الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي الفَصْلُ الرّابع: نظريَّةُ العقدِ
تمهيد وتخطيط للبحث:
التعاقد مع الآخرين وليد الحاجة إلى التعامل، والتعامل ضرورة اجتماعية
قديمة ملازمة لنشوء المجتمعات، وتخطي مرحلة الانغلاق والانعزال التي كان
يعيشها الإنسان البدائي، فأصبح لا غنى لكل إنسان لكونه مدنياً بالطبع من
العيش المشترك مع الجماعة، لتأمين حاجياته، ولا يتم ذلك بدون التبادل
والتعاون مع الآخرين. وللمبادلات صور متعددة، تخضع لما يعرف بنظرية العقد،
التي تنظم حركة النشاط الاقتصادي، وتضبط أصول التعامل، وحرية التجارة،
وتبادل الأعيان والمنافع، ولا تخلو الحياة اليومية لكل فرد من إبرام عقد من
العقود، مما يجعل مسيرة الحياة مترعة بالعقود.
فتكون نظرية العقد: هي البناء الشرعي الذي يقوم عليه نظام التعاقد.
وقد وضع فقهاء الإسلام نظاماً على حدة لكل عقد معروف في عصرهم، ويمكن
للباحث أن يستخلص نظرية عامة للعقد من جملة هذه الأنظمة، وبحوث الفقهاء حول
تعريفات العقد، وأركانه وشروطه، وأحكامه التي قرروها لكل عقد. وبه يمكن
الانتقال من الطابع الاستقرائي والتحليلي للقضايا الفردية الذي سار عليه
فقهاؤنا إلى المنهج التركيبي أو النظريات العامة التي يسير عليها الآن
فقهاء العصر الحديث في القانون وغيره.
(4/2915)
والأصول العامة لنظرية العقد في الفقه
الإسلامي تتضح في البحوث السبعة التالية:
المبحث الأول: تعريف العقد، والفرق بينه وبين التصرف والالتزام، والإرادة
المنفردة والوعد بالعقد.
المبحث الثاني: تكوين العقد، وفيه مطالب ثلاثة:
المطلب الأول ـ ركن العقد.
المطلب الثاني ـ عناصر العقد.
1 - صيغة التعاقد (الألفاظ والإشارات والأفعال والكتابة).
2 - العاقدان
3 - المحل المعقود عليه (شروطه وآثارها في العقد).
4 - موضوع العقد (أو المقصد الأصلي للعقد) نظرية السبب أو (الباعث على
العقد) ـ الإرادة الظاهرة والإرادة الباطنة في العقود.
المطلب الثالث ـ الإرادة العقدية، ويشتمل على الفروع التالية:
1 - صورية العقد (السكر وما في معناه، الهزل، الخطأ، التلجئة، الإكراه،
القصد غير المشروع).
2 - سلطان الإرادة العقدية (مدى الحرية في العقود والشروط).
3 - عيوب الإرادة أو الرضا.
المبحث الثالث: شروط العقد
(4/2916)
المبحث الرابع: آثار العقد (حكم العقد،
النفاذ، الإلزام واللزوم)
المبحث الخامس: تصنيف العقود (التقسيمات الخمسة)
المبحث السادس: الخيارات (خيار المجلس، الشرط، العيب، الرؤية، التعيين،
النقد).
المبحث السابع: انتهاء العقد
وأوضح هذه المباحث على وفق الترتيب المذكور:
المبحث الأول ـ تعريف العقد، والفرق
بينه وبين التصرف والالتزام والإرادة المنفردة:
تعريف العقد:
العقد في لغة العرب: معناه الربط (أو الإحكام والإبرام) بين أطراف الشيء،
سواء أكان ربطاً حسياً أم معنوياً، من جانب واحد، أم من جانبين. جاء في
المصباح المنير وغيره: عقد الحبل، أو البيع، أو العهد فانعقد. ويقال: عقد
النية والعزم على شيء، وعقد اليمين، أي ربط بين الإرادة وتنفيذ ما التزم
به. وعقد البيع والزواج والإجارة، أي ارتبط مع شخص آخر.
وهذا المعنى اللغوي داخل في المعنى الاصطلاحي الفقهي لكلمة العقد. وللعقد
عند الفقهاء معنيان: عام وخاص.
أما المعنى العام: الأقرب إلى المعنى
اللغوي والشائع عند فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة (1) فهو: كل ما عزم
المرء على فعله، سواء صدر بإرادة منفردة
_________
(1) انظر نظرية العقد لابن تيمية: ص 18 - 21، 78. ومن هذا الرأي أبو بكر
الرازي الجصاص في كتابه أحكام القرآن: 294/ 2 ومابعدها.
(4/2917)
كالوقف والإبراء والطلاق واليمين، أم احتاج
إلى إرادتين في إنشائه كالبيع والإيجار والتوكيل والرهن، أي أن هذا المعنى
يتناول الالتزام مطلقاً، سواء من شخص واحد أو من شخصين، ويشمل حينئذ ما
يسمى في المعنى الضيق أو الخاص عقداً، كما يشمل ما يسمى تصرفاً أو
التزاماً. فالعقد بالمعنى العام ينتظم جميع الالتزامات الشرعية، وهو بهذا
المعنى يرادف كلمة الالتزام.
وأما المعنى الخاص الذي يراد هنا حين
الكلام عن نظرية العقد فهو: ارتباط إيجاب بقبول على وجه مشروع يثبت أثره في
محله (1). أو بعبارة أخرى: تعلق كلام أحد العاقدين بالآخر شرعاً على وجه
يظهر أثره في المحل (2). وهذا التعريف هو الغالب الشائع في عبارات الفقهاء.
فإذا قال شخص لآخر: بعتك الكتاب، فهو الإيجاب، وقال الآخر: اشتريت، فهو
القبول، ومتى ارتبط القبول بالإيجاب، وكانا صادرين من ذوي أهلية معتبرة
شرعاً، ثبت أثر البيع في محله (وهو الكتاب هنا): وهو انتقال ملكية المبيع
للمشتري، واستحقاق البائع الثمن في ذمة المشتري.
والإيجاب أو القبول: هو الفعل الدال على الرضا بالتعاقد. والتقييد بكونه
(على وجه مشروع) لإخراج الارتباط على وجه غير مشروع، كالاتفاق على قتل
فلان، أو إتلاف محصوله الزراعي، أو سرقة ماله، أو الزواج بالأقارب المحارم،
فكل ذلك غير مشروع لا أثر له في محل العقد. والتقييد بكونه (يثبت أثره في
محله) لإخراج الارتباط بين كلامين لا أثر له، كالاتفاق على بيع كل شريك
حصته من دار أو أرض لصاحبه بالحصة الأخرى المساوية لها، فهذا لا فائدة منه
ولا أثر له.
_________
(1) المادة 103، 104 من مجلة الأحكام العدلية، رد المحتار لابن عابدين:
355/ 2، ط الأميرية.
(2) العناية بهامش فتح القدير: 74/ 5.
(4/2918)
والعقد قانوناً يلتقي مع هذا التعريف
الثاني عند الفقهاء: وهو «توافق إرادتين على إحداث أثر قانوني من إنشاء
التزام أو نقله، أو تعديله أو إنهائه» (1) فإنشاء الالتزام كالبيع
والإجارة، ونقله كالحوالة، وتعديله كتأجيل الدين، وإنهاؤه كالإبراء من
الدين، وفسخ الإجارة قبل أوانها، فالتعريفان متقاربان.
وهذا التعريف وإن كان واضحاً سهلاً، إلا أن تعريف الفقهاء في نظر الشرعيين
أدق؛ لأن العقد ليس هو اتفاق الإرادتين ذاته، وإنما هو الارتباط الذي يقره
الشرع، فقد يحدث الاتفاق بين الإرادتين، ويكون العقد باطلاً لعدم توافر
الشروط المطلوبة شرعاً، فالتعريف القانوني يشمل العقد الباطل.
ثم إن مجرد توافق الإرادتين بدون واسطة للتعبير عنهما من كلام أو إشارة أو
فعل لا يدل على وجود العقد، وتظل الإرادة حينئذ أمراً خفياً غير معروف.
وبذلك يشمل التعريف القانوني الوعد بالعقد مع أنه ليس بعقد (2).
والعقد في القانون المدني أحد أنواع الاتفاق، فليس كل اتفاق عقداً، وإنما
يتخصص العقد بما يمثل التعارض بين مصلحتين، وبما ينصب على محل وقتي يستنفد
وينتهي بالتنفيذ مرة واحدة، فالاتفاق على إنشاء منظمة لا يعتبر عقداً، لأنه
لا يمثل تعارضاً في المصالح، ولأن محل العقد هو وضع دائم مستمر، وليس وضعاً
وقتياً يستنفد مرة واحدة.
أما العقد في الفقه الإسلامي فلا يعرف هذا التخصيص، فالزواج عقد، والإسلام
عقد، والذمة عقد، مع أنها نظم دائمة، وقد لا تقوم على تحكيم المصلحة
_________
(1) الوسيط للدكتور السنهوري: ص 138، النظرية العامة للالتزام للدكتور عبد
الحي حجازي: ص 35 ومابعدها.
(2) المدخل الفقهي للأستاذ الزرقاء: ف 134، المدخل للأستاذ مصطفى شلبي: ص
315. الشخصية.
(4/2919)
والعقد في الإسلام: هو دائماً انضمام لنظام
موجود من قبل، هو النظام النوعي للعقد المبرم الذي وضعه الشرع ليسير عليه
الناس. وما على الأفراد إلا التقيد التام بأحكام الشرع التي نظم العقود
عليها. والخلاصة: أن العقد في القانون أداة لإدراك مصلحة ذاتية شخصية لكل
من المتعاقدين، وأما في الإسلام فهومعد لإدراك مقاصد شرعية عامة.
العقد والالتزام:
الالتزام: هو كل تصرف يتضمن إنشاء حق أو نقله أو تعديله أو إنهاءه سواء
أكان صادراً من شخص واحد كالوقف والإبراء والطلاق على غير مال، أم من شخصين
كالبيع والإجارة والطلاق على مال.
فالالتزام يرادف كلمة العقد بالمعنى العام الذي ذكر، ويختلف عن كلمة العقد
بالمعنى الخاص، فالعقد مقصور على نوع خاص من الالتزام وهو ماكان صادراً من
شخصين كالبيع والإيجار والرهن ونحوه، والالتزام من ذلك فيشمل ما صدر من شخص
واحد كالوقف والنذر واليمين ونحوه، كما يشمل ما صدر من شخصين أو وجد
بإرادتين مزدوجتين كالبيع والإجارة.
العقد والتصرف:
التصرف: هو كل ماصدر عن الشخص بإرادته من قول أو فعل، يرتب عليه الشرع
أثراً من الآثار، سواء أكان في صالح ذلك الشخص أم لا. فيشمل الأقوال
الصادرة عن الشخص كالبيع والهبة والوقف والإقرار بحق، والأفعال كإحراز
المباحات والاستهلاك والانتفاع، سواء أكان القول أو الفعل لصالح الشخص
كالبيع والاصطياد، أم لغير صالحه كالوقف والوصية، والسرقة والقتل.
(4/2920)
وبه يتبين أن التصرف نوعان: فعلي وقولي.
أما التصرف الفعلي: فهو الواقعة المادية الصادرة عن الشخص كالغصب والإتلاف
وقبض الدين وتسلم المبيع.
أما التصرف القولي فهو نوعان: عقدي وغير عقدي. أما العقدي فهو اتفاق
إرادتين كالشركة والبيع، وغير العقدي قد يكون مجرد إخبار بحق كالدعوى
والإقرار، وقد يقصد به إنشاء حق أو إنهاءه كالوقف والطلاق والإبراء.
وعلى هذا فإن التصرف أعم من العقد والالتزام إذ أنه يشمل الأقوال والأفعال،
وينتظم الالتزام وغير الالتزام، وقد يكون التصرف القولي غير داخل في معنى
العقد ولو بمعناه الواسع أو العام كالدعوى والإقرار.
والخلاصة: أن التصرف أعم من العقد والالتزام. والعقد بالمعنى العام
والالتزام مترادفان متساويان، والالتزام أعم من العقد بالمعنى الخاص،
والعقد بمعناه الخاص نوع من الالتزام، وأخص من كلمة تصرف. فكل عقد هو تصرف،
وليس كل تصرف عقداً.
العقد والإرادة المنفردة:
قد تستقل الإرادة الواحدة بإنشاء التزام، كما قد تنشئ أحياناً عقداً من
العقود في أحوال استثنائية، عملاً بالنزعة الموضوعية للالتزام أو بالمذهب
المادي الذي نلاحظه في الفقه الإسلامي، والذي يعد الالتزام فيه علاقة مالية
أكثر منه علاقة شخصية بين طرفين: دائن ومدين.
والالتزام بإرادة واحدة: معناه التعهد
بشيء يصبح به المتعهد مديناً لآخر غير
(4/2921)
موجود حين إنشاء الالتزام كالوعد بالمكافأة
أو بالجائزة للمتفوقين من الناجحين، أو لمن يصنع دواء لعلاج مرض معين
مثلاً.
وأمثلة الالتزام بإرادة واحدة في الفقه الإسلامي كثيرة منها:
1 - الجعالة: هي التزام جعل (1) أو أجر
معين لمن يقوم بعمل معين، بدون تحديد أمد معين، وهي عقد جائز غير لازم
كتقديم مكافأة لمن يرد متاعاً ضائعاً، أو يبني حائطاً أو يحفر بئراً يصل
إلى الماء، أو ينجح نجاحاً متفوقاً في امتحان، أو يحقق نصراً حربياً على
العدو، أو يشفي مرضاً معيناً، أو يبتكر علاجاً ناجعاً، أو يخترع اختراعاً
صناعياً، أو يحفظ القرآن الكريم.
وقد أجازها جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة (2) عملاً بقصة
يوسف عليه السلام مع إخوته: {قالوا: نفقد صُواع (3) الملك، ولمن جاء به حمل
بعير، وأنا به زعيم} [يوسف:12/ 72]، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام يوم
حُنين: «من قتل قتيلاً فله سلبه» (4).
ولم يجزها الحنفية (5)، لما فيها من الغرر والخطر أي الجهالة والاحتمال
بالنسبة للملتزم وبالنسبة للقائم بالعمل الذي لا يدري ما يحتاجه من مجهود
لإنجاز العمل.
_________
(1) الجُعْل: ما يجعل للإنسان من شيء على فعل كأجر العامل ومكافأة المحارب
على عمل حربي رائع.
(2) بداية المجتهد: 232/ 2 ومابعدها، الشرح الصغير للدردير: 79/ 4
ومابعدها، القوانين الفقهية: ص275 ومابعدها، مغني المحتاج: 429/ 2
ومابعدها، المغني: 507/ 5 ومابعدها، غاية المنتهى: 284/ 2.
(3) الصواع: المكيال الذي يكال به.
(4) السلب: ما يكون مع القتيل من متاع أو مال أو سلاح أو خيل. والحديث رواه
أحمد وأبو داود عن أنس بلفظ: «من قتل رجلاً فله سلبه» (نيل الأوطار: 262/
7).
(5) البدائع: 206/ 6.
(4/2922)
والقانون المدني السوري في المادة (163)
نظم الوعد بجائزة: وهو تخصيص أجر لشخص لن يتعين إلا بتنفيذ الأداء الذي
حدده الواعد. وأجاز الرجوع عنه إذا لم يعين الواعد أجلاً للقيام بالعمل.
2 - الوقف: هو حبس المال عن التصرف،
وتخصيص ريعه لجهة بر، تقرباً إلى الله تعالى، كالوقف على دور العلم وجهات
الخير كالمشافي والمدارس والمصانع الحربية، والوقف لفلان، ثم على جهة خير
معينة. وينعقد الوقف بإرادة الواقف وحده، فإن كان على شخص فله حق الرد،
فيصرف إلى جهة الخير أو البر التي عينها الواقف.
3 - الإبراء: إسقاط شخص ماله من حق لدى
شخص آخر، كإسقاط الدائن دينه المستقر في ذمة مدينه. يتم بدون حاجة لقبول
المدين، إلا أنه يرتد برده في مجلس الإبراء، لما فيه من معنى التمليك (أي
تمليك الدين للمدين)، دفعاً للمِنَّة والجميل الذي يصنعه الدائن له،
والإنسان لا يملّك شيئاً جبراً عنه. فهو من قبيل الإسقاطات عند جمهور
الفقهاء غير المالكية.
قال المالكية على ما هو راجح عندهم: يحتاج الإبراء إلى قبول المبرأ؛ لأنه
من قبيل التمليكات التي يشترط فيها القبول كالهبة والصدقة.
4 - الوصية: تمليك مضاف إلى ما بعد
الموت بطريق التبرع، سواء أكان المملك عيناً أم منفعة، كالوصية بمبلغ من
المال أو بمنفعة دار لفلان أو لجهة خير بعد وفاة الموصي، فهي عقد يتم
بإرادة واحدة هي إرادة الموصي، وتتحقق بإيجابه (أو عبارته أو كتابته أو
إشارته المفهمة) فيكون ركن الوصية هو الإيجاب من الموصي فقط، إلا أنها ترتد
بالرد عند الحنفية (1)؛ لأنه ليس له إلزامه على قبولها.
_________
(1) اللباب شرح الكتاب: 170/ 4، تبيين الحقائق للزيلعي: 182/ 6، 184، رد
المحتار على الدر المختار: 460/ 5.
(4/2923)
واتفق الفقهاء على أن الوصية من العقود
الجائزة غير اللازمة أي أن للموصي أن يرجع فيما أوصى به.
فالإيجاب بالوصية هو ركن الوصية. وأما القبول من الموصى له بعد وفاة الموصي
فليس بركن للوصية، ولكنه على الراجح عند فقهاء المالكية والحنفية والشافعية
والحنابلة (1) شرط للزوم الوصية ودخول الموصى به في ملك الموصى له من بعد
الموت. فالحقيقة الشرعية للوصية عندهم تكون بالإيجاب من الموصي فقط، ولا
تتوقف على قبول الموصى له. وتنفذ الوصية من ثلث التركة، ولا وصية جائزة
للوارث إلا بإجازة الورثة، كما لا تجوز الوصية لغير الوارث بما زاد عن ثلث
التركة إلا بموافقة الورثة.
5 - اليمين: عقد قوي به عزم الحالف على
الفعل أو الترك (2)، مثل والله لأكرمنَّ جاري، أو لأعلمنَّ هذا اليتيم على
نفقتي، فيجب عليه ديانةً الوفاء بيمينه، فإن لم يوفّ به، حنث في يمينه
ولزمته كفارة اليمين.
6 - الكفالة: عند غير الحنفية: ضم ذمة
الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق أي في الدين، فيثبت الدين في
ذمتهما معاً. واقتصر الحنفية على أن الضم محصور في المطالبة بالدين.
فالكفالة: التزام الكفيل بالدين بأدائه إلى الدائن بدلاً من من المدين عند
مطالبته. وهي توجد بمجرد التزام الكفيل بالدين ورضاه به عند المالكية
والشافعية والحنابلة وأبي يوسف من الحنفية (3)، أي أن ركن الكفالة هو
_________
(1) بداية المجتهد: 330/ 2، الشرح الكبير للدردير: 424/ 4، مغني المحتاج:
53/ 3، غاية المنتهى: 351/ 2، المغني: 25/ 6.
(2) فتح القدير: 2/ 4، تبيين الحقائق: 106/ 3.
(3) الشرح الصغير: للدردير: 429/ 3 ومابعدها، مغني المحتاج: 200/ 2،
المهذب: 340/ 1، المغني: 535/ 5.
(4/2924)
الإيجاب وحده، وأما القبول من الدائن أو
المدين فليس ركناً عند هؤلاء. فتكون التزاماً جانب واحد. وقال أبو حنيفة
ومحمد بن الحسن (1): ركن الكفالة: الإيجاب من الكفيل، والقبول من الدائن.
العقد بإرادة منفردة:
الأصل العام في العقود أن يكون العاقد متعدداً، أي أن العقد ينشأ بإيجاب
وقبول يعبر كل واحد منهما عن إرادة صاحبه؛ لأن العقد ينشئ آثاراً متعارضة
وحقوقاً أو التزاماتٍ متضادة، مثل تسليم المبيع وتسلمه، والمطالبة بتسليم
المبيع وقبض الثمن، ورد المبيع بالعيب، وفسخ العقد بالخيارات، ويستحيل أن
يكون الشخص الواحد في زمان واحد مسلِّماً ومتسلماً، طالباً ومطالباً،
مملكاً ومتملكاً، مما يوجب أن يكون العقد من طرفين، لكل منهما إرادته
وعبارته والتزامه، لا من شخص واحد ليس له إلا إرادة واحدة.
لكن استثناء من هذا الأصل يجوز عند بعض الفقهاء إبرام العقد بعاقد واحد في
بعض حالات البيع والزواج.
البيع بعاقد واحد:
أجاز الحنفية ما عدا زفر (2) انعقاد البيع بإرادة شخص واحد متخذاً صفتين
بالنيابة عن البائع وعن المشتري، في حالات نادرة هي شراء الأب، أو وصيه، أو
الجد، مال الصغير لنفسه، أو بيع مال نفسه من الصغير، وبيع القاضي والرسول
_________
(1) فتح القدير: 390/ 5، البدائع: 2/ 6، الدر المختار: 261/ 4، مجمع
الضمانات: ص 275.
(2) البدائع: 232/ 2، 136/ 5، رد المحتار لابن عابدين: 5/ 4، فتح القدير:
428/ 2، تبيين الحقائق: 211/ 6.
(4/2925)
عن طرفي العقد؛ لأن القاضي لا ترجع إليه
حقوق العقد أي (لا يلتزم بشيء من التزامات العقد كالتسليم ودفع الثمن)،
فكان بمنزلة الرسول، والرسول بعكس الوكيل عن الجانبين لا تلزمه حقوق العقد؛
لأنه سفير ومعبر عن كلام الأصيل، فجاز لكل من القاضي والرسول تولي العقد عن
الجانبين. ولا يجوز ذلك للوكيل من الجانبين.
لكن تعامل الأب مع الصغير لنفسه مقيد بأن يكون السعر بمثل قيمة الشيء، أو
بشيء يسير من الغبن المعتاد حدوثه بين الناس عادة؛ لأن الأب مفترض فيه كمال
الشفقة والرحمة ووفرة الرعاية لمصلحة الصغير.
وأما وصي الأب فمقيد تعامله مع الصغير عند أبي حنيفة وأبي يوسف بأن يكون
تصرفه بمال الصغير لنفسه بمثل القيمة، أو بما فيه نفع ظاهر (أو خير بيّن)
لليتيم (1)، لأنه مرضي الأب، والظاهر ما رضي به إلا لوفور شفقته على
الصغير. ولم يجز محمد بن الحسن تصرف الوصي بمال الصغير لنفسه بمثل القيمة؛
لأن التساهل في الأب لكمال شفقته بخلاف الوصي.
وأجاز الحنابلة أن يتولى عاقد واحد عن الجانبين كالوكيل عن الطرفين عقد
البيع ونحوه من عقود المعاوضات الأخرى كالإجارة مثلاً؛ لأن حقوق العقد
وآثاره أو التزاماته ترجع عندهم للموكل نفسه صاحب الشأن. كما أجازوا ذلك
أيضاً في عقد الزواج، وفي الدعوى، فيصح أن يكون الشخص الواحد وكيلاً في
الدعوى عن المدعي والمدعى عليه، ممثلاً مصلحة الطرفين ومقيماً الحجة أو
الدفوع لكل منهما (2).
_________
(1) النفع الظاهر في العقار يكون بشراء الوصي لنفسه من الصغير بضعف القيمة،
ويبيع بنصفها. وفي المنقول ببيع ما يساوي 15 بعشرة، وشراء ما يساوي عشرة
بخمسة عشر.
(2) كشاف القناع: 238/ 2، المغني: 109/ 5، مطالب أولي النهي في شرح غاية
المنتهى للسيوطي الرحيباني: 464/ 3، ط المكتب الإسلامي بدمشق.
(4/2926)
وروي عن الإمام مالك أن للوكيل والوصي أن
يشتريا لأنفسهما من مال الموكل واليتيم، إذا لم يحابيا أنفسهما (1).
الزواج بعاقد واحد:
أجاز جمهور الحنفية ما عدا زفر للشخص الواحد أن يتولى طرفي عقد الزواج
بإيجاب يقوم مقام القبول في خمس صور (2).
1 - إذا كان الشخص ولياً من الجانبين: كأن يزوج الجد بنت ابنه الصغيرة لابن
ابنه الصغير.
2 - إذا كان وكيلاً من الجانبين: كأن يقول: زوجت موكلي فلاناً موكلتي
فلانة.
3 - إذا كان أصيلاً من جانب وولياً من جانب آخر، كأن يتزوج ابن عم بنت عمه
الصغيرة التي تحت ولايته، فيقول أمام الشهود: تزوجت بنت عمي فلانة.
4 - إذا كان أصيلاً من جانب ووكيلاً من جانب آخر، كما لو وكلت امرأة رجلاً
ليزوجها من نفسه.
5 - إذا كان ولياً من جانب ووكيلاً من جانب، مثل زوجت بنتي من موكلي.
والسبب في مشروعية انعقاد الزواج في هذه الأحوال أن العاقد ليس إلا سفيراً
عن الأصيل ومعبراً عنه، فلا يتحمل شيئاً من التزامات العقد، والواحد يصلح
أن يكون معبراً عن اثنين بصفتين مختلفتين.
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 328.
(2) البدائع: 231/ 2، 137/ 5.
(4/2927)
وقال الشافعي (1): «يجوز الزواج بعاقد واحد
إذا كان ولياً من الجانبين وذلك في حالة الجد فقط، له أن يزوج حفيديه
ببعضهما، ويتولى وحده العقد عن الطرفين، وذلك للضرورة لعدم وجود ولي آخر من
درجته، ولقوة ولايته وشفقته دون سائر الأولياء».
والخلاصة: إن العقد بالمعنى الخاص لا يتحقق بإرادة منفردة، بل لا بد لتحققه
من توافق أواجتماع إرادتين. وأما انعقاد البيع أو الزواج في الحالات
السابقة، وإن اقتصر فيه على شخص واحد، إلا أنه في الحقيقة يمثل صفتين،
فقامت عبارة الشخص الواحد التي تدل على إرادتين متوافقتين مقام العبارتين
من عاقدين مختلفتين (2).
وهناك فرق ثان بينهما من ناحية الحكم (أي الأثر المترتب على العقد)، وهو أن
العقد يلزم الوفاء به من العاقد ديانة وقضاء باتفاق الفقهاء، لقوله تعالى:
{يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1/ 5] وقوله سبحانه: {وأوفوا
بالعهد} [الإسراء:34/ 17]. أما الوعد فلا يلزم الوفاء به قضاء، بل الوفاء
به مندوب مطلوب ديانة ومن مكارم الأخلاق. فلو وعد شخص غيره ببيع أو قرض أو
هبة مثلاً لا يجبر على الوفاء بوعده بقوة القضاء، بل يندب له تنفيذه ديانة؛
لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لمَ تقولون ما لا تفعلون، كبُر مقتاً
عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} [الصف:2/ 61 - 3] وقال النبي صلّى الله
عليه وسلم: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن
خان» (3).
_________
(1) نهاية المحتاج: 192/ 5 ومابعدها.
(2) منع القانون المدني المصري والسوري في المادة 109 من تعاقد الشخص مع
نفسه، سواء أكان التعاقد لحساب نفسه أم لحساب غيره إلا إذا رخص الأصيل
مقدماً لنائب في التعاقد مع نفسه، أو وجد نص في القانون، أو قضت قواعد
التجارة بجواز ذلك (الوسيط للسنهوري: ص 202).
(3) رواه الشيخان (البخاري ومسلم) والترمذي والنسائي عن أبي هريرة.
(4/2928)
هذا هو السائد عند الفقهاء، لكن توجد آراء
قد تكون مخالفة للرأي السائد، وقد تكون ملطفة أحياناً بجعل الوعد ملزماً
قضاء في بعض الحالات.
قال ابن شبرمة (1): يلزم الواعد ويجبر على الوفاء بوعده قضاء. وقال
الحنفية: يلزم الوعد إذا صدر معلقاً على شرط منعاً لتغرير الموعود. وعبروا
عن ذلك بقاعدة فقهية: (المواعيد بصورة التعاليق تكون لازمة) (م 38 مجلة)
وقال ابن نجيم: «لا يلزم الوعد إلا إذا كان معلقاً» مثل أن يقول شخص لآخر:
إذا لم يعطك فلان ثمن المبيع، فأنا أعطيه لك. فيلزمه إعطاؤه حينئذ؛ لأن
الوعد اكتسى صفة الالتزام والتعهد.
وقال المالكية (2): يلزم الواعد بوعده قضاء إن أدخل الموعود في سبب أو وعده
مقروناً بذكر السبب، كما قال أصبغ من فقهائهم لتأكد العزم على الدفع حينئذ.
مثال الحالة الأولى أن يقول لآخر: اهدم دارك وأنا أقرضك ما تبني به الدار،
أو اخرج إلى الحج وأنا أقرضك، أو اشتر سلعة، أو تزوج امرأة وأنا أسلفك،
ففعل الموعود ذلك، فيجب عليه الإقراض لأنه أدخل الموعود في الالتزام. ومثال
الحالة الثانية عند أصبغ: أن يقول شخص لآخر: تزوج أو اشتر، وأنا أقرضك،
فيلزمه الوفاء بوعده ولو لم يباشر الموعود فعل الزواج أو الشراء أي سواء
تزوج الموعود أو اشترى أم لا، يلزم الواعد بما وعد، دفعاً للضرر الحاصل
للموعود من تغرير الواعد.
فإن وعده بدون ذكر السبب، كأن يقول شخص لآخر: أسلفني كذا، فيقول
_________
(1) هو عبد الله بن شبرمة، قاضي فقيه من التابعين ولد سنة 72 هـ وتوفي سنة
144 هـ (تهذيب التهذيب: 250/ 5).
(2) الفروق للقرافي:24/ 5 - 25، المحلى لابن حزم: 33/ 8، م/1125.
(4/2929)
المخاطب: نعم، لا يلزمه الوعد. والقوانين
الوضعية المدنية تتفق مع رأي ابن شبرمة وبعض المالكية على أن الوعد بعقد أو
بعمل ملزم قانوناً.
المبحث الثاني ـ تكوين العقد يشتمل هذا
المبحث على مطالب ثلاثة:
المطلب الأول ـ ركن العقد:
الركن في اصطلاح علماء الأصول من الحنفية: هو ما يتوقف عليه وجود الشيء
وكان جزءاً داخلاً في حقيقته. ففي العبادات يعد الركوع والسجود وقراءة
القرآن أركاناً للصلاة. وفي المعاملات: الإيجاب والقبول أو ما يقوم مقامهما
هو ركن العقد. فركن العقد: هو كل ما يعبر به عن اتفاق الإرادتين أو ما يقوم
مقامهما من فعل أو إشارة أو كتابة (1).
هذا هو مذهب الحنفية، وأما بقية العناصر أو المقومات التي يقوم عليها العقد
من محل معقود عليه، وعاقدين، فهي لوازم لا بد منها لتكوين العقد، لأنه يلزم
من وجود الإيجاب والقبول وجود عاقدين، ولا يتحقق ارتباط العاقدين إلا بوجود
محل يظهر فيه أثر الارتباط.
وغير الحنفية (2) يقولون: إن للعقد أركاناً ثلاثة هي عاقد ومعقود عليه
وصيغة. فالعاقد في البيع هو البائع والمشتري، والمعقود عليه هو الثمن
والمثمن، والصيغة هي الإيجاب والقبول، باعتبار أن الركن عند الجمهور: هو ما
يتوقف عليه وجود الشيء وإن لم يكن جزءاً داخلاً في حقيقته.
_________
(1) فتح القدير: 74/ 5، البدائع: 133/ 5، رد المحتار لابن عابدين: 5/ 4.
(2) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي: 2/ 3، مغني المحتاج: 3/ 2، غاية
المنتهى: 3/ 2، القوانين الفقهية: ص 245.
(4/2930)
وأياً كان هذا الاختلاف فهو اصطلاح لا
تأثير له من حيث النتيجة.
تعريف الإيجاب والقبول:
الإيجاب والقبول يكوِّنان صيغة العقد، أي العبارات الدالة على اتفاق
الطرفين المتعاقدين.
وتعريفهما عند الحنفية (1) ما يأتي:
الإيجاب: إثبات الفعل الخاص الدال على الرضا الواقع أولاً من كلام أحد
المتعاقدين، أو ما يقوم مقامه، سواء وقع من المملك أو المتملك (2). فقول
العاقد الأول في البيع هو الإيجاب، سواء صدر من البائع أو من المشتري. فإذا
قال البائع أولاً (بعت) فهو الإيجاب. وإذا ابتدأ المشتري الكلام فقال:
(اشتريت بكذا) فهو الإيجاب.
والقبول: ما ذكر ثانياً من كلام أحد المتعاقدين، دالاً على موافقته ورضاه
بما أوجبه الأول (3).
فالمعتبر إذن: أولية الصدور وثانويته فقط، سواء أكان من جهة البائع أم من
جهة المشتري في عقد البيع.
وعند غير الحنفية (4): الإيجاب: هو ما صدر ممن يكون منه التمليك وإن جاء
_________
(1) رد المحتار لابن عابدين والدر المختار: 6/ 4، والمراجع السابقة.
(2) ورد تعريف الإيجاب في المجلة (م 101): «الإيجاب: أول كلام يصدر من أحد
العاقدين لأجل إنشاء التصرف، وبه يوجب ويثبت التصرف».
(3) عرفت المجلة في المادة (102) القبول بما يأتي: «القبول: ثاني كلام يصدر
من أحد العاقدين لأجل إنشاء التصرف، وبه يتم العقد».
(4) شرح المنهج للأنصاري: 180/ 2 وما بعدها، كشاف القناع: 3/ 2، غاية
المنتهى: 3/ 2 ومابعدها، الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه: 3/ 3.
(4/2931)
متأخراً، والقبول: هو ما صدر ممن يصير له
الملك، وإن صدر أولاً. ففي عقد البيع: إذا قال المشتري: اشتريت منك هذه
البضاعة بكذا، وقال البائع: بعته لك بهذا الثمن، انعقد البيع، وكان الإيجاب
ما صدر عن البائع، لأنه المملك، والقبول: ما صدر من المشتري، وإن صدر
أولاً.
والواقع أن تسمية إحدى عبارتي العاقدين إيجاباً، والأخرى قبولاً هي تسمية
اصطلاحية، ليس لها أثر يذكر، والأصل العام في الإيجاب أن يقع من البائع
أولاً، ويقع القبول من المشتري ثانياً.
المطلب الثاني ـ عناصر العقد:
عناصر العقد: هي مقوماته الذاتية التي ينشأ بها العقد، ولا يتحقق إلا
بوجودها، وهي أربعة: صيغة التعاقد، والعاقدان، ومحل العقد، وموضوع العقد.
العنصر الأول ـ صيغة العقد:
صيغة العقد: هي ما صدر من المتعاقدين دالاً على توجه إرادتهما الباطنة
لإنشاء العقد وإبرامه. وتعرف تلك الإرادة الباطنة بواسطة
اللفظ أو القول أو ما يقوم مقامه من
الفعل أو الإشارة أو الكتابة. وهذه الصيغة هي الإيجاب والقبول. وقد اتفقت
الشرائع على أن مدار وجود العقد وتحققه هو صدور ما يدل على التراضي من كلا
الجانبين بإنشاء التزام بينهما. وهذا هو ما يعرف بصيغة العقد عند فقهائنا.
ويسمى عند القانونيين (التعبير عن الإرادة). والبحث فيها يكون ببيان أساليب
الصيغة، وشروطها.
(4/2932)
الفرع الأول ـ
أساليب صيغة الإيجاب والقبول:
التعبير عن الإرادة العقدية الجازمة يكون بأي صيغة تدل عرفاً أو لغة على
إنشاء العقد، سواء بالقول أو بالفعل أو بالإشارة أو بالكتابة، وقد نصت على
هذه الأساليب المادة (173) و (174) من المجلة، كما نصت عليها المادة (1/
93) من القانون المدني السوري.
أولاً ـ اللفظ (أو القول): اللفظ: هو الأداة الطبيعية الأصلية في التعبير
عن الإرادة الخفية وهو الأكثر استعمالاً في العقود بين الناس لسهولته وقوة
دلالته ووضوحه، فيلجأ إليه متى كان العاقد قادراً عليه، وبأي لغة يفهمها
المتعاقدان. ولا يشترط فيه عبارة خاصة، وإنما يصح بكل ما يدل على الرضا
المتبادل بحسب أعراف الناس وعاداتهم؛ لأن الأصل في العقود هو الرضا، لقوله
تعال: {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29/ 4] وقوله عليه الصلاة
والسلام: «إنما البيع عن تراض».
مادة اللفظ: وعليه فلا يشترط في العقود
كالبيع والإيجار والرهن والهبة ونحوها لفظ معين أو عبارة مخصوصة، كأن يقول
البائع: بعت بكذا، أو ملكته لك بكذا، أو أعطيته لك بكذا، أو وهبته بثمن
كذا. ويقول المشتري: اشتريت، أو قبلت، أو رضيت، أو خذ الثمن وهات المبيع.
أما عقد الزواج فاختلف الفقهاء في شأن الألفاظ المستعملة فيه، نظراً
لخطورته وقداسته.
فقال الحنفية والمالكية (1): يصح انعقاد الزواج بكل لفظ يدل على تمليك
_________
(1) فتح القدير: 346/ 2، الدر المختار ورد المحتار لابن عابدين: 368/ 2
ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 195، الشرح الكبير للدردير: 220/ 2
ومابعدها، بداية المجتهد: 168/ 2.
(4/2933)
العين في الحال، كالتزويج والنكاح
والتمليك، والجعل، والهبة والعطية والصدقة، بشرط توافر النية أو القرينة
الدالة على أن المراد باللفظ هو الزواج، وبشرط فهم الشهود للمقصود؛ لأن عقد
الزواج كغيره من العقود التي تنشأ بتراضي العاقدين، فيصح بكل لفظ يدل على
تراضيهما وإرادتهما. وقد ورد لفظ (الهبة) في القرآن الكريم دالاً على صحة
استعماله لإبرام الزواج، كما ورد في السنة النبوية استعمال عبارة
(التمليك).
أما الوارد في القرآن فقوله تعالى: {وامرأةً مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن
أراد أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين} (1) الخصوصية للنبي صلّى الله
عليه وسلمفيقولهتعالى {خالصة لك} [الأحزاب:50/ 33] ليست في انعقاد زواجه
بلفظ «الهبة» وإنما في صحة زواجه بغير مهر.
وأما الوارد في السنة فقوله عليه السلام لخاطب من الصحابة يحفظ سوراً من
القرآن: «ملّكتكها بما معك من القرآن» (2).
ولا يصح الزواج بلفظ لا يفيد الملك كإجارة وإعارة ووصية ورهن ووديعة
ونحوها، ولا بالألفاظ المصحفة مثل تجوزت.
وقال فقهاء الشافعية والحنابلة (3): يشترط لصحة عقد الزواج استعمال لفظي
«زوج أو نكح» وما يشتق منهما لمن يفهم اللغة العربية. أما من لا يعرف اللغة
العربية فيصح الزواج منه بالعبارة التي تؤدي الغرض المقصود، وتفهم هذا
المعنى؛ لأن عقد الزواج له خطورة لوروده على المرأة وهي حرة، وشرع لأغراض
سامية
_________
(1) الأحزاب: 50.
(2) متفق عليه بين البخاري ومسلم وأحمد (نيل الأوطار: 170/ 6).
(3) مغني المحتاج: 139/ 3، المغني: 532/ 6 ومابعدها.
(4/2934)
منها تكثير النسل وبقاء النوع الإنساني،
وتكوين الأسر، ففيه معنى التعبد لله، بتكثير عباد الله الذين يعبدونه، مما
يوجب علينا التزام ما ورد به الشرع، ولم يرد في القرآن الكريم إلا هذان
اللفظان فقط وهما (النكاح والتزويج) وذلك في أكثر من عشرين آية: منها:
{فانكحوا ما طاب لكم من النساء} (1) [النساء4/ 3] ومنها {فلما قضى زيد منها
وطراً زوجناكها} (2).
ويمكن أن يكون رأي الحنفية والمالكية أرجح، لأن الزواج كغيره من العقود،
فيصح بكل لفظ ينبئ عن الرضا والإرادة.
صيغة اللفظ أو نوع الفعل:
اتفق الفقهاء على صحة انعقاد العقد بالفعل الماضي، لأن صيغته أدل على
المراد وأقرب إلى تحقيق مقصود وهو إنشاؤها في الحال، فينعقد بها العقد من
غير توقف على شيء آخر كالنية أو القرينة، وقد تعارف الناس استعمال هذه
الصيغة (3)، وأقرهم الإسلام عليها واستعملها الرسول صلّى الله عليه وسلم في
جميع العقود، لإفادتها تنجيز العقد حالاً ودلالتها على الإرادة الجازمة
وحدوث الشيء قطعاً من غيراحتمال معنى آخر، مثل بعت، واشتريت، ورهنت، ووهبت،
وزوجت، وأعرت، وقبلت، ونحو ذلك.
واتفق الفقهاء أيضاً على الانعقاد بصيغة المضارع إذا توافرت نية الحال أو
دلت القرينة على إرادة إنشاء العقد حالاً؛ لأن المضارع يدل على الحال
_________
(1) النساء: 3.
(2) الأحزاب: 37.
(3) نصت المادة 168 من المجلة على ما يأتي: الإيجاب والقبول في البيع عبارة
عن كل لفظين مستعملين لإنشاء البيع في عرف البلدة.
(4/2935)
والاستقبال، ففيه احتمال الوعد والمساومة،
فكان لا بد من النية لتعيين المراد في الحال، وإنشاء العقد حالاً، مثل أبيع
وأشتري وأزوجك وأقبل وأرضى.
وينعقد العقد بالجملة الاسمية على الأصح، مثل أنا بائع لك كذا، أو واهب لك
كذا، فقال آخر: أنا قابل: أو قال: نعم.
واختلف الفقهاء في انعقاد العقد بلفظ الأمر الذي يعبر به عن المستقبل، مثل:
بعني أو اشتر مني، أو آجرني، أو خذه بكذا.
فقال الحنفية (1): إن ماعدا عقد الزواج لا ينعقد عقده بلفظ الأمر، ولو نوى
ذلك، ما لم يقل القائل الآمر مرة أخرى في المثال السابق: اشتريت، أو بعت،
أو استأجرت؛ لأن لفظ الأمر مجرد طلب وتكليف، فلا يكون قبولاً ولا إيجاباً.
أو كانت العبارة تنبئ عن إيجاب أو قبول مقدر (مفهوم ضمناً) يقتضيه المعنى
ويستلزمه كأن يقول المشتري: اشتريت منك هذا بكذا، فقال البائع: خذه، والله
يبارك لك، فكأنه قال: بعتك فخذه (المجلة: م 172).
وأما عقد الزواج فيصح بصيغة الأمر مثل: زوجيني نفسك، فقالت: زوجتك، أو قال
الرجل لولي المرأة أو وكيلها: زوجني فلانة، فأجاب: زوجتك، لأن لفظ الأمر
للمساومة، وعقد الزواج يسبق عادة بالخطبة، فلا يقصد بهذا الأمر الوعد
والمساومة، وإنما المقصود به إنشاء العقد، لا مقدمات العقد وهي الخطبة،
فيحمل على الإيجاب والقبول. أما غير الزواج كالبيع مثلاً، فإنه يحصل فجأة
بدون مقدمات غالباً، فيكون الأمر فيه مساومة، عملاً بحقيقة لفظ الأمر،
ويكون المراد به العدة أو المساومة، ولا يعدل عن المعنى الحقيقي للفظ إلى
شيء آخر إلا بدليل، ولم يوجد الدليل في البيع، بخلاف الزواج، كما تقدم.
_________
(1) البدائع: 133/ 5 ومابعدها، فتح القدير مع العناية: 75/ 5 وما بعدها،
حاشية ابن عابدين: 9/ 4 وما بعدها، المجلة: م169 - 172.
(4/2936)
وقال جمهور الفقهاء غير الحنفية (1): ينعقد
العقد بلفظ الأمر بدون حاجة للفظ ثالث من الآمر، سواء أكان بيعاً أم
زواجاً؛ لأن أساس العقد هو التراضي، وقد جرى العرف على استعمال صيغة الأمر
في إنشاء العقود كالماضي والمضارع، فينعقد بها العقد، ويكون الآمر أو
المستدعي عاقداً فعلاً: بائعاً أو مشترياً مثلاً، وهذا الرأي هو الأرجح لما
فيه من تحقيق مصالح الناس ومراعاة أعرافهم وعاداتهم دون مصادمة النصوص
الشرعية.
واتفق الفقهاء على عدم انعقاد العقد بصيغة الاستقبال: وهي صيغة المضارع
المقرون بالسين أو سوف مثل: سأبيعك؛ لأن ذكر السين يدل على إرادة العقد في
المستقبل، فهو وعد بالعقد وليس عقداً، أي أنه يدل على عدم إرادة الحال، فلا
ينعقد بها العقد، حتى ولو نوى بها العاقد الإيجاب والقبول.
كذلك لا ينعقد العقد بصيغة الاستفهام، لدلالتها على المستقبل، لأنها سؤال
الإىجاب والقبول، وليست إيجاباً ولا قبولاً، كأن يقول المشتري: أتبيع مني
هذا الشيء؟ فقال البائع: بعت، لا ينعقد العقد إلا إذا انضم لذلك لفظ ثالث
يقوله المشتري مرة أخرى: اشتريت؛ لأن لفظ الاستفهام لا يستعمل للحال حقيقة.
ثانياً ـ التعاقد بالأفعال (العقد بالمعاطاة): قد ينعقد العقد بدون قول أو
لفظ، وإنما بفعل يصدر من المتعاقدين ويسمى في الفقه بالمعاطاة أو التعاطي
أو المراوضة: وهو التعاقد بالمبادلة الفعلية الدالة على التراضي دون تلفظ
بإيجاب أو قبول (2).
_________
(1) مواهب الجليل للحطاب: 228/ 4 - 240، حاشية الدسوقي: 3/ 3 ومابعدها،
بداية المجتهد: 168/ 2، مغني المحتاج: 4/ 2 - 5، المغني: 560/ 3.
(2) نصت المادة 175 من المجلة على ما يأتي: «حيث إن المقصد الأصلي من
الإيجاب والقبول هو تراضي الطرفين، فينعقد البيع بالمبادلة الفعلية الدالة
على التراضي، ويسمى هذا بيع التعاطي» وذكرت المادة أمثلة لذلك.
(4/2937)
مثل أن يأخذ المشتري المبيع، ويدفع للبائع
الثمن، أو يدفع البائع المبيع، فيدفع له الآخر ثمنه من غير تكلم ولا إشارة،
سواء أكان المبيع حقيراً أم نفيساً.
ففي البيع لو وجد الرجل سلعة مسعرة كتب عليها الثمن كساعة أو حلي، فناول
الثمن للبائع وأخد السلعة دون إيجاب وقبول لفظيين، انعقد البيع لدلالته على
التراضي في عرف الناس. كذلك ينعقد لو اقتصر المشتري على دفع عربون؛ لأنه
جزء من الثمن.
وفي الإجارة: لو ركب الإنسان سيارة من وسائل النقل، ثم دفع ثمن التذكرة إلى
الجابي دون كلام متبادل صح الإيجار عرفاً.
لكن الفقهاء اختلفوا في التعاقد بالتعاطي في العقود المالية على أقوال
ثلاثة:
الأول ـ مذهب الحنفية (1) والحنابلة (2): ينعقد العقد بالتعاطي فيما تعارفه
الناس، سواء أكان الشيء يسيراً كالبيضة والرغيف والجريدة أم نفيساً (كثير
الثمن) كالدار والأرض والسيارة؛ لأن تعارف الناس دليل ظاهر على التراضي،
سواء تمت المبادلة الفعلية من الجانبين، أو من جانب واحد ومن الآخر اللفظ
على الأصح المفتى به، وسواء في ذلك البيع والإجارة والإعارة والهبة
والرجعة.
وذلك بشرط أن يكون ثمن المعقود عليه معلوماً تماماً، وإلا فسد العقد، وألا
يصرح العاقد مع التعاطي بعدم الرضا بالعقد.
والقانون المدني السوري يتفق مع هذا الرأي، كما جاء في المادة (1/ 93).
_________
(1) البدائع: 134/ 5، فتح القدير: 77/ 5، الدر المختار ورد المحتار: 11/ 4
ومابعدها.
(2) غاية المنتهى: 5/ 2.
(4/2938)
الثاني ـ مذهب مالك
وأصل مذهب أحمد (1): ينعقد العقد بالفعل أو
بالتعاطي متى كان واضح الدلالة على الرضا، سواء تعارفه الناس أم لا، وهذا
الرأي أوسع من سابقه وأيسر على الناس، فكل ما يدل على البيع أو الإجارة، أو
الشركة أو الوكالة وسائر العقود الأخرى ما عدا الزواج ينعقد العقد به؛ لأن
المعول عليه وجود ما يدل على إرادة المتعاقدين من إنشاء العقد وإبرامه
والرضا به، وقد تعامل الناس به من عصر النبوة فما بعده. ولم ينقل عن النبي
صلّى الله عليه وسلم وأصحابه الاقتصار على الإيجاب والقبول، ولا إنكار
التعاطي، فكانت القرينة كافية على الدلالة على الرضا.
الثالث ـ مذهب الشافعية والشيعة والظاهرية
(2): لا تنعقد العقود بالأفعال أو بالمعاطاة لعدم قوة دلالتها على التعاقد؛
لأن الرضا أمر خفي، لا دليل عليه إلا باللفظ، وأما الفعل فقد يحتمل غير
المراد من العقد، فلا يعقد به العقد، وإنما يشترط أن يقع العقد بالألفاظ
الصريحة أو الكنائية، أو ما يقوم مقامها عند الحاجة كالإشارة المفهمة أو
الكتابة.
ونظراً لما يشتمل عليه هذا المذهب من تشدد وشكلية محدودة ومجافاة لمبدأ
المرونة والسماحة واليسر، فقد اختار جماعة من الشافعية منهم النووي والبغوي
والمتولي، صحة انعقاد بيع المعاطاة في كل ما يعده الناس بيعاً، لأنه لم
يثبت اشتراط لفظ، فيرجع للعرف كسائر الألفاظ المطلقة،
وبعض الشافعية كابن سريج
_________
(1) مواهب الجليل: 228/ 4 ومابعدها، الشرح الكبير: 3/ 3، بداية المجتهد:
161/ 2، المغني: 561/ 3، فتاوى ابن تيمية: 267/ 3 ومابعدها.
(2) مغني المحتاج: 3/ 2 ومابعدها، المهذب: 257/ 1، المختصر النافع في فقه
الإمامية: ص142، المحلى لابن حزم: 404/ 8، المهذب: 257/ 1.
(4/2939)
والرُّوياني خصص جواز بيع المعاطاة
بالمحقَّرات أي غير النفيسة: هي ما جرت العادة فيها بالمعاطاة كرطل خبز، أو
رغيف، وحزمة بقل ونحوها (1).
عقد الزواج: وبغض النظر عن الاختلاف
السابق في التعاقد بالمعاطاة، أجمع الفقهاء على أن الزواج لا ينعقد بالفعل،
كإعطاء المهر مثلاً، بل لا بد من القول للقادر عليه؛ لأن عقد الزواج خطير
مقدس له آثار دائمة على المرأة، فكان لا بد من الاحتياط له، وإتمامه بأقوى
الدلالات على الإرادة: وهو القول، حفاظاَ على كرامة المرأة ومستقبلها،
وصوناً لها عن الابتذال، ولأن عقد الزواج يتطلب الإشهاد عليه، تمييزاً له
عن السفاح أو الزنا، ولا يتمكن الشهود من معرفة عقد الزواج إلا بسماع لفظ
الإيجاب والقبول (2).
وكالزواج عند الإمام الشافعي: الطلاق والخلع والرجعة، لا تجوز إلا بالقول.
ثالثاً ـ التعاقد بالإشارة: الإشارة إما من الناطق أو من الأخرس.
أـ إذا كان العاقد قادراً على النطق فلا ينعقد بإشارته، بل عليه أن يعبر عن
إرادته بلسانه لفظاً أو كتابة؛ لأن الإشارة وإن دلت على الإرادة لا تفيد
اليقين المستفاد من اللفظ أو الكتابة، فلا بد من العبارة، وإلا لم ينشأ
العقد عند الحنفية والشافعية (3).
_________
(1) سيأتي بحثه في عقد البيع.
(2) الدر المختار: 364/ 2 وتنص المادة 5 من قانون الأحوال الشخصية السوري
على ما يأتي: «ينعقد الزواج بإيجاب من أحد العاقدين، وقبول من الآخر»
والمادة 6 تنص: «يكون الإيجاب والقبول في الزواج بالألفاظ التي تفيد معناه
لغة أو عرفاً».
(3) البدائع: 135/ 5، حاشية ابن عابدين: 9/ 4، نهاية المحتاج: 11/ 3.
(4/2940)
لكن القانون المدني السوري وغيره في المادة
1/ 93) أجاز انعقاد العقد بالإشارة المتداولة عرفاً، ولو كانت من الناطق،
إذ لم يقيدها بالخرس. وهذا يتفق مع مذهب المالكية والحنابلة (1) الذين
يجيزون التعبير عن الإرادة من الناطق بالإشارة المفهمة، لأنها أولى في
الدلالة من الفعل الذي ينعقد به العقد، كما تقدم في المعاطاة.
ب ـ وأما العاقد العاجز عن النطق كالأخرس ومعتقل اللسان، فإن كان يحسن
الكتابة فلا بد منها على الرواية الراجحة عند الحنفية؛ لأن الكتابة أبلغ في
الدلالة وأبعد عن الاحتمال من الإشارة، فيلجأ إليها.
وإن كان لا يحسن الكتابة، وله إشارة مفهمة، فتقوم مقام النطق باللسان
باتفاق الفقهاء للضرورة، حتى لايحرم من حق التعاقد، وعليه نصت القاعدة
الفقهية: (الإشارات المعهودة للأخرس كالبيان باللسان) (م.70 من المجلة).
هذا إذا كان الخرس أصلياً، بأن ولد أخرس، فأما إذا كان عارضاً بأن طرأ عليه
الخرس، فلا تعتبر إشارته إلا إذا دام به الخرس حتى وقع اليأس من كلامه،
وصارت الإشارة مفهومة، فيلحق بالأخرس الأصلي.
رابعاً ـ التعاقد بالكتابة: يصح التعاقد بالكتابة بين طرفين، ناطقين أو
عاجزين عن النطق، حاضرين في مجلس واحد، أو غائبين، وبأي لغة يفهمها
المتعاقدان، بشرط أن تكون الكتابة مستبينة (بأن تبقى صورتها بعد الانتهاء
منها) ومرسومة (مسطرة بالطريقة المعتادة بين الناس بذكر المرسل إليه وتوقيع
المرسل)، فإذا كانت غير مستبينة كالرقم أو
_________
(1) الشرح الكبير: 3/ 3، المغني: 562/ 5.
(4/2941)
الكتابة على الماء أو في الهواء، أو غير
مرسومة كالرسالة الخالية من التوقيع مثلاً، لم ينعقد بها العقد، وعليه نصت
القاعدة الفقهية:
(الكتاب كالخطاب) (م 96 مجلة) وهذا رأي الحنفية والمالكية (1).
وذلك كأن يرسل شخص خطاباً لآخر يقول فيه: (بعتك سيارتي بكذا)، فإذا وصله
الكتاب، فقال في مجلس قراءة الكتاب: قبلت، انعقد البيع. فإن ترك المجلس، أو
صدر منه ما يدل على الإعراض عن الإيجاب، كان قبوله غير معتبر.
وفي حال إرسال رسول إلى آخر مثل إرسال الكتاب، يعتبر مجلس وصول الرسول هو
مجلس العقد، فيلزم أن يقبل فيه، فإن قام من المجلس قبل أن يقبل انتهى مفعول
الإيجاب. فالمعتبر هو مجلس بلوغ الرسالة أو الكتابة. وصورة الإرسال: أن
يقول شخص: بعت لفلان كذا، فاذهب يا فلان وقل له، فذهب الرسول، فأخبره، فقبل
المشتري في مجلسه ذلك صح العقد (2).
لكن عقد الزواج لا يصح انعقاده بالكتابة
إذا كان العاقدان حاضرين في مجلس واحد، إلا حال العجز عن النطق كالخرس؛ لأن
الزواج يشترط لصحته حضور الشهود وسماعهم كلام العاقدين، وهذا لا يتيسر في
حال الكتابة.
وقيد الشافعية والحنابلة (3) صحة التعاقد بالكتابة أو الرسالة فيما إذا كان
العاقدان غائبين، أما في حال الحضور فلا حاجة إلى الكتابة؛ لأن العاقد قادر
على النطق، فلا ينعقد العقد بغيره.
