الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

الفَصْلُ الأوَّل: نظريَّة الحقِّ
النظرية: معناها المفهوم العام الذي يؤلف نظاماً حقوقياً موضوعياً تنطوي تحته جزئيات موزعة في أبواب الفقه المختلفة، كنظرية الحق، ونظرية الملكية، ونظرية العقد، ونظرية الأهلية، ونظرية الضمان، ونظرية الضرورة الشرعية، ونظرية المؤيدات الشرعية من بطلان وفساد وتوقف وتخيير ونحو ذلك مما أذكره هنا.
ومن المعروف أن فقهاءنا لم يقرروا أحكام المسائل الفقهية على أساس النظريات العامة وبيان المسائل المتفرعة عنها، على وفق المنهاج القانوني الحديث، وإنما كانوا يتتبعون أحكام المسائل والجزئيات والفروع، مع ملاحظة ماتقتضيه النظرية أو المبدأ العام الذي يهيمن على تلك الفروع. ولكن بملاحظة أحكام الفروع يمكن إدراك النظرية وأصولها.
وبذلك تختلف النظرية عن القاعدة الكلية مثل (المشقة تجلب التيسير) (والأمور بمقاصدها) في أن النظرية بناء عام لقضايا ذات مفهوم واسع مشترك. أما القاعدة فهي ضابط أومعيار كلي في ناحية مخصوصة من نواحي النظرية العامة.
وأوضح نظرية الحق في أربعة مباحث:
الأول ـ تعريف الحق وأركانه
الثاني ـ أنواع الحق

(4/2837)


الثالث ـ مصادر الحق وأسبابه
الرابع ـ أحكام الحق

المبحث الأول ـ تعريف الحق وأركانه وفيه مطلبان:
المطلب الأول ـ تعريف الحق:
الحق في اللغة العربية له معان مختلفة تدور حول معنى الثبوت والوجوب مثل قوله تعالى: {لقد حقَّ القولُ على أكثرهم، فهم لا يؤمنون} [يس:7/ 36] أي ثبت ووجب. وقوله سبحانه: {ليُحِقَّ الحقَّ ويُبْطِلَ الباطِل َ} [الأنفال:8/ 8] أي يثبت ويظهر. وقوله عز وجل: {جاءَ الحقُّ وزَهَقَ الباطِل} [الإسراء:81/ 17] أي الأمر الموجود الثابت. وقوله تعالى: {وللمطلقاتِ متاعٌ بالمعروف حقاً على المتقين} [البقرة:241/ 2] أي واجباً عليهم.
وتطلق كلمة الحق على النصيب المحدد لمثل قوله تعالى: {والذين في أموالهم حقٌّ معلومٌ، للسائل والمحروم} [المعارج:24/ 70 - 25]،كما تطلق على العدل في مقابلة الظلم مثل قوله تعالى: {والله يقضي بالحقِّ} [غافر:20/ 40].
وأما عند الفقهاء فقد ورد تعريف للحق عند بعض المتأخرين فقال: الحق: هو الحكم الثابت شرعاً (1). ولكنه تعريف غير جامع ولا شامل لكل ما يطلق عليه لفظ الحق عند الفقهاء. فقد يطلق الحق على المال المملوك وهو ليس حكماً، ويطلق
_________
(1) حاشية قمر الأقمار على شرح المنار للشيخ عبد الحليم اللكنوي، أول مبحث الحقوق.

(4/2838)


على الملك نفسه، وعلى الوصف الشرعي كحق الولاية والحضانة والخيار، ويطلق على مرافق العقار كحق الطريق والمسيل والمجرى. ويطلق على الآثار المترتبة على العقود كالالتزام بتسليم المبيع أو الثمن.
وعرفه بعض الأساتذة المعاصرين، فقال أستاذنا الشيخ علي الخفيف: الحق: هو مصلحة مستحقة شرعاً (1). لكنه تعريف بالغاية المقصودة من الحق، لا بذاتيته وحقيقته، فإن الحق: هو علاقة اختصاصية بين صاحب الحق والمصلحة التي يستفيدها منه.
وقال الأستاذ مصطفى الزرقاء: الحق: هو اختصاص يقرر به الشرع سلطةً أو تكليفاً (2). وهو تعريف جيد؛ لأنه يشمل أنواع الحقوق الدينية كحق الله على عباده من صلاة وصيام ونحوهما، والحقوق المدنية كحق التملك، والحقوق الأدبية كحق الطاعة للوالد على ولده، وللزوج على زوجته، والحقوق العامة كحق الدولة في ولاء الرعية لها، والحقوق المالية كحق النفقة، وغير المالية كحق الولاية على النفس.
ويتميز هذا التعريف بأنه أبان ذاتية الحق بأنه علاقة اختصاصية بشخص معين، كحق البائع في الثمن يختص به، فإن لم يكن هناك اختصاص بأحد، وإنما كان هناك إباحة عامة كالاصطياد والاحتطاب والتمتع بالمرافق العامة، فلا يسمى ذلك حقاً، وإنما هو رخصة عامة للناس.
والسلطة: إما أن تكون على شخص كحق الحضانة والولاية على النفس، أو على شيء معين كحق الملكية.
_________
(1) مذكرات الحق والذمة: ص 36.
(2) المدخل إلى نظرية الالتزام في الفقه: ف 3 ص 10 ومابعدها.

(4/2839)


والتكليف: التزام على إنسان إما مالي كوفاء الدين، وإما لتحقيق غاية معينة كقيام الأجير بعمله.
وأشار التعريف لمنشأ الحق في نظر الشريعة: وهو إرادة الشرع، فالحقوق في الإسلام منح إلهية تستند إلى المصادر التي تستنبط منها الأحكام الشرعية، فلا يوجد حق شرعي من غير دليل يدل عليه، فمنشأ الحق هو الله تعالى؛ إذ لا حاكم غيره، ولا تشريع سوى ما شرعه. وليس الحق في الإسلام طبيعياً مصدره الطبيعة أو العقل البشري، إلا أنه منعاً مما قد يتخوف منه القانونيون من جعل مصدر الحقوق إلهياً وبالتالي إطلاق الحرية في ممارسة الحق، منعاً من هذا الخطر، قرر الإسلام سلفاً تقييد الأفراد في استعمال حقوقهم بمراعاة مصلحة الغير وعدم الإضرار بمصلحة الجماعة، فليس الحق مطلقاً وإنما هو مقيد بما يفيد المجتمع ويمنع الضرر عن الآخرين، والحق في الشريعة يستلزم واجبين:
واجب عام على الناس باحترام حق الشخص وعدم التعرض له.
وواجب خاص على صاحب الحق بأن يستعمل حقه بحيث لا يضر بالآخرين.

المطلب الثاني ـ أركان الحق:
للحق ركنان: صاحب الحق وهو المستحق، ومحل الحق: وهو ما يتعلق به الحق ويرد عليه. وهو إما الشيء المعين الذي يتعلق به الحق كما في الحق العيني، أو الدين.

(4/2840)


ويضاف للحق الشخصي كالعلاقة بين الدائن والمدين ركن ثالث: وهو المدين المكلف بالحق. ونوع التكليف إما أن يكون قياماً بعمل كأداء الدين أو الثمن، أو امتناعاً عن عمل، كالامتناع عن إضرار الجار أو غيره، والامتناع عن استعمال الوديعة أو الأمانة. والمكلف قد يكون معيناً فرداً أو جماعةً كالمدين بالنسبة للدين، أو غير معين كالواجبات العامة المكلف بها جميع الناس باحترام حقوق الآخرين وعدم الاعتداء عليها.
صاحب الحق: هو الله تعالى في الحقوق الدينية، والشخص الطبيعي (الإنسان) أو الاعتباري (كالشركات والمؤسسات) في الحقوق الأخرى، الذي يتمتع بالسلطات التي يمارسها على محل الحق.
وتبدأ الشخصية الطبيعية لكل إنسان ببدء تكون الجنين، بشرط ولادته حياً ولو حياة تقديرية. ويعتبر حياً عند الحنفية بظهور أكثر المولود حياً، وتعتبر الحياة تقديرية عندهم في حالة إسقاط الجنين بجناية، كما لو ضرب شخص امرأة حبلى فأسقط جنيناً ميتاً، فإنه يرث ويورث.
وقال غير الحنفية: يشترط تمام الولادة لاعتبار الشخص حياً، وانفصاله عن أمه انفصالاً تاما. وبهذا الرأي أخذ قانون الأحوال الشخصية السوري. واكتفى غير الحنفية في حال إسقاط الجنين ميتاً بأن الجنين تورث عنه الغرة فقط (وهي دية الجنين أو التعويض المالي الواجب دفعه بسبب الاعتداء على الجنين وقدرت شرعاً بـ 05 ديناراً أو بـ 500 درهم).
وتنتهي الشخصية الطبيعية بالوفاة الحقيقية (الموت) أو التقديرية كالحكم بوفاة المفقود أو الغائب الذي لا يعلم مكانه، ولا يدرى أهو حي أو ميت، وذلك بوفاة أقرانه في غالب الظن، أو ببلوغه تسعين سنة.

