـ السارق والغاصب: أجاز جمهور الفقهاء غير الظاهرية ذبيحتهما، وذبيحة المستكره؛ لأن لهما قصداً صحيحاً، ولأنه ليس وجود الملك شرطاً من شروط التذكية (3)، بدليل ما ثبت في السنة من إباحة ذبحهما مع الكراهية، في حديث الشاة المصلية (المشوية أو المطبوخة) التي ذبحت بغير إذن صاحبها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أطعموها الأسارى» (4).
شروط الذابح: مما سبق تعرف شروط الذابح: وهي أن يكون مميزاً عاقلاً، مسلماً أو كتابياً: ذمياً أو حربياً أو من نصارى بني تغلب، قاصداً التذكية، ولو كان
_________
(1) تكملة الفتح: 52/ 8، اللباب: 223/ 3، الدر المختار وحاشيته: 209/ 5، تبيين الحقائق: 287/ 5، بداية المجتهد: 438/ 1، القوانين الفقهية: ص 181، الشرح الكبير: 99/ 2، مغني المحتاج: 267/ 4، المهذب: 251/ 1، كشاف القناع: 203/ 6، المغني: 564/ 8، 567، 573، 583.
(2) المراجع السابقة.
(3) بداية المجتهد: 438/ 1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 181.
(4) رواه أحمد وأبو داود والدارقطني عن عاصم بن كليب (نيل الأوطار: 321/ 5 ومابعدها).

(4/2763)


مكرهاً على الذبح، ذكراً أو أنثى، طاهراً أو حائضاً أو جنباً، بصيراً أوأعمى، عدلاً أو فاسقاً؛ لعموم الأدلة وعدم المخصص، فلا يصح ذبح غير المميز والمجنون والسكران عند الجمهور خلافاً للشافعي، ولا تؤكل ذبيحة المشرك والمجوسي والوثني والمرتد، وتكره عند الشافعية ذكاة الأعمى وغير المميز والمجنون والسكران. وتكره عند الكل ذبيحة النصراني أو اليهودي والفاسق وتارك الصلاة.
ودليل إباحة ذبيحة المرأة: أن جارية لكعب بن مالك كانت ترعى غنماً بسَلْع، فأصيبت شاة منها، فأدركتها فذبحتها بحجر، فسأل النبي فقال: «كلوها» (1).

المبحث الثاني ـ الذبح أو التذكية:
وفيه ثلاثة عشر مطلباً:

المطلب الأول - عدد المقطوع:
اتفق العلماء على أن الذبح الذي يقطع فيه الودجان والمري والحلقوم مبيح للأكل. واختلفوا في الحد الأدنى الذي يجب قطعه:
1 - فقال أبو حنيفة (2): يجب قطع الأكثر من أربعة أي ثلاثة منها: وهي الحلقوم، والمري والودجان، فلو ترك الذابح واحداً منها يحل. لحديث «أفر الأوداج بما شئت» (3) والأوداج: اسم جمع، أقله ثلاثة.
_________
(1) رواه أحمد والبخاري (نيل الأوطار: 139/ 8).
(2) البدائع: 41/ 5، الدر المختار: 207/ 5، تبيين الحقائق: 290/ 5، اللباب: 226/ 3، تكملة فتح القدير: 57/ 8.
(3) قال الزيلعي عنه: غريب. ولفظه المؤيد له: ما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه عن عدي بن حاتم: «أمرر الدم بما شئت، واذكر اسم الله» وروى ابن أبي شيبة عن رافع بن خديج: «كل ما أفرى الأوداج إلا سناً أو ظفراً» (نصب الراية: 185/ 4 ومابعدها).

(4/2764)


وقال أبو يوسف: لا بد من قطع الحلقوم والمري وأحد الودجين؛ لأن كل واحد من العروق يقصد بقطعه غير ما يقصد به الآخر؛ لأن الحلقوم مجرى النفَس، والمري: مجرى الطعام، والودجين مجرى الدم.
وقال محمد: لا يحل حتى يقطع من كل واحد من الأربعة أكثره، لأنه إذا قطع الأكثر من كل واحد من الأربعة، فقد حصل المقصود بالذبح، وهو خروج الدم.
2 - وقال المالكية في المشهور عندهم (1): لا بد من قطع جميع الحلقوم وجميع الودجين. ولا يشترط قطع المري عندهم. فكان مذهبهم قريباً من الحنفية، ودليلهم المفهوم من حديث رافع بن خَديج: «ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه، فكل» (2) وحديث أبي أمامة: «ما أفرى الأوداج، ما لم يكن قرض سن، أو جزّ ظفر» (3) فالأول: يقتضي قطع بعض الأوداج فقط، وهو معنى إنهار الدم، والثاني: يقتضي قطع جميع الأوداج، ولا يمكن قطع الودجين بدون الحلقوم، لاحاطتهما به. وهذا أدق وأصح الآراء.
3 - وقال الشافعية والحنابلة (4): لا بد من قطع كل الحلقوم (مجرى النفَس) والمري (مجرى الطعام)؛ لأن الحياة تفقد بفقدهما. ويستحب قطع الودجين (وهما عرقان في صفحتي العنق)؛ لأنه من الإحسان في الذبح، وخروجاً من الخلاف. وإجزاء قطع الحلقوم والمري مشروط بوجود الحياة المستقرة عند أول قطعهما (بأن
_________
(1) الشرح الكبير: 99/ 2، بداية المجتهد: 431/ 1، القوانين الفقهية: ص 184.
(2) متفق على صحته، رواه الجماعة (نيل الأوطار: 141/ 8).
(3) أخرجه الطبراني في معجمه (نصب الراية: 186/ 4).
(4) مغني المحتاج: 270/ 4، المهذب: 252/ 1، كشاف القناع: 204/ 6، المغني: 575/ 8، بجيرمي الخطيب: 248/ 4.

(4/2765)


أسرع في الذبح فقطعهما دفعة، وإلا اشترطت عند آخر قطع)، فإن لم يسرع قطعهما (بأن أسرع في الذبح فقطعهما دفعة، وإلا اشترطت عند آخر قطع)، فإن لم يسرع قطعهما ولم تكن فيه حياة مستقرة، بل انتهى لحركة مذبوح، لم يحل؛ لأنه صار ميتة، فلا يفيده الذبح بعدئذ.

المطلب الثاني ـ موضع القطع:
لا خلاف في أنه إذا قطعت جوزة الحلقوم (أي العقدة التي في أعلى الحلق) في نصفها، وخرج بعضها إلى جهة البدن، وبعضها إلى جهة الرأس، حلت الذبيحة.
فإن لم تقطع الجوزة في نصفها، وخرجت إلى جهة البدن، فقال جمهور الفقهاء غير الحنفية: لا تؤكل؛ لأن قطع الحلقوم شرط في الذكاة، فلا بد أن تقطع الجوزة، لأنه إذا قطع فوق الجوزة فقد خرج الحلقوم سليماً. وعلى هذا فلا بد من أن يبقى من الجوزة تدويرتان كاملتان: إحداهما من أعلى، والثانية من أسفل، وإلا لم يحل المذبوح، لأنه حينئذ يسمى مزعاً لا ذبحاً.
وقال الحنفية وبعض المالكية: تؤكل، لأنه لا يشترط قطع الحلقوم ذاته، فإن قطع فوق الجوزة، جاز (1) لأنه يشترط فقط قطع أكثر الأوداج، وقد وجد.
وعبارة الحنفية: المختار أن كل شيء ذبح وهو حي، أكل، وعليه الفتوى، لقوله تعالى: {إلا ما ذكيتم} [المائدة:3/ 5] من غير تفصيل.
_________
(1) الشرح الكبير: 99/ 2، بداية المجتهد: 432/ 1، اللباب شرح الكتاب: 225/ 3 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 184، رد المحتار: 207/ 5.

(4/2766)


المطلب الثالث ـ الذبح من القفا:
قال المالكية (1): لا يؤكل ما ذبح من القفا، ولا في صفحة العنق إذا وصل من ذلك إلى قطع ما يجب في الذكاة؛ لأن القاطع للعروق أعضاء الذكاة من القفا، لا يصل إليها بالقطع إلا بعد قطع النخاع الشوكي، وهو مقتل من المقاتل، فيحصل الذبح لحيوان قد أصيب مقتله.
وقال جمهور الفقهاء (2): يكره ذبح الحيوان من القفا، أو من صفحة العنق، فلو فعل ذلك عصى لما فيه من التعذيب. لكن إن حدث القطع على وجه السرعة، وأتت السكين على موضع الذبح، وفي الحيوان حينئذ حياة مستقرة حتى تقطع العروق عند الحنفية، والحلقوم والمري عند الشافعية والحنابلة، جاز أكله، وإلا لم يحل لموته بلا ذكاة. ويعلم وجود الحياة المستقرة بوجود الحركة أو انفجار الدم بعد قطع موضع الذبح، فهي دليل بقاء الحياة المستقرة قبله. فإن لم يعلم وشك، هل توجد الحياة المستقرة قبل قطع موضع الذبح نظر: فإن كان الغالب بقاء ذلك لحدة الآلة وسرعة القطع، أبيح أكله، وإن كانت الآلة كالَّة (لا تقطع)، وأبطأ قطعه، وطال تعذيبه للحيوان لم يبح أكله؛ لأنه مشكوك في وجود ما يحله، وصار ميتة، فلا يفيده الذبح بعدئذ.

المطلب الرابع ـ قطع النخاع:
إن تمادى الذابح بالذبح حتى قطع النخاع (3)، أو قطع كل الرقبة (إبانة
_________
(1) بداية المجتهد، القوانين الفقهية: المكان السابق، الشرح الكبير: 99/ 2، شرح الرسالة: 379/ 1.
(2) الدر المختار: 208/ 5، اللباب: 227/ 3، تكملة الفتح: 60/ 8، الشرح الصغير: 174/ 2، القوانين الفقهية وبداية المجتهد: المكان السابق، المهذب: 252/ 1، مغني المحتاج: 271/ 4، كشاف القناع: 205/ 6، الميزان: 60/ 2، المغني: 578/ 8 ومابعدها.
(3) النخاع: وهو عرق أبيض يمتد من الدماغ، ويستبطن فقرات الرقبة إلى عَجب الذنب (أي أصل الذنب).