(4/2942)
الفرع الثاني ـ شروط
الإيجاب والقبول:
الشرط: ما يتوقف عليه وجود الشيء، ويكون جزءاً خارجاً عن حقيقته. كالوضوء
أو الطهارة للعبادات، لا تصح الصلاة بدون الطهارة، لكنها غير داخلة في
تكوين الصلاة. وكالقدرة على التسليم في المعاملات لابد منها لانعقاد العقد،
لكنها ليست جزءاً داخلاً في تكوين العقد. وبذلك يظهر أن الركن والشرط يتوقف
عليهما وجود الشيء. إلا أن الركن داخل في حقيقة الشيء وجزء منه، أما الشرط
فخارج عن الحقيقة ولا يعد جزءاً منها.
------------------------------
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 10/ 4 ومابعدها، الشرح الكبير: 3/ 3،
فتح القدير: 79/ 5، البدائع: 137/ 5.
(2) نص القانون المدني السوري على ذلك في المادة 98: «يعتبر التعاقد ما بين
الغائبين قد تم في المكان وفي الزمان اللذين صدر فيهما القبول ... ».
(3) المهذب: 257/ 1، غاية المنتهى: 4/ 2 ....
واشترط الفقهاء لانعقاد العقد شروطاً ثلاثة في الإيجاب والقبول هي (1):
1 - وضوح دلالة الإيجاب والقبول، أي أن يكون كل من الإيجاب والقبول واضح
الدلالة على مراد العاقدين، بأن تكون مادة اللفظ المستعمل لهما في كل عقد
تدل لغة أو عرفاً على نوع العقد المقصود للعاقدين؛ لأن الإرادة الباطنة
خفية، ولأن العقود يختلف بعضها عن بعض في موضوعها وأحكامها، فإذا لم يعرف
بيقين أن العاقدين قصدا عقداً بعينه لا يمكن إلزامهما بأحكامه الخاصة به.
ولا يشترط لهذه الدلالة لفظ أو شكل معين، فإن الشكلية في غير عقد الزواج
والعقود العينية كالهبة والرهن غير مطلوبة فقهاً؛ لأن العبرة في العقود
للمعاني، لا للألفاظـ والمباني، فيصح البيع بلفظ الهبة بعوض، وينعقد الزواج
بلفظـ الهبة إذا اقترن بالمهر.
2 - تطابق القبول والإيجاب: بأن يكون القبول موافقاً للإيجاب، بأن يرد
_________
(1) البدائع: 136/ 5 ومابعدها، حاشية ابن عابدين: 5/ 4، فتح القدير: 80/ 5،
أحكام المعاملات الشرعية للشيخ علي الخفيف: ص69 ومابعدها، مغني المحتاج: 5/
2 ومابعدها، حاشية الدسوقي: 5/ 3، غاية المنتهى: 4/ 2، نهاية المحتاج: 8/ 3
- 10.
(4/2943)
على كل ما أوجبه الموجب وبما أوجبه، أي على
كل محل العقد، ومقدار العوض في عقود المعاوضات، سواء أكانت الموافقة
حقيقية، كما لو قال البائع: بعتك الشيء بعشرة، فيقول المشتري: اشتريته
بعشرة، أو ضمنية، كما لو قال المشتري في المثال السابق: اشتريته بخمس عشرة.
أو أن تقول المرأة: زوجتك نفسي بمئة، فيقول الزوج: قبلت الزواج بمئة
وخمسين، فالتوافق متحقق ضمناً، وهذه المخالفة خير للموجب. لكن العقد لا
يلزم إلا بالمقدار الذي وجهه الموجب أي مئة في المثال الأخير، وأما الزيادة
فموقوفة على قبول الموجب في مجلس العقد، فإن قبل به الموجب لزم القابل؛ لأن
المال لا يدخل في ملك إنسان بغير اختياره إلا في الميراث.
فإن لم يتطابق القبول مع الإيجاب، وحدثت مخالفة بينهما، لا ينعقد العقد،
كأن خالف القابل في محل العقد، فقبل غيره، أو بعضه، مثل قول البائع: بعتك
الأرض الفلانية، فيقول المشتري: قبلت شراء الأرض المجاورة لها، أو قبلت
شراء نصفها بنصف الثمن المتفق عليه، فلا ينعقد العقد لمخالفته محل العقد،
أو لتفرق الصفقة على البائع، والمشتري لا يملك تفريقها أي تجزئتها.
وإذا خالف في مقدار الثمن، فقبل بأقل مما ذكر البائع، لا ينعقد العقد
أيضاً، وكذا لو خالف في وصف الثمن لا في قدره، كأن أوجب البائع بثمن حال
نقدي، فقبل المشتري بثمن مؤجل، أو أوجب بأجل إلى شهر معين، فقبل المشتري
بأجل أبعد منه، لم ينعقد البيع في الحالتين، لعدم تطابق القبول مع الإيجاب،
وحينئذ لابد من إيجاب جديد.
ويختلف القانون المدني مع الفقه الحنفي في حالة المخالفة إلى خيرللموجب، إذ
يقرر القانونيون (1) أن العقد لا يتم، كما يفهم من صريح المادة (97) مدني
_________
(1) الوسيط للسنهوري: ص 219 ومابعدها.
(4/2944)
سوري «إذا اقترن القبول بما يزيد في
الإيجاب أو يقيد منه أو يعدل فيه، اعتبر رفضاً يتضمن إيجاباً جديداً» لكن
يتفق ذلك مع ظاهر مذهب الشافعي (1).
3 - اتصال القبول بالإيجاب: بأن يكون الإيجاب والقبول في مجلس واحد إن كان
الطرفان حاضرين معاً، أو في مجلس علم الطرف الغائب بالإيجاب.
ويتحقق الاتصال بأن يعلم كل من الطرفين بما صدر عن الآخر بأن يسمع الإيجاب
ويفهمه، وبألا يصدر منه ما يدل على إعراضه عن العقد، سواء من الموجب أو من
القابل.
ومجلس العقد: هو الحال التي يكون فيها
المتعاقدان مشتغلين فيه بالتعاقد. وبعبارة أخرى: اتحاد الكلام في موضوع
التعاقد.
ويشترط لتحقيق معنى اتصال القبول بالإيجاب شروط
ثلاثة هي (2):
أولها ـ أن يكونا في مجلس واحد، وثانيها ـ ألا يصدر من أحد العاقدين ما يدل
على إعراضه، ثالثها ـ ألا يرجع الموجب في إيجابه قبل قبول القابل الآخر.
الشرط الأول ـ أن يتحد مجلس الإيجاب والقبول:
فلا يجوز أن يكون الإيجاب في مجلس، والقبول في مجلس آخر؛ لأن الإيجاب لا
يعد جزءاً من العقد إلا إذا التحق به القبول. فلو قال البائع: بعتك الدار
بثمن كذا، أو آجرتك المنزل بأجرة كذا، ثم انتقل الموجب إلى مكان آخر بعيد
عن مجلسه الأول بحوالي مترين أو ثلاثة، أو إلى غرفة أخرى، انتهى المجلس
الأول، فإذا قبل القابل بعد هذا الانتقال لم ينعقد العقد، ويحتاج إلى إيجاب
جديد؛ لأن الإىجاب كلام اعتباري لا بقاء له إذا لم ينضم إليه القبول في حال
واحدة من المجلس.
_________
(1) مغني المحتاج: 6/ 2.
(2) الملكية ونظرية العقد للأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة: ص 175، ط 1939.
(4/2945)
وهل تشترط
الفورية في القبول؟ قرر جمهور الفقهاء (الحنفية والمالكية والحنابلة
(1)) أنه لا يشترط الفور في القبول، لأن القابل يحتاج إلى فترة للتأمل، فلو
اشترطت الفورية لا يمكنه التأمل، وإنما يكفي صدور القبول في مجلس واحد، ولو
طال الوقت إلى آخر المجلس؛ لأن المجلس الواحد يجمع المتفرقات للضرورة، وفي
اشتراط الفورية تضييق على القابل، أو تفويت للصفقة من غير مصلحة راجحة، فإن
رفض فوراً، فتضيع عليه الصفقة، وإن قبل فوراً، فربما كان في العقد ضرر له،
فيحتاج لفترة تأمل؛ للموازنة بين ما يأخذ أو يغنم وبين ما يعطي أو يغرم في
سبيل العقد، وقدرت فترة التأمل بمدة مجلس العقد؛ لأن المجلس جامع
للمتفرقات، فتعتبر ساعة واحدة زمنية تيسيراً على الناس، ومنعاً للمضايقة
والحرج، ودفعاً للضرر عن العاقد قدر الإمكان.
وقد أخذ القانون المدني في المادة 95/ 2 بهذا الرأي، فلم يشترط الفورية
فيالقبول، وصرح الأستاذ السنهوري بأن القانون أخذ هذا من الفقه الحنفي (2).
وقال الرملي من الشافعية (3): يشترط أن يكون القبول فور الإيجاب، فلو تخلل
لفظ أجنبي لا تعلق له بالعقد ولو يسيراً بأن لم يكن من مقتضاه ولا من
مصالحه ولا من مستحباته، لا يتحقق الاتصال بين القبول والإيجاب، فلا ينعقد
العقد. لكن لو قال المشتري بعد توجيه الإيجاب له: بسم الله والحمد لله
والصلاة والسلام على رسول الله، قبلت، أي (الشراء) صح العقد.
_________
(1) البدائع: 5/ 137، فتح القدير: 5/ 78، الشرح الكبير للدردير: 3/ 5،
الشرح الصغير: 3حاشية ص17، غاية المنتهى: 2/ 4، مواهب الجليل للحطاب: 4/
240، الشرح الكبير مع المغني: 4/ 4.
(2) الوسيط للسنهوري: ص215.
(3) نهاية المحتاج: 3/ 8، مغني المحتاج: 2/ 6.
(4/2946)
واتجاه الشافعية هذا متفق مع الأصل في
القبول: وهو أن يتصل بالإيجاب مباشرة وفوراً لينعقد العقد، ويخفف تشدد هذا
الرأي أخذ الشافعية بمبدأ خيار المجلس لكل من العاقدين بعد انعقاد العقد،
والذي بمقتضاه يثبت لكل من العاقدين حق فسخ العقد ما داما في المجلس لم
يفترقا عنه بأبدانهما.
هذا وقد فسر غير الرملي من الشافعية اتصال القبول بالإيجاب بأنه السائد
عرفاً بين الناس، فلا يضر الفصل اليسير ويضر الطويل وهو ما أشعر بإعراضه عن
القبول. فيكون رأي الشافعية كغيرهم (1).
حكم إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة
تمهيد:
تمكن أبناء العالم المعاصر من إنجاز كثير من معاملاتهم وعقودهم المالية
بواسطة آلات الاتصال الحديثة، كالهاتف والبرقية واللاسلكي والتلكس والفاكس
ونحوها، وأصبح ضرورياً معرفة كيفية إبرام تلك العقود من الناحية الشرعية،
وهذا ما أبينه هنا بالاعتماد على ما كتبه فقهاؤنا وقرروه عند الكلام على
صيغة العقد، وشروط الإيجاب والقبول، وشروط تحقيق معنى اتصال القبول
بالإيجاب ليكون شطرا العقد في مجلس واحد.
وبما أن هذه المعلومات معروفة في الجامعات، فأكتفي بإيجازها هنا، لتكون
مدخلاً للحكم على موضوع البحث.
صيغة العقد: هي ماصدر من المتعاقدين
دالاً على توجه إرادتهما الباطنة
_________
(1) حاشية الباجوري على ابن قاسم الغزي: 354/ 1، المجموع للنووي: 179/ 9.
(4/2947)
لإنشاء العقد وإبرامه. وتعرف تلك الإرادة
الباطنة بواسطة اللفظ أو القول أو ما يقوم مقامه من الفعل (المعاطاة) أو
الإشارة أو الكتابة. وهذه الصيغة هي الإيجاب والقبول الدالان على تراضي
الجانبين بإنشاء التزام بينهما، وتسمى الصيغة عند القانونيين التعبير عن
الإرادة.
والتعبير عن الإرادة العقدية الجازمة يكون بأي صيغة تدل عرفاً أو لغة على
إنشاء العقد، سواء بالقول أو بالفعل أو بالإشارة أو بالكتابة (1).
والقول أو اللفظ مثل بعت واشتريت، ورهنت وارتهنت، ووهبت وقبلت، وزوجت
وتزوجت.
والفعل أو المعاطاة أو المراوضة: هو التعاقد بالمبادلة الفعلية الدالة على
التراضي دون تلفظ بإيجاب أو قبول (2)، كأن يأخذ المشتري المبيع ويدفع الثمن
للبائع دون كلام من كلا الطرفين أو من أحدهما، سواء أكان المبيع حقيراً
بسيطاً أم نفيساً. وهذا جائز عند جمهور العلماء غير الشافعية، لتعارفه بين
الناس، لكن عقد الزواج بالإجماع لا ينعقد ولا يصح بالفعل أو بالمعاطاة
كإعطاء المهر مثلاً، بل لا بدّ فيه من النطق بالإيجاب والقبول، لخطورته
وأهميته، وتأثيره الدائم على المرأة، وحفاظاً على حرمات الأعراض المصونة
شرعاً.
ويجوز انعقاد العقد بإشارة الأخرس أو معتقل اللسان المفهومة باتفاق الفقهاء
للضرورة، حتى لا يحرم من حق التعاقد، لذا نصت القاعدة الفقهية: «الإشارات
المعهودة للأخرس كالبيان باللسان» (المجلة: م 70).
وأجاز فقهاء المالكية والحنابلة
_________
(1) مجلة الأحكام العدلية (م 173، 174).
(2) المجلة (م 175).
(4/2948)
التعبير عن الإرادة من الناطق بالإشارة
المفهمة المتداولة عرفاً، لأنها أولى في الدلالة من الفعل الذي ينعقد به
العقد، كما في المعاطاة (1).
ويصح التعاقد بالكتابة بين طرفين في رأي الحنفية والمالكية سواء أكانا
ناطقين أم عاجزين عن النطق، حاضرين في مجلس واحد أم غائبين، وبأي لغة
يفهمها المتعاقدان، بشرط أن تكون الكتابة مستبينة (بأن تبقى صورتها بعد
الانتهاء منها) ومرسومة (مسطرة بالطريقة المعتادة بين الناس بذكر المرسل
إليه وتوقيع المرسل) فإذا كانت غير مستبينة كالكتابة على الماء أو في
الهواء، أو غير مرسومة كالرسالة الخالية من التوقيع مثلاً، لم ينعقد بها
العقد (2)، وعليه نصت القاعدة الفقهية: (الكتاب كالخطاب) (المجلة: م 96).
مثل أن يرسل شخص خطاباً لآخر يقول فيه: (بعتك سيارتي بكذا) فإذا وصله
الكتاب، وقال في مجلس قراءة الكتاب: قبلت، انعقد البيع. أما إن ترك المجلس
أو صدر منه ما يدل على الإعراض عن الإيجاب، كان قبوله غير معتبر.
وإرسال رسول إلى آخر حامل مضمون الإيجاب مثل إرسال الكتاب، ويعتبر مجلس
وصول الرسول هو مجلس العقد، فيلتزم أن يقبل فيه، فإن قام من المجلس قبل أن
يقبل، انتهى مفعول الإيجاب، ويكون المعول عليه هو مجلس بلوغ الرسالة أو
الكتابة، كأن يقول شخص: بعت لفلان كذا، فاذهب يا فلان وقل له هذا، فذهب
فأخبره، فقبل المشتري في مجلسه ذلك، صح العقد.
ومهمة الرسول أضعف من مهمة الوكيل، لأن الرسول مجرد مفوض بنقل تعبير المرسل
دون زيادة أو نقصان، أما الوكيل فإنه يتولى إبرام العقد بعبارته، ولا
_________
(1) الشرح الكبير للدردير: 3/ 3، المغني: 562/ 5.
(2) الدر المختار ورد المحتار لابن عابدين: 10/ 4 وما بعدها، فتح القدير:
79/ 5، البدائع: 137/ 5، الشرح الكبير للدردير مع الدسوقي: 3/ 3.
(4/2949)
يتقيد في الوكالة المطلقة إلا بالمعتاد
المتعارف عليه، أما في الوكالة المقيدة بمكان أو زمان أو شخص أو محل معقود
عليه أو بدل عقدي فيتم التعاقد بين الوكيل والقابل بعبارة الوكيل المقيدة
بقيود الوكالة، وتعود حقوق العقد أي الالتزامات إلى الوكيل بعكس الرسول لا
يتحمل شيئاً منها، أما حكم العقد الأصلي أي نقل الملكية فيعود إلى الموكل
والمرسل على السواء.
ولا ينعقد عقد الزواج بالكتابة إذا كان العاقدان حاضرين في مجلس واحد، إلا
في حال العجز عن النطق كالخرس، لأن الزواج يشترط لصحته حضور الشهود العدول
وسماعهم كلام العاقدين، وهذا لا يتيسر في حال الكتابة.
وقيد الشافعية والحنابلة صحة التعاقد مطلقاً بالكتابة أو الرسالة فيما إذا
كان العاقدان غائبين، أما في حال الحضور فلا حاجة إلى الكتابة، لأن العاقد
قادر على النطق، فلا ينعقد العقد بغيره (1).
كيفية إبرام التعاقد بالهاتف واللاسلكي ونحوهما
من وسائل الاتصال الحديثة:
ليس المراد من اتحاد المجلس المطلوب في كل عقد كما بينا كون المتعاقدين في
مكان واحد، لأنه قد يكون مكان أحدهما غير مكان الآخر، إذا وجد بينهما واسطة
اتصال، كالتعاقد بالهاتف أو اللاسلكي أو بالمراسلة (الكتابة) وإنما المراد
باتحاد المجلس: اتحاد الزمن أو الوقت الذي يكون المتعاقدان مشتغلين فيه
بالتعاقد، فمجلس العقد: هو الحال التي يكون فيها المتعاقدان مقبلين على
التفاوض في العقد (2)، وعن هذا قال الفقهاء «إن المجلس يجمع المتفرقات»
(3).
_________
(1) المهذب: 257/ 1، غاية المنتهى: 4/ 2.
(2) المدخل الفقهي العام للأستاذ مصطفى الزرقاء: ف 171.
(3) البدائع: 137/ 5.
(4/2950)
وعلى هذا يكون مجلس العقد في المكالمة
الهاتفية أو اللاسلكية: هو زمن الاتصال ما دام الكلام في شأن العقد، فإن
انتقل المتحدثان إلى حديث آخر انتهى المجلس.
ومجلس التعاقد بإرسال رسول أو بتوجيه خطاب أو بالبرقية أو التلكس أو الفاكس
ونحوها: هو مجلس تبليغ الرسالة، أو وصول الخطاب أو البرقية أو إشعار التلكس
والفاكس، لأن الرسول سفير ومعبر عن كلام المرسل، فكأنه حضر بنفسه وخوطب
بالإيجاب فقبل، في المجلس. فإن تأخر القبول إلى مجلس ثان، لم ينعقد العقد.
وبه تبين أن مجلس التعاقد بين حاضرين: هو محل صدور الإيجاب، ومجلس التعاقد
بين غائبين: هو محل وصول الكتاب أو تبليغ الرسالة، أو المحادثة الهاتفية.
لكن للمرسل أو للكاتب أن يرجع عن إيجابه أمام شهود، بشرط أن يكون قبل قبول
الآخر ووصول الرسالة أو الخطاب ونحوه من الإبراق والتلكس والفاكس. ويرى
جمهور المالكية أنه ليس للموجب الرجوع قبل أن يترك فرصة للقابل يقرر العرف
مداها، كما تقدم.
هذا وإن بقية شروط الإيجاب والقبول عدا اتحاد المجلس لا بد من توافرها في
وسائط الاتصال الحديثة.
زمن إتمام العقد في التعاقد بين غائبين:
أجمع الفقهاء على أن العقد ينعقد بين الغائبين كما في آلات الاتصال الحديثة
بمجرد إعلان القبول، ولا يشترط العلم بالقبول بالنسبة للطرف الموجب الذي
وجه الإيجاب (1).
_________
(1) التعبير عن الإرادة في الفقه الإسلامي للدكتور وحيد سوار: ص 118، طبع
الجزائر.
(4/2951)
فلو كان المتعاقدان يتحدثان بالهاتف أو
بالاسلكي، وقال أحدهما للآخر: بعتك الدار أو السيارة الفلانية، وقال الآخر:
قبلت، انعقد العقد، بمجرد إعلان القبول، ولو لم يعلم الموجب بالقبول، بأن
انقطع الاتصال بينهما.
ولو وجهّ أحد العاقدين خطاباً أو برقية إلى آخر أو تلكساً أو فاكساً، وفيها
إيجاب ببيع شيء، أو بإبرام عقد زواج، انعقد العقد بعد وصول البرقية أو
الخطاب ونحوهما، وإعلان الآخر قبوله، دون حاجة إلى علم الموجب أو سماعه
بالقبول.
لكن إبعاداً لكل لبس أو غموض، وتمكيناً من إثبات العقد، وتأكيداً لإبرامه،
جرى العرف الحاضر في التلكس مثلاً ونحوه على إرسال تلكس العرض، ثم تلكس
القبول، ثم تلكس البيع، وساعد على ترسيخ هذا العرف ما تنص عليه بعض
القوانين الوضعية كالقانون المدني المصري، فإنه نص على ما يلي:
في التعاقد بين حاضرين: تنص المادة (91) على أن «التعبير عن الإرادة ينتج
أثره في الوقت الذي يتصل فيه بعلم من وجه إليه، ويعتبر وصول التعبير قرينة
على العلم به، ما لم يقم الدليل على عكس ذلك» واشتراط السماع أو العلم
بالقبول حتى بين الحاضرين أخذ به بعض فقهاء الحنفية مثل النسفي وابن كمال
باشا.
وفي التعاقد بين غائبين: تنص المادة (97) على ما يلي: «يعتبر التعاقد ما
بين الغائبين قد تم في المكان وفي الزمان اللذين يعلم فيهما الموجب
بالقبول، مالم يوجد اتفاق أو نص قانوني بغير ذلك، ويفترض أن الموجب قد علم
بالقبول في المكان والزمان اللذين وصل إليه فيهما هذا القبول».
وأرى الأخذ بضرورة العلم بالقبول بالنسبة للموجب في التعاقد بين غائبين
بسبب تقدم وسائل الاتصال الحديثة وتعقد المعاملات، وتحقيقاً لاستقرار
التعامل
(4/2952)
ومنعاً لإيقاع الموجب في القلق، وتمكيناً
من إثبات العقد وإلزام القابل، فإن جهل الموجب بالقبول يوقعه في حرج شديد،
وهذا
رأي الأستاذ الدكتور عبد الرزاق السنهوري (1).
التعاقد حالة المشي أو الركوب:
إذا تعاقد شخصان على ظهر سفينة أو متن طائرة، أو في قطار أو سيارة، انعقد
العقد، سواء أكانت هذه الوسائل واقفة أم ماشية؛ لأن الشخص لا يستطيع إيقاف
تلك الوسائل، فاعتبر مجلس العقد فيها مجلساً واحداً، مما يؤكد أن المقصود
من اتحاد المجلس اتحاد الزمان وليس الاتحاد المكاني المادي.
لكن إذا كان العاقدان ماشيين على الأقدام، أو راكبين دابة واحدة أو دابتين،
فقد تشدد الحنفية في تصور المجلس، فقالا: إذا تم القبول متصلاً بالإيجاب،
انعقد العقد، حتى ولو مشيا خطوة واحدة، أو خطوتين. فإن مشيا خطوات ثلاثاً
فأكثر، ثم حدث القبول، لم ينعقد العقد؛ لأن العاقدين يستطيعان الوقوف، أو
إيقاف الدابة لمداولة العقد، فإن سارا فقد تبدل المجلس قبل القبول. ويجعل
السير دليلاً على الإعراض عن العقد (2).
وهذا ما حدا بالدكتور السنهوري إلى القول بأن نصوص المذهب الحنفي أغرقت في
تصوير مجلس العقد تصويراً مادياً لا سبيل إلى مجاراتها فيه (3).
الشرط الثاني ـ ألا يصدر من أحد العاقدين ما
يدل على إعراضه عن العقد:
_________
(1) مصادر الحق: 57/ 2.
(2) البدائع: 232/ 2، و 137/ 5، فتح القدير: 78/ 5 - 80.
(3) مصادر الحق للسنهوري: 7/ 2.
(4/2953)
بأن يكون الكلام في موضوع العقد، وألا
يتخلله فصل بكلام أجنبي يعد قرينة على الإعراض عن العقد.
فإن ترك الموجب مجلس العقد قبل قبول الآخر، أو ترك الطرف الآخر المجلس بعد
صدور الإيجاب، أو انشغل الطرفان في موضوع آخر لا صلة له بالعقد، بطل
الإيجاب. ولو قبل الآخر حينئذ لا يعتبر قبوله متمماً للعقد؛ لأن الإيجاب
ذهب ولم يبق له وجود، إذا لم يتعانق مع القبول، وسبب ذهابه أنه كلام
اعتباري لا بقاء له إذا لم يتصل بالقبول، ويجعل باقياً مدة المجلس من باب
التيسير على الطرفين ودفع العسر عنهما ليمكن تلاقي القبول به، وانعقاد
العقد.
متى يصير المجلس قد تغير؟
العرف الشائع بين الناس هو المحكم في بيان اتحاد المجلس أو تغيره، فإذا صدر
القبول في حال اتحاد المجلس، نشأ العقد، وإذا صدر القبول بعد تغير المجلس
لم يعتبر ولم ينشأ به العقد. وضابط ذلك أن القبول يكون معتبراً ما دام لم
يتخلل بينه وبين الإيجاب ما يعد إعراضاً عن العقد من أحد الطرفين، وما دام
المجلس قائماً (1).
وتحقيق هذا المبدأ عند الحنفية (2): أنه لو أوجب أحد الطرفين البيع، فقام
الآخر عن المجلس قبل القبول، أو اشتغل بعمل آخر يوجب اختلاف المجلس، ثم
قبل، لا ينعقد العقد؛ لأن القيام دليل الإعراض والرجوع عن العقد.
والاحتكام إلى العرف في بيان ما يغير المجلس متفق عليه بين المذاهب (3) حتى
_________
(1) الأموال ونظرية العقد للدكتور محمد يوسف موسى: ص 259.
(2) البدائع: 137/ 5، فتح القدير والهداية: 78/ 5 و 80.
(3) مواهب الجليل للحطاب: 240/ 4 ومابعدها، المجموع للنووي: 201/ 9، مغني
المحتاج: 45/ 2، المحلي على المنهاج: 191/ 2، الباجوري على ابن قاسم:360/
1، غاية المنتهى: 4/ 2.
(4/2954)
عند بعض الشافعية القائلين بفورية القبول؛
لأن الفورية شيء، والحكم بتغير المجلس شيء آخر، فإنهم قالوا: يعتبر العرف
في تفرق العاقدين عن المجلس، فما يعده الناس تفرقاً يلزم به العقد، وما لا
فلا؛ لأن ما ليس له حد في اللغة ولا في الشرع، يرجع فيه إلى العرف، فلو كان
العاقدان في دار كبيرة يتغير المجلس بالخروج من البيت إلى صحن الدار، أو
بالعكس، وإن كانا في دار صغيرة أو في سفينة أو مسجد صغير يتغير المجلس
بخروج أحدهما منه، أوبصعود السطح، وإن كانا في سوق أوصحراء يتغير المجلس
بأن يولي أحدهما ظهره ويمشي قليلاً كثلاث خطوات. ولو تناديا بالعقد من مكان
بعيد، بقي المجلس ما لم يفارق أحدهما مكانه، فإن مشى كل منهما ولو إلى
صاحبه، تغير المجلس. ولو تماشى الطرفان مسافة دام المجلس، وإن زادت المدة
على ثلاثة أيام ما لم يعرضا عما يتعلق بالعقد.
الشرط الثالث ـ ألا يرجع الموجب في إيجابه قبل
قبول القابل:
لا بد لانعقاد العقد من استمرار الموجب على إيجابه الذي وجهه للقابل، فإن
عدل عن إيجابه، لم يصح القبول.
وهل يصح العدول عن الإيجاب في مجلس العقد؟
أجاب جمهور الفقهاء (الحنفية والشافعية والحنابلة) (1) بأنه للموجب أن يرجع
عن إيجابه قبل صدور القبول من الطرف الآخر، ويبطل الإيجاب حينئذ؛ لأن
الالتزام بالعقد لم ينشأ بعد، ولا ينشأ إلا بارتباط القبول بالإيجاب، ولأن
الموجب حر التصرف بملكه وحقوقه، وبإيجابه أثبت للطرف الآخر حق التملك، وحق
الملك أقوى من حق التملك، فيقدم عليه عند التعارض؛ لأن الأول ثابت
_________
(1) البدائع: 134/ 5، مغني المحتاج: 43/ 2، غاية المنتهى: 29/ 2.
(4/2955)
لصاحبه أصالة والثاني لا يثبت إلا برضا
الطرف الأول، والتراضي بين الجانبين أساسي لصحة العقود.
والقانون المدني في المادة (95) يتفق مع هذا الرأي، فإنه إذا لم يتعين
ميعاد للقبول يجوز للموجب التحلل من إيجابه إذا لم يصدر القبول فوراً.
وقال أكثرية المالكية (1): ليس للموجب الرجوع عن إيجابه، وإنما يلتزم
بالبقاء على إيجابه حتى يعرض الطرف الآخر عنه، أو ينتهي المجلس؛ لأن الموجب
قد أثبت للطرف الآخر حق القبول والتملك، فله استعماله وله رفضه، فإذا قبل
ثبت العقد، وإذا أعرض عن الإيجاب لم ينشأ العقد. وعليه لا يكون الرجوع
مبطلاً للإيجاب.
تعيين مدة للقبول: إذا حدد الموجب للطرف
الآخر مدة للقبول، فيلتزم بها عند فقهاء المالكية؛ لأنهم قالوا كما تقدم:
ليس للموجب الرجوع عن إيجابه قبل قبول الآخر، فيكون من باب أولى ملتزماً
بالبقاء على إيجابه إذا عين ميعاداً للقبول كأن يقول: أنا على إيجابي مدة
يومين مثلاً، فيلزمه هذا التقييد ولو انتهى المجلس. وهذا يتفق مع المبدأ
العام في الشريعة وهو «المسلمون على شروطهم» (2)، ومثل هذا الشرط لا ينافي
مقتضى العقد.
والقانون المدني في المادة (94) يقرر ذلك: «إذا عين ميعاد للقبول التزم
الموجب بالبقاء على إيجابه إلى أن ينقضي هذا الميعاد. وقد يستخلص الميعاد
من ظروف الحال، أو من طبيعة التعامل».
_________
(1) مواهب الجليل للحطاب: 241/ 4.
(2) هو حديث نبوي رواه الترمذي عن عمرو بن عوف، وقال: هذا حديث حسن صحيح
(نيل الأوطار: 254/ 5).
(4/2956)
العقود التي لا
يشترط فيها اتحاد المجلس:
اتحاد المجلس شرط في جميع العقود ما عدا ثلاثة: الوصية، والإيصاء،
والوكالة.
أما الوصية (وهي تصرف مضاف إلى مابعد الموت): فيستحيل فيها تحقق اتحاد
المجلس؛ لأن القبول لا يصح من الموصى له في حال حياة الموصي، وإنما يكون
بعد وفاته مصراً على الوصية.
وأما الإيصاء (وهو جعل الغير وصياً على أولاده ليرعى شؤونهم بعد وفاته):
فلا يلزم صدور القبول في حياة الموصي، وإنما يصح بعد وفاته، وعلى كل حال لا
يصبح وصياً إلا بعد وفاة الموصي، وإن قبل في حياته.
وأما الوكالة (وهي تفويض التصرف والحفظ إلى الوكيل في أثناء الحياة) فمبنية
على التوسعة واليسر والسماحة، فلا يشترط فيها اتحاد المجلس؛ لأن قبولها قد
يكون باللفظ (القول)، أو بالفعل بأن يشرع الوكيل في فعل ما وكل فيه، ويصح
فيها توكيل الغائب (أي غير الموجود في مجلس العقد)، فبمجرد علمه بالتوكيل
له القيام بالعمل الموكل فيه (1).
وكالوكالة عند الحنابلة: كل عقد جائز غير لازم يصح القبول فيه على التراخي،
مثل الشركة والمضاربة والمزارعة والمساقاة، والوديعة والجعالة.
مبطلات الإيجاب: يبطل الإيجاب بالأمور
التالية (2):
_________
(1) البدائع: 20/ 6 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 328، نهاية المحتاج: 21/
4، مغني المحتاج: 222/ 2، غاية المنتهى: 147/ 2.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 21/ 4، فتح القدير: 80/ 5 ومابعدها،
الشرح الكبير: 5/ 3، مغني المحتاج: 6/ 2، غاية المنتهى: 5/ 2.
(4/2957)
1 - رجوع الموجب عنه قبل القبول في المجلس،
على رأي الجمهور.
2 - رفض الإيجاب من الطرف الآخر، إما صراحة كأن يقول: لا أقبل، أو ضمناً
كأن يعرض عنه إما بالقيام عن المجلس بعد القعود، أو بالاشتغال بعمل آخر
كأكل، أو سماع حديث آخر، أو قراءة خبر صحفي ونحوه.
3 - انتهاء مجلس العقد، بتفرق العاقدين عرفاً؛ لأن الإيجاب يظل قائماً في
المجلس، فلما انتهى بطل مفعوله، لأن المجلس يجمع المتفرقات.
4 - خروج الموجب عن أهليته قبل القبول بالموت أو بالجنون أو بالإغماء ونحوه
وكذا فقد القابل أهليته بهذه الأسباب؛ لأن انعقاد العقد يتوقف على توافر
الأهلية، فإذا فقدت لم ينعقد العقد، لاحتمال وجود الرجوع عن الإيجاب، أو
لعدم فهم القبول، أو لعدم صدور قبول معتبر شرعاً.
5 - هلاك محل العقد قبل القبول، أو تغيره بما يصيره شيئاً آخر، مثل قلع عين
حيوان، أو انقلاب عصير العنب خمراً، ونحو ذلك.
العنصر الثاني ـ العاقد:
الإيجاب والقبول اللذان يكونان ركن العقد كما تقدم، لا يتصور وجودهما من
غير عاقد، فالعاقد ركيزة التعاقد الأصلية. لكن ليس كل واحد صالحاً لإبرام
العقود، فبعض الناس لا يصلح لأي عقد، وبعضهم يصلح لإنشاء بعض العقود،
وآخرون صالحون لكل عقد.
وهذا يعني أن العاقد لا بد له من أهلية للتعاقد بالأصالة عن نفسه، أو ولاية
شرعية للتعاقد بالنيابة عن غيره.
(4/2958)
ويستلزم ذلك بحث الأهلية والولاية، لكن
بقدر إجمالي، وأما تفصيل أحكام الأهلية والولاية فمتروك لكتب الفقه والأصول
(1) المطولة، ولمادة الأحوال الشخصية ومدخل القانون، إذ إن نصوص الأهلية
والولاية موزعة بين قانون الأحوال الشخصية والقانون المدني السوريين.
والذي يهمنا من بحث الأهلية أن العاقد يشترط فيه عند الحنفية والمالكية
(2): أن يكون عاقلاً أي مميزاً أتم سن السابعة (3)، فلا ينعقد تصرف غير
المميز لصغر أو إغماء أو جنون، وتصح تصرفات الصبي المميز (4) المالية على
التفصيل الآتي (راجع المادة (967 من المجلة):
أـ التصرفات النافعة نفعاً محضاً: وهي التي يترتب عليها دخول شيء في ملكه
من غير مقابل، كالاحتطاب، والإحتشاش والاصطياد، وقبول الهبة والصدقة
والوصية والكفالة بالدين، تصح من الصبي المميز دون إذن ولا إجازة من الولي،
لأنها لنفعه التام.
ب ـ التصرفات الضارة ضرراً محضاً: وهي التي يترتب عليها خروج شيء من ملكه
دون مقابل، كالطلاق والهبة والصدقة والإقراض وكفالته لغيره بالدين أو
بالنفس لا تصح من الصبي العاقل ولا تنفذ، ولو أجازها وليه؛ لأن الولي لا
يملك إجازة هذه التصرفات لما فيها من الضرر.
_________
(1) راجع كتب الأصول وكتابي أصول الفقه الإسلامي: 163/ 1 ومابعدها، ط دار
الفكر.
(2) حاشية ابن عابدين: 5/ 4، الشرح الكبير: 5/ 3.
(3) المميز: هو الذي إذا كلم بشيء من مقاصد العقلاء فهمه وأحسن الجواب عنه.
(4) اشترط الشافعية والحنابلة لانعقاد العقود: الرشد وهو البلوغ مع العقل،
وصلاح الدين والمال، فلا يصح التصرف من صبي ولا مجنون ولا من محجور عليه
بسفه أي تبذير المال. واستثنى الحنابلة شراء الشيء اليسير وتصرف الصبي بإذن
وليه (مغني المحتاج: 7/ 2، غاية المنتهى: 5/ 2).
(4/2959)
ج ـ التصرفات المترددة بين الضرر والنفع:
وهي التي تحتمل الربح والخسارة كالبيع والشراء والإيجار والاستئجار والزواج
والمزارعة والمساقاة والشركات ونحوها، تصح من الصبي المميز، ولكنها تكون
موقوفة على إذن الولي أو إجازته مادام صغيراً أو على إجازته لنفسه بعد
البلوغ؛ لأن للمميز جانباً من الإدراك غير قليل (1). فإن أجيزت نفذت، وإلا
بطلت، والإجازة تجبر نقص الأهلية.
والأشخاص بالنسبة للأهلية: إما عديم الأهلية وغير المميز فتعد تصرفاتهما
باطلة، أو ناقص الأهلية كالصبي المميز فيصح بعض تصرفاته، ويبطل بعضها
الآخر، ويتوقف بعضها على الإجازة على التفصيل السابق، أو كامل الأهلية وهو
الراشد الذي تصح منه كل التصرفات وتنفذ ما لم يكن محجوراً عليه بسبب السفه
أو الدين، أو كان ممنوعاً من التصرف بسبب مرض الموت أو الفقد أو الغياب.
وكل ذلك يضطرنا إلى بحث الأهلية والولاية.
وبه تعرف أحكام الأهلية إجمالاً علماً بأن القانون المدني استمد أحكامها من
الفقه الإسلامي وذلك في المواد (46 - 50) وقد اعتبر القانون أحكام الأهلية
من قواعد النظام العام التي لا يجوز للأفراد الاتفاق على خلافها، فكل اتفاق
مخالف لأحكامها باطل، ولا يجوز للشخص التنازل عن أهليته ولا التعديل في
أحكامها (المادة 50).
أولاً ـ الأهلية: الأهلية في اللغة: الصلاحية، وفي اصطلاح الفقهاء: هي
صلاحية الشخص لثبوت الحقوق المشروعة له ووجوبها عليه، وصحة التصرفات منه.
وهي نوعان: أهلية وجوب، وأهلية أداء (2).
_________
(1) التلويح على التوضيح: 165/ 2 ومابعدها.
(2) مرآة الأصول: 435/ 2، التقرير والتحبير: 164/ 2، كشف الأسرار على أصول
البزدوي ص 1357، حاشية نسمات الأسحار: ص 272.
(4/2960)
أـ أهلية الوجوب:
هي صلاحية الشخص للإلزام والالتزام، أو هي صلاحية الشخص لثبوت الحقوق له
كاستحقاق قيمة المتلف من ماله، أو وجوبها عليه كالتزامه بثمن المبيع وعوض
القرض، أي أن لهذه الأهلية عنصرين:
عنصر إيجابي: وهو صلاحية كسب الحقوق بأن يكون دائناً، وهو عنصر الإلزام أو
الدائنية.
وعنصر سلبي: وهو صلاحية تحمل الواجبات أو الالتزامات بأن يكون مديناً، وهو
عنصر الالتزام أو المديونية.
ومناط هذه الأهلية: هو الحياة أو الصفة الإنسانية (1)، فكل إنسان حتى
الجنين في بطن أمه له أهلية وجوب، والأهلية تبدأ في الفقه مع بدء الشخصية،
فهي ملازمة للشخصية، وصفة من صفات الشخصية. والشخصية تبدأ في فقهنا منذ بدء
تكون الجنين في الرحم وتنتهي بالموت.
وفي القانون المدني تبدأ بتمام ولادة الإنسان حياً، وتنتهي بموته (م 31).
والعنصر السلبي للأهلية (أي المديونية) يتطلب وجود شيء آخر في الشخصية وهو
الذمة: وهي وصف شرعي مقدر كوعاء اعتباري في الشخص تثبت فيه الديون
والالتزامات المترتبة عليه.
وبناء عليه: يتوقف ثبوت الحق للشخص على وجود أهلية فيه. وأما ثبوت الديون
عليه فيتوقف على وجود ظرف اعتباري مفترض في كل شخص هو الذمة.
فيقال: لفلان في ذمة فلان مبلغ مالي كذا (2).
_________
(1) المدخل الفقهي العام للأستاذ الزرقاء: ف 408.
(2) المرجع السابق: ف 410،مدخل نظرية الالتزام في الفقه للأستاذ الزرقاء
أيضاً: ف 118 ومابعدها.
(4/2961)
وأهلية الوجوب نوعان: ناقصة وكاملة.
أهلية الوجوب الناقصة: هي صلاحية الشخص لثبوت الحقوق له فقط أي تؤهله
للإلزام ليكون دائناً لا مديناً. وتثبت للجنين في بطن أمه قبل الولادة.
وسبب نقص أهليته أمران: فهو من جهة يعد جزءاً من أمه، ومن جهة أخرى يعد
إنساناً مستقلاً عن أمه، متهيئاً للانفصال عنها بعد تمام تكوينه. لذا فإنه
تثبت له بعض الحقوق الضرورية النافعة له: وهي التي لا تحتاج إلى قبول، وهي
أربعة أنواع (1):
1 - النسب من أبويه.
2 - الميراث من قريبه المورث، فيوقف له أكبر النصيبين على تقدير كونه ذكراً
أو أنثى.
3 - استحقاق الوصية الموصى له بها.
4 - استحقاقه حصته من غلات الوقف الموقوفة عليه.
لكن الحقوق المالية الثلاثة الأخيرة ليست للجنين فيهاملكية نافذة في الحال
بل تتوقف على ولادته حياً. فإن ولد حياً ثبتت له ملكية مستندة إلى وقت وجود
سببها أي بأثر رجعي. وإن ولد ميتاً رد نصيبه إلى أصحابه المستحقين له. فغلة
الوقف تعطى لبقية المستحقين، والموصى به يرد إلى ورثة الموصي، وحصة الميراث
المجمدة له توزع لبقية الورثة. وثبوت الحق للجنين في الوقف هو رأي الحنفية
والمالكية، أما رأي الشافعية والحنابلة فلا يثبت له حق التملك إلا بالإرث
والوصية، فلا يصح عندهم الوقف على الجنين، لأنه يشترط إمكان التملك في
الحال وهو لا يتملك.
_________
(1) كشف الأسرار على أصول البزدوي: ص 1359 ومابعدها، القواعد لابن رجب
الحنبلي: ص 178 ومابعدها.
(4/2962)
أما الحقوق التي تحتاج إلى قبول كالشراء
والهبة فلا تثبت له، ولو مارسها عنه وليه (الأب أو الجد) إذ ليس له ضرورة
بها، ولأن الشراء له يلزمه بالثمن وهو ليس أهلاً للالتزام.
وأما الواجبات أو الالتزامات لغيره فلا تلزمه، كنفقة أقاربه المحتاجين (1).
والخلاصة: إن الجنين له ذمة ناقصة تؤهله لاكتساب بعض الحقوق فقط، وليست له
ذمة كاملة صالحة لاكتساب الحقوق والالتزام بالواجبات.
أهلية الوجوب الكاملة: هي صلاحية الشخص لثبوت الحقوق له، وتحمل الواجبات
(أو الالتزامات). وتثبت للشخص منذ ولادته حياً، دون أن تفارقه في جميع
أدوار حياته، فيصلح لاكتساب الحقوق والالتزام بالواجبات. ولا يوجد إنسان
فاقد لهذه الأهلية.
وتحديد وجود الولادة: فيه رأيان للفقهاء، قال الحنفية (2): تثبت أهلية
الوجوب بمجرد ظهور أكثر الجنين حياً. وقال غير الحنفية (3): لا تثبت هذه
الأهلية إلا بتمام ولادة الجنين حياً. وبهذا الرأي أخذ القانون المدني
السوري (م 13) وقانون الأحوال الشخصية السوري (م 1/ 236،2/ 260).
وأما الحقوق الثابتة للطفل بعد الولادة: فهي التي تحصل له نتيجة التصرف
الذي يمكن للولي أو الوصي أن يمارسه بالنيابة عنه، كتملك ما يشترى له أو
يوهب له.
وأما الالتزامات الواجبة على الطفل فهي كل ما يستطاع أداؤه عنه من ماله،
سواء من حقوق العباد أو من حقوق الله، وهي:
_________
(1) قرر فقهاء الحنابلة إيجاب نفقة الأقارب على الحمل من ماله (القواعد
لابن رجب: ص181).
(2) شرح السراجية: ص 216 وما بعدها.
(3) المغني: 316/ 6 ومابعدها.
(4/2963)
(1) الأعواض المالية في الأفعال المدنية
كثمن المشتريات وأجرة الدار، أو في الأفعال الجنائية كتعويض المتلفات التي
يتلفها من أموال الآخرين.
(2) والضرائب المالية للدولة كعشر الزرع وخراج الأرض (ضريبة الأراضي
الزراعية) وضريبة ورسوم الجمارك والمباني وضريبة الدخل ونحوها.
(3) والصلات الاجتماعية المنوطة بالغنى كنفقة الأقارب والمعسرين وزكاة
الفطر في رأي أبي حنيفة وأبي يوسف (1). وزكاة المال في رأي جمهور الفقهاء
غير الحنفية (2)، رعاية لمصلحة الفقراء والمحتاجين والمجتمع بصفة عامة، وهو
رأي أقوم وأفضل وأحق بالعمل، لاسيما في ظروفنا الحاضرة.
وأما الحنفية فلم يوجبوا الزكاة في مال الصبي لأنهم اعتبروها عبادة مالية،
والطفل لا يكلف بالتكاليف الدينية إلا بعد البلوغ.
ويلاحظ أن أهلية الوجوب، ولو كانت كاملة ليس لها أثر في إنشاء العقود، فكل
تصرف من الطفل غير المميز، حتى ولو كان نافعاً نفعاً محضاً له كقبول الهبة
أو الوصية، يعد باطلاً، لأن عبارته ملغاة.
كذلك لا يجب على الطفل غير المميز شيء من العبادات الدينية كالصلاة والصوم
والحج.
وأما الذمة المالية فتثبت للطفل كاملة بمجرد الولادة وتلازمه طوال الحياة.
2 - أهلية الأداء: هي صلاحية الشخص
لصدور التصرفات منه (أو لممارستها ومباشرتها) على وجه يعتد به شرعاً، وهي
ترادف المسؤولية، وتشمل
_________
(1) التلويح على التوضيح: 163/ 2 ومابعدها، ط صبيح، كشف الأسرار: ص
136ومابعدها.
(2) بداية المجتهد: 236/ 1 ومابعدها، ط الاستقامة.
(4/2964)
حقوق الله من صلاة وصوم وحج وسواها،
والتصرفات القولية أو الفعلية الصادرة عن الشخص. فالصلاة ونحوها التي
يؤديها الإنسان تسقط عنه الواجب، والجناية على مال الغير توجب المسؤولية.
وأساس ثبوتها أو مناط هذه الأهلية هو التمييز أو العقل والإدراك، فمن ثبتت
له أهلية الأداء صحت عباداته الدينية كالصلاة والصوم، وتصرفاته المدنية
كالعقود (1).
ولا وجود لهذه الأهلية للجنين أصلاً، ولا للطفل قبل بلوغ سن التمييز وهو
تمام سن السابعة. فقبل التمييز تكون هذه الأهلية منعدمة، والمجنون مثل غير
المميز لا تترتب على تصرفاتهما آثار شرعية، وتكون عقودهما باطلة، إلا أنهما
يؤاخذان مالياً بالجناية أو الاعتداء على نفس الغير أو على ماله. ويقوم
الولي (الأب أو الجد) أو الوصي بمباشرة العقود والتصرفات التي يحتاجها
الطفل غير المميز أو المجنون.
وأهلية الأداء نوعان: ناقصة وكاملة.
أهلية الأداء الناقصة: هي صلاحية الشخص لصدور بعض التصرفات منه دون البعض
الآخر، وهي التي يتوقف نفاذها على رأي غيره، وهذه الأهلية تثبت للشخص في
دور التمييز بعد تمام سن السابعة إلى البلوغ. ويعد في حكم المميز: الشخص
المعتوه الذي لم يصل به العته إلى درجة اختلال العقل وفقده، وإنما يكون
ضعيف الإدراك والتمييز.
ويفرق بالنسبة للمميز والمعتوه بين حقوق الله وحقوق العباد:
_________
(1) التلويح على التوضيح: 164/ 2 ومابعدها، كشف الأسرار: ص1368 ومابعدها.
(4/2965)
أما حقوق الله تعالى: فتصح من الصبي المميز
كالإيمان والكفر (1) والصلاة والصيام والحج، ولكن لا يكون ملزماً بأداء
العبادات إلا على جهة التأديب والتهذيب، ولا يستتبع فعله عهدة في ذمته، فلو
شرع في صلاة لا يلزمه المضي فيها، ولو أفسدها لا يجب عليه قضاؤها.
وأما حقوق العباد فعند الشافعي وأحمد: تعد عقود الصبي وتصرفاته باطلة.
وأما عند الحنفية: فإن تصرفاته المالية أقسام ثلاثة: نافعة نفعاً محضاً
وضارة ضرراً محضاً، ودائرة بين النفع والضرر، على النحو السابق الذي تقدم.
وأهلية الأداء الكاملة: هي صلاحية الشخص لمباشرة التصرفات على وجه يعتد به
شرعاً دون توقف على رأي غيره. وتثبت لمن بلغ الحلم عاقلاً أي للبالغ
الرشيد، فله بموجبها ممارسة كل العقود، من غير توقف على إجازة أحد.
والبلوغ يحصل إما بظهور علامة من علاماته الطبيعية كاحتلام الولد (أي
الإنزال) ومجيء العادة الشهرية (الحيض) عند الأنثى، أو بتمام الخامسة عشرة
عند جمهور الفقهاء غير أبي حنيفة لكل من الفتى والفتاة، وعليه الفتوى
والعمل، جاء في المادة (985 مجلة): «يثبت حد البلوغ بالاحتلام والإحبال
والحيض والحبل» ونصت المادة (986 مجلة): «على أن منتهى البلوغ خمس عشرة
سنة».
وقدر أبو حنيفة سن البلوغ بثماني عشرة سنة للفتى وسبع عشرة سنة للفتاة.
_________
(1) اختلف الفقهاء في صحة الكفر من الصبي بالنسبة لأحكام الدنيا مع اتفاقهم
على اعتبار الكفر منه في أحكام الآخرة. فعند أبي حنيفة ومحمد: تعتبر منه
ردته، فيحرم من الميراث وتبين امرأته. وعند أبي يوسف والشافعي: لا يحكم
بصحة ردته في أحكام الدنيا، لأن الارتداد ضرر محض لا يشوبه منفعة، فلا يصح
من الصبي ولا يحرم من الإرث ولا تبين منه امرأته بالردة.
(4/2966)
وقدره الإمام مالك لهما بتمام ثماني عشرة
سنة، وقيل بتمام السابعة عشرة سنة والدخول في الثامنة عشرة (1).
والسبب في ارتباط هذه الأهلية بالبلوغ: هو أن الأصل فيها أن تتحقق بتوافر
العقل، ولما كان العقل من الأمور الخفية ارتبط بالبلوغ، لأنه مظنة العقل،
والأحكام ترتبط بعلل ظاهرة منضبطة، فيصبح الشخص عاقلاً بمجرد البلوغ، وتثبت
له حينئذ أهلية أداءٍ كاملة ما لم يعترضه عارض من عوارض الأهلية. وعندها
يصبح الإنسان أهلاً للتكاليف الشرعية، ويجب عليه أداؤها، ويأثم بتركها،
وتصح منه جميع العقود والتصرفات، وتترتب عليه مختلف آثارها ويؤاخذ شرعاً
على جميع الأعمال أو الأفعال الجنائية الصادرة عنه.
أدوار الأهلية:
يفهم مما سبق أن أهلية الإنسان من مبدأ حياته في بطن أمه إلى اكتمال رجولته
تمر في مراحل خمس أو أدوار خمسة هي:
دور الجنين، ودور الطفولة (عدم التمييز)، ودور التمييز، ودور البلوغ، ودور
الرشد (2).
الدور الأول ـ دور الجنين: يبدأ من بدء
الحمل وينتهى بالولادة، وفيه تثبت للجنين أهلية وجوب ناقصة تمكنه من ثبوت
أربعة حقوق ضرورية له ذكرت سابقاً، وليست له أهلية أداء ولا ذمة مالية.
_________
(1) تفسير القرطبي: 37/ 5، الشرح الكبير: 393/ 3.
(2) راجع التقرير والتحبير: 166/ 2 ومابعدها، مرآة الأصول: 452/ 2
ومابعدها، فواتح الرحموت: 156/ 1 وما بعدها، حاشية نسمات الأسحار: ص 273،
التلويح على التوضيح، كشف الأسرار، المرجعان السابقان.
(4/2967)
الدور الثاني ـ دور
الطفولة: ويبدأ من وقت الولادة ويستمر إلى وقت
التمييز وهو بلوغ السابعة من العمر. وفيه تثبت للطفل غير المميز أهلية وجوب
كاملة، فيستحق الحقوق ويلتزم بالواجبات التي تكون نتيجة ممارسة وليه بعض
التصرفات نيابة عنه، فإذا اشتري له أو وهب له ملك، وجب عليه العوض في
المعاوضات المالية، وتكون له ذمة كاملة.
وليست له أهلية أداء، فتكون أقواله كلها هدراً، وعقوده باطلة، حتى ولو كانت
نافعة نفعاً محضاً له كقبول الهبة أو الوصية، وينوب عنه فيها وليه الشرعي
أو وصيه. جاء في المادة (966 مجلة): «لا يصح تصرفات الصغير غير المميز وإن
أذن له وليه».
كذلك تكون أفعاله هدراً سواء أكانت دينية كالصلاة والصيام فلا تصح منه، أو
مدنية كقبض المبيع أو الوديعة أو القرض، فلا تصح.
وأما جناياته كالقتل والضرب والقطع فلا تستوجب العقوبة البدنية، كالقصاص
والحبس، ولا يحرم من الميراث بقتل مورثه لسقوط المؤاخذة عنه، وإنما يلزم في
ماله بدفع التعويض أو ضمان ما أتلفه من الأنفس والأموال حفاظاً عليها.
الدور الثالث ـ دور التمييز: يبدأ بعد
سن السابعة ويستمر إلى البلوغ عاقلاً.
ومعنى التمييز: أن يصبح الولد بحالة يميز فيها بين الخير والشر، والنفع
والضرر، ويعرف معاني الألفاظ إجمالاً، فيدرك أن البيع مثلاً سالب للمال وأن
الشراء جالب للملك.
وفيه تثبت للمميز أهلية أداء ناقصة: دينية، ومدنية، فتصح منه العبادات
البدنية كالصلاة والصيام، ويثاب عليها، وإن لم تكن مفروضة عليه. كما تصح
(4/2968)
منه مباشرة التصرفات المالية، مثل قبول
الهبة أو الصدقة مطلقاً، والبيع والشراء موقوفاً على إجازة وليه. ولا يصح
منه التصرف الضار بمصلحته كالتبرع بشيء من أمواله، على ما سبق بيانه.
الدور الرابع ـ دور البلوغ: يبدأ من
البلوغ إلى وقت الرشد. وقد اتفق الفقهاء عملاً بالآيات القرآنية (1)
والأحاديث النبوية (2) على أن البالغ يصبح مكلفاً بجميع التكاليف الشرعية.
وتكتمل لديه أهلية الأداء الدينية، فيطالب بالإيمان بعناصره الستة (بالله
وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره) وبالإسلام بأركانه
الخمسة (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد اً رسول الله، وإقام الصلاة
وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً). وبتطبيق
أحكام الشريعة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله،
واحترام الأموال والأنفس والأعراض، واجتناب المحظورات الشرعية والمعاصي
والمنكرات التي تضر بمصلحة الفرد والجماعة.
وأما أهلية الأداء المدنية: فتكتمل عند الفقهاء، خلافاً للقانون، بسن
البلوغ إذا بلغ الولد راشداً، فتنفذ تصرفاته المالية وتسلم إليه أمواله.
فإن لم يؤنس منه الرشد، فلا تنفذ تصرفاته، ولا تسلم إليه أمواله؛ لأن الشرع
جعل البلوغ أمارة على كمال العقل، فإن ثبت العكس عمل به. وسن الرشد في
القانون السوري 81 سنة، و12 سنة في القانون المصري.
الدور الخامس ـ دور الرشد: الرشد أكمل
مراحل الأهلية، ومعناه عند
_________
(1) مثل قوله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح ... }
[النساء:6/ 4].
(2) مثل قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون
المغلوب على عقله حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم»
رواه أحمد في مسنده وأبو داود والحاكم عن علي وعمر.