(4/2841)


ولكن مع زوال الشخصية بالموت تظل ذمة الإنسان وأهلية وجوبه باقية افتراضاً بقدر ما تقتضيه تصفية الحقوق المتعلقة بتركته، وذلك للضرورة وبقدر الضرورة، كما سيتضح في بحث الأموال والذمة المالية، فيتملك الميت ما باشر سبب ملكيته في حياته كنصب شبكة للصيد وقع فيها المصيد، ويضمن ما باشر سبب ضمانه، كالالتزام بدفع قيمة ما يقع من حيوان في حفرة حفرها في الطريق العام.
ويقر الفقه الإسلامي ما يسمى قانوناً: الشخصية الاعتبارية، أو المعنوية أو الشخصية المجردة عن طريق الاعتراف لبعض الجهات العامة كالمؤسسات والجمعيات والشركات والمساجد بوجود شخصية تشبه شخصية الأفراد الطبيعيين في أهلية التملك وثبوت الحقوق، والالتزام بالواجبات، وافتراض وجود ذمة مستقلة للجهة العامة بقطع النظر عن ذمم الأفراد التابعين لها، أو المكونين لها.
والأدلة كثيرة على هذا الإقرار، سواء من النصوص أو من الاجتهادات الفقهية. فمن النصوص: الحديث النبوي: «ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم» (1) أي أن الأمان الصادر للعدو من أحدهم يسري على جماعة المسلمين. ومنها نصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي تقضي بجواز رفع ما يسمى بدعوى الحسبة من أي فرد لقمع غش وإزالة منكر أو أذى عن الطريق، وتفريق بين زوجين بينهما علاقة محرمة، وإن لم يكن للمدعي مصلحة شخصية.
ومن الاجتهادات: فصل بيت المال عن مال الحاكم الخاص، وقولهم: بيت المال وارث من لا وارث له، واعتبار الحاكم نائباً عن الأمة في التصرف بالأموال العامة على وفق المصلحة، كما يتصرف الوصي بمال اليتيم. وهو نائب عن الأمة
_________
(1) رواه أحمد عن علي رضي الله عنه (نيل الأوطار: 27/ 7).

(4/2842)


أيضاً في إبرام المعاهدات التي تظل نافذة على الرغم من موته أو خلعه، وفي تعيين الموظفين أو العمال الذين لا ينعزلون بموت الحاكم، وفي إصدار الأحكام القضائية، فلا يضمن القاضي الدية إذا أخطأ في قضائه في حقوق الله كقطع يد السارق بشهود زور، وإنماضمانها في بيت المال.
ومن اجتهاداتهم: جواز تمليك الوقف والتزامه بما يجب عليه من حقوق للآخرين، وجواز الوصية والوقف للمسجد، واعتبار ناظر الوقف مجرد نائب عنه لايتحمل شيئاً من ديون الوقف، ويشتري للوقف مايحتاجه، ويدفع ثمنه من غلات الوقف. فالوقف هو المالك والدائن والمدين، لا المتولي عليه. والناظر أمين على الوقف، فلو خان مصلحة الوقف أو أساء التصرف إليه أو خالف شروط الواقف، ضمن موجب فعله.

المبحث الثاني ـ أنواع الحق ينقسم الحق عدة تقسيمات باعتبارات مختلفة بحسب المعنى الذي يدور عليه الحق، أذكر أهم هذه التقسيمات وأحكامها وما يترتب عليها من نتائج.
التقسيم الأول ـ باعتبار صاحب الحق ينقسم الحق بهذا الاعتبار إلى ثلاثة أنواع: حق الله، وحق الإنسان، وحق مشترك: وهو ما اجتمع فيه الحقان ولكن قد يغلب حق الله أو حق الإنسان الشخصي (1).
_________
(1) راجع كتب أصول فقه الحنفية: التقرير والتحبير: 104/ 2 - 111، كشف الأسرار: 136/ 2، التلويح على التوضيح: 151/ 2 ومابعدها، حاشية نسمات الأسحار: ص 259.

(4/2843)


1 - حق الله تعالى (أو الحق العام):
وهو ما قصد به التقرب إلى الله تعالى وتعظيمه وإقامة شعائر دينه، أو تحقيق النفع العام للعالم من غير اختصاص بأحد من الناس. وينسب إلى الله تعالى لعظم خطره وشمول نفعه، أي أنه هو حق للمجتمع.
مثال الأول: العبادات المختلفة من الصلاة والصيام والحج والزكاة والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنذر واليمين وتسمية الله عند الذبح وكل أمر ذي بال.
ومثال الثاني: الكف عن الجرائم وتطبيق العقوبات من حدود (حد الزنا والقذف والسرقة والحرابة وشرب المسكرات) وتعزيرات على الجرائم المختلفة، وصيانة المرافق العامة من أنهار وطرقات ومساجد وغيرها مما لا بد منها للمجتمع.
وتقسم حقوق الله تعالى عند الحنفية إلى ثمانية أقسام تعرف في أصول الفقه. وأحكام حق الله تعالى كثيرة: وهي لا يجوز إسقاطه بعفو أو صلح أو تنازل، ولا يجوز تغييره، فلا يسقط حد السرقة بعفو المسروق منه أو صلحه مع السارق بعد بلوغ الأمر إلى الحاكم. ولا يسقط حد الزنا بعفو الزوج أو غيره أو إباحة المرأة نفسها.
ولا يورث هذا الحق، فلا يجب على الورثة ما فات مورثهم من عبادات، إلا إذا أوصى بإخراجها، ولا يسأل الوارث عن جريمة المورث.
ويجري التداخل في عقوبة حقوق الله، فمن زنى مراراً، أو سرق مراراً ولم يعاقب في كل مرة، فيكتفى بعقوبة واحدة؛ لأن المقصود من العقوبة هو الزجر

(4/2844)


والردع ويتحقق بذلك (1). واستيفاء عقوبة هذه الجرائم للحاكم، فهو الذي يؤدب على ترك العبادات أو التهاون بشأنها، وهو الذي يقيم الحدود والتعزيرات على العصاة منعاً من الفوضى وتثبيتاً من وقوع الجريمة.

2 - حق الإنسان (أو العبد):
وهو ما يقصد منه حماية مصلحة الشخص، سواء أكان الحق عاماً كالحفاظ على الصحة والأولاد والأموال، وتحقيق الأمن، وقمع الجريمة، ورد العدوان، والتمتع بالمرافق العامة للدولة؛ أم كان الحق خاصاً، كرعاية حق المالك في ملكه، وحق البائع في الثمن والمشتري في المبيع، وحق الشخص في بدل ماله المتلف، ورد المال المغصوب، وحق الزوجة في النفقة على زوجها، وحق الأم في حضانة طفلها، والأب في الولاية على أولاده، وحق الإنسان في مزاولة العمل ونحو ذلك.
وحكم هذا الحق أنه يجوز لصاحبه التنازل عنه، وإسقاطه بالعفو أو الصلح أو الإبراء أو الإباحة، ويجرى فيه التوارث، ولا يقبل التداخل، فتتكرر فيه العقوبة على كل جريمة على حدة، واستيفاؤه منوط بصاحب الحق أو وليه.

3 - الحق المشترك: وهو الحق الذي يجتمع فيه الحقان: حق الله وحق الشخص، لكن إما أن يغلب فيه حق الله تعالى أو حق الشخص.
مثال الأول: عدة المطلقة، فيها حق الله: وهو صيانة الأنساب عن الاختلاط، وفيها حق الشخص، وهو المحافظة على نسب أولاده، لكن حق الله غالب؛ لأن في صيانة الأنساب نفعاً عاماً للمجتمع، وهو حمايته من الفوضى
_________
(1) البدائع: 55/ 7 ومابعدها، 86، المبسوط: 185/ 9.

(4/2845)


والانهيار. ومثاله أيضاً: صيانة الإنسان حياته وعقله وصحته وماله، فيها حقان، لكن حق الله غالب لعموم النفع العائد للمجتمع. ومثاله عند الحنفية (1) حد القذف (وهو ثمانون جلدة لمن يتهم غيره بالزنا) فيه حقان: حق للمقذوف بدفع العار عنه وإثبات شرفه وحصانته، وحق الله: وهو صيانة أعراض الناس وإخلاء العالم من الفساد، والحق الثاني أغلب (2).
وحكمه: أنه يلحق بالقسم الأول، وهو حق الله تعالى باعتبار أنه هو الغالب.
ومثال الثاني: حق القصاص الثابت لولي المقتول، فيه حقان: حق لله وهو تطهير المجتمع عن جريمة القتل النكراء، وحق للشخص: وهو شفاء غيظه وتطييب نفسه بقتل القاتل، وهذا الحق هو الغالب؛ لأن مبنى القصاص على المماثلة، بقوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} [المائدة:45/ 5] والمماثلة ترجح حق الشخص.
وحكمه أنه يلحق بالقسم الثاني: وهو حق الشخص في جميع أحكامه، فيجوز لولي المقتول العفو عن القاتل، والصلح معه على مال، بل ندب الله تعالى إلى العفو والصلح، فقال: {فمن عفي له من أخيه شيء، فاتباع بالمعروف، وأداء إليه بإحسان، ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} [البقرة:178/ 2]. وقال عز وجل: {ومن قُتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل، إنه كان منصوراً} [الإسراء:33/ 17].
_________
(1) فتح القدير: 194/ 4، البدائع: 56/ 7، المبسوط: 113/ 9، رد المحتار والدر المختار: 189/ 4.
(2) وقال الشافعية والحنابلة وفي قول لمالك هو الأظهر عند ابن رشد: حد القذف حق خالص للمقذوف، لأن القذف جناية على عرضه، وعرضه حقه فالعقاب حقه.