(4/2767)


الرأس)، كره الذبح عند جمهور الفقهاء غير الحنابلة (1)، لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه نهى عن النَّخْع (بلوغ السكين النخاع) ولأن فيه زيادة تعذيب، فإن فعل ذلك لم يحرم؛ لأن قطع النخاع يوجد بعد حصول الذكاة.
وقال الحنابلة (2): لو أبان رأس الحيوان المأكول بالذبح أو بسيف، أبيح مطلقاً، لإفتاء علي وعمران بن حصين بأكله.

المطلب الخامس ـ فورية الذبح:
يشترط الإسراع أو الفورية في إكمال الذبح عند جمهور الفقهاء (3)، فإن رفع يده قبل تمام الذبح، ثم أعادها فوراً، تؤكل الذبيحة. فإن تباعد ذلك لم تؤكل، لأن الذكاة طرأت على منفوذة المقاتل، أي التي نفذ فيها أثر القتل قبل الذبح فصارت ميئوسة مقطوعاً بموتها. وقال الحنفية (4): يستحب التذفيف (الإسراع) في قطع الأوداج، ويكره الإبطاء فيه، للحديث: «وليرح ذبيحته» والإسراع نوع راحة له.

المطلب السادس ـ شروط الذبح أو التذكية الشرعية:
يشترط لجواز التذكية أو الذبح شروط أخرى عدا ما ذكر من قطع العروق، والفورية، وكون الذابح مسلماً أو كتابياً، وهي ما يأتي:
_________
(1) الدر المختار، بداية المجتهد، المهذب، المكان السابق، القوانين الفقهية: ص 581، اللباب مع الكتاب: 227/ 3.
(2) كشاف القناع: 205/ 6 ومابعدها.
(3) رد المحتار: 207/ 5، بداية المجتهد، القوانين الفقهية: المكان السابق، مغني المحتاج: 271/ 4، كشاف القناع: 204/ 6، شرح رسالة القيرواني: 379/ 1.
(4) البدائع: 60/ 5.

(4/2768)


أولاً ـ النية أو القصد: أي قصد الفعل لتؤكل لا مجرد إزهاق الروح: يشترط في الذبح باتفاق الفقهاء (1) قصد عين المذبوح بالفعل، وإن أخطأ في الظن، أو قصد الجنس، وإن أخطأ في الإصابة. فلو تم قطع العروق بغير نية الذبح، إذ لم يقصد أحد تحقيقه، لم تحل الذبيحة، كما لوضرب حيواناً بآلة، فأصابت منحره، أو أصابت صيداً، أو قصد مجرد إزهاق روحه من غير قصد تذكية، لم يؤكل (2).
ثانياً ـ التسمية عند التذكية حالة التذكر: بأن يقول: (بسم الله) عند حركة يده بالذبح أو النحر أو العقر، ويسن التكبير مع التسمية بأن يقول: (بسم الله، والله أكبر). قال جمهور الفقهاء غير الشافعية (3): تشترط التسمية عند التذكية وعند الإرسال في العقر، فلا تحل الذبيحة، سواء أكانت أضحية أم غيرها، في حال ترك التسمية عمداً، وكانت ميتة. فلو تركها سهواً، أو كان الذابح المسلم أخرس أو مستكرهاً، تؤكل لقوله تعالى: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه، وإنه لفسق} [الأنعام:121/ 6] وأضاف الحنابلة: من ترك التسمية على الصيد عامداً أو ساهياً، لم يؤكل. وعلى هذا فتحقيق المذهب عندهم أن التسمية على الذبيحة تسقط بالسهو، وعلى الصيد لا تسقط. وقال الظاهرية: تشترط التسمية مطلقاً، ولا يؤكل متروك التسمية عمداً أو سهواً.
_________
(1) تكملة الفتح: 53/ 8، تبيين الحقائق: 287/ 5، رد المحتار: 209/ 5، الشرح الكبير: 106/ 2، بداية المجتهد: 435/ 1، القوانين الفقهية: ص 184، مغني المحتاج: 276/ 4 ومابعدها، المغني: 581/ 8، كشاف القناع: 202/ 6.
(2) قال النووي في المنهاج (مغني المحتاج، المكان السابق): «لو كان بيد شخص سكين مثلاً، فسقط من يده، وانجرح به صيد، أو احتكت به شاة، وهو في يده، فانقطع حلقومها ومريئها، أو استرسل كلب، فأغراه صاحبه، فزاد عَدْوه لم يحل الصيد في الأصح، لاجتماع الاسترسال المانع والإغراء المبيح، فغلب جانب المنع».
(3) البدائع: 46/ 5، تكملة الفتح: 54/ 8، تبيين الحقائق: 288/ 5، الدر المختار: 210/ 5، الشرح الكبير: 106/ 2، بداية المجتهد: 434/ 1، القوانين الفقهية: ص 185، كشاف القناع: 206/ 6، المغني: 656/ 8.

(4/2769)


وقال الشافعية (1): تسن التسمية ولا تجب وتركها مكروه، لقوله تعالى: {فكلوا مما ذكراسم الله عليه} [الأنعام:118/ 6] فلو ترك التسمية عمداً، أو سهواً، حل الأكل، ولأن الله تعالى في قوله: {إلا ما ذكيتم} [المائدة:3/ 5] أباح المذكى، ولم يذكر التسمية، وأباح الله تعالى ذبائح أهل الكتاب، وهم لا يسمون غالباً، فدل على أنها غير واجبة.
أما الذبيحة التي يحرم أكلها، فهي التي ذكر اسم غير الله عليها، وهي التي كانت تذبح للأصنام. وهذا هو المقصود بآية {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} [الأنعام:121/ 6].
ويدل لمذهب الشافعية من السنة أحاديث منها:
حديث عائشة رضي الله عنها: «إن قوماً قالوا: يا رسول الله: إن قومنا يأتوننا باللحم، لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: سموا الله عليه أنتم، وكلوا» (2) وفي رواية لمالك: «وكانوا حديثي عهد بالكفر» ولو كانت التسمية واجبة، لما أجاز الأكل مع الشك.
وحديث عدي بن حاتم، قال: «سألت النبي صلّى الله عليه وسلم عن الصيد؟ فقال: إذا رميت بسهمك، فاذكر اسم الله عليه» (3).
وحديث الصلت السدوسي: «ذبيحة المسلم حلال، ذكر اسم الله، أو لم يذكر» (4) ويذكره الفقهاء بلفظ غريب: «المسلم يذبح على اسم الله تعالى، سمى أو
_________
(1) مغني المحتاج: 272/ 4، المهذب: 252/ 1.
(2) رواه البخاري والنسائي وابن ماجه (نيل الأوطار: 139/ 8، نصب الراية: 183/ 4 ومابعدها).
(3) أخرجه الأئمة الستة في كتبهم (نصب الراية: 184/ 4).
(4) مرسل رواه أبو داود في المراسيل (نصب الراية: 183/ 4).

(4/2770)


لم يسم»، وسأل رجل النبي صلّى الله عليه وسلم: الرجل منا يذبح، وينسى أن يسمي الله، قال: اسم الله على كل مسلم» (1) وفي لفظ: «على فم كل مسلم» أو «اسم الله في قلب كل مسلم».
والأحاديث الأخرى المطالبة بالتسمية مثل خبر أبي ثعلبة: «فما صدت بقوسك فاذكر اسم الله، ثم كل ... » محمولة على الندب. وهذا الرأي أيسر من غيره، لكن أدلة الجمهور وأحاديثهم أصح وأقوى ثبوتاً وأعم مراداً.

المطلب السابع ـ سنن التذكية:
يستحب في التذكية ما يأتي وهي سنن الذبح (2):
1 - التسمية عند من لا يوجبها وهم الشافعية، والتكبير، فيقول: بسم الله، والله أكبر. ولا يقل: باسم الله واسم محمد، وأضاف الشافعية: ويصلي على النبي صلّى الله عليه وسلم عند الذبح؛ لأنه محل طاعة.
2 - كون الذبح بالنهار، ويكره تنزيهاً عند الحنفية بالليل، قياساً على الأضحية، خشية الخطأ في الذبح، وقد روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه نهى عن الأضحية ليلاً، وعن الحصاد ليلاً (3).
_________
(1) أخرجه الدارقطني، وفيه ضعيف (نصب الراية، المكان السابق).
(2) البدائع: 60/ 5، الدر المختار: 208/ 5، تبيين الحقائق: 291/ 5، تكملة الفتح: 60/ 8، بداية المجتهد: 435/ 1، القوانين الفقهية: ص 185، الشرح الكبير: 271/ 4 ومابعدها، المهذب: 251/ 1 ومابعدها، كشاف القناع: 208/ 6 ومابعدها.
(3) أخرج الطبراني عن ابن عباس أنه صلّى الله عليه وسلم نهى عن الذبح ليلاً، لكن في إسناده متروك. وفي البيهقي عن الحسن: «نهى عن جذاذ الليل وحصاده، والأضحية بالليل» وهو حديث مرسل (نيل الأوطار: 126/ 5).