(4/2969)
الفقهاء (1): حسن التصرف في المال من
الوجهة الدنيوية، ولو كان فاسقاً من الوجهة الدينية (م 947 مجلة) ويتوافر
بتحقق الخبرة المالية بتدبير الأموال وحسن استثمارها. وهو أمر يختلف
باختلاف الأشخاص والبيئة والثقافة.
فقد يرافق البلوغ، وقد يتأخر عنه قليلاً أو كثيراً، وقد يتقدمه، لكن لا
اعتبار له قبل البلوغ، ومرجعه إلى الاختبار والتجربة عملاً بالآية
القرآنية: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح، فإن آنستم منهم رشداً،
فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء:6/ 4].
وبناء عليه: إذا بلغ الشخص رشيداً كملت أهليته، وارتفعت الولاية عنه، وسلمت
إليه أمواله، ونفذت تصرفاته وإقراراته.
وإن بلغ غير رشيد بقي ناقص أهلية الأداء، واستمرت الولاية المالية عليه عند
جمهور الفقهاء، فلا تنفذ تصرفاته، ولا تسلم إليه أمواله. أما الولاية على
النفس كالتأديب والتطبيب والتعليم والتزويج فترتفع عنه بمجرد بلوغه عاقلاً،
أي أن اشتراط الرشد محصور في التصرفات المالية، وأما غير ذلك كالزواج
والطلاق فإنها نافذة منه بمجرد البلوغ عاقلاً.
وخالف أبو حنيفة في هذا فقال: إذا بلغ الشخص عاقلاً غير رشيد كملت أهليته،
وارتفعت الولايةعنه، احتراماً لآدميته وحفاظاً على كرامته، ولكن لا تسلم
إليه أمواله على سبيل الاحتياط والتأديب. لا على سبيل الحجر عليه، لأنه لا
_________
(1) هذا ما فسره ابن عباس، وهو مذهب الحنفية والمالكية. ويرى الشافعية أن
الرشد: هو أن يتصف بالبلوغ والصلاح لدينه وماله (الدر المختار: 105/ 5،
بداية المجتهد: 278/ 2، الشرح الصغير: 393/ 3، المغني: 467/ 4، مغني
المحتاج: 7/ 2، 168).
(4/2970)
يرى الحجر على السفيه (أي المبذر)، وأما
منع أمواله عنه فينتهي: إما بالرشد فعلاً، أو ببلوغه خمساً وعشرين سنة (1).
وليس للرشد سن معينة عند جمهور الفقهاء، وإنما متروك لاستعداد الشخص
وتربيته وبيئته، وليس في النصوص الشرعية تحديد له.
أما قانون الأحوال الشخصية السوري (م 16) والقانون المدني السوري (م46) فقد
حدد سن الرشد فيها بـ (18) سنة ميلادية كاملة، وفي القانون المصري (21)
سنة. فما قبل هذه السن لا تسلم للشخص أمواله، ولا تنفذ تصرفاته، فإذا بلغ
الإنسان هذه السن سلمت إليه أمواله إذا لم يكن محجوراً عليه.
ورفع سن الرشد إلى هذا الحد يتفق مع ظروف الحياة الحديثة، التي تعقَّدت
فيها المعاملات، وتدهورت فيها الأخلاق، وشاع الخداع والاحتيال، ولا مانع في
الشريعة من ذلك عملاً بما تقتضيه المصلحة في حماية الناشئة وصيانة أموالهم.
عوارض الأهلية أهلية الأداء: هي أساس
التعامل والتعاقد كما عرفنا، إلا أن هذه الأهلية قد يعترضها بعض العوارض
فتؤثر فيها، والعوارض: هي ما يطرأ على الإنسان فيزيل أهليته أو ينقصها أو
يغير بعض أحكامها. وهي نوعان عند علماء أصول الفقه:
1 - عوارض سماوية: وهي التي لم يكن للشخص في إيجادها اختيار واكتساب.
2 - وعوارض مكتسبة: وهي التي يكون للشخص دخل واختبار في تحصيلها.
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 104/ 5، بداية المجتهد: 276/ 2 ومابعدها.
والعوارض السماوية أكثر تغييراً وأشد تأثيراً، مثل الجنون والعته والإغماء
والنوم، ومرض الموت.
والعوارض المكتسبة: مثل السكر والسفه والدين.
(4/2971)
وسأقتصر هنا على إعطاء فكرة موجزة عن هذه
العوارض، ما عدا مرض الموت والدين فإنهما يتطلبان مزيداً من البحث
والإيضاح.
1 - الجنون: اختلال في العقل ينشأ عنه
اضطراب أو هيجان (1). وحكمه أنه سواء أكان مُطْبقاً (مستمراً) أم غير مطبق
(متقطع) معدم للأهلية حال وجوده، فتكون تصرفات المجنون القولية والفعلية
كغير المميز لاغية باطلة لا أثر لها.
ولكنه يطالب بضمان أفعاله الجنائية على النفس أو المال (2). جاء في المادة
(979 مجلة): (المجنون المطبق هو في حكم الصغير غير المميز).
2 - العته: ضعف في العقل ينشأ عنه ضعف
في الوعي والإدراك، يصير به المعتوه مختلط الكلام، فيشبه مرة كلام العقلاء،
ومرة كلام المجانين. ويتميز المعتوه عن المجنون بالهدوء في أوضاعه فلا يضرب
ولا يشتم كالمجنون. فالمعتوه إذن: هو من كان عليل الفهم مختلط الكلام فاسد
التدبير. وحكمه حكم الصبي المميز كما سبق، أي أن لصاحبه أهلية أداء ناقصة
(3).
3 - الإغماء: تعطل القوى المدركة
المحركة حركة إرادية بسبب مرض
_________
(1) المدخل الفقهي للأستاذ الزرقاء: ف 460.
(2) مرآة الأصول: 439/ 2، التقرير والتحبير: 173/ 2، كشف الأسرار: ص 1083،
التلويح على التوضيح: 167/ 2.
(3) المراجع السابقة: المرآة 441/ 2، التقرير والتحبير: 176/ 2، كشف
الأسرار: 1394/ 2 الدر المختار ورد المحتار: 100/ 5، التلويح: 168/ 2.
(4/2972)
يعرض للدماغ أو القلب. وهو يشبه النوم في
تعطيل العقل، إلا أن النوم عارض طبيعي، والإغماء غير طبيعي،
فيكون حكمهما واحداً في التصرفات، وهو إلغاؤها وبطلانها لانعدام القصد عند
المغمى عليه (1).
4 - النوم: فتور طبيعي يعتري الإنسان في
فترات منتظمة أو غير منتظمة لا يزيل العقل، بل يمنعه عن العمل، ولا يزيل
الحواس الظاهرة، بل يمنعها أيضاً عن العمل. وعبارات النائم كالمغمى عليه لا
اعتبار لها إطلاقاً (2).
5 - السُّكْر: حالة تعرض للإنسان بامتلاء دماغه من الأبخرة المتصاعدة إليه،
فيتعطل معه عقله المميز بين الأمور الحسنة والقبيحة. وهو نوعان: سكر بطريق
مباح كالحاصل من الدواء أو البنج، أو حالة الاضطرار أو الإكراه. وسكر بطريق
حرام كالحاصل من الخمر أو أي مسكر آخر حتى البيرة. والسكر بنوعيه لا يذهب
العقل، بل يعطله فترة من الزمن، ويزيل الإرادة والقصد.
وحكمه على المشهور عند المالكية وابن تيمية وابن القيم من الحنابلة (3):
أنه يبطل العبارة ولا يترتب عليها التزام، فتبطل عقوده وتصرفاته لعدم سلامة
القصد أو الإرادة، سواء أكان بطريق مباح أو محظور، فلا يصح يمينه وطلاقه
وإقراره ولا بيعه وهبته ولا سائر أقواله (4). إلا أن المالكية قالوا في
الطلاق: لو سكر سكراً حراماً صح طلاقه، إلا أن لا يميز فلا طلاق عليه لأنه
صار كالمجنون.
_________
(1) المراجع السابقة.
(2) المراجع السابقة.
(3) الشرح الكبير: 5/ 3، 265/ 2، أعلام الموقعين: 48/ 4، ط السعادة، زاد
المعاد: 40/ 4 ومابعدها، غاية المنتهى: 113/ 3.
(4) وهذا رأي الإمام أحمد في رواية عنه اختارها جماعة من الحنابلة،
والطحاوي والكرخي وأبو يوسف وزفر من الحنفية، والمزني وابن سريج وغيرهما من
الشافعية. وبه أخذ قانون الأحوال الشخصية في سورية ومصر.
(4/2973)
وقال جمهور الفقهاء (غير المذكورين) (1):
يفرق بين السكر بمباح فليس لعبارته أي اعتبار، وبين السكر بمحرم، فتقبل
عبارته زجراً له وعقاباً على تسببه في تعطيل عقله، فتعد تصرفاته من قول أو
فعل صحيحة نافذة، عقاباً وزجراً له ولأمثاله، سواء في ذلك الزواج والطلاق
والبيع والشراء والإجارة، والرهن والكفالة ونحوها.
6 - السفه: خفة تعتري الإنسان، فتحمله
على العمل بخلاف موجب العقل والشرع مع قيام العقل حقيقة، والمراد به هنا ما
يقابل الرشد: وهو تبذير المال وإنفاقه في غير حكمة، ولو في أمور الخير عند
الحنفية (2) (م 946 مجلة) كبناء المساجد والمدارس والملاجئ.
والسفه لا يؤثر في الأهلية، فيظل السفيه كامل الأهلية، لكنه يمنع من بعض
التصرفات.
الحجر على السفيه (3): قد يبلغ الشخص
سفيهاً، وقد يطرأ عليه السفه بعد بلوغه راشداً.
أـ من بلغ سفيهاً: اتفق الفقهاء على أنّ الصبي إذا بلغ سفيهاً يمنع عنه
ماله، ويظل تحت ولاية وليه، لقوله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي
جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها} [النساء:5/ 4]. ويستمر هذا المنع أبداً
عند جمهور الفقهاء والصاحبين، حتى يتحقق رشده لقوله تعالى: {فإن آنستم منهم
رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء:6/ 4].
_________
(1) كشف الأسرار: ص 1471، التلويح: 175/ 2، التقرير والتحبير: 193/ 2، مرآة
الأصول: 454/ 2.
(2) الدر المختار: 102/ 5، تبيين الحقائق: 192/ 5. إلا أن الشافعي لم يجعل
الإسراف في وجوه البر سفهاً (مغني المحتاج: 168/ 2).
(3) الحجر: هو منع نفاذ التصرفات القولية.
(4/2974)
جاء في المادة (982 مجلة): «إذا بلغ الصبي
غير الرشيد لم تدفع إلىه أمواله، ما لم يتحقق رشده، ويمنع من التصرف كما في
السابق».
وقال أبو حنيفة: تنتهي فترة منع ماله عنه ببلوغه خمساً وعشرين سنة؛ لأن هذه
السن غالباً يتحقق فيها الرشد، فإن لم يرشد لا ينتظر منه رشد بعدئذ. وأما
تصرفاته في فترة منع ماله عنه فلا ينفذ منها إلا ما كان نافعاً نفعاً محضاً
له أو الوصية في حدود الثلث، أو كانت لا تقبل الفسخ: وهي الزواج والطلاق
والرجعة واليمين. ويمنع من باقي التصرفات.
ب ـ من بلغ رشيداً ثم صار سفيهاً: لا يجيز أبو حنيفة الحجر عليه، لأنه حر
في تصرفاته، والحجر ينافي الحرية، وفيه إهدار لإنسانيته وكرامته.
وقال جمهور الفقهاء، والصاحبان (أبو يوسف ومحمد) وبرأيهما يفتى في المذهب
الحنفي: يجوز الحجر على السفيه، رعاية لمصلحته، ومحافظة على ماله، حتى لا
يكون عالة على غيره. ويكون حكمه حينئذ حكم الصبي المميز في التصرفات (1)؛
لقوله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} [النساء:5/ 4] وقوله سبحانه:
{فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً، أو لا يستطيع أن يمل هو، فليملل
وليه بالعدل} [البقرة:282/ 2] مما يدل على ثبوت الولاية على السفيه (2).
إلا أن الحجر على السفيه في هذه الحالة يكون بحكم قضائي، بالتثبت من السفه
أو التبذير، ومنعاً من إلحاق الضرر بمن يتعامل مع السفيه من غير بينة وتحقق
من حاله. وهذا رأي أبي يوسف والشافعي وأحمد ومالك رحمهم الله تعالى.
_________
(1) وعليه نصت المادة (990 مجلة): السفيه المحجور عليه هو في المعاملات
كالصغير المميز ... ».
(2) كشف الأسرار: ص 1489، التلويح على التوضيح: 191/ 2، التقرير والتحبير:
201/ 2، مرآة الأصول: 459/ 2، الدر المختار: 102/ 5 ومابعدها، بداية
المجتهد: 276/ 2، 279، مغني المحتاج: 170/ 2، المغني: 469/ 4، الشرح
الصغير: 382/ 3 ومابعدها.
(4/2975)
والحجر في هذه الحالة محصور في التصرفات
التي تحتمل الفسخ، ويبطلها الهزل كالبيع والإجارة والرهن. أما التصرفات
التي لا تحتمل الفسخ ولا يبطلها الهزل كالزواج والطلاق والرجعة والخلع، فلا
يحجر عليه بالإجماع.
الغفلة والسفه:
الغفلة ملحقة بالسفه من ناحيةجواز الحجر عند جمهور الفقهاء وعدمه عند أبي
حنيفة (1). وذو الغفلة: هو من لا يهتدي إلى أسباب الربح والخسارة، كما
يهتدي غيره، وإنما يخدع بسهولة بسبب البساطة وسلامة القلب، مما يؤدي إلى
غبنه في المعاملات. وحكم المغفل والسفيه سواء. أما الفرق بينهما فهو أن
السفيه كامل الإدراك، ويرجع سوء تصرفه إلى سوء اختياره. وأما ذو الغفلة:
فهو ضعيف الإدراك، ويرجع سوء تصرفه إلى ضعف عقله وإدراكه للخير والشر.
7 - الدين أو المديونية:
الخلاف الذي ذكرفي السفه والغفلة من ناحية الحجر وعدمه يجري في الدين. فأبو
حنيفة لا يجيز الحجر على المدين، وإن استغرق دينه ماله، لأنه كامل الأهلية
بالعقل، فلا حجر عليه، حفاظاً على حريته في التصرف وإنسانيته. وإنما يؤمر
بسداد ديونه، فإن أبى يحبس ليبيع ماله بنفسه ويؤدي ما عليه من الديون.
وقال الصاحبان (أبو يوسف ومحمد) والأئمة الثلاثة: (مالك والشافعي وأحمد)
(2): يحجر القاضي على المدين الذي ترتبت عليه ديون حالّة الأجل،
_________
(1) تبيين الحقائق: 198/ 5.
(2) تبيين الحقائق: 199/ 5، رد المحتار على الدر المختار: 102/ 5، 105
ومابعدها، الشرح الصغير: 346/ 2، مغني المحتاج: 146/ 2، غاية المنتهى: 129/
2، القواعد لابن رجب: ص 14، بداية المجتهد: 280/ 2.
(4/2976)
هذا مع العلم بأن أصل المذهب الحنفي عدم
جواز الحجر بسبب الدين. لكن المفتى به عند الحنفية هو قول الصاحبين وهو
جواز الحجر. وكانت ديونه مستغرقة لماله (أي محيطة بها) وطلب الدائنون
الغرماء الحجر عليه (1) وهذا هو المفلس، والمفلس لغة: من لا مال له،
وشرعاً، من دينه أكثر من ماله. وأجاز المالكية الحجر على المدين المفلس دون
حاجة لحكم قضائي، أي على الغريم نفسه، ولو كان الدين المحيط بالمال مؤجلاً.
وبالحجر على المدين تنتقص أهليته، ويصبح كالصغير المميز، ومتى وقع الحجر
عليه صارت تصرفاته المالية التي تضر بدائنيه موقوفة على إجازتهم، سواء
أكانت تلك التصرفات تبرعات محضة كالهبة أو الوقف، أم معاوضات مشتملة على
المحاباة في الثمن، كالبيع بأقل من القيمة، أو الشراء بأكثر من القيمة، فإن
أجازوا التصرف نفذ، وإن رفضوه بطل.
وهذا يعني عند الحنفية: أنه إذا صح الحجر على المدين، صار المحجور كمريض
عليه ديون الصحة، فكل تصرف أدى إلى إبطال حق الدائنين الغرماء، فالحجر (أي
المنع من التصرف) يؤثر فيه كالهبة والصدقة.
وأما البيع: فإن كان بمثل القيمة جاز، وإن كان بغبن فلا يجوز، ويتخير
المشتري بين إزالة الغبن، وبين الفسخ، كبيع المريض.
ويجوز له الزواج بمهر المثل والطلاق والخلع ونحو ذلك، كما يجوز له قبول
الهبات والتبرعات.
8 - مرض الموت:
البحث فيه يتناول تعريفه وما يلحق به، والحقوق المتعلقة به، وحقوق المريض
_________
(1) نصت المادة (998 مجلة) على ما يأتي «لو ظهر عند الحاكم مماطلة المديون
في أداء دينه حال كونه مقتدراً، وطلب الغرماء بيع ماله وتأدية دينه حجر
الحاكم ماله. وإذا امتنع عن بيعه وتأدية الدين باعه الحاكم وأدى دينه .. »
ونصت المادة (999) على جواز حجر الحاكم المدين المفلس الذي دينه مساوٍ
لماله أو أزيد ...
(4/2977)
نفسه، وحقوق الدائنين والموصى لهم والورثة،
وتصرفات المريض نفسه، وإقراره (1).
أـ تعريفه: هو المرض الذي يعجز الرجل أو
المرأة عن ممارسة أعمالها المعتادة ويتصل به الموت قبل مضي سنة من بدئه،
إذا لم يكن في حالة تزايد أو تغير، فإن كان يتزايد اعتبر مرض موت من تاريخ
اشتداده أو تغيره، ولو دام أكثر من سنة (م1595 مجلة).
ويقال لصاحبه: المريض؛ ويقابله: الصحيح. وهذا هو مراد فقهاء الحنفية عند
إطلاق كلمة (المريض) أي من هو في مرض الموت. أو كلمة (الصحيح) أي من ليس في
حال مرض الموت، ولو كان مريضاً بمرض آخر.
ولا بد لتوافر معنى مرض الموت من أمرين: أن يكون مما يغلب فيه الهلاك عادة
وأن يتصل به الموت فعلاً، ولو من حادث آخر كالقتل والحرق والغرق وغيرها.
وبناء عليه ألحق الفقهاء به حالات مثل (2):
ركاب سفينة جاءتها ريح عاصف، وظنوا أن الموت نازل بهم.
الأسرى لدى دولة اعتادت قتلهم.
المجاهد الذي خرج للقاء العدو بائعاً نفسه في سبيل الله والوطن.
ب ـ حكمه والحقوق المتعلقة به: مرض
الموت لا ينافي أهلية وجوب
_________
(1) راجع التلويح على التوضيح: 177/ 2، كشف الأسرار: ص 1427، التقرير
والتحبير: 186/ 2، مرآة الأصول: 447/ 2، البدائع: 224/ 7 ومابعدها، الدر
المختار: 481/ 4 ومابعدها.
(2) الأموال ونظرية العقد للدكتور محمد يوسف موسى: ص 340.
(4/2978)
الأحكام الشرعية في حقه، سواء حقوق الله
وحقوق العباد وأهلية العبادة، لأنه لاتأثير له على الذمة والعقل والنطق.
ولا ينافي أيضاً أهلية الأداء؛ لأنه لا يخل بالعقل، فتجب للمصاب به حقوق
غيره، كما تجب على الصحيح. وتظل عباراته وأقواله معتبرة كالبيع والهبة
والإجارة والزواج والطلاق وسائر التصرفات.
إلا أنه يحجر عليه ويمنع من بعض التصرفات كالمديون حماية لحقوق الدائنين
التي تصبح متعلقة بماله بعد أن كانت متعلقة بذمته فقط، وحماية لحقوق الورثة
أيضاً التي تصبح متعلقة بأعيان وموجودات التركة نفسها في رأي أبي حنيفة
خلافاً لصاحبيه.
ج ـ حقوق المريض الخاصة: تصرفات المريض
الضرورية الخاصة بشخصه وأسرته نافذة، لا تتوقف على إجازة أحد، وهي ما يلي:
أولاً ـ النفقات الضرورية اللازمة للطعام والكسوة والسكنى له ولمن تلزمه
نفقته، أو اللازمة للعلاج كأجر الطبيب وثمن الدواء وأجور عملية جراحية
ونحوها.
ثانياً ـ الزواج: للمريض إبرام عقد زواج، لأنه قد يحتاج إلى من يخدمه أو
يؤنسه، بشرط ألا يزيد المهر الذي يحدده على مهر المثل، فإن زاد عليه كانت
الزيادة تبرعاً وصية موقوفة على إجازة الورثة إن زادت على ثلث التركة، فإن
كانت في حدود هذا الثلث نفذت بدون إجازتهم.
ثالثاً: الطلاق: الطلاق نافذ أثناء مرض الموت باتفاق الفقهاء، لكنه إذا كان
بائناً بغير رضا المرأة ومات الرجل في أثناء العدة، استحقت الميراث منه،
لأنه
(4/2979)
بطلاقها يعتبر فارّ اً (هارباً) من
ميراثها، فيعامل بنقيض مقصوده. وهذا رأي الحنفية، وعليه العمل في المحاكم
الحالية (1). والخلع جائز أيضاً كالطلاق لكن الرجل لا يستحق من بدل الخلع
الذي تدفعه المرأة له إذا ماتت في العدة إلا الأقل من ثلاثة (بدل الخلع،
وثلث تركة الزوجة، ونصيب الزوج من ميراثه منها). وإن ماتت بعد العدة استحق
الأقل من اثنين (بدل الخلع، وثلث التركة).
رابعاً ـ العقود الواردة على المنافع، سواء أكانت بعوض أم بغير عوض
كالإجارة والإعارة والمزارعة والمساقاة ونحوها. للمريض مباشرة هذه العقود
ولو كان العقد بأقل من عوض المثل، دون أن يحق لأحد من الورثة أو الدائنين
الاعتراض عليه؛ لأن المنافع ليست أموالاً في مذهب الحنفية، فلا يتعلق بها
حق لأحد الورثة أو الدائنين، ولأن التصرف في المنافع ينتهي بمجرد موت أحد
العاقدين، فلا يكون هناك حاجة لاعتراض الدائنين أو الورثة. وأما غير
الحنفية الذين يعدون المنافع أموالاً، فإن التصرف فيها خاضع لإجازة أصحاب
الحق.
خامساً ـ العقود المتعقلة بالربح ولا تمس رأس المال كالشركة والمضاربة
تصحان من المريض، ولو بغبن؛ لأن الربح كالمنافع لا حق لأحد فيه، ولأن
الشركة تبطل بموت المريض، فلا ضرر فيها على أحد؛ لأن حقوق الورثة أو
الدائنين تتعلق بأعيان التركة أو بماليتها.
والخلاصة: إن كل تصرف يضطر إليه المريض، أو لا يمس حقوق الدائنين أو الورثة
هو نافذ لا يتوقف على إجازة أحد.
_________
(1) هناك آراء أخرى: يرى الحنابلة أنها تستحق الميراث ولو انقضت عدتها مالم
تتزوج قبل موته. ويرى المالكية: أنها تستحق الميراث ولو تزوجت غيره قبل
الموت. وقال الشافعية: لاتستحق الميراث أصلاً، ولو مات زوجها وهي في العدة.
(4/2980)
د ـ حقوق الدائنين:
تأتي بعد حقوق المريض الخاصة. فإذا كان المريض مديناً منع من التصرف الضار
بمصلحة الدائنين. وعليه إذا كان المريض مديناً بدين مستغرق (محيط بكل ماله)
منع من التبرعات أو ما في حكمها، كالهبة والوقف والوصية بشيء من أمواله،
والبيع أو الشراء بالمحاباة. ويكون تصرفه موقوفاً على إجازة الدائنين بعد
وفاة المريض.
وإن كان المريض مديناً بدين غير مستغرق، اعتبر تصرفه مع غير الوارث نافذاً
إذا لم يشتمل على غبن فاحش. أما إذا حدث التصرف مع وارث، فله حكم الوصية:
ينفذ من الثلث بعد وفاء الديون. ويتوقف على إجازة الورثة فيما يزيد عن
الثلث.
هـ ـ حقوق الموصى له: للمريض أن يوصي
بقدر ثلث التركة، فإذا مات مديناً بدين مستغرق للتركة بطلت الوصية، إلا إذا
أجازها الدائنون. وإذا لم يكن مديناً أو مديناً بدين غير مستغرق نفذت
الوصية لأجنبي في حدود ثلث التركة. وإن كانت الوصية لوارث صارت موقوفة على
إجازة الورثة، مهما كان الموصى به، لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا وصية
لوارث».
وـ حقوق الورثة: تتعلق حقوق الورثة بثلث
تركة المريض بعد وفاء الديون وتنفيذ الوصايا. فإن لم يكن هناك ديون ولا
وصايا استحقوا التركة كلها. وتأتي حقوقهم بعد حقوق الدائنين والموصى لهم.
وبناء عليه: كل تصرف من المريض لايضر بحقوق الورثة يكون صحيحاً نافذاً لا
اعتراض لأحد عليه. وإن كان التصرف ضاراً بحقوقهم، كان لهم مع نفاذه حال
الحياة حق إبطاله بعد الموت إن كان مما يقبل الفسخ كالتبرعات.
(4/2981)
لكن ما نوع حق الورثة بالتركة: هل هو حق
شخصي أو حق عيني (1)؟
قال أبو حنيفة: يتعلق حق الورثة بمالية التركة إن تصرف المريض لأجنبي غير
وارث، ويتعلق حقهم بأعيان التركة وذاتها نفسها إن تصرف المريض لوارث، أي أن
حقهم في الحالة الثانية حق عيني، وفي الأولى حق شخصي. ويترتب عليه: يصح
تصرف المريض لغير الوارث ببعض أموال التركة بمثل القيمة، دون اعتراض من أحد
الورثة. ولا يصح تصرف المريض لوارث ببعض أموال التركة ولو بقيمته بلا أي
غبن. ويحق لباقي الورثة نقض هذا التصرف لما فيه من ضرر بمصلحتهم؛ لأن حقهم
تعلق بأعيان التركة، وإيثار بعض الورثة على بعض لا يجوز. أما في حال تصرف
المريض مع غير الورثة فإن حقهم تعلق بقيمة التركة أو ماليتها.
وقال الصاحبان (أبو يوسف ومحمد): يتعلق حق الورثة كحق الدائنين العاديين
بمالية التركة، أي بقيمتها، لا بأعيانها، سواء أكان تصرف المريض مع وارث أم
غير وارث. فيصح تصرف المريض بمال مطلقاً (لوارث أو لغير وارث) إذا كان بثمن
المثل أي بدون غبن، إذ ليس فيه ضرر بباقي الورثة؛ لأن حقوقهم في التركة
متعلقة بناحية أنها مال فقط.
والخلاصة: أن هناك ـ على الرأي الراجح وهو رأي أبي حنيفة ـ فرقاً بين حق
الدائنين وحق الورثة: وهو أن حق الدائنين يتعلق بمال المدين فقط، لا بأعيان
التركة نفسها. حتى جاز للمريض مبادلة مال بيعاً أو شراءً دون حاجة لإذن
الدائن، ويجوز للورثة إعطاء الدائن دينه نقداً، ثم يتصرفون بأعيان التركة
كما يشاؤون.
_________
(1) الحق الشخصي: هو علاقة بين شخصين يكون أحدهما مكلفاً تجاه الآخر بعمل
أو بالامتناع عن عمل كحق الدائن في ذمة المدين، أو حق المودع على الوديع في
ألا يستعمل الوديعة. والحق العيني: علاقة مباشرة بين شخص وشيء معين بذاته
مثل حق الملكية على الأموال وحق الارتفاق المقرر على عقار معين مثل حق
المرور أو المسيل.
(4/2982)
ز ـ تصرفات المريض:
إذا كان التصرف الصادر من المريض لا يقبل الفسخ أو الإبطال كالزواج والطلاق
والرجعة والعفو عن القصاص، نفذ بعد الموت في حدود ثلث التركة. وإن كان
التصرف قابلاً للفسخ، كان موقوفاً على إجازة أصحاب الحق بعد الوفاة إذا كان
ضاراً بمصلحتهم كالتبرع والهبة والوقف وبيع المحاباة، وكالبيع المشتمل على
غبن. فإن كان التصرف لا غبن فيه، ومع أجنبي غير وارث، نفذ ولم يتوقف على
إجازة أحد.
ح ـ إقرار المريض: للمريض أن يقر بدين
عليه لأجنبي أو لوارث. فإن كان لأجنبي غير وارث فهو صحيح نافذ دون حاجة
لإجازة الورثة، ولو أحاط الإقرار بجميع ماله (م 1601 مجلة)، لكن تقدم عليه
عند الحنفية ديون الصحة (1).
وإن كان الإقرار لوارث فلا ينفذ إلا بإجازة باقي الورثة، فإن أجازوه نفذ،
وإلا بطل. لكن يصح الإقرار لوارث استثناء كما في حال الإقرار بقبض أمانته
الموجودة عند وارث، أو باستهلاك الأمانة أو الوديعة الموجودة عنده لوارث
(م1598 مجلة).
ثانياً ـ الولاية: معناها والفرق بينها وبين الأهلية، صلتها بالعقد،
أنواعها، الأولياء ودرجاتهم، محتاجو الولاية، مبدأ الولاية، شروط الولاية،
تصرفات الولي (مدى صلاحياته).
تعريف الولاية: الولاية في اللغة: هي
تولي الأمر والقيام به أو عليه. وفي اصطلاح الشرع: هي سلطة شرعية يتمكن بها
صاحبها من إنشاء العقود
_________
(1) ديون الصحة: هي الديون التي تثبت قبل مرض الموت، ولو بالإقرار وحده
حينئذ. وقال غير الحنفية: دين الصحة ودين المرض يتساويان، فلا يقدم دين
الصحة على دين المرض، لأنهما حقان ثابتان.
(4/2983)
والتصرفات وتنفيذها، أي ترتيب الآثار
الشرعية عليها. والولاية على القاصر: هي إشراف الراشد على شؤون القاصر
الشخصية والمالية.
صلتها بالعقد والفرق بينها وبين الأهلية:
يتطلب العقد لوجوده ونفاذه وترتيب آثاره الشرعية أن يكون العاقد ذا أهلية
أداء، وذا ولاية على العقد بأن يكون أصيلاً عن نفسه أو ولياً أو وصياً على
غيره. فإن لم يكن أصيلاً أو ولياً أو وصياً كان فضولياً.
وأهلية الأداء شرط انعقاد العقد ووجوده، فإن لم تتوافر كان العقد باطلاً.
أما الولاية فهي شرط لنفاذ العقد (1) وترتب الآثار الشرعية عليه. وهي لا
تثبت إلا لكامل أهلية الأداء. أما ناقص أهلية الأداء فلا ولاية له على نفسه
ولا على غيره.
وأهلية الأداء: صلاحية الشخص لمباشرة العقود. والولاية: صلاحية الشخص
لإنفاذ العقود.
وبناء عليه يكون للعقد بالنظر للأهلية والولاية أحوال ثلاث (2):
1 - إذا كان العاقد كامل الأهلية وصاحب ولاية: اعتبر العقد صحيحاً نافذاً
إلا إذا كان فيه ضرر بآخر فيصبح موقوفاً على الإجازة، كالتصرف بالمأجور أو
المرهون قبل انتهاء مدة الإجازة أو قبل أداء الدين، وتصرف المدين الذي يضر
الدائنين، وتصرف المريض مرض الموت، على ما سبق بيانه.
2 - إذا صدر العقد من عديم الأهلية وفاقد الولاية، كالمجنون والصبي غير
_________
(1) النفاذ في الأصل: المضي والجواز، ثم أطلق عند الفقهاء على مضي العقد
دون توقف على الإجازة أو الإذن.
(2) الأموال ونظرية العقد للدكتور محمد يوسف موسى: ص 351.
(4/2984)
المميز، كان باطلاً. فإن كان العاقد ناقص
الأهلية كالصبي المميز، توقف عقده المتردد بين الضرر والنفع كالبيع على
إجازة وليه أو وصيه، على ما سبق بيانه.
3 - إذا صدر العقد من صاحب أهلية أداء كاملة، ولكنه فاقد الولاية، وهو
الفضولي، كان موقوفاً على إجازة المعقود له، على ما سيتضح في بحث لاحق، أي
أنني سأخصص مبحثاً مستقلاً لكل من الوكالةوالفضالة باعتبارهما من أنواع
النيابة عن الغير حال الحياة.
أنواع الولاية: الولاية إما أن تكون
أصلية: بأن يتولى الشخص عقداً أوتصرفاً لنفسه، بأن يكون كامل أهلية الأداء
(بالغاً عاقلاً راشداً)، أو نيابية: بأن يتولى الشخص أمور غيره.
والولاية النيابية أو النيابة الشرعية عن الغير: إما أن تكون اختيارية أو
إجبارية (1):
الاختيارية: هي الوكالة أي تفويض التصرف والحفظ إلى الغيرعلى ماسيأتي.
والإجبارية: هي تفويض الشرع أو القضاء التصرف لمصلحة القاصر، كولاية الأب
أو الجد أو الوصي على الصغير، وولاية القاضي على القاصر. فمصدر ولاية الأب
أو الجد أو القاضي هو الشرع. ومصدر ولاية الوصي إما اختيار الأب أو الجد،
أو تعيين القاضي.
والولاية النيابية الإجبارية: إما أن يكون ولاية على النفس أو ولاية على
المال.
_________
(1) البدائع: 152/ 5.
(4/2985)
الولاية على النفس: هي الإشراف على شؤون
القاصر الشخصية كالتزويج والتعليم والتأديب والتطبيب والتشغيل في حرفة ونحو
ذلك. وليس هنا محل بحثها.
والولاية على المال: هي الإشراف على شؤون القاصر المالية من حفظ المال
واستثماره وإبرام العقود والتصرفات المتعلقة بالمال. وهي محل البحث هنا.
الأولياء ودرجاتهم:
الولاية على النفس: تثبت للأقرب فالأقرب من العصبات (1) على الترتيب
التالي:
1 - البنوة (الأبناء ثم أبناء الأبناء) فابن المجنون والمجنونة مثلاً يتولى
شؤونهما الشخصية.
2 - الأبوة (الآباء ثم الأجداد).
3 ـ الأخوة (الإخوة ثم أبناء الإخوة).
4 - العمومة (الأعمام ثم أبناء الأعمام).
وهذا هو ترتيب الإرث والولاية في الزواج، وقد نصت على ذلك المادة (21) من
قانون الأحوال الشخصية السوري.
والولاية على المال: بالنسبة للصغير القاصر: تثبت عند الحنفية على الترتيب
التالي: الأب، ثم وصي الأب، ثم الجد، ثم القاضي، ثم وصي القاضي: وهو من
يعينه القاضي.
_________
(1) العصبات: قرابة الشخص الذكور من جهة الأب، كالأخ والعم وابن العم.
(4/2986)
والسبب في هذا الترتيب (1): أن الأب أوفر
الناس شفقة على ولده. ويعقبه وصيه الذي اختاره ليقوم مقامه، والظاهر أنه ما
اختاره من بين سائر الناس إلا لعلمه بأن شفقته على الصغير مثل شفقته عليه.
والجد يأتي بعدئذ لأن شفقته دون شفقة الأب. ووصيه يليه ويقوم مقامه، لأنه
وثقه وارتضاه. والقاضي أمين على مصالح الأمة وبخاصة اليتامى فصلح أن يكون
ولياً، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «السلطان ولي من لا ولي له».
يتبين من ذلك أن الأب، والجد أب الأب لهما ولاية تامة على النفس وعلى المال
معاً. وقد نصت على ذلك المادة (170) من قانون الأحوال الشخصية السوري:
«للأب ثم للجد العصبي ولاية على نفس القاصر وماله، وهما ملتزمان بالقيام
بها».
كما نصت المادة 1/ 172) على من تثبت له الولاية على المال: «للأب وللجد
العصبي عند عدمه دون غيرهما ولاية على مال القاصر حفظاً وتصرفاً
واستثماراً». ونصت المادة (177) على الوصي المختار: وهو من يختاره الأب أو
الجد قبل موته: «يجوز للأب وللجد عند فقدان الأب أن يقيم وصياً مختاراً
لولده القاصر، أو الحمل، وله أن يرجع عن إيصائه». ونصت المادة (771) على
وصي القاضي: وهو من يعينه القاضي: «إذا لم يكن للقاصر أو الحمل وصي مختار
تعين المحكمة وصياً».
من يحتاج إلى الولاية:
تثبت الولاية على الصغير القاصر والمجنون والمعتوه، والمغفل، والسفيه، وقد
اصطلح قانون الأحوال الشخصية السوري في المادة (163) على تسميات لأنواع
الولاية على هؤلاء كما يبدو من النص التالي:
_________
(1) البدائع: 152/ 5، 155.
(4/2987)
«1 - النيابة الشرعية عن الغير تكون إما
ولاية، أو وصاية أو قوامة، أو وكالة قضائية.
2 - الولاية للأقارب للأب أو غيره، والوصاية على الأيتام، والقوامة على
المجانين والمعتوهين، والمغفلين والسفهاء. والوكالة القضائية عن
المفقودين».
والحقيقة أن حالات النيابة الشرعية الأربع هذه كلها داخلة تحت كلمة
(الولاية) عند فقهائنا كما تبين لدينا.
أما الولاية على مال الصغير القاصر: فتكون لأحد الأولياء الستة الذين ذكروا
سابقاً وهم (الأب ووصيه، والجد ووصيه، والقاضي ووصيه) (1).
وأما الولاية على المجنون أو المعتوه: إذا بلغ على هذه الحالة، فإنها تكون
لمن كان وليه قبل البلوغ من أب أو جد أو وصي، باتفاق المذاهب الأربعة، كما
تقدم.
فإن بلغ الشخص رشيداً ثم طرأ عليه الجنون أو العته، عادت إلىه ولاية من كان
وليه قبل البلوغ، على الرأي الراجح عند الحنفية، والشافعية (2).
وقال المالكية والحنابلة: تكون الولاية عليه حينئذ للقاضي، ولا تعود لمن
كانت له من أب أو جد؛ لأن الولاية سقطت ببلوغ الصغير رشيداً، والساقط
لايعود (3).
_________
(1) الولاية في مذهبي المالكية والحنابلة تكون أولاً للأب ثم لوصيه، ثم
للحاكم، ثم لمن يقيمه أميناً عنه ولا ولاية للجد وغيره من القرابة (الشرح
الكبير للدردير: 292/ 3، غاية المنتهى: 140/ 2) وعند الشافعية: الولاية
للأب أولاً ثم للجد أبي الأب، ثم لوصيهما ثم القاضي أي العدل الأمين (نهاية
المحتاج: 355/ 3).
(2) تبيين الحقائق: 195/ 5 وما بعدها، مغني المحتاج: 171/ 2، نهاية
المحتاج: 356/ 3.
(3) غاية المنتهى: 142/ 2، الشرح الكبير للدردير: 292/ 3.
(4/2988)
وقانون الأحوال الشخصية السوري أخذ بالرأي
الثاني في المادة (002) وهي: «1ً - المجنون والمعتوه محجوران لذاتهما،
ويقام على كل منهما قيم بوثيقة» ومعنى المادة أن تصرفات المجنون والمعتوه
تعد باطلة، ولو قبل شهر قرار الحجر عليهما، حماية لمصالحهما.
وأما القانون المدني السوري في المادة (115) فلم يعتبر تصرفات المجنون
والمعتوه باطلة إلا بعد شهر قرار الحجر عليهما حماية لاستقرار المعاملات
إلا في حالتين استثناهما نص المادة وهي:
1 - يقع باطلاً تصرف المجنون والمعتوه، إذا صدر التصرف بعد شهر قرار الحجر.
2 - أما إذا صدر التصرف قبل شهر قرار الحجر، فلا يكون باطلاً إلا إذا كانت
حالة الجنون أو العته شائعة وقت التعاقد، أو كان الطرف الآخر على بينة
منها.
وأما الولاية على السفيه وذي الغفلة: فإنها تكون للقاضي باتفاق المذاهب
الأربعة (1)؛ لأن الحجر عليهما متوقف على قضاء القاضي، حفاظاً على مالهما
ومراعاة لمصلحتهما.
وعلى هذا تكون تصرفاتهما صحيحة نافذة قبل إيقاع الحجر عليهما. نصت المادة
(2/ 200) من قانون الأحوال الشخصية السوري على ذلك فيما يأتي: «السفيه
والمغفل يحجران قضاء، وتصرفاتهما قبل القضاء نافذة، ويقام على كل منهما قيم
بقرار الحجر نفسه، أو بوثيقة على حدة».
_________
(1) المراجع السابقة: مغني المحتاج: 170/ 2.
(4/2989)
واشترط القانون المدني السوري لإبطال تصرف
المغفل والسفيه شهر قرار الحجر إلا في حالتين نصت المادة (116) منه على ما
يأتي:
«1 - إذا صدر تصرف من ذي الغفلة أو من السفيه بعد شهر قرار الحجر، سرى على
هذا التصرف ما يسري على تصرفات الصبي المميز من أحكام.
2 - أما التصرف الصادر قبل شهر قرار الحجر، فلا يكون باطلاً أو قابلاً
للإبطال، إلا إذا كان نتيجة استغلال أو تواطؤ».
وأما الوكالة القضائية: فهي نوع من الولاية قررتها القوانين النافذة في
أحوال ثلاث:
1 - المفقود والغائب: نص قانون الأحوال الشخصية السوري في المواد (202 -
206) على أصولهما والأحكام المتعلقة بهما، ومنها أن المفقود: هو كل شخص لا
تعرف حياته أو مماته، أو تكون حياته محققة، ولكن لا يعرف له مكان (م 202)
ومنها أنه يعتبر كالمفقود: الغائب الذي منعته ظروف قاهرة من الرجوع إلى
مقامه أو إدارة شؤونه بنفسه، أو بوكيل عنه، مدة أكثر من سنة، وتعطلت بذلك
مصالحه أو مصالح غيره.
أما حكم زوجة المفقود فقد نصت المادة (109) من هذا القانون على أنه: «إذا
غاب الزوج بلا عذر مقبول، أو حكم بعقوبة السجن أكثر من ثلاث سنوات، جاز
لزوجته بعد سنة من الغياب أو السجن أن تطلب إلى القاضي التفريق، ولو كان له
مال تستطيع الإنفاق منه».
والتفريق للغيبة بعد سنة في هذه المادة مأخوذ من القول المعتمد في مذهب
المالكية.
(4/2990)
وأما أموال المفقود: فقد نصت المادة (302)
من هذا القانون على حكمها فيما يأتي:
1 - يوقف للمفقود من تركة مورثه نصيبه فيها، فإن ظهر حياً أخذه، وإن حكم
بموته رد نصيبه إلى من يستحقه من الورثة وقت موت مورثه.
2 - إن ظهر حياً بعد الحكم بموته، أخذ ما بقي من نصيبه في أيدي الورثة ولا
توزع تركة المفقود قبل موته أو الحكم باعتباره ميتاً عند بلوغه الثمانين من
العمر (م205).
2 - المصاب بعاهتين من ثلاث عاهات هي الصمم والبكم والعمى.
نص القانون المدني السوري على ذلك في المادة (118): «1 - إذا كان الشخص أصم
أبكم، أو أعمى أصم، أو أعمى أبكم، وتعذر عليه بسبب ذلك التعبير عن إرادته،
جاز للمحكمة أن تعين له مساعداً قضائياً يعاونه في التصرفات التي تقتضي
مصلحته فيها ذلك».
3 - المحكوم عليه بالأشغال الشاقة أو بالاعتقال:
نص قانون العقوبات السوري في المادة 50 على عقوبة تبعية لهذا الشخص
بالإضافة إلى السجن، وهي الحجر عليه، أو منعه من التصرف بماله، وتعيين وصي
يشرف على أمواله، ونص هذه المادة ما يأتي:
«1 - كل محكوم عليه بالأشغال الشاقة أو بالاعتقال يكون في خلال تنفيذ
عقوبته في حالة الحجر، وتنقل ممارسة حقوقه على أملاكه، ما خلا الحقوق
الملازمة للشخص (أي كالطلاق) إلى وصي وفقاً لأحكام قانون الأحوال الشخصية
المتعلقة بتعيين الأوصياء على المحجور عليهم، وكل عمل وإدارة أو تصرف يقوم
به المحكوم عليه يعتبر باطلاً بطلاناً مطلقاً مع الاحتفاظ بحقوق الغير من
ذوي النية
(4/2991)
الحسنة، ولا يمكن أن يسلم إلى المحكوم عليه
أي مبلغ من دخله ما خلا المبالغ التي يجيزها القانون وأنظمة السجون».
مبدأ الولاية:
تبدأ الولاية على الأشخاص منذ ولادتهم، وتستمر حتى سن الرشد، أما الجنين
فلا ولاية لأحد عليه قبل الولادة عند غالبية الفقهاء، فلو اشترى له شخص
شيئاً أو وهب له شيء، فلا يتملكه، حتى ولو ولد حياً، وإنما تثبت له الحقوق
الضرورية الأربعة التي ذكرت سابقاً.
لكن قانون الأحوال الشخصية السوري في المادة (176) الذي أخذ بالمقرر في فقه
الشريعة الزيدية، وقانون الولاية على المال الصادر بمصر سنة 1952م أجازا
للأب أو للجد تعيين وصي للحمل المستكن. والوصي المقصود هنا في تقديري ليس
مجرد أمين لحفظ المال حتى الولادة كما فهم كثير من الشراح، وإنما الذي له
صلاحيات الأوصياء عادة، عملاً بإطلاق النص، وبالمفهوم من التسوية في الحكم
بين وصي الحمل، ووصي القاصر في مادة واحدة، وتحقيقاً للهدف المنشود من
تعيين الوصي وهو رعاية مصلحة الجنين وتثمير ماله وتنميته فضلاً عن حفظه.
شروط الولي:
الولاية مسؤولية كبرى في إدارة أموال وأعمال الغير، ويترتب عليها نفاذ
التصرفات غالباً، لذا يشترط في الولي الخاص كالأب أو الجد أو الولي العام
كالقاضي وناظر الوقف ومدير المؤسسة الخيرية شروط إما في شخصه أو في تصرفاته
(1).
1 - كمال أهلية الأداء بالبلوغ والعقل، فلا ولاية للمجنون ولا للصغير،
_________
(1) مختصر الطحاوي: ص 160 ومابعدها، البدائع: 153/ 5، الدر المختار ورد
المحتار: 495/ 5.
(4/2992)
لأنه لا ولاية لهما على أنفسهما، فلا تكون
لهما ولاية على غيرهما، إذ فاقد الشيء لايعطيه.
2 - اتحاد الدين بين الولي والمولى عليه، فلا تثبت ولاية لغير المسلم على
المسلم، كما لا ولاية للمسلم على غير المسلم؛ لأن اتحاد الدين باعث غالباً
على الشفقة ورعاية المصلحة.
3 - العدالة: أي الاستقامة على أمور الدين والأخلاق والمروءات (1)، فلا
ولاية للفاسق؛ لأن فسقه يجعله متهماً في رعاية مصالح غيره.
4 - القدرة على التصرف مع الأمانة: لأن المقصود من الولاية تحقيق مصلحة
المولى عليه، وهي لا تتحقق مع العجز وعدم الأمانة (2).
5 - رعاية مصلحة المولى عليه في التصرفات، لقوله تعالى: {ولا تقربوا مال
اليتيم إلا بالتي هي أحسن} [الإسراء:34/ 17] فليس للولي سلطة في مباشرة
التصرفات الضارة بالمولى عليه ضرراً محضاً، كالتبرع من مال القاصر بالهبة
أو الصدقة، أو البيع أو الشراء بغبن فاحش، أو الطلاق. فإن أمكن تنفيذها على
الولي نفسه نفذت وإلا كانت باطلة.
_________
(1) نصت المادة 1/ 178على ما يلي:: «يجب أن يكون الوصي عدلاً قادراً على
القيام بالوصاية ذا أهلية كاملة، وأن يكون من ملة القاصر».
(2) منع قانون الأحوال الشخصية السوري في المادة 2/ 178الوصي من الولاية في
حالات، ونصها هو:
لا يجوز أن يكون وصياً:
أـ المحكوم عليه في جريمة سرقة أو إساءة الائتمان، أو تزوير أو في جريمة من
الجرائم المخلة بالأخلاق والآداب العامة.
ب ـ المحكوم بإفلاسه إلى أن يعاد إليه اعتباره.
ج ـ من قرر الأب أو الجد عند عدمه حرمانه من التعيين قبل وفاته إذا ثبت ذلك
ببينة خطية.
د ـ من كان بينه هو أو أحد أصوله أو فروعه أو زوجه وبين القاصر نزاع قضائي،
أو خلاف عائلي يخشى منه على مصلحة القاصر.
(4/2993)
أما التصرفات النافعة نفعاً محضاً كقبول
الهبة والوصية والكفالة بالمال، والتصرفات المترددة بين الضرر والنفع
كالبيع والشراء بغبن يسير أو بمثل القيمة، فتكون صحيحة نافذة.
إذا أخل الولي بأحد هذه الشروط، جاز للقاضي تبديله بسبب نقص الأهلية أو
الكفر أو الفسق. فإن صار الولي غير أمين ضم القاضي إليه مساعداً آخر يعينه.
تصرفات الولي ومدى صلاحياته:
يتبين من شروط الولي أنه ليس له مباشرة أي تصرف يلحق ضرراً محضاً بالمولى
عليه كالتبرع من ماله، وله أن يتصرف فيما يحقق مصلحة القاصر، كحفظ أمواله
وإدارتها واستثمارها، والإنفاق الضروري عليه، وشراء ما لا بد له منه، وبيع
المنقولات، وعلى الأب الإنفاق على الصغير إن لم يكن له مال، لقوله تعالى:
{وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة:233/ 2].
فإن كان للصغير مال أنفق عليه من ماله. وجاز للأب المحتاج أن يأخذ نفقته
الضرورية من مال الصغير، لقوله تعالى: {ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان
فقيراً فليأكل بالمعروف} [النساء:6/ 4].
وأما بيع عقار القاصر: فالمفتى به في مذهب الحنفية: أنه يجوز للأب بيع عقار
القاصر مثل القيمة فأكثر، ولا يجوز ذلك للوصي عند متأخري الحنفية إلا
للضرورة كبيعه لتسديد دين لا وفاء له إلا بهذا المبيع (1).
ثم قرر قانون الأحوال الشخصية السوري في المادة (2/ 172) أنه لا يجوز
_________
(1) تكملة فتح القدير مع العناية: 499/ 8 وما بعدها، مجمع الضمانات
للبغدادي: ص 408.
(4/2994)
للأب (أي ولا للوصي) (1) بيع عقار القاصر
أو رهنه إلا بإذن القاضي بعد تحقق المسوغ، كبيعه للنفقة أو لوفاء الدين.
هذا مجمل صلاحيات أو سلطات الولي في التصرفات، وتفصيل أحكام تصرفات كل ولي
على حدة محله كتب الفقه (2).
الوكالة الوكالة: نيابة شرعية عن الغير
حال الحياة، وهي نوع من الولاية كما تقدم، وأبحث فيها ما يأتي: تعريفها،
ركنها، شروطها، أنواعها وتصرفات الوكيل، هل للوكيل توكيل غيره؟ تعدد
الوكلاء، الفرق بين الرسول والوكيل، حكم العقد وحقوقه في حال التوكيل،
انتهاء الوكالة.
تعريف الوكالة ومشروعيتها:
الوكالة في اللغة تطلق ويراد بها إما الحفظ، كما في قوله تعالى: {وقالوا:
حسبنا الله ونعم الوكيل} [آل عمران:173/ 3] أي الحافظ. وإما التفويض، كما
في قوله سبحانه: {وعلى الله فليتوكل المتوكلون} [إبراهيم:12/ 14] {إني
توكلت على الله ربي وربكم} [هود:56/ 11] ويقال: وكل أمره إلى فلان: أي فوضه
إليه واكتفى به.
وعند الفقهاء يراد بها المعنيان، وإن كان المعنى الأول تبعياً والثاني هو
_________
(1) وقد نصت المادة (182) من قانوننا السوري على ذلك، فلم تجز للوصي
التصرفات الناقلة للملكية في مال القاصر إلا بإذن المحكمة مباشرة.
(2) انظر الدر المختار ورد المحتار: 494/ 5 ومابعدها، تكملة الفتح: 498/ 8
ومابعدها، مجمع الضمانات: ص 407 ومابعدها.
(4/2995)
الأصل. وعبارة الحنفية (1) في تعريفها: هي
إقامة الشخص غيره مقام نفسه في تصرف جائز معلوم. أو هي: تفويض التصرف
والحفظ إلى الوكيل.
وعبارة المالكية والشافعية والحنابلة (2) في تعريفها: هي تفويض شخص ماله
فعله مما يقبل النيابة إلى غيره ليفعله في حياته. وضابط ما يقبل النيابة هو
ما يأتي:
هو كل تصرف جاز للشخص مباشرته بنفسه ولو من حيث المبدأ جاز له التوكيل فيه.
والناس قديماً وحديثاً بحاجة يومية إلى الوكالة في كثير من أحوالهم
وأمورهم، إما أنفة أو عدم لياقة بمباشرة الشيء بالذات كتوكيل الأمير أو
الوزير، وإما عجزاً عن الأمر كتوكيل المحامين في الخصومات، والخبراء بالبيع
والشراء في التجارات.
لذا أقرتها الشرائع السماوية، قال تعالى في القرآن الكريم حكاية عن أصحاب
الكهف: {فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة، فلينظر أيها أزكى طعاماً
فليأتكم برزق منه .. } [الكهف:19/ 18] الآية. وفي السنة النبوية: وكل النبي
صلّى الله عليه وسلم حكيم بن حزام (أو عروة البارقي) بشراء شاة أضحية (3).
ووكل عمرو ابن أمية الضمري في زواج أم حبيبة بنت أبي سفيان وهي بالحبشة
(4). ووكل في القيام بأعمال الدولة كجباية الزكاة وإدارة الجيش وولاية
الأقاليم.
_________
(1) تبيين الحقائق: 254/ 4، البدائع: 19/ 6، رد المحتار: 417/ 4.
(2) مغني المحتاج: 217/ 2، الشرح الكبير للدردير، 377/ 3، غاية المنتهى:
147/ 2.
(3) توكيل حكيم رواه أبو داود والترمذي عن حكيم بن حزام نفسه، وتوكيل
البارقي رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني عن
عروة نفسه (نيل الأوطار: 270/ 5).
(4) رواه أبو داود في سننه (468/ 1).
(4/2996)
الوكالة بأجر: تصح
الوكالة بأجر، وبغير أجر، لأن النبي
صلّى الله عليه وسلم كان يبعث عماله لقبض الصدقات، ويجعل لهم عمولة (1).
فإذا تمت الوكالة بأجر، لزم العقد، ويكون للوكيل حكم الأجير، أي أنه يلزم
الوكيل بتنفيذ العمل، وليس له التخلي عنه بدون عذر يبيح له ذلك، وإذا لم
يذكر الأجر صراحة حكم العرف: فإن كانت مأجورة عادة كتوكيل المحامين وسماسرة
البيع والشراء، لزم أجر المثل، ويدفعه أحد العاقدين بحسب العرف. وإن كانت
غير مأجورة عرفاً، كانت مجاناً، أو تبرعاً، عملاً بالأصل في الوكالات: وهو
أن تكون بغير أجر على سبيل التعاون في الخير. وهذا النوع لا يلزم فيه المضي
في العمل، بل للوكيل التخلي عنه في أي وقت. وهذا مذهب الحنفية والمالكية
والحنابلة (2). وقال الشافعية: الوكالة ولو بجُعل جائزة أي غير لازمة من
الجانبين (3).
ركن الوكالة: ركن الوكالة: الإيجاب
والقبول، الإيجاب من الموكل كأن يقول: وكلتك بكذا، أو افعل كذا، أو أذنت لك
أن تفعل كذا ونحوه. والقبول من الوكيل كأن يقول: قبلت ونحوه. ولا يشترط في
القبول كونه لفظاً أو قولاً، وإنما يصح أن يكون بالفعل. فإذا علم الوكيل
بالتوكيل، فباشر التصرف الموكل فيه، اعتبر ذلك قبولاً، ولا يشترط في
الوكالة (كما عرفنا في بحث مجلس العقد) اتحاد مجلس الإيجاب والقبول، وإنما
يكفي العلم بالوكالة ومباشرة التصرف.
والوكالة بغير أجر عقد جائز غير لازم (4) أي يجوز لأحد العاقدين فسخه متى
شاء.
_________
(1) التلخيص الحبير: 176/ 1، 251، 275.
(2) تكملة فتح القدير: 123/ 6، المغني: 85/ 5، القوانين الفقهية: ص 329،
الشرح الكبير: 396/ 3 ومابعدها.
(3) نهاية المحتاج: 38/ 4 ومابعدها.
(4) بداية المجتهد: 297/ 2، المغني: 113/ 5، غاية المنتهى: 154/ 2، مغني
المحتاج: 231/ 2 ومابعدها، الدر المختار: 433/ 4.
