الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي الفَصْلُ الثَّالث: الملكيَّة وخصائِصُها
ويشتمل على مطالب خمسة:
المطلب الأول ـ تعريف الملكية والملك:
الملكية أو الملك: علاقة بين الإنسان والمال أقرها الشرع (1) تجعله مختصاً
به، ويتصرف فيه بكل التصرفات ما لم يوجد مانع من التصرف.
والملك كما يطلق على هذه العلاقة، يطلق أيضاً على الشيء المملوك، تقول: هذا
الشيء ملكي أي مملوك لي. وهذا المعنى هو المقصود في تعريف المجلة (م 521)
للملك: بأنه ما ملكه الإنسان، سواء أكان أعياناً أو منافع. وعلى هذا المعنى
يفهم قول الحنفية: إن المنافع والحقوق ملك وليست بمال.
وعلى هذا، فالملك أعم من المال عندهم.
والملك في اللغة: هو حيازة الإنسان للمال والاستبداد به أي الانفراد
بالتصرف فيه.
وقد عرف الفقهاء الملك بتعاريف متقاربة مضمونها واحد (2)، ولعل أفضلها هو
ما يأتي:
_________
(1) حق الملكية وغيره لا يثبت إلا بإقرار الشرع واعترافه به، لأن الشرع هو
مصدر الحقوق، وليس الحق في الشريعة حقاً طبيعياً، وإنما هو منحة إلهية
منحها الخالق للأفراد وفقاً لمصلحة الجماعة.
(2) راجع فتح القدير: 74/ 5، الفروق للقرافي: 208/ 3 ومابعدها.
(4/2892)
الملك: اختصاص بالشيء يمنع الغير منه،
ويمكن صاحبه من التصرف فيه ابتداء إلا لمانع شرعي.
فإذا حاز الشخص مالاً بطريق مشروع أصبح مختصاً به، واختصاصه به يمكنه من
الانتفاع به والتصرف فيه إلا إذا وجد مانع شرعي يمنع من ذلك كالجنون أو
العته أو السفه أو الصغر ونحوها. كما أن اختصاصه به يمنع الغير من الانتفاع
به أو التصرف فيه إلا إذا وجد مسوغ شرعي يبيح له ذلك كولاية أو وصاية أو
وكالة.
وتصرف الولي أو الوصي أو الوكيل لم يثبت له ابتداء، وإنما بطريق النيابة
الشرعية عن غيره، فيكون القاصر أو المجنون ونحوهما هو المالك، إلا أنه
ممنوع من التصرف بسبب نقص أهليته أو فقدانها، ويعود له الحق بالتصرف عند
زوال المانع أو العارض.
المطلب الثاني ـ قابلية المال للتملك وعدمها:
المال في الأصل قابل بطبيعته للتملك، لكن قد يعرض له عارض يجعله غير قابل
في كل الأحوال أو في بعضها للتملك، فيتنوع المال بالنسبة لقابليته للتملك
إلى ثلاثة أنواع:
1 ً - ما لا يقبل التمليك ولا التملك بحال: وهو ما خصص للنفع العام كالطرق
العامة والجسور والحصون والسكك الحديدية والأنهار والمتاحف والمكتبات
العامة والحدائق العامة ونحوها. فهذه الأشياء غير قابلة للتملك لتخصيصها
للمنافع العامة. فإذا زالت عنها تلك الصفة عادت لحالتها الأصلية، وهي
قابلية التملك، فالطريق إذا استغني عنه أو ألغي جاز تملكه.
2 ً - ما لا يقبل التملك إلا بمسوغ شرعي: كالأموال الموقوفة وأملاك بيت
(4/2893)
المال أي الأموال الحرة في عرف القانونيين.
فالمال الموقوف لا يباع ولا يوهب إلا إذا تهدم أو أصبحت نفقاته أكثر من
إيراده، فيجوز للمحكمة الإذن باستبداله (1).
وأملاك بيت المال (أو وزارة المالية، أو الحكومة) لا يصح بيعها إلا برأي
الحكومة لضرورة أو مصلحة راجحة، كالحاجة إلى ثمنها، أو الرغبة فيها بضعف
الثمن ونحو ذلك؛ لأن أموال الدولة كأموال اليتيم عند الوصي لا يتصرف فيها
إلا للحاجة أو المصلحة.
3 ً - ما يجوز تملكه وتمليكه مطلقاً بدون قيد: وهو ما عدا النوعين
السابقين.
المطلب الثالث ـ أنواع الملك:
الملك إما تام أو ناقص.
ف الملك التام: هو ملك ذات الشيء
(رقبته) ومنفعته معاً، بحيث يثبت للمالك جميع الحقوق المشروعة.
ومن أهم خصائصه: أنه ملك مطلق دائم لا يتقيد بزمان محدود ما دام الشيء محل
الملك قائماً. ولا يقبل الإسقاط، فلو غصب شخص عيناً مملوكة لآخر، فقال
المالك المغصوب منه: أسقطت ملكي، فلا تسقط ملكيته ويبقى الشيء ملكاً له،
وإنما يقبل النقل، إذ لا يجوز أن يكون الشيء بلا مالك. وطريق النقل إما
العقد الناقل للملكية كالبيع، أو الميراث أو الوصية.
_________
(1) أجاز الحنفية الاستبدال بالموقوف أرضاً أخرى للحاجة والمصلحة، فقالوا:
يجوز للقاضي النزيه العدل الإذن باستبدال الوقف، بشرط أن يخرج عن الانتفاع
بالكلية، وأن لا يكون هناك ريع للوقف يعمر به، وأن لا يكون البيع بغبن
فاحش، وأن يستبدل بعقار لا بدراهم ودنانير (الدر المختار ورد المحتار: 425/
3).
