الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

القِسْمُ الخامِس: الفقهُ العَّام (1)
يشتمل على ستة أبواب وهي ما يأتي:

الباب الأول - الحدود الشرعية الباب الثاني - التعزير
الباب الثالث - الجنايات وعقوباتها: القصاص والديات
الباب الرابع - الجهاد وتوابعه
الباب الخامس - القضاء وطرق إثبات الحق
الباب السادس - نظام الحكم في الإسلام
_________
(1) يراد بالفقه العام: ماله صلة بالدولة إما بممارسة السلطة العامة على مواطنيها كالقضاء، وإما بمباشرة علاقاتها الدولية مع الدول الأخرى أو مع غير المسلمين في دار الإسلام، ويقابله «الفقه الخاص» الشامل علاقات الأفراد فيما بينهم أو بينهم وبين الله عز وجل.

(7/5267)


البَاب الأول: الحدود الشّرعيّة
يشتمل هذا الباب على تمهيد وستة فصول وهي مايأتي:
الفصل الأول - حد الزنا
الفصل الثاني - حد القذف
الفصل الثالث - حد السرقة
الفصل الرابع - حد الحرابة
الفصل الخامس - حد الشُّرْب وحد السُّكْر
الفصل السادس - حد الردة

(7/5269)


تمهيد
هدفنا: كلما نقب الإنسان في آفاق الفقه وكتب الفقهاء المسلمين، ازداد إيماناً بخلود شريعة الإسلام في تنظيم الحياة، وسلامة الفكر الإسلامي، وعبقرية الفقهاء، وعظمة الفقه، الذي لا تقتصر أحكامه على الدليل النقلي من القرآن والسنة فحسب، وإنما تتغلغل في أعماق الوجدان والعقل الإنساني لتجد لها ما يؤيدها ويدعمها حتى اليوم، ويساندها من أجل التطبيق العملي، ويشد أزرها للنهوض من جديد في حكم العلاقات الاجتماعية والمعاملات المتكررة يومياً بين الأفراد، وفي العلاقات الدولية أيضاً.
والهدف من الأخذ بأحكام الإسلام هو إقامة مجتمع إسلامي عزيز كريم نظيف آمن مطمئن، لا محل فيه لإعطاء الدنية أو الاستسلام للعدو، ولا قرار فيه للجريمة والفوضى، ولا اعتبار للشذوذ والانحراف، والفساد أو المنكر والمعصية، وذلك بقدر الإمكان، وضمن مبادئ الإسلام التي من أهمها مبدأ الستر على المعصية الخفية غير المعلنة، ومبدأ درء الحدود ـ لا التعزيرات ـ بالشبهات.
ومما يشدنا إلى إسلامنا بحق أن الناس جربوا في عصرنا المستورد من القوانين والأنظمة، والأفكار والثقافات والمعارف المتعددة، المصطبغة كلها بصبغة مادية ضيقة أو بحتة، وآب الواعون في النهاية إلى حظيرة الإسلام ليجدوا فيه الحل الأفضل، بعد أن أفلست البضاعة المستوردة، في تقدم الفرد والجماعة، وانكشف طلاؤها المزيف بزيف الحضارة، التي أخذنا منها الساقط الحقير، وتركنا الجوهر أو النافع المفيد، فنقم الناس على تلك الأنظمة والثقافات، لما أدت إليه من إفساد

(7/5271)


الضمائر والأفكار، وزرع الشك وعدم الثقة بالنفس، واهتزاز القيم والفضائل والأخلاق، ولم تفلح في النهاية إلا في إبقائنا ضعفاء عالة على الغير، مجهولي الهوية، ليست لنا ذاتية مستقلة، إسلاماً أو عروبة، شرقاً أو غرباً.
وبدافع قوي من الشعور أو اللاشعور اتجه المجتمع إلى الإسلام ـ طريق الخلاص، ولكنهم ظلوا في فلك العبادات وحدها يعملون، فأصبحت نظم الحياة في جانب، والعبادة في جانب، فصاروا في ازدواجية وترنح وتناقض، وحيرة وملل، واضطراب جديد أقل سوءاً من البعد النهائي عن الإسلام.
ولا نجاة من تلك الازدواجية إلا بتطبيق كامل لشرعة الله في المعاملات والجنايات والحدود وغيرها، وتغيير القوانين الوضعية. وبالفعل برقت آمال في اتجاهات صادقة نحو قوانين الشريعة في دنيا العرب والإسلام لتطهير المجتمع من الرذيلة والانحراف، وإثبات الذات، ومعالجة شؤون الحياة بفكر الإسلام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعسكري، ولتحطيم قيود الذل والهوان، ودحر العدوان بمختلف أشكاله، ومحاربة الاستغلال بكل أصنافه، والاعتماد على النفس، وجمع المسلمين تحت راية القرآن، وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، والإفادة من فقه الشريعة الذي لا يخرج عن هذين المصدرين.
وأحسَّ كل مسلم أن سبيل العزة، ورد العدوان، وتخليص الأراضي والحقوق المغتصبة، هو بالانضمام تحت راية الجهاد المقدس لإعلاء كلمة الله تعالى، على النحو الذي وُجد به العدو، وجمَّع قواته، وقاتلنا تحت شعار مذهبه العنصري البغيض.
ومعرفة أحكام العقود، كما بان سابقاً، وتنظيم الجهاد في الفقه، وتفصيل الكلام عن الحدود والجنايات، والقضاء الإسلامي العادل، ومبادئ الحكم

(7/5272)


الإسلامي، فرع من تلك الدوحة العظيمة والثروة الكبرى لفقهنا الذي له من المكانة العالية عند كل رجال التشريع والفقه والقضاء في العالم.
ومع الأسف الشديد وصف بعض الجاهلين هذا الفقه الخصب بأنه «مجرد ركام» تأثراً منهم بحب الغرب، وشعوراً منهم بالنقص، وعدم الثقة بالنفس، وجهلاً فاضحاً بما تتطلبه الحياة من فرضيات واحتمالات كثيرة موجودة في ظل تطبيق القوانين الحالية، ويحلو لهم بعدها التطفل على موائد الغرب، وترديد ما قال (المسيو فلان والمستر فلان) متجاهلين أو تاركين عمداً ما قاله شيوخ الإسلام العظام، الذين ما زالت أفكارهم ونظرياتهم وجهودهم مرقى العظماء، ومطمح العلماء، ومأوى الفلاسفة والمفكرين.
فإلى فقه الإسلام يا جيلنا، وإلى ثروته الخصبة، وإلى ينابيعه العذبة لتغترف منها ما تراه مناسباً لعصرك، فالله يسَّر لك الطريق باختيار السمح السهل من الأحكام، وزودك باليقين الصادق والعقل الناضج والحس المرهف لأخذ الصالح، وكشف الحق في مهاده، وقمع الباطل في وهاده. وحينئذ تعلم أن رفع راية الإسلام تتطلب تهيئة أرضية صلبة لها، من الواقع العملي المتمثل بالفقه الإسلامي، والفكر الإسلامي، والدعوة الإسلامية البناءة؛ لأن الدعوة ليست مجرد عاطفة تؤجج، أو هيكل فارغ المضمون والمحتوى والمنهج. وإعداد هذه الأرضية إنما هو من أجل ضمان بقاء هذه الدعوة، حتى لا تهتز أمام تحرك العواصف الهوجاء، أو تدابير الأعداء.
ففي فقه الإسلام بكل مذاهبه إذن دليل على صلاحية الإسلام للتطبيق في كل عصر، وطريق لتحقيق تماسك الشخصية الإسلامية، فهو عامل بناء وتجميع وتوحيد لا تفريق وتمزيق كما يرى السطحيون، وأما اختلاف الفقهاء فليس إلا في

(7/5273)


الفروع والجزئيات الاجتهادية لا في الأصول والغايات، لكن ما أشد الحاجة حينئذ لعرض الفقه بأسلوب سهل حديث مدعم بالدليل الصحيح، لموازنة الآراء الفقهية، وتعرف سبل الترجيح بينها، أو اختيار الأصلح المناسب للزمن منها.
وهذا ما حاولت فعله في إعداد هذا الكتاب، بعد بذل جهود ـ الله أعلم بها ـ لتحقيق كل رأي فقهي، ومعرفة حكم كل مسألة في متاهات الكتب القديمة، رجاء تحقيق النفع به والإفادة منه.

تعريف الحد:
الحد في اللغة: المنع، ولذا سمي البواب حداداً لمنعه الناس عند الدخول، وسميت العقوبات حدوداً، لكونها مانعة من ارتكاب أسبابها، وحدود الله: محارمه؛ لأنها ممنوعة، بدليل قوله تعالى: {تلك حدود الله فلا تقربوها} [البقرة:187/ 2] وحدود الله أيضاً: أحكامه أي ما حده وقدره، فلا يجوز أن يتعداه الإنسان، وسميت حدوداً؛ لأنها تمنع عن التخطي إلى ما وراءها، بدليل قوله تعالى: {تلك حدود الله فلا تعتدوها} [البقرة:229/ 2].
والحد في الشرع في اصطلاح الحنفية: عقوبة مقدرة واجبة حقاً لله تعالى، فلا يسمى التعزير حداً؛ لأنه ليس بمقدر، ولا يسمى القصاص أيضاً حداً؛ لأنه وإن كان مقدراً، لكنه حق العباد، فيجري فيه العفو والصلح، وسميت هذه العقوبات حدوداً؛ لأنها تمنع من الوقوع في مثل الذنب.
والمراد من كونها حقاً لله تعالى: أنها شرعت لصيانة الأعراض والأنساب والأموال والعقول والأنفس عن التعرض لها (1). غير أن بعض هذه الحدود كحد
_________
(1) المبسوط للسرخسي: 9 ص 36، فتح القدير: 4 ص 112، البدائع: 7 ص 33، تبيين الحقائق للزيلعي: 3 ص 163، حاشية ابن عابدين: 3 ص 154، مغني المحتاج: 4 ص155.

(7/5274)


الزنا وشرب الخمر حق خالص لله تعالى، أي حق للمجتمع، وبعضها الآخر مثل حد القذف فيه حق لله، وحق للعبد، أي أنه يشترك فيه الحق الشخصي والحق العام (1).
والحد في اصطلاح الجمهور غير الحنفية: عقوبة مقدرة شرعاً، سواء أكانت حقاً لله أم للعبد.

والحدود أنواع: حد الزنا وحد القذف وحد السرقة وحد الحرابة أو قطع الطريق وحد شرب الخمر ونحوه، قال الحنفية: الحدود خمسة: وهي حد السرقة وحد الزنا وحد الشرب وحد السُكْر وحد القذف (2). أما قطع الطريق فهو داخل تحت مفهوم السرقة بالمعنى الأعم، ويضاف إليها لدى غير الحنفية حدان آخران وهما حد القصاص وحد الردة، فيصبح مجموع الحدود سبعة في رأي هؤلاء باعتبار أن الحد هو عقوبة مقدرة حدها الله تعالى وقدرها، فلا يجوز لأحد أن يتجاوزها، وباعتبار أن الحد يشمل في الأصح ما كان من حقوق الله تعالى، وما كان من حقوق الناس، ومنها القصاص.
وعلى هذا يكون لدينا اصطلاحان في الحدود:
أولهما ـ مذهب الحنفية المشهور: وهو تخصيص الحد بالعقوبة المقدرة المقررة حقاً لله تعالى، أي لصالح الجماعة، وهي خمسة أنواع ذكرتها، بإدخال حد الحرابة في حد السرقة، والتفرقة بين حد الخمر (ماء العنب النيء المتخمر) وحد السكر للأشربة المسكرة المتخذة من غير العنب كالشعير والذرة والعسل ونحوها.
وثانيهما ـ مذهب الجمهور غير الحنفية: وهو إطلاق لفظ الحد على كل عقوبة
_________
(1) الجريمة والعقوبة لأستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة: ص 64 ومابعدها.
(2) البدائع، المرجع السابق.

(7/5275)


مقدرة، سواء أكانت مقررة رعاية لحق الله تعالى أم لحق الأفراد، وهي سبعة أنواع، منها القصاص وحد الردة. وسأذكر هذه الأنواع السبعة مبيناً أن جرائم الحدود ثمانية: وهي الزنا، والقذف، وشرب المسكر، والسرقة، والحرابة، والبغي، والردة، والقتل العمد الموجب للقصاص، على أساس أن عقوباتها جميعاً مقدرة شرعاً. وقال ابن جزي المالكي (1): الجنايات أي الجرائم الموجبة للعقوبة ثلاث عشرة وهي: القتل والجرح، والزنى، والقذف، وشرب الخمر، والبغي، والحرابة، والردة، والزندقة، وسب الله، وسب الأنبياء والملائكة، وعمل السحر، وترك الصلاة والصيام.
ويلاحظ أن الجناية هي الجريمة في اصطلاح الفقه الإسلامي. قال الماوردي (2): الجرائم محظورات شرعية زجر الله تعالى عنها بحد أو تعزير، كما يلاحظ أن عقوبة الزندقة والمذكور بعدها هنا هي القتل، كعقوبة الردة. وقد أفردت الجنايات ببحث مستقل؛ لأن الكلام عنها لدى فقهائنا لا يقتصر على ما يوجب القصاص الذي هو حدٌ عند الجمهور، وإنما يشمل بحث الديات والاعتداء على الحيوان، وكيفية التعويض عن الأضرار الناجمة من سقوط الحائط أو البناء، وطرق إثبات الجناية.

الحكمة من تشريع الحدود:
إن الحكمة من هذه الحدود أو العقوبات: هي زجر الناس وردعهم عن اقتراف تلك الجرائم، وصيانة المجتمع عن الفساد، والتطهر من الذنوب، قال ابن تيمية: «من رحمة الله سبحانه وتعالى أن شرع العقوبات في الجنايات الواقعة بين
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 344، ط فاس.
(2) الأحكام السلطانية: ص 211.

(7/5276)


الناس بعضهم على بعض في النفوس والأبدان والأعراض والأموال والقتل والجراح والقذف والسرقة، فأحكم سبحانه وتعالى وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجنايات غاية الإحكام، وشرعها على أكمل الوجوه المتضمنة لمصلحة الردع والزجر، مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني من الردع، فلم يشرع في الكذب قطع اللسان ولا القتل، ولا في الزنا الخصاء، ولا في السرقة إعدام النفس، وإنما شرع لهم في ذلك ما هو موجب أسمائه وصفاته من حكمته ورحمته، ولطفه وإحسانه وعدله، لتزول النوائب وتنقطع الأطماع عن التظالم والعدوان، ويقتنع كل إنسان بما آتاه مالكه وخالقه، فلا يطمع في استلاب غيره حقه» (1).

وتطبيق الحدود يتطلب أموراً أربعة: أولها ـ الإيمان بالإسلام عقيدة وشريعة ومنهاجاً.
وثانيها ـ تطبيق شريعة الله في جميع أحكامها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وثالثها ـ الإدراك العقلي والتجريبي بفائدة الحدود.
ورابعها ـ الحرص على مصلحة الجماعة وتفضيلها على مصلحة الفرد.

هل في قطع اليد تعذيب وقسوة وتنكيل؟ إن في تطبيق عقوبة القطع زجراً مناسباً للمجرم ولأمثاله في المجتمع، فهو رحمة بالناس عامة، وقد جاء في المذكرة الإيضاحية لقانون حدي السرقة والحرابة رقم 148 لسنة 1972م الصادر في ليبيا ما يأتي: ولقد يحلو لبعض المرتابين والمتشككين أن يصفوا عقوبة القطع (أي في حدي السرقة والحرابة) بأنها لا تتفق مع المدنية والتقدم، ويرمونها بالعنف والغلظة. وهؤلاء يركزون النظر على شدة العقوبة ويتناسون فظاعة الجريمة وآثارها الخطيرة على المجتمع، إنهم يتباكون على يد سارق أثيم تقطع، ولا تهولهم جريمة
_________
(1) راجع رسالته في القياس: ص 85، والسياسة الشرعية له: ص 98، وانظر مثل ذلك في قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام: 163/ 1 - 165 ومثله أيضاً قول ابن القيم في أعلام الموقعين: 95/ 2، 107 وما بعدها.

(7/5277)


السرقة ومضاعفاتها الخطيرة، كم من جرائم ارتكبت في سبيل السرقة، كم من جرائم اعتداء على الأشخاص وإحداث عاهات جسام وقعت على الأبرياء بسبب السرقة، كم من أموال اغتصبت وثروات سلبت وأناس تشردوا بسبب السطو على أموالهم ومصدر رزقهم، كل ذلك لا يخطر ببال المشفقين على أيد قليلة في سبيل أمن المجموع واستقراره، فيكون الهدف من إقامة الحدود توفير سلامة المجتمع وتحقيق أمنه واستقراره ومنع كل ما يهدد المصالح الكبرى للأمة.
ألا يتساءل هؤلاء، أيهما أهون على المجتمع: أن تقطع يد أو يدان في كل عام، وتختفي السرقة، ولا تكاد تقطع يد بعد ذلك، ويعيش الناس مطمئنين على أموالهم وأنفسهم، أم يحبس ويسجن ويحكم بالأشغال الشاقة المؤقتة والمؤبدة في جريمة السرقة وحدها، في أغلب الدول، عشرات الآلاف كل عام، ثم لا تنقضي السرقة، بل تزداد وتتنوع وتستفحل، فما زلنا نسمع عن مصارف بأسرها تسرق، وقطارات تنهب في وضح النهار، وخزائن تسلب، وجرائم على الأموال تصحبها جرائم على الأشخاص والأعراض لا تقع تحت حصر، ولا يكاد يلاحقها علم ولا فن ولا سلطة.
ثم إن الجرائم الخطيرة لا يفلح في صدها ومقاومة أخطارها إلا عقوبات شديدة فعالة، فاسم العقوبة مشتق من العقاب، ولا يكون العقاب عقاباً إذا كان موسوماً بالرخاوة والضعف. والعقاب الناجح هو ذلك الذي ينتصر على الجريمة، وليس ذلك الذي تنتصر عليه الجريمة. ثم إن المشرعين الوضعيين لم يستغلظوا عقوبة الإعدام بالنسبة إلى بعض الجرائم الخطيرة، وما من شك في أن هذه العقوبة أشد من عقوبة القطع في السرقة والحرابة، فالعبرة إذن بالعقوبة المناسبة والفعالة في مقاومة الجريمة.