(4/2771)


3 - توجه الذابح والذبيحة نحو القبلة؛ لأن القبلة جهة معظمة وهي أشرف الجهات، والتذكية عبادة، وكان الصحابة إذا ذبحوا استقبلوا القبلة، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم لما ضحى، وجه أضحيته إلى القبلة، وقال: {وجهت وجهي .. } [الأنعام:79/ 6] الآيتين (1). فإن لم يستقبل ساهياً أو لعذر، أكلت.
4 - إضجاع الذبيحة على شقها الأيسر برفق، ورأسها مرفوع. ويأخذ الذابح جلد حلقها من اللحي الأسفل، فيمده، حتى تتبين البشرة، ثم يمر السكين على الحلق تحت الجوزة، حتى يقف في عظم الرقبة. فإن كان أعسر، جاز أن يجعلها على شقها الأيمن. ويكره ذبح الأعسر ويستحب أن يستنيب غيره.
وتترك رجلها اليمنى تتحرك بعد الذبح لتستريح بتحريكها، إلا الإبل، فالأفضل أن تنحر قائمة معقولة ركبتها اليسرى، لقوله تعالى: {فاذكروا اسم الله عليها صوافّ} [الحج:36/ 22] كما سيأتي.
5 - نحر الإبل قائمة معقولة الركبة اليسرى، وذبح البقر والغنم مضجعة لجنبها الأيسر وتترك رجلها اليمنى، وتشد باقي القوائم، لقوله تعالى في الإبل: {فاذكروا اسم الله عليها صوافّ} [الحج:36/ 22] قال ابن عباس: «أي قياماً على ثلاث» (2) أما الشاة ففي الصحيحين: «أنه أضجعها» وقيس عليها البقر وغيره، لأنه أسهل على الذابح في أخذه السكين باليمين، وإمساك الرأس باليسار.
ولا خلاف بين أهل العلم في استحباب نحر الإبل (3)، وذبح ما سواها، قال الله تعالى: {فصل لربك وانحر} [الكوثر:2/ 108] وقال تعالى: {إن الله
_________
(1) رواه ابن ماجه عن جابر (نيل الأوطار: 126/ 5).
(2) رواه الحاكم وصححه.
(3) معنى النحر: أن يضربها بحربة أو نحوها، في الوهدة التي بين أصل عنقها وصدرها.

(4/2772)


يأمركم أن تذبحوا بقرة} [البقرة:67/ 2] قال مجاهد: أمرنا بالنحر، وأمر بنو إسرائيل بالذبح (1). وثبت «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نحر بدنة، وضحى بكبشين أقرنين ذبحهما بيده» (2).
6 - قطع الأوداج كلها والتذفيف أي الإسراع بالذبح، ويكره قطع البعض دون البعض، لما فيه من إبطاء فوات الحياة. ولايبلغ بالذبح النخاع (وهو العرق الأبيض الذي يكون في عظم الرقبة) ولا إبانة الرأس، ولو فعل ذلك يكره، لما فيه من زيادة إيلام من غير حاجة إليه، كما بان سابقاً.
7 - إحداد الشفرة (السكين العظيمة) قبل الإضجاع، لا بمرأى البهيمة؛ لأنها تعرف الآلة الجارحة كما تعرف المهالك، فتتحرز عنها، فإذا أحد الشفرة، وقد أضجعها، يزداد ألمها. قال النبيصلّى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم، فأحسنوا القِتْلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته» (3) وفي سنن البيهقي أن عمر رضي الله عنه «رأى رجلاً وقد أضجع شاة، ووضع رجله على صفحةوجهها، وهو يحد الشفرة، فضربه بالدِّرة» وعن ابن عباس قال: «مر رسول الله صلّى الله عليه وسلم على رجل واضع رجله على صفحة شاة، وهو يحد شفرته، وهي تلحظ إليه ببصرها، قال: أفلا قُتِل هذا، أو يريد أن يميتها موتتين» (4).
ويستحب ألا يذبح شاة، وأخرى تنظر إليه لما روى ابن عمر: «أن رسول الله
_________
(1) المغني: 575/ 8 ومابعدها.
(2) متفق عليه.
(3) رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه عن شدّاد بن أوس (نيل الأوطار: 141/ 8) والقتلة والذبحة: هي الهيئة والحالة.
(4) رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد: 33/ 4).

(4/2773)


صلّى الله عليه وسلم أمر أن تحد الشفار، وأن توارى عن البهائم» (1).
8 - الترفق بالبهيمة، فلا يضرب بها الأرض، ولا تجر برجلها إلى المذبح؛ لأنه إلحاق زيادة ألم بها من غير حاجة إليها في التذكية.

المطلب الثامن ـ مكروهات التذكية:
يكره في الذبح أو التذكية ترك السنن السابقة، فتكون مكروهات التذكية ما يأتي (2):
1 - ترك التسمية عند من لا يوجبها أو لا يشترطها، وهم الشافعية وبعض المالكية. أو قرن اسم الله باسم محمد أو غيره. ويكره عند الحنفية أن يقول الذابح عند الذبح: اللهم تقبل من فلان. وإن قال ذلك قبل التسمية والإضجاع أوبعد الذبح جاز.
2 - التوجه بالذبيحة لغير القبلة، لمخالفة السنة.
3 - نحر الشياه وذبح الإبل عند الحنفية، لمخالفة ما ثبت بالسنة، ولا يكره ذلك عند الشافعية والحنابلة، لعدم ورود نهي فيه.
4 - التعذيب أو زيادة الألم بلا فائدة مثل قطع الرأس، وكسر الرقبة، وبلوغ النخاع، والذبح من القفا (3)، وجر الحيوان برجله إلى المذبح، وحد الشفرة أمامه
_________
(1) رواه أحمد وابن ماجه.
(2) البدائع: 60/ 5، تبيين الحقائق: 292/ 5، الدر المختار: 208/ 5، الشرح الصغير: 173/ 2، القوانين الفقهية: ص 185، مغني المحتاج: 172/ 4، كشاف القناع: 208/ 6 ومابعدها، المغني: 580/ 8.
(3) إن بقيت حية حتى تقطع العروق، وإلا لم يحل لحدوث الموت بلا ذكاة.

(4/2774)


بعد الإضجاع، والذبح أمام بهيمة أخرى لمخالفة الثابت في السنة، والسلخ أو النخع (قطع النخاع) قبل أن يبرد الحيوان، لما روي
«أن الفَرافِصَة قال لعمر رضي الله عنه: إنكم تأكلون طعاماً لا نأكله، قال: وما ذاك يا أبا حسان؟ فقال: تُعجلون الأنفس قبل أن تزهق (1). فأمر عمر رضي الله عنه منادياً ينادي: الذكاة في الحلق والَّلبة لمن قدر، ولا تعجلوا الأنفس حتى تزهق» (2).
5 ـ الذبح بالسن والظفر والعظم المنزوع عند الحنفية الذين يجيزون التذكية بها، مع الكراهة لما فيه من الضرر بالحيوان كذبحه بشفرة كليلة. أما الذبح بالقائم غير المنزوع من الظفر ونحوه فلا يحل.

المطلب التاسع ـ أنواع التذكية:
التذكية التي تحل الأكل عند المالكية (3) أربعة أنواع:
1 - إدماء أو صيد أو عقر في غير المقدور عليه، المتوحش، لا الإنسي الذي يكون من الأنعام، أما الحمام ونحوه فكله صيد، فلو توحش أكل بالعقر.
2 - وذبح في الحلق بقطع جميع الحلقوم وجميع الودجين للطيور ولو نعامة، والغنم.
3 - ونحر في اللبة: وهي وسط الصدر للإبل والزرافة (4). وأما البقر
_________
(1) الأنفس ههنا: الأرواح التي تكون حركة الأبدان بها، وزهوقها: خروجها من الأبدان وذهابها.
(2) المهذب: 253/ 1.
(3) الشرح الكبير: 99/ 2، 103، 107، بداية المجتهد: 429/ 1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 183 ومابعدها.
(4) الذبح عند المالكية: قطع الحلقوم والودجين من المقدّ بنية. وعقر الحيوان: هو أن يرمى بسهم في أي موضع من جسمه، فيجرحه ويميته. والنحر: ذبح من أعلى الصدر، ويكون في اللَّبة: وهي الوهدة التي بين أصل العنق والصدر.

(4/2775)


فيجوز فيها الذبح والنحر، لكن يندب فيها الذبح، أي أن الأنعام يشترط فيها الذبح أو النحر.
4 - فعل يزيل الحياة بأي وسيلة وهو تأثير بقطع أو غيره في الجراد؛ لأن المقرر عند المالكية خلافاً لعامة الفقهاء: أن الجراد لا يؤكل من غير ذكاة، وذكاته عندهم أن يقتل إما بقطع رأسه أو بغير ذلك.
ويجب النحر في الإبل والزرافة، والذبح في غيرها. فإن ذبح ماينحر أو نحر ما يذبح ولو سهواً إن قدر، من غير ضرورة، لم تؤكل الذبيحة. ويجوز للضرورة الذبح في الإبل، والنحر في غيرها كوقوع الحيوان في هوة، أو لعدم وجود آلة الذبح أو النحر.
والخلاصة: أن الأنعام إذا توحشت لاتؤكل بالصيد عندهم، لكن يؤكل بالصيد إن تأنس متوحش الأصل ثم هرب، أو توحش الحمام ونحوه؛ لأن كله صيد.
وكذلك تنقسم التذكية عند الشافعية إلى ثلاثة أقسام: ذبح، ونحر، وعقر، أما الذبح: فهو قطع الحلق (أعلى العنق) والمري من الحيوان، وتذكى به جميع الحيوانات.
وأما النحر: فهو قطع لَبّة الحيوان، وهي أسفل العنق، وهو المسنون في الإبل.
وأما العقر: فهو ذكاة الضرورة، وهو جرح الحيوان، بأي فعل مزهق للروح. في أي مكان في جسمه. ويستعمل في تذكية الحيوان المأكول إذا ندَّ، ولم يتمكن صاحبه من القدرة عليه.

