الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

الفَصْلُ الثَّالث: طرق الإثبات يشتمل هذا الفصل على المباحث الأربعة التالية:
1 - الشهادة.
2 - اليمين.
3 - الإقرار.
4 - القرائن.

المبحث الأول ـ الشهادة والرجوع عنها:
أشرت في الفصل السابق إلى أن البينات ومنها الشهادات من أهم طرق إثبات الحق عند القاضي، ووعدت بتخصيص مبحث مستقل للشهادة أتكلم فيه عن حكم أداء الشهادة وشروط تحملها؛ وشروط أدائها، وحكم الرجوع عن الشهادة، في المطالب الستة الآتية:

المطلب الأول ـ تعريف الشهادة وركنها وحكمها.
المطلب الثاني ـ شروط تحمل الشهادة.
المطلب الثالث ـ شروط أداء الشهادة.
المطلب الرابع ـ حكم الرجوع عن الشهادة.

(8/6027)


المطلب الخامس ـ عقوبة شاهد الزور.
المطلب السادس ـ شهادة غير المسلمين.
المطلب الأول ـ تعريف الشهادة وركنها وحكمها:
الشهادة: مصدر شهد من الشهود بمعنى الحضور، وهي لغة: خبر قاطع. وشرعاً: إخبار صادق لإثبات حق بلفظ الشهادة في مجلس القضاء (1).
وركنها: لفظ (أشهد) لا غير؛ لأن النصوص اشترطت هذا اللفظ، إذ الأمر القرآني ورد فيها بهذه اللفظة، ولأن فيها زيادة تأكيد، فإن قوله: (أشهد) من ألفاظ اليمين. وهي تتضمن معنى المشاهدة أي الإطلاع على الشيء. فلو قال: (شهدت) لا يجوز؛ لأن الماضي موضوع للإخبار عما وقع، والشهادة يقصد بها الإخبار في الحال (2).
والأصل في الشهادة قبل الإجماع: الكتاب والسنة.
أما الكتاب فقوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين، فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282/ 2] وقال تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق:2/ 65]، {وأشهدوا إذا تبايعتم} [البقرة:282/ 2] أمر إرشاد لا وجوب.
وأما السنة فمثل قوله صلّى الله عليه وسلم لمدع: «شاهداك أو يمينه» (3) وخبر في السنة: «أنه
_________
(1) فتح القدير: 2/ 6، الدر المختار: 385/ 4، الشرح الكبير للدردير: 164/ 4، مغني المحتاج: 426/ 4.
(2) الدر المختار، المرجع السابق، البدائع: 266/ 6، اللباب شرح الكتاب: 57/ 4، المغني: 216/ 9.
(3) رواه البخاري ومسلم عن الأشعث بن قيس، وقد سبق تخريجه.

(8/6028)


صلّى الله عليه وسلم سئل عن الشهادة، فقال للسائل: ترى الشمس؟ قال: نعم، فقال: على مثلها فاشهد، أو دع» (1).