(4/2846)


تقسيم حق الشخص (أو العبد):
ينقسم حق الشخص الخاص باعتبار أنه صاحب الحق تقسيمين آتيين:

الأول ـ حقوق تقبل الإسقاط وحقوق لاتقبل الإسقاط:
1 - الحق القابل للإسقاط: الأصل أن جميع الحقوق الشخصية تقبل الإسقاط بخلاف الأعيان، كحق القصاص وحق الشفعة وحق الخيار. وإسقاط الحق إما أن يكون بعوض أو بغير عوض.
2 - الحق الذي لا يقبل الإسقاط: هناك حقوق لا تقبل الإسقاط على سبيل الاستثناء من الأصل العام المتقدم وهي ما يأتي:
أـ الحقوق التي لم تثبت بعد: كإسقاط الزوجة حقها في المبيت والنفقة المستقبلة، وإسقاط المشتري حقه في خيار الرؤية قبل الرؤية، وإسقاط الوارث حقه في الاعتراض على الوصية حال حياة الموصي، وإسقاط الشفيع (الشريك أو الجار) حقه في الشفعة قبل البيع. كل هذا لا يسقط؛ لأن الحق نفسه لم يوجد بعد.
ب ـ الحقوق المعتبرة شرعاً من الأوصاف الذاتية الملازمة للشخص: كإسقاط الأب أو الجد حقهما في الولاية على الصغير، فإن الولاية وصف ذاتي لهما لا تسقط بإسقاطهما. ومثلها عند أبي يوسف: ولاية الواقف على وقفه، تثبت له سواء شرطها أو نفاها؛ لأنها أثر ملكه.
ج ـ الحقوق التي يترتب على إسقاطها تغيير للأحكام الشرعية كإسقاط المطلق حقه في إرجاع زوجته، وإسقاط الواهب حقه في الرجوع عن الهبة، وإسقاط الموصي حقه في الرجوع عن الوصية.
ومنها إسقاط مالك العين حقه في ملكها، لا يقبل الإسقاط؛ لأن معنى

(4/2847)


إسقاط حقه في ملكها إخراجها عن ملكه إلى غير مالك، فتكون سائبة لا مالك لها، وقد نهى الشرع عن السائبة التي كانت في الجاهلية بقوله تعالى: {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ... } (1) [المائدة:5/ 103]، فأصبح المبدأ المقرر: (لا سائبة في الإسلام). وعليه فإن العين في حكم الشرع لا بد أن يثبت فيها وصف الملك لأحد من الناس، فإسقاط المالك حقه في ملكها يترتب عليه تغيير حكم الشرع الثابت، وهذا باطل إذ ليس لأحد من الناس ولاية تغيير حكم الشرع المقرر.
د ـ الحقوق التي يتعلق بها حق الغير: كإسقاط الأم حقها في الحضانة، والمطلق حقه في عدة مطلقته، والمسروق منه حقه في حد السارق؛ لأن هذه الحقوق مشتركة، وإذا كان للإنسان ولاية على إسقاط حقه، فليس له ولاية على إسقاط حق غيره.

الثاني ـ حقوق تورث وحقوق لا تورث:
اتفق الفقهاء على وراثة الحقوق المقصود بها التوثق كحبس المرهون لوفاء الدين، وحبس المبيع لاستيفاء الثمن، وحق الكفالة بالدين لأنها من الحقوق اللازمة المؤكدة.
واتفقوا أيضاً على وراثة حقوق الارتفاق كحق الشِّرب والمرور؛ لأنها حقوق تابعة للعقار ولازمة له.
_________
(1) البحيرة: هي الشاة التي تلد خمسة أبطن خامسها أنثى. والسائبة: الناقة التي تسيب لآلهتهم فترعى حيث شاءت، ولا يأخذ لبنها إلا ضيف ولايحمل عليها. والوصيلة: الناقة التي تلد ذكراً ثم أنثى، فيقولون: وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم كما كان مقرراً عندهم من ذبح الذكر وإبقاء الأنثى لهم. والحام أو الحامي: الفحل الذي يولد من ظهره عشرة أبطن (تفسير ابن كثير: 107/ 2 ومابعدها).

(4/2848)


وكذلك اتفقوا على إرث خيار التعيين والعيب؛ لأن البيع في خيار التعيين لازم، والحق محصور في اختيار أحد الأشياء. والبيع تم في خيار العيب على أساس سلامة المبيع من العيب، فيثبت ذلك الحق للورثة دفعاً للضرر والغبن.
واختلف الفقهاء في إرث خيار الشرط وخيار الرؤية وأجل الدين وحق الغانم في الغنيمة بعد الإحراز، وقبل القسمة:
فقال الحنفية: لا تورث الحقوق والمنافع؛ لأن الإرث يجري في المال الموجود وهو الأعيان، وهذه ليست أموالاً عندهم. أما الديون فما دامت في الذمة فليست مالاً لأنها أوصاف شاغلة لها، ولا يتصور قبضها حقيقة، وإنما يقبض ما يعادلها، لكنها تورث لأنها مال حكمي؛ أي شيء اعتباري يملكه الدائن، وهو موجود في ثروة المدين، فالدين مال من حيث المآل.
وقال غير الحنفية: تورث الحقوق والمنافع والديون؛ لأنها أموال، ولقوله عليه السلام: «من ترك مالاً أو حقاً فلورثته، ومن ترك كَلاً أو عيالاً فإلي» (1).

التقسيم الثاني ـ باعتبار محل الحق ينقسم الحق باعتبار محله المتعلق به إلى حق مالي وغير مالي، وإلى حق شخصي وحق عيني، وإلى حق مجرد وحق غير مجرد.
1 - الحقوق المالية وغير المالية:
الحقوق المالية: هي التي تتعلق بالأموال ومنافعها أي التي يكون محلها المال
_________
(1) متفق عليه بين البخاري ومسلم وأحمد عن أبي هريرة بلفظ: «ما من مؤمن إلا أنا أولى به في الدنيا والآخرة، واقرؤوا إن شئتم: {النَّبيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أْنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6/ 33] فأيما مؤمن مات وترك مالاً فليرثه عصبته من كانوا، ومن ترك دَيْناً أو ضياعاً، فليأتني فأنا مولاه» والضياع أي ذوي ضياع أي لا شيء لهم (نيل الأوطار: 57/ 6).

(4/2849)


أو المنفعة، كحق البائع في الثمن، والمشتري في المبيع، وحق الشفعة، وحقوق الارتفاق، وحق الخيار، وحق المستأجر في السكنى، ونحوها.
والحقوق غير المالية: هي التي تتعلق بغير المال مثل حق القصاص، وحق الحرية بجميع أنواعها، وحق المرأة في الطلاق أو التفريق لعدم الإنفاق، أو بسبب العيوب التناسلية أو للضرر وسوء العشرة أو للغيبة أو الحبس، وحق الحضانة، وحق الولاية على النفس، ونحو ذلك من الحقوق السياسية والطبيعية.

2 - الحق الشخصي والحق العيني:
الحق الشخصي: هو ما يقره الشرع لشخص على آخر. ومحله إما أن يكون قياماً بعمل كحق البائع في تسلم الثمن وحق المشتري في تسلم المبيع، وحق الإنسان في الدين وبدل المتلفات والمغصوبات، وحق الزوجة أو القريب في النفقة. وإما أن يكون امتناعاً عن عمل كحق المودع على الوديع في عدم استعمال الوديعة.
وللحق الشخصي عناصر ثلاثة: هي صاحب الحق، ومحل الحق، والمكلف أو المدين، إلا أن العلاقة بين طرفي هذا الحق هي المتميزة أو البارزة، دون المحل وهو المال.
والحق العيني: هو ما يقره الشرع لشخص على شيء معين بالذات. فالعلاقة القائمة بين صاحب الحق وشيء مادي معين بذاته، والتي بموجبها يمارس المستحق سلطة مباشرة على الشيء هي الحق العيني. مثل حق الملكية الذي به يستطيع المالك ممارسة أكمل السلطات على ما يملكه: وهي التصرف بالشيء واستثماره واستعماله. وحق الارتفاق المقرر لعقار على عقار معين كحق المرور أو المسيل أو تحميل الجذوع على الجدار المجاور. وحق احتباس العين المرهونة لاستيفاء الدين.

(4/2850)


وللحق العيني عنصران فقط هما: صاحب الحق، ومحل الحق.

خصائص الحق العيني والحق الشخصي:
يتميز كل من هذين الحقين بمميزات وخصائص أهمها ما يأتي:
1 - حق التتبع لصاحب الحق العيني دون الشخصي: لصاحب الحق العيني تتبع الشيء الذي تعلق به حقه في أي يد وجدت فيها العين مهما تغير واضع اليد عليها. فلو غصب شخص شيئاً ثم باعه أو غصب منه وتداولته الأيدي، جاز لمالكه رفع الدعوى على الحائز الأخير صاحب اليد.
أما الحق الشخصي: فلا يطالب به إلا المكلف به أصالة وهو المدين أو نيابة وهو الكفيل أو المحال عليه.
وسبب التفرقة: أن الحق العيني متعلق بعين معينة لا بذمة شخصية، والعين يمكن انتقالها من يد إلى أخرى. أما الحق الشخصي فمتعلق بذمة المكلف أو المدين، فلا يسأل عنه غيره إلا بإرادته كما في الكفالة والحوالة.
2 - حق الامتياز أو الأفضلية لصاحب الحق العيني: يكون لصاحب الحق العيني حق الأولوية أو الامتياز على سائر الدائنين العاديين إذا كان دينه موثقاً برهن.
أما صاحب الحق الشخصي فليس له حق الامتياز إلا استثناء في أحوال معينة كحالة التهمة أو الشك، فتقدم ديون الصحة على ديون المرض، وحالة الضرورة، فتقدم نفقات التكفين والتجهيز على بقية الحقوق المتعلقة بالتركة ويقدم دين النفقة للزوجة والأولاد الصغار على الديون العادية. وحالة رعاية المصلحة العامة، فتقدم ديون الحكومة على ديون الناس العادية.