(7/5278)


والحقيقة التي لا مراء فيها أن قطع يد سارق أو عدو معدود من السراق أهون كثيراً من ترك السرقة ترتع في المجتمع تروع الآمنين بما تفضي إليه من العديد من الجرائم والمنكرات.
ولقد أثبت التاريخ أن المجتمع الإسلامي عندما طبق الحدود، عاش آمناً مطمئناً على أمواله وأعراضه ونظامه، حتى إن المجرم نفسه كان يسعى لإقامة الحد عليه، رغبة في تطهير نفسه، والتكفير عن ذنبه. وقد كانت الحجاز ـ بل وسائر الجزيرة العربية ـ مرتعاً خصباً لأشنع جرائم السرقة وقطع الطريق، حتى على حجاج بيت الله الحرام رجالاً ونساء، فلم يكن يعود إلى بلده منهم إلا النزر اليسير. فما أن طبقت الحجاز ـ أي الدولة السعودية ـ هذين الحدين حتى استتب الأمن وانقطعت السرقات، وانهارت عصابات قطع الطريق، حتى أصبحت البلاد مضرب المثل المستغرب في انقطاع دابر جريمتي السرقة وقطع الطريق، بالرغم من أن ما قطع من الأيدي منذ تطبيق الحدود لا يمثل إلا عدداً ضئيلاً جداً لا يوازي ما كان يقطعه قطاع الطريق من رقاب الأبرياء في هجمة واحدة. ويذكر أن عدد الأيدي التي قطعت في المملكة السعودية ستة عشر يداً خلال أربعة وعشرين عاماً.
ومما تقدم جميعه يتضح أن القسوة التي تتسم بها عقوبة القطع في السرقة والحرابة، هي في الواقع رحمة عامة بالمجتمع في مجموعه حتى يتخلص من شرور هاتين الجريمتين، وأخطارهما الوبيلة، فإن التضحية بعدد محدود جداً من الأيدي والأرجل بالنسبة لأناس آثمين خارجين على حكم الله، أهون كثيراً من ترك الجريمة تفتك بآلاف الأبرياء في أرواحهم وأبدانهم وثرواتهم.
بل إن شدة العقوبة ذاتها رحمة بمن توسوس لهم أنفسهم بالإجرام حيث تمنعهم تلك الشدة من الإقدام على الجريمة، فتحول بينهم وبين التردي في مهاوي

(7/5279)


الإجرام، فهي شدة في نطاق محدود، تفضي إلى رحمة واسعة شاملة بالنسبة إلى المجتمع الواسع العريض، كيف لا، وشريعة الإسلام هي شريعة الرحمة، أليس الله هو القائل: {كتب ربكم على نفسه الرحمة} [الأنعام:54/ 6] وهو الرحمن الرحيم حيث نذكر الله في كل وقت وحين. والرسول يقول: «الراحمون يرحمهم الرحمن» (1)، بل أمرنا بالشفقة على الحيوان. وشريعة هذا شأنها لا يمكن أن تحمل أحكامها في الحدود على محمل الشدة والقسوة، وإنما هي رحمة بالناس في مجموعهم. والنظر إلى أثر الحدود على القلة التي تتعرض لها دون نظر إلى أثرها في المجتمع ككل، هو نظر مقلوب ومعكوس. ويكاد أن يكون نظراً مغرضاً ومريباً؛ لأن العبرة بمصلحة الناس في مجموعهم، وليست بمصلحة مجرمين ثبت جرمهم، ولم يدرأ عنهم الحد شبهة.
ومع ذلك فلا يغرب عن البال أن الإسلام حريص كل الحرص على ألا يقام الحد، إلا حيث يتبين على وجه اليقين ثبوت ارتكاب الجرم، وذلك بتشدده في وسائل الإثبات. ثم إنه بعدئذ يدرأ الحد بالشبهات، كل هذا تفادياً لتوقيع الحدود إلا في حالات استثنائية محضة، ويكفي توقيعها في هاتيك الحالات حتى يتحقق أثرها الفعال في منع الجريمة وتضييق الخناق عليها إلى أقصى حد ممكن. بل إن تطبيق بعض الحدود كالجلد ـ بأصوله الشرعية ـ أحب إلى كثير من العصاة من الحبس في غياهب السجون مدة من الزمن، قلت أم كثرت. وأما الرجم فهو مجرد قتل بوسيلة إعلامية زاجرة تمثل انتقام المجتمع ممن سطا على الأعراض.
ومما يجب الانتباه له أن الإسلام قبل تشريع الحدود، شرع تشريعات واقية من
_________
(1) رواه أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو بلفظ «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، والرحمة شجنة من الرحمن، فمن وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله» وشجنة: عروق الشجر المشتبكة.

(7/5280)


الوقوع في الجريمة، فأمر بالستر والحجاب ونهى عن الاختلاط والخلوة بالمرأة، وأمر بالتبكير في الزواج، ومنع كل وسائل الإغراء والفتنة، ووفر للإنسان حاجياته بتهيئة فرص العمل، وتكافل المجتمع عند العجز والتعطل ورغّب في العمل، وجعل التكافل سبيلاً للتوجه نحو العمل والإنتاج، لا الإبقاء في دائرة العوز والكسل والاعتماد على الآخرين.

الفرق بين الحدود والتعازير:
ذكر القرافي المالكي عشرة فروق بين الحدود والتعازير وهي ما يأتي (1):

1ً - التقدير: إن عقوبات الحدود والقصاص مقدرة مقدماً في الشرع للجرائم الموجبة لها، وليس للقاضي تقدير العقوبة بحسب ظروف المجرم أو ظروف الجريمة. أما عقوبات التعزير فمفوض تقديرها إلى القاضي، يختار العقوبة المناسبة بحسب ظروف المتهم وشخصيته وسوابقه ودرجة تأثره بالعقوبة، ودرجة ظروف الجريمة وأثرها في المجتمع.
لكن يلاحظ أن إعطاء هذه السلطة التقديرية للقاضي في التعزير مقيد بضوابط أهمها اختيار ما يراه مناسباً من العقوبات المشروعة في التعزير، للحالات التي تعرض عليه، وتعتبر من المعاصي. فضلاً عن أن القاضي المسلم يجب أن يكون في غاية العدالة والورع، وينبغي أن يكون عند المالكية والشافعية والحنابلة بالغاً رتبة الاجتهاد. وبه يتبين أن سلطته ليست تحكمية لا ضابط لها، أو ليس فيها ضمانات للمتهمين، أو أن المتهم قد يضار بها، حتى بخطأ القاضي أو بجهله، إن لم يكن بميله وظلمه (2). ومع ذلك فلا بأس بتقنين العقوبات واعتماد الدولة نظاماً
_________
(1) الفروق: 177/ 4 - 183.
(2) رسالة التعزير للدكتور عبد العزيز عامر: ص 50.

(7/5281)


محدداً للجرائم والعقوبات التعزيرية، فإن أصل التفويض في تقدير التعزير هو للإمام أي رئيس الدولة إذا كان مجتهداً، وتصدى للقضاء، فإذا ناب عنه قضاة متخصصون، تقيدوا بما يقيدهم به من أنظمة وقواعد.
هذا وقد اتفق الفقهاء على عدم تحديد أقل التعزير، ولكنهم اختلفوا في تحديد أكثره، فقال المالكية: هو غير محدود، بدليل إجماع الصحابة على أن معن بن زائدة (1) زوركتاباً على عمر رضي الله عنه، ونقش خاتماً مثل خاتمه، فجلده مئة، فشفع فيه قوم، فقال: أذكروني الطعن، وكنت ناسياً، فجلده مئة أخرى، ثم جلده بعد ذلك مئة أخرى، ولأن الأصل مساواة العقوبات للجنايات، ولأن الخليفة عمر ابن عبد العزيز رحمه الله قال: تحدث للناس أقضية على قدر ما أحدثوا من الفجور.
وقال أبو حنيفة: لا يجاوز بالتعزير أقل الحدود، وهو أربعون جلدة (حد العبد في الخمر والقذف) بل ينقص منه سوط واحد.
وللشافعي قولان: أصحهما كرأي أبي حنيفة. وسأوضحه في بحثه أيضاً، ودليلهم خبر في الصحيحين: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لا تجلدوا فوق عشر، في غير حدود الله تعالى» (2) وقد أجيب عن هذا الحديث بسبب تقرير هؤلاء الفقهاء الزيادة على عشرة أسواط بأنه محمول على التأديب للمصالح، الصادر من غير الولاة كالسيد يضرب عبده، والزوج يضرب زوجته، والأب يضرب ولده. أو أن المراد به جلد غير المكلفين كالصبيان والمجانين والبهائم.
_________
(1) يظهر أنه معن بن أوس، وهو غير معن المشهور بحلمه، وهوغير صحابي أيضاً.
(2) رواه الجماعة إلا النسائي عن أبي بردة بلفظ: «لا يجلد فوق عشرة أسواط، إلا في حد من حدود الله تعالى» (نيل الأوطار: 149/ 7).

(7/5282)


وقال الحنابلة (1): لا يبلغ بتعزير الحر أدنى حدوده، إلا فيما سببه الوطء، فيجوز أن يبلغ بالتعزير عليه في حق الحر مئة جلدة بدون نفي. وقيل: لا يبلغ المئة، بل ينقص منه سوطاً، ويجوز النقص منه على ما يراه السلطان.

2 ً - وجوب التنفيذ: الحدود، والقصاص إذا لم يكن عفو من ولي الدم واجبة التنفيذ على ولاة الأمر، فليس فيها عفو ولا إبراء ولا شفاعة ولا إسقاط لأي سبب من الأسباب.
وأما التعزير فمختلف فيه، فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد (الجمهور): إن كان التعزير لحق الله تعالى وجب تنفيذه كالحدود، إلا أن يغلب على ظن الإمام أن غير الضرب من الملامة والكلام يحقق المصلحة، أي أن التعزير، إذا كان من حق الله تعالى، لا يجوز للإمام تركه، لكن يجوز فيه العفو والشفاعة إن رئيت في ذلك المصلحة، أو كان الجاني قد انزجر بدونه.
أما التعزير الذي يجب حقاً للأفراد، فإن لصاحب الحق فيه أن يتركه بالعفو أو بغيره، وهو يتوقف على رفع الدعوى إلى القضاء، لكن إذا طلبه صاحبه لا يكون لولي الأمر فيه عفو ولا شفاعة ولا إسقاط.
وقال الشافعي: التعزير غير واجب على الإمام، إن شاء أقامه، وإن شاء تركه، بدليل ما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يعزر الأنصاري الذي قال له في حق الزبير في أمر السقي: أن كان ابن عمتك؟! يعني فسامحته (2)، ولأن
_________
(1) القواعد لابن رجب: ص 311، المغني: 324/ 8.
(2) راجع نيل الأوطار: 307/ 5، أعلام الموقعين: 99/ 2، جامع الأصول: 565/ 9، والحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن عبد الله بن الزبير.

(7/5283)


التعزير غير مقدر، فلا يجب كضرب الأب والمعلم والزوج (1).
وأساس الخلاف بين الحدود والتعازير في هذا: أن الحدود خالصة لله تعالى، وأن القصاص من حق الأفراد، فيجوز لهم العفو عنه، وأن التعزير منه ما هو من حق الله تعالى، ومنه ما هو من حق الأفراد.

3ً - الاتفاق مع الأصل أو القاعدة العامة: إن التعزير موافق الأصل أو القاعدة العامة التي تقرر ضرورة اختلاف العقوبة باختلاف الجريمة. أما الحدود فلا تختلف باختلاف جسامة الجريمة، بدليل تسوية الشرع في السرقة بين سرقة القليل كدينار، وسرقة الكثير كألف دينار، وفي شرب الخمر سوَّى الشرع في الحد بين شارب القطرة، وشارب الجرة مثلاً. وفي القصاص سوى بين قتل الرجل العالم الصالح التقي الشجاع البطل وقتل الوضيع، وهكذا.
4ً - وصف الجريمة بالمعصية وعدمها: إن التعزير تأديب يتبع المفاسد، وقد لا يصحبها العصيان في كثير من الصور كتأديب الصبيان والبهائم والمجانين استصلاحاً لهم، مع عدم المعصية.
أما الحدود المقدرة فلم توجد في الشرع إلا في معصية، عملاً بالاستقراء.

5ً - سقوط العقوبة: إن التعزير قد يسقط، وإن قلنا بوجوبه، كما إذا كان الجاني من الصبيان، أوا لمكلفين إذا جنى جناية حقيرة، لا تحقق العقوبة فيها المقصود، لعدم كون العقوبة الخفيفة رادعة، ولعدم إيجاب العقوبة الشديدة، أما الحد فلا يسقط بعد وجوبه بأي حال.
_________
(1) ورد على الاستدلال بالحديث بأن التعزير حق لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فله تركه، بخلاف حق الله تعالى لايجوز تركه، وكذلك رد على الاستدلال بأنه غير مقدر: بأن غيرالمقدر قد يجب كنفقات الزوجات والأقارب ونصيب الإنسان في بيت المال.

(7/5284)


6ً - أثر التوبة: إن التعزير يسقط بالتوبة، دون أن يعلم فيه خلاف. أما الحد كما سأبين فلايسقط بالتوبة على الصحيح عند جمهور العلماء غيرالحنابلة، إلا الحرابة لقوله تعالى: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} [المائدة:34/ 5].
7ً - التخيير: التخيير يدخل في التعازير مطلقاً، ولا يدخل في الحدود، إلا في الحرابة.
8ً - مراعاة الظروف المخففة: إن التعزير يختلف باختلاف الفاعل والمفعول معه، والجناية، أي أنه يختلف باختلاف الأشخاص والجريمة، فلا بد في عقوبة التعزير من اعتبار مقدار الجناية والجاني والمجني عليه. أما الحدود فلا تختلف باختلاف فاعلها، وليس للظروف المخففة أي أثر على جرائم الحدود والقصاص. ويلاحظ أن هذا متمم للفرق الأول.
9ً - مراعاة مكان الجريمة وزمانها: إن التعزير يختلف باختلاف الأعصار والأمصار، فرب تعزير في بلاد يكون إكراماً في بلد آخر.
10ً - حق الله وحق العبد: يتنوع التعزير نوعين: فمنه ما هو مقرر، رعاية لحق الله تعالى، كالاعتداء على الصحابة أو القرآن ونحوه من انتهاك الحرمات الدينية. ومنه ما هو مقرر رعاية لحق العبد، أي الحق الشخصي، كشتم فلان وضربه ونحوه.
أما الحدود فكلها عند أئمة المذاهب حق لله تعالى، إلا القذف ففيه خلاف، كما سيأتي بيانه. ومن الفروق عند الشافعي بين الحد والتعزير: أن ما يحدث عن الحد من التلف هدر، لكن إن حصل تلف من التعزير فإنه يوجب الضمان بدليل فعل عمر حينما استدعى امرأة حاملاً فخافت منه فألقت جنيناً ميتاً، فشاور علياً في

(7/5285)


الأمر فألزمه بدية الجنين، قيل: على عاقلة ولي الأمر. وقيل: إنها تكون في بيت المال.
وأما عند أبي حنيفة ومالك وأحمد، فلا ضمان مطلقاً، فمن حده الإمام أو عزره فمات من ذلك، فدمه هدر؛ لأن الإمام في الحالتين مأمور بالحد والتعزير، وفعل المأمور لا يتقيد بشرط السلامة (1).

السياسة العقابية في الإسلام وأثرها الإصلاحي في المجتمع تمهيد:
إن نظام الشريعة في تبيان الحرام والمحظور، وفي الحملة الشديدة على مرتكبي المنكرات والفواحش في القرآن والسنة، والقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتأييد الأحكام الأصلية بالمؤيدات المدنية كالبطلان والفساد في العقود والمعاملات، والجزائية كالحدود والتعزيرات من توبيخ وحبس وضرب غير مهين ولا مشين، إن ذلك كله ساهم مساهمة بناءة في إقامة المجتمع الإسلامي النظيف الذي تقل فيه الجرائم، ويمتنع فيه إلى حد كبير شيوع الكبائر.
وقد أكد سلامة هذا النظام وكفاءته واقع الأمة الإسلامية في عصورها المتلاحقة بنحو إجمالي لا تفصيلي، فإنها بالمقارنة مع الأمم الأخرى والدول المتحضرة المعاصرة التي تقع فيها جريمة أو جريمتان كل ثانية، تعد أقل الأمم نزعة إلى الإجرام، والنسبة الإجرامية فيها أقل النسب إحصائياً، ما دامت متمسكة بدينها،
_________
(1) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي: 355/ 4، رد المحتار لابن عابدين: 196/ 3 وراجع رسالة التعزير: ص 51 ومابعدها.

(7/5286)


ملتزمة بأخلاقها الإسلامية الرصينة، متبعة هدي القرآن والسنة وسيرة السلف الصالح، باستثناء وقائع فردية لشذوذ أو جهالة أو بدائية، أو دوافع عصبية سياسية لم يتوافر لها التكوين الإسلامي الصحيح، والتربية والثقافة الدينية الرادعة الكافية. ويمكن لكل مطلع على هذا البحث وهو (السياسة العقابية في الإسلام وأثرها الإصلاحي في المجتمع) تكوين قناعة كافية بصدق هذه الحقيقة الواقعية وإدراك سلامتها ونقائها، من خلال المبادئ النظرية والواقع العملي في البلاد التي تطبق فيها أحكام الشريعة.

وخطة البحث كما يلي:
أولاً: مفاهيم عامة عن الجريمة وأوضاعها في الحاضر بسبب غيبة الوازع الديني.
ثانياً: أصول السياسة العقابية أو الجنائية الإسلامية.
ثالثاً: أنواع الأحكام الشرعية ودورها الوقائي والعلاجي.
رابعاً: أنواع العقوبات في الإسلام وأثرها في منع الجريمة.
خامساً: تطبيق مبادئ السياسة الجنائية الإسلامية: الوسائل وأهداف العقوبة وغاياتها المنشودة ومدى تأثيرها في قمع الإجرام.
سادساً: مبادئ العقاب في الشريعة ومالها من أثر في تخفيف الجريمة.
سابعاً: الحدود الشرعية وحكمتها وأثر تطبيقها في منع الجريمة.
ثامناً: العقوبات وحقوق الإنسان في الإسلام.
تاسعاً: شرعية الجريمة والعقوبة أو مبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، وتأثير ذلك على ظاهرة الإجرام.

(7/5287)


عاشراً: موانع العقاب وموانع المسؤولية، وأسباب الإباحة، وإنسانية العقوبة.
حادي عشر: الآثار الإصلاحية الكبرى لسياسة العقاب في الإسلام.

أولاً - مفاهيم عامة عن الجريمة وأوضاعها في العصر الحاضر بسبب غيبة الوازع الديني: الجريمة ظاهرة اجتماعية قديمة ومستمرة ومتطورة، ولها تأثيرات ضارة ومؤذية وهي في مفهوم الناس سلوك شاذ يحظره قانون الدولة، ويرتب له جزاء، أو هي الخروج على أوامر قانون العقوبات ونواهيه (1). ويتطور مفهوم الجريمة من زمن لآخر، ومن مجتمع لآخر في الزمن الواحد. والجريمة هي الجناية بالمعنى الخاص في اصطلاح الفقه الإسلامي، قال القاضي الماوردي: الجرائم محظورات شرعية زجر الله تعالى عنها بحد أو تعزير (2). والمحظور إما إتيان منهي عنه أو ترك مأمور به. والجناية بالمعنى العام: هي كل فعل محرَّم شرعاً، سواء وقع الفعل على نفس أو مال أوغيرهما. وهذا هو معنى الجريمة عند أغلب القانونيين، فإنهم صوروها بأنها كل فعل ينهى عنه القانون ويفرض له عقوبة.
والظاهرة الإجرامية إحدى سمات المجتمعات بسبب الصراع على إشباع حاجات الأفراد غير المتناهية. ووجدت فكرة الجزاء بالفطرة في كل جماعة إنسانية، وإن اختلفت صورته، أو تباينت وجهات النظر في تحديد أهداف العقوبة
_________
(1) الجريمة والتنمية للدكتور حسني درويش عبد الحميد: ص 13، 15، قانون العقوبات القسم العام للدكتور عمر السعيد رمضان: ص 35.
(2) الأحكام السلطانية: ص 211، ط صبيح.