(4/2894)
ويمنح صاحبه الصلاحيات التامة وحرية
الاستعمال والاستثمار والتصرف فيما يملك كما يشاء، فله البيع أو الهبة أو
الوقف أو الوصية، كما له الإعارة والإجارة، لأنه يملك ذات العين والمنفعة
معاً، فله التصرف بهما معاً، أو بالمنفعة فقط.
وإذا أتلف المالك ما يملكه لا ضمان عليه؛ إذ لا يتصور مالك وضامن في شخص
واحد، لكن يؤاخذ ديانة؛ لأن إتلاف المال حرام، وقد يؤاخذ قضاء فيحجر عليه
إذا ثبت سفهه.
والملك الناقص: هو ملك العين وحدها، أو المنفعة وحدها. ويسمى ملك المنفعة
حق الانتفاع. وملك المنفعة قد يكون حقاً شخصياً للمنتفع أي يتبع شخصه لا
العين المملوكة، وقد يكون حقاً عينياً أي تابعاً للعين دائماً، بقطع النظر
عن الشخص المنتفع، وهذا يسمى حق الارتفاق، ولا يكون إلا في العقار.
المطلب الرابع ـ أنواع الملك الناقص:
وعلى هذا يكون الملك الناقص ثلاثة
أنواع:
1ً
- ملك العين فقط: وهو أن تكون العين
(الرقبة) مملوكة لشخص، ومنافعها مملوكة لشخص آخر، كأن يوصي شخص لآخر بسكنى
داره أو بزراعة أرضه مدة حياته، أو مدة ثلاث سنوات مثلاً، فإذا مات الموصي
وقبل الموصى له، كانت عين الدار ملكاً لورثة الموصي بالإرث، وللموصى له ملك
المنفعة مدة حياته أو المدة المحددة. فإذا انتهت المدة صارت المنفعة ملكاً
لورثة الموصي، فتعود ملكيتهم تامة.
(4/2895)
وفي هذه الحالة: ليس لمالك العين الانتفاع
بها، ولا التصرف بمنفعتها أو بالعين، ويجب عليه تسليم العين للمنتفع
ليستوفي حقه من منافعها، فإذا امتنع أجبر على ذلك.
وبه يظهر أن ملكية العين فقط تكون دائمة، وتنتهي دائماً إلى ملكية تامة،
وملكية المنافع قد تكون مؤقتة؛ لأن المنافع لا تورث عند الحنفية أو دائمة
كالوقف.
2ً
- ملك المنفعة الشخصي أو حق الانتفاع
(1):
هناك أسباب خمسة لملك المنفعة: وهي الإعارة
والإجارة، والوقف والوصية، والإباحة.
أما الإعارة: فهي عند جمهور الحنفية والمالكية: تمليك المنفعة بغير عوض.
فللمستعير أن ينتفع بنفسه، وله إعارة الشيء لغيره، لكن ليس له إجارته؛ لأن
الإعارة عقد غير لازم (يجوز الرجوع عنه في أي وقت)، والإجارة عقد لازم،
والضعيف لا يتحمل الأقوى منه، وفي إجارة المستعار إضرار بالمالك الأصلي.
_________
(1) يرى الحنفية: أنه لا فرق بين ملك المنفعة وحق الانتفاع، وهما شيء واحد.
فللمنتفع أن ينتفع بنفسه، أو أن يملك غيره المنفعة، إلا إذا وجد مانع صريح
من قبل مالك العين، أو وجد مانع يقتضيه العرف والعادة، فمن وقف داره لسكنى
الطلاب الغرباء كان للطالب حق السكنى فقط، وحق الانتفاع بالمرافق العامة
كالمدارس والجامعات والمشافي مقيد بالمنتفع فقط، وليس له تمليك غيره. وهذا
الرأي هو المعمول به قانوناً. وقال المالكية: هناك فرق بين ملك المنفعة وحق
الانتفاع. فملك المنفعة اختصاص يكسب صاحبه أن ينتفع بنفسه، وأن يملكها
لغيره بعوض أو بغير عوض. وأما حق الانتفاع: فهو مجرد رخصة بالانتفاع الشخصي
بناء على إذن عام كحق الانتفاع بالمنافع العامة كالطرق والأنهار والمدارس
والمصحات وغيرها، أو إذن خاص كحق الانتفاع بملك شخص أذن له به، كركوب
سيارته، والمبيت في منزله، وقراءة كتبه ونحو ذلك. فليس للمنتفع أن يملك
المنفعة لغيره، فتمليك الانتفاع: هو أن يباشر المنتفع بنفسه، وتمليك
المنفعة أعم وأشمل، فيباشر بنفسه ويمكن غيره من الانتفاع بعوض كالإجارة،
وبغير عوض كالإعارة (راجع الفروق للقرافي:187/ 1،الفرق 30).
(4/2896)
وعند الشافعية والحنابلة: هي إباحة المنفعة
بلا عوض، فليس للمستعير إعارة المستعار إلى غيره.
وأما الإجارة: فهي تمليك المنفعة بعوض.
وللمستأجر استيفاء المنفعة بنفسه، أو بغيره مجاناً أو بعوض إذا لم تختلف
المنفعة باختلاف المنتفعين، حتى لو شرط المؤجر على المستأجر الانتفاع
بنفسه. فإن اختلف نوع المنفعة كان لا بد من إذن المالك المؤجر.
وأما الوقف: فهو حبس العين عن تمليكها لأحد من الناس وصرف منفعتها إلى
الموقوف عليه. فالوقف يفيد تمليك
المنفعة للموقوف عليه، وله استيفاء المنفعة بنفسه، أو بغيره إن أجاز له
الواقف الاستثمار، فإن نص على عدم الاستغلال أو منعه العرف من ذلك، فليس له
الاستغلال.
وأما الوصية بالمنفعة: فهي تفيد ملك
المنفعة فقط في الموصى به، وله استيفاء المنفعة بنفسه، أو بغيره بعوض أو
بغير عوض إن أجاز له الموصي الاستغلال.