(4/2851)


3 - سقوط الحق العيني بهلاك محله: إذا هلك محل الحق العيني سقط الحق وبطل العقد. فإذا هلك المبيع في يد البائع قبل قبض المشتري له بطل العقد، وسقط حق المشتري في تسلم المبيع. وإذا احترقت الدار المؤجرة بطل عقد الإجارة، وسقط حق المستأجر في الانتفاع بها.
أما إذا هلك محل الحق الشخصي فلا يسقط الحق ولا يبطل العقد، فإذا هلكت أموال المدين، فلا يسقط حق الدائن بالدين؛ لأن الدين متعلق بالذمة لا بمال معين. وإذا هلك الشيء المسلَم فيه في عقد السلم وجب على البائع (المسلَم إليه) تسليم غيره.

3 - الحقوق المجردة وغير المجردة:
الحق المجرد أو المحض: هو الذي لا يترك أثراً بالتنازل عنه صلحاً أو إبراء، بل يبقى محل الحق عند المكلف (أو المدين) بعد التنازل كما كان قبل التنازل. مثل حق الدين، فإن الدائن إذا تنازل عن دينه، كانت ذمة المدين بعد التنازل هي بعينها قبل التنازل، ولا يترتب على التنازل عن الحق أثر من الآثار. وكذلك حق الشفعة إذا أسقط الشفيع حقه في الشفعة، كانت ملكية المشتري للعقار بعد التنازل عن الشفعة هي بعينها قبل التنازل. ومثله حق المدعي في تحليف خصمه اليمين، وحق الخيار، والحق في وظائف الأوقاف.
والحق غير المجرد: هو الذي يترك أثراً بالتنازل عنه، كحق القصاص فإنه يتعلق برقبة القاتل ودمه، ويترك فيه أثراً بالتنازل عنه، فيتغير فيه الحكم، فيصير معصوم الدم بالعفو بعد أن كان غير معصوم الدم، أي مباح القتل بالنسبة إلى ولي المقتول المستحق للقصاص، ولكن برأي الحاكم. ومثل حق استمتاع الزوج بزوجته، يتعلق بالزوجة، ويمنعها من إباحة نفسها لغير زوجها بالعقد عليها، فإذا

(4/2852)


تنازل الزوج عن هذا الحق بالطلاق، استردت المرأة حريتها، فتتزوج بمن تشاء (1).
وتظهر فائدة هذا التقسيم فيما يأتي:
الحق غير المجرد تجوز المعاوضة عنه بالمال، كحق القصاص وحق الزوجة يجوز لكل من ولي المقتول والزوج أخذ العوض المالي في مقابل التنازل عن حقه بالصلح.
أما الحق المجرد: فلا يجوز الاعتياض عنه كحق الولاية على النفس والمال وحق الشفعة، وهذا رأي الحنفية، ويجوز عند غير الحنفية أخذ العوض عنه.

التقسيم الثالث ـ باعتبار المؤيد القضائي وعدمه ينقسم الحق باعتبار وجود المؤيد القضائي وعدمه إلى نوعين: حق دياني، وحق قضائي. فالحق الدياني: هو الذي لا يدخل تحت ولاية القضاء. فلا يتمكن القاضي من الإلزام به لسبب من الأسباب كالعجز عن إثباته أمام القضاء. وإنما يكون الإنسان مسؤولاً عنه أمام ربه وضميره. فالدين الذي عجز صاحبه عن إثباته أمام القضاء لا يعني أنه صار غير مستحق، بل يجب على المدين ديانة المبادرة إلى وفائه. والزواج العرفي غير المسجل في المحاكم الشرعية تكون فيه الزوجية ثابتة ديانة. وتترتب عليها الأحكام الشرعية من نفقة وثبوت نسب الأولاد وغير ذلك.
والحق القضائي: هو ما يدخل تحت ولاية القاضي، ويمكن لصاحبه إثباته أمام القضاء.
وتظهر ثمرة التقسيم في أن الأحكام الديانية تبنى على النوايا والواقع
_________
(1) أحكام المعاملات الشرعية لأستاذنا الشيخ علي الخفيف: ص 38.

(4/2853)


والحقيقة. وأما الأحكام القضائية فتبنى على ظاهر الأمر ولا ينظر فيها إلى النوايا وواقع الأمر وحقيقته. فمن طلق امرأته خطأ، ولم يقصد إيقاع الطلاق، يحكم القاضي بوقوع طلاقه عملاً بالظاهر واستحالة معرفة الحقيقة، ويكون الحكم بوقوع الطلاق حكماً قضائياً. وأما ديانة فالحكم عدم وقوع الطلاق، وللإنسان أن يعمل بذلك فيما بينه وبين الله تعالى، وللمفتي إفتاؤه بذلك؛ لأن الزوج لم يقصد الطلاق في الواقع.

المبحث الثالث ـ مصادر الحق أو أسبابه
عرفنا سابقاً أن منشأ الحق أو سببه الأساسي أو غير المباشر: هو الشرع. فالشرع هو المصدر الأساسي للحقوق، والسبب الوحيد لها، غير أن الشرع قد ينشئ الحقوق مباشرة من غير توقف على أسباب أخرى، كالأمر بالعبادات المختلفة، والأمر بالإنفاق على القريب، والنهي عن الجرائم والمحرمات، وإباحةالطيبات من الرزق، فإن أدلة الشرع هنا تعتبر أسباباً مباشرة للحقوق.
وقد ينشئ الشارع الحقوق أو الأحكام مرتبة على أسباب أخرى يمارسها الناس، كعقد الزواج، فإنه ينشئ حق النفقة للزوجة والتوارث بين الزوجين وغير ذلك. وعقد البيع ينشئ ملك البائع للثمن والمشتري للمبيع. والغصب سبب للضمان عند هلاك المغصوب. وتعتبر العقود والغصب أسباباً مباشرة، وأدلة الشرع أسباباً غير مباشرة.
والمقصود من الأسباب أو المصادر في هذا المبحث: الأسباب المباشرة، سواء أكانت أدلة الشرع أم الأسباب التي أقرتها وعينتها هذه الأدلة. فليس المراد من المصدر هنا:
المصدر الآمر في إيجاب الالتزام، إذ تكون عندئذٍ جميع المصادر مردها إلى الشرع أو القانون.

(4/2854)


ومصادر الحق بالنسبة للالتزامات (1) خمسة: هي الشرع، والعقد، والإرادة المنفردة، والفعل النافع، والفعل الضار.
فالعقد كالبيع والهبة والإجارة. والإرادة المنفردة كالوعد بشيء والنذر. والشرع كالالتزام بالنفقة على الأقارب والزوجة، والتزام الولي والوصي، وإيجاب الضرائب. والفعل الضار بالغير كالتزام المتعدي بضمان الشيء الذي أتلفه أو غصبه. والفعل النافع أو الإثراء بلا سبب كأداء دين يظنه الشخص على نفسه، ثم يتبين أنه كان بريئاً منه، أو أداء دين الغير بأمره، أو شراء شيء ثم يتبين أنه ملك الغير، فيجوز لصاحب الحق الرجوع على الآخر بالدين، لعدم استحقاق الآخر له.
ويمكن إدخال جميع هذه المصادر في الواقعة الشرعية. والواقعة الشرعية إما أن تكون طبيعية كالجوار والقرابة والمرض ونحوها، أو اختيارية. والواقعة الاختيارية إما أن تكون أعمالاً مادية ممنوعة وهي الفعل الضار، أو أعمالاً مشروعة من جانب واحد وهي الفعل النافع، وإما أن تكون تصرفات شرعية.
والتصرفات الشرعية: إما وحيدة الطرف وهي الإرادة المنفردة، أو متعددة وهي العقد (2).
ويلاحظ أن هذه المصادر هي الأسباب المباشرة للالتزم، وأما المصدر غير المباشر لكل التصرفات الشرعية والأفعال المادية فهو الشرع.
وأما مصادر الحق العيني فهي أسباب الملك التام أو الناقص الآتي بيانها في بحث نظرية الملكية.
_________
(1) الالتزام هو الحادث الذي نشأ عنه الالتزام.
(2) المدخل إلى نظرية الالتزام في الفقه للأستاذ الزرقاء: ف 49 - 52.

(4/2855)


قال الدكتور السنهوري: إنه يمكن رد مصادر الحقوق في الفقه الإسلامي (سواء بالنسبة للالتزامات أم بالنسبة للحقوق العينية) إلى مصدرين اثنين، كما في الفقه الغربي أو القوانين الوضعية وهما:
التصرف القانوني، والواقعة القانونية (1).
والتصرف الشرعي أو القانوني يشمل العقد والإرادة المنفردة. والواقعة الشرعية أو القانونية تشمل الفعل الضار والفعل النافع.
ويلاحظ أخيراً أن الإقرار لا يعد منشئاً للحق، وإنما هو إخبار بالحق على الرأي الراجح عند الفقهاء. كما أن قضاء القاضي لا يعد منشئاً للحق، وإنما هو مظهر للحق وكاشف له، إلا إذا قضى القاضي بشهادة زور، ولم يكتشف الزور فيها، فإن قضاءه يعد منشئاً للحق ظاهراً أي قضاء لا ديانة.
وهذه هي المسألة المعروفة في الفقه الإسلامي بأن قضاء القاضي ينفذ ظاهراً وباطناً، أو ظاهراً فقط، وهي محل خلاف بين الفقهاء.