(7/5288)


بالانتقام من الجاني، أو تطبيق العدالة، أوإصلاح المتهم وتهذيبه (1). والواقع أن الهدف من العقوبة مجموع هذه الأمور، فإن الجزاء للردع والتخويف، وللإصلاح والتهذيب معاً، ولإرضاء الشعور بالعدالة في ضمير المجتمع، وقد أدى التطور أخيراً إلى اعتبار العقوبة وسيلة دفاع عن المجتمع من خطر الجريمة، فالعقوبة بمعناها الحديث تؤدي وظيفتها الدفاعية عن المجتمع في لحظات ثلاث: اللحظة التشريعية: أي عند سن قانون العقوبات لإظهار الخشية من العقاب، واللحظة القضائية: أي عند إصدار الحكم بالعقوبة، لحماية المجتمع من جرائم جديدة تحدث فيه لو لم تلق الجريمة جزاءها، واللحظة التنفيذية: أي عند توقيع العقوبة المحكوم بها لإصلاح الجاني عن طريق إيلامه، حتى لا يعود إلى الجريمة مرة أخرى، وللجرائم أنواع كثيرة من الناحية الاجتماعية، فهناك جرائم ضد الممتلكات كالسرقة وتسميم الماشية، والحريق، وجرائم ضد النفوس والأفراد، كالضرب والقتل وهتك العرض، وجرائم ضد النظام العام، كجرائم أمن الدولة والتخريب والتجسس، وجرائم على الدين وأهله كالاعتداء على أماكن العبادة وعلى المصلين، وجرائم على الأسرة كإهمال الأطفال والزنا والخيانة الزوجية، وجرائم ضد الأخلاق كالأفعال الفاضحة الجارحة للحياء في الأماكن العامة (2).
وتنوعت الجرائم وتفنن المجرمون فيها في العصر الحاضر، فارتكبوا جرائم لاتكاد تخطر على بال، كاغتصاب المرأة وهي تسير في شارع عام، وخطف الأطفال والنساء للبيع، وهو الرقيق الأبيض، ذكرت وكالة رويتر أن ضابطاً كبيراً في قوة حرس الحدود في بنغلاديش قال: إن أفراد الحرس أنقذوا حوالي (60) رجلاً وامرأة وطفلاً من البيع خارج البلاد للعمل في البغاء واستخدامهم كمصادر
_________
(1) الإجرام والعقاب في مصر للدكتور حسن المرصفاوي: ص 231.
(2) الجريمة والتنمية، المرجع السابق: ص 21 - 22.

(7/5289)


لعمليات زرع الأعضاء البشرية. وقد تقدمت الحكومة في (1988/ 7/1) بمشروع قانون إلى البرلمان يقضي بإعدام بائعي بنات حواء (1). وتصاعدت عملية الاتجار بالأطفال، فهناك مليون طفل يخطفون ويباعون سنوياً في العالم (2)، ويوجد في الكيان الصهيوني اليوم 2000 طفل برازيلي مخطوفين، تزودهم لإسرائيل (16) عصابة تقوم بدراسة عمليات خطف الأطفال. وتعيش فرنسا من عدة أشهر في عامي (87)، (1988) ظاهرة اجتماعية خطيرة هي ظاهرة خطف الفتيات دون العاشرة من الأماكن العامة لاغتصابهن ثم قتلهن بصورة وحشية (3)، وبدأت فئات كثيرة تنادي بإعادة عقوبة الإعدام.
وكثر تعاطي المخدرات والإدمان عليها، حتى ارتفع عدد ضحاياها في إيطاليا مثلاً إلى (500) قتيل من جراء الإدمان، وكشفت إحصائية لمنظمة الصحة العالمية في عام (1985) عن وجود (32) مليون مدمن في العالم، وطالب مفتي مصر بإعدام تجار المخدرات علانية أمام الشعب في الساحات العامة، للعظة والعبرة والزجر بسبب شيوع المخدرات في مصر (4).
وتزايدت نسبة الجرائم في بريطانيا، وكذا في المجتمع الأمريكي من قتل وسرقة واغتصاب واعتداء، حتى بلغت في أمريكا أكثر من عشرة أضعاف ما كانت عليه بين (1950، 1964) بسبب الرخاء والازدهار الاقتصادي في كل من مدينة نيويورك وأطلنطا وبوسطن، وتفشت ظاهرة المخدرات في أوربا وآسيا وأفريقيا، وكثر المصابون بالإيدز أو الشذوذ الجنسي، حتى بلغ عددهم في العالم
_________
(1) جريدة البيان في الإمارات بتاريخ 1988/ 7/2م.
(2) جريدة الاتحاد في الإمارات بتاريخ 1988/ 6/23م.
(3) جريدة الاتحاد المرجع السابق بتاريخ 88/ 4/30، و 1988/ 10/3م.
(4) جريدة الفجر في الإمارات بتاريخ 1988/ 9/22م، الاتحاد 1988/ 10/8م.

(7/5290)


أكثر من عشرة ملايين من الذكور والإناث (1). وزادت نسبة جرائم النهب والسلب في بريطانيا في عام (1987) بنسبة (12%) وبلغت (000،45) جريمة، بسبب زيادة معدل الرخاء، وغيبة الوازع الديني، فإن المدنية الحديثة البعيدة عن هدي الله والدين وتعاليمه أفرزت مثل هذه الظواهر الإجرامية الشاذة، كما أفرزت فلسفات مادية منحدرة، وكلها تؤذن بتدمير وتخريب معالم الحضارة الحديثة القائمة على مجرد المادة، وتغفل جانب الأخلاق والدين والقيم الإنسانية، والخروج عن مبادئ العدالة والمساواة. ومثال ذلك: يعتبر عدد السجناء الذين ينتظرون الموت في الولايات المتحدة الأمريكية أعلى رقم سجل في ذلك البلد عام (1986)، ويتزايد معدل تنفيذ الإعدام بصورة مستمرة، وتشير الأدلة إلى أن استخدام عقوبة الإعدام في أمريكا يقوم على أساس تعسفي ومتحيز عنصرياً وغير عادل، ويشمل من ينتظرون الموت رجالاً ونساء، مرضى عقليين أو متخلفين عقلياً، وأشخاصاً ما زالت أعمارهم أقل من (18 عاماً)، أو كانت أعمارهم أقل من (18 عاماً) عندما ارتكبوا جرائمهم، ونصف هؤلاء تقريباً من السود، والكثير منهم قد أدين بموجب سلطات قضائية، وجسدت الدراسات أن تطبيق عقوبة الإعدام فيها قائمة على التمييز العنصري (2).
وتقدم العلوم والفنون لم يكن سبباً لمنع الجرائم؛ لأن الغالب على العلوم المعاصرة الصبغة المادية المحضة، البعيدة في الأكثر عن النزعة الإنسانية، أما العلوم الإنسانية فهي التي تهذب المشاعر، وتقوّم الطبائع، وتقلّل الجرائم، ولكن دورها في الحياة الحاضرة والحضارة المادية الحديثة ضعيف التأثير في الغالب، مع أن الشأن
_________
(1) المجلة العربية للدراسات الأمنية في الرياض، شهر ذي الحجة 1406هـ الموافق شهر آب «أغسطس» عام 1986م. ص 106.
(2) نشرة منظمة العفو الدولية عام 1986: ص1.

(7/5291)


في العلم أو المعرفة أن يكون طريقاً لانخفاض معدل الجرائم، وإذا وجد الجهل ارتفعت نسبة الجرائم.

ثانياً - أصول السياسة العقابية أوالجنائية الإسلامية: إن استراتيجية منع الجريمة وقيامها بوظيفتها تتطلب في رأي فلاسفة القوانين الوضعية تحقيق أهداف السياسة الجنائية، وضرورة تميزها بالخصائص التالية:
1 - الشمول: بمعنى أن تطبيق الاستراتيجية على جميع مجالات السياسة الجنائية بالتجريم والعقاب والمنع.
2 - متكاملة: بمعنى أن تتفق مع الأهداف السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
3 - عملية: بمعنى قيام الاستراتيجية على منهج عملي، فينظر مثلاً في مدى فاعلية العقوبات السالبة للحرية من حبس وسجن مع الأشغال الشاقة في تحقيق غاية معينة هي تأهيل المجرم للحياة الاجتماعية (1).
ونحن نلاحظ أن هذه الخصائص كلها مرعية في نظام السياسة العقابية في الإسلام، أما الشمول فكل المجالات الجنائية للحياة المعاصرة تستوعبها أنظمة التحريم والحظر والمنع والتجريم والعقاب، فما من أمر ضارّ بمصلحة الفرد والجماعة إلا وقد حرَّمته الشريعة وعاقبت عليه إما بعقاب أخروي أو دنيوي. وأما التكامل، فإن أنظمة التجريم والعقاب في الإسلام تحقق جميع الأهداف المرجوة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، مثل عقوبات البغاة وقطاع الطرق والزنى والقذف والاعتداء على الأموال والأشخاص بالسرقة والخطف والاغتصاب والاختلاس والنهب والحريق ونحو ذلك.
_________
(1) الجريمة والتنمية، د/ حسني درويش: ص 89.

(7/5292)


وأما الهدف العملي من العقوبة فواضح من خلال تطبيقها إذا التزمت ضوابط الشريعة وآدابها في التنفيذ والرقابة والرعاية والتوجيه، ومحاولات الإصلاح المتكررة في السجون بأساليب مختلفة تشمل الوعظ والإرشاد، والتشغيل وإيقاظ الضمير، والإحساس بمخاطر الجريمة، فإن كثيراً من السجناء ما عدا زمرة شاذة كان السجن مثلاً في الجرائم التعزيرية وسيلة لصلاحهم وعودتهم أسوياء ومواطنين صالحين، استقاموا على منهج الحياة الصحيحة.
وفضلاً عن ذلك فإن للسياسة الجنائية الإسلامية مجالاً آخر يتمثل في أسلوب المنع والوقاية من الجريمة قبل وقوعها، بواسطة نظام الحسبة وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في جميع مرافق الحياة، وبخاصة في الأسواق العامة، كما أن اتباع أساليب الدين وأحكامه الشرعية والاهتداء بهديها في العبادات والمعاملات والأخلاق، ووعظ الناس بتعاليم دينهم، وإرشادهم إلى الطريق السوي، والاعتماد على عناصر الترغيب والترهيب بآي القرآن الكريم والأحاديث النبوية، كل ذلك سيؤدي حتماً إلى صلاح المجتمع والأفراد، ويقلل من عدد الجرائم المرتكبة، لما له من أثر ملحوظ في التربية والثقافة والتهذيب الأخلاقي والاجتماعي، وتقويم الانحراف، والدفع الإيجابي إلى حياة أفضل وأقوم.

ثالثاً - أنواع الأحكام الشرعية ودورها الوقائي والعلاجي:
يلاحظ أن الأحكام الشرعية نوعان: أحكام أصلية وأحكام مؤيدة أو زجرية، أما الأحكام الأصلية الأساسية فهي التي تكوّن نظام الشريعة الأصلي في دائرة الإيجاب والمنع، والقصد من المنع وقاية الإنسان من المحظورات التي يترتب على اقترافها ضرر واضح في الدين أو النفس أو المال أو العقل أو العرض، فكان تحريم الحرام لاتقاء الإضرار والأذى، وليس لأغلب المحرّمات عقاب دنيوي، وإنما

(7/5293)


العقاب عليها أخروي، فالشرك، وعقوق الوالدين، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف من السبع الموبقات أو الكبائر لا عقاب عليها في الدنيا، إلا إذا رأى الحاكم مصلحة في ذلك بسبب الإخلال بالنظام الاجتماعي، وكذلك في مجال العبادات قد يرتكب الإنسان فيها الحرام، كالصلاة من غير طهارة، والصيام مع الغيبة والنميمة، والحج مع الرفث والفسوق (الكلام الفاحش) والزكاة باختيار رديء المال، ولاعقوبه عليه.
وفي المعاملات: قد يقع الإنسان في غش أو غبن أو استغلال أو ظلم، وقد يحتكر أو يغصب، أو يغرر بآخر، أو يبيع على بيع أخيه ولا يعاقب في الدنيا، وفي العلاقات الدولية قد ينقض الحاكم المعاهدة من غير مسوغ شرعي، ولا يعاقب على فعله، وفي المواريث والحقوق العامة قد يجور أحد الورثة فيأخذ شيئاً من التركة، وقد يأخذ المجاهد شيئاً من الغنيمة من غير حق، ولايعجل له عقاب في الدنيا، وفي الأحوال الشخصية قد يلحق الرجل ضرراً بالمرأة، وقد يعضلها (يمنعها) عن الزواج من كفء وقد يخطب على الخطبة ولا يعاقب، وفي دائرة الأخلاق الاجتماعية قد يقع الإنسان في الغيبة والنميمة وقد يسعى ببريء ظلماً إلى حاكم، ولا عقاب على ذلك في الدنيا ما لم ينكشف أمره.
وعدم العقاب الدنيوي لا يعني الإباحة أو الحل، فإن العقاب الأخروي أشد وأنكى، وأخطر وأدوم، فيكون تحريم الحرام أمراً وقائياً لتجنب الوقوع في المخاطر والمضار والمفاسد والشرور والمنازعات، والتأمل في ذلك يدفع المرء إلى التزام جادة الاستقامة، والبعد عن كل ما حرمه الشرع، لئلا يؤدي اقترافه الحرام إلى جريمة، وهذا من خصائص الشريعة والدين السماوي الذي يميزه عن أي نظام قانوني وضعي لا يهتم بالممنوع إلا إذا أدى إلى المساس بالعلاقات الاجتماعية.

(7/5294)


وقد يشمل المنع دائرة المشتبهات خشية التورط في الحرام والممنوع، فيكون اجتناب المشتبه فيه أولى وأسلم، لئلا يقع الإنسان في جريمة، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات، وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله محارمه .. » (1).
فهذه الأحكام الحاظرة أو المانعة أحكام وقائية ذات أثر تربوي واضح، تعمل على منع الجريمة واقترافها.
ومن أهم الأحكام الوقائية كما تقدم نظام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يطلب من كل مسلم في صريح كثير من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، ويتكرر التذكير به أيام الجمعة والأعياد، قال الله عز وجل: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون} [آل عمران:104/ 3]. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً، فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» (2). وفي حديث آخر أخرجه الترمذي عن أبي هريرة: «من غشنا فليس منا».
وقام على أساس هذه الأوامر نظام الحسبة الذي يقي الأفراد والمجتمع من غائلة الجريمة. والحسبة كما تقدم: أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن منكر إذا
_________
(1) رواه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(2) أخرجه الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(7/5295)


ظهر فعله (1). أو هي وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، كما قال ابن خلدون (2).
والحسبة وإن كانت واجباً عاماً على كل مسلم، إلا أنها إذا أصبحت نظاماً أو وظيفة صارت فرض عين على المحتسب بحكم ولايته أو وظيفته المأجورة. ويتولى المحتسب وظائف لها صلة بالقضاء والمظالم والشرطة، فهو ينظر في المنازعات الظاهرة التي تحتاج إلى أدلة إثباتية، كدعاوى الغش، والتدليس والتطفيف، فهو بهذا كالقاضي، ويؤدب مرتكبي المعاصي التي ترتكب جهراً، أو تخل بآداب الإسلام، فهو بهذا كناظر المظالم يرعى النظام العام والآداب والأمن في الشوارع والأسواق مما لا تجوز مخالفته، فيكون بذلك كالشرطة أوالنيابة العامة (3).
ويشمل قيامه بواجبه في نطاق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما يتعلق بالجماعة أو الأفراد كترك الواجبات الدينية العامة، الشعائر وغيرها، وتعطل مرافق البلد العامة من مساجد وشوارع، ومماطلة في أداء الحقوق والديون، وكفالة الصغار والمطالبة بترويج الفتيان والفتيات. وفي المحظورات يمنع الناس من مواقف الريب ومظان التهمة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (4) مثل اختلاط النساء بالرجال في المساجد والأماكن العامة، والمجاهرة بإظهار المسكرات والملاهي المحرمة. ويمنع المعاملات المنكرة كالربا والبيوع الفاسدة وما منع الشرع منه كالغش والتدليس وبخس الكيل والميزان.
_________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 231.
(2) مقدمة ابن خلدون: ص 576.
(3) المرجعان السابقان.
(4) رواه الترمذي والنسائي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما.

(7/5296)


وأما المؤيدات فهي إما مدنية أو جزائية، والمؤيدات المدنية أربعة: هي البطلان والفساد والتوقف (عدم النفاذ) وعدم اللزوم، فكل عقد لم تكتمل أركانه أو شرائطه، فهو إما باطل أو فاسد أو موقوف أو غير لازم. والمؤيدات الجزائية هي العقوبات الرادعة، وهي الحدود والتعزيرات. والمؤيدات بقسميها شرعت لحماية أحكام الشريعة الأصلية، فيكون لأحكام الشريعة إما دور وقائي، أو علاجي، وكل من الوقاية والعلاج سبب للإصلاح ومنع الإجرام والانحراف، كما سيأتي بيانه.
رابعاً - أنواع العقوبات في الإسلام وأثرها في منع الجريمة:
الجزاء أو العقاب في شرعة الإسلام إما أخروي وإما دنيوي، والعقاب الأخروي مردّه إلى الله تعالى، إن شاء عذب العاصي أو المجرم، وإن شاء غفر ورحم، والله غفور رحيم، وهو شديد العقاب، والمؤمن الحق يخشى من عقاب الآخرة وعذاب النار أكثر من عقاب الدنيا.

والعقوبة الأخروية: يمليها قانون الحق والعدل، قال الله تعالى: {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض، أم نجعل المتقين كالفجار} [ص:28/ 38] وقال سبحانه: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين، ما لكم كيف تحكمون} [القلم:35/ 68 - 36]. فليس عدلاً أبداً ولا منطقاً وعقلاً أن يتساوى العاصي مع الطائع، والمنحرف مع المستقيم، لذا كان يوم الدين أو يوم القيامة يوم الجزاء الفاصل هو أمل المعذبين والمظلومين في الدنيا. روى الإمام مسلم في صحيحه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في مجلس: فقال: «تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق، فمن وفّى منكم فأجره على الله، ومن

(7/5297)


أصاب شيئاً من ذلك، فعوقب به، فهو كفارة له، ومن أصاب شيئاً من ذلك، فستره الله عليه، فأمره إلى الله: إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه».
وما أكثر الآيات القرآنية المعبرة عن مبدأ الإنصاف المطلق المذكور، وعن عدالة الله الشاملة في عباده الذين امتثلوا، أوخالفوا وقصروا، أو كانوا رسل خير وهداية وإصلاح أو دعاة شر وضلال وفساد، ليكون ذلك مبعث الاستقامة، وتهديداً وترهيباً للجناة والمجرمين، قال الله تعالى: {ولتكن منكم أمةٌ يَدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، ويَنْهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون. ولاتكونوا كالذين تفرّقوا واختلفوا، من بعد ما جاءهم البيِّنات، وأولئك لهم عذاب عظيم. يوم تبْيَضُّ وجوه، وتسوّد وجوه، فأما الذين اسوّدت وجوههم، أكفرتم بعد إيمانكم، فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون. وأما الذين ابيضت وجوههم، ففي رحمة الله هم فيها خالدون. تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق، وما الله يريد ظلماً للعالمين} [آل عمران:104/ 3 - 108].

وأما العقوبات الدنيوية في الإسلام، فهي نوعان:
1 ـ الحدود: وهي العقوبات المقدرة من الشارع نوعاً ومقداراً بالنصوص الصريحة (1)، وهي محدودة جداً، وعددها خمسة أنواع في رأي الحنفية: حد الزنا، وحد القذف، وحد السرقة، ويشمل حد الحرابة أو قطع اليد، وحد شرب الخمر، وحد المسكر، وقد قصروها على ما شرع حقاً لله تعالى، أي مراعاة للصالح أو النفع العام، ولم يجعلوا القصاص من الحدود، لأن المقصود به والغالب فيه مراعاة حق العبد أو الإنسان.
_________
(1) المبسوط للسرخسي: 36/ 9، فتح القدير: 112/ 4، البدائع: 33/ 7، تبيين الحقائق للزيلعي: 163/ 3، رد المحتار لابن عابدين على الدر المختار: 154/ 3، اللباب شرح الكتاب: 72/ 2.