(4/2776)


وعلى هذا يرى الجمهور غير المالكية (1) أن الذكاة نوعان: اختيارية، واضطرارية في معنى الصيد.
أما الاختيارية: فهي الجرح في الحلق (الحلقوم) مابين اللبة واللحيين، عند القدرة على الحيوان. ولابد من ذبح المستأنس؛ لأن ذكاة الاضطرار إنما يصار إليها عند العجز عن ذكاة الاختيار.
والاضطرارية: الجرح في أي موضع كان من البدن عند العجز عن الحيوان، أي كأنها صيد، فتستعمل للضرورة في المعجوز عنه من الصيد والأنعام، أي أنها تستعمل عند الجمهور غير المالكية في الحيوان المتوحش، أو الحيوان المستأنس إذا شرد، ولم يمكن الحصول عليه، لأن التكليف بحسب الوسع. وتسمى هذه الحالة: العقر أي إزهاق الروح في أي موضع كان. ويكون العقر أو ذكاة الضرورة بآلة جارحة لا بمثقل أو حجر أي بالجرح أو الطعن، أو إنهار الدم في أي موضع كان من البدن، بحيث يسيل دمه. ويشترط عند الشافعية: أن يكون الجرح مفضياً إلى الزهوق أي يؤدي إلى الموت.
وأما عند المالكية: فلا يحل الحيوان بذكاة الضرورة إذا كان مستأنساً من الأنعام.
فلو توحش حيوان أهلي بعد أن كان إنسياً أو مستأنساً، أو ندَّ بعير (شرد) أو تردى في بئر ونحوه، ولم تمكن الذكاة الاختيارية أي عجز عنها بذبحه في الحلق، فذكاته عند غير المالكية حيث يصاب بأي جرح من بدنه، ويحل حينئذ أكله، كصيد
_________
(1) تبيين الحقائق: 286/ 5، تكملة الفتح:60/ 8 ومابعدها، الدر المختار وحاشيته: 206/ 5،213، مغني المحتاج: 265/ 4، 268 ومابعدها، 271، المهذب: 255/ 1، المغني: 566/ 8، 573، 575، 577، كشاف القناع: 205/ 6، الشرح الكبير للدردير: 103/ 4، 110.

(4/2777)


الطائر أو الحيوان المتوحش، لحديث رافع بن خديج، قال: «كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في سفر، فندَّ بعير من إبل القوم، ولم يكن معهم خيل، فرماه رجل بسهم، فحبسه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن لهذه البهائم أوابد، كأوابد الوحش، فما فعَل منها هذا، فافعلوا به هكذا (1)». وهذا هو الرأي الأرجح.
وإن نحر ما يذبح، أو ذبح ما ينحر أكل مع الكراهة عند الحنفية (2)، وبلا كراهة عند الشافعية والحنابلة، لعدم ورود نهي فيه.

المطلب العاشر ـ ما يحرم أكله من المذبوح:
قال الحنفية (3): لا تؤكل سبعة أشياء من أجزاء الحيوان المأكول وهي: الدم المسفوح، والذكر، والأنثيان، والقبُل، والغدة (4)، والمثانة، والمرارة. لقوله عز شأنه: {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف:157/ 7] وهذه الأشياء السبعة مما تستخبثه الطباع السليمة. وروي عن مجاهد أنه قال: «كره رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الشاة: الذكر، والأنثيين، والقبل، والغدة، والمرارة، والمثانة والدم» والمراد منه كراهة التحريم، بدليل أنه جمع بين الأشياء الستة وبين الدم، في الكراهة، والدم المسفوح محرم. والمروي عن أبي حنيفة أنه قال: «الدم حرام، وأكره الستة» أطلق اسم الحرام على الدم المسفوح، لأنه ثبت بدليل مقطوع به،
_________
(1) رواه الجماعة (نيل الأوطار: 143/ 8) والأوابد جمع آبدة: أي غريبة، وتأبدت: توحشت، والمراد أن لها توحشاً.
(2) يجوز في قول عند الحنفية استخدام ذكاة الضرورة فيما لو أدرك صيده حياً، أو أشرف ثوره على الهلاك، وضاق الوقت على الذبح، أو لم يجد آلة الذبح، فجرحه في غير محل الذبح، حل. وفي قول آخر: لا يحل أكله إلا إذا قطع العروق.
(3) البدائع: 61/ 5، رد المحتار: 219/ 5.
(4) الغدة: قطعة لحم صلبة تحدث عن داء بين الجلد واللحم.

(4/2778)


وهو النص القرآني: {قل: لا أجد في ما أوحي إلي محرماً} ... إلى قوله: {أو دماً مسفوحاً} [الأنعام:6/ 145] وسمى ما سواه مكروهاً، لثبوته بدليل ظني.

المطلب الحادي عشر ـ أثر ذكاة الأم في الجنين:
لذكاة الجنين أربعة أحوال (1):
الأول ـ أن تلقيه الأم ميتاً قبل الذبح، فلا يؤكل إجماعاً.
الثاني ـ أن تلقيه حياً قبل الذبح، فلا يؤكل إلا أن يذكى (يذبح) وهو مستقر الحياة.
الثالث ـ أن تلقيه حياً بعد تذكيتها، فإن ذبح وهو حي أكل، وإن لم تدرك ذكاته في حال الحياة، فهو ميتة، وقيل عند المالكية: ذكاته ذكاة أمه.
الرابع ـ أن تلقيه الأم ميتاً بعد تذكيتها، وهذا موطن الخلاف بين الفقهاء:
آـ فقال أبو حنيفة وزفر والحسن بن زياد: لا يؤكل بتذكية الأم؛ لأن الله تعالى حرم الميتة، وحرم المنخنقة، والجنين ميتة؛ لأنه لا حياة فيه، والميتة: كل حيوان مات من غير ذكاة، أو إن الجنين مات خنقاً، فيحرم بنص القرآن.
ولا يجعل الجنين تبعاً لأمه؛ لأنه يتصور بقاؤه حياً بعد ذبح الأم، فوجب إفراده بالذبح ليخرج الدم عنه، فيحل به، ولا يحل بذكاة أمه، إذ المقصود بالذكاة إخراج دمه ليتميز من اللحم، فيطيب، فلا يكون تبعاً للأم.
_________
(1) البدائع: 42/ 5، تبيين الحقائق: 293/ 5، اللباب: 228/ 3، القوانين الفقهية: ص 183، بداية المجتهد: 428/ 1 ومابعدها، الشرح الكبير: 114/ 2، مغني المحتاج: 579/ 4، 306، المغني:579/ 8، شرح الرسالة: 381/ 1.

(4/2779)


والمراد بحديث «ذكاة الجنين ذكاة أمه» هو التشبيه أي كذكاتها، فلا يدل على أنه يكتفى بذكاة الأم. والخلاصة: أن الجنين الميت لا يؤكل عند الحنفية، أشعر أو لم يشعر، أي تم خلقه، أو لم يتم، لأنه لا يشعر إلا بعد تمام الخلق.
ب ـ وقال جمهور الفقهاء ومنهم صاحبا أبي حنيفة: يحل أكل الجنين إذا خرج ميتاً بذكاة أمه، أو وجد ميتاً في بطنها، أو كانت حركته بعد خروجه كحركة المذبوح.
ويشترط فيه عند المالكية: أن يكون قد كمل خلقه: ونبت شعره، لما روي عن ابن عمر وجماعة من الصحابة، وقال كعب بن مالك: «كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقولون: إذا أشعر الجنين، فذكاته ذكاة أمه».
وأجاز الشافعية والحنابلة أكل الجنين الميت، أشعر أم لم يشعر، لما روى ابن المبارك عن ابن أبي ليلى، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ذكاة الجنين ذكاة أمه، أشعر أو لم يشعر».
ودليل الجمهور على الجواز حديث حسن: «ذكاة الجنين ذكاة أمه» (1)، ورأيهم بدليل الثابت في السنة هو الأصح عندي، بل القياس يقتضي أن تكون ذكاة الجنين في ذكاة أمه؛ لأنه جزء منها، فلا معنى لاشتراط الحياة فيه. قال ابن رشد المالكي: وعموم الحديث يضعف اشتراط أصحاب مالك نبات شعره، فلا يخصص العموم الوارد في ذلك بالقياس، أي قياسه على الأشياء التي تعمل فيها التذكية.
_________
(1) روي عن أحد عشر صحابياً وهم الخدري، وجابر، وأبو هريرة، وابن عمر، وأبو أيوب، وابن مسعود، وابن عباس، وكعب بن مالك، وأبو الدرداء، وأبو أمامة، وعلي. فحديث أبي سعيد الخدري مثلاً رواه أحمد والترمذي وحسنه، وابن ماجه، والدارقطني وابن حبان وصححه (نصب الراية: 189/ 4 ومابعدها، نيل الأوطار: 144/ 8).

(4/2780)


المطلب الثاني عشر ـ أثر الذكاة في المشرف على الموت أو المريض:
إذا أشرف حيوان على الموت بسبب اعتداء عليه، أو مرض، ثم ذبح، فهل يحل أكله؟

أولاً ـ أثر الذكاة في المشرف على الموت بسبب اعتداء: إذا اعتدي على الحيوان المأكول بخنق، أو ضرب، أو جرح سبع كذئب، ثم أدركه صاحبه فذبحه، أو لم يدركه، فمات، فله أحوال أربعة (1):
1 - إن مات قبل الذكاة، لم يؤكل إجماعاً، لقوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع، إلا ما ذكيتم} [المائدة:3/ 5] (2) فهذه الحيوانات الخمسة المذكورة في الآية (ما بعد المهل به لغير الله) لم يحل أكلها إذا ماتت قبل إدراكها حية ولم تذبح.
2 ـ إن أدرك حياً أي غلب على الظن أنها تعيش، بأن يصاب لها مقتل، فذبح، أكل إجماعاً، لقوله تعالى: {إلا ما ذكيتم} [المائدة:3/ 5].
_________
(1) رد المحتار: 217/ 5، الشرح الكبير:113/ 2، البدائع:40/ 5، القوانين الفقهية: ص 183، بداية المجتهد: 425/ 1 وما بعدها، كشاف القناع: 206/ 6، أحكام القرآن للجصاص: 306/ 2، أحكام القرآن لابن العربي: 539/ 2.
(2) أي إلا ما أدركتموه حياً مما سبق، فذكيتموه من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع جزءاً منه وما أهل لغير الله به، فإذا كانت فيه حياة ولو بسيطة بأن يطرف عيناً أو يضرب برجل أو يد ثم ذبح، صار حلالاً، والمنخنقة: هي التي ماتت بأي شكل كان. والموقوذة: هي التي ماتت بعصا أو بحجر بلا ذكاة شرعية. والمتردية: هي ما سقطت من مكان عال كجبل أو هوت في بئر. والنطيحة: هي ما نطحتها بهيمة أخرى، فماتت. وما أكل السبع: هي ما قتلت بافتراس حيوان كالذئب والنمر مثلاً، وما أهل لغير الله به: أي ما ذكر عليه اسم غير الله، لأن أكله مشاركة لأهله في عبادة غير الله.