وأما الإباحة: فهي الإذن باستهلاك الشيء أو باستعماله، كالإذن بتناول
الطعام أو الثمار، والإذن العام بالانتفاع بالمنافع العامة كالمرور في
الطرقات والجلوس في الحدائق ودخول المدارس والمشافي. والإذن الخاص باستعمال
ملك شخص معين كركوب سيارته، أو السكن في داره.
وسواء أكانت الإباحة مفيدة ملك الانتفاع
بالشيء بالفعل أو بإحرازه كما يرى الحنفية، أو مجرد الانتفاع الشخصي كما
يرى المالكية، فإن الفقهاء متفقون على أنه ليس للمنتفع إنابة غيره في
الانتفاع بالمباح له، لا بالإعارة ولا بالإباحة لغيره.
والفرق بين الإباحة والملك:
هو أن الملك يكسب صاحبه حق التصرف في الشيء المملوك ما لم يوجد
(4/2897)
مانع. أما الإباحة: فهي حق الإنسان بأن
ينتفع بنفسه بشيء بموجب إذن. والإذن قد يكون من المالك كركوب سيارته، أو من
الشرع كالانتفاع بالمرافق العامة، من طرقات وأنهار ومراعي ونحو ذلك.
فالمباح له الشيء لا يملكه ولا يملك منفعته، بعكس المملوك.
خصائص حق المنفعة أو الانتفاع الشخصي:
يتميز الملك الناقص أو حق المنفعة الشخصي بخصائص أهمها ما يأتي:
1 - يقبل الملك الناقص التقييد بالزمان والمكان والصفة عند إنشائه، بعكس
الملك التام، فيجوز لمن يعير سيارته لغيره أو يوصي بمنفعة داره أن يقيد
المنتفع بمدة معينة كشهر مثلاً، وبمكان معين كالركوب في المدينة لا في
الصحراء، وأن يركبها بنفسه لا بغيره.
2 - عدم قبول التوارث عند الحنفية خلافاً لجمهور الفقهاء: فلا تورث المنفعة
عند الحنفية؛ لأن الإرث يكون للمال الموجود عند الموت، والمنافع لا تعد
مالاً عندهم كما تبين.
أما عند غير الحنفية فتورث المنافع في المدة الباقية؛ لأن المنافع عندهم
أموال كما ذكرت، فتورث كغيرها من الأموال، فمن أوصى لغيره بسكنى داره مدة
معلومة، ثم مات قبل انتهاء هذه المدة، فلورثته الحق بسكنى الدار إلى نهاية
المدة.
3 - لصاحب حق المنفعة تسلم العين المنتفع بها ولو جبراً عن مالكها. ومتى
تسلمها تكون أمانة في يده، فيحافظ عليها كما يحافظ على ملكه الخاص، وإذا
هلكت أو تعيبت لا يضمنها إلا بالتعدي أو بالتقصير في حفظها. وما عدا ذلك لا
ضمان عليه.
(4/2898)
4 - على المنتفع ما تحتاجه العين من نفقات
إذا كان انتفاعه بها مجاناً، كما في الإعارة، فإن كان الانتفاع بعوض كما في
الإجارة فعلى مالك العين نفقاتها.
5 - على المنتفع بعد استيفاء منفعته تسليم العين إلى مالكها متى طلبها إلا
إذا تضرر المنتفع. كما إذا لم يحن وقت حصاد الزرع في أرض مستأجرة أو
مستعارة، فله إبقاء الأرض بيده حتى موسم الحصاد، ولكن بشرط دفع أجر المثل.
انتهاء حق المنفعة:
حق المنفعة حق مؤقت كما عرفنا، فينتهي بأحد الأمور التالية:
1 - انتهاء مدة الانتفاع المحددة.
2 - هلاك العين المنتفع بها أو تعيبها بعيب لا يمكن معه استيفاء المنفعة،
كانهدام دار السكنى أو صيرورة أرض الزراعة سبخة أو ملحة. فإن حصل ذلك بتعدي
مالك العين ضمن عيناً أخرى، كالموصي بركوب سيارة ثم عطلها، فعليه تقديم
سيارة أخرى.
3 - وفاة المنتفع عند الحنفية؛ لأن المنافع لا تورث عندهم.
4 - وفاة مالك العين إذا كانت المنفعة من طريق الإعارة أو الإجارة؛ لأن
الإعارة عقد تبرع، وهو ينتهي بموت المتبرع، ولأن ملكية المأجور تنتقل إلى
ورثة المؤجر.
وهذا عند الحنفية، وقال الشافعية والحنابلة: الإعارة عقد غير لازم، فيجوز
للمعير أو لورثته الرجوع عنها، سواء أكانت مطلقة أم مؤقتة. وقال المالكية:
الإعارة المؤقتة عقد لازم، فمن أعار دابة إلى موضع كذا، لم يجز له أخذها
قبل ذلك، وإلا لزمه إبقاؤها قدر ما ينتفع بالمستعار الانتفاع المعتاد.
وبذلك يتبين
(4/2899)
أن الجمهور يقولون: إن الإعارة لا تنتهي
بموت المعير أو المستعير، وكذلك الإجارة لا تنتهي بموت أحد العاقدين؛ لأنها
عقد لازم كالبيع.
أما إذا كانت المنفعة من طريق الوصية أو الوقف، فلا ينتهي حق المنفعة بموت
الموصي؛ لأن الوصية تبدأ بعد موته، ولا بموت الواقف؛ لأن الوقف إما مؤبد،
أو مؤقت فيتقيد بانتهاء مدته.
3ً
- ملك المنفعة العيني أو حق الارتفاق:
حق الارتفاق: هو حق مقرر على عقار لمنفعة عقار آخر، مملوك لغير مالك العقار
الأول. وهو حق دائم يبقى ما بقي العقاران دون نظر إلى المالك. مثلحق
الشِّرب، وحق المجرى، وحق المسيل، وحق المرور، وحق الجوار، وحق العلو.