(7/5298)


والحدود عند جمهور العلماء (1) غير الحنفية سبعة: هي حد الزنا، وحد القذف، وحد السرقة، وحد الحرابة، وحد المسكرات الشامل للخمر وجميع الأنبذة المسكرة، وحد القصاص، وحد الردة، باعتبار أن الحد عقوبة مقدرة حدّها الله تعالى وقدرها، فلا يجوز لأحد أن يتجاوزها، سواء أكان المقصود منها مراعاة حقوق الله تعالى، أي الحق العام أو مصلحة المجتمع، أم مراعاة حقوق الناس الخاصة، ومنها القصاص. وسميت هذه العقوبات حدوداً، لأنها تمنع من الوقوع في الجرم أو الذنب.
ويقصد بالحدود كلها مراعاة حق المجتمع في أصل العقاب للتأديب والانزجار عما يتضرر به الناس، وتحقيقاً لمصلحة الأمن والاستقرار، والحفاظ على حرمات الحياة وصيانة الأعراض والنفوس والعقول والأموال عن التعرض لها (2)، ويراعى فيها أيضاً حق الشرع في نوع العقوبة المقدرة المنصوص عليها إما في القرآن الكريم: وهي حدود الزنا والقذف والسرقة والحرابة والقصاص، وإما في السنة النبوية وهي حد المسكرات والرجم.
والقصد من النص على هذه الحدود بالذات تقدير الشرع مالجرائمها من خطورة بالغة، تمس أصول القيم الإنسانية، وهي الحفاظ على حق الحياة (النفس) والفكر الإنساني (العقل) والعرض (حد الزنا والقذف) والمال (السرقة والحرابة) والدين أو العقيدة الذي هو أسمى شيء في الوجود.
وتطبيق هذه الحدود الشرعية بضوابطها وشرائطها المقررة شرعاً، وهي كثيرة
_________
(1) مواهب الجليل للحطاب: 277/ 6، التاج والإكليل للمواق: 277/ 6 الطبعة الأولى، مغني المحتاج: 155/ 4، حاشية البجيرمي علي الخطيب: 140/ 4، ط بيروت كشاف القناع: 77/ 6، ط بيروت.
(2) المراجع السابقة.

(7/5299)


جداً، مما يجعل احتمال تطبيق الحد نادراً، كفيل بمنع هذه الجرائم الخطيرة، والواقع أصدق شاهد في البلاد التي تطبق فيها الحدود كالسعودية.
وجرائم الحدود عند الجمهور ثمانٍ: هي الزنا، والقذف، وشرب المسكر، والسرقة، والحرابة، والبغي، والردة، والقتل العمد الموجب للقصاص، على أساس أن عقوباتها جميعاً مقدرة شرعاً. وقال ابن جزي المالكي: الجنايات أي الجرائم الموجبة للعقوبة ثلاث عشرة: وهي القتل والجرح، والزنا، والقذف، وشرب الخمر ـ علماً بأن كل مسكر خمر ـ والسرقة، والبغي، والحرابة، والردة، والزندقة، وسب الله، وسب الأنبياء والملائكة، وعمل السحر، وترك الصلاة والصيام (1).
وزيادة العدد في تقدير ابن جزي منشؤه ضم عقوبات تعزيرية ليس منصوصاً عليها صراحة في القرآن والسنة، وإنما باجتهاد الفقهاء إجماعاً، أو بالأكثرية، علماً بأن العقوبة واحدة وهي القتل في القصاص، وفي الزندقة والسب والسحر وترك الصلاة والصيام.

2 - التعزيرات: وهي العقوبات غير المقدرة شرعاً، وإنما فوض الشرع النظر في نوعها ومقدارها إلى ولي الأمر (الدولة) لمعاقبة المجرم بما يكافئ جريمته، ويقمع عدوانه، ويحقق الزجروالإصلاح، ويراعي أحوال الشخص والزمان والمكان والتطور، وذلك يختلف باختلاف درجة الرقي وتحضر المجتمعات، وتهذيب الجماعات وأحوال الناس في مختلف الأزمنة والأمكنة.
وأغلب العقوبات في القوانين الوضعية من قبيل التعزير، لأنها مجرد تنظيم
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 344، ط فاس.

(7/5300)


يراعى فيه ما يلائم الجريمة وحال المجرم للزجر والإصلاح والتقويم والتهذيب، وتحقيق الأمن والاستقرار.
والتعزير يكون في كل جريمة لا حد فيها ولا كفارة، سواء أكانت اعتداء على حق الله تعالى، كالأكل في نهار رمضان بغير عذر، وترك الصلاة في رأي الجمهور، والربا وطرح النجاسة وأنواع الأذى في طريق الناس، أم على حق الأفراد أو العباد، كتقبيل الأجنبية أو المفاخذة، وسرقة ما دون النصاب الشرعي (دينار أوعشرة دراهم في رأي الحنفية) والسرقة من غير حرز، وخيانة الأمانة، والرشوة، والقذف والسب والإيذاء بغير ألفاظ القذف.
قال ابن القيم: إن المعاصي ثلاثة أنواع: نوع فيه الحد ولا كفارة فيه، كالسرقة والشُّرب والزنا والقذف، فالحد فيه مغنٍ عن التعزير. ونوع فيه الكفارة ولا حد فيه كالوطء في نهار رمضان عند الشافعية والحنابلة بعكس الحنفية والمالكية، والوطء في الإحرام. ونوع ثالث لا حد فيه ولا كفارة، مثل قبلة الأجنبية والخلوة بها، ودخول الحمام بغير مئزر، وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، ونحو ذلك، وهذا النوع فيه التعزير، ولا يجوز للإمام تركه في قول الجمهور، وقال الشافعية: إنه راجع إلى اجتهاد الإمام في إقامته وتركه، كما يرجع إلى اجتهاده في قدره (1).
والعقوبات التعزيرية كالتوبيخ، والحبس، والضرب، والتغريم بالمال، والقتل سياسةً لمعتادي الإجرام وفي جرائم أمن الدولة والتجسس واللواط وسب النبي صلّى الله عليه وسلم، ونحو ذلك مما يراه الحاكم ولي الأمر رادعاً للشخص، بحسب اختلاف حالات الناس والزمان والمكان ودرجة الرقي والحضارة.
_________
(1) أعلام الموقعين: 99/ 2.

(7/5301)


وتطبيق هذه العقوبات دون إفساح المجال للتحايل والشفاعة والرشوة يؤدي إلى الإقلال من الجريمة أو منعها.
والخلاصة: أن تطبيق الحدود الشرعية بمعاييرها وضوابطها وشرائطها والتعازير دون تلكؤ ولا مجاملة، ومراعاة التفاوت بين موجب الحد وموجب التعزير، يؤدي إلى تحقيق سلامة المجتمع، وأمن الناس واستقرارهم، والقضاء على ظاهرة الإجرام تدريجياً.

خامساً - تطبيق مبادئ السياسة الجنائية الإسلامية: إن تطبيق أصول السياسة الجنائية الإسلامية يعرفنا على الوسائل وأهداف العقوبة وغاياتها المنشودة ومدى تأثيرها في قمع الإجرام على وفق التصور التالي:
تقويم المجرم: إن الهدف من العقوبة في الشريعة والأنظمة الوضعية هو تقويم المجرم، ومعنى هذا المبدأ أن ألم العقوبة ليس غاية في ذاته، وإما هو وسيلة إلى غاية، هي تقويم الجاني، فلا داعي لإ يلام المجرم أوإذلاله، ولا تكليفه بعمل في السجن، ما لم يكن وراء ذلك تقويم المجرم (1).
العقاب ليس مقصوداً لذاته: ليس أصل العقاب أيضاً غاية مقصودة لذاتها في مفهوم الإسلام، وليس هو أولى وسائل الإصلاح والتهذيب الفردي والجماعي، وإحداث التغيير الجذري في حياة الناس والمجتمع، وإنما هو آخر الوسائل إذا استعصت الحلول، كما أن آخر الدواء الكي في عرف العرب في الماضي.
الإنذار السابق: إذا أردنا التوصل إلى غاية العقوبة فيجب تقديم البيان الكافي
_________
(1) الجريمة والتنمية، د/حسن درويش: ص 102.

(7/5302)


للاقتناع بسلامة المبدأ أو تنفيذ الأحكام وطاعة الشريعة، فكما لا يصح الإيمان بالقهر والإكراه من غير استدامة عليه، وكما لا يتعين الجهاد بالقتال، وربما كان الأفيد هو الإقناع والبرهان، والدعوة والإرشاد، والكلمة الطيبة، والموعظة الحسنة، كذلك لا يلجأ إلى العقاب دائماً، ويقبح العقاب ولا يسوغ بحال بلا بيان وإنذار وتحذير، كما أن الثواب والجزاء لا يكون قبل التكليف الشرعي القائم على توافر الأهلية من العقل الكافي والبلوغ الجسدي، وإصدار الأوامر والنواهي وتعليل الأحكام الشرعية، وبيان الحكمة التشريعية، فإن كل العقلاء يستهجنون توجيه اللوم والعتاب، وتطبيق العقوبة والعذاب، دون سبق هداية أو إنذار.
لذا قدم الله سبحانه للناس جميعاً كل وسائل الإقناع، والبراهين العقلية والحسية، والإرشاد إلى الإيمان الصحيح وتوحيد الله، ونبذ كل هياكل الوثنية والشرك، ثم أرشدهم إلى ما فيه السعادة في الدنيا والآخرة، ودلهم على طرق الخير والبر والإحسان، ونوّع الأساليب، وألقى المواعظ والعبر، وضرب الأمثال من قصص الأمم الغابرة، وشد الأنظار نحو التأمل في الكون، ونبّه العقول والأفكار، وأيقظ الضمير والوجدان، وأهاب باستقلال الشخصية عن الآخرين، وحارب الموروثات السيئة والتقليد الأعمى للآباء والأجداد، من أجل تغيير العقيدة الفاسدة أو المشوهة أو المنعدمة وإصلاح الأخلاق، ووضع الأنظمة الصالحة للحياة الهانئة السعيدة المستقرة، والتخلص من فوضى الجاهلية، والوثنية الدينية.

التدرج في الإصلاح: في حال البيان السابق تدرج القرآن في خطوات الإصلاح الاجتماعي والفردي، ولم يفاجئ الناس بجميع بنود التغيير والإصلاح، وإنما روّضهم على تقبل أحكام الشريعة ببطء وانتظار وقت غير قصير، فلما استحكم العناد بالزعماء والقادة والكبراء، واستكبروا عن سماع الحق، والإصغاء للأفضل، وتكررت منهم محاولات الاعتداء على أهل القرآن والإيمان، وتعذيب

(7/5303)


المستضعفين، وفتنة الأتباع الضعفاء لمدة ثلاثة عشر عاماً في مكة، بعد أن حصل منهم كل هذا وغيره، تنزلت آيات الوحي ملأى بالزجر والقوة والتهديد والوعيد، والإنذار بالعقاب والتحذير من تعجيل العذاب الشديد، فأعذر الحق سبحانه وتعالى نفسه من هؤلاء المعاندين المعرضين علواً في الأرض واستكباراً ومكراً سيئاً، وحفاظاً على الزعامات والرياسات والمصالح المادية، وتبين للناس قاطبة أن شيئاً سيحدث، وأن المقصرين والمعرضين عن إجابة نداء الوحي والقرآن بالإصلاح والإقلاع عن الجريمة جديرون بالتأديب مستحقون للعقاب.

أدلة وجوب البيان السابق: تم الإعلان الشهير في آي القرآن عن قبح العقاب بلا بيان، فقال الله تعالى: {رسلاً مبشرين ومنذرين، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} [النساء:165/ 4] ثم أوضح القرآن كل ما يقطع الأعذار والإمهال والتراخي في الاستجابة لرسالة الإصلاح، فقال تعالى: {ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قَبْله، لقالوا: ربَّنا لولا أرسلت إلينا رسولاً، فنتَّبِع آياتِك من قبل أن نَذِل ونَخْزَى} [طه:134/ 20] وقدَّم سبحانه العذر قبل مفاجأة العذاب الأخروي، فقال: {كلما ألقي فيها فوج، سألهم خزنتها: ألم يأتكم نذير؟ قالوا: بلى قد جاءنا نذير فكذَّبنا وقُلْنا: مانزَّل الله من شيء، إن أنتم إلا في ضلال كبير} [المُلك:8/ 67 - 9] ونفى القرآن الكريم احتمال تطبيق العقاب قبل بعثة الرسل المزوَّدين بأنواع الهداية، والتعريف بأصول الحياة المستقيمة والازدهار والحضارة والإرشاد إلى أرقى الأنظمة، فقال الله تعالى: {وما كنا معذّبين حتى نبعث رسولاً} [الإسراء:15/ 17].
وسواء قلنا: إن الرسول: هو المرسل بهداية إلهية ومواعظ سماوية وأحكام تشريعية، وهو الحق المتبادر إلى الذهن، وهوقول جمهور المسلمين، أو إن الرسول هو العقل، كما يقول المعتزلة، فإن العقل لا يعدو أن يكون أحد وسائل الهداية

(7/5304)


الإلهية؛ لأن الهداية أنواع: هداية الله وتوفيقه وعونه، وهداية الحواس من السمع والبصر والفؤاد وهداية العقل والفكر، وكل هذه الأنواع مقدمة على الحساب والعقاب والتكليف وتنفيذ النظام أو القانون الإلهي.

أدلة التسامح في العقاب: مما يدل على عدم الحرص الشديد في الشريعة على تطبيق العقاب كما ذكر سابقاً: أن القرآن في مجال تبيان مهام الأنبياء والرسل جعل العقوبة أو القوة آخر ما يلجأ إليه في أساليب الحكم في الإسلام، فقال الله تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبيِّنات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزانَ، ليقوم الناسُ بالقِسْط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافعُ للناس، وليعلمَ الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قويَّ عزيز} [الحديد:25/ 57] قرن الله سبحانه إنزال الكتب والأمر بالعدل بإنزال الحديد، إشارة إلى أن الكتاب يمثل القوة التشريعية، والعدل يمثل القوة القضائية، وإنزال الحديد، وهو آخر الأسس، يمثل القوة التنفيذية المؤيدة للأحكام التشريعية، سواء بعقوبة المجرمين في داخل الدولة الإسلامية أو بعقوبة المعتدين غير المسلمين خارج حدود الدولة بالجهاد واستخدام السلاح، والاستعداد للقتال، لأن الاستعداد للحرب يمنع الحرب في العرف الشائع، قال الإمام ابن جرير الطبري شيخ المفسرين في تفسيره المشهور عند هذه الآية: يقول الله تعالى في الآية السالفة: لقد أرسلنا رسلنا بالمفصَّلات من البيان والدلائل وهذا هو الأول، وأنزلنا معهم الكتاب بالأحكام والشرائع، وهذا هو الثاني، والميزان بالعدل، وهذا هو الثالث، وأنزلنا الحديد، وهذا هو الرابع، لما فيه من قوة شديدة ومنافع للناس، وذلك ما ينتفعون به عند لقائهم العدو، وغير ذلك من منافعه.
التوبة: كما أن هداية الله سبقت إنذاراته وتهديداته وعقوباته، كذلك بعد ارتكاب الجرم أو الذنب سبقت رحمته غضبه وسخطه، ولم يكن الإسلام في كل تشريعاته حريصاً على إنزال العقوبة الصارمة فوراً بالمخطئين، وإنما ترك لهم فرصة

(7/5305)


للإصلاح الداخلي النابع من القناعة الذاتية، والرضا بالإقلاع عن الجريمة، والندم والتوبة المكفِّرة للذنوب، حتى إن التوبة في رأي فقهاء الحنابلة، وعلى رأسهم الإمام أحمد رحمه الله تسقط جميع العقوبات من الحدود وغيرها، من غير اشتراط مضي زمان؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» (1) وقوله عليه الصلاة والسلام: «التوبة تجبُّ ما قبلها» (2) ولأن في إسقاط الحد ترغيباً في التوبة، وذلك ما عدا حد القذف، فإنه لا يسقط، لأنه حق آدمي، أو حق شخصي. ولا خلاف بين العلماء في أن المحاربين أو قطاع الطرق إن تابوا قبل القدرة عليهم، وإلقاء سلطة القبض عليهم، تسقط عنهم حدود الله تعالى من قتل، وقطع يد ورجل من خلاف، ونفي وصلب؛ لقوله تعالى في آية المحاربين: {إلا الذين تابوا من قبل أن تَقْدِروا عليهم فاعلموا أن الله غفورٌ رحيمٌ} [المائدة:34/ 5].
ولقد اشتد غضب النبي صلّى الله عليه وسلم على ماعز بن مالك الأسلمي الذي أقر أمامه بالزنا، وأعرض عنه ثلاث مرات، وأظهر الكراهية من قوله، بل لقنه الرجوع عن الإقرار بالزنا بقوله: «لعلك مسستها، لعلك قبَّلتها!» وقال لأصحابه حينما هرب ماعز أثناء رجمه، فاتبعوه: «هلا تركتموه، لعله أن يتوب، فيتوب الله عليه» (3).

الشبهة: إن الشبهة بأنواعها العديدة في الجريمة، سواء أكانت شبهة في الفعل، أم شبهة في الفاعل، أم شبهة في المحل، تدرأ الحدود وتسقطها (4)؛ لقوله
_________
(1) أخرجه ابن ماجه، والطبراني في الكبير والبيهقي عن ابن مسعود رضي الله عنه.
(2) المعروف أن التوبة تصح بالإسلام، والإسلام يجب ماكان قبله كما في الحديث الذي رواه ابن سعد عن الزبير وعن جبير بن مطعم، وضعفه السيوطي، أما حديث «التوبة تجب ماقبلها» فهو مذكور في مغني المحتاج للخطيب: 184/ 4، والمغني لابن قدامة: 201/ 9، وتؤيده أحاديث في معناه في مجمع الزوائد: 31/ 1، 199/ 10 ومابعدها، منها حديث «الندم توبة» رواه الطبراني في الصغير عن أبي هريرة، ورجاله وثقوا، وفيهم خلاف.
(3) رواه أبو داود عن يزيد بن نعيم بن هزال عن أبيه، ورواه أحمد والترمذي عن أبي هريرة.
(4) فتح القدير: 140/ 4، 147، البدائع: 36/ 7، حاشية ابن عابدين: 165/ 3.

(7/5306)


صلّى الله عليه وسلم: «ادرأوا الحدود بالشبهات، ادفعوا القتل عن المسلمين ما استطعتم» (1). «ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن وجدتم للمسلمين مخرجاً فخلوا سبيله، فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة» (2). قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الحدود تدرأ بالشبهات، فمن زنى أو سرق أو شرب خمراً جاهلاً بالتحريم بأن أسلم حديثاً أو نشأ في بلد بعيد عن العلماء أو سرق الدائن من مدينه مايعادل دينه، ولو كان الدين مؤجلاً، أو سرق الضيف من مضيفه، أو سرق أحد الزوجين من الآخر، أو سرق الشخص من أحد أقاربه المحارم، أو ادعى المتهم وجود زوجية بينه وبين امرأة، فلا يقام عليه الحد؛ لأن الشبهة تجعل له معذرة.

تقدير المخاوف والمخاطر: هناك بواعث داخلية نفسية ودينية كثيرة تبعث النفس على الإقلاع عن الخطيئة، وهي مقبولة عرفاً وقضاءً، أهمها الشعور بالندم، والخوف من عقاب الله وعذابه في الآخرة، وخشية الله في السر والعلن، والحياء من الله ومن الناس، ومن رقابة السلطة أو الدولة، وتقدير مخاطر الزج في قيعان السجون والتشهير وتشويه السمعة بالمثول أمام القضاء، ومحاكم الجنايات والجرائم، والتأثير على مورد المعيشة بالفصل من العمل أو الوظيفة مثلاً، وسقوط الاعتبار وسوء السمعة بين الناس، وغير ذلك من المثبِّطات التي تضعف روح الإقدام على الجريمة، وكلها من الدواعي والأسباب المانعة من الإجرام. كما أن تنمية الوازع الديني وإذكاء العاطفة والحرارة الدينية، والتربية الخلقية التي يغرسها
_________
(1) أخرجه ابن عدي عن ابن عباس، وأخرجه مسدِّد في مسنده موقوفاً على ابن مسعود، وهو حسن، وأخرجه آخرون مرفوعاً مرسلاً.
(2) أخرجه الترمذي والحاكم والبيهقي عن عائشة وغيرها، وفيه ضعيف، لكن له طرق يقوي بعضها بعضاً، قال البيهقي: الموقوف أقرب إلى الصواب.