المبحث الرابع ـ أحكام الحق أحكام الحق: هي آثاره المترتبة عليه بعد ثبوته لصاحبه، وأحكامه ما يأتي:
1 - استيفاء الحق: لصاحب الحق أن يستوفي حقه بكل الوسائل المشروعة.
أـ واستيفاء حق الله تعالى في العبادة يكون بأدائها على الوجه الذي رسمه الله تعالى للعبادة إما في الأحوال العادية (العزيمة)، أو في الأحوال الاستثنائية (الرخصة) مثل قصر الصلاة، وإباحة الفطر في رمضان للمريض والمسافر، والتيمم بالتراب بدل الماء أثناء المرض أو فقد الماء، والنيابة في الحج للعاجز عنه، وإباحة النطق بالكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان حال الإكراه عليه.
_________
(1) مصادر الحق في الفقه الإسلامي للسنهوري: 69/ 1.

(4/2856)


فإن امتنع الشخص عن أداء العبادة: فإن كان الحق مالياً كالزكاة أخذه الحاكم جبراً عنه ووزعه في مصارفه الشرعية. وإن كان غير مال حمله الحاكم على فعله بما يملك من وسائل إن ترك الحق ظاهراً، وإلا عاقبه الله في الدنيا بالمحن والآلام، وفي الآخرة بالعذاب الأليم.
واستيفاء حق الله تعالى في منع الجرائم والمنكرات يكون بامتناع الناس عنها، فإن لم يكفّ الناس عنها، كان حق الله إقامة العقوبة، ويستوفيها ولي الأمر أو نائبه بعد إصدار الحكم القضائي بها منعاً من التظالم وإثارة الفتن والعداوات، وشيوع الفوضى وانهيار المجتمع.
ب ـ واستيفاء حق الإنسان (العبد): يكون بأخذه من المكلف به باختياره ورضاه، فإن امتنع من تسليمه: فإن كان الموجود تحت يده عين الحق كالمغصوب والمسروق والوديعة، أو جنس الحق كأمثال العين المغصوبة عند هلاكها، ولكن ترتب على أخذه من قبل صاحب الحق نفسه فتنة أو ضرر في الحالتين أو كان الموجود تحت يده من خلاف جنس الحق مطلقاً، فليس لصاحب الحق باتفاق الفقهاء استيفاؤه بنفسه، وإنما بواسطة القضاء.
أما إذا كان الموجود تحت يد الآخذ مالاً من جنس الحق، ولم يترتب على الأخذ بطريق خاص فتنة أو ضرر، فالمشهور عند المالكية والحنابلة أن صاحب الحق يستوفيه بواسطة القضاء (1)، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» (2)، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم قضى لهند زوجة أبي سفيان بأخذ حقها ولو لم يعلم زوجها بقوله: «خذي مايكفيك وولد ك بالمعروف» (3) فدل على أنه لا بد من القضاء لأخذ عين الحق أو جنسه.
_________
(1) الشرح الكبير للدردير: 335/ 4، القوانين الفقهية: ص359، المغني: 254/ 8 ومابعدها.
(2) رواه الترمذي وأبو داود وحسنه وصححه الحاكم من حديث أبي هريرة.
(3) رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة إلا الترمذي (نيل الأوطار، 323/ 6، سبل السلام: 219/ 3).

(4/2857)


وقال الشافعية (1): لصاحب الحق استيفاء حقه بنفسه بأي طريق، سواء أكان من جنس حقه، أم من غير جنسه، لقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى:40/ 42]، {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل:126/ 16] والمثلية ليست من كل وجه، وإنما في المال. ولقوله عليه السلام: «من وجد عين ماله عند رجل فهو أحق به» (2).
ووافق الحنفية (3) على رأي الشافعية فيما إذا كان المأخوذ من جنس حقه لا من غيره، والمفتى به اليوم كما قال ابن عابدين جواز الأخذ من جنس الحق أو من غيره، لفساد الذمم والمماطلة في وفاء الديون.
ويلاحظ أن هذا البحث المسمى فقهاً «الظفر بالحق» من أهم أحكام المعاملات التي يفرق فيها بين الأحكام القضائية والأحكام الديانية.
والخلاصة: أن من وجد عين حقه عند آخر مالاً أو عروضاً (سلعاً) وكان مماطلاً في رده أو جاحداً الدين، فيباح له باتفاق الفقهاء أخذه ديانة لا قضاء للضرورة، عملاً بالحديث السابق: (من وجد عين ماله فهو أحق به) (4).

نوع المأخوذ: الأصل في استيفاء الحق أن يكون بالعدل، فلا يزاد عليه فإن كان الحق معلوم النوع محدد المقدار كثمن دار وأجرتها وبدل قرض فلا تجوز الزيادة عليه في الاستيفاء وفي حكم القاضي.
وإن كان الحق مطلقاً غير محدد النوع أو المقدار، فيحمل على الوسط
_________
(1) مغني المحتاج: 162/ 4، المهذب: 282/ 2.
(2) رواه أحمد وأبو داود والنسائي عن سمرة بن جندب.
(3) فتح القدير: 236/ 4، رد المحتار والدر المختار: 219/ 3 ومابعدها، 265.
(4) نظرية الضرورة الشرعية للمؤلف: ص 188 ومابعدها، ط أولى أو مابعدها.

(4/2858)


المتعارف عليه بين الناس، فيؤخذ المتوسط من أموال الزكاة. ولا تؤخذ كرائم الأموال أو خسيسها.
والدليل على استيفاء الوسط نصوص كثيرة قرنت بالمعروف أو العرف، مثل قوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة:233/ 2] {وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلّمتم ما آتيتم بالمعروف} [البقرة:233/ 2] وفي كفارة اليمين صرح باعتبار الوسط في قوله تعالى: {فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم .. } [المائدة:89/ 5] والمراد بالأوسط: الوسط في نوع الطعام وعدد الوجبات. وعلى هذا فنفقة الزوجة والأقارب مقدرة بالوسط المتعارف عليه بالنص، وتجب زكاة الفطر من غالب قوت البلد: وهو الذي تعارف أهل البلد على تناوله.
ويجوز التعزير للممتنع عن دفع الزكاة بأخذ أعلى الحق الواجب، أو تغريمه الضعف، لقوله عليه السلام: «من دفعها مؤتجراً بها فله أجرها، ومن منعها فإنّا آخذوها وشطر ماله، عَزْمة من عزمات ربنا تبارك وتعالى» (1).

التسامح في الاستيفاء والأداء: الأصل أن يكون استيفاء الحق كاملاً، لكن الشارع ندب صاحب الحق إلى عدم استيفاء حقه كله أو بعضه تسامحاً وإحساناً وإيثاراً، وبخاصة إذا كان المكلف أو المدين في ضائقة، وذلك خير يثاب عليه فاعله، قال تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظِرة إلى ميسرة، وأن تصدقوا خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون} [البقرة:280/ 2] والمراد بالتصدق في الآية: إبراء المدين من دينه.
_________
(1) رواه أحمد والنسائي وأبو داود عن بَهْز بن حكيم عن أبيه عن جده، بلفظ: «من أعطاها مؤتجراً فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها، وشطر إبله، عَزْمة من عزمات ربنا تبارك وتعالى .. » (نيل الأوطار: 121/ 4 ومابعدها).

(4/2859)


وفي تنازل المرأة عن شيء من حقوقها أو كل مهرها، قال تعالى: {وآتوا النساء صدُقاتهن نِحْلة، فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً} [النساء:4/ 4]. {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم، إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عُقْدة النكاح} [البقرة:237/ 2] وفي التنازل عن حق القصاص قال تعالى: {ومن قُتِل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل، إنه كان منصوراً} [الإسراء:33/ 17].
وهناك آية تقرر مبدءاً عاماً في التنازل عن الحقوق وهي قوله تعالى: {وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها، فمن عفا وأصلح فأجره على الله} [الشورى:40/ 42].

2 - حماية الحق: قررت الشريعة حماية الحق لصاحبه من أي اعتداء بأنواع مختلفة من المؤيدات منها المسؤولية أمام الله، والمسؤولية المدنية، وتقرير حق التقاضي.
فالعبادات التي هي نوع من حقوق الله تعالى حماها الشرع بوازع الدين ودافع الإيمان القائمين على الرهبة من عذاب الله، والرغبة في ثوابه ونعيم الدنيا. ولذا كثيراً ما بدئت آيات القرآن في التكاليف الشرعية بوصف الإيمان: {يا أيها الذين آمنوا} [البقرة:282/ 2].
وهناك نوع آخر من الحماية للعبادة وهو الحسبة (1): وهي الأمر بالمعروف إذا ظهر تركه، والنهي عن المنكر إذا ظهر فعله، وهو حق ثابت لكل فرد من أفراد
_________
(1) الحسبة: وظيفة إدارية للدولة مهمتها مراقبة الناس والأسواق وحماية الناس من الانحراف عن آداب الدين، ومن جشع التجار والصناع والغش والبيع بأكثر من ثمن المثل وعدم إجادة الصناعة، وخلاصة مهمتها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وتشبه ما تقوم به البلديات الآن من مراقبة الأسواق وما تقوم به إدارة الأمن العام من مراقبة الآداب. وما تقوم به النيابة العامة من تقديم الجاني إلى القضاء.