أما حق الشِّرب: فهو النصيب المستحق من الماء لسقي الزرع والشجر، أو نوبة
الانتفاع بالماء لمدة معينة لسقي الأرض.
ويلحق به حق الشفة: وهو حق شرب الإنسان
والدواب والاستعمال المنزلي. وسمي بذلك لأن الشُّرب يكون عادة بالشفة.
والماء بالنسبة لهذا الحق أربعة أنواع (1):
أـ ماء الأنهار العامة كالنيل ودجلة والفرات ونحوها من الأنهار العظيمة:
لكل واحد الانتفاع به، لنفسه ودوابه وأراضيه، بشرط عدم الإضرار بالغير،
لحديث: «الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار» وحديث «لا ضرر ولا
ضرار».
_________
(1) البدائع: 188/ 6 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 144/ 8، القوانين
الفقهية: ص 339، نهاية المحتاج: 255/ 4، المغني: 531/ 5.
(4/2900)
ب ـ ماء الجداول والأنهار الخاصة، المملوكة
لشخص: لكل إنسان حق الشفة منه، لنفسه ودوابه، وليس لغير مالكه سقي أراضيه
إلا بإذن مالك المجرى.
ج ـ ماء العيون والآبار والحياض ونحوها المملوكة لشخص: يثبت فيها كالنوع
الثاني حق الشفة دون حق الشرب. فإن أبى صاحب الماء، ومنع الناس من الاستقاء
لأنفسهم ودوابهم، كان لهم قتاله حتى ينالوا حاجتهم، إذا لم يجدوا ماءً
قريباً آخر.
د ـ الماء المحرز في أوان خاصة: كالجرار والصهاريج، لا يثبت لأحد حق
الانتفاع به بأي وجه إلا برضا صاحب الماء؛ لأن الرسول عليه السلام نهى عن
بيع الماء إلا ما حمل منه. لكن المضطر إلى هذا الماء الذي يخاف على نفسه
الهلاك من العطش، له أخذ ما يحتاجه منه، ولو بالقوة ليدفع عن نفسه الهلاك،
ولكن مع دفع قيمته، لأن (الاضطرار لا يبطل حق الغير).
وحق المجرى: هو حق صاحب الأرض البعيدة عن مجرى الماء في إجرائه من ملك جاره
إلى أرضه لسقيها. وليس للجار أن يمنع مرور الماء لأرض جاره، وإلا كان له
إجراؤه جبراً عنه، دفعاً للضرر عنه.
وحق المسيل: هو مجرى على سطح الأرض، أو
أنابيب تنشأ لتصريف المياه الزائدة عن الحاجة، أو غير الصالحة حتى تصل إلى
مصرف عام أو مستودع، كمصارف الأراضي الزراعية أو مياه الأمطار أو الماء
المستعمل في المنازل. والفرق بين المسيل والمجرى: أن المجرى لجلب المياه
الصالحة للأرض، والمسيل لصرف الماء غير الصالح عن الأرض أو عن الدار. وحكمه
مثل حق المجرى، ليس لأحد منعه إلا إذا
حدث ضرر بين.
(4/2901)
وحق المرور:
هو حق صاحب عقار داخلي بالوصول إلى عقاره من طريق يمر فيه سواء أكان الطريق
عاماً غير مملوك لأحد، أم خاصاً مملوكاً للغير. فالطريق العام يحق لكل
إنسان المرور فيه. والطريق الخاص: يحق لأصحابه المرور فيه وفتح الأبواب
والنوافذ عليه، وليس لهم سده أمام العامة للالتجاء إليه.
وحق الجوار: الجوار نوعان: علوي وجانبي، وفيه حقان:
أـ حق التعلي: وهو الثابت لصاحب العلو
على صاحب السفل، أي الحق الطابقي أو حق العلو.
ب ـ حق الجوار الجانبي: وهو الثابت لكل
من الجارين على الآخر.
ولصاحب حق التعلي حق القرار على الطبقة السفلى، وهو حق ثابت دائماً لصاحب
العلو، لا يزول بهدم العقار كله أو انهدام السفل، وله ولورثته إعادة بنائه
حين يريد، وليس لصاحب العلو أو السفل أن يتصرف في بنائه تصرفاً يضر بالآخر،
وإذا انهدم السفل وجب على صاحبه إعادة بنائه، فإن امتنع أجبر على ذلك قضاء،
فإن رفض كان لصاحب العلو البناء ويرجع على الآخر بالنفقات، إذا بني بإذن
القاضي أو إذن صاحب السفل، فإن بني من غير إذن رجع بقيمة البناء وقت تمامه،
لا بما أنفق؛ لأنه لم يكن وكيلاً بالإنفاق.
وليس لصاحب الجوار الجانبي إلا حق واحد وهو ألا يضر أحدهما بصاحبه ضرراً
فاحشاً بيِّناً: وهو كل ما يمنع المنفعة الأصلية المقصودة من البناء
كالسكنى، أو يكون سبباً لهدم البناء أو وهن فيه.
فالضرر في كل أنواع الجوار ممنوع، أما التصرفات التي يُشكل أمرها في الجوار
العلوي فلا يعلم أيحصل منها ضرر أم لا، كفتح باب أو نافذة في الطابق
(4/2902)
الأسفل، أو وضع متاع ثقيل في الطابق الأعلى
قد يؤثر في السقف، فهذه مختلف في منعها (1). فقال أبو حنيفة: يمنع هذا
التصرف إلا بإذن الجار؛ لأن الأصل في تصرفات المالك في ملكه، التي يتعلق
بها حق الغير هو المنع والحظر، لأن ملكه ليس خالصاً، فلا يباح له إلا ما
يتيقن فيه عدم الضرر، ويتوقف ما عداه على إذن صاحب الحق ورضاه. وهذا الرأي
هو المفتى به عند الحنفية.