(7/5307)


الإسلام في نفوس المؤمنين، كلها عوامل أيضاً لإضغاف بواعث الإقدام على الجريمة، والصد عن اقتراف المعصية حتى يكاد ذلك كله يمنع الانحراف، وليس أدل على ذلك من أن نسبة الجرائم في البلاد الإسلامية أقل عدداً، وأخف خطراً، وأرقى نوعاً مما نسمعه ونشاهده من جرائم عديدة ومتنوعة في البلاد المتطورة أو المتقدمة المتمدنة حديثاً كما سبق بيانه.

الأمل في العفو: هناك آمال معقودة في القضاء يقرها الشرع عند النظر في التهمة، بإصدار الحكم بالبراءة لعدم ثبوت أو كفاية الأدلة، أو العفو من الحاكم أو رئيس الدولة، أو بإسقاط المدعي حقه الشخصي، أو بحكم القاضي بوقف التنفيذ أو تأجيل تنفيذ الحكم الجزائي، أو بإعطاء القاضي سلطة تقديرية مرنة في اللجوء إلى أخف العقوبات، أو العفو عنها في نطاق التعزيرات «أي العقوبات المفوضة إلى رأي القضاة نوعاً ومقداراً» في غير دائرة الحدود أو بالتخيير بين حدين أدنى وأعلى، وهي دائرة واسعة تشمل أكثر الجرائم، وتكاد تكون عقوبات القوانين الجزائية كلها والمطبقة في البلاد العربيةوالإسلامية، تدخل تحت اسم التعزيرات، كما أن احتمالات العفو من صاحب الحق الشخصي كثيرة، لترغيب القرآن الكريم بالعفو والصفح، قال الله تعالى: {والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس، والله يحب المحسنين} [آل عمران:134/ 3] وقال تعالى: {وأن تعفوا أقرب للتقوى} [البقرة:237/ 2].
حكمة تنوع العقاب: اقتضت الحكمة الإلهية كما تقدم أن يكون العقاب في الإسلام نوعين: العقاب الأخروي، والعقاب الدنيوي.
الأول: الذي هو أشد وأنكى وأدوم وأخطر مؤجل أو مرجأ لنهاية الحياة الإنسانية، كما عرفنا، لإعطاء الفرصة الكافية أمام البشر عبر مسيرة حياتهم

(7/5308)


لتدارك ما قصروا فيه، وإصلاح ما أفسدوه، وتصحيح ما أخطؤوا فيه، والإقلاع عن كل مخالفة تغضب الله عز وجل. ولعل أخطر ما تجب ملاحظته أن أخطر الجرائم في الإسلام من شرك أو كفر أو نفاق، لا تعجل عقوبته في الدنيا، كما عرفنا، وإنما أرجأ الله الفصل في أمره إلى عالم الآخرة، جرياً على سنة الله تعالى في خلقه، قال الله تعالى: {وربُّك الغفور ذو الرَّحْمة، لو يؤاخذهم بما كَسَبوا، لعجَّل لهم العذابَ، بل لهم موعدٌ، لن يجدوا من دونه مَوْئلاً، وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا، وجعلنا لِمَهْلِكِهم موعداً} [الكهف:58/ 18 - 59]. وهذا دليل واضح على أنه ليس العدل فوق الرحمة أو على العكس، وإنما العدل والرحمة قرينان، لكن الرحمة فوق القوة، ورحمة الله وسعت كل شيء، قال الله تعالى: {ورحمتي وسِعَتْ كلَّ شيء ... } [الأعراف:156/ 7] وقال سبحانه: {ربَّنَا وَسِعَتْ كلَّ شيء رحمة ً وعلماً ... } [غافر:7/ 40].
وبالرغم من ترك العقاب الدنيوي على الشرك ما لم يقترن بالعدوان أو الإشاعة والترويج بين الناس، فإن الله سبحانه إعذاراً وإنذاراً وإبعاداً للوم والعقاب، حذر تحذيراً شديداً من الشرك، وجعله قمة الجرائم ورأس الكفر وذروة الكفر وذروة الطغيان، وسمى القرآن أداة الشرك وهي الأصنام والشيطان طاغوتاً، فقال الله تعالى: {إن الله َ لا يَغْفِرُ أن يُشْرَكَ به ويِغْفِرُ ما دُون ذلك لمن يشاء ُ، ومن يُشْرِكْ بالله، فقد افترى إثماً عظيماً} [النساء:48/ 4] وقال سبحانه: {لا إكراهَ في الدِّين قد تبيَّن الرشدُ من الغيَّ، فمن يكفرْ بالطاغوت، ويؤمنْ بالله، فقد استمسك بالعُرْوةِ الوثقى، لا انفصامَ لها، والله ُ سميعٌ عليم} [البقرة:256/ 2] وقال عزَّ وجل: {والذين كفروا أولياؤهم الطاغوتُ .. } [البقرة:257/ 2] وقال سبحانه {الذين آمنوا يُقاتِلون في سبيلِ الله، والذين كفَروا يقاتلون في سبيل الطاغوت .. } [النساء:76/ 4]: والطاغوت: كل ماعبد من دون الله.

(7/5309)


والنفاق كالشرك جرم عظيم، لذا أنذر الحق سبحانه جماعة المنافقين بما ينتظرهم من أشد العذاب، فقال: {إن المنافقين في الدَرْك الأسفل من النار، ولن تجدَ لهم نصيراً} [النساء:145/ 4].
وكذلك العقاب على كثير من الرذائل الخلقية المشينة والموقعة في أشرار كثيرة مؤجل تنفيذه إلى الآخرة، مثل الحسد والحقد والنميمة والسعاية بالإفساد بين الناس أو إلى الحاكم ظلماً، والغيبة، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور التي لم يكشف أمرها ونحو ذلك، كما تقدم.
وأما العقاب الدنيوي: فليس مراداً به التنكيل والتشفي وإلحاق الضرر بالبنية الإنسانية، وإنما يستهدف الزجر والتهديد والإصلاح والتنفير من الجريمة، بل إن الله تعالى لم يوقع عقوبة دنيوية على المنافقين بالرغم من أخطارهم الشديدة على الدولة والمجتمع، وبخاصة وقت الأزمات والحروب. وما أحسن ما قاله الجصاص الرازي عند بيان عقوبة المنافقين الأخروية في الآية التي هي: {إن المنافقين في الدّرك الأسفل من النار} [النساء:145/ 4]:
ومع ما أخبر بذلك من عقابهم وما يستحقونه في الآخرة، خالف بين أحكامهم وأحكام سائر المظهرين للشرك، في رفع القتل عنهم، بإظهارهم الإيمان، وأجراهم مجرى المسلمين في التوارث وغير ذلك، فثبت أن عقوبات الدنيا ليست موضوعة على مقادير الإجرام، وإنما هي على ما يعلم الله من المصالح فيها، وعلى هذا أجرى الله تعالى أحكامه، فأوجب رجم الزاني المحصن، ولم يزل عنه الرجم بالتوبة، ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام في ما عز بعد رجمه، وفي الغامدية بعد رجمها: «لقد تاب توبة لو تابها صاحب مكس ـ جمارك ظالمة ـ لغفر له». والكفر أعظم من الزنا، ولو كفر رجل، ثم تاب قبلت توبته، وقال تعالى: {قل

(7/5310)


للذين كفروا، إن ينتهوا يُغْفَرْ لهم ما قد سَلَف}. [الأنفال:38/ 8]. وحكم في القاذف بالزنا بجلد ثمانين، ولم يوجب على القاذف بالكفر الحد، وهو أعظم من الزنا. وأوجب على شارب الخمر الحد، ولم يوجبه على شارب الدم وآكل الميتة، فثبت بذلك أن عقوبات الدنيا غير موضوعة على مقادير الإجرام، ولأنه لما كان جائزاً في العقل ألا يوجب في الزنا والقذف والسرقة حداً رأساً، ويكل أمرهم إلى عقوبات الآخرة، جاز أن يخالف بينها، فيوجب في بعضها أغلظ ما يوجب في بعض، ولذلك قال أصحابنا (أي الحنفية): «لا يجوز إثبات الحدود من طريق المقاييس، وإنما طريق إثباتها التوقيف أو الاتفاق» أي أن العقوبة لا تثبت إلا بالنص عليها لا بالاجتهاد (1).
وهذا مطابق لقول القانونيين: «لا جريمة ولا عقوبة إلا بالنص».

الشعور القوي بضرورة التطهر من الذنب: تمتاز شريعة الله بأنها تلقي في نفس الإنسان شعوراً قوياً بمخاطر الجريمة أو المعصية، وإحساساً متدفقاً بضرورة تطهير نفسه من آثار الذنب، فيبادر إلى الإقرار بالجريمة، كما فعلت المرأة الغامدية حين اعترفت بالزنا في حال حياة النبي صلّى الله عليه وسلم، وكذا امرأة العسيف (الأجير) وماعز ابن مالك الأسلمي. ورُجم الكل (2)، إحساساً منهم بضرورة التطهر من أثر المعصية. وهذا الشعور يولد الخوف من اقتراف الجريمة، وينمي ذلك الشعور معرفة فضل الله بعدم تكرار العقوبة الأخروية، في رأي أكثر العلماء غير الحنفية القائلين بأن الحدود جوابر للمسلم تسقط عقوبتها في الآخرة إذا استوفيت في الدنيا، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من أصاب حداً، فعُجِّل عقوبته في الدنيا، فالله أعدل من أن يُثنِّي على عبده
_________
(1) أحكام القرآن للجصاص: 26/ 1 - 27.
(2) ثبت ذلك بالأحاديث الصحيحة عند البخاري ومسلم وأحمد والموطأ والدارقطني وغيرهم (جامع الأصول: 279/ 4، نصب الراية: 314/ 3، نيل الأوطار: 111/ 7).

(7/5311)


العقوبة في الآخرة، ومن أصاب حداً فستره الله وعفا عنه، فالله أكرم من أن يعود في شيء قد عفا عنه» (1).

حكمة العقاب في ذاته: تبين مما سبق أن الحكمة من الحدود والتعزيرات في شريعة الله واضحة الأهداف، وهي تقويم المجرم وإصلاح حاله ومنعه من العود أو التكرار، وزجر الناس وردعهم عن اقتراف تلك الجرائم المخلة بأمن الجماعة ومصالحها، وصيانة المجتمع من ألوان الفوضى والفساد، وتطهير النفوس الجانحة أو المنحرفة من آثار الذنوب والمعاصي، التي تؤثر في صفاء القلب، وطهارة النفس، وتركيز الضمير، وترقية الوجدان وإذكاء الشعور الإنساني بمراعاة حقوق الآخرين، والبعد عن مختلف أنواع الأذى والضرر، قال ابن تيمية رحمه الله:
من رحمة الله سبحانه وتعالى: أن شرع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس بعضهم على بعض، في النفوس والأبدان والأعراض والأموال والقتل والجرح والقذف والسرقة، فأحكم سبحانه وتعالى وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجنايات غاية الإحكام وشرعها على أكمل الوجوه المتضمنة لمصلحة الردع والزجر، مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني من الردع، فلم يشرع في الكذب قطع اللسان، ولا القتل، ولا في الزنا الخصاء، ولا في السرقة إعدام النفس، وإنما شرع لهم في ذلك ما هو موجب أسمائه وصفاته من حكمته ورحمته، ولطفه وإحسانه وعدله لتزول النوائب، وتنقطع الأطماع عن التظالم والعدوان، ويقتنع كل إنسان بما آتاه مالكه وخالقه، فلا يطمع في استلاب غيره حقه (2).
_________
(1) أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه (جامع الأصول: 349/ 4).
(2) السياسة الشرعية لابن تيمية: ص 98، ورسالته في القياس: ص 85. ولابن القيم قول مشابه لهذا في أعلام الموقعين: 95/ 2، 107 وما بعدها، وكذا لعز الدين بن عبد السلام شيخ الإسلام في قواعد الأحكام: 163/ 1 - 165.

(7/5312)


يمكننا في ضوء ما تقدم بيان أهداف أو غايات العقوبة في شريعة الله تعالى بإيجاز فيما يلي:
1 - الزجر والردع: إن في تطبيق العقوبة الشرعية زجراً للمتهم ولأمثاله من الإقدام على الجريمة مرة أخرى، وذلك يساهم إلى حد كبير في إضعاف وتقليل نسبة الجريمة؛ لأن الحكمة من العقوبات أو الحدود الشرعية كما تبين هي زجر الناس، وردعهم عن اقتراف الجرائم الموجبة لها، وصيانة المجتمع عن ممارسة ألوان الفساد، والتخلص من ظاهرة الإجرام بقدر الإمكان.
2 - الإصلاح والتهذيب والتقويم: إن من أهداف العقوبة أيضاً هو إصلاح النفوس، وتهذيب الحواس، وإقناع المتهم بخطئه، وحماية الجماعة من طبائع النفوس الشريرة، وليس تأديب المجرم بقصد الانتقام أو التشفي منه، قال الماوردي عن الحدود: «الحدود زواجر وضعها الله تعالى للردع عن ارتكاب ما حظر، وترك ما أمر» (1). وقال عن التعازير (العقوبات المفوضة للحاكم) وعن الحدود أيضاً: «إنها تأديب واستصلاح وزجر، يختلف بحسب اختلاف الذنب» (2).
3 - محاربة الجريمة في ذاتها: الجريمة في واقعها ضرر بالنفس وبالمال وبالجماعة، فهي وباء فتاك أو نار تقتضي الحصر في أضيق نطاق ممكن للحد من آثارها الفاحشة، وعدم إشاعتها، حتى لا يتجرأ الناس على اقتحامها، ويستسهلوا أمر اقترافها أو ارتكابها ويستمرئوا فعلها.
لذا كان العقاب عليها أمراً لازماً، لاستئصالها من جنبات المجتمع، قال الماوردي: الجرائم محظورات شرعية، زجر الله تعالى عنها بحد أو تعزير، ولها
_________
(1) الأحكام السلطانية: ص 213.
(2) المرجع السابق: ص 223.

(7/5313)


عند التهمة حال استبراء تقتضيه السياسة الدينية، ولها عند ثبوتها وصحتها حال استيفاء توجبه الأحكام الشرعية (1).

4 - منع عادة الأخذ بالثأر، وإطفاء نار الغيظ لدى المعتدى عليه أو أقاربه: إن عادة الانتقام أو الأخذ بالثأر التي كانت سائدة في الجاهلية، والتي هي من طبائع النفوس، عادة قبيحة توسع من رقعة انتشار الجريمة، وتطول غير المجرم غالباً. لذا كان من حكمة الإسلام المبادرة إلى تطبيق العقوبة على المجرمين، منعاً من التورط في تلك العادة الذميمة، وإطفاءً لنار الحقد والغيظ المضطرمة في نفس المعتدى عليه أو أقاربه.
ومن الحكمة أن تكون العقوبة من جنس الجريمة كالقصاص، أو أشد منها تحقيقاً للمصلحة العامة بالحفاظ على الأموال والأعراض والدماء والعقول، فلا تكون المطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام في مصلحة أحد سواء المجتمع أو أقارب المجني عليه.

سادساً ـ مبادئ العقاب في الشريعة وما لها من أثر في تخفيف الجريمة: اشتملت الشريعة الإسلامية على مبادئ كثيرة تبدد المخاوف من تطبيقها في جانب العقوبات، وتقتلع من بعض النفوس في ديار العرب والإسلام وفي العالم الخارجي التهمة بقسوة أحكام الشريعة، وما فيها من تنكيل وتعذيب تتنافى مع الإنسانية وأوضاع الحضارة الحديثة، وتعد هذه المبادئ صمَّام أمان لحقوق الناس الاجتماعية، وقيوداً على الحرية بمعناها المطلق، وحاجزاً منيعاً من الجريمة.
وهذه المبادئ التي تنطلق منها أنواع العقاب في الشريعة تلازم وجدان
_________
(1) المرجع السابق: ص 211.

(7/5314)


القاضي وضميره وشعوره وأصوله في القضاء، وهي الرحمة والعدالة وحماية الكرامة الإنسانية، ورعاية المصالح العامة والخاصة أو حقوق المجتمع والشخص معاً، والمساواة بين الجريمة والعقوبة، وعدم الحرص على توقيع العقوبة في ظل مبدأ الستر حيث لا مجاهرة ولا إعلان بالفسق، والعفو عن المتهم في حالات كثيرة، ودرء الحد بالشبهة، والتركيز على العقوبة في حال المجاهرة والإعلان والمفاخرة بالمعصية، والاستخفاف بالقيم الإنسانية، وتحدي مشاعر المجتمع وإحساسه ونظامه العام وآدابه العامة.

أما مبدأ الرحمة: فمراعى أصلاً من الشرع حين وضع العقوبات، لأن الله رحيم حقاً بعباده، قال الله تعالى: {كتب ربُّكم على نفسه الرحمةَ} [الأنعام:6/ 54] وقال جل جلاله: {ورحمتي وسعت كلَّ شيء} [الأعراف:156/ 7].
ووصف الله تعالى مهمة أو وظيفة نبيه محمد صلّى الله عليه وسلم بأنها رسالة الرحمة والهداية، فقال: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء:107/ 21].
والمقصود من الرحمة المرعية في العقاب والتطبيق القضائي: الرحمة العامة بالجماعة، فينظر إلى المصلحة العامة من ناحية المبدأ والحكم المطبق، بقطع النظر عن مصلحة كل شخص بعينه. أما التسامح الخاص والشفقة والرفق بالم بعينه، أو ما يسمى بالرأفة بالمتهم الذي ثبتت عليه الجريمة، فلا ينظر إليه، وتستبعد مراعاته ومحاولة إعفاء الجاني من العقوبة، لذا قال الله تعالى في تطبيق الحد على الزناة: {ولا تأخذْكم بهما رأفةٌ في دينِ الله} [النور:2/ 24] فإذا ثبت الجرم وبلغ الألى الحاكم أو القضاء فلا مجال لترك العقوبه عليه. أما في مجال التعاون العام من أجل الخير المشترك، والتضامن في سبيل الصالح العام، والدفاع عن الأمة في مواجهة العدو الخارجي، فإن المجتمع الإسلامي مجتمع متراحم متعاون، كما قال
مر إتهموما أرسل

(7/5315)


الله تعالى: {محمدٌ رسول ُالله، والذين معه أشدَّاء على الكفّار، رُحَماء ُ بينهم ... } [الفتح:29/ 48] وسمة المسلم وشأنه وخاصيته الرحمة بالآخرين، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض، يرحمْكم من في السماء» (1) وقال أيضاً، «من لا يرحم الناس لا يرحمه الله» (2) وفي حديث آخر: «لا تنزع الرحمة إلا من شقي» (3).
قال ابن تيمية رحمه الله: إن إقامة الحد من العبادات، كالجهاد في سبيل الله، فينبغي أن يعرف أن إقامة الحدود رحمة من الله بعباده، فيكون الوالي شديداً في إقامة الحد، لا تأخذه رأفة في دين الله فيعطله، ويكون قصده رحمة الخلق، بكف الناس عن المنكرات لإشفاء غيظه، وإرادة العلو على الخلق، بمنزلة الوالد إذا أدّب ولده فإنه لو كف عن تأديب ولده، كما تشير به الأم رقة ورأفة، لفسد الولد، وإنما يؤدبه رحمة به، وإصلاحاً لحاله، مع أنه يود ويؤثر ألا يحوجه إلى تأديب (4).

وأما العدالة: فتقتضيها موازين العقوبات العامة، ويوجبها إلزام السلطة الحاكمة بالعدل، حتى لا تضطرب الموازين، ولئلا يتجرأ المفسدون في الأرض على متابعة فسادهم دون رقيب ولا عتيد، ولأن مبدأ الإسلام أن كل إنسان مجزي بعمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، قال الله تعالى مبيناً مهام الأنبياء والمرسلين ووظائفهم العامة: {لقد أرسلنا رُسلنا بالبيِّنات، وأنزلنا معهم الكتابَ والميزانَ، ليقوم الناسُ بالقِسْط، وأنزلنا الحديدَ فيه بأسٌ شديدٌ، ومنافعُ للناس} [الحديد:25/ 57].
_________
(1) أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والحاكم عن ابن عمر رضي الله عنه وهوصحيح.
(2) أخرجه أحمد والشيخان والترمذي عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه وهو صحيح.
(3) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه وهو حسن.
(4) السياسة الشرعية لابن تيمية: ص 98.