(4/2997)
والوكالة باعتبارها إطلاقاً في التصرف يصح
أن تكون منجزة في الحال، كأنت وكيلي من الآن في كذا، كما يصح عند الحنفية
والحنابلة (1): أن تكون مضافة إلى وقت في المستقبل، كأنت وكيلي في الدعوى
الفلانية في الشهر القادم، أو معلقة على شرط، مثل: إن قدم فأنت وكيلي في
بيع هذا الكتاب، لحاجة الناس إلى ذلك.
وقال الشافعية في الأصح: لا يصح تعليق الوكالة بشرط من صفة أو وقت، مثل: إن
قدم زيد أو رأس الشهر فقد وكلتك بكذا، لما في التعليق من غرر (أي احتمال)،
لكن يصح عندهم جعل الوكالة منجزة في الحال، واشتراط بدء التصرف معلقاً على
شرط، مثل أنت وكيلي الآن في بيع هذه الأرض، ولكن لا تبعها إلا بعد شهر، أو
إلا إذا تركت وظيفتي.
شروط الوكالة:
يشترط لصحة الوكالة شروط في الموكل وفي
الوكيل وفي المحل الموكل فيه.
أما الموكل: فيشترط فيه أن يكون مالكاً للتصرف الذي يوكل فيه أي أهلاً
لممارسته؛ لأن من لم يملك التصرف لا يملك تمليكه لغيره. فلا يصح التوكيل
أصلاً من فاقد الأهلية كالمجنون أو الصبي غير المميز، ولا من ناقص الأهلية
أي المميز في التصرفات الضارة به كالطلاق والهبة. ويصح التوكيل من المميز
في التصرف النافع له كقبول الهبة، كما يصح منه التوكيل بإجازة وليه في
التصرفات المترددة بين الضرر والنفع كالبيع والشراء والإيجار. ويصح التوكيل
من المحجور عليه للسفه أو الغفلة فيما يباح له من التصرفات. ويصح للمرأة
التوكيل في مباشرة عقد زواجها. وهذا عند الحنفية (2).
_________
(1) البدائع: 20/ 6، غاية المنتهى: 147/ 2، المغني: 85/ 5.
(2) البدائع: 20/ 6، تكملة فتح القدير: 12/ 6.
(4/2998)
وقال غير الحنفية (المالكية والشافعية
والحنابلة) (1): لا يصح التوكيل من الصبي مطلقاً؛ إذ لا يصح عندهم مباشرته
لأي تصرف. كما لا يصح للمرأة توكيل امرأة أخرى في إبرام عقد زواجها. ويصح
لها عند المالكية توكيل الرجل في ذلك.
وأما الوكيل: فيشترط فيه أن يكون عاقلاً، فيصح أن يكون المميز وكيلاً، سواء
أكان مأذوناً في التجارة أم محجوراً. ولا يصح جعل المجنون والمعتوه وغير
المميز وكيلاً في التصرفات لعدم اعتبار عبارتهم. هذا عند الحنفية (2).
وقال غير الحنفية (3): وكالة الصبي غير صحيحة، لأنه غير مكلف بالأحكام
الشرعية، فلا تصح مباشرة التصرف لنفسه، فلا يصح توكيله عن غيره. ولا يصح أن
تكون المرأة وكيلة عن غيرها في مباشرة عقد الزواج؛ لأنها لا تملك مباشرة
عقدها بنفسها فلا تملك مباشرة عقد غيرها.
وأما الموكل فيه (محل الوكالة): فيشترط
فيه ما يأتي (4):
1 - أن يكون معلوماً للوكيل: فلا يصح التوكيل بالمجهول جهالة فاحشة، مثل:
اشتر لي أرضاً أو جوهراً أو داراً، ويصح مع الجهالة اليسيرة مثل: اشتر لي
صوفاً انكليزياً، أو اشتر لي صوفاً بسعر كذا.
2 - أن يكون التصرف مباحاً شرعاً: فلا يجوز التوكيل في فعل محرم شرعاً،
كالغصب أو الاعتداء على الغير.
_________
(1) الفقه على المذاهب الأربعة: 236/ 3 وما بعدها، مغني المحتاج: 217/ 2،
المهذب: 349/ 1.
(2) المبسوط: 158/ 19، البدائع: 20/ 6، رد المحتار: 417/ 4.
(3) بداية المجتهد: 297/ 2.
(4) البدائع: 12/ 6 ومابعدها، بداية المجتهد: 297/ 2، الشرح الكبير: 377/ 3
ومابعدها، مغني المحتاج: 219/ 2 ومابعدها، المغني: 83/ 5.
(4/2999)
3 - أن يكون مما يقبل النيابة، كالبيع
والشراء والإجارة والتبرع، ورد الودائع وقضاء الديون ونحوها.
وذلك لأن التصرفات بالنظر لقبولها النيابة وعدم قبولها أنواع ثلاثة:
نوع يقبل النيابة اتفاقاً، كما تقدم.
ونوع لا يقبل النيابة اتفاقاً، كاليمين، والعبادات الشخصية المحضة كالصلاة
والصيام والطهارة من الحدث.
ونوع مختلف فيه كاستيفاء القصاص والحدود الشرعية. فقال الحنفية (1): لايجوز
التوكيل فيها، بل لا بد من حضور الموكل وقت الاستيفاء (أي التنفيذ)، ولأن
غيبته شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات.
وقال غير الحنفية (2): يجوز التوكيل باستيفاء الحدود والقصاص، سواء أحضر
الموكل أم غاب؛ لأن الحاجة قد تدعو لذلك، ولأن الوكيل كالأصيل.
أنواع الوكالة: للوكالة أنواع منها ما
يأتي:
أولاً ـ الوكالة الخاصة والعامة: قد تكون الوكالة خاصة وقد تكون عامة (3).
الوكالة الخاصة: هي الإنابة في تصرف معين، كبيع أرض أو سيارة معينة،
_________
(1) المبسوط: 9/ 19، 106، فتح القدير: 104/ 6، البدائع: 21/ 6، رد المحتار
والدر المختار: 418/ 4.
(2) بداية المجتهد: 297/ 2، الشرح الكبير: 378/ 3، المغني: 84/ 5، مغني
المحتاج: 221/ 2، المهذب: 349/ 1.
(3) الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 416/ 4، بداية المجتهد: 297/ 2.
(4/3000)
وإجارة عقار محدد، وتوكيل في دعوى معينة.
وحكمها: أن الوكيل مقيد بما وكل فيه، وإلا كان فضولياً.
والوكالة العامة: هي الإنابة العامة في كل تصرف أو شيء، مثل أنت وكيلي في
كل التصرفات، أو في كل شيء، أو اشتر لي ما شئت أو ما رأيت، وحكمها أن
الوكيل يملك كل تصرف يملكه الموكل وتجوز النيابة فيه، ما عدا التصرفات
الضارة بالموكل كالتبرعات من هبة ووقف ونحوهما، والإسقاطات من طلاق وإبراء
ونحوهما. فلا يملك الوكيل هبة شيء من أموال الموكل، ولا طلاق زوجة الموكل،
إلا بالنص على ذلك صراحة.
ثانياً ـ الوكالة المقيدة والمطلقة: قد تكون الوكالة أيضاً مقيدة أو مطلقة
(1).
الوكالة المقيدة: هي التي يقيد فيها تصرف الوكيل بشروط معينة، مثل وكلتك في
بيع أرضي بثمن حال قدره كذا، أو مؤجل إلى مدة كذا، أو مقسّط على أقساط
معينة. وحكمها: أن الوكيل يتقيد بما قيده به الموكل، أي أنه يراعي القيد ما
أمكن، سواء بالنسبة للشخص المتعاقد معه أو لمحل العقد، أو بدل المعقود
عليه. فإذا خالف الوكيل لا يلزم الموكل بالتصرف إلا إذا كان خلافاً إلى
خير، فيلزمه، كأن يبيع الشيء الموكل ببيعه بأكثر من الثمن المحدد له، أو
بثمن حال بدلاً من الثمن المؤجل أو المقسط. وإذا لم يلزم الموكل بالتصرف
بسبب المخالفة، كان الوكيل فضولياً، ولزمه التصرف إن كان وكيلاً بالشراء
لأنه متهم بالشراء لنفسه. أما الوكيل بالبيع إذا خالف أمر الموكل فيتوقف
على إجازة الموكل، ولا يلزم الوكيل بالعقد، لتعذر تنفيذه عليه.
_________
(1) البدائع: 27/ 6 ومابعدها، مختصر الطحاوي: ص 110 ومابعدها، المبسوط: 39/
19، الدر المختار: 421/ 4 ومابعدها، مجمع الضمانات: ص 249، تكملة فتح
القدير: 70/ 6 وما بعدها.
(4/3001)
والوكالة المطلقة: هي التي لا يقيد فيها
الوكيل بشيء مثل: وكلتك في بيع هذه الأرض، من غير تحديد ثمن معين، أو كيفية
معينة لوفاء الثمن. وحكمها عند أبي حنفية: أن المطلق يجري على إطلاقه،
فللوكيل التصرف بأي ثمن قليلاً أو كثيراً، ولو بغبن فاحش، معجلاً أو
مؤجلاً، صحيحاً أو مريضاً؛ لأن الأصل في اللفظ المطلق أن يجري على إطلاقه،
ولا يجوز تقييده إلا بدليل، كوجود تهمة، ولا يعتمد على العرف، لأن العرف في
البلاد متعارض.
وقال الصاحبان، وعلى رأيهما الفتوى، ورأيهما هو الراجح وبه قال الشافعية
والحنابلة والمالكية (1): يتقيد الوكيل بما تعارفه الناس، فإذا خالف
المتعارف كان فضولياً في تصرفه، وتوقف نفاذه على رضا الموكل. فليس للوكيل
بالبيع مثلاً أن يبيع بغبن فاحش: وهو ما لا يتساهل فيه الناس عادة، ولا أن
يبيع بغير النقد الغالب في البلد، ولا أن يبيع بثمن مؤجل أو مقسط إلا إذا
جرى العرف في مثله؛ لأن الوكيل منهي عن الإ ضرار بالموكل، مأمور بالنصح له.
وفي الزواج: ليس للوكيل أن يزوج الموكل بامرأة لا تكافئه، أو بمهر فيه غبن
فاحش، فإن فعل ذلك كان تصرفاً موقوفاً على إجازة الموكل، فإن أجازه نفذ،
وإلا بطل.
حكم تصرفات الوكيل:
يترتب على الوكالة ثبوت ولاية التصرف الذي تناوله التوكيل، وسأذكر أهم
التصرفات في أهم أنواع الوكالات.
_________
(1) الشرح الكبير: 382/ 3، المهذب: 353/ 1 ومابعدها، مغني المحتاج: 223/ 2
- 229، بداية المجتهد: 298/ 2، المغني: 124/ 5، قواعد الأحكام لابن عبد
السلام: 107/ 2، ط الاستقامة.
(4/3002)
1 - الوكيل بالخصومة:
أي بالمرافعة أمام القضاء كالمحامي اليوم، يملك كل ما يتعلق بالدعوى وما لا
بد منه فيها، ومن ذلك الإقرار على موكله عند الحنفية ما عدا زفر (1)؛ لأن
مهمة الوكيل بيان الحق وإثباته، لا المنازعة فيه فقط، وبيان الحق قد يكون
إنكاراً لدعوى الخصم، وقد يكون إقراراً.
وقال زفر وأئمة المذاهب الثلاثة الأخرى (2): لا يقبل إقرار الوكيل بالخصومة
على موكله بقبض الحق وغيره، لأن التوكيل بالخصومة معناه التوكيل بالمنازعة،
والإقرار مسالمة، لأنه يترتب عليه إنهاء الخصومة، فلا يملكه الوكيل
كالإبراء. كذلك يملك الوكيل بالخصومة قبض المال المحكوم به لموكله عند
الحنفية ما عدا زفر (3)؛ لأن هذا من تمام الخصومة، والخصومة لا تنتهي إلا
بالقبض، والوكيل أمين على مصالح موكله (4).
وقال زفر والشافعية والحنابلة (5): لايملك القبض، لأن الرجل الثقة بالتقاضي
والمخاصمة قد لايكون أميناً في قبض الحقوق.
2 - الوكيل بالبيع: إذا كان مقيد التصرف
يتقيد بالقيد الذي حدده له الموكل بالاتفاق بين الفقهاء، فإذا خالف القيد،
لاينفذ تصرفه على الموكل، ولكن يتوقف على إجازته، إلا إذا كانت مخالفته إلى
خير؛ لأنه محقق لمقصود الموكل ضمناً.
_________
(1) البدائع: 24/ 6، تكملة الفتح: 10/ 6، المبسوط: 4/ 19، الدر المختار:
430/ 4، الكتاب مع شرحه اللباب: 151/ 2.
(2) بداية المجتهد: 297/ 2، الشرح الكبير: 379/ 3، المهذب: 351/ 1، المغني:
91/ 5.
(3) البدائع: 24/ 6 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 96/ 6، المبسوط: 19/ 19،
مجمع الضمانات: ص 261.
(4) قال المرغيناني صاحب الهداية: والفتوى اليوم على قول زفر رحمه الله،
لظهور الخيانة في الوكلاء، وقد يؤتمن على الخصومة من لا يؤتمن على المال.
(5) المهذب: 351/ 1، المغني: 91/ 5.
(4/3003)
فإذا كان وكيلاً بالبيع بثمن ما، فباع
بأقل، لا ينفذ، لأنه خلاف إلى شر، وإن باع بأكثر، نفذ، لأنه خلاف إلى خير،
وإذا وكل بالبيع نقداً فباع مؤجلاً لم ينفذ إلا بإجازة الموكل، وإذا وكل
بالبيع مؤجلاً فباع نقداً، نفذ.
وإن كان الوكيل مطلق التصرف: فيعمل عند أبي حنيفة بمقتضى الإطلاق، فله أن
يبيع بأي ثمن كان، قليلاً أو كثيراً، حتى بالغبن الفاحش، عاجلاً أو آجلاً،
كما أوضحت سابقاً، عملاً بإطلاق الحرية للوكيل بالتصرف.
وقال الصاحبان وبرأيهما يفتى، وبقية الأئمة الثلاث: يتقيد الوكيل المطلق
بالمتعارف، فلا يبيع إلا بالنقود المتداولة، وبمثل القيمة، وبالمعجل، فلا
يبيع بالأعيان، ولا بما لا يتغابن الناس فيه عادة، أي بالغبن اليسير، ولا
بالنسيئة المؤجلة (1).
وفي حال المخالفة يكون العقد موقوفاً على إجازة الموكل عند الحنفية، باطلاً
عند الشافعية.
وليس للوكيل بالبيع عند أبي حنيفة أن يبيع لنفسه ولا لزوجته وأبيه وجده
وولده وسائر من لا تقبل شهادته له؛ لأنه متهم في ذلك بمراعاة مصلحته أو
إيثار العين المبيعة لأقاربه.
وقال الصاحبان: يجوز له أن يبيع لهؤلاء لا لنفسه بمثل القيمة أو أكثر؛ لأن
التوكيل مطلق، والبيع لأحد من هؤلاء أو غيرهم سواء، ولا تهمة هنا؛ لأن ملكه
وأملاكهم متباينة، فالمنافع منقطعة فيما بينهم (2).
_________
(1) المراجع السابقة في بحث الوكالة المقيدة والمطلقة.
(2) البدائع: 28/ 6، تكملة فتح القدير: 67/ 6 ومابعدها، رد المحتار: 424/
4، مجمع الضمانات: ص 261.
(4/3004)
وتوسط غير الحنفية بين الرأيين، فأجاز
المالكية للوكيل بالبيع أن يبيع لزوجته ووالده الرشيد إذا لم يحابهما، ولم
يجيزوا له البيع لنفسه أو من في رعايته من صغير أو سفيه أو مجنون (1).
وأجاز الشافعية في الأصح وفي رواية عن أحمد له البيع بمثل القيمة لأبيه
وجده وابنه البالغ وسائر فروعه المستقلين عنه لعدم التهمة، ولم يجيزوا له
أن يبيع لنفسه وولده الصغير أو المجنون أو السفيه (2).
3 - الوكيل بالشراء: مثل الوكيل بالبيع
من التقيد بما قيده به الموكل، في الثمن وفي جنس المشترى ونوعه وصفته، أو
إطلاق الحرية في التصرف إذا كانت الوكالة مطلقة. فإذا خالف الوكيل أحد
القيود لا يلزم الموكل بالشراء، إلا إذا كان خلافاً إلى خير، فيلزمه. ووقع
الشراء للوكيل نفسه باتفاق الفقهاء (3)، بعكس الوكيل بالبيع؛ لأن المشتري
قد يتهم بأنه كان يريد الشراء لنفسه، فلما تبين أنه غبن غبناً فاحشاً أظهر
أنه يشتري باسم موكله.
كذلك لا يملك الوكيل بالشراء عند أبي حنيفة كالوكيل بالبيع أن يشتري من
نفسه، أو زوجته أو أبيه أو جده، أو ولده وولد ولده، وكل من لا تقبل شهادته
له للتهمة في ذلك.
وقال الصاحبان: يجوز إذا اشترى بمثل القيمة أو بأقل أو بزيادة يتغابن الناس
في مثلها عادة (4).
_________
(1) الشرح الكبير: 387/ 3 وما بعدها.
(2) مغني المحتاج: 224/ 2 ومابعدها، نهاية المحتاج: 26/ 4 ومابعدها،
المغني: 107/ 5 ومابعدها.
(3) البدائع: 29/ 6 ومابعدها، مختصر الطحاوي: ص 110 ومابعدها، المبسوط: 39/
19، تكملة فتح القدير: 75/ 6. الدر المختار: 421/ 4، مغني المحتاج: 229/ 2،
المهذب: 354/ 1، بداية المجتهد: 298/ 2، الشرح الكبير: 382/ 3، المغني:
124/ 5، 107.
(4) المراجع السابقة.
(4/3005)
4 - الوكالة في
الزواج والطلاق، والإجارة والرهن ونحوها من إدارة
الأموال: يتقيد الوكيل في ذلك بما يقيده به الموكل، وليس له أن يتصرف بما
فيه ضرر.
5 - هل للوكيل توكيل غيره؟ إذا كانت
الوكالة خاصة أو مقيدة بأن يعمل الوكيل بنفسه، لم يجز له توكيل غيره فيما
وكل فيه.
وإن كانت الوكالة مطلقة أو عامة بأن قال له: اصنع ما شئت، جاز له توكيل
الغير، ويكون هذا الغير وكيلاً مع الأول عن الموكل. هذا عند الحنفية (1).
وقال المالكية (2): ليس للوكيل أن يوكل غيره إلا أن يكون الوكيل لا يليق به
تولي ما وكل فيه بنفسه، كأن يكون وجيهاً، والموكل به حقير فله التوكيل
حينئذ.
وقال الشافعية والحنابلة (3): ليس للوكيل أن يوكل غيره بلا إذن الموكل متى
كان قادراً على ما وكل فيه. أما إذا لم يكن قادراً على القيام بكل ما وكل
فيه، فله أن يوكل غيره ويكون الوكيل الثاني وكيلاً مع الأول عن الموكل.
6 - تعدد الوكلاء:
قد يتعدد الوكلاء عن الشخص الواحد في التصرفات والخصومات، أو المرافعة أمام
القضاء، كما يحدث عادة في كثير من الأحيان، فيكون هناك وكيلان أو أكثر في
القضايا الخطيرة. ويعرف تفصيل حكم تصرفات الوكلاء مما يأتي (4).
_________
(1) البدائع: 25/ 6، تكملة فتح القدير: 89/ 6 ومابعدها.
(2) الشرح الكبير للدردير: 388/ 3.
(3) مغني المحتاج: 226/ 2، المغني: 88/ 5.
(4) البدائع: 32/ 6، تكملة فتح القدير: 86/ 6 - 88.
(4/3006)
فإن تعدد الوكلاء كلاً في عقد خاص وأعمال
خاصة، كان لكل منهم أن ينفرد في مباشرة ما وكل فيه دون استشارة غيره. وإن
كان العمل واحداً، فلكل واحد القيام به وحده أيضاً، فتنتهي حينئذ وكالة
الآخرين.
وإن كان التوكيل للجميع في عقد واحد، فليس لأحدهم ـ دون إذن الموكل ـ
الانفراد بالتصرف بما وكلوا فيه؛ لأن تعددهم كان بقصد تحقيق التعاون
والتشاور فيما بينهم ضماناً لصالح الموكل، ويستثنى من ذلك ما لا يحتاج من
التصرفات لتبادل الرأي كرد الودائع ووفاء الديون، أو ما لا يمكن فيه
الاجتماع كالمرافعة أمام القضاء، بشرط إعداد مذكرات الدفاع بالاشتراك بين
جميع الوكلاء.
الفرق بين الوكالة والرسالة:
يحسن بيان الفرق بين الوكيل والرسول تمهيداً لمعرفة من يلتزم بحقوق العقد،
إذ يختلف الوكيل عن الرسول (1).
فالوكيل: هو الذي يتصرف برأيه وعبارته وتقديره، فيساوم ويعقد العقود حسبما
يرى من المصلحة، ويتحمل تبعات تصرفاته، ويستغني غالباً عن إضافة العقد إلى
موكله، فيقول: بعت أو اشتريت كذا، لا: باع أو اشترى فلان، فإذا أسند العقد
لموكله، صار مجرد سفير ومعبر عن كلام الأصيل، فيصبح عندئذ كالرسول.
والرسول: هو الذي يقتصر على نقل عبارة مرسله، دون أن يتصرف برأيه وإرادته،
وإنما يبلِّغ عبارة المرسل، وينقل رغبته وإرادته في التصرف، فيقول للمرسل
إليه: أرسلني فلان لأبلغك كذا، فيضيف عبارته دائماً للمرسل، ولا يتحمل
شيئاً من التزامات التعاقد.
_________
(1) راجع مختصر أحكام المعاملات الشرعية لأستاذنا علي الخفيف: ص 117
ومابعدها.
(4/3007)
حكم العقد وحقوقه في الوكالة:
حكم العقد: هو الغرض والغاية منه. ويراد
به هنا الأثر الذي يترتب على العقد شرعاً. ففي عقد البيع: يكون الحكم: هو
ثبوت ملكية المبيع للمشتري واستحقاق الثمن للبائع، وفي عقد الإجارة: الحكم
هو تملك المستأجر المنفعة، واستحقاق الأجرة للمؤجر.
واتفق الفقهاء على أن حكم العقد الذي
يتم بواسطة وكيل: يقع مباشرة للموكل نفسه، لا للوكيل؛ لأن الوكيل يعمل في
الحقيقة لموكله وبأمره، فهو قد استمد ولايته منه (1). ويترتب عليه أن
المسلم لو وكل غير مسلم في شراء خمر أو خنزير، لم يصح الشراء؛ لأن المسلم
ليس له أن يتملك شيئاً من هذين.
حقوق العقد: هي الأعمال والالتزامات
التي لا بد منها للحصول على حكمه أو على الغاية والغرض منه، مثل تسليم
المبيع، وقبض الثمن، والرد بالعيب أو بسبب خيار الشرط أو الرؤية، وضمان رد
الثمن، إذ استحق (2) المبيع مثلاً.
فإذا باشر المرء العقد بنفسه ولمصلحته عاد إليه حكم العقد وحقوقه. وأما إن
توسط وكيل في إجراء العقد وإبرامه، عاد حكم العقد إلى الموكل كما عرفنا،
وأما حقوق العقد فتارة ترجع إلى الموكل، وتارة ترجع إلى الوكيل بحسب نوع
التصرف الذي يتولاه الوكيل.
والتصرفات التي يمارسها الوكيل نوعان:
النوع الأول ـ ما يلزم أن يضيفه الوكيل إلى الموكل، ولا يجوز له إضافته إلى
_________
(1) تبيين الحقائق 256/ 4، الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود
حمزة: ص137، المغني لابن قدامة: 130/ 5، مغني المحتاج: 229/ 2 ومابعدها،
بداية المجتهد: 298/ 2.
(2) الاستحقاق: هو أن يدعي أحد ملكية شيء موجود في يد غيره ويثبتها
بالبينة، ويقضى له بها.
(4/3008)
نفسه، فإن أضافه إلى نفسه وقع العقد له لا
للموكل، مثل الزواج والطلاق والخلع، والعقود العينية أي التي لا تتم إلا
بالقبض وهي خمسة (الهبة والإعارة والإيداع والقرض والرهن). يلزم الوكيل أن
يقول حين إبرام العقد: قبلت زواج فلانة لفلان، وطلقت امرأة فلان، ووهبتك من
مال فلان، ولا يصح أن يقول: تزوجت أو طلقت على كذا ووهبت؛ فينصرف أثر
التصرف إليه، أي أن الزواج يكون للوكيل حينئذ لا للموكل، ويقع الطلاق عنه،
لا عن الموكل، ويلزم الهبة من ماله لا من مال الموكل.
وحكم هذا النوع أن حقوق التصرف ترجع إلى الموكل، ولا يطالب الوكيل منها
بشيء أصلاً؛ لأن الوكيل في هذه التصرفات يكون سفيراً ومعبراً محضاً عن
الموكل. فإذا كان الشخص وكيلاً عن الزوج لا يطالب بالمهر، وإنما يطالب
الزوج، وإذا كان وكيلاً عن المرأة لا يطالب بإزفافها إلى بيت زوجها، وإنما
تطالب المرأة أو وليها. ولو كان وكيلاً عن الواهب لايلزم الوكيل بتسليم
العين الموهوبة، وإنما يطالب الموكل نفسه، ولا يلزم الوكيل بتسليم الموهوب
إذا كان وكيلاً عن الموهوب له.
النوع الثاني: ما لا يلزم أن يضيفه الوكيل إلى الموكل، وإنما يصح إضافته له
أو لنفسه كالمعاوضات المالية، مثل البيع والشراء والإجارة والصلح الذي هو
في معنى البيع (أي الصلح بعوض عن إقرار) فيصح أن يقول الوكيل: بعت أو
اشتريت، كما يصح أن يقول: بعت مال فلان، واشتريت لفلان.
وحكم هذا النوع: أن الوكيل إذا أضاف التصرف للموكل، مثل: اشتريت لفلان،
رجعت الحقوق للموكل، ولزمته هو، ولا يطالب الوكيل بشيء، لأنه في هذه الحالة
مجرد سفير ومعبر عن الأصيل.
(4/3009)
وإن أضاف الوكيل التصرف لنفسه رجعت إليه
الحقوق دون الموكل؛ لأنه هو الذي باشر العقد ولا يعرف الطرف الآخر سواه.
فإذا كان وكيلاً عن البائع لزمه تسليم المبيع للمشتري، وقبض الثمن. وإذا
كان وكيلاً عن المشتري واطلع على عيب المبيع، أو أظهر أن المبيع مستحق لغير
البائع، كان هو المكلف بمقاضاة البائع وخصومته، ويلزمه ضمان الثمن للمشتري
حال استحقاق المبيع، كما يلزمه دفع الثمن للبائع إذا كان المبيع سليماً من
العيوب.
ويستثنى من ذلك ما إذا كان العاقد ليس من أهل لزوم العهدة (أي ليس أهلاً
للمسؤولية والتزام الحقوق) إما لنقص أهليته كالصبي المحجور عن التصرف، أو
لانشغاله كالقاضي وأمين القاضي، فترجع الحقوق حينئذ للموكل نفسه، لا إلى
الوكيل.
هذا هو مذهب الحنفية (1). ويوافقهم المالكية والشافعية (2) في ذلك أي في أن
حقوق العقد تتعلق بالوكيل دون الموكل.
وقال الحنابلة (3): إن حقوق العقد ترجع للموكل دون الوكيل؛ لأن الوكيل
عندهم مجرد سفير ومعبر عن العاقد الأصيل. لكن في هذا الرأي إضاعة للغرض من
الوكالة؛ لأن الموكل يوكل غيره في أموره ليخفف عن نفسه عناء مباشرته لها،
أو لأنه لا يليق به أن يباشرها، أو لعدم قدرته على القيام بها، فإذا عادت
الحقوق للموكل نفسه لم يتحقق له الغرض من الوكالة (4).
_________
(1) البدائع: 33/ 6 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 16/ 6 ومابعدها، تبيين
الحقائق: 256/ 4، رد المحتار: 419/ 4، الكتاب مع اللباب: 141/ 2.
(2) المدونة الكبرى: 83/ 10، 186، الشرح الصغير: 506/ 3 ومابعدها، نهاية
المحتاج: 47/ 4، مغني المحتاج: 230/ 2.
(3) كشاف القناع: 238/ 2، المغني: 97/ 5، مطالب أولي النهي شرح غاية
المنتهى: 462/ 3.
(4) الأموال ونظرية العقد للمرحوم محمد يوسف موسى: ص376.
(4/3010)
انتهاء الوكالة:
تنتهي الوكالة بأحد الأمور التالية (1):
1 - انتهاء الغرض من الوكالة: بأن يتم تنفيذ التصرف الذي وكل فيه الوكيل،
إذ يصبح العقد غير ذي موضوع.
2 - قيام الموكل بالعمل الذي وكل فيه غيره: كأن يبرم البيع الذي وكل فيه
غيره.
3 - خروج الموكل أو الوكيل عن الأهلية: بموت، أو جنون استمر شهراً، أوحجر
لسفه؛ لأن الوكالة تتطلب استمرار الأهلية للتصرفات، فإذا زالت الأهلية بطلت
الوكالة. والوكيل يستمد ولايته من الموكل.
ولا يشترط عند الحنفية والشافعية والحنابلة أن يعلم العاقد بخروج الطرف
الآخرعن الأهلية بهذه العوارض. وقال المالكية: الأرجح أن الوكيل لا ينعزل
بموت الموكل حتى يعلم به.
4 - استقالة الوكيل: إذا تنازل الوكيل عن الوكالة أو استقال، أو رفض
الاستمرار في العمل، انتهت الوكالة؛ لأن الوكالة بغير أجر كما تقدم عقد غير
لازم، يجوز للوكيل أن يتنازل عنها في أي وقت. لكن يشترط عند الحنفية في هذه
الحالة أن يعلم الموكل بهذا التنازل، حتى لا يتضرر بما فعل الوكيل، ولم
يشترط الشافعي علم الموكل بعزل الوكيل نفسه.
_________
(1) انظر عند الحنفية: البدائع: 37/ 6 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 123/ 6
ومابعدها، الدر المختار: 434/ 4، تبيين الحقائق: 286/ 4 ومابعدها، وعند
المالكية: بداية المجتهد: 298/ 2، الشرح الكبير: 396/ 3، وعند الشافعية:
مغني المحتاج: 232/ 2، المهذب: 1/ 357، وعند الحنابلة: المغني: 113/ 5،
غاية المنتهى: 154/ 2 ومابعدها.
(4/3011)
5 - هلاك العين الموكل بالتصرف فيها، بيعاً
أو شراءً أو إيجاراً؛ لأن العقد يصبح غير ذي موضوع. فإذا انهدمت الدار
الموكل في شرائها، أو ماتت المرأة الموكل في تزوجها، بطلت الوكالة، لعدم
تصور التصرف في المحل المعقود عليه بعد هلاكه.
6 - عزل الموكل وكيله: لأن الوكالة كما عرفنا عقد غير لازم، فللموكل إنهاء
الوكالة في أي وقت شاء. لكن يشترط لصحة العزل عند الحنفية شرطان:
أحدهما: علم الوكيل بالعزل، حتى لا يلحقه ضرر بإبطال ولايته فيما إذا تصرف
تصرفاً يوجب عليه الضمان، بدفع الثمن مثلاً، وتملك المبيع.
وهذا شرط أيضاً في الأرجح عند المالكية.
وقال الشافعية في الأصح عندهم، والحنابلة في الأرجح لديهم: لا يشترط علم
الوكيل بالعزل؛ لأنه رفع عقد لا يفتقر إلى رضا صاحبه، فلا يحتاج إلى علمه
كالطلاق.
ثانيهما: ألا يتعلق بالوكالة حق لغير الموكل: فإن تعلق بها حق لغيره لم يصح
العزل إلا برضا صاحب الحق، كأن يوكل المدين الراهن شخصاً (هو الدائن أو
غيره) ببيع الرهن وسداد الدين منه إذا حل الأجل، فلا يصح عزل الوكيل حينئذ
بغير رضا الدائن صاحب الحق، لتعلق حقه بالموضوع.
وإذا وكل الزوج شخصاً بطلاق زوجته متى شاء، فلا يملك الزوج الموكل الرجوع
عن الوكالة إلا برضا المرأة.
ولو أراد المدين السفر إلى بلد، فطلب منه دائنه أن يوكل عنه شخصاً ليخاصمه
في طلب الدين وقت الحاجة، فوكل وكيلاً إجابة لطلبه وسافر، فليس له أن يعزل
الوكيل إلا برضا الدائن.
(4/3012)
الفضالة
قد ينعقد العقد بالفضالة التي تتخذ بالإجازة حكم الوكالة. فمن الفضولي، وما
حكم تصرفاته عند الفقهاء، وما أثر إجازة تصرفاته، وما شروط صحة الإجازة،
وهل يملك فسخ العقد الصادر منه قبل الإجازة؟
تعريف الفضولي: الفضولي في اللغة: هو من
يشتغل بما لا يعنيه أو بما ليس له. وعمله هذا يسمى فضالة. وعند الفقهاء له
معنى قريب من هذا. وهو من يتصرف في شؤون غيره، دون أن يكون له ولاية على
التصرف. أو من يتصرف في حق غيره بغير إذن شرعي كأن يزوج من لم يأذن له في
الزواج، أو يبيع أو يشتري ملك الغير بدون تفويض، أو يؤجر أو يستأجر لغيره
دون ولاية أو توكيل. فهذا التصرف يسمى فضالة.
حكم تصرفاته عند الفقهاء: للفقهاء رأيان
في تصرف الفضولي:
أولهما ـ للحنفية والمالكية (1): تصرفات الفضولي تقع منعقدة صحيحة، لكنها
موقوفة على إجازة صاحب الشأن: وهو من صدر التصرف لأجله، إن أجازه نفذ، وإن
رده بطل (2). واستدلوا على رأيهم بما يأتي:
_________
(1) البدائع: 148/ 5 ومابعدها، فتح القدير مع العناية: 309/ 5 ومابعدها، رد
المحتار: 6/ 4، 142، بداية المجتهد: 171/ 2، الشرح الكبير مع الدسوقي: 12/
3، القوانين الفقهية: ص 245.
(2) فرق الحنفية بين بيع الفضولي وشراء الفضولي. أما بيع الفضولي فينعقد
صحيحاً موقوفاً على الإجازة، سواء أضاف الفضولي العقد لنفسه أم إلى المالك،
وأما شراء الفضولي ففيه تفصيل:
إن أضاف الفضولي الشراء لنفسه نفذ العقد عليه، لأن الأصل أن يكون تصرف
الإنسان لنفسه لا لغيره، وإذا وجد العقد نفاذاً على العاقد نفذ عليه ولا
يتوقف. وإن أضاف الفضولي الشراء لغيره، أو لم يجد نفاذاً عليه لعدم
الأهلية، كأن يكون العاقد صبياً أو محجوراً، انعقد الشراء صحيحاً موقوفاً
على إجازة هذا الغير الذي تم الشراء له، فإن أجازه نفذ عليه، واعتبر
الفضولي وكيلاً ترجع إلىه حقوق العقد من حين نشوء العقد (البدائع: 148/ 5 -
150، مختصر الطحاوي: ص 83، الدر المختار ورد المحتار: 143/ 4).
[التعليق]
انظر أيضاً آراء العلماء في تصرف الفضولي:
5/ 3339
* أبو أكرم الحلبي
(4/3013)
أولاً ـ بعموم الآيات القرآنية الدال على
مشروعية البيع، مثل قوله تعالى: {وأحل الله البيع} [البقرة:275/ 2]
والفضولي كامل الأهلية، فإعمال عقده أولى من إهماله، وربما كان في العقد
مصلحة للمالك، وليس فيه أي ضرر بأحد؛ لأن المالك له ألا يجيز العقد، إن لم
يجد فيه فائدة.
ثانياً ـ بما ثبت ـ في الحديث المتقدم في الوكالة ـ أن النبي صلّى الله
عليه وسلم أعطى عروة البارقي ـ أحد أصحابه ـ ديناراً ليشتري له به شاة،
فاشترى شاتين بالدينار، وباع إحداهما بدينار، وجاء للنبي صلّى الله عليه
وسلم بدينار وشاة، فقال له «بارك الله لك في صفقة يمينك» فشراء الشاة
الثانية وبيعها لم يكن بإذن النبي عليه السلام، وهو عمل فضولي جائز بدليل
إقرار الرسول له.
وخلاصة هذا الرأي: أن الملكية أو الولاية هي من شروط نفاذ التصرف، فإذا لم
يكن العاقد مالكاً ولا ولاية له، كان العقد موقوفاً.
الرأي الثاني ـ للشافعية والحنابلة والظاهرية (1): تصرف الفضولي باطل، لا
يصح ولو أجازه صاحب الشأن؛ لأن الإجازة تؤثر في عقد موجود، وهذا العقد لا
وجود له منذ نشأته، فلا تصيره الإجازة موجوداً. واستدلوا بما يأتي:
أولاً ـ بأن تصرف الفضولي تصرف فيما لا يملك، وتصرف الإنسان فيما لا يملكه
منهي عنه شرعاً، والنهي يقتضي عدم مشروعية المنهي عنه عندهم، وذلك في قوله
صلّى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام: «لا تبع ما ليس عندك» (2) أي ما ليس
مملوكاً لك،
_________
(1) المجموع للنووي: 281/ 9، 284 ومابعدها، مغني المحتاج: 15/ 2، كشاف
القناع: 11/ 2 ومابعدها، القواعد لابن رجب: ص 417، غاية المنتهى: 8/ 2،
المحلى: 503/ 8، م 1460.
(2) نص الحديث كما رواه أحمد: «إذا اشتريت شيئاً فلا تبعه حتى تقبضه». وجاء
في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فيما رواه الخمسة: «لا يحل سلف ولا
بيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يَضْمن، ولا بيع ما ليس عندك» (نيل
الأوطار: 157/ 5، سبل السلام: 16/ 3).
(4/3014)
وسبب النهي اشتمال العقد على الغرر الناشئ
عن عدم القدرة على التسليم وقت العقد، وما يترتب عليه من النزاع.
وقالوا عن حديث عروة البارقي: إنه كان وكيلاً مطلقاً عن النبي صلّى الله
عليه وسلم، وتصرفاته التي قام بها تنفذ، لأنها تمت بمقتضى وكالة خالف فيها
الوكيل إلى خير، فينفذ تصرفه.
ثانياً ـ إن أي تصرف لا يوجد شرعاً إلا بتوافر الولاية والأهلية عند
العاقد، وهذه الولاية لا تكون إلا بالملك أو بالإذن من المالك، والفضولي
ليس مالكاً لما يتصرف فيه ولا مأذوناً له من المالك بالتصرف، فلا يكون
لتصرفه وجود شرعاً، ولا يترتب عليه أي أثر.
وخلاصة هذا الرأي: أن الملكية أو الولاية من شروط انعقاد التصرف، فإذا لم
يتوفر شرط الانعقاد كان التصرف باطلاً.
وقد أخذ القانون المدني السوري في مواد عشر (189 - 198) برأي الحنفية
والمالكية، وطبق عليها قواعد الوكالة إذا أقر رب العمل ما قام به الفضولي
(م191)، لكنه حصر الفضالة بقيام الفضولي بشأن عاجل لشخص آخر، كما يفهم من
تعريفها (م 189): «الفضالة: هي أن يتولى شخص عن قصد القيام بشأن عاجل لحساب
شخص آخر، دون أن يكون ملزماً بذلك».
شروط إجازة تصرف الفضولي:
اشترط الحنفية القائلون بصحة تصرف الفضولي شروطاً ثلاثة: أحدها في المجيز،
وثانيها في الإجازة، وثالثها في نفس التصرف (1):
_________
(1) البدائع: 149/ 5 - 151، فتح القدير: 311/ 5، الدر المختار ورد المحتار:
141/ 4 ومابعدها، 146.
(4/3015)
1 - أن يكون للعقد مجيز (1) حالة إنشاء
العقد: أي أن يكون صاحب الشأن مستطيعاً إصدار العقد بنفسه، فإن لم يكن كذلك
وقع العقد باطلاً من مبدأ الأمر، وعلى هذا إذا طلق فضولي امرأة زوج بالغ
عاقل، أو وهب ماله، أو باعه بغبن فاحش، انعقد التصرف موقوفاً على الإجازة؛
لأن صاحب الشأن كان يستطيع أن يصدر هذه التصرفات بنفسه، فيستطيع إجازتها
بعد وقوعها، فكان للتصرف مجيز حالة إنشائه.
أما لو فعل فضولي شيئاً من هذه التصرفات بالنسبة لصغير، فلا ينعقد التصرف
أصلاً؛ لأن الصغير ليس أهلاً لهذه التصرفات الضارة، فلا يكون أهلاً
لإجازتها، فلم يكن لها مجيز حين نشوء التصرف.
فإن كان التصرف قابلاً لإجازة ولي الصغير كالبيع بمثل القيمة أو أكثر، وكان
للصغير ولي، انعقد موقوفاً على إجازته، أو على إجازة الصغير بعد البلوغ.
2 - أن تكون الإجازة حين وجود العاقدين (الفضولي والطرف الآخر) والمعقود
عليه وصاحب الشأن: فلو حصلت الإجازة بعد هلاك واحد من هؤلاء الأربعة، بطل
التصرف، ولم تفد الإجازة شيئاً؛ لأن الإجازة تؤثر في التصرف، فلابد من قيام
التصرف، وقيامه بقيام العاقدين والمعقود عليه.
3 - ألا يمكن تنفيذ العقد على الفضولي عند رفض صاحب الشأن: مثل بيع ملك
الغير أو إجارته، سواء أضاف العقد لنفسه أم لصاحب المال، ومثل شراء شيء
لغيره أو استئجار شيء لغيره وأضاف العقد لذلك الغير. ففي كل هذه الحالات
يكون العقد موقوفاً.
_________
(1) المجيز: هو صاحب المصلحة والشأن في التصرف، والذي له حق تقرير وإمضاء
التصرف أو رفضه.
(4/3016)
أما إذا أمكن تنفيذ العقد على الفضولي عند
عدم إجازته، فينفذ على الفضولي كشراء شيء أو استئجاره مضيفاً العقد لنفسه،
فيلزمه هو.
أثر إجازة تصرف الفضولي:
يترتب على الإجازة من صاحب الشأن أثران: أحدهما ـ جعل التصرف نافذاً.
ثانيهما ـ جعل الفضولي وكيلاً يلتزم بحقوق التصرف؛ لأن «الإجازة اللاحقة
كالوكالة السابقة» (1).
أما تاريخ نفاذ التصرف بالإجازة فيختلف بحسب نوع التصرف:
إن كان من التصرفات التي لا تقبل التعليق بالشرط كعقود المعاوضات المالية
(البيع والإيجار ونحوهما) فإنها تنفذ من وقت إنشائها أي أن للإجازة أثراً
رجعياً؛ لأن آثارها لا تتراخى عنها، وتكون زوائد الشيء وغلاته كالأجرة
مملوكة لمن وقع العقد له، أي للمشتري في عقد البيع؛ لأن الإجازة اللاحقة
كالوكالة السابقة.
وإن كان التصرف مما يصح تعليقه بالشرط كالكفالة والحوالة والوكالة والطلاق،
فإنه ينفذ من وقت الإجازة؛ لأن هذه التصرفات معلقة في المعنى على الإجازة.
وإن كان التصرف يتطلب التسليم الفعلي كالهبة، فينفذ من وقت تسليم الموهوب
له.
فسخ تصرف الفضولي:
تصرف الفضولي غير ملزم لصاحب الشأن، فيجوز حينئذ فسخه. والفسخ
_________
(1) البدائع: 151/ 5.
(4/3017)
قد يكون من صاحب الشأن (البائع أو المشتري
مثلاً)؛ لأن التصرف موقوف على رضاه وإجازته، فما لم يجزه لم يتم التصرف.
وقد يكون الفسخ من الفضولي نفسه في عقد البيع قبل إجازة المالك صاحب الشأن
حتى يدفع عن نفسه الحقوق التي تلزمه لو أجاز المالك.
أما عقد الزواج فليس للفضولي فسخه؛ لأنه عقد ترجع فيه الحقوق إلى الأصيل
صاحب الشأن (1).
هل لفضولي واحد أن يعقد العقد عن الطرفين؟
عرفنا سابقاً أن تعدد العاقد شرط في انعقاد العقد، فليس للفضولي الواحد
إبرام العقد سواء في البيع أو الزواج وغيرهما، بل يبطل الإيجاب ولا تلحقه
الإجازة (2)، سواء أكان فضولياً من الجانبين، أم من جانب واحد ومن الجانب
الآخر أصيلاً عن نفسه، أو وكيلاً، أو ولياً عن القاصر. فلو قال: بعت دار
فلان، وقبلت الشراء عن فلان، أو زوجت فلاناً فتاة اسمها كذا، وقبلت هذه
الفتاة لفلان، لم ينعقد العقد.
العنصر الثالث ـ محل العقد:
محل العقد أو المعقود عليه: هو ما وقع عليه التعاقد، وظهرت فيه أحكامه
وآثاره. وهو قد يكون عيناً مالية كالمبيع والمرهون والموهوب، وقد يكون
عيناً غير مالية كالمرأة في عقد الزواج، وقد يكون منفعة كمنفعة الشيء
المأجور في إجارة
_________
(1) البدائع: 151/ 5، فتح القدير: 309/ 5 - 312.
(2) حاشية ابن عابدين: 448/ 2.
(4/3018)
الأشياء من الدور والعقارات ومنفعة الشخص
في إجارة الأعمال (1).
وليس كل شيء صالحاً ليكون معقوداً عليه، فقد يمتنع إبرام العقد على شيء
شرعاً أو عرفاً، كالخمر لا تصلح أن تكون معقوداً عليها بين المسلمين،
والمرأة المحرم بسب رابطة النسب أو الرضاع، لا تصلح أن تكون زوجة لقريبها.
لذا اشترط الفقهاء أربعة شروط في محل العقد،
وهي ما يأتي:
1 - أن يكون موجوداً وقت التعاقد: فلا يصح التعاقد على معدوم كبيع الزرع
قبل ظهوره لاحتمال عدم نباته، ولا على ماله خطر العدم، أي احتمال عدم
الوجود كبيع الحمل في بطن أمه، لاحتمال ولادته ميتاً، وكبيع اللبن في
الضرع، لاحتمال عدمه بكونه انتفاخاً، وكبيع اللؤلؤ في الصدف، ولا يصح
التعاقد على مستحيل الوجود في المستقبل، كالتعاقد مع طبيب على علاج مريض
توفي، فإن الميت لا يصلح محلاً للعلاج، وكالتعاقد مع عامل على حصاد زرع
احترق، فكل هذه العقود باطلة.
وهذا الشرط مطلوب عند الحنفية والشافعية (2)، سواء أكان التصرف من عقود
المعاوضات أم عقود التبرعات، فالتصرف بالمعدوم فيها باطل، سواء بالبيع أو
الهبة أو الرهن، بدليل نهي النبي صلّى الله عليه وسلم عن بيع حبَل الحبلة
(3) ونهيه عن بيع
_________
(1) الإجارة نوعان: إجارة المنافع: وهي أن يكون المعقود عليه منفعة كإجارة
الدور والمنازل والحوانيت والأراضي، وإجارة الأعمال: وهي التي تعقد على عمل
معلوم كبناء وخياطة وحمل إلى موضع معين، وصباغة وإصلاح شيء، وتقديم خبرة
كخبرة الأطباء والمهندسين.
(2) البدائع: 138/ 5 ومابعدها، المبسوط: 194/ 12 ومابعدها، فتح القدير:
192/ 5، مغني المحتاج: 30/ 2، المهذب: 262/ 1.
(3) أي بيع ولد ولد الناقة، أو بيع ولد الناقة. والحديث رواه أحمد ومسلم
والترمذي عن ابن عمر (نيل الأوطار: 147/ 5).
(4/3019)
المضامين والملاقيح (1)، وعن بيع ما ليس
عند الإنسان (2)؛ لأن المبيع فيها وقت التعاقد معدوم.
واستثنى هؤلاء الفقهاء من هذه القاعدة العامة في منع التصرف بالمعدوم عقود
السلَم والإجارة والمساقاة والاستصناع (3) مع عدم وجود المحل المعقود عليه
حين إنشاء العقد، استحساناً مراعاة لحاجة الناس إليها، وتعارفهم عليها،
وإقرار الشرع صحة السلم والإجارة، والمساقاة (4) ونحوها.
واكتفى المالكية (5) باشتراط هذا الشرط في المعاوضات المالية، أما في عقود
التبرعات كالهبة والوقف والرهن فأجازوا ألا يكون محل العقد موجوداً حين
التعاقد، وإنما يكفي أن يكون محتمل الوجود في المستقبل.
_________
(1) المضامين: ما في أصلاب الإبل، والملاقيح: ما في بطون النوق. وهذه
البيوع كانت متعارفة في الجاهلية. والحديث رواه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن
عمر (نصب الراية: 10/ 4).
(2) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة، وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم عن
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع،
ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك». (سبل السلام: 16/ 3).
(3) السلم: هو بيع آجل بعاجل أي بيع شيء غير موجود بثمن حال، كما يفعل
الزراع مع التجار في بيعهم المحصولات الزراعية قبل الحصاد. وقد أجازه الشرع
في السنة: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم»
والإجارة هي عقد على المنافع بعوض. وقد ثبتت مشروعيتها بالقرآن والسنة
وإجماع العلماء، والاستصناع: هو الاتفاق على عمل الصانع بأن يصنع شيئاً
نظير عوض معين، بخامات من عنده، كما نفعل مع الخياطين والنجارين والحدادين
مثلاً. وقد أجيز بالإجماع لحاجة الناس إلى التعامل به في كل زمان ومكان.
(4) المساقاة: هي تعهد العمل على سقاية وتربية الأشجار بنسبة من الناتج.
وقد ثبت تشريعها في السنة. ومثلها المزارعة: هي العمل على استثمار الأراضي
الزراعية بنسبة من المحصول.
(5) القوانين الفقهية: ص 367، الشرح الصغير: 305/ 3، ط دار المعارف بمصر.
قال ابن رشد في بداية المجتهد: 324/ 2: «ولا خلاف في جواز هبة المجهول
والمعدوم المتوقع الوجود، وبالجملة: كل ما لا يصح بيعه في الشرع من جهة
الغرر».
(4/3020)
وأما الحنابلة (1): فلم يشترطوا هذا الشرط،
واكتفوا بمنع البيع المشتمل على الغرر (2) الذي نهى عنه الشرع، مثل بيع
الحَمْل في البطن دون الأم، وبيع اللبن في الضرع، والصوف على ظهر الغنم.
وأجازوا فيما عدا ذلك ـ كما قرر ابن تيمية وابن القيم ـ بيع المعدوم عند
العقد إذا كان محقق الوجود في المستقبل بحسب العادة، كبيع الدار على الهيكل
أو الخريطة؛ لأنه لم يثبت النهي عن بيع المعدوم لا في الكتاب ولا في السنة
ولا في كلام الصحابة، وإنما ورد في السنة النهي عن بيع الغرر: وهو ما لا
يقدر على تسليمه، سواء أكان موجوداً أم معدوماً كبيع الفرس والجمل الشارد،
فليست العلة في المنع لا العدم ولا الوجود، فبيع المعدوم إذا كان مجهول
الوجود في المستقبل باطل للغرر، لا للعدم.
بل إن الشرع صحح بيع المعدوم في بعض المواضع، فإنه أجاز بيع الثمر بعد بدء
صلاحه، والحب بعد اشتداده، والعقد في هذه الحالة ورد على الموجود والمعدوم
الذي لم يخلق بعد.
وأما حديث النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان فالسبب فيه: هو الغرر لعدم
القدرة على التسليم، لا أنه معدوم.
بيع الثمار أو الخضار أو الزروع:
يترتب على اشتراط وجود المعقود عليه أو قابليته للوجود في المستقبل حكم
_________
(1) أعلام الموقعين: 8/ 2 ومابعدها، نظرية العقد لابن تيمية: ص 224،
المغني: 200/ 4، 208.
(2) روى الجماعة إلا البخاري عن أبي هريرة «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم
عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر» أي نهى عن بيع المبيع المشتمل على غرر،
فالمبيع نفسه لا البيع هو الغرر، كالثمرة قبل بدو صلاحها. والغرر: ماتردد
بين السلامة والعطب. أو ما لا يقدر المتعاقد على تسليمه موجوداً كان أو
معدوماً. وبيع الحصاة: أي ماوقعت عليه الحصاة من عدة أشياء (نيل الأوطار:
147/ 5).
(4/3021)
بيع الثمر أو الخضر أو الزرع في الأرض قبل
ظهوره أو بعد ظهوره وقبل نضجه (1).
أـ اتفق الفقهاء على بطلان بيع الثمار والزروع قبل أن تخلق، لنهي النبي
صلّى الله عليه وسلم عن بيع ما لم يخلق، ونهيه عليه السلام عن بيع الثمار
حتى يبدو صلاحها. وعلل النهي عن البيع بقوله صلّى الله عليه وسلم: «أرأيت
إذا منع الله الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه» (2).
ب ـ إذا أصبح الزرع والثمر بحالة ينتفع بهما انتفاعاً كاملاً، صح التعاقد
عليه؛ لأن محل العقد موجود. ويجوز إبقاؤه في الأرض أو على الشجر إلى وقت
الحصاد أو القطاف عند غير أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن العرف يقتضيه ويتعامل
به الناس عادة.
ج ـ إذا أصبح الزرع والثمر بحالة لا ينتفع بهما انتفاعاً كاملاً، كأن صار
العنب حصرماً، والبلح بسراً، والزرع سنبلاً أخضر لم ييبس، جاز بيعه عند
الإمامين مالك ومحمد بن الحسن استحساناً لتعارف الناس وتعاملهم به. ولم يجز
بيعه عند أبي حنيفة وأبي يوسف والشافعي، لأن إبقاءه أمر مطلوب، وفي إبقائه
منفعة للمشتري لا يقتضيها العقد ولا يلائمه.
_________
(1) انظر عند الحنفية: البدائع: 173/ 5، المبسوط: 195/ 12 ومابعدها، فتح
القدير: 102/ 5 ومابعدها، تبيين الحقائق: 12/ 4، الدر المختار: 40/ 4، وعند
المالكية: المنتقى على الموطأ: 217/ 4 ومابعدها، بداية المجتهد: 148/ 2
ومابعدها، القوانين الفقهية: ص261. وعند الشافعية: تكملة المجموع: 351/ 11،
360، مغني المحتاج: 86/ 2، 89، 91 ومابعدها، وعند الحنابلة: المغني: 80/ 4،
87، 89 ومابعدها، غاية المنتهى: 68/ 2 ومابعدها، وعند الظاهرية: المحلى:
471/ 8 وعند الزيدية: البحر الزخار: 317/ 3، وعند الإمامية: المختصر
النافع: ص 154، وعند الإباضية: شرح النيل: 72/ 4 ومابعدها.
(2) أخرجه البخاري ومسلم عن أنس «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع
الثمرة حتى تَزْهى، قالوا: وما تزهى؟ قال: تحمرّ، وقال: إذا منع الله
الثمرة فبم تستحل مال أخيك» (نيل الأوطار: 173/ 5).
(4/3022)
د ـ إذا بدا صلاح بعض الأشجار المثمرة في
بستان أو في بساتين متجاورة يجوز بيع ما ظهر صلاحه وما لم يظهر عند
المالكية والشيعة الإمامية وابن تيمية وابن القيم من الحنابلة، عملاً بحسن
الظن بالله تعالى وبمسامحة الإنسان لأخيه، وتعارف الناس عليه، إلحاقاً لما
لم يظهر صلاحه بما ظهر، ودفعاً للمشقة على الناس في تعاملهم.
ولم يجز ذلك الحنفية والشافعية والحنابلة والزيدية والظاهرية والإباضية؛
لأن العقد اشتمل على معلوم ومجهول قد لا يخرجه الله تعالى من الشجرة، ولعدم
القدرة على تسليم المبيع كله.
والخلاصة: إن من منع البيع في هذه الصور أراد الاحتياط في أخذ مال الغير،
ومن أجاز البيع أراد التيسير على الناس ومراعاة الأعراف.
هذا ويتفق القانون المدني السوري (م 132،133) مع الفقه الإسلامي في هذا
الشرط، فقد شرط فقهاء القانون في محل الالتزام أن يكون شيئاً موجوداً وقت
نشوء الالتزام، أو قابلاً للوجود في المستقبل (1)، لكن لا يجوز قانوناً ولا
شرعاً بيع التركة المستقبلة، فلا يجوز للوارث بيع حصته من تركة مورثه وهو
على قيد الحياة. ويجوز قانوناً لا شرعاً بيع المؤلف مؤلفه قبل إتمامه، وبيع
المحصولات المستقبلة قبل أن تنبت بثمن مقدر، وبيع النتاج الذي لم يولد،
ويمكن تصحيح هذه العقود على رأي ابن تيمية الذي يجيز العقد على الشيء الذي
يمكن وجوده في المستقبل إذا امتنع الغرر.