وقال الصاحبان: الأصل في ذلك الإباحة؛ لأن صاحب العلو تصرف في ملكه،
والمالك حر التصرف في ملكه مالم يكن فيه ضرر لغيره بيقين، فيمنع منه حينئذ،
ويبقى ما عداه على الإباحة، وهذا الرأي في تقديري هو المعقول الواجب
الاتباع. فيصبح حكم الجوار الجانبي والعلوي واحداً، وهو إباحة التصرف في
الملك ما لم يترتب على ذلك ضرر فاحش بالجار، فإن وقع الضرر، وجب على
المتعدي ضمانه، سواء أكان الضرر مباشراً أم بالتسبب. وهو رأي المالكية
وباقي المذاهب أيضاً (2).
أمور ثلاثة متعلقة بحقوق الارتفاق:
الأول ـ الفرق بين حق الارتفاق وحق الانتفاع
الشخصي:
يفترق حق الارتفاق عن حق الانتفاع من نواحٍ أربع تالية:
1 - حق الارتفاق يكون دائماً مقرراً على عقار، فتنقص به قيمة العقار المقرر
_________
(1) فتح القدير: 503/ 5، رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين: 373/ 4،
ط البابي الحلبي، البدائع: 264/ 6، البحر الرائق: 32/ 7، تبيين الحقائق
للزيلعي: 196/ 4.
(2) المنتقى على الموطأ:40/ 6 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 341، نيل
الأوطار: 261/ 5، ط العثمانية.
(4/2903)
عليه، أما حق الانتفاع الشخصي فقد يتعلق
بعقار كوقف العقار أو الوصية به أو إجارته أو إعارته. وقد يتعلق بمنقول
كإعارة الكتاب وإجارة السيارة.
2 - حق الارتفاق مقرر لعقار إلا حق الجوار فقد يكون لشخص أو لعقار. أما حق
الانتفاع فإنه دائماً مقرر لشخص معين باسمه أو بوصفه.
3 - حق الارتفاق حق دائم يتبع العقار وإن تعدد الملاك. وحق الانتفاع الشخصي
مؤقت ينتهي بأحوال معينة كما تقدم.
4 - حق الارتفاق يورث حتى عند الحنفية الذين لا يعدونه مالاً؛ لأنه تابع
للعقار. وأما حق الانتفاع فمختلف في إرثه بين الفقهاء كما سبق بيانه.
الثاني ـ خصائص حقوق الارتفاق:
لحقوق الارتفاق أحكام عامة وخاصة.
فأحكامها العامة أنها إذا ثبتت تبقى ما لم يترتب على بقائها ضرر بالغير،
فإن ترتب عليها ضرر أو أذى وجب إزالتها، فيزال المسيل القذر في الطريق
العام، ويمنع حق الشرب إذا أضر بالمنتفعين، ويمنع سير السيارة في الشارع
العام إذا ترتب عليها ضرر كالسير بالسرعة الفائقة، أو في الاتجاه المعاكس،
عملاً بالحديث النبوي المتقدم «لا ضرر ولا ضرار» ولأن المرورفي الطريق
العام مقيد بشرط السلامة فيما يمكن الاحتراز عنه (1).
وأما الأحكام الخاصة فسأذكرها في بحث حقوق الارتفاق المخصص لكل نوع منها.
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 427/ 5.
(4/2904)
الثالث ـ أسباب حقوق
الارتفاق:
تنشأ حقوق الارتفاق بأسباب متعددة منها:
1 - الاشتراك العام: كالمرافق العامة من طرقات وأنهار ومصارف عامة، يثبت
الحق فيها لكل عقار قريب منها، بالمرور والسقي وصرف المياه الزائدة عن
الحاجة، لأن هذه المنافع شركة بين الناس يباح لهم الانتفاع بها، بشرط عدم
الإضرار بالآخرين.
2 - الاشتراط في العقود: كاشتراط البائع على المشتري أن يكون له حق مرور
بها، أو حق شرب لأرض أخرى مملوكة له، فيثبت هذان الحقان بهذا الشرط.
3 - التقادم: أن يثبت حق ارتفاق لعقار من زمن قديم لا يعلم الناس وقت
ثبوته، كإرث أرض زراعية لها حق المجرى أو المسيل على أرض أخرى؛ لأن الظاهر
أنه ثبت بسبب مشروع حملاً لأحوال الناس على الصلاح، حتى يثبت العكس.
المطلب الخامس ـ أسباب الملك التام:
إن أسباب أو مصادر الملكية التامة في الشريعة أربعة هي:
الاستيلاء على المباح، والعقود، والخلفية، والتولد من الشيء المملوك. وفي
القانون المدني هي ستة: الاستيلاء على ما ليس له مالك من منقول أو عقار،
والميراث وتصفية التركة، والوصية، والالتصاق بالعقار أو بالمنقول، والعقد،
والحيازة والتقادم (1).
_________
(1) راجع الفصل الثاني من حق الملكية ـ أسباب كسب الملكية: م 828، 836،
876، 879، 894، 907 ومابعدها من القانون المدني السوري.
(4/2905)
وهذه الأسباب تتفق مع الأسباب الشرعية (1)
ما عدا الحيازة والتقادم (وضع اليد على مال مملوك للغير مدة طويلة)، فإن
الإسلام لا يقر التقادم المُكسِب على أنه سبب للملكية، وإنما هو مجرد مانع
من سماع الدعوى بالحق الذي مضى عليه زمن معين (2)، توفيراً لوقت القضاة،
وتجنباً لما يثار من مشكلات الإثبات، وللشك في أصل الحق. أما أصل الحق فيجب
الاعتراف به لصاحبه وإيفاؤه له ديانة. فمن وضع يده على مال مملوك لغيره لا
يملكه شرعاً بحال.