(4/2860)


الأمة، وللمحتسب وهو والي الحسبة، فله مطالبة تارك الصلاة والزكاة، أو المفطر في رمضان بأداء ما تركه. ولكل مسلم رفع دعوى الحسبة على المعاصي إلى المحتسب أو القاضي ليؤدب العاصي بما يردعه ويزجره عن ترك العبادات وغيرها.
وهكذا بقية حقوق الله تعالى كالكف عن الجرائم تكون حمايتها أيضاً بوازع الدين وبالحسبة.
وأما حقوق الناس الخاصة (العباد) فحمايتها بوازع الدين الذي يوجب على كل فرد احترام حق غيره في ماله أو عرضه أو دمه، وبالمرافعة إلى القضاء لمطالبة من وجبت عليه.
وهكذا حمت الشريعة كل أنواع الحقوق الدينية والمدنية، الخاصة والعامة باحترام الحق لصاحبه، وعدم الاعتداء عليه، وبمعاقبة المعتدي.

حق التأليف والنشر والتوزيع:
أ - أما حق المؤلف الذي يدخل تحت عنوان قانوني جديد وهو الحق الأدبي فهو حق مصون في تقديري شرعاً على أساس قاعدة الاستصلاح أو المصلحة المرسلة (وهي الأوصاف التي تلائم تصرفات الشرع ومقاصده، ولكن لم يشهد لها دليل معين من الشرع بالاعتبار أو الإلغاء، ويحصل من ربط الحكم بها جلب مصلحة أو دفع مفسدة عن الناس) فكل عمل فيه مصلحة غالبة أو دفع ضرر أو مفسدة يكون مطلوباً شرعاً.
والمؤلف قد بذل جهداً كبيراً في إعداد مؤلْفه، فيكون أحق الناس به، سواء فيما يمثل الجانب المادي: وهوالفائدة المادية التي يستفيدها من عمله، أو الجانب المعنوي: وهو نسبة العمل إليه. ويظل هذا الحق خالصاً دائماً له، ثم لورثته لقول النبي صلّى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري وغيره: «من ترك مالاً أو حقاً فلورثته».

(4/2861)


وبناء عليه يعتبر إعادة طبع الكتاب أو تصويره اعتداء على حق المؤلف، أي أنه معصية موجبة للإثم شرعاً، وسرقة موجبة لضمان حق المؤلف في مصادرة النسخ المطبوعة عدواناً وظلماً، وتعويضه عن الضرر الأدبي الذي أصابه. وذلك سواء كتب على النسخ المطبوعة عبارة: (حق التأليف محفوظ للمؤلف) أم لا، لأن العرف والقانون السائد اعتبر هذا الحق من جملة الحقوق الشخصية، والمنافع تعد من الأموال المتقوّمة في رأي جمهور الفقهاء غير الحنفية، لأن الأشياء أو الأعيان تقصد لمنافعها لا لذواتها، والغرض الأظهر من جميع الأموال هو منفعتها كما قال شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام.
بل إن متأخري الحنفية أفتوا بضمان منافع المغصوب في ثلاثة أشياء: المال الموقوف، ومال اليتيم، والمال المُعَدّ للاستغلال.
والمؤلف حينما يطبع كتابه يقصد به أمرين: نشر العلم، واستثمار مؤلفه. ويكون لكل طبعة من طبعات الكتاب حق خاص للمؤلف.
وتذرع بعض الناشرين بأنهم في إعادة الطبع أو التصوير إنما ينشرون العلم ويخدمون المؤلّف هو تحايل شيطاني وذريعة فاسدة، لأن الحرام لايكون ولايصح بحال طريقاً للحلال. ويُبطل زعمَهم، أنهم لولا قصد الربح المادي المنتظر من وراء شهرة كتاب انتشر تداوله لما أقدموا على الطبع أو التصوير.
أما الكتب القديمة التي لم يَعُد يُعرَف ورثة مؤلّفها فلا مانع من طبعها بشرط عدم الاعتداء على جهد دار النشر الخاص الذي بذلته في إخراج الكتاب من تعليق وعلامات ترقيم وتصحيح ونحو ذلك.

ب - وأما حق النشر أو التوزيع فيحكمه العقد أو الاتفاق الحاصل بين المؤلف والناشر أو الموزع، فيجب على طرفي الاتفاق الالتزام بمضمونه من حيث

(4/2862)


عدد النسخ المطبوعة والمدة التي يسري فيها الاتفاق. والله تعالى أمر بالوفاء بالعقود {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1/ 5]، {وأوفوا بالعهد} [الإسراء:34/ 17].
وبناء عليه يحرم شرعاً نقض بنود الاتفاق، ولايجوز للمؤلف أن يقوم بإعطاء حق النشر أو التوزيع لغير الدار التي التزم معها في مدة معينة. وأما مايقال من جهد دار التوزيع أو النشر، فهذا قد استوفت الدار عوضه بما تأخذه من ربح، والشهرة كانت بالرواج النابع من موضوع الكتاب لا من شكله وإخراجه، فهذا له دور ثانوي، بدليل أن كثيراً من الكتب ذات إخراج بديع، ولكنها تافهة لم يكتب لها الرواج. كذلك لايصح القول: إن دار النشر أو التوزيع هي التي أضفت على المؤلف وكتابه شهرة، فذلك قد استوفت الدار عوضه مما أخذته من نسبة مئوية عالية تفوق فعلاً مايستفيده صاحب التأليف ذاته.

جـ - كذلك الترجمة ينبغي أن يكون نشرها بإذن المؤلف وباتفاق معه، وحق المؤلف أو الناشر حينئذٍ يتجلى في المطالبة بما يحقق الكتاب من أرباح بنسبة مئوية بحسب الاتفاقات أو الأعراف الشائعة التي تُعرَفُ من مجموع اتفاقات المؤلفين والناشرين.
والخلاصة: إن البرَّ: ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم: ما حاك في الصدر وكرهت أن يطلع عليه الناس. ولاشك أن حق المؤلف أصبح معترفاً به في القوانين والأعراف، وأن الطبع أو التصوير بغير حق عدوان وظلم على حق المؤلف، وأن فاعل ذلك يتهرب عادة من المسؤولية، ولايجرؤ على الاعتراف بفعله الآثم، مما يدل على أن عمله ظلم موجب لتعويض صاحب الحق، والمسلم أولى الناس برعاية الحقوق والوفاء بالذمم والعهود، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

(4/2863)


3 - استعمال الحق بوجه مشروع: على الإنسان أن يستعمل حقه وفقاً لما أمر به الشرع وأذن به. فليس له ممارسة حقه على نحو يترتب علىه الإضرار بالغير، فرداً أو جماعةً، سواء أقصد الإضرار أم لا. وليس له إتلاف شيء من أمواله أو تبذيره لأن ذلك غير مشروع.
فحق الملكية يبيح للإنسان أن يبني في ملكه ما يشاء وكيف يشاء، لكن ليس له أن يبني بناء يمنع عن جاره الضوء والهواء، ولا أن يفتح في بنائه نافذة تطل على نساء جاره، لإضراره بالجار.
واستعمال الإنسان حقه على وجه يضر به أو بغيره هو ما يعرف بالتعسف في استعمال الحق عند فقهاء القانون الوضعي.
فإن مارس الإنسان ما ليس حقاً له فلا يسمى تعسفاً وإنما هو اعتداء على حق الغير، فالمستأجر الذي ينتفع بالدار على وجه يضر بها يعد متعسفاً، أما الغاصب فإنه يعد متعدياً.
وتجاوز الحكام والموظفين حدود الشريعة وحدود صلاحياتهم كاغتصاب بعض الأموال، وجباية ضرائب ظالمة لا يعد تعسفاً في استعمال الحق، وإنما هو استعمال لغير الحق أو تجاوز عن الحق، المستوجب التأديب أو التعزير، فقد عزل عمر عمار بن ياسر عن ولاية الكوفة والمغيرة بن شعبة عن ولاية البصرة لما شكا إليه أهل الولايتين. وأنشأ عبد الملك بن مروان ولاية المظالم (كمجلس الدولة الآن) لمحاسبة الولاة والجباة وموظفي الدولة إذا ظلموا أحداً من الناس، أوتجاوزوا حدود سلطتهم أو صلاحيتهم.

أدلة حرمة التعسف: هناك أدلة كثيرة على تحريم التعسف منها ما يأتي:

(4/2864)


1 - قال تعالى: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن، فأمسكوهن بمعروف، أو سرحوهن بمعروف، ولا تمسكوهن ضِراراً لتعتدوا} [البقرة:231/ 2] نهى الشرع عن استعمال حق المراجعة بقصد الإضرار، كما كان يفعل في الجاهلية حيث يطلق الرجل زوجته، ثم إذا قاربت عدتها على الانتهاء راجعها، ثم طلقها، فنهى الشرع عنه، والنهي يفيد التحريم، فيكون التعسف حراماً.
2 - قال تعالى بعد بيان أنصباء الورثة: {من بعد وصية يُوصى بها أو دين، غير مضار، وصيةً من الله} [النساء:12/ 4] نهى الله تعالى عن الوصية الضارة بالورثة كالوصية لوارث أو بأكثر من الثلث، والنهي للتحريم، فيكون التعسف حراماً.
3 - قال عز وجل: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها واكسوهم} [النساء:5/ 4] فقد أمر الله بالحجر على السفيه الذي يبذر ماله، إذ إنه تعسف في استعمال حق الإنفاق، فيكون التعسف ممنوعاً مستحقاً التأديب والحجر.
4 - حديث السفينة في التضامن بإزالة المنكر (1): أمر الرسول صلّى الله عليه وسلم بمنع من في أسفل السفينة من خرقها، لما فيه من الضرر، وهو هلاك الجميع، ففعلهم يكون تعسفاً حراماً.