_________
(1) النظرية العامة للالتزام للدكتور عبد الحي حجازي: ص 65.
(4/3023)
2 - أن يكون المعقود
عليه مشروعا ً:
يشترط أن يكون محل العقد قابلاً لحكمه شرعاً، باتفاق الفقهاء (1)، بأن يكون
مالاً مملوكاً متقوماً، فإن لم يكن كذلك، كان العقد عليه باطلاً، فبيع غير
المال كالميتة والدم (2)، أو هبتها أو رهنها أو وقفها أو الوصية بها باطل؛
لأن غير المال لا يقبل التمليك أصلاً، وذبيحة الوثني والملحد والمجوسي
والمرتد كالميتة.
ويبطل بيع غير المملوك أو هبته: وهو المباح للناس غير المحرز كالسمك في
الماء والطير في الهواء والكلأ والحطب والتراب والحيوانات البرية أو الشيء
المخصص للنفع العام كالطرقات والأنهار والجسور والقناطر العامة؛ لأنها غير
مملوكة لشخص أو لا تقبل التملك الشخصي.
والتصرف بغير المتقوم باطل أيضاً: وهو ما لا يمكن ادخاره ولا الانتفاع به
شرعاً، كالخمر والخنزير بين المسلمين.
وأما آلات الملاهي كأدوات الموسيقا المختلفة فيجوز بيعها عند أبي حنيفة
لإمكان الانتفاع بالأدوات المركبة منها، ولأنها مال في ذاتها، ولا ينعقد
بيعها عند الصاحبين وبقية الأئمة؛ لأنها معدة للفساد واللهو. وبناء عليه
يضمن قيمتها من يتلف شيئاً منها عند أبي حنيفة، ولا يضمن عند غيره من
الفقهاء.
ويبطل التصرف بكل شيء، لا يقبل بطبيعته حكم العقد الوارد عليه،
_________
(1) البدائع: 140/ 5، حاشية ابن عابدين: 3/ 4، مغني المحتاج: 11/ 2
ومابعدها، الشرح الصغير: 22/ 3 ومابعدها، غاية المنتهى: 6/ 2 وما بعدها.
(2) أجاز الشافعية والحنابلة خلافاً لأبي حنيفة ومالك بيع حليب المرأة
المرضع للحاجة إليه وتحقيق النفع به، وأجاز الحنابلة بيع أعضاء الإنسان
كالعين وقطعة الجلد إذا كان ينتفع بها ليرقع بها جسم الآخر لضرورة الإحياء،
وبناء عليه يجوز بيع الدم الآن للعمليات الجراحية للضرورة (راجع المغني:
260/ 4).
(4/3024)
فالأموال التي يتسارع إلىها الفساد
كالخضروات والفواكه لا تصلح محلاً للرهن؛ لأن حكمه: وهو حبس المرهون لإمكان
استيفاء الدين منه عند عدم الأداء في وقته، لا تقبله هذه الأموال. والمرأة
من المحارم كالأخت والعمة بالنسبة لقريبها المحرم لا تصلح محلاً لعقد
الزواج. والعمل الممنوع شرعاً كالقتل والغصب والسرقة والإتلاف لا يصح
الإجارة عليه.
ويتفق القانون مع الفقه الإسلامي في اشتراط هذا الشرط، فقد شرط القانونيون
أن يكون الشيء داخلاً في دائرة التعامل. وأن يكون في بعض الأحوال مملوكاً
للملتزم بنقل ملكيته، وذلك في الحقوق العينية المنصبة على شيء معين بالذات
(1)، إلا أن فقهاء الشرع يجعلون تحريم الشرع وعدمه هو المحكم في جعل محل
الالتزام مشروعاً أم غير مشروع، والقانون يحكّم في ذلك قواعد النظام العام
والآداب.
3 - أن يكون مقدور التسليم وقت التعاقد:
يشترط باتفاق الفقهاء توافر القدرة على التسليم وقت التعاقد، فلا ينعقد
العقد إذا لم يكن العاقد قادراً على تسليم المعقود عليه، وإن كان موجوداً
ومملوكاً للعاقد. ويكون العقد باطلاً.
وهذا الشرط مطلوب في المعاوضات المالية باتفاق العلماء وفي التبرعات (2)
عند غير الإمام مالك، فلا يصح بيع الحيوان الشارد ولا إجارته ورهنه وهبته
ووقفه
_________
(1) نظرية الالتزام للدكتور حجازي: ص 65، 71.
(2) البدائع: 187/ 4، 147/ 5، 119/ 6، بداية المجتهد: 156/ 2، الشرح
الكبير: 11/ 3، الشرح الصغير: 22/ 3، المهذب: 262/ 1، مغني المحتاج: 12/ 2،
المغني: 200/ 4 ومابعدها، غاية المنتهى: 10/ 2.
(4/3025)
ونحوها، ولا يصح التعاقد بيعاً أو إجارة أو
هبة على الطير في الهواء والسمك في البحر والصيد بعد فراره والمغصوب في يد
الغاصب والدار في الأرض المحتلة من العدو، لعدم القدرة على التسليم.
وأجاز الإمام مالك أن يكون معجوز التسليم حال التعاقد محلاً لعقد الهبة
وغيره من التبرعات (1). فيصح عنده هبة الحيوان الفارّ وإعارته والوصية به،
لأنه في التبرع لا يثور شيء من النزاع حول تسليم المعقود عليه؛ لأن المتبرع
فاعل خير ومحسن، والمتبرع له لا يلحقه ضرر من عدم التنفيذ، لأنه لم يبذل
قليلاً ولا كثيراً، فلا يكون هناك ما يؤدي إلى النزاع والخصام الذي يوجد في
المعاوضات المالية.
وهذا الشرط لم يذكر عند القانونيين، ويظهر أنهم لا يشترطونه.
4 - أن يكون معيناً معروفاً للعاقدين: لابد عند الفقهاء أن يكون محل العقد
معلوماً علماً يمنع من النزاع؛ للنهي الوارد في السنة عن بيع الغرر وعن بيع
المجهول (2).
والعلم يتحقق إما بالإشارة إليه إذا كان موجوداً، أو بالرؤية عند العقد أو
قبله بوقت لا يحتمل تغيره فيه، ورؤية بعضه كافية إذا كانت أجزاؤه متماثلة،
أو بالوصف المانع للجهالة الفاحشة، وذلك ببيان الجنس والنوع والمقدار، كأن
يكون المبيع حديداً من الصلب أو الفولاذ من حجم معين.
فلا يصح التصرف بالمجهول جهالة فاحشة: وهي التي تفضي إلى المنازعة.
_________
(1) الشرح الصغير: 142/ 4.
(2) سبق تخريج الحديث، رواه الجماعة إلا البخاري عن أبي هريرة «أن النبي
صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر» وبيع الحصاة: أن
يقول: بعتك من هذه الأثواب ما وقعت عليه هذه الحصاة، ويرمي الحصاة. أو
يقول: من هذه الأرض ما انتهت إليه في الرمي (نيل الأوطار: 147/ 5).
(4/3026)
ويكون العقد فاسداً عند الحنفية، باطلاً
عند غير الحنفية، وتغتفر الجهالة اليسيرة، وهي التي لا تؤدي إلى المنازعة
ويتسامح الناس فيها عادة.
كما لا يصح التصرف بما يشتمل على الغرر. ويلاحظ أن الغرر أعم من الجهالة
فكل مجهول غرر، وليس كل غرر مجهولاً، فقد يوجد الغرر بدون الجهالة كما في
شراء الشيء الهارب المعلوم الصفة، ولكن لا توجد الجهالة بدون الغرر (1).
وهذا الشرط مطلوب في المعاوضات المالية كالبيع والإيجار باتفاق الفقهاء،
أما اشتراطه في غيرها فمحل اختلاف:
فالشافعية والحنابلة (2) يشترطونه في عقود المعاوضات المالية وفي غير
المالية كعقد الزواج، وفي عقود التبرعات كالهبة والوصية والوقف.
وقصره الحنفية (3) على المعاوضات المالية وغير المالية، ولا يشترطونه في
عقود التبرعات كالوصية والكفالة، فيصح التبرع مع جهالة المحل؛ لأن الجهالة
فيه لا تؤدي إلى النزاع، كأن يوصي شخص بجزء من ماله، ويكون البيان متروكاً
للورثة. وكأن يقول الكفيل: أنا ضامن ما على فلان من مال.
واكتفى المالكية (4) باشتراطه في عقود المعاوضات المالية فقط، فأبطلوا كل
_________
(1) الفروق للقرافي المالكي: 265/ 3، تهذيب الفروق بهامشه: 170/ 3
ومابعدها.
(2) مغني المحتاج:16/ 2، المهذب: 263/ 1،266، المغني: 209/ 4، 234، غاية
المنتهى: 11/ 2، 332 وما بعدها، 18/ 3، 60.
(3) المبسوط: 26/ 13، 49، البدائع: 158/ 5، فتح القدير: 113/ 5، 222، الدر
المختار: 30/ 4، 125.
(4) الشرح الكبير: 106/ 3، القوانين الفقهية: ص 269، المنتقى على الموطأ:
298/ 4، الفروق: 150/ 1 ومابعدها.
(4/3027)
عقد بيع مثلاً إذا كان مشتملاً على جهالة
المبيع أو الثمن. ولم يشترطوا هذا الشرط في عقود المعاوضات غير المالية،
وفي عقود التبرعات، فأجازوا الزواج المشتمل على غرر قليل لا كثير كأثاث
بيت، لا على شيء شارد أو ضائع؛ لأن القصد من المهر هو المودة والألفة فأشبه
التبرع فاغتفرت فيه الجهالة اليسيرة، لا الفاحشة؛ لأن في الزواج شبهاً
بالمعاوضات، وصححوا التبرع بالمجهول جهالة فاحشة؛ لأن القصد منه الإحسان
بالصرف والتوسعة على الناس، ولا يترتب على ذلك نزاع.
والقانون المدني في المادة (134) اشترط هذا الشرط أيضاً، متجاوزاً عن
الجهالة اليسيرة إذا كان المحل غير معين بالذات، أي معيناً بنوعه فقط. فقال
فقهاء القانون: يشترط أن يكون الشيء معيناً أو قابلاً للتعيين بشرط بيان
طرق التعيين اللاحق. فإذا كان الشيء محل الالتزام مما يعين بذاته وجب أن
تكون ذاتيته معروفة. وإذا كان الشيء مما يعيّن بنوعه لزم أن يذكر جنسه
ونوعه ومقداره (1). والشرع والقانون وإن اتفقا على هذا الشرط من حيث
المبدأ، لكنهما يختلفان في التطبيق، فالشرعيون يوجبون تعيين محل العقد
تعييناً تاماً لا يتطرق إليه أي احتمال، وإلا كان العقد فاسداً عند الحنفية
باطلاً عند غيرهم، ولا يجيزون كون المحل قابلاً للتعيين، والقانون يكتفي
بكون المحل قابلاً للتعيين، وإن لم يكن معيناً وقت التعاقد، كالتعهد بتوريد
أغذية معينة النوع لمدرسة أو مشفى.
وأخيرا ً اشترط غير الحنفية (2) شرطاً خامساً: وهو أن يكون المبيع طاهراً
لانجساً ولا متنجساً؛ لأن جواز البيع يتبع الطهارة، فكل ما كان طاهراً أي
ما يباح
_________
(1) موجز النظرية العامة للالتزام لأستاذنا الدكتور عبد الحي حجازي: ص 66
ومابعدها.
(2) مواهب الجليل:258/ 4 ومابعدها، الشرح الكبير: 10/ 3، بداية المجتهد:
125/ 2 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 246، المهذب: 261/ 1 ومابعدها، مغني
المحتاج: 11/ 2، المغني: 251/ 4،255 وما بعدها، غاية المنتهى: 6/ 2
ومابعدها.
(4/3028)
الانتفاع به شرعاً يجوز بيعه عندهم. وأما
النجس والمتنجس فيبطل بيعه، والنجس: مثل الكلب ولو كان معلماً للنهي عن
بيعه، والخنزير والميتة والدم والزبل والحشرات والبهائم الكاسرة التي لا
يؤكل لحمها كالأسد والذئب، والطيور الجارحة كالنسر والغراب والحدأة،
والمتنجس الذي لا يمكن تطهيره كالخل والدبس واللبن. لكن أجاز هؤلاء الفقهاء
بيع المختلف في نجاسته كالبغل والحمار، وبيع الهر وطيور الصيد كالصقر
والعقاب المعلم، والطير المقصود صوته كالهزار والبلبل والببغاء.
ولم يشترط الحنفية (1) هذا الشرط، فأجازوا بيع النجاسات كشعر الخنزير وجلد
الميتة للانتفاع بها إلا ما ورد النهي عن بيعه منها كالخمر والخنزير
والميتة والدم (2)، كما أجازوا بيع الحيوانات المتوحشة، والمتنجس الذي يمكن
الانتفاع به في غير الأكل. والضابط عندهم: أن كل ما فيه منفعة تحل شرعاً،
فإن بيعه يجوز، لأن الأعيان خلقت لمنفعة الإنسان بدليل قوله تعالى: {خلق
لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة:29/ 2]
العنصر الرابع ـ موضوع العقد:
إن موضوع العقد: هو أحد مقوماته الأربعة التي لا بد من وجودها في كل عقد.
_________
(1) البدائع: 142/ 5 ومابعدها، فتح القدير: 188/ 5، 122/ 8.
(2) روى أحمد والشيخان عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلّى الله
عليه وسلم يقول عام الفتح ـ فتح مكة في رمضان سنة ثمان من الهجرة ـ وهو
بمكة: «إن الله ورسوله حرَّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام .. »
(سبل السلام: 5/ 3) وروى أحمد وأبو داود عن ابن عباس: «… وإن الله إذا حرم
على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه» (نيل الأوطار: 141/ 5 - 142).
(4/3029)
وموضوع العقد: هو المقصد الأصلي الذي شرع
العقد من أجله. وإذا كان القانون عند القانونيين هو الذي يحدد مقصد العقد
أو آثاره، لا إرادة العاقد، فإن المشرع في الشريعة الإسلامية هو الذي يحدد
الآثار الخاصة لكل عقد، وبهذا التحديد وفي نطاقه المقرر تتحقق الأغراض
الصحيحة التي يقصدها العاقدان من إنشاء العقد.
وموضوع العقد واحد ثابت في كل فئة أو نوع من أنواع العقود، ويختلف باختلاف
فئات العقود أو أنواعها، فهو في عقود البيع واحد: وهو نقل ملكية المبيع
للمشتري بعوض. وفي الإجارات: هو تمليك المنفعة بعوض، وفي الهبات: هو تمليك
العين الموهوبة، بلا عوض، وفي الإعارات: هو تمليك المنفعة بلا عوض، وفي
الزواج: هو حل الاستمتاع المشترك بين الزوجين.
وموضوع العقد يتحد في الحقيقة مع عبارتي: المقصد الأصلي للعقد (أو الغاية
النوعية من العقد)، وحكم العقد، فهذه المصطلحات الثلاثة مترادفة يمثل كل
واحد منها وجهاً لحقيقة واحدة. فإذا نظر إلى هذه الحقيقة من وجهة نظر
الشارع قبل إيجاد العقد سميت مقصداً أصلياً للعقد أي مآل العقد. وإذا نظر
إلى هذه الحقيقة من وجهة نظر الشارع بعد وجود العقد سميت حكم العقد أي
الأثر المترتب عليه. وإذا لاحظنا المرحلة المتوسطة التي تقع إبان التعاقد
أي بين مرحلة إيجاده وتمامه فتسمى هذه الحقيقة موضوع العقد (1). فهذه
العبارات الثلاث تطلق على حقيقة واحدة مثلثة الوجوه (2).
_________
(1) المدخل الفقهي للأستاذ الزرقاء: ف 149، التعبير عن الإرادة في الفقه
الإسلامي للدكتور وحيد سوار: ف 531، ص 501 ومابعدها.
(2) يلاحظ أن هناك فرقاً بين موضوع العقد ومحل العقد، أما موضوع العقد فهو
المقصد الأصلي للعقد منظوراً إليه إبان تكوين العقد، وأما محل العقد فهو
المعقود عليه الذي يثبت فيه حكم العقد كالمبيع والثمن.
(4/3030)
والمقصد الأصلي للعقد في الشريعة ربما
يلتقي في بعض الخصائص مع المفهوم التقليدي للسبب عند القانونيين، وهو الذي
لم تأخذ به قوانيننا العربية في سورية ومصر وليبيا وغيرها. وهو المسمى:
السبب الفني للالتزام: وهو السبب القريب المجرد الذي يكون واحداً في كل
الالتزامات التي من نوع واحد، وهو لازم لنشوء الالتزام ولاستمراره.
فكل من المقصد الأصلي والسبب الفني موضوعي وواحد في العقد. ففي عقد البيع
مثلاً السبب الفني لالتزام البائع بنقل ملكية المبيع: هو التزام المشتري
بدفع الثمن. والمقصد الأصلي لعقد البيع: هو نقل الملكية بعوض، أي أن السبب
الفني هو واحد في كل التزام بنقل الملكية، لا يختلف من التزام إلى آخر بحسب
اختلاف الأشخاص. فسبب التزام البائع بنقل الملكية هو رغبته في الحصول على
ثمن ما باع. وكذلك المقصد الأصلي هو واحد كما عرفنا في النوع الواحد من
العقود، لا يختلف إلا باختلاف نوع العقد.
لكن الفرق بين السبب الفني والمقصد الأصلي: هو أن السبب الفني ملازم لإرادة
العاقد الخاصة، وإن كان متميزاً عنها. أما المقصد الأصلي فهو في الأصل منفك
عن الإرادة الخاصة للعاقد، غير متلازم معها، وإنما هو متلازم مع إرادة
الشارع (1).
فالسبب في الفقه الإسلامي هو المقصد الأصلي للعقد (2)، أي أن السبب هو
مجموع الآثار المتولدة، فإن كانت هذه الآثار سليمة، ذات محل مشروع، كان
العقد صحيحاً، وإلا كان العقد باطلاً. وهذه الآثار: هي التي دفعت العاقد
إلى التعاقد.
_________
(1) التعبير عن الإرادة، للدكتور سوار: ف 534.
(2) المرجع السابق: ف 517.
(4/3031)
والحقيقة: أن التقاء المقصد الأصلي في
الشريعة مع السبب الفني في بعض الخصائص لا يعني أن أحدهما هو بمعنى الآخر؛
لأن السبب الفني هو سبب الالتزام وسبب الالتزام يختلف عن سبب العقد. ففي
العقود التبادلية: سبب التزام أحد المتعاقدين هو التزام المتعاقد الآخر،
فسبب التزام البائع بنقل الملكية هو التزام المشتري بدفع الثمن. وسبب
التزام المشتري بدفع الثمن هو التزام البائع بنقل الملكية.
وهذا المعنى للسبب المدني يختلف عن المقصد العام للعقد في الشريعة، المعتبر
في جميع العقود التي تبرم من نوع واحد، فالبيوع كلها مقصدها واحد هو المقصد
العام لهذا النوع من العقد. وهو يختلف عن السبب الفني؛ لأن الثاني خاضع
لإرادة العاقد، والمقصد النوعي خاضع لإرادة الشرع.
والسبب الفني يختلف عن الباعث؛ لأن الأول: هو الغرض الدافع والمباشر الذي
التزم المدين من أجله. والباعث: هو ما قبل ذلك من الدوافع (1). وإذا كان
الفقه الإسلامي لا يعتد بالسبب الفني في المفهوم التقليدي للسبب عند
القانونيين فإنه يتوصل إلى الدور نفسه الذي يقوم به السبب الفني من
ناحيتين: أولاهما ـ من طريق تحديد شرائط العقد والمحل، كعنصر نشوء أو
تكوين، وثانيهما ـ من طريق فكرة «التعادل» في التبادل كعنصر تنفيذ (2).
السبب في النظرية الحديثة عند القانونيين:
السبب في القضاء اليوم والذي أخذت به القوانين المدنية العربية في سوريا
(م137، 138) وفي مصر (م 136،137):هو المسمى: سبب العقد، أو السبب
_________
(1) موجز نظرية الالتزام، للدكتور حجازي: ص 104.
(2) التعبير عن الإرادة: المرجع السابق: ف 526، النظرية العامة للالتزام،
سوار: ص 154.
(4/3032)
المصلحي أو سبب السبب وهو الباعث الذاتي أو
الدافع البعيد الذي دفع العاقد إلى العقد. والسبب بهذا المعنى ليس عنصراً
موضوعياً، وإنما يختلف في النوع الواحد من الالتزامات باختلاف الأشخاص، فهو
إذن عنصر شخصي، غير ثابت، بعكس السبب الفني الذي يعد عنصراً موضوعياً
ثابتاً في النوع الواحد من الالتزام.
وإذا كانت وظيفة السبب الفني أو التقليدي: هي سلامة الالتزام من الناحية
الفنية، فوظيفة سبب العقد أو السبب في النظرية الحديثة: هي منع صحة عقد
يبتغى بوسائل مشروعة للوصول إلى نتائج غير مشروعة، فبه تتحقق مصلحة
المجتمع، وهي حماية الأخلاق أو النظام العام، أي أن السبب المصلحي يتضمن
فكرة الجزاء على خطأ: وهو إرادة المتعاقدين تحقيق غاية غير مشروعة.
موقف الفقهاء من نظرية السبب بالمعنى الحديث
(الإرادة الظاهرة والإرادة الباطنة): في الفقه الإسلامي حول نظرية
السبب هذه اتجاهان (1):
اتجاه تغلب فيه النظرة الموضوعية، واتجاه يلاحظ فيه النوايا والبواعث
الذاتية.
أما الاتجاه الأول: فهو مذهب الحنفية
والشافعية (2) الذين يأخذون بالإرادة الظاهرة في العقود، لا بالإرادة
الباطنة، أي أنهم حفاظاً على مبدأ استقرار المعاملات لا يأخذون بنظرية
السبب أو الباعث، لأن فقههم ذو نزعة موضوعية بارزة كالفقه الجرماني، والسبب
أو الباعث الذي يختلف باختلاف الأشخاص عنصر ذاتي داخلي قلق يهدد المعاملات.
_________
(1) مصادر الحق للسنهوري: 51/ 4 ومابعدها.
(2) راجع عند الحنفية مختصر الطحاوي: ص 280، تكملة فتح القدير: 127/ 8،
البدائع: 189/ 4، تبيين الحقائق: 125/ 5، وعند الشافعية: الأم: 85/ 3،
المهذب: 267/ 1، مغني المحتاج: 37/ 2 وما بعدها، الباجوري على ابن القاسم:
353/ 1، تحفة الطلاب: ص 143، 211.
(4/3033)
ولا تأثير للسبب أو الباعث على العقد إلا
إذا كان مصرحاً به في صيغة التعاقد، أي تضمنته الإرادة الظاهرة كالاستئجار
على الغناء والنوح والملاهي وغيرها من المعاصي. فإذا لم يصرح به في صيغة
العقد بأن كانت الإرادة الظاهرة لا تتضمن باعثاً غير مشروع، فالعقد صحيح
لاشتماله على أركانه الأساسية من إيجاب وقبول وأهلية المحل لحكم العقد،
ولأنه قد لا تحصل المعصية بعد العقد، ولا عبرة للسبب أو الباعث في إبطال
العقد، أي أن العقد صحيح في الظاهر، دون بحث في النية أو القصد غير
المشروع، لكنه مكروه حرام، بسبب النية غير المشروعة.
وبناء عليه قال الحنفية والشافعية بصحة العقود التالية مع الكراهة
التحريمية عند الحنفية والحرمة أو الكراهة عند الشافعية:
1 - بيع العينة: (أي البيع الصوري
المتخذ وسيلة للربا) كبيع سلعة بثمن مؤجل إلى مدة بمئة ليرة، ثم شراؤها في
الحال بمئة وعشر، فيكون الفرق ربا (1). لكن أبا حنيفة استثناه من مبدئه في
عدم النظر إلى النية غير المشروعة، اعتبر هذا العقد فاسداً إن خلا من توسط
شخص ثالث بين المالك المقرض والمشتري المقترض. فيكون بيع العينة ممنوعاً
غير جائز عند مالك وأبي حنيفة وأحمد والهادوية من الزيدية. وجوز ذلك
الشافعي وأصحابه مستدلين على الجواز في الظاهر بما وقع من ألفاظ البيع التي
لايراد بها حصول مضمونه.
2 - بيع العنب لعاصر الخمر، أي لمن يعلم
البائع أنه سيتخذه خمراً، أو يظنه ظناً غالباً، وهو حرام عند الشافعية، فإن
شك في اتخاذه خمراً أوتوهمه فالبيع مكروه في رأيهم.
_________
(1) وسميت هذه المبايعة عينة لحصول النقد لصاحب العينة؛ لأن العين: هو
المال الحاضر، والمشتري إنما يشتريها ليبيعها بعين حاضرة تصل إليه من فوره،
ليصل به إلى مقصوده.
(4/3034)
3 - بيع السلاح في
الفتنة الداخلية أو لمن يقاتل به المسلمين أو لقطاع
الطرق المحاربين ومثله بيع أدوات القمار، وإيجار دار للدعارة أو للقمار،
وبيع الخشب لمن يتخذ منه آلات الملاهي والإجارة على حمل الخمر لمن يشربها
ونحو ذلك، وهو بيع حرام عند الشافعية.
4 - زواج المحلِّل: وهو الذي يعقد زواجه على امرأة مطلقة طلاقاً ثلاثاً (أي
البائن بينونة كبرى) بقصد تحليلها لزوجها الأول بالدخول بها في ليلة واحدة
مثلاً ثم يطلقها ليصح لزوجها الأول العقد عليها من جديد، عملاً بظاهر الآية
القرآنية: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/
2]. وهو مكروه عند الشافعية إذا لم يشرط في صلب العقد ما يخل بمقصوده
الأصلي، فإن شرط ذلك كأن شرط أن يطلق بعد الوطء حرم وبطل.
والخلاصة: أن هذا الاتجاه لا يأخذ بالسبب أو الباعث إلا إذا كان داخلاً في
صيغة العقد وتضمنه التعبير عن الإرادة ولو ضمناً، ولا يعتد به إذا لم
تتضمنه صيغة العقد.
وأما الاتجاه الثاني: فهو مذهب المالكية
والحنابلة والشيعة (1) الذين ينظرون إلى القصد والنية أو الباعث، فيبطلون
التصرف المشتمل على باعث غير مشروع بشرط أن يعلم الطرف الآخر بالسبب غير
المشروع، أو كان بإمكانه أن يعلم بذلك
_________
(1) راجع عند المالكية: بداية المجتهد: 140/ 2، الشرح الكبير للدردير مع
الدسوقي: 91/ 3، مواهب الجليل للحطاب: 404/ 4، 263، القوانين الفقهية: ص
258، 271 ومابعدها، الموافقات: 261/ 2، الفروق: 266/ 3 ومابعدها. وعند
الحنابلة: المغني: 174/ 4 ومابعدها و 222/ 4، أعلام الموقعين: 106/ 3، 108،
121 ومابعدها، 131، 148، غاية المنتهى: 18/ 2، وعند الشيعة الجعفرية:
المختصر النافع في فقه الإمامية: ص 140، وعند الزيدية: المنتزع المختار:
19/ 3 ومابعدها.
(4/3035)
بالظروف والقرائن التي تدل على القصد
الخبيث كإهداء العدو هدية لقائد الجيش، والإهداء للحكام والموظفين، فذلك
مقصود به الرشوة، فتكون للدولة. وهبة المرأة مهرها لزوجها، يقصد به استدامة
الزواج، فإن طلقها بعدئذ، كان لها الرجوع فيما وهبت (1).
هذا الاتجاه يأخذ تقريباً بنظرية السبب أو بمذهب الإرادة الباطنة في الفقه
اللاتيني، مراعاة للعوامل الأدبية والخلقية والدينية، فإن كان الباعث
مشروعاً، فالعقد صحيح، وإن كان غير مشروع فالعقد باطل حرام، لما فيه من
الإعانة على الإثم والعدوان، قال الشوكاني (2): لا خلاف في تحريم بيع العنب
لمن يعصره خمراً في حال القصد وتعمد البيع إلى من يتخذه خمراً. وأما مع عدم
القصد والتعمد للبيع فذهب جماعة من أهل العلم إلى جوازه مع الكراهة ما لم
يعلم أنه يتخذه لذلك.
وبناء عليه قال المالكية والحنابلة ومن وافقهم ببطلان العقود السابقة،
وأضاف لها المالكية أنهم لا يجيزون بيع أرض بقصد بناء كنيسة، أو بيع خشب
بقصد صنع صليب، أو شراء عبد بقصد أن يكون مغنياً، أو استئجار كراريس فيها
عبارات النوح، وبيع ثياب حرير ممن يلبسها (3).
أما عدم صحة بيع العنب للخمار وبيع السلاح للأعداء ونحوهما فلأنه إعانة على
الحرام، أو عقد على شيء لمعصية الله به فلا يصح. وأما فساد زواج المحلل
فلأنه يتنافى مع أغراض الزواج السامية: وهو أنه عقد مؤبد قصد به تكوين أسرة
_________
(1) القواعد لابن رجب: ص 322.
(2) تيل الأوطار: 154/ 5.
(3) مواهب الجليل للحطاب: 254/ 4، ط دار الفكر.
(4/3036)
دائمة، وهذا الزواج اتخذ لتحليل المطلقة
ثلاثاً لزوجها الأول في وضع مؤقت، فهو حيلة لرفع تحريم مؤبد، وهو قصد غير
مشروع. وأما فساد بيع العينة (أو بيوع الآجال) فلأنه اتخذ البيع حيلة
لتحليل التعامل بالربا، ولم يكن الغرض الحق هو البيع والشراء. فهو وسيلة
لعقد محرم غير مشروع، فيمنع سداً للذرائع المؤدية إلى الحرام.
والخلاصة: أن هذا الاتجاه يعتد بالمقاصد والنيات ولو لم تذكر في العقود
بشرط أن يكون ذلك معلوماً للطرف الآخر، أو كانت الظروف تحتم علمه؛ لأن
النية روح العمل ولبه. ويكون هذا الاتجاه آخذاً بنظرية السبب، التي تتطلب
أن يكون السبب مشروعاً، فإن لم يكن سبب العقد مشروعاً فلا يصح العقد.
المطلب الثالث ـ الإرادة العقدية:
الإرادة هي القوة المولدة للعقد، والعقد كما تقدم: هو توافق إرادتين على
وجه ينتج أثره الشرعي، وهو الالتزام المطلوب للمتعاقدين. والكلام أو
التعبير هو ترجمان الإرادة، فينبغي أن يكون معبراً تماماً عن الإرادة.
والإرادة نوعان: باطنة حقيقية، وظاهرة.
والإرادة الباطنة: هي النية أو القصد:
والإرادة الظاهرة: هي الصيغة التي تعبر عن الإرادة الباطنة، أو ما يقوم
مقامها كالتعاطي، فإذا تطابقت الإرادتان وجد العقد. وإذا وجدت الإرادة
الظاهرة وحدها كالتعبير الصادر من الطفل غير المميز أو النائم أو المجنون،
لم تفد شيئاً، كما أن التصرف لا يوجد بمجرد النية أو الإرادة الباطنة، فمن
نوى الطلاق أو الوقف لا يصبح بمجرد نيته مطلِّقاً أو واقفاً.
(4/3037)
وقد عرفنا في بحث صيغة التعاقد ما تتحقق به
الإرادة الظاهرة.
وأما الإرادة الباطنة فتتحقق بالرضا والاختيار.
والحنفية يقررون أن الرضا والاختيار شيئان متغايران. فالاختيار: هو القصد
إلى النطق بالعبارة المنشئة للعقد، سواء أكان ذلك عن رضا أم لا. والرضا: هو
الرغبة في أثر العقد عند التلفظ بما يدل على إنشائه. فإذا وجد الرضا وجد
الاختيار، وإذا وجد الاختيار لا يلزم وجود الرضا.
وغير الحنفية: الرضا والاختيار بمعنى واحد.
لكن في الحياة العملية: قد توجد الإرادة الظاهرة وحدها، ولا توجد معها
إرادة باطنة، فماحكم العقد؟
هذا ما يبحث في الفرع الأول من هذا المطلب وهو صورية العقد، ويأتي بعده بحث
الفرعين الآخرين. فإذا لم توجد الإرادة الباطنة الحقيقية كان العقد صورياً.
وإذا وقع الشك في وجود الإرادة الحقيقية، كان العقد معيباً بعيب من عيوب
الرضا أو الإرادة.
الفرع الأول ـ صورية العقود:
قد توجد الإرادة الظاهرة وحدها، وتنعدم الإرادة الباطنة، فيكون العقد
صورياً، ويظهر ذلك في الأحوال التالية:
1 - حالة السكر والنوم والجنون وعدم التمييز
والإغماء: إن العقود التي تصدر من النائم والمجنون وغير المميز
ونحوهم لا أثر لها، لانعدام الإرادة الحقيقية في إنشاء العقد.
(4/3038)
والسكران أيضاً ليست له إرادة حقيقية في
التصرف، لكن مع ذلك اختلف الفقهاء في تصرفاته، كما تقدم سابقاً.
فقال الإمام أحمد وبعض المالكية (1): لا تعتبر تصرفات السكران، لعدم توفر
القصد الصحيح عنده، فلا يصح بيعه وشراؤه وعقوده وطلاقه وسائر أقواله. وبه
أخذ قانون الأحوال الشخصية في سوريا ومصر، وهو الرأي الراجح والمعقول
لدينا. لكن المشهور في مذهب المالكية: نفوذ طلاق السكران.
وقال الحنفية والشافعية (2): إذا كان السكر بمباح كحالة البنج والاضطرار
والإكراه ونحوها، فلا تعتبر أقواله وأفعاله، ولا أثر لعبارته، لعدم تحقق
القصد منه. وإذا كان السكر بمحرم فيؤاخذ بأقواله عقاباً وزجراً له، فتصح
عقوده كالبيع والزواج، وتصح تصرفاته كالطلاق، وتترتب عليها آثارها.
2 - عدم فهم العبارة:
إذا لم يفهم الشخص عبارة غيره الذي نطق بعبارة تدل على الرضا بالتصرف لم
ينعقد العقد، سواء في الإيجاب أو القبول؛ لأن العبارة الصادرة منه لا تدل
على قصد صحيح، ولا تعبر عن إرادته، والإرادة أو القصد أساس الرضا.
لكن قال الحنفية (3): إذا كان التصرف مما يستوي فيه الجدل والهزل كالزواج
والطلاق
والرجعة واليمين، وعلم العاقدان أن اللفظ المستخدم ينعقد به التصرف، وإن لم
يعلما حقيقة معناه، فينعقد به التصرف؛ لأن فهم اللفظ أمر مطلوب لأجل
_________
(1) المغني: 113/ 7، الشرح الكبير: 5/ 3، القوانين الفقهية: ص 227، وهذا
رأي الكرخي والطحاوي من الحنفية.
(2) فتح القدير: 40/ 3، نهاية المحتاج: 12/ 3.
(3) فتح القدير: 249/ 2، الدر المختار ورد المحتار: 367/ 2، ط الأميرية.
(4/3039)
القصد، وهذه التصرفات لا يشترط فيها القصد،
فلا يشترط في الناطق بما يدل عليها أن يكون فاهماً لمعناها. لكن في هذا
مغالاة؛ لأن عدم اشتراط القصد في هذه التصرفات يكون بعد فهم المعنى. ولا
يعقل ترتيب الآثار على تصرف غير مفهوم المعنى.
3 - حالة التعلم والتعليم والتمثيل:
إذا ردد المتكلم عبارات التصرفات، ولكنه لا يريد إنشاء التزام أو عقد، بل
يريد غرضاً آخر كالتعلم والتعليم والتمثيل، فلا يترتب على عبارته أي أثر.
كما إذا ردد القارئ عبارة البيع أو الشراء أو الطلاق المسطرة في كتب
الفقهاء بقصد تعلمها أو حفظها، أو بقصد تعليمها لغيره، فلا يترتب على كلامه
أي أثر. وكذلك ترديد الممثلين عبارات التمثيل وحكاية أقوال الآخرين، مثل
زوجيني نفسك، فقالت: زوجتك نفسي، لا يترتب عليه أي أثر؛ لأن المتكلم في هذه
الأمثلة لا يقصد إنشاء العقد، بل قصد غرضاً آخر، وهو التمثيل أو الحفظ أو
توضيح الحكم للتلاميذ.
4 - الهزل أو الاستهزاء: الهزل ضد الجد:
وهو أن يراد بالشيء ما لم يوضع له ولا ما يصلح اللفظ له استعارة. فإذا نطق
الشخص بعبارة لا يريد بها إنشاء التصرف، وإنما قصد بها الهزل أو الاستهزاء
والعبث، مستخدماً صورية التصرف القولي أو العقد، كانت العبارة الصادرة من
الهازل عند الشافعية على الراجح (1) صالحة لإنشاء العقود وترتيب الآثار
عليها، سواء في المعاوضات المالية كالبيع والإيجار أم في الأحوال الشخصية
كالزواج والطلاق، وذلك عملاً بالإرادة الظاهرة، لا بالقصد الداخلي، وحفاظاً
على مبدأ استقرار العقود والمعاملات، ولا يلتفت إلى دعوى الهزل.
_________
(1) راجع المجموع شرح المهذب للنووي: 184/ 9، نهاية المحتاج: 82/ 6.
(4/3040)
وفصل الحنفية والحنابلة وأكثر المالكية (1)
بين عقود المبادلات المالية وغيرها. فعقود المبادلات المالية كالبيع أو
التي محلها المال كالهبة والوديعة والعارية لا يترتب على عبارة الهازل بها
أي أثر لعدم تحقق الرضا أو القصد الذي تقوم عليه الإرادة.
وأما التصرفات الخمسة التي سوى الشارع فيها بين الجد والهزل (وهي الزواج
والطلاق والرجعة والإعتاق واليمين) فصححوا عبارة الهازل فيها، ورتبوا عليها
آثارها، أخذاً بحديث نبوي سابق هو: «ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح
والطلاق والعتاق» (2) وفي رواية «الرجعة» وفي رواية أخرى «اليمين»، ولأن
هذه التصرفات خطيرة مشتملة على حق لله، وهو ليس موضعاً للهزل والاستهزاء.
5 - الخطأ:
الخطأ: هو وقوع الفعل بدون قصد، كأن يقصد المتكلم النطق بكلمة فيسبق لسانه
إلى كلمة أخرى فيتلفظ بها، كأن يقول: طلّقت، وهو يريد أن يقول: بعت.
والمخطئ كالناسي أو المجنون عند الشافعية والمالكية والحنابلة (3) لايترتب
على عبارته أي عقد أو التزام، عملاً بقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن
الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (4).
_________
(1) رد المحتار: 363/ 2، 367، ط الأميرية: 7/ 4،255، الشرح الكبير للدسوقي:
4/ 3، المغني: 535/ 6، كشاف القناع: 5/ 2 ومابعدها، غاية المنتهى: 17/ 3.
(2) رواه الخمسة (أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه) إلا النسائي
عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 234/ 6) وقال الترمذي: حديث حسن غريب.
(3) الفروق للقرافي: 149/ 2، القواعد والفوائد الأصولية لابن اللحام
الحنبلي: ص 30 ومابعدها، الأشباه والنظائر للسيوطي: 69.
(4) حديث حسن رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما عن ابن عباس.
(4/3041)
وقال الحنفية (1): المخطئ والناسي يترتب
على عبارتهما أثرها في التصرفات والعقود؛ لأن الإرادة أمر باطني خفي لا
اطلاع لنا عليه، فلو قبلنا دعوى الخطأ والنسيان في التصرفات لتزلزلت
المعاملات، وضاعت الحقوق.
والخلاصة: أن رأي الحنفية في الخطأ على عكس رأيهم في الهزل.
6 - التلجئة أو المواضعة (2):
هي أن يتظاهر أو يتواطأ شخصان على إبرام عقد صوري بينهما إما بقصد التخلص
من اعتداء ظالم على بعض الملكية، أو بإظهار مقدار بدل أكثر من البدل
الحقيقي ابتغاء الشهرة والسمعة، أو لتغطية اسم الشخص الذي يعمل لمصلحته
باطناً (قضية الاسم المستعار).
أي أن المواضعة إما أن تكون في أصل العقد، أو في مقدار البدل، أو في الشخص.
مثال الحالة الأولى: أن يخاف إنسان اعتداء إنسان اعتداء ظالم على بعض ما
يملك، فيتظاهر هو ببيعه لثالث فراراً منه، ويتم العقد مستوفياً أرفانه
وشرائطه. ومثله بيع المدين أمواله لتهريبها من وجه الدائنين، أوعقد قروض
صورية لبعض الناس لمزاحمة الدائنين الحقيقيين، أو إقرار المورث لبعض ورثته
بدين لتفضيله في نصيب الإرث.
ومثال الحالة الثانية: إعلان زيادة في المهر في عقد الزواج بعد الاتفاق
سراً على مقدار المهر الحقيقي بقصد الرياء والسمعة والشهرة. أو زيادة الثمن
في عقد
_________
(1) البحر الرائق: 363/ 3، التلويح على التوضيح: 169/ 2، الأشباه والنظائر
لابن نجيم: 106/ 1، 135/ 2، كشف الأسرار: ص1396، مرآة الأصول: 441/ 2.
(2) وتسمى عقد الأمانة أو التواطؤ.
(4/3042)
بيع العقار لمنع الشفيع من الأخذ بالشفعة.
فلا يجب في هذه الحالة إلا المهر المتفق عليه سراً في عقد الزواج، أو الثمن
الحقيقي الذي تم به البيع، وكل من الزواج والبيع صحيح.
ومثال الحالة الثالثة: تواطؤ اثنين على إخفاء وكالة سرية في عمل معين،
والتظاهر بأن الوكيل يعمل باسمه لمصلحته الشخصية أو أنه هو الأصيل في
العمل، ثم يعلن أن اسمه مستعار، كأن يقرر شخص بأن الدكان أو السند أو
الأموال التي في يده هي لشخص آخر، فيعد قوله إقراراً بالحق لذلك الشخص
(راجع المجلة: م 1591 - 1593).
وقد اختلف الفقهاء في حكم عقد التلجئة أي بالنسبة للحالة الأولى:
فقال الحنفية والحنابلة (1): إنه عقد فاسد غير صحيح كحالة الهزل تماماً؛
لأن العاقدين ما قصدا البيع، فلم يصح منها كالهازلين. كما لايصح عقد القرض
الصوري أو الإقرار كما في حالة الهزل (2).
وقال الشافعية (3): هو بيع صحيح؛ لأن البيع تم بأركانه وشروطه، وأتي باللفظ
مع قصد واختيار خالياً عن مقارنة مفسد، أي أن رأيهم في هذه العقود كرأيهم
في عقود الهازل.
7 - الإكراه:
يقصد الشخص في حالة الإكراه التلفظ بالعبارة مع فهمه لمعناها، ولكنه لم
_________
(1) رد المحتار والدر المختار: 255/ 4، المغني: 214/ 4، 189.
(2) الهزل أعم من التلجئة لأنه يجوز ألا يكون العاقد فيه مضطراً إليه وأن
يكون الهزل سابقاً للعقد أو مقارناً له، والتلجئة إنما تكون عن اضطرار، ولا
تكون مقارنة. هذا في قول، والأظهر كما حقق ابن عابدين أنهما سواء في
الاصطلاح.
(3) مغني المحتاج: 16/ 3، المجموع للنووي: 168/ 8.
(4/3043)
يرض بترتب الآثار عليها. فالإكراه بنوعيه
الملجىء وغير الملجئ يعدم الرضا، أي الإرادة الحقيقية.
وبما أن الإكراه يعدم الرضا لم يترتب عند غير الحنفية (الجمهور) على عبارة
المستكره أي أثر في جميع العقود والتصرفات، للحديث السابق: «إن الله تجاوز
لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» فلا يصح طلاقه وزواجه
وغيرهما، كالسكران. وبهذا أخذ قانون الأحوال الشخصية السوري في المادة (89)
(1) والقانون المصري.
إلا أن الشافعية والحنابلة قالوا: بيع المكره باطل (2).
وقال المالكية: بيع المكره غير لازم، فيكون للعاقد المستكره الخيار بين فسخ
العقد أو إمضائه. وقال ابن جزي المالكي: بيع المكره وشراؤه باطلان (3).
وأما الحنفية (4) فاعتبروا الإكراه كالهزل تماماً. فالعقود المالية كالبيع
والإجارة والرهن ونحوها، أو التي محلها المال كالهبة والوديعة والإعارة
تكون موقوفة على إجازة المستكره بعد زوال ظرف الإكراه، فإن رضي بها وأجازها
في مدة ثلاثة أيام وبقي العاقد الآخر راضياً نفذت، وإن لم يجزها بطلت. وهذا
رأي زفر وهو الأصح.
والتصرفات الخمسة التي لله فيهاحق (وهو الزواج والطلاق والرجعة واليمين
_________
(1) نص المادة: «1 - لا يقع طلاق السكران ولا المدهوش ولا المكره.
2 - المدهوش: هو الذي فقد تمييزه من غضب أو غيره، فلا يدري ما يقول».
(2) مغني المحتاج: 7/ 2 ومابعدها، غاية المنتهى: 5/ 2.
(3) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 6/ 3، القوانين الفقهية: ص 246.
(4) مختصر الطحاوي: ص 191، 408، رد المحتار لابن عابدين: 4/ 4، 255، 89/ 5
- 91، الفرائد البهية في القواعد للشيخ محمود حمزة: ص 324.
(4/3044)
والعتاق) تكون صحيحة كالهزل تماماً؛ لأن
الشارع جعل العبارة فيها عند القصد إليها قائمة مقام الإرادة، فيترتب عليها
أثرها.
8 - القصد غير المشروع:
إذا اتخذ العاقد عقداً مباحاً وسيلة لتحقيق غرض غير مباح شرعاً، أي كان
الدافع له سبباً غير مشروع، فللفقهاء بالنسبة للعقد في حد ذاته رأيان، وذلك
مثل بيع السلاح لأهل الفتنة، وبيع العصير لمن يتخذه خمراً، وبيع العينة
وزواج المحلل ونحوها.
قال الإمام الشافعي: العقد صحيح، لتوافر ركنه وهو الإيجاب والقبول والنية
غير المشروعة متروك أمرها لله عز وجل يعاقب صاحبها.
وقال الصاحبان وسائر الأئمة الآخرين: العقد غير صحيح، وليس للإيجاب والقبول
أثر متى قام الدليل على هذا القصد الآثم.
وقد سبق بحث الرأيين في نظرية السبب عند الفقهاء.
الفرع الثاني ـ سلطان الإرادة العقدية (أو مدى
الحرية في العقود والشروط):
يأخذ فقهاء القانون الحديث بمبدأ سلطان الإرادة العقدية أي أن الإرادة حرة
في إنشاء العقود واشتراط الشروط لتحديد التزامات التعاقد وآثاره المترتبة
عليها، ولكن في حدود النظام العام (1): وهي الحدود التي يضعها التشريع
وفقاً لمصالح الفرد والمجتمع ومقتضيات السياسة والاقتصاد، فلا يصح مثلاً
الاستئجار على ارتكاب جريمة أو على فعل ما ينافي الآداب الاجتماعية، أو
النظام الاقتصادي والسياسي.
_________
(1) لا تعترف الشريعة بما يسمى بالنظام العام، وإنما بما حدّه الله ورسوله.
(4/3045)
ويعبر القانونيون عن حرية الاشتراط وتحديد
التزامات التعاقد بقاعدة مشهورة هي (العقد شريعة المتعاقدين) أي أنه قانون
ملزم لكل من الطرفين المتعاقدين فيما تقضي به بنوده وشروطه. وقد نص القانون
المدني السوري على ذلك في المادة (1/ 148).
وهذا يعني أن السلطان المطلق في إنشاء العقد وآثاره المترتبة عليه هو
لإرادة المتعاقدين، دون نظر إلى فكرة التعادل في الغنم والغرم أي ما قد
يكون من غبن فاحش على أحد المتعاقدين.
كما أنه يمكن الاتفاق على أنواع جديدة من العقود بحسب ما تقتضيه المصالح
الاقتصادية والتطورات الزمنية، دون اقتصار على ما يعرف بالعقود المسماة وهي
التي نظمها التشريع وحدد لها التزامات معينة.
وسنعرف أن الفقه الحنبلي يلتقي مع مبدأ سلطان الإرادة المعمول به في نطاق
القوانين المدنية المعاصرة.
وسأبحث هذا المبدأ في الفقه الإسلامي من ناحيتين:
الأولى ـ حرية التعاقد ورضائيته.
والثانية ـ حرية الاشتراط وترتيب آثار العقد.
الأولى ـ حرية التعاقد ورضائيته:
اتفقت الاجتهادات الإسلامية على أن الرضا أساس العقود (1) لقوله تعالى في
المعاملات المالية: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل
إلا أن
_________
(1) راحع نظرية العقد لابن تيمية: ص 152 ومابعدها.
(4/3046)
تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29/ 4]
وقوله سبحانه في استحقاق أخذ شيء من حقوق الزوجات: {فإن طبن لكم عن شيء منه
نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً} [النساء:4/ 4] وقال النبي صلّى الله عليه وسلم
«إنما البيع عن تراض» (1) «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» (2).
وبناء عليه فإن مجرد التراضي هو الذي يولد العقد والتزاماته، دون حاجة
لممارسة شكلية معينة، إلا عقد الزواج الذي يخضع لخطورته لشكلية الإعلان
بالإشهاد عليه. والإرادة حرة في إبرام العقد دون خضوع لأي نوع من أنواع
الإكراه العقدي، سواء في المعاملات المالية، أم في عقود الزواج، إلا ما
توجبه قواعد العدالة ومصلحة الجماعة، كبيع القاضي أموال المدين المماطل
جبراً عنه لإيفاء ديونه، وبيع الأموال المحتكرة لصالح الجماعة، واستملاك
الأراضي للمصالح العامة.
واختلفت الاجتهادات الإسلامية على رأيين في مبدأ حرية إنشاء العقود (حرية
التعاقد) أي اختيار نظام معين ليكون عقداً بين طرفين، أو اختيار نوع معين
من أنواع العقود الجديدة بالإضافة إلى العقود المتعارف عليها في الماضي.
وهذان الرأيان هما ما يأتي:
الرأي الأول ـ للظاهرية: (أتباع داود بن
علي وابن حزم الأندلسي) (3) وهم المضيقون الذين يقولون: الأصل في العقود
المنع حتى يقوم دليل على الإباحة، أي أن كل عقد أو شرط لم يثبت جوازه بنص
شرعي أو إجماع فهو باطل ممنوع (4). واستدلوا على رأيهم بأدلة ثلاثة:
_________
(1) حديث حسن رواه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري.
(2) رواه الدارقطني عن أنس، وفيه مجهول (نيل الأوطار: 316/ 5).
(3) وليس لهم أتباع في العصر الحاضر.
(4) فتاوى ابن تيمية: 323/ 3، الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم: 593/ 5
ومابعدها ط الإمام.
(4/3047)
1 - إن الشريعة شاملة لكل شيء، وقد تكفلت
ببيان ما يحقق مصالح الأمة، ومنها العقود، على أساس من العدل، وليس من
العدل ترك الحرية للناس في عقد مايريدون من العقود، وإلا أدى ذلك إلى هدم
نظام الشريعة.
2 - يقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»
(1) فكل عقد أو شرط لم يشرعه الشرع بنص أو إجماع يكون باطلاً؛ لأنه إذا
تعاقد الناس بعقد لم يرد في الشريعة وأصولها يكونون قد أحلوا أو حرموا غير
ماشرع الله، وليس لأحد من المؤمنين سلطة التشريع. قال ابن حزم معلقاً على
هذا الحديث: «فصح بهذا النص بطلان كل عقد عقده الإنسان والتزمه، إلا ما صح
أن يكون عقداً جاء النص أو الإجماع بإلزامه باسمه أو بإباحة التزامه
بعينه» (2).
3 - يؤيده الحديث النبوي: «ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن
كان مئة شرط» (3) أي أن الشرط غير المنصوص عليه باطل، فيقاس عليه العقد،
غير المنصوص عليه.
الرأي الثاني ـ للحنابلة وبقية الفقهاء:
وهم الموسعون الذين يقولون: الأصل في العقود وما يتصل بها من شروط الإباحة
ما لم يمنعها الشرع أو تخالف نصوص الشرع. واستدلوا على رأيهم بما يأتي:
1 - إن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية السابق ذكرها لم تشترط لصحة
العقد إلا الرضا والاختيار، وكذلك آية {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود}
[المائدة:
_________
(1) رواه مسلم عن عائشة، وفي لفظ البخاري: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس
منه فهو رد».
(2) الإحكام في أصول الأحكام: 615/ 5.
(3) رواه مسلم عن عائشة بلفظ «ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب
الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، ولو كان مئة شرط، كتاب
الله أوثق».
(4/3048)
1/ 5] أوجبت الوفاء بكل عقد دون استثناء،
أي أنها نصت على مبدأ القوة الإلزامية للعقد، وأوجبت على الإنسان الوفاء
بعقده الذي باشره بإرادته الحرة، فيصبح العقد ملزماً له بنتائجه، ومقيداً
لإرادته حفظاً على مبدأ استقرار التعامل. وهذا يدل على أن تحريم شيء من
العقود أو الشروط التي يتعامل بها الناس تحقيقاً لمصالحهم، بغير دليل شرعي،
تحريم لما لم يحرمه الله، فيكون الأصل في العقود والشروط هو الإباحة.
2 - هناك فرق بين العبادات والمعاملات. أما العبادات فيجب ورود الشرع بها،
وأما المعاملات ومنها العقود فلا تتطلب ورود الشرع بها. فيكفي في صحتها ألا
تحرمها الشريعة استصحاباً للمبدأ الأصولي وهو أن الأصل في الأفعال والأقوال
والأشياء هو الإباحة؛ لأن القصد من المعاملات رعاية مصالح الناس، فكل ما
يحقق مصالحهم يكون مباحاً. ويصح التعامل بعقود جديدة لم تعرف سابقاً من
طريق القياس أو الاستحسان أو الإجماع أو العرف الذي لا يصادم أصول الشريعة
ومبادئها. وهذه المصادر لا بد لها من سند في الكتاب أو السنة.
3 - يؤيد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «الصلح جائز بين المسلمين إلا
صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراماً، والمسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم
حلالاً أو أحل حراماً» (1) «الناس على شروطهم ما وافقت الحق» ويقاس على
الشروط الصحيحة كل عقد لا يصادم أصول الشريعة، ويحقق مصالح الناس.
وهذا الرأي هو الأصح، إذ لم نجد في الشرع ما يدل على أي حصر لأنواع
_________
(1) رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي عن عمرو بن عوف، وقوله: «والمسلمون
.. » من زيادة رواية الترمذي، وقال عنه: هذا حديث حسن صحيح. وقولهم «الناس
على شروطهم» في معنى «المسلمون على شروطهم ... الحديث».
(4/3049)
العقود وتقييد الناس بها، فكل موضوع لم
يمنعه الشرع ولا تقتضي قواعد الشريعة وأصولها منعه جاز التعاقد عليه، على
أن تراعى شرائط انعقاد العقود كالأهلية والصيغة وقابلية المحل لحكم العقد.
الثانية ـ حرية الاشتراط وترتيب آثار العقود
والقوة الملزمة للعقد:
اتفق الفقهاء على أن العقد المستكمل لأركانه وشرائطه يتمتع بالقوة
الإلزامية أي أن كل عقد باشره الإنسان بإرادته الحرة ملزم له بنتائجه،
ومقيد لإرادته؛ لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود}
[المائدة:1/ 5] وقوله: {وأوفوا بالعهد، إن العهد كان مسؤولاً} [الإسراء:34/
17].
واتفق الفقهاء أيضاً على أن ترتيب آثار العقود هي في الأصل من عمل الشارع،
لا من عمل المتعاقدين. فإرادة المتعاقدين هي التي تنشئ العقد، ولكن الشريعة
هي التي ترتب ما لكل عقد من حكم وآثار، ويقول الفقهاء: إن العقود أسباب
«جعلية شرعية» لآثارها، أي أن الرابطة بين العقد وآثاره باعتبار أن أحدهما
مسبب والآخر سبب ليست رابطة آلية طبيعية عقلية، وإنما هي رابطة جعلها
الشارع بينهما، حتى لا يبغي بعض الناس على بعض بما يشترطون من شروط، وحتى
يكون لكل تصرف حكمه من المشرع الحكيم.
فإرادة الإنسان مقصورة على إنشاء العقد فقط كعقد البيع، وأما ما يترتب على
العقد من آثار كنقل ملكية المبيع إلى المشتري واستحقاق الثمن في ذمة
المشتري للبائع، فمتروك لتقدير الشرع.
وتستمد إرادة العاقدين سلطانها من الشرع بالحدود التي حددها لكل عقد، فقد
تكون حدود الشرع محققة لحاجةالعاقدين، فلا يحتاجان إلى اشتراط شروط
(4/3050)
تنقص أو تزيد من آثار العقد المشروعة، فإن
لم تحقق حاجة العاقدين وغرضهما احتاجا إلى اشتراط شروط تحقق الغرض المطلوب.