كذلك لا يقر الإسلام مبدأ التقادم المُسقِط على أنه مسقط للحق بترك
المطالبة به مدة طويلة، فاكتساب الحقوق وسقوطها بالتقادم حكم ينافي العدالة
والخلق، ويكفي في ذلك أن يصير الغاصب أو السارق مالكاً، إلا أن الإمام مالك
في المدونة خلافاً لمعظم أصحابه يرى إسقاط الملكية بالحيازة، كما يرى تملك
الشيء بالحيازة، ولكنه لم يحدد مدة للحيازة، وترك تحديدها للحاكم، ويمكن
تحديدها عملاً بحديث مرسل رواه سعيد بن المسيب مرفوعاً إلى النبي صلّى الله
عليه وسلم عن زيد بن أسلم: «من حاز شيئاً على خصمه عشر سنين، فهو أحق به
منه» (3).
1 - الاستيلاء على المباح:
المباح: هو المال الذي لم يدخل في ملك شخص معين، ولم يوجد مانع شرعي من
تملكه كالماء في منبعه، والكلأ والحطب والشجر في البراري، وصيد البر
والبحر. ويتميز هذا النوع بما يأتي:
_________
(1) يلاحظ أن المادة (1248) من المجلة اقتصرت على الأسباب الأولى للتملك.
ولكن من الضروري إضافة سبب رابع وهو التولد من المملوك إذ هو سبب مستقل عن
تلك الأسباب.
(2) حدده الفقهاء بـ 33 سنة، وحددته المجلة (م 1661، 1662) في الحقوق
الخاصة بـ 15 سنة وفي الأراضي الأميرية بـ 10 سنوات، وفي الأوقاف وأموال
بيت المال بـ 36 سنة.
(3) انظر بحث الحيازة والتقادم في الفقه الإسلامي للدكتور محمد عبد الجواد:
ص 18 - 50 ومابعدها، 60، 108، 150 ومابعدها، ومراجعه مثل المدونة: 23/ 13،
وتبصرة الحكام على هامش فتح العلي المالك: 362/ 2 ومابعدها.
(4/2906)
أـ أنه سبب منشئ للملكية على شيء لم يكن
مملوكاً لأحد. أما بقية أسباب الملكية الأخرى (العقد، الميراث ونحوهما) فإن
الملكية الحادثة مسبوقة بملكية أخرى.
ب ـ أنه سبب فعلي لا قولي: يتحقق بالفعل أو وضع اليد، فيصح من كل شخص ولو
كان ناقص الأهلية كالصبي والمجنون والمحجور عليه. أما العقد فقد لا يصح من
هؤلاء أو يكون موقوفاً على إرادة أخرى، وهو سبب قولي.
ويشترط للتملك بهذا الطريق أي إحراز المباح شرطان:
أولهما ـ ألا يسبق إلى إحرازه شخص آخر، لأن «من سبق إلى ما لم يسبقه إليه
مسلم فهو له» كما قال النبي عليه السلام.
ثانيهما ـ قصد التملك: فلو دخل الشيء في ملك إنسان دون قصد منه لا يتملكه،
كما إذا وقع في حِجْر إنسان، لا يتملكه. ومن نشر شبكته، فإن كان للاصطياد
تملك ما يقع فيها، وإن كان للتجفيف لم يتملك ما يقع فيها؛ لأن «الأمور
بمقاصدها».
والاستيلاء على المباح له أنواع أربعة:
أولاً ـ إحياء الموات: أي استصلاح الأراضي البور. والموات: ما ليس مملوكاً
من الأرضين: ولا ينتفع بها بأي وجه انتفاع، وتكون خارجة عن البلد. فلا يكون
مواتاً: ما كان ملكاً لأحد الناس، أو ما كان داخل البلد، أو خارجاً عنها،
ولكنه مرفق لها كمحتطب لأهلها أو مرعى لأنعامهم.
والإحياء يفيد الملك لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من أحيا أرضاً ميتة
فهي له» سواء أكان الإحياء بإذن الحاكم أم لا عند جمهور الفقهاء. وقال أبو
حنيفة ومالك: لا بد من
(4/2907)
إذن الحاكم. وإحياء الأرض الموات يكون
بجعلها صالحة للانتفاع بها كالبناء والغرس والزراعة والحرث وحفر البئر.
وعمل مستصلح الأرض لإحيائها يسمى فقهاً «التحجير» وقد حدد بثلاث سنين، قال
عمر «ليس لمحتجر بعد ثلاث سنين حق».
ثانياً ـ الاصطياد: الصيد: هو وضع اليد على شيء مباح غير مملوك لأحد. ويتم
إما بالاستيلاء الفعلي على المصيد، أو بالاستيلاء الحكمي: وهو اتخاذ فعل
يعجز الطير أو الحيوان أو السمك عن الفرار، كاتخاذ الحياض لصيد الأسماك، أو
الشباك، أو الحيوانات المدربة على الصيد كالكلاب والفهود والجوارح المعلمة
(1).
والصيد حلال للإنسان إلا إذا كان محرماً بالحج أو العمرة، أو كان المصيد في
حرم مكة المكرمة أو المدينة المنورة، قال تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه
متاعاً لكم وللسيارة، وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً} [المائدة:96/ 5].
والصيد من أسباب الملكية، لكن يشترط في الاستيلاء الحكمي لا الاستيلاء
الحقيقي قصد التملك عملاً بقاعدة (الأمور بمقاصدها). فمن نصب شبكة فتعلق
بهاصيد، فإن كان قد نصبها للجفاف، فالصيد لمن سبقت يده إليه، لأن نيته لم
تتجه إليه. وإن كان قد نصبها للصيد، ملكه صاحبها، وإن أخذه غيره كان
متعدياً غاصباً. ولو أفرخ طائر في أرض إنسان كان لمن سبقت إليه يده إلا إذا
كان صاحب الأرض هيأها لذلك.