(4/2781)


3 - إن نفذت مقاتل البهيمة: وهي المنفوذة المقاتل (1) (أي المقطوع بموتها)، لم تؤكل عند المالكية وأجاز على وابن عباس أكلها. وتعمل فيها الذكاة عند الشافعية والحنابلة متى كان فيها حياة مستقرة. وتؤثر فيها الذكاة عند الحنفية إن علمت حياتها، أو لم تدر حياتها فتحركت أو خرج الدم، وهذا يتأتى فيما اعتدى عليها الذئب فبقر بطنها، وفي المنخنقة والمتردية والنطيحة؛ لعموم قوله تعالى: {إلا ماذكيتم} [المائدة:3/ 5].
4 - الميئوس من حياته ولم تنفذ مقاتله؛ أو المشكوك في أمره، تؤثر الذكاة في حل أكله عند الحنفية، وهو مشهور قول المالكية ما دامت حياته محققة. وقال بعض المالكية: لا تؤثر الذكاة فيه ولا يؤكل. وأجاز الشافعية والحنابلة ذبح الميئوس الذي تكون فيه حياة مستقرة، ولم يجز المشكوك في أمره.
وعلى هذا فإذا غلب على الظن أن المعتدى عليها تهلك بإصابة مقتل أو غيره، فقال الحنفية والشافعية: تعمل الذكاة فيها، وقال قوم: لا تعمل الذكاة فيها، وعن مالك: الوجهان، وقال ابن القاسم: تذكى وتؤكل.
ومنشأ الخلاف في الميئوس منها وفي منفوذة المقاتل: هو الاستثناء المذكور في الآية السابقة، هل هو استثناء متصل أو منقطع؟ فمن قال: إنه متصل، قال: تعمل الذكاة في هذه الأحوال. ومن قال: إنه منقطع أي ما ذكيتم من غيرها، لم يعمل الذكاة فيها.
والمراد بالحياة المطلوب تحققها في هذه الحالة عند الحنفية والمالكية: هو وجود
_________
(1) هي التي بلغ القتل فيها أحد أمور خمسة متفق عليها: وهي قطع الأوداج، وانتشار الدماغ، وانتشار الأحشاء، وخرق أعلى المصران في مجرى الطعام والشراب، لا أسفله. وقطع النخاع الشوكي (القوانين الفقهية، المكان السابق: الشرح الكبير: 113/ 2).

(4/2782)


أمارة الحياة من حركة رجل أو طرفة عين أو جريان نفس، سواء عاشت من مثله أو لا تعيش، بقيت لمدة قصيرة أو طويلة، أي أن المطلوب بقدر حياة المذبوح بعد الذبح، وهو الحد الأدنى للحياة.
وعند الشافعية والحنابلة: أن تبقى فيه حياة مستقرة يمكن زيادتها على حركة المذبوح، سواء انتهت إلى حال يعلم أنها لا تعيش معه أو تعيش.

ثانياً ـ أثر الذكاة في الحيوان المريض: اتفق الفقهاء على تأثير الذكاة، وحل الأكل في الحيوان المريض الذي لم يشرف على الموت. واختلفوا في تأثير الذكاة في الحيوان الذي أشرف على الموت من شدة المرض (1).
فقال الجمهور: وهو المشهور عن مالك: إن الذكاة تعمل فيه.
وقال بعضهم: إن الذكاة لا تعمل فيه.
وسبب الخلاف تعارض القياس مع الأثر. فالجمهور أخذوا بحديث كعب بن مالك المتقدم: أن جارية له كانت ترعى غنماً بسَلْع، فأبصرت شاة مشرفة على الموت، فأدركتها وذبحتها بحجر، فسئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: كلوها (2).
والبعض أخذ بالقياس: وهو أن الذكاة إنما تؤثر في الحي، وهذا في حكم الميت.
_________
(1) بداية المجتهد: 428/ 1، القوانين الفقهية: ص181 ومابعدها.
(2) رواه أحمد والبخاري (نيل الأوطار: 139/ 8).

(4/2783)


والحنفية من الجمهور على المفتى به فصَّلوا في المريضة، وفي الحالة الأخيرة من أحوال المنخنقة والمتردية والنطيحة، فقالوا (1):
آـ إن عُلمت حياة الشاة، وإن كانت حياتها خفيفة على المفتى به، وقت الذبح، أكلت مطلقاً، وإن لم تتحرك ولم يخرج الدم. والحياة القليلة أو الخفيفة: هي أن يبقى في الشاة من الحياة بقدر ما يبقى في المذبوح بعد الذبح.
ب ـ وإذا لم تعلم الحياة، فتحركت، أو خرج الدم، حلت، وإن لم تتحرك أو لم يخرج الدم، لم تحل. وعلامات الحياة والموت تعرف بما يأتي: فتح الفم، أو العين، ومد الرجل، ونوم الشعر: علامة الموت، لأنها استرخاء، والحيوان يسترخي بالموت. وعكس ذلك يدل على الحياة، فضم الفم والعين، وقبض الرجل، ووقوف الشعر علامةالحياة.
وذكر المالكية علامات خمس على الحياة هي (2):
سيلان الدم، لا خروج القليل منه، والركض باليد أو الرجل، وطرف العين، وتحريك الذنب، وخروج النفَس، فإن تحركت ولم يسل دمها، أكلت. وإن سال دمها ولم تتحرك، لم تؤكل؛ لأن الحركة أقوى في الدلالة على الحياة من سيلان الدم. وأما الاختلاج الخفيف فليس دليلاً على الحياة؛ لأن اللحم يختلج بعد السلخ.
والحياة عند الشافعية والحنابلة ثلاثة أنواع (3):
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 217/ 5، 334.
(2) القوانين الفقهية: ص 182، أحكام القرآن للجصاص: 306/ 2.
(3) بجيرمي الخطيب: 248/ 4، كشاف القناع: 206/ 6، مغني المحتاج: 271/ 4، المغني: 583/ 8 - 585.

(4/2784)


1 - الحياة المستمرة: وهي الطبيعية الباقية إلى خروجها بذبح، أو نحوه. والذكاة تؤثر فيها بالحل:
2 - الحياة المستقرة: هي ما يوجد معها الحركة الاختيارية بقرائن وأمارات تغلب على الظن بقاء الحياة. ومن أماراتها: انفجار الدم بعد قطع الحلقوم والمريء. والأصح الاكتفاء بالحركة الشديدة. ولايشترط العلم بوجود الحياة المستقرة عند الذبح، بل يكفي الظن بوجودها بقرينة كشدة الحركة أو انفجار الدم. وهذه تحل الذبيحة، فإن شك في وجودها، حرم تغليباً للتحريم.
3 - حياة المذبوح، أو حركة عيش المذبوح: وهي التي لا يبقى معها سمع لا إبصار، ولا حركة اختيار، وهذا النوع: إن وجد له سبب يحال عليه الهلاك، كما لو مرض الحيوان بأكل نبات مضر، حتى صار في آخر رمق، لم يحل على المعتمد. وإن لم يوجد سبب يحال عليه الهلاك، كأن مرض الحيوان، أو جاع حتى صار في آخر رمق، فذبحه، حل أكله.

المطلب الثالث عشر ـ أثر الذكاة في غير المأكول:
المقصود بهذا أن الذكاة أو الذبح، هل تؤثر في تحليل الانتفاع بجلود الحيوانات غير مأكولة اللحم، وسلب النجاسة عنها؟
للفقهاء رأيان في ذلك:
1 - فقال الحنفية والمالكية في المشهور (1): إذا ذبح ما لا يؤكل كالسباع
_________
(1) تبيين الحقائق: 296/ 5، تكملة الفتح: 64/ 8، الدر المختار: 290/ 1، 216/ 5، البدائع: 86/ 1، بداية المجتهد: 427/ 1، اللباب: 230/ 3، القوانين الفقهية: ص 181، الشرح الصغير: 45/ 1، شرح الرسالة: 384/ 1، الشرح الكبير: 56/ 1.

(4/2785)


وغيرها يطهر لحمه وشحمه وجلده إلا الآدمي والخنزير. أما الآدمي فلحرمته وكرامته، وأما الخنزير فلنجاسة عينه. وقال الدردير والصاوي: مشهور المذهب أن الذكاة لا تطهر محرَّم الأكل كالخيل والبغال والحمير، والكلب والخنزير. أما سباع الوحش وسباع الطير، فتطهر بذبحها على المشهور.
وأصح ما يفتى به عند الحنفية: أن اللحم والشحم لا يطهر بالذكاة، والجلد يطهر به، وهذا التفصيل عندهم مخالف لما في متن الكنز والدر المختار والهداية من عدم التفصيل.
ودليلهم: أن الذكاة مؤثرة في إزالة الرطوبات النجسة والدماء السيالة، فإذا زالت طهرت البهيمة كما في الدباغ، وليس الجلد واللحم من الرطوبات أو الدماء. وإذا ثبت تحريم تناول لحم غير المأكول، بقي ما سواه على الأصل: وهو التطهير، فتؤثر الذكاة فيه، كما يؤثر الدباغ في تطهير الجلود. وإذا طهر الجلد بعد الذبح، فلو وقع في الماء القليل لا ينجسه. ويجوز الانتفاع بالجلد في غير الأكل. وقيل بقول آخر عند الحنفية: لا يجوز قياساً على الأكل.
2 - وقال الشافعية والحنابلة (1): لا تؤثر الذكاة في شيء من الحيوان غير المأكول؛ لأن أثر الذكاة في إباحة اللحم هو الأصل، والجلد تبع للحم، فإن لم تعمل الذكاة في اللحم، لم تعمل فيما سواه، كذبح المجوسي أو الذبح غير المشروع. ولا يقاس الذبح على الدباغ، لكون الدبغ مزيلاً للخبث والرطوبات كلها، مطيباً للجلد على وجه يتهيأ به للبقاء على وجه لا يتغير، والذكاة لا يحصل بها ذلك، فلا يستغنى بها عن الدبغ.
_________
(1) مغني المحتاج: 58/ 1، المغني: 71/ 1.