السبب في تحريم التعسف: هناك سببان في تحريم التعسف وهما:
_________
(1) أخرج البخاري عن النعمان بن بشير أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «مثَل القائم في حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا؟ فإن تركوهم وما أرادوا. هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعاً».

(4/2865)


أولاً ـ ليس لصاحب الحق حرية مطلقة في ممارسته، وإما هو مقيد بعدم الإضرار بالغير، للنصوص الشرعية التي تمنع الإضرار بالغير وتحريم الاحتكار وبيع مال المحتكر جبراً عنه عند الحاجة، وتحريم العدوان على الدماء والأموال والأعراض، سواء أكان الضرر ناشئاً عن استعمال حق مشروع أم عند اعتداء محض.
ثانياً ـ نزعة الحقوق الجماعية: فلا تقتصر المصلحة المستفادة من الحق الخاص المالي على صاحبه فقط، وإنما تعود على المجتمع أيضاً؛ لأن ثروته جزء من ثروة الأمة التي يجب أن تبقى قوية استعداداً للطوارئ. بل إن للمجتمع في الظروف العادية نصيباً مفروضاً في المال الخاص عن طريق الزكاة والخراج والكفارات وصدقة الفطر وغيرها، ونصيباً مندوباً إليه عن طريق الصدقات والوصايا والأوقاف وسائر وجوه الخير والبر. وهذا ما يعبر عنه اليوم باشتراكية الحقوق.
وإذا كان للمجتمع حق في مال الأفراد، فيجب ألا يتصرف الفرد في ماله تصرفاً ضاراً؛ لأن ذلك يعد اعتداءً على حق المجتمع، واعتداءً على نفسه.

قواعد منع التعسف في استعمال الحق:
القاعدة الأولى ـ قصد الإضرار: إذا قصد الإنسان من استعمال حقه الإضرار لا المصلحة المنشودة من الحق، كان استعماله تعسفاً محرماً، ووجب منعه. والدليل على ذلك تحريم الرجعة إضراراً بالزوجة، والوصية إضراراً بالورثة والدائنين، وسفر الزوج بزوجته بعيداً عن بلدها وأهلها إضراراً بها. ورفع الدعوى على الفضلاء بالتهم الباطلة للتشهير بهم. وإقرار مريض الموت بالدين لحرمان الورثة أو الدائنين. وطلاق مريض الموت زوجته فراراً من ميراثها. فكل ذلك تعسف حرام، وأساس هذه القاعدة هو قصد الضرر.

(4/2866)


ويترتب على التعسف في هذه الحالة ثلاثة أمور: تأديب صاحب الحق المتعسف وتعزيره بما يراه القاضي رادعاً لأمثاله، وبطلان التصرف إذا كان قابلاً للإبطال، وتعويض الضرر من هذا التعسف. ويعرف قصد الضرر بالأدلة والقرائن.

القاعدة الثانية ـ قصد غرض غير مشروع: إذا قصد الشخص من استعمال حقه تحقيق غرض غير مشروع لا يتفق مع المصلحة المقصودة من الحق، وإنما يستتر وراء استعمال الحق المشروع، كاتخاذ عقد الزواج وسيلة لتحليل المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول، ولا يقصد به الزواج الدائم، واتخاذ عقد البيع وسيلة للربا أو الفائدة، ومنه بيع العينة: وهو شراء شيء بثمن مؤجل ثم بيعه لنفس البائع الأول بثمن فوري أقل من الثمن الأول، قاصداً به الربا، فذلك كله تعسف حرام، لقوله عليه السلام: «لعن الله المحلل والمحلل له» (1) وقوله: «يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع» (2) ولنهيه عليه السلام عن بيع العِينة صراحة (3).
ومنه إسلام الزوجة غير المسلمة بقصد الإرث من زوجها، وهبة المال قبيل الحول بقصد إسقاط الزكاة الواجبة.
وقد أخذت هذه القاعدة من مبدأ (سد الذرائع) وما يتفرغ عنه من بطلان الحيل المحرمة التي يقصد بها إباحة الحرام أو تحريم الحلال أو إسقاط الواجب.
_________
(1) رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه وأبو داود وابن ماجه عن ابن مسعود قال: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم المحلّل والمحلَّل له» (نيل الأوطار: 138/ 6).
(2) حديث مرسل، صالح للاعتضاد به بالاتفاق، وله من المسندات مايشهد له، وهي الأحاديث الدالة على تحريم العينة، استدل به الأوزاعي ورواه (نيل الأوطار: 207/ 5).
(3) رواه أحمد وأبو داود عن ابن عمر بلفظ «إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم بلاء، فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم» (نيل الأوطار: 206/ 5).

(4/2867)


وأساس هذه القاعدة هو قصد الضرر أيضاً كالقاعدة الأولى، ويعرف ذلك بالأدلة والقرائن التي تعين القصد.

القاعدة الثالثة ـ ترتب ضرر أعظم من المصلحة: إذا استعمل الإنسان حقه بقصد تحقيق المصلحة المشروعة منه، ولكن ترتب على فعله ضرر يصيب غيره أعظم من المصلحة المقصودة منه، أو يساويها، منع من ذلك سداً للذرائع، سواء أكان الضرر الواقع عاماً يصيب الجماعة، أو خاصاً بشخص أو أشخاص. والدليل على المنع قول الرسول صلّى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار» (1) وعلى هذا فإن استعمال الحق يكون تعسفاً إذا ترتب عليه ضرر عام، وهو دائماً أشد من الضرر الخاص، أو ترتب عليه ضرر خاص أكثر من مصلحة صاحب الحق أو أشد من ضرر صاحب الحق أو مساو لضرر المستحق. أما إذا كان الضرر أقل أو متوهماً فلا يكون استعمال الحق تعسفاً.
من أمثلة الضرر العام بالأمة أو بالجماعة: الاحتكار: وهو شراء ما يحتاجه الناس وادخاره لبيعه وقت غلاء الأسعار وحاجة الناس إليه. وهو ممنوع للحديث النبوي: «الجالب مرزوق والمحتكر ملعون» «لا يحتكر إلا خاطئ» (2).
ومنه تلقي الركبان: وهو تلقي التاجر للوافدين من الريف إلى المدينة لبيع محاصيلهم، وشراؤها بثمن أقل من السعر القائم، وبيعها لأهل المدينة بثمن مرتفع. وهذا حرام لأن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن تلقي الركبان (3).
_________
(1) حديث حسن رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما مسنداً عن أبي سعيد الخدري، ورواه مالك مرسلاً عن عمرو بن يحيى عن أبيه.
(2) الحديث الأول ضعيف رواه ابن ماجه عن عمر، والحديث الثاني صحيح رواه أحمد ومسلم وأبو داود عن معمر بن عبد الله العدوي (نيل الأوطار: 220/ 5).
(3) متفق عليه بين أحمد والشيخين عن ابن مسعود بلفظ «نهى النبي عن تلقي البيوع» ولفظ البخاري عن ابن عباس «لا تلقوا الركبان» (نيل الأوطار: 166/ 5، سبل السلام: 20/ 3 - 21).

(4/2868)


ومنه بيع السلاح أثناء الفتنة، وبيعه لقطاع الطرق، وبيع العنب للخمار، وبيع السلع بأكثر من ضعف القيمة، فذلك يضر الجماعة، فيمنع التاجر منه، ولولي الأمر عند الحنفية والمالكية تسعير السلع بالربح المعقول. فإن أبوا من ذلك بيعت السلع جبراً عنهم.
كذلك لولي الأمر منع الناس من زراعة المخدرات، وزراعة أشياء لا تحتاج إليها الأمة أو تحتاج إلى غيرها.
ومثال الضرر الخاص الأشد: فتح نافذة في بناء تطل على مقر نساء الجار إلا إذا كانت أعلى من مستوى النظر. وقد منع الرسول عليه السلام سمرة بن جندب من دخول بستان لأحد الأنصار لتفقد نخله بسبب تأذي الأنصاري من دخوله (1)؛ لأن الضرر في الدخول كان أشد من عدم تفقد صاحب النخل نخله.
ومثال الضرر الخاص المساوي للمصلحة: أن يفعل مالك الدار فيها شيئاً يتضرر به جيرانه. رأى أبو حنيفة منعه من ذلك دفعاً للضرر الذي يصيب غيره، والضرر يجب رفعه لقوله عليه السلام: «لا ضرر ولا ضرار».
وقال أبو يوسف ومحمد: لا يمنع صاحب الحق حينئذ من استعمال حقه مراعاة لحق المالك، لتساويهما في الضرر، فيرجح حق المالك عملاً بما يبيحه له ملكه من استعمال وانتفاع.
ومثال الضرر القليل: بناء جدار أو غرس شجر في أرضه، مما يترتب عليه حجب الهواء عن جاره، لا يمنع منه المالك ولا يكون تعسفاً؛ إذ لا بد من مثل هذا الضرر القليل عادة أثناء الانتفاع بالحق.
_________
(1) رواه مسلم ومالك وأحمد وابن ماجه (شرح مسلم: 47/ 11).