(7/5316)


والعدل والقسط بين الناس ملازم للرحمة الشاملة، كما تقدم، فليست الرحمة فوق العدل، ولا العدل فوق الرحمة، كما ذكر سابقاً، بدليل قول الحق سبحانه وتعالى: {وربُّك الغفورُ ذو الرحمةِ، لو يؤاخذُهم بما كَسَبوا، لعجَّل لهم العذابَ، بل لهم موعدٌ لن يجدوا من دونه موئلاً} [الكهف:58/ 18].

وحماية كرامة الإنسان: أصل من أصول العقاب في الإسلام، فليس في الشريعة ما ينافي الكرامة، ولا تسمح الشريعة للحاكم باتخاذ عقوبات تخل بالشرف والمروءة والكرامة، فلا يجوز ضرب الأعضاء الحساسة المخوفة التي قد تؤدي إصابتها إلى القتل، كالوجه والرأس والصدر والبطن والفرج والأعضاء التناسلية، لما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «ليس في هذه الأمة مدٌ ولا تجريد ولا غَل ولا صفد» (1) وجلد أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلم ينقل عن أحد منهم مدّ ولا تجريد، ولا ينزع عن المجلود ثيابه، بل يكون عليه الثوب والثوبان (2).
ومن مظاهر حماية الكرامة الإنسانية تحريم التمثيل أو الممثلة بالقتيل، ولو كان من الأعداء، قال الله تعالى: {ولقد كرّمنا بني آدم ... } [الإسراء:70/ 17]. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسانَ على كل شيء ... » (3) ونهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن المُثْلة والنهبى، وفي وصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه ليزيد بن أبي سفيان: «ولا تمثّلوا».
_________
(1) رواه الطبراني، قال الهيثمي: وهو منقطع الإسناد، وفيه جويبر، وهو ضعيف (مجمع الزوائد: 253/ 6). والغل بالفتح: شد العنق بحبل أو غيره، والصفد بالتحريك: القيد وهو الغل في العنق أيضاً.
(2) المهذب: 270/ 2، ومغني المحتاج: 190/ 4، المغني: 313/ 8 وما بعدها.
(3) أخرجه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة عن شداد بن أوس رضي الله عنه.

(7/5317)


ورعاية المصالح العامة والخاصة أو حقوق الجماعة والأفراد معا ً: هي ميزان الإسلام في كل ما شرع وحكم، فحفظ النظام للجماعة واجب أساسي لا يجوز للأفراد إسقاطه أو العفو عنه، أو إهمال إقامته، كما أنه ليس للجماعة الحق في مصادرة حقوق الأفراد الخاصة كالملكية الشخصية والحرية المنظمة.
وتعتبر الحدود على الجرائم الخطيرة كالزنا والسرقة والقذف وشرب المسكرات، كما تقدم، من مقومات المصلحة أو حقوق الجماعة أو حقوق الله، مثل الصلاة والصوم والزكاة؛ لأن المقصود بها إقامة الدين، والدين في تشريع الإسلام أساس نظام الجماعة العام؛ لأن المصالح التي لاحظها الإسلام هي الأصول الخمسة الكلية الضرورية لكل مجتمع، وهي مقاصد الشريعة المعروفة وهي حفظ الدين أو العقيدة، وحفظ النفس (أو حق الحياة) وحفظ العقل وحفظ النسل أو العرض، وحفظ المال والممتلكات، فلا تتوافر الحياة الإنسانية الصحيحة إلا بها.

والمساواة بين الجريمة والعقوبة: أساس تشريع العقوبات الإسلامية، فلا تجاوز عن الحدود المقررة شرعاً، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من بلغ حداً في غير حد، فهو من المعتدين» (1). ومن مبادئ الإسلام أنه لا افتئات فيه على أحد بجرم لم يصدر عنه، وأن الأصل في المتهم البراءة حتى تثبت إدانته. والقصاص أو إمكان المماثلة بين الجناية والعقوبة شرط جوهري في العقوبة، حتى يطمئن الناس إلى عدالة الحكم القضائي، ولتسهم العقوبة في توفير عنصر الرهبة والزجر المانع في الغالب من
_________
(1) رواه الطبراني بلفظ «من جلد حدا .. » وفيه شخصان غير معروفين للهيثمي كما قال، ورواه البيهقي عن النعمان بن بشير، وقال: المحفوظ المرسل، ورواه ابن ناجية في فوائده، ورواه محمد بن الحسن مرسلاً (نصب الراية: 354/ 3، مجمع الزوائد: 281/ 6).

(7/5318)


الإقدام على الجريمة دون إثارة ولا تشنيع ولا نقد، لذا قال الله تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} [البقرة:179/ 2].

وعدم الحرص من المشرع الإسلامي على إيقاع العقوبة: ليترك المجال للإنسان لإصلاح عيوب نفسه وأخطائه بنفسه، لذا أمر الشرع بالستر على المخطئ غير المجاهر، جاء في الحديث
الصحيح: «ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة» (1) وفي حديث آخر: «من ستر عورة أخيه المسلم، ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه، كشف الله عورته حتى يفضحه في بيته» (2).
وتجوز الشفاعة في الحدود قبل بلوغها إلى الحاكم، ترغيباً في الستر ومنع إشاعة الفاحشة، وتحرم الشفاعة وقبولها في حدود الله بعد أن تبلغ الحاكم؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله، فهو مضادٌ الله في أمره» (3). وقصة إنكار النبي صلّى الله عليه وسلم على أسامة بن زيد شفاعته في حد السرقة على المرأة المخزومية معروفة مشهورة (4).
ولا توقع العقوبة أو يحكم بها إلا بعد انتفاء الشبهات المقررة فقهاً وشرعاً، لقوله صلّى الله عليه وسلم في الحديث السابق عند ابن عدي عن ابن عباس: «ادرؤوا الحدود بالشبهات».
ولصاحب الحق الخاص العفو عن القاتل أوالمخطئ؛ لقوله تعالى: {وجزاء ُ سيئة سيئةٌ مِثْلها، فمن عفا وأصلح فأجرهُ على الله} [الشورى:40/ 42] وقوله
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضاً الترمذي والحاكم.
(2) أخرجه ابن ماجه عن ابن عباس مرفوعاً رضي الله عنه.
(3) أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه عن ابن عمر رضي الله عنه.
(4) أخرج الحديث أحمد ومسلم والنسائي عن عائشة رضي الله عنها.

(7/5319)


سبحانه في القصاص: {فمن عُفي له من أخيه شيء، فاتباعٌ بالمعروف، وأداءٌ إليه بإحسان} [البقرة:178/ 2]. والعفو كثيراً ما يلجأ إليه في الأوساط الإسلامية بسبب محاولات الصلح والتسوية الودية والتقاليد المتبعة بين القبائل والعشائر وفي الأرياف. وهذا سبيل رحب للتخلص من العقوبة، والدفع إلى الاستحياء من الجريمة حتى في القتل، والعفو يكون بالاختيار والرضا والطواعية لا بالإكراه أو بإلغاء العقوبة من القوانين.

والحالة التي لا بد فيها من العقاب: هي حالة المجاهرة بالمعصية وإشاعة الفاحشة، والإصرار على الإقرار أمام القاضي، وإعلان الردة عن الإسلام المتضمن الخروج عن نظام الجماعة، والكيد للمجتمع وحرماته والعمل على تقويض أركان العقيدة الإسلامية بالترويج للشكوك والشبهات، جاء في الحديث الثابت: «أيها الناس من ارتكب من هذه القاذورات، فاستتر، فهو في ستر الله، ومن أبدى صفحته، أقمنا عليه الحد». وقد وصف الله تعالى الذين يعلنون الجرائم ويكذبون على الناس ويرمونهم بالتهم الباطلة ويفترون عليهم، بأنهم أعداء المؤمنين، فقال الله تعالى: {إن الذين يحبِّون أن تشيع الفاحشةُ في الذين آمنوا، لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة، والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [النور:19/ 24].
وإن رقابة الله في السر والعلن: أو تكوين وازع الدين، وإيقاظ سلطان الضمير هو كما تقدم من أهم عوامل منع الجريمة والإجرام، وهو العنصر الأساسي المساعد للقاضي في الحكم على المتهم، وإصدار الحكم بالعقاب تخفيفاً أو تشديداً عليه؛ لأن من لا يصلح حاله بنفسه، صعب على الدولة أو المجتمع إصلاحه.
وإذا كانت الغاية من العقاب كما عرفنا إصلاح الإنسان، فبالأولى أن يكون

(7/5320)


تجنب كل ما يوقع في الجرائم بوازع الدين للإصلاح، لأن الدفع أو المنع أولى من الرفع «ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح» كما جاء في القواعد الشرعية الكلية.
ولقد بلغ من شدة الخوف من الله ومن قوة ضمير المسلم أن كان المؤمن الصادق الإيمان يقدم على الموت بلا تردد ولا وجل من أجل تطهير نفسه، وإرضاء ربه، فهل لهذا مثيل في قوانين الدين أو عادات الشعوب؟!.
والخلاصة: أن هذه المبادئ أو القواعد الشرعية تساهم مساهمة فعالة في منع الجريمة أو التخفيف منها أو توجيهها الوجهة الصالحة.

سابعاً - الحدود الشرعية وحكمتها وأثر تطبيقها في منع الجريمة في عصرنا:
لا شك بأن حقيقة الحد الشرعي قاسية، ولكن القسوة تفيد أحياناً في الزجر والردع والإصلاح، وهي أفعل وأمضى وأنفذ من العقوبات التعزيرية كالحبس والضرب البسيط، وليس أدل على أثرها في منع الجريمة من تطبيقها في البلاد السعودية، حيث استتب الأمن، وانقطعت السرقات، وانتهت عصابات قطع الطريق أو المحاربين، بالرغم من أن قطع اليد في ربع قرن فأكثر لا يزيد عن ستة عشر يداً. وكذلك عندما طبقت الحدود في السودان في عام (1983)، قلّت الجرائم، وعندما جمدت وأوقفت كثرت وانتشرت.
فالعقوبةالحدية أداة زجر وإصلاح معاً، ووسيلة تهذيب وتقويم فعال، لكني ألاحظ أن البدء في تطبيق الشريعة الإسلامية بأقسى ما فيها من عقوبات الحدود وما يصحبها من تصورات مغلوطة وأوهام فاسدة ومبالغات مسرفة، ليس منهجاً

(7/5321)


صحيحاً ولربما أدى عند تغير السلطة ورئاسة الدولة إلى ردود فعل عنيفة تسيء إلى الإسلام ديناً وعقيدة ونظام حياة، كما حدث في السودان في أواسط الثمانينات في رجب سنة (1406 هـ) الموافق (1985) بعد تطبيق الحدود سنة (1983) وحدث عام (1409 هـ) في الباكستان بعد أن فجرت طائرة الرئيس ضياء الحق الذي طبق الشريعة، لأن شريعة الإسلام منهج متكامل وكل لا يتجزأ، يشمل آفاق الحياة المختلفة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً.
وطريقة الإسلام أو أسلوبه في الإصلاح يبدأ أولاً بالتوجيه والإقناع، والبرهان والبيان، والدعوة بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة، والإرشاد الهادئ غير الثائر في الداخل، المعتمد على الإقناع ومناقشة أولئك الذي ألفوا تطبيق القوانين الغربية البعيدة عن فلسفة الإسلام وتصوراته.
وبالحكمة ونشر تعاليم الإسلام في أوساط الناس يمكن تحويل المجتمع بما فيه من طاقات خيّرة عن تقاليده وموروثاته الاستعمارية، وتصوراته الغربية الدنيوية، إلى عدل الإسلام ورحمته الشاملة ويسره وإسعاده الفرد والجماعة في عالمه القائم. ولا بد أيضاً من إصلاح أنظمة الحكم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بجعل الشورى أصلاً للحكم، والعدل والإنصاف رائداً للقضاء والسياسة فعلاً، لا مجرد شعار، والعمل بقدر الإمكان على تحقيق الرخاء أو الرفاه الاقتصادي للجميع، وتوزيع الثروة العامة بالعدل، ومحاولة إنهاء مشكلة الفقر والبطالة ومحو الأمية، وتغيير معالم المجتمع الجاهلية، وإصلاح مناهج التربية والتعليم ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة، وإزالة كل ما فيها من تناقضات وإشكالات، حتى تزول الاضطرابات الفكرية، وتستأصل العُقَد لدى الشباب، وتبدد الشبهات والمشكلات الطارئة في الأوساط العامة، بتأثير بعض النظريات المادية الخالية من تفسير ظواهر الكون تفسيراً دينياً مقبولاً، فإذا ما توافرت القاعدة الإسلامية، واستعد المجتمع

(7/5322)


نسبياً للعمل بالإسلام، وساد الاحترام لمبادئه وأحكامه، سهل حينئذ البدء بتطبيق أحكام الإسلام وشرعه المتكامل الشامل، ووضع خطة شاملة لتنفيذ جميع أحكامه فور العمل بشريعة الله عز وجل، ودون تدرج.
أما أن تصدر قوانين الحدود شكلاً واسماً، ويعلّق أو يجمد تطبيقها فعلاً أو أن نقتصر من تطبيق الإسلام على الحدود الشرعية، وترك الناس في متاهة أو جهالة أو مجاعة أو غليان داخلي بسبب الحاجة والفقر، فذلك ليس من شرع الله ودينه الذي يراد له الهيمنة على كل شؤون الحياة، وربما كان الاقتصار على تطبيق الحدود الشرعية فقط وسيلة لتنفير الناس من الإسلام، وإظهار فشله وعدم صلاحيته أو العمل على تجزئة أحكامه، قال الله تعالى: {أفتؤمنون ببعض الكتاب، وتكفرون ببعض، فما جزاء ُمن يفعل ُذلك منكم إلا خزيٌ في الحياة الدنيا ويومَ القيامة يُرَدُّون إلى أشدِّ العذاب، وما الله ُ بغافلٍ عما تعملون} [البقرة:85/ 2].

ثامناً - العقوبات الشرعية وحقوق الإنسان في الإسلام:
ترى بعض الجهات العلمية والاجتماعية في أوساط الغرب أن الحدود الشرعية تتنافى مع حقوق الإنسان في الحياة والحرية والكرامة الإنسانية. وتطالب منظمة العفو الدولية بإلغاء عقوبة الإعدام من قوانين العقوبات في الدول المعاصرة، وقد استجابت بعض الدول الغربية لهذا الاتجاه، كفرنسا وإيطاليا وألمانيا وبعض الولايات المتحدة الأمريكية التي ألغت هذه العقوبة، وبعضها أو أكثرها لم تلغها.
ويردد بعض رجال القانون الوضعي في البلاد العربية مثل هذه الأفكار واصفين العقوبات الشرعية أو الشريعة الإسلامية بأوصاف غير لائقة، ربما أدت بهم إلى الكفر. وتروّج بعض أجهزة الإعلام من صحف وإذاعات، في طليعتها

(7/5323)


إذاعة لندن بالقسم العربي، الإشاعات المغرضة من جراء تطبيق أحكام الشريعة، ويكثر الحديث في بلاد الغرب عما سمي بحركة الأصوليين الإسلاميين، ويتهمون كل من يطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية بأنهم متزمتون متشددون متعصبون، مع أنهم هم المتعصبون ضد الإسلام وأهله، أو هم الجاهلون السطحيون الذين لم يعرفوا حقيقة الإسلام، ولديهم استعداد لفهم الإسلام خطأ بسبب الدعايات المغرضة والأفكار الشائعة المشوهة.
ويعلن في أديس أبابا عاصمة الحبشة اتفاق يوم الثلاثاء الواقع في (1988/ 11/16) بين رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي السوداني السيد محمد عثمان الميرغني والعقيد جون قرنق زعيم حركة التمرد لتحقيق السلام في جنوب السودان، مقابل تجميد تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان (1).
ومصدر جميع هذه الاتجاهات المشبوهة شيء واحد هو التعصب ضد الإسلام ومقاومة الاتجاه الإسلامي، ودوافع ذلك وبواعثه معروفة يقصد بها تشويه أحكام الشريعة بسبب الجهل البيِّن بالحكم الشرعي ومسوغاته وحقيقته، أو عدم الربط بين الوسائل والغايات التشريعية، أو تجزئة أحكام الشريعة والنظر إلى جانب واحد منها دون إلمام باتجاهها العام ومراعاة بقية أحكامها. فمن نظر إلى حكم إسلامي ما من زاوية الوسيلة وحدها دون ربطه بالهدف التشريعي العام، بدا له وجه من النقد في تقديره الشخصي من خلال البيئة التي يعيش فيها، والغريبة عن
_________
(1) اتفق الجانبان على تجميد مواد الحدود وكافة المواد ذات الصلة المضمنة في قوانين سبتمبر 198 3، وألا تصدر أية قوانين تحتوي عى مثل تلك المواد، وذلك إلى حين انعقاد المؤتمر القومي الدستوري والفصل نهائياً في مسألة القوانين (جريدة الاتحاد في الإمارات 8 ربيع الثاني 1409 هـ الموافق 17 نوفمبر 1988) ثم أعلنت إذاعة لندن في مساء الثلاثاء 11 جمادى الأولى 1409 الموافق 20 ديسمبر 1988، وتبعتها جريدة الاتحاد السابقة في اليوم التالي أن الجمعية التأسيسية لم توافق في يوم الثلاثاء المذكور على هذا الاتفاق.

(7/5324)


الوسط الإسلامي، وحينئذ يتهم الشريعة بعدم صلاحيتها للمجتمع المتمدن المعاصر ذي النزعة الفردية المتحيزة لواحد من الناس، ويصف عقوباتها بالقسوة والعنف، أو التنكيل والتعذيب والوحشية في زعمه وتصوره القاصر.