وحكم الشهادة: وجوب القضاء على القاضي بموجبها بعد توافر شروطها. وأما حكم تحمل الشهادة وأدائها، فهو فرض كفائي إذا دعي الشهود إليه، إذ لو تركه الجميع، لضاع الحق، ويصبح أداء الشهادة بعد التحمل فرض عين، فيلزم الشهود بأداء الشهادة، ولا يجوز لهم كتمانها إذا طالبهم المدعي بها، لقوله تعالى: {ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا} [البقرة:282/ 2] وقوله سبحانه: {ولا تكتموا الشهادة، ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} [البقرة:283/ 2] وقوله عز وجل: {وأقيموا الشهادة لله} [الطلاق:2/ 65] (2).
ويجب أداء الشهادة بلا طلب في حقوق الله تعالى، كطلاق امرأة بائناً، ورضاع، ووقف، وهلال رمضان، وخلع، وإيلاء، وظهار. قال الحنفية (3): الذي تقبل فيه الشهادة حسبة (4) بدون الدعوى أربعة عشر: وهي الوقف، وطلاق الزوجة، وتعليق طلاقها، وحرية الأمة، وتدبيرها، والخلع، وهلال رمضان، والنسب، وحد الزنا، وحد الشرب، والإيلاء، والظهار، وحرمة المصاهرة، ودعوى المولى نسب العبد. وزاد ابن عابدين: الشهادة بالرضاع.
لكن الشهادة في الحدود: يخير فيها الشاهد بين الستر والإعلام؛ لأنه يكون متردداً بين شهادتي حسبة: في إقامة الحد، والتوقي عن هتك حرمة مسلم، والستر
_________
(1) رواه البيهقي والحاكم وصحح إسناده وتعقبه الذهبي، فقال: «بل هو حديث واه» وأخرجه ابن عدي بإسناد ضعيف عن ابن عباس (سبل السلام: 130/ 4، نصب الراية: 82/ 4).
(2) المبسوط: 177/ 16، فتح القدير: 3/ 6، الدر المختار: 386/ 4، الشرح الكبير للدردير: 199/ 4، مغني المحتاج: 450/ 4، المغني: 146/ 9، المهذب: 323/ 2.
(3) الدر المختار ورد المحتار: 440/ 3.
(4) الحسبة: الأجر، أي لقصد الأجر، لا لإجابة مدعٍ.

(8/6029)


أولى وأفضل؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم للذي شهد عنده: «لو سترته بثوبك لكان خيراً لك» (1) وقوله عليه الصلاة والسلام: «من ستر مسلماً، ستره الله في الدنيا والآخرة» (2) وقد عرفنا في الحدود أن الرسول عليه الصلاة والسلام لقن ماعزاً الرجوع عن الإقرار بقوله: «لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت» ففي هذا دلالة ظاهرة على أفضلية الستر.
لكن الأولى أن يقول الشاهد في السرقة: أخذ المال إحياء لحق المسروق منه، ولا يقول: سرق صوناً ليد السارق عن القطع، فيكون بهذا قد جمع بين الستر والإعلام أو الإظهار (3).

المطلب الثاني ـ شروط تحمل الشهادة:
تحمل الشهادة: عبارة عن فهم الحادثة وضبطها بالمعاينة أو بالسماع. ويشترط لتحمل الشهادة شروط ثلاثة عند الحنفية (4).

أولها ـ أن يكون الشاهد عاقلا ً: فلا يصح تحمل الشهادة من المجنون والصبي الذي لايعقل؛ لأن التحمل يتطلب الفهم والإدراك، وهو يحصل بالعقل.
_________
(1) الواقع أن الذي قال له النبي صلّى الله عليه وسلم هذا القول وهو «هزَّال» لم يشهد عنده بشيء، ولكنه هو الذي أشار على ما عز أن يأتي النبي صلّى الله عليه وسلم ويقر عنده، فلم يكن شاهداً؛ لأن ماعزاً حد بالإقرار، فقال النبي لهزال: «لو سترته بثوبك لكان خيراً لك» رواه أبو داود والنسائي والبزار وأحمد والطبراني عن نعيم ابن هزال (راجع نصب الراية: 74/ 4).
(2) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: «ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة» ورواه الحاكم من طريقين، ورواه الترمذي عن ابن عمر، ورواه أبو نعيم عن مسلم بن مخلد مرفوعاً، ورواه ابن ماجه عن ابن عباس مرفوعاً (نصب الراية: 307/ 3، 79/ 4، تلخيص الحبير: 66/ 4).
(3) فتح القدير، الدر المختار، المرجعان السابقان، اللباب: 54/ 4.
(4) البدائع: 266/ 6، الدر المختار: 385/ 4.