فما مدى سلطة العاقدين على تعديل آثار العقود، أو ما صلاحية الفقهاء في
استنباط الحدود المقررة في الشرع أو تعديل الآثار الأصلية للعقد عن طريق
اشتراط العاقدين الشروط العقدية إما بالنقص من تلك الآثار، أو بإضافة
التزامات على أحد العاقدين لا يستلزمها أصل العقد؟.
وحرية الاشتراط: هو مبدأ سلطان الإرادة في تعديل آثار العقد المقرر في
القوانين، علماً بأن الشريعة والقانون متفقان على أن تقرير آثار العقود
وأحكامها هو من إرادة الشارع لا من عمل العاقد، والفارق بينهما في مدى
تفويض الشارع إلى العاقدين من السلطان على تعديل الأحكام التي قررها
التشريع مبدئياً في كل عقد (1).
للفقهاء الشرعيين رأيان في حرية الاشتراط في العقود:
الرأي الأول ـ للظاهرية، وهم القائلون
بأن الأصل في العقود المنع، قالوا: إن الأصل في الشروط المنع، فكل شرط لم
يقره الشرع في القرآن أو السنة فهو باطل.
الرأي الثاني ـ لسائر الفقهاء الآخرين:
وهو أن الأصل في العقود والشروط الإباحة، لكن هؤلاء فريقان:
1 - الحنابلة يقولون: الأصل في الشروط
العقدية هو الإطلاق، فكل شرط لم يرد الشرع بتحريمه فهو جائز.
_________
(1) المدخل الفقهي للزرقاء: ف 215، وحاشية ف 217: ص 475.
(4/3051)
2 - غير الحنابلة
يقولون: الأصل في الشروط العقدية هو التقييد، فكل شرط خالف الشرع أو مقتضى
العقد فهو باطل، وما عداه فهو صحيح.
وقد سبق ذكر أدلة المذهبين في بحث حرية التعاقد. وفي رأيي أنه يؤخذ برأي
الحنابلة في إطلاق حرية الاشتراط للعاقدين في العقود المالية، تحقيقاً
لحاجات الناس ومصالحهم ومراعاة لما يطرأ من تطورات وأعراف في إبرام عقود
لأغراض مشروعة، وإلا لشلت حركة التجارة والنشاط الاقتصادي الذي اتسع ميدانه
في العقود والشروط على نحو لم يكن معروفاً لدى الفقهاء.
ويؤخذ برأي غير الحنابلة في عقود الزواج حرصاً على ما له من حرمة وقداسة
ولما فيه من جانب العبادة ولما تتطلبه الأسرة من استقرار ودوام، ينبغي من
أجله عدم إفساح المجال لحرية الاشتراط التي تتأثر بالأهواء، وتعصف بأغراض
الزواج السامية. وقد قال الفقهاء: «الأصل في الأبضاع ـ أي المتعة الجنسية ـ
التحريم».
وأكتفي هنا ببيان مذهبي الحنفية والحنابلة في
الشروط المقترنة بالعقد. أما مذهب الشافعية فقريب من مذهب الحنفية،
ومذهب المالكية قريب من مذهب الحنابلة.
أولاً ـ مذهب الحنفية في الشروط: قسم الحنفية الشروط إلى ثلاثة أنواع:
الشرط الصحيح، والشرط الفاسد، والشرط الباطل (1).
_________
(1) راجع البدائع: 168/ 5 - 172، المبسوط: 13/ 13 - 18، فتح القدير: 214/ 5
ومابعدها، رد المحتار لابن عابدين: 126/ 4 ومابعدها.
(4/3052)
الأول ـ الشرط
الصحيح: هو ماكان موافقاً لمقتضى العقد (1)، أو
مؤكداً لمقتضاه، أو جاء به الشرع، أو جرى به العرف.
مثال الشرط الذي يقتضيه العقد: اشتراط البائع تسليم الثمن أو حبس المبيع
حتى أداء جميع الثمن، واشتراط المشتري تسليم المبيع، أو تملكه. واشتراط
الزوجة على زوجها أن ينفق عليها، واشتراطه عليها تسليم نفسها إذا قبضت
مهرها. فهذه شروط تبين مقتضى العقد أوتوافق مقتضاه؛ لأن مضمونها واجب
التحقق شرعاً، حتى ولو لم يشترطها أحد العاقدين؛ لأن ثبوت الملك والتسليم
والتسلم وحبس المبيع من مقتضى المعاوضات، والإنفاق على الزوجة وزفافها من
مقتضى الزواج.
ومثال الشرط المؤكد لمقتضى العقد: اشتراط البائع تقديم كفيل أو رهن معينين
بالثمن عن تأجيله للمستقبل، فإن الكفالة والرهن استيثاق بالثمن، فيلائم
البيع ويؤيد التسليم. ومثله اشتراط كون والد الزوج كفيلاً بالمهر والنفقة.
والشرط الذي ورد به الشرع: مثل اشتراط الخيار أو الأجل لأحد المتعاقدين، أو
اشتراط الطلاق إذا طرأ سبب داع له، فذلك كله مشروع في الشرع.
والشرط الذي جرى به العرف: مثل اشتراط المشتري على البائع التعهد بإصلاح
الشيء المشترى مدة معينة من الزمان، كالساعة، والمذياع، والسيارة،
والغسالة، والثلاجة، واشتراط حمل البضاعة إلى مكان المشتري، فهذا مما
تعارفه الناس وإن كان فيه زيادة منفعة لأحد العاقدين، فجاز استحساناً
خلافاً لزفر من الحنفية، بدليل أن النبي اشترى في السفر من جابر بن عبد
الله بعيراً، وشرط لجابر ركوبه وحملانه عليه إلى المدينة.
_________
(1) مقتضى العقد: هو الأحكام الأساسية التي قررها الشرع لكل عقد، سواء
بالنص عليها مباشرة أو باستنباط المجتهدين، بقصد تحقيق التوازن في الحقوق
بين العاقدين.
(4/3053)
وإقرار هذا الشرط عند الحنفية أدى إلى
توسيع حرية الناس في الاشتراط، بما يحقق لأحد العاقدين منفعة زائدة عن
مقتضى العقد. كما أدى إلى زوال الشرط الفاسد من معاملات الناس. وأصبحت
الشروط كلها صحيحة بالعرف إلا إذا كانت مصادمة لنص تشريعي، أو منافية
لمبادئ الشريعة ومقاصدها العامة.
الثاني ـ الشرط الفاسد: هو مالم يكن أحد
الأنواع الأربعة السابقة في الشرط الصحيح، أي أنه الذي لا يقتضيه العقد،
ولا يلائم المقتضى، ولا ورد به الشرع، ولم يتعارفه الناس، وإنما فيه منفعة
زائدة لأحد المتعاقدين، كشراء حنطة على أن يطحنها البائع، أو قماش على أن
يخيطه البائع قميصاً مثلاً، أو شراء بضاعة على أن يتركها في ملك البائع
شهراً، أو بيع دار على أن يسكنها البائع شهراً أو أكثر، أو شراء أرض على أن
يزرعها البائع سنة، أو شراء سيارة على أن يركبها البائع مدة من الزمن، أو
على أن يقرضه قرضاً أو يهب له هبة ونحو ذلك.
وفي الزواج: اشتراط الزوجة ألا تنتقل من بلدها التي تزوجت فيها، أو ألا
يتزوج عليها، أو أن يطلق امرأته الأولى، أو ألا يطلقها أبداً.
ويختلف أثر الشرط الفاسد على العقود بحسب نوع العقد. والقاعدة المقررة في
ذلك هي: أن الشرط الفاسد في عقود المعاوضات المالية يفسدها، وفي غيرها لا
يؤثر عليها (1).
إن الشرط الفاسد في المعاوضات المالية كالبيع والإجارة والقسمة والمزارعة
والمساقاة والصلح عن المال يفسدها (2)؛ لما روي عن النبي صلّى الله عليه
وسلم أنه
«نهى عن بيع
_________
(1) تبيين الحقائق: 131/ 4.
(2) انفرد الإمام مالك من بين الفقهاء بأن الشرط الذي يفسد العقد إن لم
يتمسك به مشترطه، ينقلب العقد صحيحاً لزوال سبب الفساد، لأن العلة التي
أوجدت الفساد زالت بزوال المانع من صحة العقد وهو عدم تمسك صاحب الشرط به
(نظرية العقد لأبي زهرة: ص 244).
(4/3054)
وشرط» (1) ولأن الشرط الفاسد يتنافى مع
مبدأ التعادل الذي تقوم عليه المبادلات المالية.
وأما العقود الأخرى غير المبادلات المالية كالتبرعات (هبة أو إعارة)
والتوثيقات (كفالة أو حوالة أو رهن)، والزواج والطلاق، والإطلاقات
كالوكالة، فلا يؤثر عليها الشرط الفاسد، ويبقى العقد صحيحاً، ويصير الشرط
لاغياً لا أثر له، لما ثبت في السنة النبوية من تصحيح هذه العقود وإلغاء
الشروط الفاسدة، كالحكم بصحة الهبة وبطلان شرط التأقيت مثلاً.
الثالث ـ الشرط الباطل: هو ما لم يكن
أحد أنواع الصحيح، وليس فيه منفعة لأحد المتعاقدين ولا لغيرهما، وإنما هو
ما كان فيه ضرر لأحد العاقدين، كاشتراط بائع البضاعة على المشتري ألا
يبيعها أو لا يهبها لأحد، واشتراط بائع الدار على المشتري أن يتركها من غير
سكن مدة شهر في كل سنة مثلاً، واشتراط بائع سيارة ألا يُركب المشتري فلاناً
فيها أو يضعها في مكان خاص.
العقد صحيح حينئذ، والشرط لغو باطل لا قيمة له، سواء في عقود المعاوضات، أم
في العقود الأخرى كالزواج والكفالة والهبة.
ثانياً ـ مذهب الحنابلة في الشروط: مذهب الحنابلة وعلى التخصيص ابن تيمية
وابن القيم أوسع المذاهب في الأخذ بحرية الاشتراط (2)، فهم أقرب إلى الفقه
القانوني الآخذ بمبدأ سلطان
_________
(1) رواه أبو حنيفة، وعبد الحق في أحكامه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
(2) كشاف القناع: 40/ 2، غاية المنتهى: 23/ 2 - 26، أعلام الموقعين: 401/ 3
- 402، ط السعادة، فتاوى ابن تيمية: 326/ 3 ومابعدها، زاد المعاد: 4/ 4،
نظرية العقد لابن تيمية: ص 214 ومابعدها.
(4/3055)
الإرادة، فهم يرون أن الأصل في الشروط
الإباحة أو الإطلاق، فيصح كل شرط فيه منفعة أو مصلحة لأحد العاقدين،
كاشتراط صفة معينة في المبيع أو في أحد الزوجين، واشتراط منفعة في عقد
البيع كسكنى الدار المبيعة بعد بيعها مدة معينة، وتوصيل المبيع لدار
المشتري، وخياطة الثوب للمشتري، واشتراط الزوجة على الزوج ألا يتزوج عليها،
أو ألا يسافر بها، أو ألا ينقلها من منزلها.
هذه شروط صحيحة يجب الوفاء بها، سواء في عقود المعاوضات المالية، أم في
عقود التبرعات، أو في التوثيقات (أو التأمينات بلغة العصر)، أو الزواج
ونحوه، فإن لم يوف بها جاز للعاقد الآخر فسخ العقد.
وهذا رأي القاضي شريح (1)، وابن شُبرمة (2) الكوفي، وابن أبي ليلى (3)
وجماعة من فقهاء المالكية، بدليل أن جابراً باع النبي صلّى الله عليه وسلم
بعيراً واشترط حملانه عليه إلى أهله وأقره النبي على ذلك ودفع له الثمن
(4). إن اشتراط الركوب على الجمل فيه منفعة للبائع، فهو شرط فاسد، والفاسد
لا يؤثر في العقد مطلقاً.
ولم يستثن الحنابلة ومن وافقهم من الشروط الجائزة إلا الشرط المنافي لمقتضى
العقد، أو الذي ورد النهي عنه.
1) الشرط المنافي لمقتضى العقد: كاشتراط
البائع على المشتري ألا يبيع الشيء المشترى مطلقاً، أو ألا يقفه على جهة
خير مثلاً، أو ألا يسكن فيه أحداً بالإيجار
_________
(1) شريح القاضي ابن الحارث بن قيس، قاضي الكوفة والبصرة، استمر على القضاء
في زمن عمر وعثمان وعلي ومعاوية، واستعفى في أيام الحجاج، مات بالكوفة سنة
79 هـ.
(2) عبد الله بن شبرمة، قاضي فقيه تابعي، عاصر أبا حنيفة، له مذهب فقهي
اندثر، ولد سنة 72 هـ ومات سنة144 هـ.
(3) هو محمد بن عبد الرحمن قاضي الكوفة، فقيه عالم، مات سنة 148 هـ.
(4) أخرج لفظه أحمد والشيخان عن جابر (نيل الأوطار: 178/ 5).
(4/3056)
وغيره، العقد حينئذ صحيح والشرط لاغ؛ لأن
في هذا الشرط حرمان العاقد من الاستفادة مما يثبته العقد له من حقوق.
2) الشرط المنهي عنه أو المخالف لحكم الله
ورسوله، كاجتماع صفقتين في عقد واحد، مثل اشتراط البائع على المشتري
إيجار الدار لفلان، أو أن يهبه شيئاً، أو يبيع له شيئاً أو يقرضه مبلغاً من
المال، أو ألا يبيع الناتج الزراعي كالقطن وغيره إلا له واشتراط الزوجة أن
يطلق امرأته الأولى. هذه شروط فاسدة تفسد العقد؛ لأن رسول الله صلّى الله
عليه وسلم «نهى عن بيعتين في بيعة» أو «عن صفقتين في صفقة» (1) ولأن ذلك
يؤدي غالباً إلى النزاع بين المتعاقدين في العقد الآخر المشروط، فيسري
النزاع إلى العقد الأصلي.
رأي المتأخرين من الحنابلة: أفاض ابن تيمية وابن القيم في بيان نظريتهما في
أن الأصل في العقود والشروط الإباحة أو الجواز والصحة حتى يقوم الدليل على
المنع؛ لأنها من العادات التي تراعى فيها مصالح الناس. فإن حرمنا ما يجري
بين الناس من عقود وشروط، بغير دليل من الشارع، نكون قد حرمنا ما لم يحرمه
الله.
والله تعالى أمرنا بالوفاء بالعقود في قوله: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا
بالعقود} [المائدة:1/ 5]، وطالبنا النبي عليه السلام بتنفيذ الشروط في قوله
المتقدم: «والمسلمون على شروطهم، إلا شرطاً أحل حراماً، أو حرم حلالاً».
وقررت الشريعة أن الأصل في العقود رضا المتعاقدين، وأثرها: هو ما أوجباه
على نفسيهما بالتعاقد، وذلك في قوله تعالى: {إلا أن تكون تجارة عن تراض
منكم} [النساء:29/ 4] فالتراضي هو المبيح للتجارة، وقوله تعالى: {فإن طبن
لكم عن
_________
(1) اللفظ الأول رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه عن أبي هريرة. واللفظ
الثاني رواه أحمد عن ابن مسعود (نيل الأوطار: 152/ 5).
(4/3057)
شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً}
[النساء:4/ 4] فإذا كان طيب النفس هو المبيح للصداق، فكذلك سائر التبرعات.
أما استثناء الشرط أو العقد المناقض حكم الله ورسوله، فلقوله صلّى الله
عليه وسلم في الحديث المتقدم: «من أحدث في أمرنا ـ أو ديننا ـ هذا ما ليس
منه فهو رد» وفي لفظ «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» فكل شرط يناقض
حكم الله ورسوله يكون باطلاً باتفاق المسلمين، كاشتراط التعامل بالربا أو
الاتجار في الخمر ونحو ذلك، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «كل شرط ليس في
كتاب الله فهو باطل» والمقصود بالشرط الذي ليس في كتاب الله: هو ما فسره
عمر بن الخطاب في رسالته لأبي موسى الأشعري في القضاء: «والصلح جائز بين
المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً، أو حرم حلالاً».
وأما استثناء الشرط المنافي لمقصود العقد، كاشتراط عدم الانتفاع بالمشترى
ببيع أو إيجار، فلأنه جمع بين المتناقضين، أي بين إثبات المقصود ونفيه، فلا
يحصل شيء.
ويلاحظ أن الحنابلة حصروا الشرط المنافي في المناقضة لمقصود العقد الأصلي.
فلو شرط البائع على المشتري ألا يبيع ما اشتراه، فإنه يكون منافياً أو
مبطلاً للمقصود الأصلي من العقد، وهو الملك المبيح للتصرف. أما إذا شرط
البائع منفعة أخرى كسكنى الدار أو زراعة الأرض، فإنه لا يكون منافياً
لمقتضى العقد، ويكون الشرط صحيحاً. وكذلك في الزواج لو شرط فيه ألا تحل به
المتعة الزوجية يبطل العقد، لكن لو شرط فيه عدم ممارسة الاستمتاع الزوجي
يصح العقد ويلغو الشرط.
أما الحنفية فقد توسعوا في تفسير المنافاة، وقالوا: كل ما يكون من الشروط
فيه منفعة لأحد المتعاقدين، يكون منافياً لمقتضى العقد.
والخلاصة: إن الحنابلة وموافقيهم يرون أن الشريعة فوضت لإرادة العاقدين
(4/3058)
تحديد مقتضيات العقود، أو آثارها ضمن نطاق
حقوقهما ومصالحهما في كل ما لا يصادم نصوص الشريعة أو أصولها الثابتة.
وهذا الاتجاه لعمر وشريح وابن شبرمة والحنابلة يتفق تماماً مع ما تقرره
القوانين الحديثة من مبدأ سلطان الإرادة، وإعطاء الحرية للعاقدين في اشتراط
أي شرط لا يخالف قواعد النظام العام أو الآداب أو النصوص القانونية الخاصة.
مزايا الفقه الحنبلي في الشروط:
كان للاجتهاد الحنبلي في حرية الاشتراط العقدي مزايا مهمة فيما يأتي:
1ً
ـ الزواج: أجاز الحنبلية الأخذ بمبدأ
حرية الاشتراط في الزواج، لما ثبت في الصحيحين عن النبي صلّى الله عليه
وسلم أنه قال: «إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج» ولما
للزواج من جانب كبير من الخطورة والقدسية، إذ تقوم عليه أسرة تتطلب الحفاظ
عليها، فتكون رعاية الشروط التي فيها منفعة أوجب وألزم من العقود الأخرى.
إنهم أجازوا خلافاً للحنفية والشافعية والمالكية للزوجين اشتراط ما شاءا من
الشروط التي فيها منفعة مقصودة لا تتعارض مع موضوع الزواج ونصوص الشريعة.
وذلك كاشتراط المرأة ألا يسافر بها زوجها، أو ألا ينتقل بها من دارها ويسكن
معها، أو ألا يتزوج عليها، أو أن يطلق امرأته الأولى (1)، أو اشتراط أحد
الزوجين كون الآخر موسراً ونحو ذلك.
_________
(1) اختلف الحنابلة في صحة هذا الشرط، فنص ابن قدامة صاحب المغني على عدم
صحة هذا الشرط، ولكن أكثر الحنابلة على القول بالصحة (المغني: 560/ 6،
تصحيح الفروع: 56/ 3).
(4/3059)
أما اشتراط توقيت الزواج، أو عدم المهر، أو
عدم النفقة الزوجية أو عدم الاستمتاع الزوجي ونحوه، فلا يصح لمصادمته أصول
الزواج (1).
وإذا لم يوف الزوج بالشرط كان الطرف الآخر المشروط له مخيراً بين الاستمرار
وفسخ العقد بسبب عدم الوفاء بالشرط.
2ً
ـ التبرعات: أجاز الحنابلة للمتبرع
استثناء بعض منافع الشيء المتبرع به، ولو لم تكن المنفعة معلومة، لقوله
تعالى: {ما على المحسنين من سبيل} [التوبة:91/ 9] فللواهب أو الواقف أو
المتصدق أن يشترط لنفسه منفعة من منافع الشيء مدة حياته، كأن يستثني غلة
الوقف ما عاش الواقف، أو منفعة الدار الموهوبة مدة الحياة.
3ً
ـ المعاوضات: أجاز الحنابلة أيضاً
استثناء بعض منفعة الشيء المبيع بشرط أن تكون المنفعة معلومة، كأن يبيع
الدار على أن يظل ساكناً فيها مدة معينة، أو السيارة على أن يركبها مدة
معينة، والسبب في اشتراط كون المنفعة المستثناة معلومة في المعاوضات بعكس
التبرعات: هو بناء المعاوضات على التعادل بين الطرفين، بحث لا يغبن أحدهما
الآخر غبناً فاحشاً، فلا بد من كون المنفعة معلومة حتى لا يقع نزاع بين
العاقدين، أما التبرع فلا تعادل فيه، ولا يتأتى النزاع فيه بين الطرفين.
وجوزوا استثناء بعض الحقوق كأن يكون البائع أحق بشراء المبيع إذا أراد
المشتري بيعه لآخر.
_________
(1) نظرية العقد لابن تيمية: ص 208 ومابعدها، المغني: 548/ 6 وما بعدها.
(4/3060)
ولم يمنعوا إيجاب بعض الواجبات على المالك
كبيع العقار على أن يقفه المشتري، أو يتصدق به، أو يقضي دين فلان أو يصل به
رحمه (1). وهذا دليل على جواز الاشتراط لمصلحة الغير.
وصحح جماعة من الحنابلة خلافاً لبقية الفقهاء
البيع بما ينقطع عليه السعر في المستقبل بتاريخ معين من غير تقدير
ثمن أو تحديده وقت العقد، لتعارف الناس وتعاملهم به في كل زمان ومكان (2)،
كبيع القطن بما يستقر عليه سعر السوق في بورصة الأقطان في الساعة السادسة
من يوم كذا. وهذا ما أخذ به القانون المدني السوري في المادة (392) وكذا
أصله المصري.
وجعل الحنابلة خلافاً لجمهور الفقهاء بيع
العربون صحيحاً مشروعاً: وهو أن يبيع الشخص شيئاً، ويأخذ من المشتري
مبلغاً من المال يسمى عربوناً لتوثيق الارتباط بينهما، فإن تم البيع بينهما
احتسب العربون المدفوع من الثمن، وإن نكل المشتري كان العربون للبائع، هبة
من المشتري له (3). أخذ القانون المدني السوري في المادة (104) بطريقة بيع
العربون هذه. وأصبحت طريقة البيع بالعربون في عصرنا الحاضر أساساً للارتباط
في التعامل التجاري الذي يتضمن التعهد بتعويض ضرر الغير عن التعطل
والانتظار. ويسمى ضمان التعويض عن التعطل والانتظار في الفقه القانوني:
الشرط الجزائي (4). وقد أقره القاضي شريح بقوله «من شرط على نفسه طائعاً
غير مكره عليه» (5).
_________
(1) فتاوى ابن تيمية: 347/ 3.
(2) أعلام الموقعين: 5/ 4 ومابعدها، غاية المنتهى: 14/ 2، نظرية العقد لابن
تيمية ص220.
(3) غاية المنتهى: 26/ 2، المغني: 232/ 4، وكذلك صحح الحنابلة الإجارة
بالعربون.
(4) مصادر الحق للسنهوري: 96/ 3 ومابعدها، المدخل الفقهي للأستاذ الزرقاء:
ف 234.
(5) أعلام الموقعين: 400/ 3، ط السعادة.
(4/3061)
وأجازه الحنابلة لتعارف الناس له، ولما ثبت
في السنة: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سئل عن العربان في البيع
فأحله» (1) ويؤيده أثر عن عمر وهو: «أن نافع بن عبد الحارث العامل لعمر على
مكة، اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم، فإن رضي عمر
كان البيع نافذاً، وإن لم يرض فلصفوان أربع مئة درهم» وأقر عمر شرطه هذا
(2).
4 ً ـ تعليق التصرفات مطلقاً بشرط: أجاز الحنابلة تعليق التصرف بشرط معلق
في جميع أنواع العقود والفسوخ والتبرعات والالتزامات من بيع وإجارة وكفالة
وإقالة وإبراء وزواج وغيرها، كأن يقول شخص: إن وصلت بضاعتي المستوردة اليوم
فقد بعتكها بكذا. أو تقول امرأة: زوجتك نفسي على مهر كذا إن رضي أخي أوعمي
مثلاً.
ودليلهم على الجواز إطلاق الحديث النبوي المتقدم: «المسلمون عند شروطهم،
إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً» ولأن تعليق العقود وغيرها على شرط قد
تدعو إليه الضرورة أو الحاجة أو المصلحة (3).
ومنع جمهور الفقهاء التعليق في جميع العقود ولا سيما التمليكات والزواج،
واعتبروها باطلة. وسوغوا فقط تعليق الإسقاطات كالطلاق. كما سوغ الحنفية
تعليق عقود الالتزامات والإطلاقات كالكفالة والوكالة بالشرط الملائم فقط،
_________
(1) حديث مرسل أخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن زيد بن أسلم، وفي إسناده
إبراهيم بن يحيى، وهو ضعيف (نيل الأوطار: 153/ 5) وأبطله الجمهور بما رواه
أحمد والنسائي وأبو داود ومالك في الموطأ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
قال: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن بيع العُرْبان» وهو حديث منقطع،
وفيه راو ضعيف لا يحتج به وهو حبيب كاتب الإمام مالك (المرجع السابق).
(2) أعلام الموقعين: 401/ 3.
(3) أعلام الموقعين: 399/ 3.
(4/3062)
مثل إذا سافر مدينك فأنا كفيله، إذا وصلت
بضاعتي من الحديد مثلاً فقد وكلتك ببيعها.
الفرع الثالث ـ عيوب الإرادة أو عيوب الرضا:
عيوب الإرادة: هي الأمور التي تحدث خللاً في الإرادة أو تزيل الرضا الكامل
في إجراء العقد. وتسمى قانوناً عيوب الرضا. وهي أربعة أنواع: الإكراه،
الغلط، التدليس (أو التغرير)، الغبن مع التغرير. ويختلف تأثيرها على العقد،
فقد تجعل العقد باطلاً، كالغلط في محل العقد، وقد تجعله فاسداً أو موقوفاً
كالإكراه، وقد تجعله غير لازم كالغلط في الوصف، والتدليس، والغبن مع
التغرير.
1 - الإكراه:
الإكراه في اللغة: هو حمل الغير على أمر لا يرضاه، قهراً. وفي اصطلاح
الفقهاء: حمل الغير على أن يفعل ما لا يرضاه، ولا يختار مباشرته، لو ترك
ونفسه.
والمقصود بالإرادة: مجرد اعتزام الفعل والاتجاه إليه، فهي أعم الأحوال.
والمقصود بالاختيار: ترجيح فعل الشيء على تركه أو العكس وهو أخص من
الإرادة.
والرضا: هو الارتياح إلى فعل الشيء والرغبة به، وهو أخص من الاختيار.
والإكراه نوعان: ملجئ أو كامل، وغير
ملجئ أو ناقص (1).
_________
(1) البدائع: 175/ 7، تكملة فتح القدير: 292/ 7 ومابعدها، تبيين الحقائق:
181/ 5، درر الحكام: 269/ 2 ومابعدها، الدر المختار: 88/ 5 ومابعدها.
(4/3063)
والإكراه الملجئ أو التام: هو الذي لا يبقى
للشخص معه قدرة ولا اختيار، بأن يهدده بالقتل، أو بإتلاف بعض الأعضاء، أو
بالضرب الشديد الذي يخشى منه القتل أو تلف العضو، أو تلف جميع المال.
وحكمه: أنه يعدم الرضا ويفسد الاختيار.
والإكراه الناقص أو غير الملجئ: هو التهديد بما لا يضر النفس أو العضو،
كالتهديد بالضرب اليسير أو بالحبس، أو بإتلاف بعض المال، أو بإلحاق الظلم
كمنع الترقية أو إنزال درجة الوظيفة.
وحكمه: أنه يعدم الرضا، ولا يفسد الاختيار.
وهناك نوع ثالث: وهو الإكراه الأدبي: وهو الذي يعدم تمام الرضا، ولا يعدم
الاختيار، كالتهديد بحبس أحد الأصول أو الفروع، أو الأخ أو الأخت ونحوهم،
وحكمه: أنه إكراه شرعي استحساناً لا قياساً، كما قرر الكمال بن الهمام من
الحنفية، وهو رأي المالكية، ويترتب عليه عدم نفاذ التصرفات المكره عليها.
ويرى الشافعي أن الإكراه نوع واحد، وهو الإكراه الملجىء، وأما غير الملجئ
فلا يسمى إكراهاً (1).
والإكراه بأنواعه لا يزيل الأهلية، وإنما يزيل الرضا، وقد يزيل الاختيار
وهو الملجئ عند الحنفية، ويزيل الرضا والاختيار معاً عند غير الحنفية.
شروط الإكراه:
يشترط لتحقق الإكراه شروط وهي مايأتي:
_________
(1) تحفة الطلاب للأنصاري: ص 272. 1
(4/3064)
1 - أن يكون المكره قادراً على تنفيذ ما
هدد به، سواء أكان من الحكام أم من غيرهم، فإن لم يكن قادراً على تنفيذ ما
هدد به لعجزه أو لتمكن المستكره من الهرب، فلا يتحقق الإكراه.
2 - أن يغلب على ظن المستكره إيقاع المكره ما هدد به في الحال إذا لم
يمتثل، فإن لم يغلب على ظنه وقوع ما هدد به لا يتحقق الإكراه.
3 - أن يكون الشيء المهدد به مما يشق على النفس تحمله. وهذا يختلف باختلاف
الأشخاص، فيجب أن يبحث تأثيره في كل شخص على حدة.
4 - أن يكون المهدد به عاجلاً: فلو كان آجلاً في المستقبل لم يتحقق
الإكراه؛ لأن بالتأجيل يتمكن المستكره من الاحتماء بالسلطات العامة.
وهذا شرط عند الحنفية والشافعية وبعض الحنابلة. وقال المالكية: لا يشترط أن
يكون المهدد عاجلاً، وإنما الشرط أن يكون الخوف حالاً.
5 - أن يكون الإكراه بغير حق، أي لا يكون مشروعاً: وهو ما يقصد منه الوصول
إلى غرض غير مشروع. فإن كان الإكراه بحق: وهو الذي يقصد منه تحقيق غرض
مشروع، فلا تأثير له على التصرفات أصلاً، كبيع مال المدين جبراً عنه لوفاء
ديونه، واستملاك الأراضي جبراً عن أصحابها للصالح العام كتوسيع مسجد أو
طريق ونحوه.
أثر الإكراه على التصرفات:
إذا وقع الإكراه على القيام بتصرف من التصرفات كالبيع والإيجار والزواج فما
أثر الإكراه عليه؟ للفقهاء رأيان:
(4/3065)
قال جمهور الفقهاء غير الحنفية (1): إن
الإكراه يؤثر في التصرفات فيجعلها باطلة، سواء أكانت قابلة للفسخ كالبيع
والإجارة والهبة ونحوها، أم غير قابلة للفسخ كالزواج والطلاق واليمين
والرجعة، فلا يصح البيع أو الإيجار الصادر من المستكره، ولا يقع طلاق
المكره، ولا يثبت عقد الزواج بالإكراه؛ لأن الإكراه يزيل الرضا، والرضا
أساس التصرفات.
وقال الحنفية (2): يميز بين التصرفات المحتملة للفسخ، والتصرفات غير
المحتملة للفسخ. فإن كان التصرف لا يقبل الفسخ كالزواج والطلاق، فيصح مع
الإكراه ويلزم، لأنه تصرف يستوي فيه الجد والهزل، والإكراه في معنى الهزل
لعدم القصد الصحيح للتصرف فيهما. بدليل الحديث النبوي: «كل طلاق جائز إلا
طلاق الصبي والمجنون» (3) وروي عن ابن عمر أنه أجاز طلاق المكره.
وإن كان التصرف قابلاً للفسخ كالبيع والإجارة والهبة فلا يصح مع الإكراه.
ويكون العقد فاسداً عند جمهور الحنفية (أبي حنيفة وصاحبيه) أي أنه إذا زال
الإكراه وأصر المستكره على العقد مع الطرف الآخر ورضي به صار صحيحاً، فيكون
للمستكره بعد زوال الإكراه الخيار بين إمضاء التصرف وفسخه.
وقال زفر من الحنفية والمالكية: يعتبر تصرف المستكره موقوفاً على إجازته
_________
(1) الشرح الكبير للدردير: 367/ 2، مغني المحتاج: 289/ 3، المغني: 118/ 7،
غاية المنتهى: 5/ 2، القوانين الفقهية: ص 246، المحلى: 380/ 8، 383
ومابعدها.
(2) البدائع: 182/ 7 ومابعدها، 186، تكملة فتح القدير: 293/ 7، 303، تبيين
الحقائق: 182/ 5، 188، الدر المختار: 89/ 5 ومابعدها، 96، الكتاب مع
اللباب: 108/ 4، مجمع الضمانات: ص 206.
(3) ذكر البخاري من قول علي: «كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه» وأما
الحديث المذكور فهو غريب كما قال الزيلعي (نيل الأوطار: 235/ 6، نصب
الراية: 221/ 3).
(4/3066)
عند زوال الإكراه عنه، كتصرف الفضولي. وبما
أن هذا التصرف ينفذ ويلزم بالإجازة، فهذا دليل على كون التصرف موقوفاً لا
فاسداً، لأن التصرف الفاسد يفسخ فسخاً ولا يجاز إجازة.
وهذا ينبئ أن رأي زفر أوجه وأقوى وأصح؛ لأن جمهور الحنفية: قالوا: إن تصرف
المستكره يقبل الإجازة بعد زوال الإكراه، فلو كان فاسداً لماصحت إجازته،
لأن الفاسد لا يجوز بالإجازة بل يجب فسخه شرعاً، ويملك الشيء المعقود عليه
بالقبض، وهذا لاينطبق على عقد المستكره. هذا .. وقد نص القانون المدني
السوري في المادتين (128، 129) على أن الإكراه يجعل العقد قابلاً للإبطال
أي كما قال زفر من الحنفية.
2 - الغلط:
المراد به هنا هو الغلط الواقع في المعقود عليه، في جنسه أو في وصفه.
والغلط في ذات أو جنس المعقود عليه: هو أن يظن العاقد أن المعقود عليه من
جنس معين، فإذا به من جنس آخر، كأن يشتري شخص حلياً على أنها ذهب أو ماس،
ثم يتبين أنها من النحاس، أو الزجاج. أو يشتري حنطة فإذا هو شعير، أو صوفاً
فإذا هو قطن، أو يشتري داراً على أنها مبنية بالإسمنت المسلح، فإذا هي
مبنية باللبن.
وحكم هذا العقد المشتمل على غلط في جنس المعقود عليه: أنه باطل من أساسه،
لفوات محل العقد الذي يريده المشتري، فيكون عقداً على معدوم، والعقد على
المعدوم باطل (1).
_________
(1) تبيين الحقائق: 52/ 4 ومابعدها.
(4/3067)
ويلحق به حالة اتحاد الجنس مع الاختلاف
الكبير أو الفاحش في القيمة كشراء سيارة من جنس معين ومصنوع في عام معين،
فإذا هي صنع أعوام غابرة.
وأما الغلط في وصف مرغوب فيه: فهو أن يظهر المعقود عليه كالوصف الذي أراده
العاقد، ثم يتبين أنه مخالف للوصف المشروط صراحة أو دلالة. كأن يشتري شيئاً
بلون أسود، فإذا هو كحلي أو رمادي، أو شاة على أنها حلوب، فإذا هي غير
حلوب، أو كتاباً لمؤلف معين فإذا هو لمؤلف آخر، أو حقيبة على أنها من جلد
فإذا هي من الكرتون المضغوط أو غيره.
وحكم العقد المشتمل على غلط في الوصف: هو أنه غير لازم بالنسبة لمن وقع
الغلط في جانبه، أي أن له الخيار بين إمضاء العقد وبين فسخه، لفوات الوصف
المرغوب فيه المؤدي إلى اختلال الرضا. وهذا إذا كان العقد قابلاً للفسخ
كعقود المعاوضات المالية ونحوها.
ويلحق به الغلط في شخص العاقد، كالتعاقد مع طبيب مشهور فإذا هو غيره، يجعل
العقد غير لازم.
أما العقود التي لا تقبل الفسخ كالزواج، فإنه يقع العقد منها عند الحنفية
لازماً، أي لا يجوز نقضه بسبب فوات الوصف المرغوب.
وقال الإمام أحمد (1): يثبت خيار الفسخ بفوات الوصف المرغوب في عقد الزواج
أيضاً، كمن يتزوج امرأة جميلة فيظهر أنها دميمة، أو على أنها متعلمة فإذا
هي جاهلة، أو على أنها بكر فإذا هي ثيب فيثبت للزوج حق الفسخ، ولا مهر
للمرأة إن حدث الفسخ قبل الدخول، أو بعد الدخول وكان التغرير من المرأة
نفسها. فإن كان التغرير من غيرها رجع الزوج على ذلك الغير بما دفعه للمرأة.
_________
(1) المغني: 526/ 6 ومابعدها.
(4/3068)
أما القانون المدني السوري: فقد نص على
حالة الغلط في المواد (121 - 125) وجعل العقد قابلاً للإبطال، سواء أكان
الغلط في جنس المعقود عليه أم في الوصف المرغوب فيه، فالجزاء واحد في
الحالتين، خلافاً لما قرره الفقهاء.
هذا ... ولا عبرة في الفقه للغلط الباطني، كأن يشتري سواراً على ظن أنه
ذهب، فإن هو نحاس؛ لأن العبرة في العقود للإرادة الظاهرة، كما لا عبرة
للغلط في الحكم الشرعي كأن يبيع حصته من الميراث على أنها الربع فإذا هي
النصف، إذ لاعذر بالجهل بأحكام الشريعة.
3 - التدليس أو التغرير:
التدليس أو التغرير: هو إغراء العاقد وخديعته ليقدم على العقد ظاناً أنه في
مصلحته، والواقع خلاف ذلك. وهو أنواع كثيرة منها:
التدليس الفعلي، والتدليس القولي،
والتدليس بكتمان الحقيقة.
أما التدليس الفعلي: فهو إحداث فعل في المعقود عليه ليظهر بصورة، غير ما هو
عليه في الواقع، أي أنه تزوير الوصف في المعقود عليه أو تغييره بقصد
الإيهام، كتوجيه البضاعة المعروضة للبيع، بوضع الجيد في الأعلى، وطلاء
الأثاث والمفروشات القديمة، والسيارات، لتظهر أنها حديثة، والتلاعب بعداد
السيارة، لتظهر بأنها قليلة الاستعمال.
ومن أشهر أمثلته الشاة المصراة: وهي
التي يحبس اللبن في ضرعها بربط الثدي، مدة يومين أو ثلاثة ليجتمع لبنها
ويمتلئ، إيهاماً للمشتري بكبر ضرعها وغزارة لبنها.
(4/3069)
وحكم التصرية عند جمهور غير الحنفية (1):
ثبوت الخيار للمدلس عليه بين أمرين: إمساك المبيع دون طلب تعويض عن النقص
أو الغبن، أو رده لصاحبه، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تصروا (2) الإبل
والغنم، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن شاء أمسكها، وإن
شاء ردها، ورد معها صاعاً من تمر» (3). وهذا هو الرأي الراجح.
وقال الحنفية (4): ليس للمشتري الحق في فسخ عقد البيع، بل له فقط أن يرجع
بالنقصان الذي أصاب ما اشترى. ولم يأخذوا بالحديث السابق لمخالفته القياس:
وهو أن ضمان العدوان يكون إما بالمثل أو القيمة، والتمر ليس منهما.
وأما التدليس القولي: فهو الكذب الصادر
من أحد العاقدين أو ممن يعمل لحسابه حتى يحمل العاقد الآخر على التعاقد ولو
بغبن، كأن يقول البائع أو المؤجر للمشتري أو للمستأجر: هذا الشيء يساوي
أكثر، ولا مثيل له في السوق، أو دفع لي فيه سعر كذا فلم أقبل. ونحو ذلك من
المغريات الكاذبة.
وحكم هذا النوع: أنه منهي عنه شرعاً؛ لأنه غش وخداع، ولكن لا يؤثر في العقد
إلا إذا صحبه غبن فاحش لأحد المتعاقدين، فيجوز حينئذ للمغبون إبطال
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 264، بداية المجتهد: 174/ 2، نهاية المحتاج: 136/
3 وما بعدها، مغني المحتاج: 63/ 2 ومابعدها، غاية المنتهى: 34/ 2.
(2) التصرية: حبس اللبن في الثدي مدة معينة لإيهام المشتري بأن الشاة
ونحوها غزيرة اللبن.
(3) نيل الأوطار: 214/ 5، ط العثمانية. والصاع: 2751غم. والحكمة من رد
الصاع من التمر: هو التعويض عن اللبن الذي أخذه المشتري لإنهاء النزاع بين
العاقدين، وقدر بالصاع لعدم معرفة مقدار اللبن الذي يجب ضمانه للبائع بسبب
اختلاط الموجود قبل القبض بالطارئ بعد القبض، وقدر بالتمر لأنه غالب قوت
البلد في الماضي، فإن لم يكن هو الغالب كان الواجب صاعاً من غالب قوت
البلد. والحديث متفق عليه عن أبي هريرة.
(4) الدر المختار ورد المحتار: 101/ 4، ط البابي الحلبي.
(4/3070)
العقد، دفعاً للضرر عنه، أي أنه يثبت له
خيار الفسخ بسبب الغبن مع التغرير، كما سأبين في عيب الغبن.
وأما التدليس بكتمان الحقيقة، وهو
الصورة المشهورة في الفقه باسم (التدليس): فهو إخفاء عيب في أحد العوضين،
كأن يكتم البائع عيباً في المبيع، كتصدع في جدران الدار وطلائها بالدهان أو
الجص، وكسر في محرك السيارة، ومرض في الدابة المبيعة، أو يكتم المشتري
عيباً في النقود ككون الورقة النقدية باطلة التعامل، أو زائلة الرقم النقدي
المسجل عليها، أو ذهب أكثر من خمسها.
وحكم هذا النوع: أنه حرام شرعاً باتفاق الفقهاء (1)، لقول النبي: «المسلم
أخو المسلم، لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعاً، وفيه عيب، إلا بينه له» وقوله
عليه السلام: «من غشنا فليس منا» (2). ويثبت فيه للمدلس عليه ما يعرف بخيار
العيب: وهو إعطاؤه حق الخيار: إن شاء فسخ العقد، وإن شاء أمضاه. كما سيتضح
في بحث الخيارات.
ولا فرق في التدليس الموجب للخيار بين أن يصدر من أحد العاقدين، أو من شخص
آخر أجنبي عنهما كالدلال ونحوه إذا كان بتواطؤ مع أحد العاقدين (3).
ونص القانون المدني السوري في المادتين (126، 127) على التدليس من أحد
المتعاقدين أو من غير المتعاقدين، وجعل التدليس موجباً لخيار المدلس عليه
وإعطائه الحق في إبطال العقد إذا كانت الحيل المستخدمة من الجسامة بحيث
لولاها
_________
(1) قال في الدر المختار: 103/ 4: «لا يحل كتمان العيب في مبيع أو ثمن لأن
الغش حرام».
(2) الحديث الأول رواه ابن ماجه عن عتبة بن عامر، والحديث الثاني رواه
الجماعة إلا البخاري والنسائي عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 212/ 5).
(3) الدر المختار ورد المحتار: 167/ 4، ط البابي الحلبي.
(4/3071)
لما أبرم الطرف الثاني العقد. وكان العاقد
صاحب المصلحة في حالة التدليس من غير العاقدين يعلم بالتدليس أو من المفروض
أن يعلم. وهذا إجمالاً يتفق مع الفقه الإسلامي كما تقدم.
4 - الغبن مع التغرير:
الغبن لغة: النقص. والتغرير: الخداع. وعند الفقهاء: الغبن: أن يكون أحد
العوضين غير متعادل مع الآخر، بأن يكون أقل من قيمته أو أكثر منها.
والتغرير: إيهام خلاف الواقع بوسائل مغرية، وعرفته المجلة (م 164) بأنه وصف
المبيع للمشتري بغير صفته الحقيقية.
والغبن نوعان: يسير وفاحش (1).
أما الغبن اليسير: فهو ما يدخل تحت تقويم المقومين أي ما يتناوله تقدير
الخبراء كشراء شيء بعشرة، ثم يقدره خبير بثمانية أو تسعة أو عشرة مثلاً،
فهذا غبن يسير.
وأما الغبن الفاحش: فهو مالا يدخل تحت تقويم المقومين أو تقدير الخبراء
العارفين بأسعار الأشياء، كما لو وقع البيع بعشرة مثلاً، ثم إن بعض
المقومين يقول: إنه يساوي خمسة، وبعضهم ستة وبعضهم سبعة، فهذا غبن فاحش،
لأنه لم يدخل تحت تقويم أحد. وقدرته المجلة (م 165) عملاً برأي نصر بن يحيى
بأنه نصف العشر أي (5%) في العروض التجارية، والعشر أي (10%) في الحيوانات،
والخمس أي (20%) في العقار، أو زيادة.
أثر الغبن في العقد:
الغبن اليسير: لا أثر له على العقد فلا
يجيز الفسخ؛ لأنه يصعب الاحتراز
_________
(1) البدائع: 30/ 6، الدر المختار ورد المحتار: 166/ 4.
(4/3072)
عنه، ويكثر وقوعه في الحياة العملية،
ويتسامح الناس فيه عادة. واستثنى الحنفية حالات ثلاثاً يجوز فيها فسخ العقد
بسبب الغبن اليسير للتهمة وهي:
1 - تصرف المدين المحجور عليه بسبب دين مستغرق: فإذا باع شيئاً من ماله، أو
اشترى ولو بغبن يسير، كان للدائنين حق فسخ العقد إلا إذا رضي العاقد الآخر
برفع الغبن؛ لأن تصرف المدين موقوف على إجازة الدائنين، فإن أجازوه نفذ،
وإن لم يجيزوه بطل.
2 - تصرف المريض مرض الموت: إذا باع أو اشترى بغبن يسير جاز للدائنين أو
للورثة بعد الموت طلب فسخ التصرف، إلا إذا رضي المتعاقد الآخر برفع الغبن.
3 - بيع الوصي شيئاً من أموال اليتيم بغبن يسير لمن لا تجوز شهادته له
كابنه وزوجته، فينقض العقد.
وأما الغبن الفاحش: فيؤثر في رضا العاقد
فيزيله، ولكن هل له الحق في فسخ العقد؟ للفقهاء في ذلك آراء ثلاثة:
الرأي الأول للحنفية (1): ليس للغبن
الفاحش وحده في ظاهر الرواية أثر على العقد، فلا يجيز رد المعقود عليه أو
فسخ العقد إلا إذا انضم إليه تغرير (أي وصف المبيع بغير حقيقته) من أحد
العاقدين أو من شخص آخر كالدلال ونحوه وهذا ما أخذت به المجلة (م 357)؛ لأن
الغبن المجرد عن كل خديعة يدل على تقصير المغبون وعدم ترويه وسؤاله أهل
الخبرة ولا يدل على مكر العاقد الآخر، ولكل إنسان طلب المنفعة ما لم يضر
الجماعة، كما في حالة الاحتكار. فإذا انضم إليه تغرير كان المغبون معذوراً؛
لأن الرضا بالعقد كان على أساس عدم الغبن، فإذا ظهر الغبن لم يتوافر الرضا.
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 166/ 4 ومابعدها.
(4/3073)
واستثنى الحنفية ثلاث حالات يجوز فيها
الفسخ بالغبن الفاحش المجرد عن التغرير، وهي:
أموال بيت المال، وأموال الوقف، وأموال المحجور عليهم بسبب الصغر أو الجنون
أو السفه، فإذا بيع شيء من ذلك بغبن فاحش ولو من غير تغرير، نقض البيع
(م/356 مجلة).
الرأي الثاني ـ للحنابلة (1): يؤثر
الغبن الفاحش في العقد فيجعله غير لازم، سواء أكان بتغرير أم بغير تغرير،
ويعطى للمغبون حق فسخ العقد في حالات ثلاث هي:
أـ تلقي الركبان: وهو أن يتلقى شخص
طائفة من الناس يحملون متاعاً إلى بلد، فيشتريه منهم، قبل قدومهم البلد
ومعرفتهم بالسعر. وهو حرام ومعصية، ويثبت لهم حق الفسخ إذا غبنوا غبناً
فاحشاً، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تلقوا الركبان» (2). وهذا رأي
الشافعية أيضاً (3)، لثبوت الخيار فيه بنص الحديث.
ب ـ النَّجْش: وهو زيادة ثمن السلعة المعروضة للبيع، لا لرغبة في شرائها،
بل ليخدع غيره. فيثبت الخيار للمشتري إذا لم يعلم بأن الذي يزيد لا يريد
الشراء. وليس له الخيار في الأصح عند الشافعية (4).
_________
(1) غاية المنتهى: 33/ 2، المغني: 212/ 4، 218 ومابعدها.
(2) عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال، قال رسول الله صلّى الله
عليه وسلم: «لا تلَقوا الركبان، ولا يبع حاضر لِباد»، قلت لابن عباس: ما
قوله، ولا يبع حاضر لباد؟ قال: «لا يكون له سمساراً». متفق عليه واللفظ
للبخاري (سبل السلام: 20/ 3 ومابعدها).
(3) مغني المحتاج: 36/ 2، المهذب: 292/ 1.
(4) مغني المحتاج: 37/ 2، المهذب: 291/ 1.
(4/3074)
ج ـ المسترسل:
وهو الشخص الجاهل بقيمة الأشياء، ولا يحسن المساومة والفصال ويشتري مطمئناً
إلى أمانة البائع، ثم يتبين أنه غبن غبناً فاحشاً، فيثبت له الخيار بفسخ
البيع.
وقال المالكية: هذه البيوع الثلاثة صحيحة ولكنها حرام للنهي الثابت في
السنة عنها شرعاً، ويعطى الخيار بالفسخ للمشتري في حالة بيع النجش دون غيره
(1).
الرأي الثالث ـ للشافعية (2): لا أثر
للغبن الفاحش في التصرفات سواء رافقه تغرير أم لا؛ لأن الغبن لا يقع إلا
بتقصير من المغبون غالباً، فلو سأل أهل الخبرة، لما وقع في الغبن.
والقانون المدني السوري نص في المادة (130) على حالة خاصة من حالات الغبن
وهي الغبن الاستغلالي: وهي حالة انعدام تعادل الأداءات المتقابلة الذي دفع
إلى وجوده وجود طيش بيِّن (خفة ظاهرة) أو هوى جامح (الولع الشديد بشيء لا
قبل له بدفعه) عند أحد المتعاقدين واستغلال المتعاقد لتلك الحالة النفسية.
وقدر الغبن في بيع العقار في المادة (1/ 393) بما زاد على الخمس. وجعل
جزاءه قابلية العقد للإبطال لطلب المغبون برفع الدعوى خلال سنة من تاريخ
العقد. وكل قابل للإبطال (البطلان النسبي) يقبل الإجازة ممن تقرر الإبطال
لمصلحته.
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 264، الشرح الكبير للدردير: 67/ 3 - 70، الشرح
الصغير:87/ 3. أما النهي عن تلقي الركبان فهو عند البخاري ومسلم كما تقدم،
وأما النهي عن النجش فهو عند أحمد والشيخين عن ابن عمر: «نهى النبي صلّى
الله عليه وسلم عن النَّجْش».
(2) مغني المحتاج: 36/ 2.
(4/3075)
المبحث الثالث ـ
شروط العقد:
عرفنا فيما مضى عناصر العقد الأساسية الأربعة: وهي صيغة التعاقد،
والعاقدان، والمحل المعقود عليه، وموضوع العقد أو المقصد الأصلي للعقد.
ويتطلب العقد بالإضافة لعناصره توافر أربعة أنواع من الشروط: وهي شروط
الانعقاد، وشروط الصحة، وشروط النفاذ، وشروط اللزوم.
والقصد من هذه الشروط في الجملةمنع وقوع المنازعات بين الناس، وحماية مصالح
العاقدين، ونفي الغرر (أي الاحتمال) والبعد عن المخاطر بسبب الجهالة.
والمراد بالشرط: هو ما يتوقف عليه وجود الشيء وكان خارجاً عن حقيقته (1)،
كالطهارة للصلاة شرط فيها وهي أمر خارج عن الحقيقة، وحضور الشاهدين في
الزواج شرط فيه، وتعيين العوضين في البيع أو قابلية المبيع للتمليك شرط
فيه، والقدرة على تسليم المبيع أو أهلية العاقد شرط في البيع؛ لأن كلاً
منها ليس من أجزاء العقد (2).
ويقسم الفقهاء الشروط بحسب مصدرها إلى شرط شرعي وشرط جعلي.
الشرط الشرعي: هو الذي يفرضه الشرع، فيصبح لا بد منه لتحقق العقد، ولا يوجد
إلا به. وهذا محل البحث هنا، كاشتراط أهلية العاقد لانعقاد العقد.
والشرط الجعلي (3): هو الذي يشترطه العاقد بإرادته ليحقق له مقصداً خاصاً
_________
(1) أما الركن كما عرفنا: فهو عند الحنفية ما يتوقف عليه وجود الشيء وكان
جزءاً من حقيقته أو ماهيته. كالركوع ركن في الصلاة لأنه جزء منها، والقراءة
في الصلاة ركن؛ لأنه جزء من حقيقة الصلاة. والإيجاب والقبول في العقد ركنان
لأنهما جزآن من حقيقة العقد.
(2) مرآة الأصول لمنلا خسرو: 339/ 2.
(3) سمي جعلياً: لأن الشخص العاقد لا الشرع هو الذي جعله شرطاً قيد به
العقد أو علقت عليه في أمر كان له الخيار في تنجيزه وتعليقه.
(4/3076)
في العقد، فيجعل مقترناً بالعقد، أو معلقاً
عليه كتعليق الكفالة والطلاق، مثل إن سافر مدينك اليوم فأنا كفيل بدينك،
وإن فعلتِ (مخاطباً زوجته) كذا فأنت طالق، وكسائر القيود والالتزامات التي
يشترطها المتعاقدان على أنفسهما.
وقد بحثت ذلك في بحث حرية العاقد في الشروط.
أولاً ـ شرائط الانعقاد: هي ما يشترط تحققه لجعل العقد في ذاته منعقداً
شرعاً وإلا كان باطلاً. وهي نوعان: عامة وخاصة.
فالشرائط العامة: هي التي يجب توافرها في كل عقد.
والشرائط الخاصة: هي التي يطلب وجودها في بعض العقود دون سواها. كاشتراط
الشهود في عقد الزواج، فلا ينعقد الزواج إلا بحضور الشاهدين، وإلا كان
باطلاً.
وكاشتراط التسليم في العقود العينية (وهي الهبة والإعارة والإيداع والقرض
والرهن) فلا يتم انعقاده إلا بتسليم محل العقد وإلا كان باطلاً.
وكعدم تعليق العقد على شرط في المعاوضات والتمليكات كالبيع والهبة
والإبراء، فإن التعليق يبطلها. والشرائط العامة للانعقاد: هي الشروط
المطلوبة في صيغة التعاقد وفي العاقد، وفي المحل المعقود عليه، وألا يكون
العقد ممنوعاً شرعاً، وأن يكون العقد مفيداً.
أما شروط الصيغة والعاقد ومحل العقد فقد ذكرت سابقاً فلا داعي لتكرارها
هنا.
وأما كون العقد غير ممنوع شرعاً: فهو ألا يوجد نص شرعي يقتضي بطلانه، مثل
التبرع من مال الصغير القاصر أو بيع شيء من ماله بغبن فاحش، فلا تنعقد
(4/3077)
الهبة من مال القاصر من أي واحد، سواء
الولي أومن نفس الصغير، ويكون العقد باطلاً، حتى ولو أجازه الصغير بعد
بلوغه؛ لأن الباطل لا يقبل الإجازة. ومثل الاستئجار على فعل المعاصي أو
ارتكاب الجرائم أو بيع المخدرات والمسكرات. ومثل بيع الغرر (أي غرر الوجود)
وهو بيع الشيء المحتمل للوجود والعدم، أي أن المعقود عليه هو المحتمل
للوجود والعدم كبيع اللبن في الضرع والصوف على الظهر، واللؤلؤ في الصدف،
والحمل في البطن، والسمك في الماء، والطير في الهواء قبل صيدهما. ومنه بيع
ضربة القانص (وهو أن يقول البائع: بعتك ما يخرج من إلقاء هذه الشبكة مرة
بكذا)، وضربة الغائص (وهو أن يقول البائع: أغوص غوصة، فما أخرجته من اللآلئ
فهو لك بكذا).
ومنه بيع المضامين (ما في أصلاب الذكور) والملاقيح (ما في بطون الإناث)
وبيع الملامسة والمنابذة وإلقاء الحصاة أو الحجر: وهي أن المشتري أو البائع
إذا لمس المبيع أو نبذه البائع للمشتري، أو ألقى المشتري عليه حصاة أو
حجراً، فقد لزم العقد، فالمبيع في هذه الأحوال مجهول الذات أو المقدار، وقد
ثبت النهي عنها كما تقدم، وكانت بيوعاً متعارفة في الجاهلية، فهي باطلة أي
أن غرر الوجود مبطل للبيع.