وإذا دخل طائر في دار إنسان، فأغلق صاحبها الباب لأخذه، ملكه. وإن
_________
(1) قال تعالى: {يسألونك ماذا أحل لهم، قل: أحل لكم الطيبات، وماعلمتم من
الجوارح مكلبين، تعلمونهن مما علمكم الله، فكلوا مما أمسكن عليكم، واذكروا
اسم الله، واتقوا الله، إن الله سريع الحساب} [المائدة:4/ 5].
(4/2908)
أغلقه صدفة، لم يملكه. وهكذا لو وقع الصيد
في حفرة أو ساقية، المعوَّل في تملكه على نية صيده، وإلا فلمن سبقت إليه
يده.
ثالثاً ـ الاستيلاء على الكلأ والآجام: الكلأ: هو الحشيش الذي ينبت في
الأرض بغير زرع، لرعي البهائم.
والآجام: الأشجار الكثيفة في الغابات أو الأرض غير المملوكة.
وحكم الكلأ: ألا يملك، وإن نبت في أرض مملوكة، بل هو مباح للناس جميعاً،
لهم أخذه ورعيه، وليس لصاحب الأرض منعهم من ذلك؛ لأنه باق على الإباحة
الأصلية، وهو الراجح في المذاهب الأربعة، لعموم حديث: «الناس شركاء في
ثلاثة: الماء والكلأ
والنار» (1).
وأما الآجام فهي من الأموال المباحة إن كانت في أرض غير مملوكة. فلكل واحد
حق الاستيلاء عليها، وأخذ ما يحتاجه منها، وليس لأحد منع الناس منها، وإذا
استولى شخص على شيء منها وأحرزه صار ملكاً له. لكن للدولة تقييد المباح
بمنع قطع الأشجار، رعاية للمصلحة العامة، وإبقاء على الثروة الشجرية
المفيدة.
أما إن كانت في أرض مملوكة فلا تكون مالاً مباحاً، بل هي ملك لصاحب الأرض،
فليس لأحد أن يأخذ منها شيئاً إلا بإذنه؛ لأن الأرض تقصد لآجامها، بخلاف
الكلأ، لا تقصد الأرض لما فيها من الكلأ.
رابعاً ـ الاستيلاء على المعادن والكنوز: المعادن: ما يوجد في باطن الأرض
من أصل الخِلقة والطبيعة، كالذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص ونحوها.
_________
(1) البدائع: 193/ 6 ومابعدها، م 1257 من المجلة.
(4/2909)
والكنز: ما دفنه الناس وأودعوه في باطن
الأرض من الأموال، سواء في الجاهلية أو في الإسلام.
والمعدن والكنز يشملها عند الحنفية كلمة (الركاز): وهو ما ركز في باطن
الأرض، سواء أكان خلق الله كفلزات الحديد والنحاس وغيرها، أم كان بصنع
الناس كالأموال التي يدفنها الناس فيها. وحكمها واحد في الحديث النبوي:
«وفي الركاز الخمس» (1).
وقال المالكية والشافعية: الركاز: دفين الجاهلية. والمعدن: دفين أهل
الإسلام.
حكم المعادن:
اختلف الفقهاء في تملك المعادن بالاستيلاء عليها، وفي إيجاب حق فيها للدولة
إذا وجدت في أرض ليست مملوكة.
أما تملك المعادن فللفقهاء فيه رأيان:
قال المالكية في أشهر أقوالهم (2): جميع أنواع المعادن لا تملك بالاستيلاء
عليها، كما لا تملك تبعاً لملكية الأرض، بل هي للدولة يتصرف فيها الحاكم
حسبما تقضي المصلحة؛ لأن الأرض مملوكة بالفتح الإسلامي للدولة، ولأن هذا
الحكم مما تدعو إليه المصلحة.
وقال الحنفية والشافعية والحنابلة في أرجح الروايتين عندهم (3): المعادن
تملك
_________
(1) رواه الجماعة عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 147/ 4).
(2) القوانين الفقهية: ص 102، الشرح الكبير مع الدسوقي: 486/ 1 ومابعدها.
(3) الدر المختار ورد المحتار: 61/ 1 ومابعدها، المهذب: 162/ 1، المغني:
28/ 3.
(4/2910)
بملك الأرض؛ لأن الأرض إذا ملكت بجميع
أجزائها، فإن كانت مملوكة لشخص كانت ملكاً له، وإن كانت في أرض للدولة فهي
للدولة، وإن كانت في أرض غير مملوكة فهي للواجد؛ لأنها مباحة تبعاً للأرض.
وأما حق الدولة في المعادن فيه رأيان أيضاً:
قال الحنفية: في المعادن الخمس؛ لأن الركاز عندهم يشمل المعادن والكنوز
بمقتضى اللغة، والباقي للواجد نفسه. وذلك في المعادن الصلبة القابلة للطرق
والسحب كالذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص. أما المعادن الصلبة التي لا
تقبل الطرق والسحب كالماس والياقوت والفحم الحجري، والمعادن السائلة
كالزئبق والنفط، فلا يجب فيها شيء للدولة؛ لأن الأولى تشبه الحجر والتراب،
والثانية تشبه الماء، ولا يجب في ذلك شيء للدولة.
وقال غير الحنفية: لا يجب في المعادن شيء للدولة، لا الخمس وغيره، وإنما
يجب فيها الزكاة، لقول النبي: «العجماء جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار،
وفي الركاز الخمس» فأوجب الخمس في الركاز: وهو دفين أهل
الجاهلي ة، ولم يوجب في المعدن شيئاً؛
لأن (الجبار) معناه: لا شيء فيه. وإيجاب الزكاة عندهم هو بعموم أدلة
الزكاة.
حكم الكنز:
وأما الكنز فهو ما دفنه الناس، سواء في الجاهلية أم في الإسلام. فهو نوعان:
إسلامي وجاهلي:
ف الإسلامي: ما وجد به علامة أو كتابة
تدل على أنه دفن بعد ظهور الإسلام مثل كلمة الشهادة أو المصحف، أو آية
قرآنية أو اسم خليفة مسلم.