(4/2786)


هذا ... وقد صرح الشافعية بأنه يحرم ذبح الحيوان غير المأكول، ولو لإراحته، كالحمار الزمِن مثلاِ، لأنه تعذيب له (1)، ونهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن قتل الكلاب إلا الأسود البهيم، فإنه أمر بقتله (2).

المبحث الثالث ـ آلة الذبح اتفق الفقهاء على أن كل ما أنهر الدم وفرى الأوداج من حديد أو صخر، أو عود، أو قضيب، أو زجاج تحل التذكية به.
واختلفوا في ثلاثة في السن والظفر والعظم، على رأيين، فأجاز الحنفية، والمالكيةـ في الجملة ـ الذبح بها، ومنع الشافعية والحنابلة إجمالاً التذكية بها، كما سيأتي، والأولى أو الأصح عدم الذبح بها لصحة الحديث الذي استدل به الشافعية وغيرهم.
1 - قال الحنفية (3): يجوز الذبح بكل ما أفرى الأوداج، وأنهر الدم (أساله) ولو بنار أسالت الدم، أو بِليطَة (قشر القصب)، أو مَرْوة (حجر أبيض كالسكين يذبح بها)، أو ظفر وعظم وقرن وسن منزوع من مكانه غير قائم في محله، ولكن مع كراهة الذبح بهذه الأربعة الأخيرة لما فيه من الضرر بالحيوان، كذبحه بشفرة كليلة. ودليلهم قوله عليه الصلاة والسلام: «أنهر الدم بما شئت» (4) ويروى «أفر
_________
(1) البجيرمي علي الخطيب: 248/ 4.
(2) رواه أحمد وأصحاب السنن (الخمسة) وصححه الترمذي عن عبد الله بن المُغَفَّل (نيل الأوطار: 128/ 8).
(3) تكملة فتح القدير: 59/ 8 وما بعدها، تبيين الحقائق: 290/ 5 ومابعدها، الدر المختار: 207/ 5 ومابعدها، اللباب شرح الكتاب: 227/ 3.
(4) هذا لفظ النسائي وأحمد في حديث عدي بن حاتم، ونصه «أنهر الدم بما شئت، واذكر اسم الله» (نصب الراية: 187/ 4).

(4/2787)


الأوداج بما شئت» (1)، ولأن هذه آلة جارحة، فيحصل بها ما هو المقصود، وهو إخراج الدم، وصار العظم ونحوه كالحجر والحديد.
فإن كان الظفر أو العظم قائماً محله، فلا يحل الذبح به، وإن فرى الأوداج، وأنهر الدم بالإجماع للنص عليه في الحديث.
واستثناء السن والظفر في حديث رافع بن خديج محمول على غير المنزوع، القائم محله؛ لأن الظفر القائم ونحوه يقتل بالثقل؛ لأنه يعتمد عليه.
وكما كرهوا الذبح بالظفر ونحوه، كرهوه بغير الحديد والسلاح من غير حاجة أو ضرورة، مع وجود الحديد وأسلحته، لما فيه من تعذيب الحيوان بلا فائدة، للأمر بالحديث السابق بالإحسان في القتلة والذبحة.
2 - وقال المالكية (2): إن وجد الحديد أي الآلة الجارحة كالسكين ونحوها (3)، تعين. وإن وجد غير الحديد كالحجر والزجاج مع الظفر والسن، ففي الذبح بهما أربعة أقوال للإمام مالك:
الأول ـ الجواز مطلقاً متصلاً أو منفصلاً، والثاني ـ المنع مطلقاً فلا يؤكل ما ذبح بهما، والثالث ـ التفصيل بالجواز عند الانفصال، والمنع عند الاتصال. والرابع ـ الكراهية بالسن مطلقاً، والجواز بالظفر مطلقاً.
_________
(1) هذا حديث غريب كما قال الزيلعي، وفي معناه روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن رافع بن خديج: «كل ما أفرى الأوداج، إلا سناً وظفراً» (نصب الراية: 185/ 4 ومابعدها).
(2) الشرح الكبير: 107/ 2، الشرح الصغير: 178/ 2، بداية المجتهد: 433/ 1، القوانين الفقهية: ص 183.
(3) السكين تذكر وتؤنث.

(4/2788)


وإن لم يوجد غيرهما، أي غير السن والظفر جاز بهما جزماً. ولو تم الذبح بقطعة عظم محددة، فلا خلاف في الجواز.
3 - وقال الشافعية والحنابلة (1): يحل الذبح بكل محدَّد (له حد) يجرح (يقطع) أو يخرق بحده لا بثقله، كحديد ونحاس، وذهب، وخشب، وقصب، وحجر، وزجاج، إلا ظفراً وسناً، وعند الشافعية: وسائر العظام، متصلاً كان أو منفصلاً من آدمي أو غيره؛ لأن منع الذبح بالسن علل بكونه عظماً، فكل عظم وجدت العلة فيه، فيكون ممنوعاً. وأجاز الحنابلة الذبح بالعظم (2)، واستدلوا على السن والظفر بحديث رافع بن خديج عند الأئمة الستة وأحمد، قال: «قلت: يارسول الله، إنا نلقى العدو غداً، وليس معنا مُدىً (3)، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه، فكلوا، ما لم يكن سناً أو ظُفْراً، وسأحدثكم عن ذلك: أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة» (4).

السكين الكالَّة: لو ذبح بسكين كالَّة، حل عند الشافعية بشرطين: ألا يحتاج القطع إلى قوة الذابح. وأن يقطع الحلقوم والمريء قبل انتهاء الحيوان إلى حركة
_________
(1) مغني المحتاج: 272/ 4 ومابعدها، المهذب: 252/ 1، المغني: 573/ 8 ومابعدها، كشاف القناع: 203/ 6 - 205.
(2) لأن العظم دخل في عموم اللفظ المبيح ثم استثني السن والظفر خاصة، فيبقى سائر العظام داخلاً فيما يباح الذبح به، والمنطوق مقدم على التعليل، ولهذا علل الظفر بكونه من مدى الحبشة؛ ولأن العظام يتناولها سائر الأحاديث العامة، ويحصل بها المقصود، فأشبهت سائر الآلات.
(3) مدى: جمع مُدْية: هي السكين، سميت بذلك لأنها تقطع مدى الحيوان أي عمره. والمراد بلقاء العدو: أنهم سيغنمون منه ما يذبحونه، أو إنهم يحتاجون إلى ذبح ما يأكلون للتقوي.
(4) علق ابن رشد عليه فقال (بداية المجتهد: 433/ 1): من الناس من فهم منه أن ذلك لمكان إن هذه الأشياء ليس في طبعها أن تنهر الدم غالباً. ومنهم من فهم أن ذلك شرع غير معلل. وهؤلاء منهم من اعتقد أن النهي فيه يدل على فساد المنهي عنه، ومنهم من اعتقد أنه لا يدل على فساد المنهي عنه، ومنهم من اعتقد أن النهي للكراهة.

(4/2789)


مذبوح. ويقرب منه قول الحنابلة: إن كانت الآلة كالة، وأبطأ قطع الحيوان وطال تعذيبه، لم يبح أكله، لأنه مشكوك في وجود ما يحله.
والخلاصة: إن الجمهور أجازوا التذكية بالعظم، وحرم الشافعية الذبح به. وأما السن والظفر فأجاز الحنفية الذبح بالمنزوع منهما، وحرم الشافعية والحنابلة الذبح بهما متصلين أو منفصلين. وصحح ابن رشد المالكي الذبح بهما عند الانفصال، ولا يجوز حالة الاتصال، أي كما قال الحنفية.

المبحث الرابع ـ الحيوان الذبيح
الكلام في هذا المبحث مجمل بالقدر المتصل بالذبائح، والتفصيل فيه سبق في مبحث مستقل عن «الأطعمة والأشربة».
التذكية شرط لحل الأكل من الحيوان البري المأكول، فلا يحل أكله ـ كما تقدم ـ بدون الذكاة، لقوله تبارك وتعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم} ـ إلى قوله: {إلا ماذكيتم} [المائدة:3/ 5] استثنى سبحانه المذكى من المحرم، والاستثناء من التحريم إباحة.
والحيوان بالنسبة للذبح أو الذكاة الشرعية أنواع ثلاثة: مائي، وبري، وبرمائي (بري ـ مائي)؛ لأن منه مايؤكل بدون ذكاة، ومنه ما يؤكل بالذكاة، ومنه ما لا يؤكل وإن ذكي.

النوع الأول ـ الحيوان المائي:
الحيوان المائي: هو الذي لا يعيش إلا في الماء فقط. وللعلماء في أكله رأيان:

(4/2790)


1 - مذهب الحنفية (1)، جميع مافي الماء من الحيوان محرم الأكل إلا السمك خاصة، فإنه يحل أكله بدون ذكاة إلا الطافي (2) منه، فإن مات وطفا على الماء لم يؤكل. وأدلتهم كثيرة منها قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} [المائدة:3/ 5] وقوله {ويحرِّم عليهم الخبائث} [الأعراف:157/ 7] وما سوى السمك: من الضفادع والسرطان والحية ونحوها: من الخبائث.
ونهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن دواء يتخذ فيه الضفدع، ونهى عن قتل الضفادع (3)، وذلك نهي عن أكله؛ لأن النهي عن قتل الحيوان، إما لحرمته كالآدمي، وإما لتحريم أكله، كالصُّرَد (4)، والهدهد. وبما أن الضفدع ليس بمحترم، فكان النهي منصرفاً إلى الوجه الآخر، وهو تحريم الأكل.
وأما دليل تحريم أكل السمك الطافي، فهو حديث جابر: «ما ألقاه البحر، أو جزر عنه، فكلوه، وما مات فيه، وطفا، فلا تأكلوه» (5).
2 - مذهب الجمهور غير الحنفية (6)، ورأيهم هو الأصح: حيوان الماء:
_________
(1) البدائع: 35/ 9 - 39، تبيين الحقائق: 294/ 5 - 297، تكملة الفتح: 61/ 8 - 65، الدر المختار: 214/ 5 - 217، اللباب: 228/ 3 - 231.
(2) الطافي على وجه الماء: هو الذي مات حتف أنفه، وهو ما بطنه من فوق. أما لو كان ظهره من فوق، فليس بطاف، فيؤكل. كما يؤكل الموجود في بطن الطافي لموته بضيق المكان. قال العلامة عبد البر: الأصل في إباحة السمك أن ما مات بآفة (أي بسبب) يؤكل، وما مات بغير آفة لا يؤكل. فالذي مات بحر الماء وبرده، أو بربطه فيه أو إلقاء شيء فيه، فموته بآفة (رد المحتار: 216/ 5).
(3) رواه أبو داود والنسائي والحاكم، وأحمد وإسحاق بن راهويه وأبو داود الطيالسي: «أن طبيباً سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الضفدع يجعلها في دواء، فنهى عن قتلها» نصب الراية: 201/ 4.
(4) الصرد: الطائر ضخم الرأس أبيض البطن أخضر الظهر يصطاد صغار الطير.
(5) رواه أبو داود وابن ماجه. وهو حديث ضعيف (نصب الراية: 202/ 4، تخريج أحاديث تحفة الفقهاء، 70/ 3).
(6) بداية المجتهد: 425/ 1، 456، القوانين الفقهية: ص 171 - 181، مغني المحتاج: 267/ 4، 297، المهذب: 250/ 1، المغني: 606/ 8 - 608، كشاف القناع: 202/ 6.