والواقع أن الادعاء بوجود التعارض والمنافاة بين حقوق الإنسان وبين الحدود الشرعية أمر باطل للأسباب التالية:
أولاً: إن الله سبحانه وتعالى الذي شرع الحدود في الشريعة الإلهية هو أرحم بعباده وبالناس جميعاً من أنفسهم، وهو أدرى وأعلم بما يصلحهم وينفعهم، ويحقق الخير والنفع والأمن والطمأنينة لهم.
ثانياً: إن الجاني الذي يرتكب جريمة موجبة للحد الشرعي قد خرج عن الحدود الإنسانية الصحيحة، وشذ شذوذاً واضحاً عن معاير الحياة السوية، وطعن المجتمع في أقدس مقدساته، وإن شوهت معالم التقديس في الأوساط الغربية، فأصبح ما يسمى لدينا بالعِرْض مثلاً مفقوداً من المفاهيم الأخلاقية العامة والخاصة عند الغربيين، ومثل هذا المعتدي على حرمات المجتمع الجوهرية بمقتضى النظرة الصحيحة، لم يعد يردعه إلا مثل هذه العقوبة الشرعية المقررة في شرع الله ودينه.
ثالثاً: إن العقوبات البديلة عن الحدود الشرعية في القوانين الوضعية لم تحقق الهدف المطلوب، فانتشرت ظاهرة الجريمة، وكثر المجرمون، وتفننوا في ابتكار عجائب وألوان الإجرام مما لا يكاد يصدّق به عقل.
رابعاً: إن القرآن الكريم واضح الدلالة في الإعلان عن حقوق الإنسان في قوله تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم} [الإسراء:70/ 17] وإن الفقهاء المسلمين أشد العلماء حرصاً على رعاية كرامة الإنسان فيما استنبطوه من أحكام شرعية، فقرروا ضوابط كثيرة وشرطوا شرائط عديدة لتطبيق الحدود، وقد عرفنا أنه لا غل ولا

(7/5325)


تجريد ولا تصفيد ولا تمثيل في الإسلام، وأن للسجين الحق على الدولة في الغذاء والكساء (1) والمأوى الملائم، ومنع التعذيب الوحشي وغير ذلك من أصول الحفاظ على الكرامة الإنسانية.
خامساً: إن دعاة حقوق الإنسان أخطؤوا حينما رأوا أن تطبيق العقوبة الشرعية بشرائطها وضوابطها وموازينها العادلة يتنافى مع حقوق الإنسان، كما أخطؤوا أيضاً في محاولة الرأفة بشخص معين لذاته، وليس هو في الواقع أهلاً للرأفة، وإنما مراعاة للمصلحة الشخصية، وإهدار مصلحة الجماعة، والاعتداء على المصلحة العامة، وما يؤدي إليه من فقد الأمن والاستقرار، وانتشار ظاهرة القلق والخوف وعدم الاطمئنان على حق الحياة المقدس والحرية والأموال والممتلكات.
والخلاصة: إن العقوبات الشرعية أدوات فعالة في القضاء على الجريمة والمجرمين، ووسائل بناءة نفاذه في نشر الأمن والسلام واستئصال نزعة الإجرام بدليل الفارق الواضح والواقع المرّ الأليم في أرقى دول العالم تحضراً كأمريكا زعيمة العالم الحر وبريطانيا وغيرها، حيث تزداد نسبة الجريمة والاعتداء على الأشخاص والأموال، مما لا يردع المجرمين غير الحكم بشرع الله أحكم الحاكمين وأعدل القضاة.
قال الله تعالى عن القرآن الكريم: {قد جاءكم من الله ِ نورٌ وكتابٌ مبين، يهدي به الله ُ من اتبَّع رضوانَه سبُلَ السلام ويخرجُهم من الظلُمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراطٍ مستقيم} [المائدة:15/ 5 - 16] وقال سبحانه: {وهذا كتابٌ أنزلناه مباركٌ فاتَّبعوه واتقوا لعلكم تُرْحَمون} [الأنعام:155/ 6] وهذا بلا شك يحتاج إلى إيمان برسالة السماء وهدي الله تعالى.
_________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي: 182/ 4، ط بولاق سنة 1315 هـ.

(7/5326)


تاسعاً - شرعية الجريمة والعقوبة، أو مبدأ (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص)، وتأثير ذلك على ظاهرة الإجرام:
إن التصور السابق للجريمة المنصوص على تجريمها في قوانين الدولة العقابية، ومعرفة نوع العقوبة المقررة قانوناً في تقنين منشور متداول، يعد حاجزاً قوياً ما نعاً من الإجرام والتفكير بالجريمة والتخطيط لها.
لذا ظلت النظم الديمقراطية تحترم مبدأ قانونية أو شرعية الجرائم والعقوبات، بمعنى تركيز سلطة التجريم في يد الشارع أو من يفوضه في ذلك ضمن حدود معلومة، وقد أعلنت هذا المبدأ الثورة الفرنسية ونصت عليه وثيقة «إعلان حقوق الإنسان والمواطن عام (1789م) في المادة الثامنة، استجابة لصيحات الفلاسفة والمفكرين الذين حملوا على ما كان عليه القضاة من سلطة تحكمية أدت إلى إسراف في العقاب وعسف بحريات الأفراد، ونص عليه في المادة الرابعة من قانون العقوبات الذي أصدره نابليون سنة (1810م)، ثم انتقل إلى الشرائع الأخرى، وصاغه العرف القانوني بعبارة موجزة هي «لا جريمة ولا عقوبة بغير نص». والحكمة منه كفالة حقوق الأفراد وحريتهم في أفعالهم وتصرفاتهم، إذ لو ترك أمر التجريم للقاضي، لأضحى الأفراد في حيرة من أمرهم، ثم إن العدالة والمنطق يقضيان به حتى لا تواجه الدولة الأفراد بعقاب لا علم لهم به.
وبما أن هذا المبدأ يؤدي إلى جمود التشريع الجنائي وتخلفه عن مسايرة التطورات الحديثة، فقد اتجه الفقه والقضاء عامة إلى ضرورة التخفيف من حدته، وتوسيع سلطة القاضي في تقرير العقوبة أو إيقاف تنفيذها أحياناً، ولكن دون إخلال بأصل المبدأ، وهو حرمان القاضي من سلطة التجريم.
وفي هذا المجال أيضاً نجد بعض رجال القانون الوضعي يتهمون الشريعة

(7/5327)


الإسلامية جهلاً وغلطاً وظلماً وتعصباً ضدها بأنها تترك أمر التجريم للقاضي. ومنشأ الاتهام راجع في تقديرنا إلى ناحية تنظيمية: هي عدم وجود تقنين خاص بالجرائم والعقوبات عند الفقهاء الشرعيين المعاصرين، مع أن الأمر سهل جداً، إذ لا مانع شرعاً من وجود مثل هذا التقنين، ومن اليسير على فقهاء الشريعة إيجاده وصياغته في أشهر معدودة، إذا أظهرت السلطة الحاكمة استعدادها لتطبيق وإنفاذ العمل به، وقد وجد فعلاً بعض هذه التشريعات في ليبيا والسودان والإمارات. ولكن لا يعني عدم التقنين أن القاضي حر التصرف بالعقاب حرية مطلقة، وإنما الأمر في شأن التعازير (العقوبات غير المنصوص صراحة على نوعها ومقدارها) راجع شرعاً وفقهاً لتقدير ولي الأمر الحاكم أي الدولة، فالدولة تضع للقضاة من الأنظمة والقوانين الجزائية ما يناسب العصر، وعلى وفق ما تراه اللجان المتخصصة المكونة عادة من العلماء والفقهاء، بحسب متطلبات المصلحة العامة، ومقتضيات الزمان وتطور الأحداث.
لذا كان ينبغي أن يعرف هؤلاء القانونيون أن مبدأ التفويض لولي الأمر في تقدير العقوبات التعزيرية في الإسلام، هو في الأصل مبدأ دستوري تمارسه الدولة مقيدة بأحكام الشريعة، كما هو الشأن في أن كل دولة لها الحق في وضع القوانين الداخلية التي تريدها.
وعليهم أن يعرفوا أن الإسلام يفترض في كل مسلم ومسلمة تعلم أحكام شريعته، ومعرفة الفرائض والحلال والحرام، والمعاصي والعقوبات أو الجزاءات المقررة في الإسلام؛ لأن من الفرائض الشرعية العينية المطلوبة من كل المسلمين تعلم الحد الأدنى المفروض العلم به من الشريعة، فلا يصلح الاحتجاج بتقصير المسلمين في التعلم سبباً للقول بأن الأفراد لا يعلمون ما هو ممنوع ولا أنواع العقوبات، حتى توجد التقنينات.

(7/5328)


ثم إن كتب الشريعة، سواء القرآن والسنة ومصنفات الفقهاء المطولة والموجزة، فيها البيان الواضح المفصل لكل المعاصي والمخالفات، والكبائر والصغائر، والتحذير من مخاطرها وبيان مدى ضررها، والتصريح بالعقوبات الدنيوية والأخروية المقررة لها.
والقاضي لا يملك في الشريعة سلطة التجريم وتحديد أصل العقاب بحسب رغبته وهواه، كما يفهم خطأ، وإنما هو مقيد في ذلك بأحكام الشريعة، وبما تضعه له الدولة من نظام، إذ ليس لأي مسلم سلطة التشريع، وإنما السلطان في الأحكام إنشاء ووضعاً للشريعة والمشرع وهو الله تعالى، كل ما في الأمر هو أن للقاضي سلطات تقديرية في التطبيق فقط، حسبما يرى ملائماً لظروف الجريمة والجاني ولكن في غير دائرة الحدود والقصاص المنصوص على أحكامها صراحة، وإنما في مجال التعزيرات التي يمكن إدخال أغلب نصوص القوانين الجزائية الحديثة في مضمونها.
ويوضح ذلك أن الشريعة ـ كما هو معروف ـ جاءت حرباً على الأهواء الشخصية والنزعات والميول الفردية، كما دل على ذلك القرآن الكريم في آيات كثيرة منها قوله تعالى: {ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم} [الإسراء:36/ 17] وقوله سبحانه: {إن يتّبعون إلا الظن، وما تهوى الأنفس، ولقد جاءهم من ربهم الهدى} [النجم:23/ 53] وقوله عز وجل: {وما لهم به من علم، إن يتَّبعون إلا الظن، وإن الظنَّ لا يُغْني من الحق شيئاً، فأعرضْ عمن تولَّى عن ذِكْرنا، ولم يرِدْ إلا الحياة الدنيا} [النجم:28/ 35 - 29] وقوله جل جلاله: {ولو اتّبعَ الحقُّ أهواءهم، لفسدت السموات والأرضُ ومن فيهن، بل أتيناهم بِذِكْرهم، فهم عن ذِكْرهم مُعْرضون} [المؤمنون:23/ 71].

(7/5329)


لذا وضعت الشريعة نظاماً تشريعياً متكاملاً ودقيقاً للحياة، وسبق الفقهاء المسلمون إلى معرفة قاعدة «لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص» كما يتضح من القاعدتين الأصوليتين التاليتين:
1 - «لا حكم لأفعال العقلاء قبل ورود النص».
2 - «الأصل في الأشياء والأفعال والأقوال: الإباحة».
ومصدر هاتين القاعدتين قول الله تبارك وتعالى: {وما كنا معذِّبين حتى نبعث رسولاً} [الإسراء:15/ 17] وقوله سبحانه: {وما كان ربُّك مُهْلِكَ القرى حتى يبعثَ في أمّها رسولاً يتلو عليهم آياتنا} [القصص:59/ 28] وأمها: أصلها وعاصمتها ومركزها، وقوله جل وعز: {رسلاً مبشرِّين ومنذِرِين، لئلا يكون للناس على الله حجةٌ بعد الرسُلِ} [النساء:165/ 4].
هذه النصوص الشريفة قاطعة بأن لا جريمة إلا بعد بيان، ولا عقوبة إلا بعد إنذار.
وترتب على هذا المبدأ أن فترة الجاهلية عند جمهور المسلمين لا عقاب على الجرائم التي حدثت أثناءها، سواء أكانت إراقة دم حرام أم غيرها من الربا والزنا والنهب والغصب والمنكرات.
ويمكن القول إجمالاً: إن الشريعة والقانون الوضعي الجنائي يلتقيان في أنه إذا لم يكن هناك نص مانع من شيء، فهو مباح، بيد أن المنصوص عليه قانوناً صريح محصور في دائرة التقنين الموضوع، أما المنصوص عليه شرعاً فهو غير مقنن في مجموعة قانونية محدودة وموحدة بين المذاهب، وليس ذلك بعسير علينا عند الطلب، فقد يكون التحريم أو التجريم والعقاب مأخوذاً من نص القرآن الكريم أو

(7/5330)


السنة النبوية، أو من إجماع الأمة، أو من اجتهاد المجتهدين في ضوء النصوص، وروح التشريع الإسلامي. والنص الحاظر شرعاً أو المانع من فعل قد يكون صريحاً، كما هو الشأن في الحدود (العقوبات المقدرة نوعاً ومقداراً) وقد يفهم دلالة وضمناً من طريق اجتهاد علماء الإسلام الثقات. ودور العلماء في الحقيقة مجرد كاشف ومظهر لحكم الله في الحادثة، ومبيّن للقيود والشروط والأوصاف. أما أصل الحكم حظراً وعقاباً، فمرده إلى الحكم الإلهي، إذ لا بد لصحة الاجتهاد من مستند شرعي يعتمد عليه في الاستنباط.
ثم إن المحذور الذي يخشى منه القانونيون من مخالفة قاعدة: «لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص» وهو أن يلجأ القاضي فيما لا نص بتجريمه إلى الأخذ بالقياس، هذا المحذور قد فرغ من بحثه علماء الأصول من الحنفية ومن وافقهم الذين قرروا بصراحة عدم جواز القياس في الحدود والمقدرات الشرعية، سواء بالنسبة للمجتهد الفقيه أم للقاضي، وقرروا عدم جواز القياس في الحدود والكفارات والرخص والتقديرات؛ لأن القياس إنما يفيد الظن، والظن سبيل الخطأ، فكان في سلوكه شبهة، فلا يثبت من طريقه عقاب أو تجريم لحادثة لا نص فيها؛ لأن «الحدود تدرأ بالشبهات» وفي هذا التقعيد الأصولي ضمانة كافية أكيدة لحقوق وحريات الأفراد في تصرفاتهم وأفعالهم.
والقائلون بالقياس في الحدود كالمالكية والشافعية لا ينشئون حكماً جديداً بناء على تحريم حادثة، وإنما يطبقون النص المذكور في حادثة على حادثة مشابهة تماماً، مساوية للواقعة المنصوص عليها، فيكون عملهم من قبيل تطبيق النص على الوقائع، إذ ليست الوقائع كلها منصوصاً عليها حتى في القوانين النافذة الآن،

(7/5331)


ويكون القياس المنفي قانوناً في التجريم والعقاب معمولاً به شرعاً باتفاق الفقهاء، إذ ليس للمجتهد سلطة التشريع، أو إنشاء ووضع أحكام جديدة بالمنع والعقاب فيما لم يأذن به الشرع.
وتوضيحاً لذلك يحسن بيان مضمون التشريع الإسلامي في مجال العقوبات:
إن الجرائم والعقوبات محددة بذاتها ونوعها، معروفة تماماً في الإسلام، وهي كل ما نهى عنه القرآن الكريم أو السنة النبوية أو أبانه الفقهاء، والعقوبات الإسلامية منها كما تقدم ما هو مستوجب للإثم والعقاب الأخروي فقط، ومنها ما يجتمع فيه الوصفان: العقاب في الدنيا، والعقاب في الآخرة. والعقوبات الدنيوية تكون على فعل محرّم أو ترك واجب، وهي كما عرفنا نوعان: عقوبة مقدّرة، وعقوبة غير مقدّرة الكمّ شرعاً، والمقدّرة تختلف مقاديرها وأجناسها وصفاتها باختلاف أحوال الجرائم وكبرها وصغرها، وبحسب حال العاصي أو المذنب أو المجرم نفسه، كما أبان ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله.
والعقوبات المقدرة نوعاً ومقداراً وهي الحدود الشرعية الخمسة أو السبعة كما تبين سابقاً لدى الفقهاء قد نص عليها القرآن الكريم أو السنة النبوية صراحة، ثم أجمع عليها الصحابة الكرام والفقهاء من بعدهم. والسبب في نص الشرع عليها: هو حرصه على إقامة ركائز وحصون أساسية في حياة المجتمع، تعد بمثابة القواعد الصلبة، لتوفير الأمن والاستقرار والطمأنينة في الأنفس والأموال والأعراض والعقول وإقرار دين التوحيد الحق، ومنع الرذيلة، ودرء المفسدة، واستئصال نزعة الشر، وبتْر أسباب المنازعات والأمراض والفوضى الأخلاقية عن الناس في أخطر ما يمس جوهر حياتهم الاجتماعية التي لا بد لها من وجود نظام ثابت صحيح، غيرمِعْوَج.

(7/5332)


وليس للقاضي بداهة مخالفة النصوص في تجريم وعقاب هذه الجرائم التي قدر لها الشرع نوعاً ومقداراً معيناً من العقوبات، ولم يجز الشرع في العقوبات المقدرة عدا القصاص العفو عنها، ولا الشفاعة فيها، ولا الصلح والتنازل عنها، ولا إسقاطها والإبراء عنها، ولا المعاوضة عنها، بعد رفع الأمر فيها إلى القاضي، صوناً لحق الجماعة العام فيها وفي تطبيقها. ولا يملك القاضي التدخل في شأن هذه العقوبات إلا بإصدار الحكم فيها بعد ثبوت الجريمة، بطرق الإثبات الشرعية المقبولة، لأنها تمس النظام العام للمجتمع: وهو المحافظة على مقاصد الشريعة أو أصولها الكلية الخمسة، وهي الدين والنفس والعرض أو النسب والعقل والمال.
وأما العقوبات غير المقدرة نوعاً ومقداراً وهي التعزيرات، فهي أيضاً معروفة لدى كل مسلم، ويجب عليه تعلم أحكام شرعه، والتعزير: هو العقوبة المشروعة على معصية أو جناية (جريمة) لا حد فيها ولا كفارة، سواء أكانت الجريمة على حق الله تعالى، أي حق المجتمع، كالأكل في نهار رمضان عمداً، والإخلال بأمن الدولة، والتجسس، وترك الصلاة، وطرح النجاسة ونحوها في طريق الناس، أو على حق الأفراد، كمباشرة المرأة الأجنبية (غير القريبة قرابة رحم محرم) فيما دون الجماع، والتقبيل واللمس، والنظر والخلوة المحرمة ونحوها، وسرقة الشيء القليل الذي هو دون النصاب الشرعي الموجب للحد (دينار أو ربع دينار على الخلاف بين الفقهاء) والسرقة من غير حرز حافظ للمال، والقذف بغير لفظ الزنا ونحوه من أنواع السب، والضرب والإيذاء بأي وجه، كالقول: يا فاسق، يا خبيث، يا سارق، يا فاجر، يا زنديق، يا آكل الربا، يا شارب الخمر أو يا حمار، أو بغل أو ثور، في رأي الأكثرين، وخيانة الأمانة من الحكام وولاة الوقف ونظّار الأوقاف، وتبديد أموال الأيتام، وإهمال الوكلاء والشركاء، والغش في المعاملة، وتطفيف المكيال والميزان (النقص من البائع والزيادة من المشتري) وشهادة الزور التي كشف

(7/5333)


أمرها، والرشوة، والحكم بغير ما أنزل الله تهاوناً، والاعتداء على الرعية، والدعاء بدعوة الجاهلية وعصبيتها ونحو ذلك (1).
ويمكن وضع ضابط عام للتعزير بمثابة تقنين أو تعريف عام: وهو كل ما فيه اعتداء على النفس أو المال أو العرض أو العقل أو الدين مما لا حدّ فيه، وذلك يشمل كل الجرائم التي هي ترك واجب ديني أو دنيوي، أو فعل محرم محظور شرعاً للمصلحة العامة أو الخاصة بالشخص.
وذكر فقهاء الحنفية ضابطاً مختصراً لجرائم التعزير وهو: يعزر كل مرتكب منكر ـ خطيئة لا حد فيها ـ أو معصية ليس فيها حد مقدر أو مؤذي مسلم أو غير مسلم بغير حق، بقول أو فعل أو إشارة بالعين أو باليد (2). أو بعبارة أخرى: إن ضابط موجب التعزير: هو كل من ارتكب منكراً أو آذى غيره بغير حق بقول أو فعل أو إشارة، سواء أكان المعتدى عليه مسلماً أم كافراً (3).
وهذا الضابط، وإن كان فيه عموم وإجمال، خلافاً لما تتطلبه قوانين العصر من النص صراحة على كل جريمة بعينها وعقوبتها، إلا أنه بمثابة القاعدة الفقهية الكلية المفيدة في التفقيه ووضع الإطار العام للجرائم غير الحدية، ويمكن بسهولة إفراد كل جريمة بالبيان، لأن مرجع القاضي في التجريم ـ كما تقدم ـ إنما هو الشرع، وليس هو العقل والهوى الشخصي، الذي ليس له أثر في شرع الله بإنشاء الأحكام، وما على القاضي إلا أن يتقيد في كل تجريم بأوامر الشرع ونواهيه في القرآن والسنة، ويهتدى بما أجلاه الفقهاء تماماً في هذا الشأن، فما قبّحه الشرع أو منعه فهو قبيح ممنوع، وما حسّنه الشرع أو طلبه، فهو حسن مطلوب أو مباح، كما
_________
(1) البحر الرائق: 240/ 8، تكملة المجموع: 361/ 18.
(2) رد المحتار على الدر المختار: 195/ 3 وما بعدها.
(3) البدائع: 63/ 7.