والخلاصة: أن المنع الشرعي (1) قد يكون بسبب طريقة العقد كبيع الغرر، أو
بسبب محل العقد كبيع المخدرات والاستئجار على فعل المعاصي، أو بسبب موضوع
العقد كهبة مال القاصر، والتعامل بالذهب في سوريا ومصر (2).
_________
(1) يلاحظ أن النهي أو المنع الشرعي عند الحنفية قد يكون أثره البطلان أو
عدم الانعقاد وقد يكون أثره الفساد أي الانعقاد مع الخلل الفرعي.
(2) المدخل الفقهي للأستاذ الزرقاء: ف 167.
(4/3078)
وأما كون العقد مفيداً (1): فهو أن يحقق
مصلحة معقولة. فلا ينعقد الرهن مثلاً في مقابل الأمانة كالوديعة؛ لأن
المرهون به يجب أن يكون مضموناً (2)؛ لأن قبض الرهن مضمون، فلا بد أن
يقابله مضمون، والوديعة ونحوها أمانة غير مضمونة. ولا يصح التعاقد بين
اثنين على عدم الاشتغال في التجارة مثلاً؛ لأن ذلك مصادم لمبدأ حرية
الإنسان الاقتصادية، وحماية هذه الحرية من النظام العام في الإسلام.
كما لا يصح التعاقد أيضاً على أمر واجب على الإنسان شرعاً، كالاتفاق على
الامتناع من فعل جريمة، والاستئجار على فعل الواجبات الدينية كالصلاة ومجرد
قراءة القرآن (3)، واستئجار الزوجة على القيام بأعمال المنزل أو على إرضاع
طفلها؛ لأن ذلك واجب عليها ديانة.
ثانياً ـ شرائط الصحة: وهي ما يشترط شرعاً لترتيب آثار العقد، فإن فقدت كان
العقد فاسداً، أي مختلاً اختلالاً في ناحية فرعية متممة غير أساسية، مع
كونه منعقداً موجوداً في حد ذاته.
وأغلب شرائط الصحة خاص بكل عقد على حدة. ففي البيع مثلاً يشترط
_________
(1) المرجع السابق: ف 169.
(2) الأمانة: هي التي لا تضمن إذا تلفت (أي لا يدفع بدلها) إلا بالتعدي أو
التقصير في الحفظ. والمضمون: هو الذي يضمن إذا تلف لأي سبب كان التلف.
(3) لكن أفتى متأخرو الفقهاء من الحنفية، والمالكية والشافعية بجواز أخذ
الأجرة على ممارسة الشعائر الدينية مثل الأذان والإقامة والإمامة في صلاة
الجمعة والجماعة، وعلى تعليم القرآن للضرورة خشية ألا يقوم بها أحد فتتعطل
(تبيين الحقائق: 124/ 5، البدائع: 191/ 4 ومابعدها، بداية المجتهد: 221/ 1،
مغني المحتاج: 344/ 2، المهذب: 398/ 1).
(4/3079)
عند الحنفية خلوه من أحد العيوب الستة
الآتية: وهي الجهالة، والإكراه، والتوقيت، والغرر (غرر الوصف)، والضرر،
والشرط الفاسد (1).
أما الجهالة: فهي الجهالة الفاحشة التي تفضي إلى نزاع يتعذر حله، وهو
النزاع الذي تتساوى فيه حجة الطرفين بالاستناد إلى الجهالة. وهي أربعة
أنواع: جهالة المبيع أو الثمن جنساً أو نوعاً أو قدراً، وجهالة أجل وفاء
الثمن، أو مدة خيار الشرط، وجهالة وسائل التوثيق كتقديم كفيل أو رهن
مجهولين.
وأما الإكراه بنوعيه الملجئ والناقص فيفسد العقد عند جمهور الحنفية، ويجعل
العقد موقوفاً عند زفر، على التفصيل الذي ذكرسابقاً.
وأما التوقيت: فهو تأقيت البيع بمدة شهر أوسنة، فيفسد؛ لأن ملكية العين لا
تقبل التأقيت. كذلك يفسد الزواج في حال تأقيته بمدة معينة؛ لأنه مشروع بصفة
التأبيد.
وأما غرر الوصف: فهو كبيع بقرة على أنها تحلب كذا رطلاً، فهو بيع فاسد؛ لأن
المقدار المذكور من الحليب موهوم التحقق، فقد ينقص. وأما غرر الوجود: وهو
ماكان المبيع فيه محتملاً للوجود والعدم، فيجعل البيع باطلاً كما تقدم.
وأما الضرر: فهو كبيع جذع معين من سقف مبني لا يمكن تسليمه إلا بهدم ما حول
الجذع، وكبيع ذراع من ثوب يضره التبعيض.
وأما الشرط الفاسد عند الحنفية (2) فهو كل شرط فيه نفع لأحد المتبايعين،
ولم يتعارفه الناس كبيع سيارة على أن يستخدمها شهراً بعد البيع، أو دار على
أن
_________
(1) رد المحتار: 6/ 4، فتح القدير: 219/ 5، البدائع: 188/ 7.
(2) الدر المختار: 127/ 4.
(4/3080)
يسكنها مدة معينة، أو كبيع بشرط إقراض مبلغ
من المال. وحكمه: أنه يفسد البيع ونحوه من المعاوضات المالية، ولا يؤثر في
غيرها كما بان سابقاً في بحث حرية الاشتراط.
كذلك يشترط في البيع المماثلة في الكمية بين البدلين والتقابض في العوضين
في مبادلة الأموال الربوية كالنقدين (الذهب والفضة) والحبوب من حنطة وشعير
ونحوهما.
ويشترط أيضاً قبض المبيع المنقول قبل التصرف به من المشتري لشخص آخر.
ثالثاً ـ شرائط النفاذ: يشترط لنفاذ العقد شرطان (1):
أولاً ـ الملك أو الولاية. أما الملك: فهو حيازة الشيء متى كان الحائز له
قادراً وحده على التصرف فيه عند عدم المانع الشرعي، أي أن المالك له حرية
التصرف والاستقلال بمنافع الشيء إلا إذا وجد مانع كالجنون أو السفه أو
الطفولة أو عدم التمييز.
وأما الولاية: فهي سلطة شرعية بها ينعقد العقد وينفذ، وهي إما أصلية: وهي
أن يتولى الإنسان أمور نفسه بنفسه. أو نيابية: وهي أن يتولى الشخص أمور
غيره من ناقصي الأهلية، إما بإنابة المالك كالوكيل، أو بإنابة الشارع
كالأولياء (الأب أو الجد) والأوصياء (وصي الأب أو الجد أو وصي القاضي).
ويترتب على هذا الشرط أن محل العقد ينبغي أن يكون مملوكاً للعاقد، فإن
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 6/ 4،104، البدائع: 155/ 5.
(4/3081)
لم يكن مملوكاً له بأن كان فضولياً، كان
العقد غير نافذ أو موقوفاً على إجازة المالك إذا باعه عن مالكه نفسه، أما
إن باعه عن نفسه هو، لا عن مالكه نفسه، كان البيع باطلاً.
وقد جعل الشافعي وأحمد الملك أو الولاية من شرائط الانعقاد، فتعتبر تصرفات
الفضولي باطلة. كما ذكر سابقاً.
ثانياً ـ ألا يكون في محل العقد حق لغير العاقد: فإن تعلق به حق الغير كان
العقد موقوفاً غير نافذ، وتعلق حق الغير له ثلاثة أوجه (1).
1 - أن يكون حق الغير متعلقاً بعين المحل المعقود عليه، كبيع ملك الغير
وتبرع المريض مرض الموت بما يزيد عن ثلث أمواله، يكون موقوفاً على إجازة
الورثة.
2 - أن يكون متعلقاً بمالية المحل المعقود عليه دون عينه، كتصرف المدين غير
المحجور عليه بما يضر حقوق الدائنين، تتعلق حقوقهم بمالية أموال المدين
لاستيفاء ديونهم، وليست حقوقهم متعلقة بأعيان أمواله، فلو أتى المدين بمال
آخر يفيهم به حقوقهم نفذت تصرفاته الموقوفة على إجازتهم.
3 - أن يكون متعلقاً بصلاحية التصرف نفسه، لا بمحله المعقود عليه، كتصرف
ناقص الأهلية المحجور عليه إما حجراً شرعياً بسبب الصغر كالمميز، أو حجراً
قضائياً بسبب السفه أو الدين المستغرق (المحيط بكل ماله).
إن ناقص الأهلية لا يملك التصرف في أمواله، ويكون تصرفه موقوفاً على إجازة
وليه الشرعي من أب أو جد أو وصي. فإن أجازه نفذ، وإن رده بطل.
_________
(1) الدر المختار: 146/ 4، المدخل الفقهي للأستاذ الزرقاء: ف 4/ 194.
(4/3082)
وكما أن حق الغير (أي غير العاقدين) ما نع
من نفاذ التصرف، هناك مانع آخر من النفاذ وهو الإكراه.
رابعاً ـ شرائط اللزوم: الأصل في العقود اللزوم، ويشترط للزوم العقد كالبيع
والإيجار خلوه من أحد الخيارات التي تسوغ لأحد المعاقدين فسخ العقد، والتي
تثبت إما باشتراط العاقد أو بإيجاب الشرع (1). فإن وجد في العقد خيار كخيار
الشرط أو خيار العيب أو الرؤية منع لزوم العقد في حق من له الخيار، فكان له
أن يفسخ العقد أو أن يقبله، إلا إذا حدث مانع من ذلك، كما سيتبين في بحث
الخيارات. ويسمى العقد المشتمل على الخيار غير لازم.
المبحث الرابع ـ آثار العقد:
لكل عقد أثر خاص وأثر عام (2):
ف الأثر الخاص: هو حكم العقد، وحكم
العقد: هو الأثر الأصلي (أو النوعي) للعقد أو الغاية الجوهرية الأساسية
المقصودة من العقد كانتقال الملكية في عقد البيع والهبة، وتملك المنفعة في
عقد الإيجار والإعارة، وحل المتعة الزوجية في عقد الزواج، وحق احتباس
المرهون في عقد الرهن، وتفويض التصرف في عقد الوكالة، ونحو ذلك.
ويقال للحكم الأصلي للعقد موضوع العقد كما بان سابقاً في بحث السبب.
ويفترق الحكم الأصلي للعقد عن الالتزام. فالالتزام هو كون الشخص مكلفاً
بفعل، أو بامتناع عن فعل. مثال الأول: تسليم المبيع وأداء الثمن. ومثال
الثاني: عدم التعدي على نفس أو مال الغير، وعدم استعمال الوديعة.
_________
(1) حاشية ابن عابدين: 6/ 4.
(2) راجع المدخل الفقهي للأستاذ الزرقاء: ف 193 ومابعدها.
(4/3083)
ومصدر الالتزام قد يكون هو الشرع كالإنفاق
على الأقارب، وقد يكون مصدره العقد، كالالتزامات بدفع الأجرة أو الثمن، وقد
يكون مصدره غير العقد وهو الفعل الضار كضمان المتلفات.
وحكم العقد الأصلي يتحقق آلياً بتقدير الشرع بمجرد انعقاد العقد صحيحاً،
فلا يحتاج إلى تنفيذ، فبمجرد انعقاد البيع صحيحاً تنتقل الملكية للمشتري،
وهكذا سائر أحكام العقود.
أما الالتزام: فيحتاج إلى تنفيذ؛ لأنه تكليف على شخص لمصلحة آخر، فملكية
المبيع وإن انتقلت إلى المشتري بمجرد البيع، لكن ذلك الأثر يحتاج إلى تنفيذ
التزام البائع: وهو القيام بتسليم المبيع إلى المشتري.
والالتزامات قد يستلزمها العقد ذاته: وهي التي نظمها الشرع آثاراً للعقد
المنشئ لها كالالتزام بتسليم المبيع وضمان العيب، والالتزام بدفع الثمن أو
الأجرة.
وقد يشترطها العاقد كاستعمال المبيع مدة بعد البيع، وإيصال المبيع لبيت
المشتري، ودفع الأجرة سلفاً، ونحو ذلك.
وأما الأثر العام: فهو ما تشترك فيه كل
العقود أو معظمها من أحكام ونتائج. وللعقود أثران عامان هما: النفاذ،
والإلزام واللزوم.
والنفاذ: معناه ثبوت حكم العقد الأصلي منذ انعقاده، أي أن آثار العقد
الخاصة ونتائجه المترتبة عليه تحدث فور انعقاد العقد، فنفاذ عقد البيع
مثلاً معناه انتقال ملكية المبيع والثمن بمجرد انعقاده، وإيجاب تنفيذ
الالتزامات على الطرفين، كتسليم المبيع وتسلم الثمن، وضمان العيب إن ظهر
فيه عيب.
ونفاذ عقد الزواج معناه: إحلال المتعة الزوجية بمجرد انعقاده، وإيجاب
(4/3084)
الحقوق والالتزامات التي ينشئها العقد
بينهما، كالتزام الرجل بالنفقة، ومسؤولية المرأة عن الطاعة المشروعة.
والنفاذ يقابله التوقف، فيقال: عقد نافذ وعكسه موقوف.
وأهم أنواع العقد الموقوف سبعة هي:
عقد المكره، وعقد المميز، وعقد السفيه المحجور عليه، وعقد المدين بدين
مستغرق، وتبرع المريض مرض الموت، وعقد الفضولي، وتصرف المرتد عن الإسلام،
فإن عقوده في حال ردته موقوفة عند أبي حنيفة، فإذا عاد إلى الإسلام نفذت،
وإن مات أو قتل أو لحق بدار الحرب وقضى القاضي بالتحاقه بطلت.
والإلزام: معناه العام لغة هو إيجاب تنفيذ التزامات التعاقد، عملاً بقوله
تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1/ 5] ومعناه الخاص
فقهاً: هو إنشاء التزامات متقابلة معينة على العاقدين، كما في البيع، أو
إنشاء التزام معين على أحد العاقدين، كما في الوعد بجائزة، وهذا من آثار
العقد.
ويختلف الإلزام عن اللزوم. فاللزوم: هو
عدم استطاعة فسخ العقد إلا بالتراضي، والتراضي على فسخ العقد يسمى إقالة.
ويكتسب العقد صفة اللزوم عند الحنفية والمالكية بمجرد تمام العقد. وهذا ما
أخذ به القانون وجرى عليه القضاء.
وعند الشافعية والحنابلة: لا يكتسب العقد صفة اللزوم إلا بعد انقضاء مجلس
العقد، بتفرق العاقدين بأبدانهما، عملاً بخيار المجلس الثابت في السنة
النبوية، على ما سيذكر في بحث الخيارات.
(4/3085)
المبحث الخامس ـ
تصنيف العقود:
للعقود أقسام متعددة باعتبارات مختلفة، أهمها النظر إلى العقد بحسب إقرار
الشرع له وعدم إقراره، أو بالنظر إلى كون العقود مسماة أو غير مسماة، أو
بالنظر إلى غاية العقد وأغراضه، أو لكون العقد عينياً أوغير عيني، أو
باعتبار اتصال الأثر به وعدم اتصاله.
التقسيم الأول ـ بحسب وصف العقد شرعا ً:
ينقسم العقد بحسب الوصف الذي يعطيه الشرع له بناء على مقدار استيفائه
لأركانه وشروطه إلى صحيح تترتب عليه آثاره، وغير صحيح لا تترتب عليه آثاره.
العقد الصحيح:
هو الذي استكمل عناصره الأساسية من (صيغة وعاقدين ومحل عقد وموضوع عقد)،
وشرائطه الشرعية. فيصبح صالحاً لترتب حكمه وآثاره عليه. ويعرفه الحنفية
بقولهم: هو ما كان مشروعاً بأصله ووصفه (1).
وحكم العقد الصحيح: ثبوت أثره في الحال، فالبيع الصادر من كامل الأهلية على
مال متقوم شرعاً، ولغاية مشروعة، يترتب عليه ثبوت ملك المبيع والثمن
للمشتري والبائع فور انتهاء الإيجاب والقبول إذا لم يكن في البيع خيار.
_________
(1) أصل العقد أي ركنه (الإيجاب والقبول) وعاقداه ومحله. ووصف العقد: هو ما
كان خارجاً عن الركن والمحل كالشرط المخالف لمقتضى العقد، أو كون المبيع
غير مقدور التسليم، وكالثمنية فإنها صفة تابعة للعقد.
(4/3086)
العقد غير الصحيح:
هو ما اختل فيه أحد عناصره الأساسية أو شرط من شروطه. وحكمه أنه لا يترتب
عليه أثر كبيع الميتة والدم والخمر والخنزير، وكبيع فاقد الأهلية. ويشمل
غير الصحيح عند جمهور الفقهاء غير الحنفية: الباطل والفاسد، وهما بمعنى
واحد.
وأما الحنفية: فيقسمون غير الصحيح إلى باطل وفاسد. فلكل واحد معنى مختلف عن
الآخر، وتلك القسمة محصورة في العقود الناقلة للملكية أو العقود التي توجب
التزامات متقابلة من العاقدين، كالبيع والإجارة والهبة والقرض والحوالة
والشركة والمزارعة والمساقاة والقسمة.
أما العقود غير المالية كالوكالة والوصاية والزواج على الأصح والعقود
المالية التي ليس فيها التزامات متقابلة كالإعارة والإيداع، والعبادات،
والتصرفات المنفردة كالطلاق والوقف والكفالة والإقرار ونحوها، فهذه لا فرق
فيها بين الفاسد والباطل.
منشأ الخلاف بين الحنفيةوالجمهور:
أساس الخلاف بين الحنفية وغيرهم راجع لقضية أصولية: وهي فهم أثر النهي
الصادر عن الشرع، كالنهي عن شراء السمك في الماء، فإنه غرر، وعن بيعتين في
بيعة، وكتحريم بيع الخمر والميتة والخنزير ونحو ذلك. فهل النهي يقتضي فساد
المنهي عنه، أي عدم الاعتبار والوقوع في الإثم معاً أو أنه يقتصر على إيجاب
الإثم وحده مع اعتباره أحياناً؟
ثم هل يستوي النهي عن ركن من أركان العقد مع النهي عن وصف عارض للعقد لازم
له أو غير لازم؟
(4/3087)
قال جمهور الفقهاء
(1): إن نهي الشارع عن عقد ما: يعني عدم اعتباره أصلاً، وإثم من يقدم عليه.
ولا فرق بين النهي عن ركن من أركان العقد (الصيغة وأهلية العاقدين ومحل
العقد) أو النهي عن وصف عارض للعقد ملازم له أو مجاور، لقوله عليه الصلاة
والسلام في الحديث المتقدم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد، ومن أحدث
في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد».
وعليه إذا حدث عقد منهي عنه فهو باطل أو فاسد لا يترتب عليه أي أثر؛ لأن
نهي الشرع عنه يجعله غير مشروع أو غير موجود، وإذا كان النهي لوصف فيسري
إلى الموصوف.
وقال الحنفية (2): قد يكون نهي الشارع
عن عقد: معناه إثم من يرتكبه فقط، لا إبطاله، ويفرق بين النهي الراجع لأصل
العقد (أي لخلل في الصيغة أو في العاقد أو في المحل) فيقتضي بطلان العقد
وعدم وجوده شرعاً وعدم ترتب أي أثر عليه، وبين النهي العائد لأمر آخر كوصف
من أوصاف العقد ملازم له، فيقتضي بطلان هذا الوصف فقط، ولا يتعدى البطلان
إلى أصل العقد، لأنه استكمل عناصره الأساسية، فيكون العقد فاسداً فقط.
فالبيع الصادر عن عديم الأهلية، وبيع غير المال كالميتة، وبيع مال غير
متقوم كالخمر والخنزير والسمك في الماء باطل؛ لأن الخلل فيه راجع لأصل
العقد. والبيع المؤقت أو المشتمل على جهالة في الثمن أو المؤدي إلى النزاع
في العقد كبيعتين في بيعة فاسد؛ لأن الخلل راجع لوصف في العقد خارج عن
حقيقته وذاته وأركانه.
_________
(1) بداية المجتهد: 166/ 2، المستصفى: 61/ 1، الإحكام للآمدي: 68/ 1، شرح
جمع الجوامع للمحلي: 80/ 1، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 69، الإبهاج: 44/ 1.
(2) مرآة الأصول: 289/ 2، كشف الأسرار: ص 258، رد المحتار لابن عابدين:
104/ 4.
(4/3088)
وإذا كان النهي بسبب أمر مجاور للعقد غير
ملازم له وليس شرطاً فيه، كان مقتضاه الكراهة للإقدام عليه في هذه الحال
كالبيع وقت النداء لصلاة الجمعة.
وعلى هذا فإن غير الصحيح عند الحنفية نوعان: باطل وفاسد.
أما العقد الباطل: فهو ما اختل ركنه أو
محله، أو ما لم يشرع بأصله ولا بوصفه، كأن يكون أحد العاقدين فاقد الأهلية،
كالمجنون وغير المميز، والمميز فيما يضره ضرراً محضاً، أو أن تكون الصيغة
غير سليمة، أو يكون محل العقد غير قابل لحكم العقد شرعاً، كبيع ما ليس
بمال، أو ما ليس مالاً متقوماً كالخمر والخنزير والسمك في الماء، وكبيع شيء
من الأموال العامة كجزء من الطريق أو من مشفى أو مسجد، وكالبيع الذي جعل
الثمن فيه غير مال أصلاً كالميتة (1)، أو الشيء المباح. وفي الزواج كالعقد
على إحدى المحارم أو التي لم تنته عدتها من مطلقها، أو المتزوجة بزوج آخر،
فكل هذه العقود باطلة.
وحكم الباطل: أنه لا يعد منعقداً أصلاً، وإن وجدت صورته في الظاهر، فلا
يترتب عليه أي أثر شرعي، فلا يفيد نقل الملكية أصلاً، إذ لا يعد موجوداً
بحال.
وأما العقد الفاسد (2): فهو ما كان
مشروعاً بأصله دون وصفه، أي كان
_________
(1) إذا كان الفساد يرجع للمبيع فالبيع باطل كبيع الخمر والخنزير والميتة
والدم، وإن كان الفساد يرجع للثمن: فإن كان الثمن مالاً عند بعض الناس
كالخمر والخنزير فالبيع فاسد، وإن كان الثمن ليس مالاً أصلاً كالميتة والدم
فالبيع باطل.
(2) الفساد مرتبة متوسطة بين البطلان والصحة، وليس له نظير في القوانين.
أما البطلان المطلق فيقابل البطلان عند الشرعيين، وأما البطلان النسبي
فيقابل العقد الموقوف أحياناً وذلك في حال نقص الأهلية أو العقد غير اللازم
أحياناً وذلك في حالات عيوب الرضا؛ لأن الباطل بطلاناً نسبياً صحيح إلى أن
يقضي القاضي بإبطاله بناء على طلب صاحب المصلحة بإبطاله كالمدلس عليه.
ويمكن لصاحب المصلحة إجازة الباطل نسبياً.
أما الفاسد في الفقه الحنفي فهو غير صحيح ولا يترتب عليه أثر، ويجب فسخه
إما بطلب أحد العاقدين أو بواسطة القاضي بمجرد علمه، لأنه يحمي أحكام
الشريعة. ولا يملك أحد إجازة الفاسد.
(4/3089)
صادراً ممن هو أهل له، والمحل قابل لحكم
العقد شرعاً، والصيغة سليمة، ولكن صاحب ذلك وصف منهي عنه شرعاً، كبيع
المجهول جهالة فاحشة تؤدي للنزاع، مثل بيع دار من دور أو سيارة من سيارات
دون تعيين، وكإبرام صفقتين في صفقة، كبيع دار على أن يبيعه سيارته، وكبيع
مال متقوم جعل ثمنه مالاً غير متقوم كخمر مثلاً، وكبيع بقرة على أنها حامل.
وحكم الفاسد: ثبوت الملك فيه بالقبض بإذن المالك صراحة، أو دلالة كأن يقبضه
في مجلس العقد أمام البائع، دون أن يعترض عليه.
والعقد الفاسد واجب الفسخ شرعاً، إما من أحد العاقدين أو من القاضي إذا علم
بذلك، لأنه منهي عنه شرعاً. وإمكان الفسخ مشروط بشرطين:
الأول ـ بقاء المعقود عليه على ما كان قبل القبض، فلو تغير شكله بأن هلك أو
استهلك، أو كان غزلاً فنسجه، أو قمحاً فطحنه، أو دقيقاً فخبزه، امتنع
الفسخ.
والثاني ـ عدم تعلق حق الغير به، فلو تصرف به المشتري لآخر بالبيع أو
بالهبة وتم قبضه من الموهوب له، امتنع الفسخ.
العقد المكروه تحريما ً:
العقد الباطل منهي عنه لأمر أساسي فيه، والفاسد منهي عنه لوصف ملازم له،
فإن كان النهي لوصف غير لازم، أي مجاور للمنهي عنه، فهو مكروه كراهة
تحريمية عند الحنفية، وحرام موجب للإثم والمعصية عند جمهور الفقهاء.
ومن أهم هذه العقود المكروهة (1) أو المحرمة لما فيها من الضررأو الغرر مع
أنها
_________
(1) المكروه تحريماً عند الحنفية: ما ثبت بدليل ظني فيه شبهة. وهو إلى
الحرام أقرب.
(4/3090)
صحيحة ما يأتي (1):
1 - بيع النَّجْش: وهو أن يزيد الرجل في السلعة، وليس له حاجة بها، إلا
ليغلي ثمنها وينفع صاحبها. وهو عند الحنفية مكروه تحريماً، لنهي النبي صلّى
الله عليه وسلم عن النجْش وقال: لا تناجشوا (2). لكنهم قالوا، أي الحنفية:
لا يكره النجش إلا إذا زاد المبيع عن قيمته الحقيقية، فإن لم يكن بلغ
القيمة فزاد لا يريد الشراء فجائز، ولا بأس به لأنه عون على العدالة. ويقع
البيع صحيحاً عند الجمهور مع الحرمة من غير خيار في رأي الشافعية، وللمشتري
عند غيرهم رده إذا لم يوجد مانع، كتغير المبيع وتعيبه، وقال الحنابلة
بفساده.
وأما المزايدة أو البيع بالمزاد العلني: وهو أن ينادي على السلعة، ويزيد
الناس فيها بعضهم على بعض حتى تقف على آخر زائد فيها فيأخذها، فهو بيع صحيح
جائز لا ضرر فيه.
2 - تلقي الركبان أو الجلب: وهو مبادرة
بعض أهل المدينة أو البلد لتلقي الآتين إليها، فيشتري منهم ما معهم، ثم
يبيع كما يرى لأهل البلد. وهذا حرام عند الشافعية، ومكروه تحريماً عند
الحنفية إن أضر بالأهالي، وإلا فلا يكره إذا لم يلبّس السعر على الواردين
لأنه إن فعل هذا كان فيه تغرير بهم. وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن
_________
(1) انظر أحكام هذه البيوع في المذاهب: عند الحنفية: فتح القدير: 239/ 5
ومابعدها، تبيين الحقائق: 67/ 4 ومابعدها، الدر المختار: 139/ 4، وعند
المالكية: بداية المجتهد: 164/ 2 - 166، 168، القوانين الفقهية: ص 259،
264، الشرح الكبير للدردير: 67/ 3 - 70، وعند الشافعية: نهاية المحتاج: 74/
2، مغني المحتاج: 36/ 2 ومابعدها، تحفة الطلاب للأنصاري: ص 142، الباجوري
على ابن قاسم: 353/ 1، وعند الحنابلة: غاية المنتهى: 17/ 2، 33، المغني:
212/ 4 - 218.
(2) أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه
وسلم عن النَّجْش» وأخرجا أيضاً عن أبي هريرة قال: «نهى رسول الله صلّى
الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد، ولا تناجشوا» (سبل السلام: 18/ 3، 22).
(4/3091)
تلقي البيوع أو أن يتلقى الجلب (1). وسبب
النهي الإضرار بصاحب السلعة (البادي) لشراء الشيء بأقل من سعره الغالب،
والإضرار بأهل البلد أيضاً. والبيع صحيح عند الأئمة، لأن النهي لأمر خارج
عن البيع، لكن يثبت فيه عند الحنابلة والشافعية خيار الغبن، عملاً بحديث
البخاري.
3 - بيع الحاضر للبادي: وهو ألا يبيع
الواحد من أهل البلد (الحاضر) ما عنده من طعام ونحوه إلا لأهل البادية،
طمعاً في زيادة الثمن، أو أن يتخصص شخص ببيع بضاعة الغريب على التدريج مع
حاجة أهل البلد، بسعر أغلى، مع أن الغريب كان يريد البيع بسعر اليوم.
وكراهة هذه البيوع إذا كانت تضر بأهل البلد، وإلا فلا ضرر، وقد نهى النبي
صلّى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد (2). وقد أجاز المالكية فسخ هذا
البيع، كالنجش. وهو حرام عند الشافعية. وسبب النهي عنه: الإضرار بأهل السوق
لبيع السلعة بأكثر من ثمن المثل، أو من طريق السمسرة، ويفسخ عند المالكية
إن لم يفت بتغير أو تعيب أو تصرف، وهو صحيح عند الأئمة الثلاثة؛ لأن النهي
لأمر خارج عن البيع، وهو الرفق بأهل الحضر.
4 - البيع وقت النداء لصلاة الجمعة: عند
الجمهور من حين صعود الإمام على المنبر إلى أن تنقضي الصلاة، وعند الحنفية:
من الأذان الأول. وهذا البيع صحيح مكروه تحريماً عند الحنفية، وصحيح حرام
عند الشافعية؛ لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم
الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله، وذروا
_________
(1) أخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس حديث «لا تلقوا الركبان، ولا يبع حاضر
لباد» (سبل السلام: 20/ 3). وحديث البخاري: «لا تلقوا السلع حتى يهبط بها
إلى السوق، فمن تلقاها فصاحب السلعة بالخيار».
(2) رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر، وروى الجماعة إلا البخاري عن جابر أن
النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يبيع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله
بعضهم من بعض» (نيل الأوطار:164/ 5).
(4/3092)
البيع} [الجمعة:9/ 36] ويلحق بالبيع سائر
العقود والصناعات كلها لما فيها من شغل عن السعي إلى الجمعة. والنهي عنها
لأمر خارج عن حقيقة العقد.
وعد المالكية (1) هذا البيع من البيوع الفاسدة، وقالوا: إنه يفسخ على
المشهور وقال عنه الحنابلة: لا يصح هذا البيع (2).
أنواع العقد الصحيح:
ينقسم العقد الصحيح عند الحنفية والمالكية إلى نافذ وموقوف:
النافذ: هو ما صدر ممن له أهلية وولاية
على إصداره، كأغلب عقود الناس مثل العقد الصادر من الرشيد في ماله، أو
الولي أو الوصي للقاصر، أو الوكيل لموكله. وحكمه: أنه تترتب عليه آثاره فور
صدوره، من غير توقف على إجازة أحد.
والموقوف: هو ما صدر من شخص له أهلية
التعاقد، من غير أن يكون له ولاية إصداره. كعقد الفضولي، وعقد الصغير
المميز فيما يتردد بين الضرر والنفع، وحكمه: أنه لا تترتب عليه آثاره إلا
إذا أجازه صاحب الشأن الذي يملك إصداره، فإن لم يجزه بطل العقد.
وهذا العقد عند الشافعية والحنابلة باطل.
أنواع العقد النافذ:
ينقسم العقد النافذ إلى لازم وغير لازم:
_________
(1) تبصرة الحكام لابن فرحون بهامش فتح العلي: 378/ 2.
(2) كشاف القناع: 169/ 3 ومابعدها.
(4/3093)
اللازم: هو ما ليس لأحد عاقديه فسخه دون
رضا الآخر، كالبيع والإجارة.
والأصل في العقود اللزوم؛ لأن الوفاء بالعقود واجب شرعاً لقوله تعالى: {يا
أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1/ 5].
وتثبت صفة اللزوم عند الحنفية والمالكية بمجرد صدور العقد من العاقدين.
وعند الشافعية والحنابلة: لا يلزم العقد إلا بتفرق العاقدين بأبدانهما، أو
إذا تخايرا، فاختارا لزومه، عملاً بحديث خيار المجلس: «البيعان بالخيار ما
لم يتفرقا، أو يقول أحدهما للآخر: اختر».
وغير اللازم أو الجائز كما يسميه بعض
الفقهاء: هو ما يملك كل من طرفيه أو أحدهما فقط فسخه دون رضا الآخر، إما
عملاً بطبيعة العقد نفسه كالوكالة والإعارة والإيداع، أو لمصلحة العاقد
كالعقد المشتمل على الخيار.
والعقود بالنسبة إلى اللزوم وقابلية الفسخ وعدمه أربعة أنواع.
1 ً ـ عقود لازمة لا تقبل الفسخ: كالزواج لايقبل الفسخ ولو باتفاق العاقدين
بطريق الإقالة أي لا يقبل الإلغاء الاتفاقي. وإنما يقبل الإنهاء بطرق شرعية
كالطلاق والخلع (1) والتفريق القضائي لعدم الإنفاق أو للعيب أو للضرر وسوء
العشرة أو للغيبة أو للحبس والاعتقال ونحو ذلك.
وكل ما لا يقبل الفسخ لا يثبت فيه خيار؛ لأن الخيار يعطي حق الفسخ لصاحبه.
_________
(1) الطلاق ليس فسخاً للزواج، بل إنهاء له بوضع حد لحكمه وآثاره. والخلع:
هو إنهاء الزواج لقاء مال تدفعه الزوجة لزوجها. والطلاق أو الخلع أو
التفريق ليست إلغاء للعقد، وإنما هي إنهاء بدليل بقاء حرمة المصاهرة وثبوت
النسب بعد الإنهاء، فأم الزوجة مثلاً تبقى محرَّمة على زوج ابنتها أبداً
ولو طلق البنت.
(4/3094)
2 ً ـ عقود لازمة تقبل الفسخ: أي تقبل
الإلغاء بطريق الإقالة أي باتفاق العاقدين. وهي عقود المعاوضات المالية
كالبيع والإيجار والصلح والمزارعة والمساقاة ونحوها. وهذه العقود تقبل
الفسخ بالخيار أيضاً.
3 ً ـ عقود لازمة لأحد الطرفين: كالرهن والكفالة: فإنهما لازمان بالنسبة
إلى الراهن والكفيل، وغير لازمين بالنسبة للدائن المرتهن، والمكفول له؛ لأن
العقد لمصلحتهما الشخصية توثيقاً للحق، فلهما التنازل عنه.
4 ً ـ عقود غير لازمة للطرفين: وهي التي يملك كل من العاقدين فيها حق الفسخ
والرجوع، كالإيداع والإعارة والوكالة والشركة والمضاربة والوصية والهبة،
فالعقود الخمسة الأولى يجوز لكل من العاقدين فسخ العقد متى شاء. والوصية
والهبة يصح للموصي والواهب الرجوع عنها، كما يصح للموصى له والموهوب له
ردها وإبطالها بعد وفاة الموصي، وفي حال حياة الواهب.
التقسيم الثاني ـ بالنظر إلى التسمية وعدمها:
تقسم العقود إلى مسماة وغير مسماة:
أما العقود المسماة: فهي ما وضع الشرع
لها اسماً خاصاً بها، وبيَّن أحكامها المترتبه عليها، كالبيع والإجارة
والشركة والهبة، والكفالة والحوالة والوكالة والرهن، والقرض والصلح،
والزواج والوصية ونحوها.
وأما العقود غير المسماة: فهي التي لم
يوضع لها اسم خاص في الشرع، ولم يرتب التشريع أحكاماً خاصة بها، وإنما
استحدثها الناس تبعاً لحاجة. وهي كثيرة لا تنحصر، لأنها تنشأ بحسب تجدد
حاجات الناس وتطور المجتمعات وتشابك المصالح، مثل عقد
الاستصناع، وبيع
الوفاء، وبيع الاستجرار، والتحكير،
وأنواع
(4/3095)
المقاولات، أي التعهدات والالتزامات
الحديثة، وأنواع الشركات التي تمنح امتيازات للتنقيب عن النفط والمعادن،
وعقود النشر والإعلان في الصحف والمجلات ونحوها.
أما الاستصناع: فهو التعاقد على صنع شيء معين (1) كالأحذية والآنية
والسيارات والبواخر، والمفروشات ونحوها. وقد تردد بين اعتبار كونه بيعاً أو
إجارة أو وعداً، ثم استقر على تسمية خاصة به.
وأما بيع الوفاء: فهو أن يبيع المحتاج إلى النقود عقاراً على أنه متى وفى
الثمن استرد العقار (2). تردد بين كونه بيعاً أو رهناً، ثم استقر على هذا
الاسم الخاص به.
وبيع الاستجرار: هو ما يستجره الإنسان من البياع، ثم يحاسبه على أثمانها
بعد استهلاكها (3). تردد بين كونه بيعاً أو ضمان متلفات بإذن مالكها عرفاً،
واستقر على هذا الاسم تسهيلاً لأمر الناس ودفعاً للحرج.
والتحكير: هو الاتفاق على الانتفاع بأرض الوقف بالبناء والغرس لقاء أجرة
معجلة تقارب قيمة الأرض، وأجرة سنوية ضئيلة، حددت في قانون الملكية العقاري
السوري (باثنين ونصف في الألف) من قيمة الأرض المقدرة رسمياً لجباية
الضرائب العقارية (4).
وقد عرفنا في بحث حرية التعاقد: أن الرأي الغالب أو الراجح فقهاً هو جواز
_________
(1) البدائع: 2/ 5، فتح القدير: 354/ 5، الفتاوى الهندية: 504/ 4.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 257/ 4، وانظر المجلة في المواد (396 -
403).
(3) الدر المختار: 13/ 4.
(4) رد المحتار: 428/ 3، المدخل إلى نظرية الالتزام في الفقه للأستاذ
الزرقاء: ص40، المدخل الفقهي للزرقاء. حاشية ف 295.
(4/3096)
إحداث عقود جديدة لا تخالف نصوص الشريعة
ومبادئها وقواعدها العامة، كما يقول الحنابلة وبخاصة ابن تيمية وابن القيم.
أو من طريق القياس والاستحسان والعرف والمصالح المرسلة وغيرها من أدلة
التشريع كما يقول الحنفية والمالكية والشافعية.
التقسيم الثالث ـ بالنظر إلى غاية العقد
وأغراضه:
تنقسم العقود بحسب أغراضها وغاياتها إلى مجموعات سبع، فقد تكون غاية العقد
هي تمليك شيء، أو الاستيثاق، أو الحفظ، أو التفويض ونحو ذلك.
1 - التمليكات: وهي ما يقصد بها تمليك
شيء، عين أو منفعة، فإن كان التمليك بعوض فهي عقود المعاوضات كالبيع
والإجارة، والصرف والصلح، والقسمة، والاستصناع، والمزارعة والمساقاة،
والزواج، ونحوها مما فيه معاوضة ومبادلة بين طرفين.
وإن كان التمليك مجاناً بغير عوض فهي عقود التبرعات، كالهبة والصدقة والوقف
والإعارة وحوالة الدين.
وقد يكون التبرع في ابتداء العقد كالقرض والكفالة بأمر المدين، والهبة بشرط
العوض، ثم يلزم الطرف الآخر بدفع البدل، فهي تبرع ابتداءً، معاوضةٌ
انتهاءً.
2 - الإسقاطات: وهي ما يقصد بها إسقاط
حق من الحقوق، سواء ببدل، أم بدون بدل.
فإن كان الإسقاط بدون بدل من الطرف الآخر فهو الإسقاط المحض، كالطلاق
المجرد عن المال، والعفو عن القصاص، والإبراء عن الدين، والتنازل عن حق
الشفعة.
(4/3097)
وإن كان الإسقاط ببدل أو عوض من الطرف
الآخر، فهو إسقاط المعاوضة، كالطلاق على مال، والعفو عن القصاص بالدية.
3 - الإطلاقات: وهي إطلاق الشخص يد غيره
في العمل، كالوكالة وتولية الولاة والقضاء، والإذن للمحجور عليه بالتصرف أو
للصغير المميز بالتجارة، والإيصاء: وهو أن يعهد شخص لآخر في أن يتولى شؤون
أولاده القصر بعد وفاته.
4 - التقييدات: وهي منع الشخص من
التصرف، كعزل الولاة والقضاة، ونظار الوقف، والأوصياء، والقوام على المحجور
عليهم، والوكلاء، وحجر الشخص عن التصرف بسبب الجنون أو العته أو السفه أو
الصغر.
5 - التوثيقات: (أو التأمينات أوعقود
الضمان): وهي التي يقصد بها ضمان الديون لأصحابها وتأمين الدائن على دينه،
وهي الكفالة والحوالة والرهن.
6 - الاشتراك: وهي التي يقصد بها
المشاركة في العمل والربح، كعقود الشركات بأنواعها، ومنها المضاربة: وهي أن
يدفع شخص لآخر مبلغاً من المال ليتجر فيه على أن يشتركا في الربح، والخسارة
على رب العمل. ومنها المزارعة (تعهد الأرض بالعناية) والمساقاة (تعهد
الأشجار بالسقي ونحوه).
7 - الحفظ: وهي التي يراد منها حفظ
المال لصاحبه، كعقد الإيداع، وبعض خصائص الوكالة.
التقسيم الرابع ـ بالنظر إلى العينية وعدمها:
تنقسم العقود إلى عينية وغير عينية.
(4/3098)
ف العقد العيني:
هو الذي لا بد فيه لتمام انعقاده وترتيب أثره من تسليم الشيء المعقود عليه
عيناً. وهو يشمل عقوداً خمسة: هي الهبة والإعارة والإيداع والرهن والقرض
(1). فهذه العقود لا بد لتمامها وترتب أثرها عليها من قبض المعقود عليه؛
لأن هذه العقود ما عدا الرهن من التبرعات، والتبرع إحسان، فلا بد له من شيء
يؤكده، وهو القبض. وأما الرهن أي الرهن الحيازي فإنه شرع موصوفاً بالقبض في
قوله تعالى: {فرهان مقبوضة} [البقرة:283/ 2] والقبض عند الحنفية: يتم
بالتخلية أي بأن يخلي المالك بين المعقود عليه والطرف الآخر، برفع الحائل
بينهما، على وجه يتمكن الآخر من الحيازة والتصرف في الشيء (2).
والعقد غير العيني: هو الذي يتم بمجرد
الصيغة السليمة من العيوب ويترتب عليه أثره بدون حاجة إلى القبض. وهذا يشمل
جميع العقود ماعدا العقود الخمسة السابقة.
التقسيم الخامس ـ باعتبار اتصال الأثر بالعقد
وعدم اتصاله:
ينقسم العقد بحسب ترتب أثره عليه بمجرد انعقاده وعدم ترتب أثره في الحال
إلى أنواع ثلاثة: هي منجز، ومضاف، ومعلق.
_________
(1) يشترط منعاً من الوقوع في الربا والاستغلال قبض كل من العوضين في مجلس
العقد في مبادلة الأموال الربوية ببعضها (وهي عند الحنفية كل ما يباع كيلاً
أو وزناً) كبيع النقود ببعضها وهو عقد الصرف، وكبيع الحنطة بالحنطة أو
الحنطة بالشعير. ويشترط أيضاً قبض الثمن (رأس مال السلم) في عقد السلم: وهو
بيع آجل بعاجل كبيع المنتجات الزراعية قبل حصادها في الموسم، وذلك في مجلس
العقد ذاته.
(2) البدائع: 244/ 5. وقال المالكية والشافعية: قبض العقار كالأرض والدور
يتم بالتخلية، وقبض المنقول كالأمتعة والدواب يتم بحسب العرف الجاري بين
الناس (الشرح الكبير للدردير: 145/ 3، المجموع:301/ 9 - 309، المهذب: 263/
1) وقال الحنابلة: قبض كل شيء بحسبه، ويرجع فيه إلى العرف (المغني: 111/ 4
ومابعدها).
(4/3099)
1 - العقد المنجز:
وهو ما صدر بصيغة غير معلقة على شرط ولا مضافة إلى المستقبل. وحكمه: ترتب
الآثار عليه في الحال ما دام مستوفياً لأركانه وشروطه المطلوبة فيه. مثل:
بعتك هذه الأرض بكذا، وقبل الآخر. يترتب على هذا البيع تحقق أثره عليه في
الحال: وهو انتقال الملكية في العوضين.
والأصل في العقود التنجيز في الحال أي أن آثارها تترتب عليها فور إنشائها
ما عدا الوصية والإيصاء، فلا يمكن بطبيعتهما أن يكون ناجزين، لإضافتهما
حتماً لما بعد وفاة الموصي. أما الوصية: فهي تمليك مضاف لما بعد الموت
بالتبرع بشيء لجهة أو شخص ما. وأما الإيصاء: فهو إقامة وصي على أبنائه
القاصرين بعد وفاة الولي.
2 - العقد المضاف للمستقبل: ما صدر
بصيغة أضيف فيها الإيجاب إلى زمن مستقبل. مثل: آجرتك داري لسنة من مطلع
الشهر القادم. أنتِ طالق غداً أو بعد أسبوع.
وحكمه: أنه ينعقد في الحال، ولكن أثره لا يوجد إلا في الوقت المحدد الذي
أضيف إليه.
العقود بالنسبة للإضافة:
العقود عند الحنفية بالنسبة لقبولها الإضافة أو عدم قبولها ثلاثة أنواع:
الأول ـ عقود لا تكون إلا مضافة بطبيعتها:
وهي الوصية والإيصاء كما تقدم، سواء أكانت منجزة مثل: أوصيت بكذا للفقراء
أو لمسجد البلدة، أم معلقة مثل: إن نجحت في المشروع الفلاني فقد أوصيت
بمبلغ كذا للمشفى الفلاني. فإذا تحقق النجاح، لم يثبت حكم الوصية إلا بعد
الوفاة.
(4/3100)
الثاني ـ عقود لا تقبل الإضافة، وإنما تكون
دائماً ناجزة: وهي عقود تمليكات الأعيان، كالبيع والهبة والصلح على مال
والإبراء عن الدين. ويلحق بها الزواج والشركة والقسمة والرجعة؛ لأنها تتطلب
شرعاً ثبوت آثارها في الحال، فإذا أضيفت للمستقبل تأخرت آثارها عنها، وذلك
ينافي أصل وضعها الشرعي. فالبيع يوجب نقل الملكية في الحال، والزواج يفيد
حل الاستمتاع حالاً، فلا يصح تأخير الأثر عنهما.
الثالث ـ عقود تصح منجزة ومضافة للمستقبل:
فإذا كانت منجزة ترتب عليها أثرها في الحال،، وإن كانت مضافة تأخر أثرها
إلى زمن الإضافة، وهي (1):
أولاً ـ العقود الواردة على المنافع: كالإجارة والإعارة والمزارعة
والمساقاة.
ثانياً ـ الالتزامات أو التوثيقات: كالكفالة والحوالة.
ثالثاً ـ الإطلاقات: كالوكالة والقضاء والوظائف والإدارات والإذن بالتجارة.
رابعاً ـ الإسقاطات: كالطلاق والخلع من جانب الزوج، والوقف.
3 - العقد المعلق على شرط: هو ما صدر
معلقاً وجوده على أمر آخر بأحد أدوات الشرط. مثل: إن سافرت فأنت وكيلي. إذا
قدم فلان من الحجاز فقد بعتك الشيء الفلاني.
ويختلف المعلق على شرط عن المضاف للمستقبل في أن العقد المعلق لا ينعقد إلا
حين وجود الشرط المعلق عليه. أما المضاف للمستقبل فهو منعقد في الحال، ولكن
آثاره لا يسري مفعولها إلا في المستقبل المضاف إليه.
_________
(1) تبيين الحقائق: 134/ 4.
(4/3101)
العقود بالنسبة
للتعليق عند الحنفية:
تنقسم العقود من هذه الناحية إلى ثلاثة أنواع هي (1):
النوع الأول ـ عقود لا تقبل التعليق
وهي:
أولاً ـ التمليكات المالية ما عدا الوصية، سواء أكانت واردة على الأعيان
كالبيع والإبراء، أم على المنافع كالإجارة والإعارة، بطريق المعاوضة أم
بطريق التبرع كالهبة؛ لا يصح تعليقها على شرط متردد بين الوجود والعدم؛ لأن
الملكية لا بد أن تكون مستقرة جازمة لا تردد فيها، وإلا شابهت القمار.
ثانياً ـ المبادلات غير المالية: كالزواج والخلع لا يصح تعليقهما على شرط،
مثل: تزوجتك إن نجحت في شهادة كذا، وخالعتك إن رضي أخي؛ لأنه لا بد من تحقق
أثرها في الحال.
ثالثاً ـ التقييدات كالرجعة وعزل الوكيل والحجر على الصبي المأذون له في
التجارة.
رابعاً ـ الرهن والإقالة (فسخ العقد بالتراضي): لا يصح تعليقهما، مثل:
رهنتك هذه الدار إن رضي والدي. أقلتك من البيع إن وجدت مشترياً بثمن أعلى.
وقد عرفنا سابقاً في بحث حرية الاشتراط أن ابن تيمية وابن القيم من
الحنابلة قالا: يصح تعليق العقود والفسوخ والتبرعات والالتزامات بالشروط
ولا يمنع منها إلا ما ورد بالنهي عنه نص من الشارع.
_________
(1) المرجع السابق، الدر المختار: 277/ 4، فتح القدير: 404/ 5.
(4/3102)
النوع الثاني ـ عقود
يصح فيها التعليق بأي شرط ملائم أم غير ملائم وهي:
أولاً ـ الإسقاطات المحضة: كالطلاق والتنازل عن حق الشفعة.
ثانياً ـ الوكالة والوصية والإيصاء.
ثالثاً ـ الالتزامات التي يراد منها تقوية إرادة الملتزم، كالنذر واليمين،
مثل: إن نجحت في الامتحان فلله علي صوم أسبوع ولأتصدقن بمبلغ كذا. ووالله
لأفعلن كذا إن انتصرنا على العدو.
النوع الثالث ـ عقود يصح تعليقها بالشرط
الملائم دون سواه. وهي الكفالة والحوالة والإذن للصبي بالتجارة.
والشرط الملائم: هو ماكان مناسباً لمقتضى العقد، عرفاً أو شرعاً، بأن يكون
أساساً لوجوده، أو سبباً لثبوت الحق، مثل: إن أقرضت فلاناً فأنا كفيله، إن
لم أدفع دينك بعد شهر فقد أحلتك به على فلان، إن أحسنت التجارة فقد أذنت لك
بها.
أما غير الملائم فمثل: إن نزل المطر فقد كفلت فلاناً، أو أحلتك بدينك على
فلان، أو أذنت لك بالتجارة، وإن نجح ابني في شهادة كذا فقد كفلتك. فمثل هذه
الشروط غير المفيدة أو التي لا يظهر فيها غرض صحيح تعد نوعاً من العبث أو
الهزل واللهو، ولا تصح العقود مع الهزل.
المبحث السادس ـ الخيارات
عرفنا في المبحث السابق أن العقد اللازم: هو الخالي من أحد الخيارات التي
تسوغ لأحد العاقدين فسخه وإبطاله.
(4/3103)
ومعنى الخيار:
أن يكون للمتعاقد الحق في إمضاء العقد أو فسخه، إن كان الخيار خيار شرط أو
رؤية أو عيب. أو أن يختار أحد المبيعين إن كان الخيار خيار تعيين.
والخيارات سبعة عشر، سأجمل هنا الكلام عن ستة منها فقط، هي خيار المجلس،
وخيار التعيين، وخيار الشرط، وخيار العيب، وخيار الرؤية. وقد شرعت الخيارات
إما ضماناً لرضا العاقدين أو حفظاً لمصلحتهما، أو دفعاً للضرر الذي قد يلحق
أحد العاقدين، فهي مشروعة للضرورة أو للحاجة إليها.
ومصدر الخيارات: إما اتفاق العاقدين
كخيار الشرط وخيار التعيين. وإما حكم الشرع، كخيار العيب وخيار الرؤثة. وقد
يعتبر خيار العيب ثابتاً باشتراط المتعاقد ضمناً لا صراحة.
خيار المجلس عند الشافعية والحنابلة:
خيار المجلس: هو أن يكون لكل من العاقدين حق فسخ العقد ما داما في مجلس
العقد، لم يتفرقا بأبدانهما، أو يخير أحدهما الآخر فيختار لزوم العقد.
ومعنى هذا أن العقد لا يلزم إلا بإنهاء مجلس العقد بالتفرق أو بالتخيير.
وليس ذلك في كل العقود وإنما في العقود اللازمة من الجانبين فقط القابلة
للفسخ وهي عقود المعاوضات المالية كالبيع بأنواعه وصلح المعاوضة والإجارة؛
لأن الدليل المثبت له وهو الحديث ورد في البيع، فيقاس عليه ما في معناه من
عقود المعاوضات (1).
وقد انقسم الفقهاء في شأنه فريقين:
_________
(1) المجموع للنووي: 186/ 9 ومابعدها، ط العاصمة.
(4/3104)
1 - فقال الحنفية والمالكية (1): يلزم
العقد بالإيجاب والقبول، ولا يثبت فيه خيار المجلس؛ لأن الله أمر بالوفاء
بالعقود في قوله تعالى: {أوفوا بالعقود} [المائدة:1/ 5] والخيار مناف لذلك،
فإن الراجع عن العقد لم يف به، ولأن العقد يتم بمجرد التراضي، بدليل قوله
تعالى: {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29/ 4] والتراضي يحصل
بمجرد صدور الإيجاب والقبول، فيتحقق الالتزام من غير انتظار لآخر المجلس.
ولم يأخذوا بالأحاديث الواردة في إثبات خيار المجلس لمنافاتها لعموم الآيات
القرآنية المذكورة. وتأول الحنفية حديث خيار المجلس «البيعان بالخيار ما لم
يتفرقا» بأنه وارد في مرحلة ما قبل تمام العقد. فالبيعان: معناه المتساومان
قبل العقد، إن شاءا عقدا البيع، وإن شاءا لم يعقداه، والمراد بالتفرق: هو
التفرق بالأقوال لا بالأبدان، أي أن للموجب أن يرجع عن إيجابه قبل قبول
الآخر، وللآخر الخيار، إن شاء قبل في المجلس، وإن شاء رد، وهذا هو خيار
القبول أو الرجوع.
ولكن يلاحظ أن هذا التأويل لا معنى له؛ لأن كل عاقد قبل إبرام العقد حر في
القبول وعدمه، ويجعل (أي هذا التأويل) الحديث عديم الفائدة، فلا حاجة
للمشرع لإثبات مبدأ حرية الإنسان فيما يلتزم، فهو أصل عام، والأصل في كل
إنسان عدم الالتزام. فإذا لم يقبل الذي وجه له الإيجاب لا يسمى ذلك تفرقاً
وإنما اختلافاً.
وحديث خيار المجلس لا يعارض آية الأمر بالوفاء بالعقود؛ لأن المراد
_________
(1) البدائع: 134/ 5، فتح القدير: 78/ 5، بداية المجتهد: 169/ 2 ومابعدها،
الشرح الكبير مع الدسوقي: 81/ 3، القوانين الفقهية: ص274، المنتقى على
الموطأ: 55/ 5.
(4/3105)
بالعقود هي الكاملة اللازمة التي لا خيار
فيها، ولا يعارض أيضاً آية {تجارة عن تراض} [النساء:29/ 4]؛ لأن هذا الخيار
مشروع للتأكد من تمام التراضي.
2 - وقال الشافعية والحنابلة المثبتون لخيار المجلس (1): إذا انعقد العقد
بتلاقي الإيجاب والقبول يقع العقد جائزاً أي غير لازم، ما دام المتعاقدان
في مجلس العقد. ويكون لكل من العاقدين الخيار في فسخ العقد أو إمضائه، ما
داما مجتمعين في المجلس لم يتفرقا بأبدانهما، أو يتخايرا. ويحد طبيعة
التفرق: العرف الشائع بين الناس في التعامل (2)، وهذا هو خيار المجلس.
واستدلوا على مشروعيته بالحديث الصحيح الثابت برواية البخاري ومسلم وهو أنه
صلّى الله عليه وسلم قال: «البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو يقول أحدهما
للآخر: اختر» (3) أي اختر اللزوم. وأما التفرق فهو أن يتفرقا بأبدانهما،
فلو أقاما في ذلك المجلس مدة متطاولة كسنة أو أكثر، أو قاما وتماشيا مسافة،
فهما على خيارهما، كما قال النووي. والرجوع في التفرق إلى العادة، فما عده
الناس تفرقا فهو تفرق ملزم للعقد، وما لا فلا (4).
_________
(1) مغني المحتاج: 43/ 2، 45، المهذب: 257/ 1، المغني: 563/ 3، المجموع:
196/ 9، ط العاصمة.
(2) قال الحنابلة والشافعية: يكون التفرق إما بالمشي أو بالصعود أو
بالنزول، أو بالخروج من المكان (غاية المنتهى: 30/ 2، المجموع للنووي: 192/
9).
(3) سبل السلام: 3/ 33 ومابعدها. قال ابن رشد المالكي: وهذا حديث إسناده
عند الجميع من أوثق الأسانيد وأصحها. وأثبت ابن حزم في المحلى تواتره أي
رواية جمع غفير له.
(4) أخذ على هذا الرأي كونه يزعزع من قوة العقد الملزمة، وهو مبدأ خطير من
أهم المبادئ القانونية (مصادر الحق للسنهوري: 37/ 2).