(4/2791)


السمك وشبهه مما لا يعيش إلا في الماء كالسرطان وحية الماء وكلبه وخنزيره ونحو ذلك، حلال يباح بغير ذكاة، كيف مات، حتف أنفه، أو بسبب ظاهر، كصدمة حجر، أو ضربة صياد، أو انحسار ماء، راسياً كان أو طافياً، وأخذه ذكاته، لكن إن انتفخ الطافي بحيث يخشى منه السقم يحرم للضرر.
إلا أن الإمام مالك كره خنزير الماء، وقال: أنتم تسمونه خنزيراً.
وقال الليث بن سعد: أما إنسان الماء، وخنزير الماء، فلا يؤكلان على شيء من الحالات.
واستدل الجمهور بقوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه، متاعاً لكم وللسيارة} [المائدة:96/ 5] واسم «الصيد» يقع على ما سوى السمك من حيوان البحر، فيقتضي أن يكون الكل حلالاً. وبقوله صلّى الله عليه وسلم حين سئل عن التوضؤ بماءالبحر، فقال: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» (1) وبقوله عليه السلام: «أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان: فالجراد والحوت، وأما الدمان: فالكبد والطحال» (2) وبحديث: «إن الله ذبح ما في البحر لبني آدم» (3) وبحديث صحيح عند الشيخين وأحمد في العنبر (4): «أن أبا عبيدة وأصحابه وجدوه بشاطئ البحر ميتاً، فأكلوا منه شهراً حتى سمنوا، وادهنوا، وقدموا منه للنبي صلّى الله عليه وسلم، فأكل منه (5)»؛ ولأنه لا دم لحيوان الماء.
_________
(1) رواه الخمسة ومالك وابن أبي شيبة وصححه ابن خزيمة وابن حبان والترمذي عن أبي هريرة (سبل السلام: 14/ 1، نيل الأوطار: 149/ 8).
(2) أخرجه أحمد وابن ماجه والدارقطني عن ابن عمر، وفيه ضعف (سبل السلام: 1/ 52، نيل الأوطار: 147/ 8).
(3) رواه الدارقطني، وذكره البخاري موقوفاً على أبي شريح بلفظ «كل شيء في البحر مذبوح» (نيل الأوطار: 150/ 8).
(4) حوت قد يبلغ نحو 60 قدماً، ضخم الرأس، وله أسنان.
(5) رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة (جمع الفوائد: 542/ 1، نصب الراية: 204/ 4).

(4/2792)


النوع الثاني ـ الحيوان البري:
الحيوان البري: هو الذي لا يعيش إلا في البر. وهو أصناف ثلاثة:

الأول: ما ليس له دم أصلا ً، كالجراد والذباب والنمل والنحل والدود والزنبور والعنكبوت والخنفساء والصرصار والعقرب وذوات السموم ونحوها، لايحل أكلها إلا الجراد خاصة؛ لأنها من الخبائث غير المستطابة، لاستبعاد الطباع السليمة إياها، وقد قال الله تعالى: {ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف:157/ 7].
لكن الجراد وشبهه الجندُب (نوع من الجراد تسميه العامة القبُّوط) خص من هذه الجملة بالحديث السابق: «أحلت لنا ميتتان» والميتتان: السمك والجراد.
واشترط المالكية تذكية الجراد أو موته بسبب، بقطع عضو منه أو إحراقه أو جعله في الماء الحار، كما تبين في أنواع التذكية؛ لأن كل حيوان بري ليس له دم سائل يفتقر عندهم إلى الذكاة. ويكره عند الحنابلة بلع الجراد حياً؛ لأن فيه تعذيباً له، كما يحرم عندهم بلع السمك حياً (1).

الثاني: ما ليس له دم سائل: كالحية والوَزَغ بأنواعها، وسام أبرص (2)، وجميع الحشرات، وهوام الأرض من الفأر والقُرَاد (دويبة تتعلق بالبعير ونحوه كالقمل للإنسان) والقنافذ والضب واليربوع وابن عرس والدود ونحوها، يحرم أكلها، لاستخباثها، ولأنها ذات سموم ولأنه صلّى الله عليه وسلم أمر بقتلها (3)، قال صلّى الله عليه وسلم:
_________
(1) البدائع: 36/ 5، بداية المجتهد: 425/ 1، 456، القوانين الفقهية: ص 181، مغني المحتاج: 303/ 4، المغني: 573/ 8، 585، 590، كشاف القناع: 202/ 6.
(2) نوع من الزحافات كجسم الضفدع، لكن له ذيل. وسام أبرص: هو كبار الوزغ.
(3) البدائع: 36/ 5، بداية المجتهد: 454/ 1، مغني المحتاج: 299/ 4، 303، المغني: 585/ 8، 603، القوانين الفقهية: ص 172.

(4/2793)


«خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية (1) والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور، والحدايا» وفي رواية «العقرب» بدل «الغراب» (2).
وحرم الحنفية وفي قول عند المالكية الضب، لأنه صلّى الله عليه وسلم نهى عائشة حين سألته عن أكله (3).
وأباح الجمهور غير الحنفية أكل الضب، لإقراره عليه الصلاة والسلام أكل الضب بين يديه، لما روى ابن عباس أنه أقر خالد بن الوليد على أكله أمامه وهو ينظر إليه، وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا ـ أي ليس حراماً ـ ولكنه لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه» (4). وأباح المالكية أكل الحلزون إذا سلق أو شوي، لا ما مات وحده.
وأجاز الشافعية أكل القُنْفذ وابن عِرْس والثعلب واليَرْبوع والفَنَك والسَّمور (5)؛ لأن العرب تستطيب ذلك، وما كانت العرب (أي أهل الحجاز) تسميه طيباً فهو حلال، وما كانت تسميه خبيثاً، فهو محرم، لقول الله تعالى: {ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف:157/ 7].
_________
(1) قال في كتاب الجواهر عند المالكية: يحكي المخالفون عن المذهب جواز أكل الحيوانات المستقذرة كالحشرات وهوام الأرض، والمذهب بخلاف ذلك. وحرمها الشافعي لأنها خبائث (القوانين الفقهية: ص 173).
(2) رواه مسلم والنسائي وابن ماجه عن عائشة. والرواية الأخيرة عند أبي داود.
(3) قال الزيلعي عنه: غريب. وروى أبو داود أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحم الضب، لكن في اسناده مقال (نصب الراية: 195/ 4) والضب: حيوان من الزحافات شبيه بالحردون ذنبه كبير العقد.
(4) أخرجه أحمد والأئمة الستة إلا الترمذي (جمع الفوائد لابن سليمان الروداني: 550/ 1).
(5) الفنك: حيوان يؤخذ من جلده الفرو للينه وخفته. والسمور: حيوان يشبه السنور (الهر) وهما نوعان من ثعالب الترك.

(4/2794)


الثالث: ماله دم سائل: وهو إما مستأنس، أو متوحش.
أما المستأنس من البهائم: فيحل منه الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم بالإجماع، لقوله تعالى: {والأنعام خلقها لكم فيها دفء، ومنها تأكلون} [النحل:5/ 16] {أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا مايتلى عليكم} [المائدة:1/ 5] واسم الأنعام يقع على هذه الحيوانات لغة.
ويحرم أكل البغال والحمير، ويحل لحم الخيل، لكن مع الكراهة تنزيهاً عند أبي حنيفة (1)، لحديث جابر: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل» (2) والبغال متولدة من الحمير، والمتولد من الشيء له حكمه في التحريم. وهكذا يحرم عند الشافعية خلافاً للحنفية والحنابلة كل ماتولد من بين الإنسي والوحشي، تغليباً للتحريم. والآخرون قالوا: تغلب الإباحة لأنها الأصل، وعموم النصوص يقتضيها.
والسبب في كراهة لحم الخيل عند أبي حنيفة: هو استخدامها للركوب والجهاد، ولاختلاف الأحاديث المروية في حلها وتحريمها، فتكره احتياطاً للحرمة (3). والمشهور عند المالكية تحريم الخيل.
_________
(1) البدائع:37/ 5 ومابعدها، بداية المجتهد: 455/ 1، الشرح الكبير: 49/ 1، القوانين الفقهية: ص 172، مغني المحتاج: 298/ 4 ومابعدها، المغني: 586/ 8 ومابعدها.
(2) متفق عليه بين أحمد والشيخين، قال ابن عبد البر: وروى عن النبي صلّى الله عليه وسلم تحريم الحمر الأهلية علي وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وجابر، والبراء، وعبد الله بن أبي أوفى، وأنس، وزاهر الأسلمي بأسانيد صحاح حسان، وحديث غالب بن الحر لايعرج على مثله مع ما عارضه (نصب الراية: 198/ 4، المغني: 587/ 8).
(3) ثبت في الصحيحين عن أسماء رضي الله عنها، قالت: «نحرنا فرساً على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأكلناه، ونحن بالمدينة» وأما خبر خالد في النهي عن أكل لحوم الخيل، فقال الإمام أحمد وغيره: منكر، وقال أبو داود: منسوخ. والاستدلال على التحريم بآية {لتركبوها وزينة} مردود، كما ذكر البيهقي وغيره، لأن الآية مكية بالاتفاق، ولحوم الحمر إنما حرمت يوم خيبر سنة سبع بالاتفاق.