(8/6030)


ثانيها ـ أن يكون بصيراً وقت التحمل، فلا يصح التحمل من الأعمى؛ لأن شرط التحمل هو السماع من الخصم، ولا يعرف الخصم إلا بالرؤية؛ لأن نغمات الأصوات يشبه بعضها بعضاً.
وقال الحنابلة (1): تحمل الشهادة يكون بالرؤية والسماع، فيجوز للأعمى أن يشهد فيما يتعلق بالسماع كالبيع والإجارة وغيرهما إذا عرف المتعاقدين، وتيقن أنه كلامهما.
وقال الشافعية (2): لا تجوز شهادة الأعمى فيما يتعلق بالبصر لجواز اشتباه الأصوات، وقد يحاكي الإنسان صوت غيره، كما قال الحنفية، فلا يجوز أن يكون شاهداً على الأفعال كالقتل والإتلاف والغضب والزنا وشرب الخمر، وهذا ما قال به الحنابلة أيضاً، كما لا يجوز أن يكون شاهداً على الأقوال كالبيع والإقرار والنكاح والطلاق، إلا فيما سماه الشافعية بصورة الضبط: وهي أن يقر شخص في أذن الأعمى بنحو طلاق أو مال لشخص معروف، فيتعلق الأعمى به ويضبطه إلى أن يحضر عند الحاكم، فيشهد عليه بما سمعه منه، فتقبل شهادته في هذه الحالة على الصحيح.

ثالثها ـ معاينة المشهود به بنفسه لا بغيره إلا فيما تصح فيه الشهادة بالتسامع من الناس والاستفاضة؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم للشاهد: «إذا علمت مثل الشمس فاشهد، وإلا فدع» (3) ولا يتم العلم مثل الشمس إلا بالمعاينة.
ولا يشترط لتحمل الشهادة البلوغ والحرية والإسلام والعدالة، وإنما هي شروط للأداء.
_________
(1) المغني: 58/ 9 وما بعدها.
(2) المهذب: 334/ 2 وما بعدها، مغني المحتاج: 446/ 4.
(3) رواه الخلال في الجامع بإسناده عن ابن عباس بلفظ سبق ذكره. والمذكور هنا مروي بالمعنى.

(8/6031)


وأما ما تصح فيه الشهادة بالتسامع: فهي النكاح، والنسب، والموت، ودخول الرجل على امرأته، وولاية القاضي، فللشاهد أن يشهد بهذه الأشياء إذا أخبره بها من يثق به استحساناً؛ لأن هذه الأمور يختص بمعاينة أسبابها خواص الناس، ويترتب عليها أحكام دائمة على ممر السنين والأعوام، فلو لم يقبل فيها الشهادة بالتسامع، لأدى ذلك إلى الحرج وتعطيل الأحكام.
والتسامع عند أبي حنيفة: هو بأن يشتهر الخبر ويستفيض بين الناس، وتتواتر به الأخبار ليحصل له نوع من اليقين. وعند الصاحبين: بأن يخبر الشاهد رجلان عدلان أو رجل وامرأتان، واختار قولهما بعض الفقهاء بدليل أن القاضي يحكم بشهادة شاهدين، ولو لم يرد المشهود به أو يسمعه بنفسه. وعند أداء الشهادة بالتسامع لا يذكر الشاهد أمام القاضي أن شهادته بالتسامع، وإنما يقول: أشهد بكذا.
أما فيما عدا المذكور فلا يجوز للشاهد أن يشهد بشيء لم يعاينه؛ لأن الشهادة مشتقة من المشاهدة: وهي المعاينة، وتتم بالعلم، فلا تجوز الشهادة إلا بما علمه الإنسان، بدليل قوله تعالى: {إلا من شهد بالحق، وهم يعلمون} (1) وقوله سبحانه: {ولا تقْف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد، كل أولئك كان عنه مسؤولاً} [الإسراء:36/ 17] (2).
وقال المالكية: تجوز شهادة التسامع في عشرين حالة: منها عزل قاض أو والٍ أو وكيل، وكفر، وسفه، ونكاح، ونسب، ورضاع، وبيع، وهبة ووصية (3).
_________
(1) الآية: {ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} [الزخرف:86/ 43].
(2) المبسوط: 111/ 16، فتح القدير: 20/ 6، البدائع: 266/ 6، اللباب: 67/ 4، المغني: 158/ 9. المهذب: 334/ 2.
(3) راجع الشرح الكبيرللدردير وحاشية الدسوقي عليه: 198/ 4 وما بعدها.