(4/3106)
خيار التعيين:
خيار التعيين (1): هو أن يكون للعاقد حق
تعيين أحد الأشياء الثلاثة المختلفة في الثمن والصفة التي ذكرت في العقد.
فإذا عين الواحد صار محل العقد معلوماً بعد أن كان مجهولاً بعض الجهالة.
وهو لا يثبت إلا في عقود المعاوضات المالية التي تفيد نقل ملكية الأعيان
كالبيع، والهبة بعوض، والقسمة ونحوها.
ولا يثبت هذا الخيار إلا للمشتري فقط، على الرأي الراجح عند الحنفية.
وقد اختلف الفقهاء في مشروعيته، فمنعه الشافعي وأحمد وزفر من الحنفية
لجهالة المبيع، والمبيع يشترط أن يكون معلوماً.
وأجازه أبو حنيفة وصاحباه استحساناً لحاجة الناس إليه، إذ قد يكون الشخص
غير خبير بأحوال المشتريات، فيحتاج إلى استشارة غيره ليأخذ الأرفق والأوفق
له. وقد يحتاج الشخص إلى توكيل غيره بالشراء ويرغب في رؤية الشيء المشترى،
ولا يوافق التاجر على إخراج البضاعة من محله إلا بشراء واحد من اثنين أو
ثلاثة (2). وهذا معنى معقول وواقعي، محقق لمصلحة التاجر لكي تصبح البضاعة
المقبوضة مضمونة لا مجرد أمانة، ونافع للمشتري لتحقيق رغبته وميوله، وليس
في جهالة المبيع خطورة، لأنها لا تفضي إلى النزاع، لتعيين ثمن كل صنف على
حدة.
_________
(1) راجع أحكام خيار التعيين في المواد
(316 - 329) من المجلة.
(2) تبيين الحقائق للزيلعي: 21/ 4، البدائع: 261/ 5.
(4/3107)
شروطه:
اشترط الحنفية القائلون بخيار التعيين شروطاً ثلاثة لصحته وهي (1):
1 - أن يكون الخيار بين ثلاثة أشياء على الأكثر؛ لأن أصناف الأشياء تتراوح
عادة بين الجيد والوسط والرديء، فما زاد عن الثلاثة لا يصح فيه الخيار،
لعدم الحاجة إليه.
2 - أن تكون الأشياء متفاوتة القيمة أو الوصف، وثمن كل منها محدد معين، فإن
كانت الأشياء متحدة القيمة أو الوصف فلا معنى للخيار بينها. وإذا كان الثمن
غير محدد لكل منها، كان مجهولاً، وجهالة الثمن تفسد البيع.
3 - أن تكون مدة الخيار معلومة، لا تزيد عن ثلاثة أيام عند أبي حنيفة كخيار
الشرط، فإن زادت على ذلك فسد العقد.
وقال الصاحبان: يكفي أن تكون المدة معلومة، وإن زادت عن ثلاثة أيام.
أثر خيار التعيين:
إذا اقتصر المشتري على ذكر خيار التعيين بدون خيار الشرط، كان العقد لازماً
تثبت به ملكية أحد الأشياء، وينحصر دور المشتري في اختيار أحد الأشياء التي
اشتراها. وإن مات المشتري ورثه ورثته في ممارسة حق الاختيار.
فإن انضم إلى خيار التعيين خيار الشرط كان العقد غير لازم، ولا يورث حق
الخيار حينئذ، ويحق للمشتري رد العقد بكامله (2).
_________
(1) الزيلعي: 21/ 4، البدائع: 261/ 5، فتح القدير: 130/ 5 ومابعدها.
(2) البدائع: 261/ 5، 268، فتح القدير: المكان السابق، و133.
(4/3108)
انتهاء خيار التعيين:
ينتهي خيار التعيين إما صراحة أو دلالة أو حكماً، كأن يقول: قبلت هذا الشيء
دون غيره، أو تصرف في أحد الأشياء تصرفاً يدل على أنه اختاره. أو هلك أحد
الأشياء في يد المشتري بعد القبض، فيتعين الهالك مبيعاً، وعليه ثمنه،
والآخر يكون أمانة في يده يجب رده إلى صاحبه (1).
خيار الشرط
خيار الشرط (2): هو أن يكون لأحد العاقدين أو لكليها أو لغيرهما
الحق في فسخ العقد أو إمضائه خلال مدة معلومة، كأن يقول المشتري للبائع:
اشتريت منك هذا الشيء على أني بالخيار مدة يوم أو ثلاثة أيام.
وشرع للحاجة إليه لدفع الغبن عن العاقد في العقود.
ويثبت فقط في العقود اللازمة القابلة للفسخ بتراضي الطرفين، ولو كان لزومها
من جانب واحد، وذلك كالبيع والإجارة، والمزارعة والمساقاة، والشركة ومنها
المضاربة، والقسمة، والكفالة والحوالة، والرهن إذا اشترطه الراهن للزوم
العقد من جانبه، ولا حاجة للمرتهن لاشتراطه؛ لأن العقد بالنسبة إليه غير
لازم.
أما العقود غير اللازمة كالوكالة والإعارة والإيداع والهبة والوصية فلا
حاجة فيها لاشتراط الخيار، لأنها بطبيعتها غير لازمة.
وأما العقود اللازمة التي لا تقبل الفسخ كالزواج والخلع والطلاق فلا يصح
اشتراط الخيار فيها، لأنه يتعذر فسخها.
_________
(1) البدائع: 261/ 5 ومابعدها، فتح القدير: 132/ 5.
(2) راجع أحكام خيار الشرط في المواد (300 - 309) من مجلة الأحكام العدلية.
(4/3109)
كذلك لا يصح اشتراط الخيار في عقد ي السلم
والصرف؛ لأن السلم يشترط لصحته قبض رأس مال السلم في مجلس العقد، والصرف
يشترط فيه قبض البدلين في المجلس. وخيار الشرط يقتضي تأخير القبض عن المجلس
وإذا تأخر القبض عن المجلس فسد العقد، فلا يصح اشتراط
خيار فيهما (1).
مدة الخيار: اتفق جمهور الفقهاء غير
المالكية على أن مدة الخيار المشروط ينبغي أن تكون معلومة، فإن لم تكن له
مدة، أو كانت المدة مجهولة، أو كان الخيار مؤبداً لم يصح العقد، وكان
فاسداً عند الحنفية (2)، وباطلاً عند الشافعية والحنابلة (3).
وقال الإمام مالك: يجوز الخيار المطلق بدون تحديد مدة، ويحدد الحاكم له مدة
كمدة خيار مثله في العادة؛ لأن اختيار المبيع في مثله مقدر في العادة، فإذا
أطلق الخيار حمل على المعتاد. ويفسد العقد باشتراط مدة زائدة على المعتاد
بكثير أي بعد يوم، أو بشرط مدة مجهولة كإلى أن تمطر السماء (4).
ثم اختلف الفقهاء في مقدار مدة الخيار على ثلاثة أقوال:
1 - فقال أبو حنيفة وزفر والشافعي (5): إنها لا تزيد على ثلاثة أيام، عملاً
بمقتضى الحديث الذي ثبتت به مشروعية هذا الخيار، وهو حديث حَبَّان بن
مُنْقِذ الذي كان يغبن في البيع والشراء، فشكا أهله إلى رسول الله صلّى
الله عليه وسلم، فقال: «إذا
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار لابن عابدين: 50/ 4 ومابعدها.
(2) البدائع: 174/ 5، رد المحتار: 49/ 4.
(3) المهذب: 259/ 1، المغني: 589/ 3.
(4) بداية المجتهد: 108/ 2، الشرح الكبير: 95/ 3.
(5) المبسوط: 40/ 13 ومابعدها، البدائع: 174/ 5، فتح القدير: 110/ 5
ومابعدها، مغني المحتاج: 47/ 2، المجموع:201/ 9.
(4/3110)
بايعت فقل: لا خلابة (1)، ولي الخيار ثلاثة
أيام» فهذا الخيار شرع استثناء لدفع الغبن عن الناس، فيقتصر فيه على مورد
النص، والنص جعل المدة ثلاثة أيام، فلا يزاد عليها، ولأن الحاجة تتحقق
بالثلاث غالباً.
فلو زاد عليها فسد العقد عند أبي حنيفة وزفر، ويعود صحيحاً عند أبي حنيفة
إذا ارتفع سبب الفساد بإجازة العقد في مدة الأيام الثلاثة، وعند زفر:
الفاسد من العقود لا يعود صحيحاً بحال. ويبطل العقد عند الشافعي.
2 - وقال الصاحبان والحنابلة (2): تكون مدة الخيار بحسب اتفاق العاقدين،
ولو كانت أكثر من ثلاثة أيام؛ لأن الخيار شرع للتروي والمشورة، وقد لا تكفي
الأيام الثلاثة. والتحديد المذكور في حديث حبان كان كافياً بالنسبة له
بتقدير الرسول صلّى الله عليه وسلم. وما يكون كافياً لشخص قد لا يكفي
لغيره، فلا يكون هذا التحديد ما نعاً من الزيادة على المدة المذكورة.
3 - وقال المالكية (3): يجوز الخيار بقدر ما تدعو إليه الحاجة، ويختلف ذلك
باختلاف الأحوال، فالفاكهة لا يجوز الخيار فيها أكثر من يوم، والثياب
والدواب: ثلاثة أيام، والأرض البعيدة: أكثر من ثلاثة أيام، والدار ونحوها:
شهر؛ لأن المفهوم من الخيار هواختبار المبيع، وإمكان الاختبار يختلف بحسب
المبيعات، تحقيقاً لحاجة العقد.
_________
(1) أي لا خديعة ولا غبن أي لا يحل لك خديعتي ولا تلزمني خديعتك، والحديث
رواه الحاكم والبيهقي والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي ومالك في الموطأ
عن ابن عمر (سبل السلام: 35/ 3، نيل الأوطار: 182/ 5).
(2) المبسوط: 41/ 13، فتح القدير: 111/ 5، البدائع: 174/ 5، المغني:585/ 3،
غاية المنتهى: 30/ 2.
(3) بداية المجتهد: 207/ 2، الشرح الكبير مع الدسوقي: 91/ 3، 95، القوانين
الفقهية: ص273.
(4/3111)
وتبدأ مدة الخيار بعد العقد مباشرة.
أثر خيار الشرط:
لخيار الشرط أثران: أحدهما متفق عليه، والآخر مختلف فيه.
أما الأثر المتفق عليه: فهوجعل العقد
غير لازم بالنسبة لمن له الخيار. فيجوز له الفسخ في مدة الخيار، وإمضاء
العقد، وإذا مضت المدة بدون فسخ أو إمضاء سقط خياره ولزمه العقد.
ويصح الفسخ والإمضاء بالقول الدال عليه مثل: أجزت العقد أو أمضيته، أو رضيت
به، أو فسخته، كما يصح بالفعل الدال علىه أو المتضمن له، كالتصرف في المبيع
بالبيع أو الإجارة أو الرهن أو الإعارة، سواء من البائع إذا كان له الخيار،
أو من المشتري صاحب الخيار.
ويشترط لصحة الفسخ شرطان (1):
1 - أن يكون في مدة الخيار، لأن العقد يلزم بمضي مدة الخيار بلا فسخ من
صاحب الخيار.
2 - علم الطرف الآخر بالفسخ إذا كان الفسخ قولياً عند أبي حنيفة ومحمد
منعاً من إلحاق الضرر به، فإنه إذا كان بائعاً قد يسكت عن البحث عن مشتر
آخر، اعتماداً على أن المشتري لم يفسخ العقد، وفي هذا ضرر به، وإذا كان
مشترياً فقد يتصرف في المبيع ظناً منه أن البائع لم يفسخ العقد، فيلحقه
الضمان، وفي هذا ضرر به، وبالعلم بالفسخ يمتنع لحوق هذا الضرر.
_________
(1) البدائع: 273/ 5، تبيين الحقائق: 18/ 4.
(4/3112)
أما الفسخ الفعلي فلا يشترط فيه علم الطرف
الآخر به لأنه أمر حكمي، ولا يشترط العلم في الفسخ الحكمي كعزل الوكيل
والشريك والمضارب بارتداده ولحاقه بدار الحرب، أو جنونه جنوناً مطبقاً.
ولايشترط علم الطرف الآخر بإجازة العقد.
وقال أبو يوسف والحنابلة (1): لا يشترط علم الطرف الآخر بالفسخ أيضاً؛ لأن
القبول بالخيار يدل على تسليط صاحب الخيار على الفسخ، سواء علم الآخر أم لم
يعلم.
وأما الأثر المختلف فيه: فهو عدم ترتب
أثر العقد عليه.
وهذا عند الحنفية (2) والمالكية (3) فالخيار عند هؤلاء مانع من ترتب آثار
العقد، فلا تنتقل الملكية عند أبي حنيفة في كلا البدلين إذا كان الخيار
للعاقدين أثناء مدة الخيار، أي أنه لا يزول المبيع عن ملك البائع ولا يدخل
في ملك المشتري، كما لا يزول الثمن عن ملك المشتري ولا يدخل في ملك البائع؛
لأن الخيار موجود في جانبي البائع والمشتري.
وإذا كان الخيار للبائع وحده لا تنتقل ملكية المبيع عنه، ويخرج الثمن عن
ملك المشتري؛ لأن العقد لازم في حقه، ولكن لا يدخل في ملك البائع، حتى لا
يجتمع البدلان (المبيع والثمن) في يد واحدة، لمنافاته لمبدأ التعادل بين
العاقدين.
وقال الصاحبان: يدخل الثمن في ملك البائع؛ لأن الشيء لا يصح أن يكون بلا
مالك.
_________
(1) المرجعان السابقان، غاية المنتهى: 31/ 2.
(2) البدائع: 264/ 5 ومابعدها، فتح القدير: 115/ 5 ومابعدها، الدر المختار
وحاشية ابن عابدين: 51/ 4.
(3) الشرح الكبير مع الدسوقي: 103/ 3، القوانين الفقهية: ص 273.
(4/3113)
وإذا كان الخيار للمشتري وحده فلا يخرج
الثمن عن ملكه، وأما المبيع فيخرج عن ملك البائع ولا يدخل في ملك المشتري
عند أبي حنيفة، ويدخل في ملكه عند الصاحبين.
وقرر المالكية: أن ملك المبيع للبائع زمن الخيار، حتى ينقضي الخيار.
ووجهة هذا الفريق: أن من شرط الخيار لنفسه لم يتم رضاه بالعقد، والآثار لا
توجد إلا مع الرضا التام.
وقال الشافعية والحنابلة في أظهر الرأيين عندهم (1): تترتب آثار العقد عليه
في فترة الخيار، وتنتقل ملكية البدلين للطرفين المتعاقدين، سواء أكان
الخيار للعاقدين أم لأحدهما؛ لأن العقد نافذ، فتترتب أحكامه (آثاره) عليه.
وأثر الخيار محصور في منع اللزوم فقط.
وتظهر ثمرة الخلاف بين الفريقين في مؤونة (نفقة) المعقود عليه والزيادة
فيه، فعلى رأي الحنفية والمالكية: تكون المؤونة في مدة الخيار على البائع
والزيادة له. وعلى رأي الآخرين: تكون المؤونة على المشتري والزيادة له.
انتهاء خيار الشرط:
العقد المشتمل على الخيار غير لازم، وبانتهاء الخيار إما أن يزول العقد، أو
يصبح لازماً. وينتهي الخيار بأحد الأمور التالية (2):
_________
(1) مغني المحتاج: 48/ 2، المهذب: 259/ 1، المغني: 571/ 3، غاية المنتهى:
32/ 2، القواعد لابن رجب: ص 377.
(2) البدائع: 267/ 5 - 272، المبسوط: 42/ 13 - 44، فتح القدير: 117 - 125،
الدر المختار: 52/ 4، 57.
(4/3114)
1 - إمضاء العقد أو فسخه في مدة الخيار،
سواء أكان ذلك بالقول أم بالفعل كما تقدم.
2 - مضي مدة الخيار دون إجازة (إمضاء) أو فسخ.
3 - هلاك المعقود عليه أو تعيبه في يد صاحب الخيار، فإن كان الخيار للبائع
مثلاً بطل البيع وسقط الخيار، وإن كان الخيار للمشتري لا يبطل البيع، ولكن
يسقط الخيار، ويلزم البيع، ويجب على المشتري دفع الثمن، سواء أكان الهلاك
أو التعيب بفعل المشتري أو بفعل البائع، أو بآفة سماوية.
4 - زيادة المعقود عليه في يد المشتري إذا كان الخيار له: زيادة متصلة
متولدة منه كسمن الحيوان، أم غير متولدة منه كالبناء على الأرض وصباغة
الثوب. أو زيادة منفصلة متولدة منه كولد الحيوان وثمرة البستان. أما
الزيادة المنفصلة غير المتولدة منه كالأجرة فلا تبطل الخيار ولا تمنع الرد.
5 - موت المشروط له الخيار عند الحنفية والحنابلة (1): لأن خيار الشرط
كخيار الرؤية لا يورث عندهم لأنه حق شخصي خاص بصاحبه، ولا يتصور انتقال ذلك
من شخص إلى آخر.
وقال المالكية والشافعية (2): لا يسقط الخيار بالموت، بل ينتقل إلى الورثة؛
لأنه حق متعلق بالمال وهو المعقود عليه، وليس من الحقوق الشخصية، والحقوق
المالية يجري فيها الإرث، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من ترك مالاً أو
حقاً فلورثته» (3).
_________
(1) المغني: 579/ 3، غاية المنتهى: 33/ 2.
(2) بداية المجتهد: 209/ 2، القوانين الفقهية: ص 273، المهذب: 259/ 1، مغني
المحتاج: 45/ 2.
(3) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن المقدام بن معد يكرب بلفظ: «من ترك
مالاً فلورثته .. » (نيل الأوطار: 62/ 6).
(4/3115)
خيار العيب
خيار العيب (1): هو أن يكون لأحد العاقدين الحق في فسخ العقد أو
إمضائه إذا وجد عيب في أحد البدلين، ولم يكن صاحبه عالماً به وقت العقد.
فسبب هذا الخيار: هو ظهور عيب في المعقود عليه أو في بدله ينقص قيمته أو
يخل بالغرض المقصود منه، ولم يكن صاحبه مطلعاً على العيب عند التعاقد، فسمي
خيار العيب.
وثبوت هذا الخيار مشروط دلالة أو ضمناً؛ لأن سلامة المعقود عليه أو بدله
مطلوبة للعاقد، وإن لم يشترطها صراحة. فإذا لم تتوافر السلامة اختل رضا
العاقد بالعقد، والرضا أساس العقود، فشرع له الخيار لتدارك الخلل الحادث.
وإذا لم تتوافر السلامة لم يتحقق أيضاً مبدأ التعادل في التبادل الذي تقوم
عليه عقود المعاوضات، فشرع هذا الخيار حفاظاً على مبدأ المساواة هذا.
وقد أثبت الشرع هذا الخيار لمن فوجئ بالعيب بأحاديث نبوية متعددة منها:
«المسلم أخو المسلم، لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعاً، وفيه عيب، إلا بيَّنه
له» (2)، ومر النبي صلّى الله عليه وسلم برجل يبيع طعاماً، فأدخل يده فيه
فإذا هو مبلول، فقال: «من غشنا فليس منا».
ويثبت خيار العيب وخيار الرؤية في
العقود اللازمة التي تحتمل الفسخ، كعقد البيع، والإيجار، وقسمة الأعيان
والصلح على عوض عيني.
العيب الموجب للخيار: هو عند الحنفية
والحنابلة (3): كل ما يخلو عنه أصل
_________
(1) راجع أحكام العيب في المواد (336 - 355) من المجلة.
(2) رواه ابن ماجه عن عقبة بن عامر (نيل الأوطار: 211/ 5).
(3) فتح القدير مع العناية: 151/ 5، 153، البدائع: 274/ 5، الدر المختار
وحاشيته: 74/ 4، المغني: 152/ 4، غاية المنتهى: 35/ 2.
(4/3116)
الفطرة السليمة ويوجب نقصان القيمة في عرف
التجار نقصاناً فاحشاً أو يسيراً كالعمى والعور، وهذا التعريف ذو معيار
مادي. وعند الشافعية (1) ذو معيار شخصي، وهو: كل ما ينقص القيمة أو يفوت به
غرض صحيح، كجماح الدابة، أو قطع شيء من أذن الشاة المشتراة للأضحية، أو ضيق
الحذاء المشترى.
شروط ثبوت خيار العيب: يشترط لثبوت خيار
العيب بعد الاطلاع على العيب شروط وهي (2):
1 - وجود العيب قبل العقد، أو بعده قبل التسليم أي أن يكون قديماً. فلو حدث
العيب بعد التسليم، أو عند المشتري لا يثبت الخيار.
2 - جهل المشتري بوجود العيب عند العقد والقبض. فإن كان عالماً به عند
أحدهما فلا خيار له، لأنه يكون راضياً به دلالة.
3 - عدم اشتراط المالك البراءة عن العيوب في محل العقد، فلو شرط ذلك فلا
خيار للمشتري، لأنه إذا أبرأه فقد أسقط حق نفسه.
4 - ألا يزول العيب قبل الفسخ.
هذا ويلاحظ أن الحنفية صححوا البيع بشرط البراءة من كل عيب، وإن لم تعين
العيوب بتعداد أسمائها، سواء أكان المشترط جاهلاً وجود العيب في المبيع أم
عالماً بعيب المبيع. وسواء أكان العيب موجوداً قبل البيع أم حادثاً بعده
قبل القبض. وهذا في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف.
وقال محمد ومالك والشافعي وهو المعمول به في قانوننا المدني: يشمل شرط
_________
(1) مغني المحتاج: 51/ 2.
(2) البدائع: 275/ 5 ومابعدها، فتح القدير: 153/ 5.
(4/3117)
البراءة: العيب الموجود عند العقد فقط، لا
الحادث بعد العقد وقبل القبض؛ لأن البراءة تتناول الشيء الثابت الموجود.
كذلك لا تصح البراءة عند المالكية والشافعية وفي رواية عند الحنابلة (1)
إلا عن عيب لا يعلم به البائع، أما ما يعلم به فلا تصح البراءة عنه.
وقت خيار العيب: يثبت خيار العيب متى
ظهر العيب ولو بعد العقد بزمن طويل. أما فسخ العقد بعد العلم بالعيب فوراً
أو على التراخي ففيه رأيان للفقهاء:
قال الحنفية والحنابلة (2): خيار الرد بالعيب على التراخي، ولا يشترط أن
يكون رد المبيع بعد العلم بالعيب على الفور. فمتى علم العيب فأخر الرد، لم
يبطل خياره حتى يوجد منه ما يدل على الرضا؛ لأن هذا الخيار شرع لدفع الضرر،
فلا يبطل بالتأخير؛ ولأن الحقوق إذا ثبتت لا تسقط إلا بإسقاطها أوبانتهاء
الوقت المحدد لها، وليس لهذا الحق وقت محدد.
وقال المالكية والشافعية (3): يجب الفسخ على الفور بعد العلم بالعيب.
والمراد بالفور: ما لا يعد تراخياً في العادة، فلو اشتغل بصلاة أو أكل
ونحوه لا يعد متراخياً. والسبب في اشتراط الفور: هو ألا يلحق العاقد الآخر
ضررمن التأخير، فإذا تأخر في رد المعقود عليه بدون عذر سقط حقه ولزم العقد.
حكم العقد المشتمل على خيار عيب:
حكم العقد أو أثره حال وجود شيء معيب: هو ثبوت الملك للمتملك في
_________
(1) الشرح الكبير مع الدسوقي: 123/ 3، القوانين الفقهية: ص 265، مغني
المحتاج: 53/ 2، المغني:178/ 4، غاية المنتهى: 27/ 2.
(2) الدر المختار: 93/ 4، المغني: 144/ 4، غاية المنتهى: 41/ 2.
(3) مغني المحتاج: 56/ 2، المهذب: 274/ 1، الشرح الكبير مع الدسوقي: 120/
3.
(4/3118)
محل العقد للحال؛ لأنه إذا لم تتوافر سلامة
المعقود عليه تأثر العقد في لزومه، لا في أصل حكمه، بخلاف خيار الشرط؛ لأن
الشرط المنصوص عليه ورد على أصل الحكم، فمنع انعقاده بالنسبة للحكم أو
الأثر في مدةالخيار (1).
وأثر خيار العيب هو جعل العقد غير لازم بالنسبة لمن ثبت له الخيار (2)، فله
إما الرضا بالمعقود عليه كما هو، وحينئذ يسقط الخيار ويلزم العقد، وإما رده
إلى مالكه الأول، وحينئذ يبطل العقد.
وهل له الاحتفاظ بالمعقود عليه والمطالبة بفرق النقصان بسبب العيب؟
قرر الحنفية (3): أنه ليس للمتملك الرجوع بنقصان العيب أو الحط من ثمن
المبيع ما دام الرد ممكناً؛ لأن المالك لا يلزم بدفع قيمة النقصان إلا
برضاه دفعاً للضرر عنه.
فإن تعذر الرد كان لصاحب الخيار الرجوع بالنقصان بشرط أن يكون امتناع الرد
بسبب ليس لصاحب الخيار دخل فيه، كهلاك محل العقد، أو تعيبه بعيب جديد، أو
تغير صورته بحيث أصبح له اسم جديد، أو زيادته زيادة منفصلة متولدة منه،
كالولد والثمرة، وذلك دفعاً للضرر بقدر الإمكان.
ويجوز الحط من قيمة المبيع لقاء العيب بتراضي الطرفين.
وطريقة معرفة النقصان: أن يقوَّم المعقود عليه سليماً من العيب، ثم يقوَّم
على أنه معيب، ويكون الفرق بين القيمتين هو النقصان، فيرجع به. فإذا كانت
قيمته سليماً ألفين، وقيمته معيباً ألفاً، رجع بنصف الثمن الذي تم به
الشراء.
_________
(1) البدائع: 273/ 5.
(2) البدائع: 274/ 5.
(3) فتح القدير: 159/ 5، 164 ومابعدها، الدر المختار: 94/ 4، اللباب شرح
الكتاب: 21/ 2، تبيين الحقائق: 34/ 4 ومابعدها، البدائع: 289/ 3.
(4/3119)
أما إذا كان امتناع الرد بسبب من جهة
المشتري كأن باع الشيء أو وهبه أو وقفه لم يكن له الرجوع بالنقصان.
وكذلك إن رضي بالعيب صراحة أو دلالة ليس له الرجوع بالنقصان؛ لأن الرضا
بالعيب كما يمنع الفسخ يمنع الرجوع بنقصان العيب، إذ به يتبين أن السلامة
من العيب لم تكن مطلوبة.
كيفية فسخ العقد ورد المعقود عليه:
إذا كان المعقود عليه ما يزال في يد صاحبه أي قبل قبضه من الآخر، فينفسخ
العقد بقول العاقد الآخر: (رددت)، ولا يحتاج إلى قضاء القاضي، ولا إلى
التراضي، باتفاق الحنفية والشافعية.
وأما إن قبضه المتملك فلا ينفسخ إلا بالتراضي أو بقضاء القاضي عند الحنفية
(1) لرفع النزاع الذي قد يقع بين العاقدين بسبب احتمال كون العيب جديداً
عند القابض، فلا يوجب الرد، أو كونه قديماً عند المالك الأصلي، فيوجب الرد.
وقال الشافعية والحنابلة (2): ينفسخ العقد بقول المتملك: (رددت) بغير حاجة
إلى التراضي أو قضاء القاضي، كالفسخ بخيار الشرط أو خيار الرؤية؛ لأن خيار
العيب يجعل العقد غير لازم بالنسبة لصاحب الخيار، وغير اللازم يجوز فسخه
بغير حاجة إلى رضا العاقد الآخر، ولا إلى قضاء القاضي.
_________
(1) البدائع: 281/ 5.
(2) مغني المحتاج: 57/ 2، المهذب: 284/ 1، غاية المنتهى: 41/ 2.
(4/3120)
موانع الرد بالعيب
وسقوط الخيار:
يمتنع الرد بالعيب ويسقط الخيار بعد ثبوته ويلزم العقد بأسباب وهي ما يأتي
(1):
1 - الرضا بالعيب بعد العلم به: إما صراحة كقوله: رضيت بالعيب، أو أجزت
العقد، أو دلالة كالتصرف في المعقود عليه تصرفاً يدل على الرضا بالعيب،
كبيعه أو هبته أو رهنه أو إيجاره، أو استعماله بأي وجه كلبس وركوب، أو
مداواته، أو صباغته وتفصيله شيئاً آخر، أو البناء على الأرض، أو طحن الحنطة
أو شيّ اللحم، أو وصول عوض العيب إليه، ونحو ذلك؛ لأن الرضا بالعيب بعد
العلم به دليل على أن سلامة المعقود عليه ليست مقصودة له، فلا يكون هناك
معنى لإثبات الخيار له.
2 - إسقاط الخيار: صراحة كقوله: أسقطت خياري، أو دلالة كأن أبرأه من العيب
الذي ظهر في المعقود عليه؛ لأن خيار العيب حقه فله أن يتنازل عنه.
3 - هلاك المعقود عليه، أو تعيبه بعيب جديد في يد صاحب الخيار، أو تغيره
تغيراً تاماً، كطحن الحنطة، وخبز الدقيق، ونحوه.
4 - زيادة المعقود عليه في يد صاحب الخيار زيادة متصلة غير متولدة من الأصل
كالبناء أو الغرس على الأرض، وصبغ الثوب، أو زيادة منفصلة متولدة من الأصل
كالولد والثمرة.
أما الزيادة المتصلة المتولدة من الأصل كالسمن والكبر، والزيادة المنفصلة
غير المتولدة كالغلة والكسب، فلا تمنع الرد بالعيب.
_________
(1) البدائع: 282/ 5 - 284، 291، الدر المختار وحاشيته: 82/ 4، 85 - 89،
94، 99، 101، 103، مجمع الضمانات: ص 219 ومابعدها، فتح القدير: 164/ 5.
(4/3121)
وامتناع الرد في الصورة الأولى سببه تعذر
فصل الزيادة، ولا يرد معها لأنها حق صانعها.
وامتناع الرد في الصورة الثانية، سببه أن المتملك لو ردَّ الأصل دونها،
تبقى له دون مقابل، وهو ممنوع شرعاً، لأنه ربا.
إرث خيار العيب:
اتفق الفقهاء على أنه يورث خيار العيب وخيار التعيين، لتعلق الحق بذات
المعقود عليه، فلو مات صاحب الخيار لم يسقط الخيار، وينتقل الحق لورثته؛
لأن المورث استحق المعقود عليه سليماً من العيب، ولزمه أحد الأشياء في خيار
التعيين، فلا يجبر الوارث على أخذه معيباً، وإنما يثبت له ما ثبت لمورثه.
وفي خيار التعيين يلزم الوارث بما لزم المورث.
وأما خيار الشرط وخيار الرؤية فلا يورثان عند الحنفية (1) خلافاً للمالكية
والشافعية؛ لأن الخيار متعلق بإرادة العاقد ومشيئته، فهو من الحقوق الشخصية
التي لاتقبل الانتقال من شخص لآخر بالوراثة (2).
ومنشأ الخلاف بين الحنفية والجمهور في إرث الخيار راجع إلى اختلافهم في إرث
الحقوق.
قال الحنفية: الأصل أن يورث المال دون الحقوق، إلا ما قام دليله من إلحاق
الحقوق بالأموال.
_________
(1) ويوافقهم الحنابلة في عدم إرث خيار الشرط كما تقدم.
(2) البدائع: 268/ 5، بداية المجتهد: 209/ 2، المجموع للنووي: 196/ 9،
حاشية الباجوري: 160/ 1، غاية المنتهى: 30/ 2، 33، المغني: 579/ 3.
(4/3122)
وقال الجمهور: الأصل أن تورث الحقوق
والأموال، إلا إذا قام دليل على وجود اختلاف بين الحق والمال بالنسبة
للإرث، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من ترك حقاً أو مالاً فلورثته».
خيار الرؤية
خيار الرؤية (1): هو أن يكون للمشتري الحق في إمضاء العقد أوفسخه
عند رؤية المعقود عليه، إذا لم يكن رآه عند إنشاء العقد أو قبله بوقت لا
يتغير فيه عادة.
ف سبب هذا الخيار: عدم رؤية محل العقد
حين التعاقد أو قبله، فإذا كان قد رآه سقط خياره.
وثبت هذا الخيار عند القائلين به بحكم الشرع من غير حاجة لاشتراطه في
العقد، بخلاف خيار الشرط والتعيين، فإنهما مشروطان في العقد.
ويثبت كخيار العيب في العقود اللازمة التي تحتمل الفسخ كبيع الشيء المعين
بالذات، والإجارة، وقسمة الأموال القيمية كالأراضي والدواب، والصلح على عين
بعوض معين. أما بيع الشيء المعين بالوصف كما في عقد السلم (بيع آجل بعاجل)
فلا يثبت فيه خيار الرؤية.
مشروعيته:
أجاز جمهور الفقهاء (الحنفية والمالكية والحنابلة والظاهرية) (2) خيار
الرؤية في بيع العين الغائبة أو غير المرئية، بدليل ما يروى حديثاً: «من
اشترى شيئاً لم
_________
(1) راجع أحكام خيار الرؤية في المجلة في المواد (320 - 334).
(2) المبسوط: 69/ 13 ومابعدها، فتح القدير مع العناية: 137/ 5 - 140،
البدائع: 292/ 5، رد المحتار: 68/ 4، بداية المجتهد: 154/ 2، الشرح الكبير
مع الدسوقي: 25/ 3 ومابعدها. المغني: 580/ 3 ومابعدها. المحلى: 394/ 8.
(4/3123)
يره، فهو بالخيار إذا رآه» (1) ويؤيده أن
عثمان بن عفان باع أرضاً له بالبصرة لطلحة ابن عبد الله رضي الله عنهما،
ولم يكونا رأياها، فقيل لعثمان: غبنت، فقال: «لي الخيار؛ لأني بعت ما لم
أره». وقيل لطلحة إنك قد غبنت، فقال: «لي الخيار، لأني اشتريت ما لم أره»
(2) فحكما في ذلك جبير بن مطعم، فقضى بالخيار لطلحة.
وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم، ولم ينكر عليه أحد، فكان إقراراً
منهم على شرعية هذا الخيار.
واحتجوا أيضاً بأن الشخص قد يحتاج إلى شراء شيء غائب عنه، يجعل له الخيار
عند رؤيته دفعاً للضرر عنه حينما يجد المعقود عليه غير موافق لغرضه أو
لمقصوده، وتحقيقاً لرضاه المطلوب في العقود.
وأما ما قد يكون من جهالة في المعقود عليه فلا تؤثر في صحة العقد، لأنها لا
تفضي إلى النزاع بسبب إعطاء الخيار لمن لم ير محل العقد.
وقال الشافعي في المذهب الجديد (3): لا ينعقد بيع الغائب أصلاً، سواء أكان
بالصفة، أم بغير الصفة، ولا يثبت خيار الرؤية؛ لأن في العقد غرراً وجهالة
قد تفضي إلى النزاع بين العاقدين، وقد نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم
عن بيع الغرر (4). وأما حديث «من اشترى ما لم يره» فهو حديث ضعيف كما قال
البيهقي أو باطل كما قال الدارقطني.
_________
(1) روي مسنداً ومرسلاً، فالمسند رواه الدارقطني عن أبي هريرة، والمرسل
رواه ابن أبي شيبة والدارقطني والبيهقي عن مكحول، وهو ضعيف (نصب الراية: 9/
4).
(2) أخرجه الطحاوي والبيهقي عن علقمة بن أبي وقاص (نصب الراية: 9/ 4).
(3) مغني المحتاج: 18/ 2 ومابعدها، المهذب: 263/ 1.
(4) روى الجماعة إلا البخاري عن أبي هريرة «أن النبي صلّى الله عليه وسلم
نهى عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر» (نيل الأوطار: 147/ 5).
(4/3124)
من يثبت له خيار
الرؤية:
يثبت خيار الرؤية عند الحنفية والمالكية للمتملك، كالمشتري في البيع،
والمستأجر في الإيجار، أما المملك فلا يثبت له هذا الخيار، وهو البائع
والمؤجر، عملاً بما قضى به جبير بن مطعم بين عثمان وطلحة، ولأن المملك يعرف
ما يملكه عادة، فلا ضرورة لثبوت الخيار له. فإذا باع ما لم يره، وهو أمر
نادر، كان مقصراً في حق نفسه، فلا يستحق المطالبة بفسخ العقد. أما المتملك
فلم يتمكن من رؤية محل العقد، ولا سبيل إليه، فكان من المصلحة منحه الخيار.
وأثبت الحنابلة والظاهرية خيار الرؤية للمملك كالبائع إذا باع ما لم ير.
وقت ثبوت الخيار:
يثبت الخيار للمشتري عند رؤية المعقود عليه، لا قبلها، فلو أجاز العقد قبل
الرؤية، لا يلزم العقد، ولا يسقط الخيار، وله أن يرد المعقود عليه؛ لأن
النبي صلّى الله عليه وسلم أثبت الخيار للمشتري بعد الرؤية.
أما لو فسخ العقد قبل الرؤية صح الفسخ، لا من أجل الخيار، وإنما لأن العقد
غير لازم، وغير اللازم يجوز فسخه كالعقد الذي فيه خيار العيب، وعقد الإعارة
والإيداع (1).
شروط ثبوت الخيار: يشترط لثبوت الخيار
شروط، وإلا كان العقد لازماً وهي (2):
_________
(1) البدائع: 295/ 5.
(2) البدائع: 292/ 5 ومابعدها، 298، المبسوط: 72/ 13،77، فتح القدير: 298/
5، الدر المختار: 70/ 4.
(4/3125)
1 - عدم رؤية محل العقد عند إنشاء العقد أو
قبله بزمن لا يتغير فيه، فإن كان قد رآه قبل العقد لا يثبت له الخيار.
2 - أن يكون محل العقد عيناً معينة أو مشخصة من الأعيان كالأرض والدار
والدابة والسيارة، إذا وصفت بما ينفي عنها الجهالة المفضية إلى النزاع؛ لأن
للناس أغراضاً خاصة في الأعيان، فيثبت الخيار لينظر المتملك هل يصلح له أو
لا؟ ويظل له الخيار ولو وافق الوصف عند الحنفية.
أما المعين بالوصف لا بالذات بأن كان ديناً موصوفاً في الذمة كالمسلم فيه
(المبيع المؤجل لموسم الحصاد) فلا يثبت فيه خيار الرؤية؛ لأن المعقود عليه
الموصوف إن وجد بأوصافه المتفق عليها لزم العقد، وإن تخلف وصف منها لم
يتحقق لعدم وجود محله.
3 - أن يكون العقد مما يقبل الفسخ كما تقدم، كالبيع والإجارة والقسمة
والصلح عن دعوى المال ونحوها؛ لأن هذه العقود تنفسخ برد هذه الأشياء، فيثبت
فيهاخيار الرؤية.
أما ما لا يقبل الفسخ كالزواج والخلع والصلح عن دم العمد ونحوها، فلا يثبت
فيها خيار الرؤية بسبب عدم رؤية المهر أو بدل الخلع أو عوض الصلح إذا كان
شيئاً معيناً كدار وأرض معينة.
كيفية الرؤية:
الرؤية قد تكون لجميع المعقود عليه، أو لبعضه (رؤية الأنموذج)، والضابط
فيه: أنه يكفي رؤية ما يدل على المقصود، ويفيد المعرفة به (1). وذلك بأي
حاسة
_________
(1) البدائع: 293/ 5، الدر المختار وحاشيته: 68/ 4.
(4/3126)
من الحواس بحسب طبيعة محل العقد، فإن كان
من المطعومات يكون العلم به بالذوق، وإن كان من المشمومات كالروائح كانت
معرفته بالشم، وإن كان من الملموسات كالأقمشة كان العلم به باللمس. وإن كان
من المرئيات كالدور والأراضي والحبوب كان العلم به بواسطة النظر بالنسبة
للبصير.
أما الأعمى فهو كالبصير في غير المرئيات، وأما في المرئيات فيكتفى منه بوصف
الشيء وصفاً كافياً. ويجوز عند الحنفية للبصير والأعمى التوكيل بالنظر
والرؤية (1).
وبناء عليه لا يكفي رؤية بعض حجُرات الدار، بل لا بد من رؤية بيوتها كلها،
ورؤية كل الأرض والبستان ونحوهما. ولا يكفي رؤية شاة من قطيع، بل لا بد من
رؤية القطيع كله.
وإذا كان الشيء يباع عددياً كالجوز والفجل والثياب فلا تكفي رؤية البعض، بل
لابد من رؤية الكل.
وإذا كان الشيء من المثليات التي تباع كيلاً أو وزناً كالحبوب والأقطان أو
كان مغيباً في الأرض كالثوم والبصل، فيكتفى برؤية بعض الأجزاء أو الوحدات،
وهو المسمى بالبيع بالنموذج.
أثر خيار الرؤية:
يكون العقد الوارد على العين الغائبة أو غير المرئية غير لازم لمن ثبت له
الخيار، فيخير بين الفسخ والإجازة عند رؤية المعقود عليه؛ لأن عدم الرؤية
يمنع تمام الصفقة، ولأن جهالة وصف المعقود عليه تؤثر في رضا المتملك فيثبت
له الخيار،
_________
(1) البدائع: 295/ 5، فتح القدير: 145/ 5.
(4/3127)
سواء أكان المعقود عليه موافقاً للوصف
المتفق عليه
أم مخالفاً له، وهذا مذهب الحنفية (1).
وقال الحنابلة والمالكية والشيعة الإمامية (2): العقد لازم للمتملك إذا وجد
المعقود عليه مطابقاً للوصف المتفق عليه، فإن كان مخالفاً لما وصف، ثبت له
الخيار.
وأما حكم العقد أو أثر الخيار: فلا يمنع نقل الملكية في البدلين، أي لا أثر
لخيار الرؤية على العقد، فتنتقل ملكية المعقود عليه للمتملك، وملكية العوض
للمالك فور تمام العقد بالإيجاب والقبول. وبهذا يختلف خيار الرؤية عن خيار
الشرط عند الحنفية والمالكية، كما تقدم. وسبب التفرقة بينهما أن العقد في
خيار الرؤية صدر مطلقاً غير مقيد بشرط، وكان المفهوم أن يكون لازماً، لكنه
ثبت من جهة الشرع. أما خيار الشرط فقد ثبت باشتراط العاقدين، فكان له أثره
في العقد يمنع استقرار حكمه في الحال.
كيفية فسخ العقد:
لا يتوقف الفسخ بخيار الرؤية على التراضي أو قضاء القاضي، ويكون بالقول
وبالفعل صراحة أو دلالة، مثل فسخت العقد أو رددته، أو أن يتصرف بالمعقود
عليه بالبيع أو الهبة ونحوهما، أو أن يهلك المعقود عليه قبل القبض (3).
ويشترط للفسخ شروط هي (4):
_________
(1) البدائع: 292/ 5، فتح القدير: 137/ 5.
(2) المغني: 582/ 3، القوانين الفقهية: ص 256، المختصر النافع: ص 146.
(3) البدائع: 298/ 5.
(4) البدائع: 298/ 5.
(4/3128)
1 - أن يكون الخيار موجوداً، فإن سقط لزم
العقد.
2 - ألا يترتب على الفسخ تفريق الصفقة على المالك، برد بعض المعقود عليه
وإجازة العقد في البعض الآخر؛ لأن في التفريق ضرراً به.
3 - أن يعلم المالك بالفسخ ليكون على بينة من أمره وأمر سلعته ليتصرف فيها
كما يريد. وهذا عند أبي حنيفة ومحمد، وأما أبو يوسف فلا يشترط ذلك، كما
تقدم في خيار الشرط.
مدة خيار الرؤية:
الأصح عند الحنفية (1): أن خيار الرؤية يثبت مطلقاً في جميع العمر إلى أن
يوجد ما يسقطه، أي أنه لا يتوقت بوقت، بل متى ثبت فإنه يستمر إلى أن يحدث
ما يسقطه؛ لأنه حق من الحقوق، والحقوق لا تسقط إلا بإسقاطها، أو بانتهاء
الأمد المحدد لها، ولأن سببه اختلال الرضا، والحكم يبقى ما بقي سببه.
وقال الحنابلة (2): يكون خيار الرؤية على الفور.
مايسقط به خيار الرؤية:
يسقط خيار الرؤية في الأصل بما يسقط به خيار الشرط وخيار العيب وهو ما يأتي
(3):
1 - ما يدل على الرضا بالعقد صراحة أو دلالة: فالصريح أن يقول: أجزت
_________
(1) فتح القدير: 141/ 5، البدائع: 295/ 5، الدر المختار ورد المحتار: 67/
4.
(2) المغني: 581/ 3.
(3) البدائع: 295/ 5 - 297، فتح القدير: 141/ 5، 149.
(4/3129)
العقد أو أمضيته أو رضيت به ونحو ذلك.
والدلالة على الرضا: أن يتصرف في المعقود عليه بعد الرؤية لا قبلها تصرفاً
يدل على الإجازة والرضا بالعقد كقبض الشيء، والانتفاع به، وبيعه أو إجارته،
أو رهنه أوهبته.
والسبب في اشتراط كون التصرف بعد الرؤية: هو أن الخيار حق أثبته الشارع بعد
الرؤية، والحقوق لا تسقط قبل ثبوتها.
واستثناء من هذا المبدأ قالوا بسقوط الخيار ولو قبل الرؤية في البيع
والإجارة والوقف، والرهن والهبة مع التسليم، ونحوها من التصرفات الباتة
التي يترتب عليها حق للغير.
2 - هلاك محل العقد، أو تعيبه بعيب يمنع الرد، سواء أكان بفعل العاقد أم
بفعل شخصي أجنبي عن العقد، أم بآفة سماوية.
3 - زيادة المعقود عليه بعد القبض زيادة تمنع الرد، وهي الزيادة المتصلة
غير المتولدة من الأصل كالبناء وصبغ الشيء، والزيادة المنفصلة المتولدة منه
كالولد واللبن والصوف.
أما الزيادة المتصلة المتولدة منه كالسمن والكبر، والزيادة المنفصلة غير
المتولدة منه كالغلة، فإنها لا تمنع الرد.
4 - موت صاحب الخيار، سواء قبل الرؤية أم بعدها. فلا يورث خيار الرؤية عند
الحنفية والحنابلة (1) كخيار الشرط؛ لأن الخيار مجرد رغبة ومشيئة أو حق
شخصي.
_________
(1) تبيين الحقائق: 30/ 4، غاية المنتهى: 33/ 2.
(4/3130)
وقال مالك (1): يورث خيار الرؤية كما يورث
خيار التعيين والعيب؛ لأن الإرث يثبت في الحقوق والأموال المملوكة على
السواء.
وهذا أقرب إلى المنطق؛ لأن الوارث يخلف المورث في كل ما ترك من مال وحقوق
ومنها حق الخيار (2).
خيار النقد
خيار النقد (3): هو أن يتبايع اثنان على أنه إذا لم ينقد المشتري
الثمن في مدة معينة، فلا بيع بينهما، فإذا نقد المشتري الثمن في المدة
المحددة تم البيع، وإذا لم ينقده فيها كان البيع فاسداً.
ويصح أن يكون خيار النقد للبائع أيضاً، كما لو تبايع اثنان وقبض البائع
الثمن، وقال: إذا رددت الثمن في مدة ثلاثة أيام، فلا بيع بيننا، فإن رده
فسد البيع، وإن لم يرده تم العقد.
وقد أجاز أبو حنيفة وصاحباه خلافاً لزفر هذا الخيار استحساناً لحاجة الناس
إليه، ولأنه في الحقيقة نوع من خيار الشرط. ويؤيده أن ابن عمر أجازه (4).
مدته: قال أبو حنيفة: أقصى مدة هذا
الخيار ثلاثة أيام. وقال الصاحبان: يجوز إلى أربعة أيام فأكثر.
ولا يورث هذا الخيار عند الحنفية؛ لأنه حق شخصي. لكن إذا كان الاختيار
_________
(1) الشرح الصغير: 145/ 3.
(2) الأموال ونظرية العقد لأستاذنا المرحوم محمد يوسف موسى: ص 477، 487.
(3) راجع أحكامه في المواد (313 - 315) من مجلة الأحكام العدلية.
(4) فتح القدير: 132/ 5، الدر المختار ورد المحتار: 51/ 4.
(4/3131)
للبائع في رد الثمن، فمات في أثناء المدة
يلزم البيع بموته، لأنه تحقق عدم الرد بموته.
وإن كان الخيار للمشتري في نقد الثمن فمات في مدة الخيار، بطل البيع بموته،
لأنه تحقق عدم نقد الثمن بموته، فيبطل العقد.
المبحث السابع ـ انتهاء العقد:
ينتهي العقد إما بالفسخ، أو بالموت، أو بعدم الإجازة في العقد الموقوف،
وانتهاء العقد بالفسخ له حالات. وأما الموت فقد تنتهي به بعض العقود.
انتهاء العقد بالفسخ:
فسخ العقد: قد يكون برفعه من أصله كما في حالة الخيارات وهو الإلغاء، وقد
يكون بوضع نهاية له بالنسبة للمستقبل كما في الإعارة والإجارة، وهو الفسخ
بالمعنى الشائع.
والفسخ في العقود غير اللازمة واضح، تقرره طبيعة العقد ذاته، سواء في
العقود غير اللازمة من الجانبين كالإيداع والإعارة والشركة والوكالة، فلكل
من الطرفين الفسخ متى أراد، ما لم يتعلق بالوكالة حق الغير، كما بان في بحث
الوكالة، أم في العقود اللازمة من جانب، وغير اللازمة من الجانب الآخر،
كالرهن والكفالة، فللمرتهن فسخ الرهن دون رضا الراهن. وللمكفول له وهو
الدائن فسخ الكفالة دون رضا المدين.
وأما الفسخ في العقود اللازمة فله حالات وهي:
1ً
ـ الفسخ بسبب فساد العقد: إذا وقع العقد
فاسداً كبيع المجهول أو البيع
(4/3132)
المؤقت بمدة، وجب فسخه إما من طريق
العاقدين، أو من طريق القاضي، إلا إذا وجد مانع من الفسخ كأن يبيع المشتري
ما اشتراه أو يهبه. وحينئذ يجب على المشتري دفع قيمة المبيع يوم قبضه، لا
الثمن المتفق عليه.
ً2ً ـ بسبب الخيار: يجوز لصاحب الخيار
في خيار الشرط أو العيب أو الرؤية ونحوها فسخ العقد بمحض إرادته، إلا في
خيار العيب بعد القبض عند الحنفية لا يجوز الفسخ فيه إلا بالتراضي أو بقضاء
القاضي.
3ً
ـ بالإقالة: الإقالة هي فسخ العقد
بتراضي الطرفين، إذا ندم أحدهما وأراد الرجوع عن العقد. وهي مندوبة لقوله
صلّى الله عليه وسلم: «من أقال نادماً بيعته أقال الله عثرته يوم القيامة»
(1).
4ً
ـ لعدم التنفيذ: يجوز الفسخ لعدم تنفيذ
الطرف الآخر التزامه في حالة خيار النقد، كما تقدم. ويجوز الفسخ بسبب
استحالة التنفيذ لآفة سماوية (قوة قاهرة أو ظروف طارئة بتعبير القانونيين)
وذلك في عقد البيع في حالة هلاك المبيع قبل التسليم. أي في يد البائع قبل
أن يتسلمه المشتري، وفي عقد الإجارة في حالة طروء أعذار من جانب المؤجر أو
المستأجر أو العين المؤجرة عند الحنفية، كلحوق دين فادح بالمؤجر لا سبيل
لوفائه إلا ببيع المأجور وأداء الدين من ثمنه، وإفلاس المستأجر، أو انتقاله
من حرفة إلى حرفة، وهجرة أهل القرية بعد استئجار حمام في قرية ليستغله
المنتفع المستأجر.
5ً
ـ لانتهاء مدة العقد أو تحقيق غرضه:
ينفسخ العقد من نفسه وينتهي بانتهاء مدته أو بتحقيق الغرض المقصود من
العقد، وذلك كانتهاء مدة عقد الإيجار المعينة، وسداد الدين في عقدي الرهن
والكفالة، وتنفيذ الوكيل المهمة الموكل بها.
_________
(1) رواه البيهقي عن أبي هريرة، ورواه أيضاً ابن ماجه وابن حبان في صحيحه
والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين (نصب الراية: 30/ 4).
(4/3133)
انتهاء العقد بالموت:
تنتهي طائفة من العقود بموت أحد العاقدين، منها نماذج مما يأتي:
1 - الإجارة: تنتهي الإجارة عند الحنفية
(1) بموت أحد العاقدين، بالرغم من أنها عقد لازم من الطرفين، أي أن العقد
ينفسخ من نفسه بالموت.
وقال غير الحنفية (2): لا تنتهي الإجارة أو لا تنفسخ بموت أحد العاقدين.
وسبب الخلاف راجع لتصور كيفية انعقاد الإجارة، فعند الحنفية: تنعقد الإجارة
في المنافع بحسب حدوثها شيئاً فشيئاً، أي أن المستأجر يتملك المنفعة
تدريجياً مع مضي المدة، فما يحدث من منفعة بعد موت المالك لا يكون مملوكاً
له، فلا يصح بقاء العقد عليه. وعند غير الحنفية: تعتبر المنفعة كأنها
موجودة حال العقد، ويتملك المستأجر المنافع بالعقد دفعة واحدة ملكاً
لازماً، فيورث عنه، كما يورث الشيء المبيع، فتكون الإجارة كالبيع لا يبطل
بموت أحد العاقدين. وهذا ما أخذ به القانون المدني السوري في المادة (568).
2 - الرهن والكفالة: هما من العقود
اللازمة من جانب واحد هو الدائن المرتهن أو المكفول له. فإذا مات الراهن
بيع الرهن بواسطة وصيه وقضي منه دينه إن كان ورثته صغاراً. فإن كانوا
كباراً خلفوا الميت في المال، وكان عليهم تخليص الرهن بقضاء الدين (3).
وأما الكفالة: فإذا كانت كفالة بالدين فلا تنتهي بموت المدين الأصيل، وإنما
تنتهي بأحد أمرين: أداء الدين إلى الدائن، أو الإبراء من
_________
(1) البدائع: 201/ 4، 222، تبيين الحقائق: 144/ 5، تكملة فتح القدير: 220/
7.
(2) بداية المجتهد: 227/ 2، الشرح الكبير للدردير: 30/ 4، المهدب: 406/ 1،
المغني: 456/ 5.
(3) الدر المختار: 369/ 5، ط الحلبي.
(4/3134)
الدين. وإذا مات الكفيل يؤخذ الدين من
تركته. وإن كانت كفالة بالنفس فتنتهي بموت الأصيل المكفول بنفسه، وبموت
الكفيل، للعجز عن إحضار المكفول عنه (1).
3 - الشركة والوكالة: هما من العقود غير
اللازمة من الجانبين. وينتهيان بالموت، فالشركة تنفسخ بموت أحد الشريكين،
سواء علم الآخر بالموت أم لم يعلم (2). وكذلك الوكالة تنفسخ بموت الوكيل أو
الموكل، سواء علم الطرف الآخر بموت صاحبه أم لم يعلم (3).
4 - المزارعة والمساقاة (4): عقدان غير
لازمين من الجانبين، لم يجزهما أبو حنيفة، وأجاز الشافعية المساقاة،
والمزارعة تبعاً للمساقاة، وأجازهما المالكية بشروط منها المساواة بين
المالك والعامل في الربح.
وأجازهما الحنابلة والصاحبان مطلقاً. وعلى هذا الرأي ينفسخ العقد بموت صاحب
الأرض أو العامل (المزارع أوالمساقي)، سواء قبل العمل والزراعة أم بعدهما،
وسواء أكان الزرع أو الثمر قد آن حصاده وجنيه أم لا (5). لكن إذا مات صاحب
الأرض قبل نضج الزرع تترك الأرض بيد المزارع إلى الحصاد مراعاة لمصلحة
الطرفين. وإذا مات العامل فلورثته المضي في العمل إلى الحصاد.
_________
(1) البدائع: 11/ 6 ومابعدها، 13، الدر المختار: 261/ 4، 285.
(2) البدائع: 78/ 6، المبسوط: 212/ 11، فتح القدير: 34/ 5.
(3) البدائع: 38/ 6، تكملة فتح القدير والعناية: 126/ 6 ومابعدها، المبسوط:
13/ 19.
(4) المزارعة: عقد على زرع الأرض بنسبة معين شائعة من المحصول. والمساقاة:
عقد على العناية بأشجار الفاكهة بنسبة معلومة شائعة من الناتج.
(5) البدائع: 185/ 6، الهداية: 45/ 4، 48، ط الخيرية، غاية المنتهى: 184/
2.
(4/3135)
انتهاء العقد بعدم
إجازة الموقوف:
ينتهي العقد الموقوف إذا لم يجزه صاحب الشأن، كما بان في بحث عقد الفضولي
ولا تصح الإجازة كما عرفنا إذا مات الفضولي أو من تعاقد معه، فينتهي العقد
حينئذ قبل الإجازة. وللفضولي نفسه فسخ العقد قبل الإجازة دفعاً للعهدة عن
نفسه (1).
_________
(1) البدائع: 148/ 5، 151.
(4/3136)
|