(4/2795)


ويحل بالتذكية بالإجماع: المستأنس من الطير الذي لا مخلب له، كالدجاج والحمام والنعامة والبط والإوز.
ويحرم المستأنس من السباع: وهو الكلب والسنور الأهلي (الهر) (1).

وأما المتوحش: فيحرم عند الجمهور غير مالك أكل كل ذي ناب منه من السباع، وكل ذي مخلب من الطير لأنها تأكل الجيف أي الميتات. وذو الناب من سباع الوحش: مثل الأسد والذئب والضبع والنمر والفهد، والثعلب، والسنور البري، والسنجاب، والفنك، والسمور، والدب، والقرد والفيل، والدَّلَق (2) وابن آوى (فوق الثعلب ودون الكلب طويل المخلب).
وذو المخلب من الطير: كالبازي والباشق، والصقر، والشاهين والحدأة والبومة والنعَّاب (فرخ الغراب لكثرة نعبه) وغراب البين (وهو أكبر الغربان والأبقع) والرَّخْم (طير يشبه النسر في الخلقة) والنسر والعقاب، والخُطَّاف (هو عرفاً طائر أسود الظهر أبيض البطن، يأوي إلى البيوت في الربيع، وهو السنونو) والخُفَّاش (أي الوطواط، وهو طائر صغير لا ريش له، يشبه الفأرة، يطير بين المغرب والعشاء) وما أشبه ذلك (3).
وحرم الشافعية أكل الببَّغاء والطاووس لخبث لحمهما، كما حرموا أكل الهدهد والصُّرَد (وهو طائر فوق العصفور يصيد العصافير) وعند الحنابلة في
_________
(1) البدائع: 39/ 5، مغني المحتاج: 300/ 4، 302، المغني: 592/ 8، القوانين الفقهية: ص 172، المهذب: 248/ 1 ومابعدها.
(2) الدلق: حيوان يقرب من السنور في الحجم، وهو أصفر اللون، بطنه وعنقه مائلان إلى البياض.
(3) البدائع: 39/ 5، تكملة الفتح: 61/ 8 ومابعدها، بداية المجتهد: 453/ 1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 172، مغني المحتاج: 300/ 4، المهذب: 247/ 1 وما بعدها، المغني: 587/ 8 - 593، 603، اللباب: 229/ 3 ومابعدها.

(4/2796)


الهدهد والصرد: روايتان عن أحمد، إحداهما: أنهما حلال لأنهما ليسا من ذوات المخلب ولا يستخبثان، والثانية: تحريمهما لنهي النبي صلّى الله عليه وسلم عن قتل الهدهد والصُّرَد، والنملة والنحلة. والدليل على تحريم ذي الناب والمخلب: أنه صلّى الله عليه وسلم يوم خيبر «نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير» (1).
وروي عن مالك القول بأن السباع ذوات الأربع مكروهة وهو الراجح لديه، وقيل: جميعها محرمة، وذهب أصحابه إلى التحريم. وأما الطير فهو حلال عند المالكية سواء ذو المخلب وغيره، عملاً بظاهر الآية: {قل: لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه} [الأنعام:145/ 6] فما عدا المذكور في هذه الآية حلال. ويحمل النهي المذكور في الحديث على الكراهية.
وقيد الشافعية تحريم ذي الناب بكونه ضارياً (عادياً) ذا ناب قوي، وذي المخلب بكونه قوياً يجرح به، فأباحوا كل ما نابه ضعيف كالضبع والثعلب والفنك والسمور واليربوع. والأصح عندهم حل غراب زرع (وهو أسود صغير يقال له: الزاغ)؛ لأنه يأكل الزرع.
ورخص الحنابلة أيضاً في أكل الضبع، لما روى جابر، قال: «أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأكل الضبع، قلت: صيد هي؟ قال: نعم» وفي لفظ قال: «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الضبع، فقال: هو صيد، ويجعل فيه كبش إذا صاده المحرم» (2) ورويت الرخصة فيه عن سعد وابن عمر، وأبي هريرة، وعروة بن الزبير، وعكرمة وإسحاق، وقال عروة: مازالت العرب تأكل الضبع، ولا ترى بأكلها بأساً. ورخص أحمد أيضاً في أكل اليربوع؛ لأن الأصل الإباحة ما لم يرد فيه تحريم.
_________
(1) رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي عن ابن عباس، وروي مثله عن علي وخالد بن الوليد (نصب الراية: 192/ 4 ومابعدها، نيل الأوطار: 116/ 8).
(2) رواه أبو داود (نيل الأوطار: 121/ 8).

(4/2797)


وما عدا كل ذي ناب أو مخلب من الوحوش، يحل أكله، كالظباء وبقر الوحش، وحمار الوحش على اختلاف أنواعها كالوعل والمها وغيرها؛ لأنها كالمعز الأهلية، ومن الطيبات، ولما ثبت في الصحيحين أنه صلّى الله عليه وسلم قال في حمار الوحش: «كلوا من لحمه، وأكل منه».
ويباح أكل الأرنب لأنه حيوان مستطاب، ليس بذي ناب كالظبي، وقد أباح النبي صلّى الله عليه
وسلم أكله (1).
ويباح أيضاً أكل كل ما لا مخلب له من الطير المتوحش كالحمام بأنواعه، والحُبارى (طائر أكبر من الدجاج وأطول عنقاً) والعصافير والكَركي (وهو طائر كبير معروف، كنيته أبو نعيم، يمشي برجل واحدة على الأرض، ويعلق الأخرى) والغراب (2) الذي يأكل الزرع والحب (وهو المعروف بالزاغ)، وكل ما على شكل العصفور، وإن اختلف لونه ونوعه كعندليب (وهو الهُزار) وصَعْوة (صغار العصافير، المحمرة الرأس) وزُرزور (عصفور صغير أحمر الأنف)، وبُلبل، وحُمَّرة.
وأحل الحنفية في الأصح أكل العَقعق (وقال له القعقع وهو القاق: وهو طائر ذو لونين أبيض وأسود، طويل الذنب، قصير الجناح، عيناه يشبهان الزئبق، صوته العقعقة، كانت العرب تتشاءم بصوته) لأنه يخلط بين أكل الحب والجيف. وحرم
_________
(1) عن محمد بن صفوان: «أنه صاد أرنبين، فذبحهما بمروتين، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأمره بأكلهما» رواه أحمد والنسائي وابن ماجه. وروى الجماعة عن أنس أنه أمسك أرنباً بمرّ الظهران، فذبحها أبو طلحة وبعث مع أنس بوَرِكها (أو عجُزها) إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقبله (نيل الأوطار: 121/ 8).
(2) جاء في العناية عند الحنفية: الغراب ثلاثة أنواع: نوع يلتقط الحب ولا يأكل الجيف وهو الزاغ: يباح ولا يكره. ونوع لا يأكل إلا الجيف، وهو الأبقع، وإنه مكروه. ونوع يخلط، يأكل الحب مرة، والجيف أخرى. وهو غير مكروه عند أبي حنيفة، مكروه عند أبي يوسف.

(4/2798)


الشافعية أكله، وأكل الغدَّاف الكبير (ويسمى الغراب الجبلي، لأنه لا يسكن إلا الجبال) لخبثهما. واختلف الشافعية في الغداف الصغير (وهو أسود رمادي اللون): فقيل: يحرم، وقيل بحله وهو الظاهر، لأنه يأكل الزرع.
وحرم الحنابلة أيضاً أكل العقعق، لأنه يأكل الجيف. قال أحمد: إن لم يكن يأكل الجيف، فلا بأس به.

النوع الثالث ـ الحيوان البرمائي:
وهو الذي يعيش في البر والماء معاً، كالضفدع والسلحفاة والسرطان، والحية والتمساح وكلب الماء ونحوها. وفيه آراء ثلاثة:
1 - قال الحنفية والشافعية (1): لا يحل أكلها؛ لأنها من الخبائث، وللسمية في الحية، ولأن «النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن قتل الضفدع» (2) ولو حل أكله، لم ينه عن قتله.
2 - وقال المالكية (3): يباح أكل الضفادع والحشرات والسرطانات والسلحفاة، إذ لم يرد نص في تحريمها. وتحريم الخبائث: هو ما نص عليه الشرع، فلا يحرم ما تستخبثه النفوس مما لم يرد فيه نص.
3 - وفصل الحنابلة فقالوا (4): كل ما يعيش في البر من دواب البحر، لا
_________
(1) اللباب شرح الكتاب: 230/ 3، تكملة الفتح: 62/ 8 ومابعدها، مغني المحتاج: 298/ 4، المهذب: 250/ 1.
(2) أخرجه أبو داود وأحمد وإسحاق بن راهويه وأبو داود الطيالسي والحاكم عن عبد الرحمن بن عثمان التميمي (نصب الراية:201/ 4).
(3) بداية المجتهد: 656/ 1، القوانين الفقهية: ص 172.
(4) المغني: 606/ 8 ومابعدها، كشاف القناع: 202/ 6.

(4/2799)


يحل بغير ذكاة كطير الماء، والسلحفاة، وكلب الماء، إلا مالا دم فيه كالسرطان، فإنه يباح في رأي أحمد بغير ذكاة؛ لأنه حيوان بحري يعيش في البر، وليس له دم سائل، فلاحاجة إلى ذبحه، خلافاً لما له دم، لا يباح بغير ذبح. والأصح كما في شرح المقنع لابن مفلح الحنبلي (214/ 9): أن السرطان لا يحل إلا بالذكاة.
ولا يباح أكل الضفدع؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم ـ فيما رواه النسائي ـ نهى عن قتله، فيدل ذلك على تحريمه.
كما لا يباح أكل التمساح.