(4/2911)
والجاهلي: ما وجد عليه كتابة أو علامة تدل
على أنه دفن قبل الإسلام كنقش صورة صنم أو وثن، أو اسم ملك جاهلي ونحو ذلك.
والمشتبه فيه: وهو مالم يتبين بالدليل
أنه إسلامي أو جاهلي، قال فيه متقدمو الحنفية: إنه جاهلي. وقال متأخروهم:
إنه إسلامي لتقادم العهد. وإن وجد كنز مختلط فيه علامات الإسلام والجاهلية
فهو إسلامي؛ لأن الظاهر أنه ملك مسلم، ولم يعلم زوال ملكه.
والكنز الإسلامي: يبقى على ملك صاحبه، فلا يملكه واجده، بل يعد كاللقطة،
فيجب تعريفه والإعلان عنه. فإن وجد صاحبه سلم إليه وإلا تصدق به على
الفقراء، ويحل للفقير الانتفاع به. هذا رأي الحنفية (1).
وأجاز المالكية والشافعية والحنابلة (2) تملكه والانتفاع به، ولكن إن ظهر
صاحبه بعدئذ وجب ضمانه.
وأما الكنز الجاهلي: فاتفق أئمة المذاهب على أن خمسه لبيت المال (خزانة
الدولة) وأما باقيه وهو الأربعة الأخماس ففيها اختلاف: فقيل: إنها للواجد
مطلقاً سواء وجدها في أرض مملوكة أم لا. وقيل: إنها للواجد في أرض غير
مملوكة أوفي أرض ملكها بالإحياء. فإن كان في أرض مملوكة فهي لأول مالك لها
أو لورثته إن عرفوا، وإلا فهي لبيت المال.
هذا وقد خصص القانون المدني السوري (م830) ثلاثة أخماس الكنز لمالك العقار
الذي وجد فيه الكنز، وخمسه لمكتشفه، والخمس الأخير لخزينة الدولة.
_________
(1) فتح القدير: 307/ 3، البدائع: 202/ 6، المبسوط: 4/ 11 ومابعدها، الدر
المختار: 351/ 3.
(2) بداية المجتهد: 301/ 2، الشرح الكبير مع الدسوقي: 121/ 4، المهذب: 430/
1، مغني المحتاج: 415/ 2، المغني: 636/ 5
(4/2912)
2 - العقود الناقلة
للملكية:
العقود كالبيع والهبة والوصية ونحوها من أهم مصادر الملكية وأعمها وأكثرها
وقوعاً في الحياة المدنية؛ لأنها تمثل النشاط الاقتصادي الذي يحقق حاجات
الناس من طريق التعامل. أما الأسباب الأخرى للملكية فهي قليلة الوقوع في
الحياة.
ويدخل في العقود التي هي سبب مباشر للملكية حالتان (1):
الأولى: العقود الجبرية التي تجريها السلطة القضائية مباشرة، بالنيابة عن
المالك الحقيقي، كبيع مال المدين جبراً عنه لوفاء ديونه، وبيع الأموال
المحتكرة. فالمتملك يتملك عن طريق عقد بيع صريح بإرادة القضاء.
الثانية: نزع الملكية الجبري: وله صورتان:
أـ الشفعة: وهي عند الحنفية حق الشريك أو الجار الملاصق بتملك العقار
المبيع جبراً على مشتريه بما بذل من ثمن ونفقات. وقصرها الجمهور على
الشريك.
ب ـ الاستملاك للصالح العام: وهو استملاك الأرض بسعرها العادل جبراً عن
صاحبها للضرورة أو المصلحة العامة، كتوسيع مسجد، أو طريق ونحو ذلك.
والمتملك من هذا الطريق يتملك بناء على عقد شراء جبري مقدر بإرادة السلطة.
وعلى هذا فالعقد المسبب للملكية إما أن يكون رضائياً أو جبرياً، والجبري:
إما صريح كما في بيع مال المدين، أو مفترض كما في الشفعة ونزع الملكية.
_________
(1) المدخل الفقهي العام للأستاذ الزرقاء: ف 105.
(4/2913)
3 - الخَلَفية: وهي أن يخلف شخص غيره فيما
كان يملكه، أو يحل شيء محل شيء آخر، فهي نوعان: خَلَفية شخص عن شخص وهي
الإرث. وخلفية شيء عن شيء وهي التضمين.
والإرث سبب جبري للتملك يتلقى به الوارث بحكم الشرع مايتركه المورث من
أموال التركة.
والتضمين: هو إيجاب الضمان أوالتعويض على من أتلف شيئاً لغيره، أو غصب منه
شيئاً فهلك أو فقد، أو ألحق ضرراً بغيره بجناية أو تسبب. ويدخل فيه الديات
وأروش الجنايات أي الأعواض المالية المقدرة شرعاً الواجبة على الجاني في
الجراحات.
4 - التولد من المملوك:
معناه أن ما يتولد من شيء مملوك يكون مملوكاً لصاحب الأصل؛ لأن مالك الأصل
هو مالك الفرع، سواء أكان ذلك بفعل مالك الأصل، أم بالطبيعة والخلقة. فغاصب
الأرض الذي زرعها يملك الزرع عند الجمهور غيرالحنابلة؛ لأنه نماء البذر وهو
ملكه، وعليه كراء الأرض، ويضمن لصاحب الأرض نقصانها بسبب الزرع. وثمرة
الشجر وولد الحيوان وصوف الغنم ولبنها لمالك الأصل.
وقال الحنابلة: الزرع لمالك الأرض، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من زرع في
أرض قوم بغير إذنهم، فليس له من الزرع شيء، وله نفقته» (1).
_________
(1) رواه الخمسة إلا النسائي عن رافع بن خديج، قال البخاري: هو حديث حسن
(نيل الأوطار: 318/ 5 ومابعدها).
(4/2914)
|