(7/5334)


يقول الأصوليون غير المعتزلة. وحكم الشرع دائماً مقيد بالمصلحة العامة، ودفع الضرر العام. فإن لم تكن هناك مصلحة عامة أو ضرر عام، روعيت المصلحة الشخصية، دون إضرار بالآخرين. ويقسم ابن تيمية رحمه الله الجرائم التعزيرية، من ناحية أصل التكليف إلى قسمين:
الأول: ما تكون العقوبة فيه على إتيان فعل نهى الله عنه كالغش، والتزوير، وشهادة الزور (أي التي ظهر أمرها للقاضي) وخيانة الأمانة، والتدليس ... الخ.
الثاني: ما تكون العقوبة فيه على ترك واجب أو على الامتناع من أداء حق، وتكون هذه العقوبة بقصد حمل الشخص على أداء الواجب أو الحق، كعقوبة تارك الزكاة، فهي للحمل على الأداء وليست على ترك الزكاة، فإن أداها التارك فلا عقاب. وكذلك الحال بالنسبة لحبس المرتد، فإن تاب فلا عقاب، وحبس المدين المماطل، فإن وفى الدين فلا عقاب (1).
والعقوبات التعزيرية: هي التوبيخ أو الزجر بالكلام، والحبس، والنفي عن الوطن، والضرب. وقد يكون التعزير بالقتل سياسة في رأي الحنفية وبعض المالكية، وبعض الشافعية إذا كانت الجريمة خطيرة تمس أمن الدولة أو النظام العام في الإسلام، مثل قتل المفرّق جماعة المسلمين، أو الداعي إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلم، أو التجسس، أو انتهاك عرض امرأة بالإكراه، إذا لم يكن هناك وسيلة أخرى لقمعه وزجره (2).
_________
(1) الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي للأستاذ المرحوم محمد أبو زهرة: 122/ 1.
(2) الفروق للقرافي: 79/ 4، الاعتصام للشاطبي: 120/ 2، الطرق الحكيمة لابن القيم: ص 101 وما بعدها، أحكام القرآن للجصاص: 412/ 2، تبيين الحقائق: 207/ 2، المغني: 328/ 9، رد المحتار: 196/ 3، الشرح الكبير للدردير: 355/ 4، المهذب: 242/ 2، غاية المنتهى: 334/ 3، السياسة الشرعية لابن تيمية: ص 114، الحسبة لابن تيمية: ص48.

(7/5335)


يدل هذا على أن العقوبات التعزيرية معروفة أيضاً في الشريعة، وقد أوضحها الفقهاء في كتبهم، لكنهم قد يذكرونها إجمالاً، ويتركون اختيار إحداها للقاضي يفعل ما يراه محققاً للمصلحة من العقاب، وفي هذا مرونة ومنح للقاضي شيئاً من الحرية، وإعطاؤه سلطة تقديرية، وقد يحدد الفقهاء العقوبة الخاصة بكل جريمة على حدة، فتكون الكتب الفقهية بمثابة التقنينات، وإن كان ينقصها الجمع والتنظيم والإيجاز وحسن التبويب والتفصيل، لتعرف عقوبة كل جريمة بعينها. وليس للقاضي أصلاً الحكم بعقوبة غير مألوفة شرعاً، أما إن لم يكن في الكتب أحياناً تقدير محدد لعقوبة كل جريمة بذاتها، فحينئذ يتمكن القاضي من اختيار نوع العقوبة الملائم قدرها للجريمة، ومراعاة ظروف الجاني وأحواله تغليظاً أو تخفيفاً، لأن المقصود من التعزير: هو الزجر، والناس يتفاوتون بتفاوت مراتبهم فيما يحقق الهدف المقصود من العقاب، ولأنه قد تحدث جرائم لم يألفها الناس، حسبما تقتضي طبيعة التطورات الاجتماعية والاقتصادية، وقد يتفنن المجرمون في ابتكار ألوان مختلفة لجريمة واحدة، كما قال الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رحمه الله: «سيحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور» (1).
وإذا حكم القاضي بالضرب، فليس لأقله حد معين، فهو سوط فأكثر، ويفعل ما يراه محققاً للمصلحة والزجر. وأما أقصى الضرب فهو مقيد بألا يتجاوز مقداراً معيناً، وهو ما دون أقل الحدود الشرعية، للحديث المتقدم: «من بلغ حداً في غير حد فهو من المعتدين».
لكن اختلف الفقهاء في أكثر الضرب، فقال أبو حنيفة ومحمد والشافعية والحنابلة: لا يبلغ بالتعزير أدنى الحدود الشرعية، وهو أربعون جلدة، وإنما ينقص
_________
(1) انظر كتاب الخليفة الراشد العادل عمر بن عبد العزيز رحمه الله للكاتب صاحب البحث.

(7/5336)


منه سوط واحد، فلا يتجاوز الحكم تسعة وثلاثين سوطاً، باعتبار أن أقل الحدود للعبيد أربعون جلدة. وقال أبو يوسف: لا يبلغ بالحد ثمانين جلدة، وينقص منه خمسة أسواط، فلا يتجاوز خمسة وسبعين سوطاً، باعتبار أن أقل حد الأحرار ثمانون جلدة (1).
وقال المالكية: يجوز التعزير بمثل الحدود فأقل وأكثر بحسب الاجتهاد (2).
وتقدير مدد الحبس أو السجن متروك للقاضي. وعلى كل حال يمكن إصدار نظام أو قانون عام يحدد الحدود الدنيا والقصوى لكل عقوبة، ويبين مدى سلطة القاضي، فهذا متروك لاجتهاد ولاة الأمور، ولا حظر فيه شرعاً، أو عقلا، وإنما هو مستحسن بحسب الأعراف المعاصرة، ويمكننا بسهولة وضع تقنين شرعي يتناسب مع ظروف العصر، وقد حدث هذا فعلاً في القوانين الجنائية المستمدة من الشريعة الإسلامية كما تقدم.
ومن صفات التعزير عند الحنفية والشافعية: أنه ليس واجباً على القاضي الحكم به، وإنما يجوز له العفو عنه وتركه، إذ الم يتعلق به حق شخصي لإنسان معين (3)، لما روي أن النبي قال: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا في الحدود» (4). وهذا يدل على أنه يراعى في التعزير مصلحة المتهم، ويسلك معه مسلك التخفيف.
_________
(1) البدائع: 64/ 7، فتح القدير: 214/ 4، تبيين الحقائق: 209/ 3، نهاية المحتاج: 175/ 7، المهذب: 288/ 2، المغني: 324/ 8، غاية المنتهى: 333/ 3 - 335، السياسة الشرعية لابن تيمية: ص 112، الطرق الحكمية: ص 265.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 355/ 4.
(3) البدائع: 64/ 7، حاشية ابن عابدين: 204/ 3، مغني المحتاج: 193/ 4، قواعد الأحكام للعز: 158/ 1، المهذب: 288/ 2.
(4) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن عدي والعقيلي عن عائشة، وصححه ابن حبان.

(7/5337)


يتجلى مما سبق أن العقوبات التعزيرية تتصف بصفة المرونة في التطبيق، فيترك فيها للقاضي الحرية في اختيار نوع العقاب الملائم، أو الإعفاء من العقوبة أو التفاوت بين المجرمين بحسب الظروف والأحوال، وليس للقاضي أصلاً سلطة في التجريم والعقاب كيفما يشاء، وإنما هو مقيد في حكمه بأوامر الشرع وقيوده وقواعده، ويستأنس بتصنيف الفقهاء للعقوبات. وهذا كله يساعد في إصلاح المجرم وبالتالي الإقلال من الجريمة ومنعها، بسبب رهبته من العقاب المحدد مطلقاً، وهو أسمى ما ينشده رجال القانون للتخفيف من حدة مبدأ قانونية الجرائم، وإعطاء سلطات تقديرية للقاضي في العقاب، مثل ترتيب العقوبة بين حد أقصى وحد أدنى يتراوح بينهما تقديره، أو ائتمانه على تطبيق نظام الظروف المخففة، أو تخويله سلطة الأمر بإيقاف تنفيذ العقوبة في بعض الأحوال. وبذلك بدأت الشريعة الإسلامية في العقوبات التعزيرية بما انتهت إليه القوانين الحديثة في أفضل وأسمى نظرياتها.

عاشراً ـ موانع العقاب أو موانع المسؤولية، وأسباب الإباحة وإنسانية العقوبة: قد يمتنع تطبيق العقوبة لأسباب إنسانية تؤدي إلى منع الجريمة وحماية المجتمع من تكرار وقوع الجريمة وهي نوعان:
1 - موانع العقاب أو موانع المسؤولية: هي أسباب شخصية ترجع إلى تخلف الركن المعنوي للجريمة وهو القصد الجنائي (أو الإرادة الآثمة) إما لانعدام أهلية الفاعل وهو عذر صغر السن أو عدم التمييز والجنون، وإما بسبب انتفاء التكوين الطبيعي للإرادة وهو عذر الإكراه.

(7/5338)


2 - أسباب الإباحة: هي أسباب موضوعية ترجع إلى ظروف خارجة عن شخص الفاعل تمنع توافر علة التجريم، وتؤدي إلى عدم تطبيق العقوبة على من يرتكب فعلاً يعد في الأصل جريمة، مثل ممارسة حق الدفاع الشرعي واستعمال الحق، فتعتبر أفعال الدفاع مباحة باتفاق الفقهاء، فلا مسؤولية على المدافع من الناحيتين المدنية والجنائية، إلا إذا تجاوز حدود الدفاع المشروع، فيصبح عمله جريمة يسأل عنها مدنياً وجزائياً. والدفاع عامل مهم من عوامل منع الجريمة. واستعمال الحق مثل رضاء المجني عليه يسقط القصاص للشبهة، ورفع العقاب عن المكره ومثله المضطر في الشريعة يتمشى مع مراعاة الوظيفة الإنسانية للعقوبة، فلا قصاص في رأي الحنفية والظاهرية على المستكره على القتل، ولا عقاب عند جمهور الفقهاء على المرأة المستكرهة على الزنا، لقوله تعالى: {ولا تُكْرِهُوا فتياتِكم على البِغَاءِ إن أردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا، ومَنْ يكرِههن، فإنَّ الله من بعد إكراهِهِن غفورٌ رحيمُ} [النور:33/ 24] وكذا لا عقاب على الرجل المكره على الزنا في مذهبي الحنفية والشافعية، لأن الإكراه يوّرث شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات (1).
والمضطر لا عقاب عليه، لأن عمر رضي الله عنه أوقف قطع يد السارق عام الرمادة أو المجاعة العامة بالناس، وقال: «لا أقطع في عام سنة» (2). وذكر ابن القيم أن عمر رضي الله عنه أتي بامرأة جهدها العطش، فمرت على راع فاستقت، فأبى أن يسقيها إلا أن تمكنه من نفسها، ففعلت، فشاور الناس في رجمها، فقال
_________
(1) البدائع: 175/ 7 وما بعدها، بداية المجتهد: 389/ 2، الشرح الكبير للدردير: 444/ 3، الفروق للقرافي: 208/ 2، قواعد الأحكام: 132/ 2، القواعد لابن رجب: ص 286 وما بعدها، كشاف القناع: 98/ 4، المغني: /645، أعلام الموقعين: 183/ 4، بتحقيق عبد الحميد.
(2) أعلام الموقعين: 33/ 3، مطبعة النيل بمصر.

(7/5339)


علي رضي الله عنه: هذه مضطرة أرى أن يخلى سبيلها: {فمن اضْطُرَّ غير باغ ولا عاد فلا إثمَ عليه} [الأنعام:145/ 6] فخلى عمر سبيلها (1). وهذا يتفق أيضاً مع مبدأ انتفاء القصد الجنائي، وتطبيق قاعدة رفع الحرج، ودرء الحدود بالشبهات.

حادي عشر ـ الآثار الإصلاحية الكبرى لسياسة العقاب في الإسلام:
تبين مما سبق، وهذا بمثابة الخاتمة للبحث أن تطبيق الشريعة الإسلامية في مجال العقوبات، ومراعاة مبادئ السياسة الجنائية الإسلامية يؤدي إلى تحقيق الهدف المنشود من العقاب وهو تقويم المجرم، ومنع الجريمة أو التخفيف والإقلال منها، وهذه هي أهم آثار التطبيق للنظام الجنائي في الإسلام:

1 - تحقيق الزجر والردع للجاني ولأمثاله وللناس قاطبة، وإصلاح المجرم وتهذيبه أيضاً وعودته إلى الحياة عضواً صالحاً مستقيماً، كما سأبين، ففي إقامة الحدود الشرعية الزجر الكافي الذي يمنع من الجريمة، وليس أدل على صدق ذلك من أن تطبيق العقوبات الشرعية في السعودية وغيرها أدى إلى تحقيق الأمن والاطمئنان مما لا نجد له مثيلاً في العالم. وأن الخوف من العقوبة الأخروية ومن العذاب الشديد في نار جهنم يملأ النفس رهبة وخشية من اقتراف الجريمة.
والتوبة باب مفتوح لصلاح الجناة والمجرمين، كما أن المواعظ والإرشادات المتكررة في الحياة الإسلامية من أمر بمعروف ونهي عن منكر، وسماع خطب الجمعة والعيدين وغيرهما في المناسبات الإسلامية يعد عاملاً مهماً جداً في الإصلاح والتقويم، والزجر الردع معاً.

2 - عدم الحرص الشديد على تطبيق الحدود الشرعية: إن الأخذ بمبدأ
_________
(1) المرجع السابق.

(7/5340)


الستر على غير المجاهر بالمعصية، ودرء الحدود بالشبهات الكثيرة يؤديان إلى ندرة العقوبة وعدم الحرص الشديد على تطبيقها.

3 - منع الجريمة أو التخفيف منها: لا يمكن في الغالب استئصال الجريمة في أي مجتمع ولكن يمكن إضعافها وتقليل نسبتها باتباع نظام صحيح يحقق الهدف من العقوبة وهو صيانة الأمن، واستتباب النظام، ومنع الفوضى وجعل احتمال الجريمة أمراً بعيد الحصول.
4 - إصلاح المجرم وتقويمه واستقامته: إن كل إنسان يشعر ذاتياً بفداحة المسؤولية والعقاب، ويحس بضرر ذلك على سمعته وشرفه واعتباره، فإذا عوقب مرة، دفعه ذلك في الغالب إلى العزم على عدم العود إلى جرم آخر، وصلح حاله واستقام أمره.
5 - نظافة المجتمع وطهره وحمايته من ظاهرة الإجرام: وهذا هدف أساسي في سياسة العقاب في الإسلام، لأن أمن الفرد من أمن الجماعة، والعيش في سلام هو غاية كل إنسان، فيكون توقيع العقوبة المناسبة أدعى إلى صون مصلحة المجتمع أكثر من رعاية مصلحة فرد أو إنسان معين.
6 - تقدير المخاطر، والتوعية بأن الوقاية خير من العلاج: إن تطبيق العقوبة في الإسلام أمر علني لينزجر الناس، ويحاسبوا أنفسهم، ويقدروا ما قد يقعون فيه من الحساب العسير والعقاب الصارم؛ لأن كل امرئ بما كسب رهين، والوقاية خير من العلاج، وسد الذرائع المؤدية إلى الفساد أمر واجب، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
7 - نشر ظاهرة الخوف من العقاب الدنيوي والأخروي يحقق مصالح عامة كثيرة أهمها صون أمن المجتمع، والتوجه نحو التنمية والإنتاج وتوفير

(7/5341)


الطاقات، وتقليل الإنفاق على مقاومة الجريمة، فهناك خسائر تلحق بالممتلكات ومصادر الثروة كالسرقة والنصب والاختلاس، وتهريب الأموال، وخسائر في الأرواح بسبب القتل أو الإصابة بالعجز الكلي أو الجزئي، وتعطيل جزء من الطاقة بإيداع المجرمين في السجون، وإن صارت السجون الآن طاقة إنتاجية من خلال التدريب وتأهيل المسجونين ليتعلموا حرفة أو مهنة يتعيشون منها بعد إطلاق سراحهم من السجون. وهناك نفقات طائلة تنفقها الدولة في مكافحة الجريمة، كمرتبات رجال الشرطة والقضاء، ونفقات السجون ودور القضاء والموظفين في هذه المؤسسات وغير ذلك.

8 - تحقيق الأمن والاستقرار الدائم: إن ظاهرة الجريمة تحدث قلقاً بالغاً واضطراباً شديداً وغلياناً لا يهدأ إلا بالعقوبة الصارمة.
9 - بقاء العالم: إن في تطبيق العقوبة كالقصاص (أو الإعدام) صوناً لحياة العالم وأرواح الناس، وبقاء النوع الإنساني، لأن القاتل إذا علم أنه سيقتل إذا قتل، ارتدع وانزجر، فأحيا نفسه، وأحيا غيره، قال الله تعالى: {ولكم في القصاصِ حياةٌ يا أولي الألبابِ، لعلكم تتقون} [البقرة:179/ 2]. لذا كانت المطالبة بمنع عقوبة الإعدام خطأ بيناً لا يتفق مع المصلحة العامة والخاصة في شيء أبداً.
10 - حصر الجريمة في أضيق نطاق ممكن: وهذا من مقاصد التشريع وأصول العقاب في الإسلام، ويتمثل هذا بالترهيب من إشاعة الفاحشة في المجتمع، قال الله تعالى: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم} [النور:19/ 24]. وإذا شاعت الفاحشة تجرأ الناس على ارتكابها وهان عليهم اقترافها، ويتمثل أيضاً بمبدأ تفريد العقاب القضائي في نطاق التعازير

(7/5342)


(أي إصدار العقوبة الملائمة لكل فرد على حدة حسبما يلائمه ويزجره، فيحقق فكرة السلطة التقديرية للقاضي ويساير التطور) وكذا المسؤولية الشخصية، قال تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام:164/ 6]. ثم إن العقوبة واجبة التطبيق عند جمهور الفقهاء غير أبي حنيفة، ولو وقعت خارج دار الإسلام، لأن الممنوع أو الحرام لا تتغير صفته في أي مكان.

11 - الدفاع عن المجتمع ضد الجريمة: لقد حرص الإسلام على هذا المعنى، وأقام مبدأ التكافل الاجتماعي ضد الجريمة، أو المسؤولية الجماعية المفروضة على كل فرد أن يرعى مصالح الجماعة، كأنه حارس لها أو موكل بها، وهذا ما صوره الرسول صلّى الله عليه وسلم في حديث السفينة بقوله: «مثل القائم على حدود الله، والواقع فيها، كمثل قوم استهموا في سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا مرّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا، هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً» (1).
12 - الحفاظ على المقاصد العامة للتشريع أو الأصول الخمس الكلية: تقوم خطة الشريعة في التجريم والعقاب على أساس الحفاظ على المصالح الأساسية المعتبرة في الإسلام، وهي الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، وهي المصالح التي لا تستقيم الحياة الإنسانية إلا بوجودها وصيانتها من الاعتداء، فيكون الاعتداء عليها جريمة يعاقب عليها المعتدى بما يتناسب مع جسامة الجرم وخطورته (2).
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه.
(2) التعزير والاتجاهات الجنائية المعاصرة للدكتور عبد الفتاح خضر: ص 9.

(7/5343)


والخلاصة: إن العقوبات الإسلامية أدوات فعالة في القضاء على الجريمة والمجرمين، ووسائل نفّاذة في نشر الأمن والسلام واستئصال الجريمة، والدليل على ذلك واقع البيئة التي تطبق فيها، وحينئذ لا يلتفت إلى أي نقد أو اعتراض أو تشويه لمعنى العقوبة وأساليبها وأنواعها في شريعة الله تعالى، فتلك المزاعم باطلة، وأفكار مروجيها خطأ، ومصدرها الجهل بحقيقة الأمور في الشريعة، ومراعاة مصلحة شخص على حساب الجماعة كلها.

(7/5344)