(4/2869)


ومثال الضرر الموهوم: كثرة إنجاب النسل الذي قد يترتب عليه ضائقة اقتصادية، لا يمنع منه الإنسان؛ لأن الضرر هنا متوهم؛ فالله تعالى أودع في الأرض من الكنوز والموارد ما يكفي حاجة الإنسان إذا استخدمت الأيدي العاملة والعقول المفكرة، وتمت مراقبة الله وتقواه في هذه الموارد، كما قال تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، ولكن كذبوا، فأخذناهم بما كانوا يكسبون} [الأعراف:96/ 7]. وقال سبحانه في شأن أهل الكتاب: {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم، لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، منهم أمة مقتصدة، وكثير منهم ساء ما يعملون} [المائدة:66/ 5].
وأساس هذه القاعدة: هو مقدار الضرر الناشئ عن استعمال الحق.

القاعدة الرابعة ـ الاستعمال غير المعتاد وترتب ضرر للغير: إذا استعمل الإنسان حقه على نحو غير معتاد في عرف الناس، ثم ترتب عليه ضرر للغير، كان متعسفاً، كرفع صوت المذياع المزعج للجيران والتأذي به، واستئجار دار، ثم ترك الماء في جدرانها وقتاً طويلاً، أو استئجار سيارة ثم يحملها أكثر من حمولتها، أودابة ثم يضربها ضرباً قاسياً أو يحملها ما لا تطيق.
ففي كل ذلك يعتبر متعسفاً، فيمنع من تعسفه، ويعوض المتضرر عما أصابه من ضرر.
كذلك يمنع من استعمال حقه، إذا استعمل حقه استعمالاً غير معتاد، ولم يترتب عليه ضرر ظاهر؛ لأن الاستعمال على هذا النحو لا يخلو من ضرر، وعدم ظهور الضرر لا يمنع من وجوده في الواقع، وإن كان يمنع من الحكم عليه بالتعويض لعدم وضوح الضرر، فإن كان الاستعمال معتاداً مألوفاً، ووقع الضرر فلا يعد

(4/2870)


تعسفاً، ولا يترتب على ذلك ضمان، كالطبيب الجراح الذي يجري عملية جراحية معتادة، ويموت المريض، فلا يضمن. ومثله من يوقد فرناً يتأذى الجيران بدخانه، أو يدير آلة يتضرر الجيران بصوتها المعتاد، فلا ضمان؛ لأن كل ذلك معتاد مألوف.
وبناء عليه: من يشعل ناراً في أرضه، فطار منها شرر أحرق شيئاً لجاره، إن كان ذلك في أحوال عادية فلا ضمان عليه. وإن كان ذلك في وقت هبوب الرياح واشتدادها، فعليه الضمان.
وكذلك سقاية الأرض، إن كان سقياً عادياً، فتسرب الماء إلى أرض الجار، فلا ضمان، وإن كان سقياً غير عادي بماء لا تحتمله الأرض عادة، فعليه ضمان الضرر اللاحق بالغير (1).
والمقياس في ذلك هو العرف الذي يحدد كون التصرف معتاداً أو غير معتاد. وعليه تطبق أحكام التعامل مع الخباز والكواء إذا أحرق ما سلِّم له، يضمن إذا تصرف تصرفاً غير معتاد بزيادة وقود النار، وحرارة الكهرباء.

القاعدة الخامسة ـ استعمال الحق مع الإهمال أو الخطأ: إذا استعمل الإنسان حقه على وجه ليس فيه احتياط واحتراس وتثبت، فأضر بالغير، وهذا ما يعرف بالخطأ، كان متعسفاً أو مسؤولاً مسؤولية تقصيرية.
سواء أكان خطأ في القصد، كما إذا رأى الصياد شبحاً من بعيد، فظنه صيداً، فأطلق عليه النار، فإذا هو إنسان.
أو كان خطأ في الفعل، كما إذا سدد الصائد الرمية على صيد، فانحرفت وأصابت إنساناً، أو تجاوزت الصيد إلى إنسان فقتلته.
_________
(1) الهداية: 197/ 3، المهذب: 401/ 1.

(4/2871)


فذلك كله إساءة في استعمال الحق يترتب عليه تعويض الضرر الذي أصاب الغير؛ لأنه كان يجب عليه التثبت والانتباه أو الاحتراس في كل من القصد والفعل، فإذا قصد في ذلك تحمل نتيجة فعله صوناً لدماء الناس وأموالهم.
والدليل أن الله تعالى أوجب تعويض الضرر في القتل الخطأ بالدية، ومنع النبي من الضرر في الحديث المتقدم: «لا ضرر ولا ضرار» ولا سبيل إلى رفع الضرر بعد وقوعه إلا بإيجاب الضمان أو التعويض.
ومجال هذه القاعدة هو الضرر الناشئ عن الخطأ في استعمال الحق، سواء أكان هذا الحق ثابتاً بإذن الشارع، أم بالعقد أم بغيرهما من مصادر الحق؛ لأن استعمال الحقوق مقيد بشرط السلامة كما يقرر الفقهاء (1)، ولأن أموال الناس ودماءهم معصومة لا تهدر بحال، فيجب ضمانها وتعويض الضرر الواقع عليها.
وأساس هذه القاعدة حصول الضرر، سواء أكان قليلاً أم كثيراً.
ولا تطبق هذه القاعدة في حالتين:
الأولى ـ إذا كان استعمال الحق لايمكن فيه الاحتراز أو التثبت عادة، كالطبيب الذي يجري عملية جراحية على النحو المعتاد، فأفضى ذلك إلى تلف عضو أو نفس، لا يكون ضامناً.
الثانية ـ إذا اتخذ الشخص الاحتياطات، ومع ذلك وقع الضرر، فلا يضمنه كما إذا قام إنسان بالتدرب على إطلاق النار في ملكه، ووضع لافتات على أرضه بعدم الدخول، فلا ضمان عليه إذا أصاب أحداً دخل أرضه. كما لاضمان على من سلك طريقاً مخوفاً أو فيه سباع فوجد مقتولاً، لا تجب ديته (2).
_________
(1) الهداية: 154/ 4 ومابعدها.
(2) الهداية: 181/ 4.

(4/2872)


ومن تطبيقات هذه القاعدة:
حوادث السير بدون قصد من قتل وإتلاف مال، وما يترتب على ممارسة حق التأديب للزوج والمعلم والأب والحاكم من إتلافات غير مقصودة. وحالات تجاوز حدود الدفاع الشرعي من الأخف إلى الأثقل، واستهلاك الأموال على الظن أنها مال الشخص، فكل ذلك يوجب تعويض الضرر.

آثار أو أحكام التعسف:
التعسف في استعمال الحق يندرج تحت (الفعل الضار) أحد مصادر الحق. أما ما ينشأ عن التعسف من حقوق أو آثار وأحكام فهي ما يأتي:
1 - إزالة الضرر عيناً كهدم البناء الذي بناه المالك ملاصقاً لجاره، فسد عليه النور والهواء، وسد النافذة التي فتحها المالك، وكانت تطل على نساء جاره.
2 - التعويض عن الضرر إذا كان تلف نفس أو عضو أو مال.
3 - إبطال التصرف كإبطال زواج التحليل وبيع العينة والوصية الضارة بالورثة.
4 - المنع من ممارسة الحق كمنع الزوج من السفر بزوجته إذا قصد بالسفر إيذاءها.
5 - التعزير كالدعاوى المرفوعة على الشرفاء للتشهير بهم.
6 - الإجبار على الفعل كإجبار التجار على البيع بسعر معين، وإجبار العمال على العمل بأجر المثل.

(4/2873)


4 - نقل الحق:
يجوز انتقال الحق بسبب ناقل له، سواء أكان الحق مالياً كحق الملكية في المبيع، فإنه ينتقل من البائع للمشتري بسبب عقد البيع، وحق الدين، فإنه ينتقل من ذمة الدائن إلى تركته بسبب الوفاة، أم كان الحق غير مالي كحق الولاية على الصغير، فإنه ينتقل من الأب إلى الجد بسبب وفاة الأب، وحق الحضانة، فإنه ينتقل من الأم إلى الجدة لأم إذا تزوجت الأم بغير محرم من الصغير.
وأسباب انتقال الحق كثيرة منها: العقد، ومنها الالتزام الذي يتم من جانب واحد، ومنها الوفاة، ومنها حوالة الدين من مدين إلى مدين آخر. وهي نوع من العقد لا خلاف في مشروعيته بين الفقهاء. ومنها حوالة الحق من دائن إلى دائن كأن يحيل البائع دائنه على المشتري بالثمن، ويحيل المرتهن على الراهن بالدين، وتحيل الزوجة على زوجها بالمهر، وهي جائزة على التحقيق عند فقهاء المذاهب، حتى عند الحنفية في نطاق ما يسمى عندهم بالحوالة المقيدة: وهي أن يحيل شخص غيره بالدين الذي له على المحال عليه.

5 - انقضاء الحق:
ينتهي الحق بسبب من الأسباب المقررة شرعاً لانتهائه، وهو يختلف بحسب نوع الحق، فحق الزواج ينتهى بالطلاق، وحق الابن في النفقة على أبيه ينتهي بقدرته على الكسب، وحق الملكية ينتهي بالبيع، وحق الانتفاع ينتهي بفسخ عقد الإجارة أو انتهاء المدة، أو بانفساخ العقد بالأعذار أو الظروف الطارئة كانهدام المنزل، وحق الدين ينتهي بالأداء أو بالمقاصة أو بالإبراء: وهو إسقاط صاحب الحق حقه ممن هو عليه. وتفاصيل ذلك تعرف في بحث نظرية العقد.

(4/2874)