(8/6032)


والتسامع: أن يكون المنقول عنه غير معين ولا محصور، وذلك بأن يشتهر النسب مثلاً المشهود به بين الناس العدول وغيرهم. ويشترط أن يقول الشهود: سمعنا أو لم نزل نسمع سماعاً فاشياً من أهل العدل وغيرهم أن فلاناً ابن فلان.
وقال الشافعية في الأصح: تجوز الشهادة بالتسامع أو الاستفاضة في النسب والموت، والوقف، والنكاح، وملكية الأشياء، فإن استفاض في الناس أن فلاناً ابن فلان، جاز أن يشهد به؛ لأن سبب النسب لا يدرك بالمشاهدة، وإن استفاض في الناس أن فلاناً مات، جاز أن يشهد به؛ لأن أسباب الموت كثيرة، ويتعذر الاطلاع عليها، وإن استفاض في الناس أن هذه الدار لفلان جاز أن يشهد به؛ لأن أسباب الملك لا تضبط ... وهكذا (1).
وقال الحنابلة: تصح الشهادة بالاستفاضة في النسب والولادة، والنكاح والموت، والملك، والوقف، والولاية والعزل (2).
ويشرط التسامع عند الشافعية والحنابلة في الأصح مثلما قال أبو حنيفة: سماع المشهود به من جمع كثير يؤمن تواطؤهم (أي توافقهم) على الكذب بحيث يحصل العلم (أي اليقين) أو الظن القوي بخبرهم. ولا بد من أن يقول الشاهد: أشهد بكذا.

الشهادة على الكتابة: بما أن الشهادة لا تجوز إلا بما علمه الشاهد، فلا يحل للشاهد عند أكثر العلماء أن يشهد بما رآه من خط نفسه، إلا أن يتذكر الشهادة؛ لأن الخط يشبه الخط، والمطلوب في الشهادة العلم بالحادثة، والشيء المشتبه فيه لا يفيد العلم، فإن تذكر القضية أو الشهادة، يشهد حينئذ على ما علم لا على أنه خطه.
_________
(1) المهذب: 335/ 2، مغني المحتاج: 448/ 4 وما بعدها.
(2) المغني: 161/ 9.

(8/6033)


وقال أبو يوسف ومحمد وفي رواية عند الحنابلة: يجوز للشاهد أن يشهد بما يجده من خط نفسه (1).

أنواع ما يتحمله الشاهد:
مايتحمله الشاهد نوعان: أحدهما: ما يثبت حكمه بنفسه. وهو ما يعرف بالسماع المباشر كالبيع والإقرار، أو رؤية الفعل بالذات كالغصب والقتل.
فللشاهد إذا سمع أورأى أن يشهد به، ويقول: أشهد أنه باع، ولا يقول: أشهدني؛ لأنه كذب. ولو سمع من وراء الحجاب لا يجوز له أن يشهد؛ لأن النغمة تشبه النغمة.
والثاني: ما لا يثبت حكمه بنفسه: وهو ما لا يوجب الشهادة بنفسه، وإنما بالنقل إلى مجلس القضاء والإنابة في الأداء. فإذا سمع شاهداً يشهد بشيء لم يجز أن يشهد بنفسه على شهادته إلا أن يشهده على شهادته، ويأمره بأدائها ليكون نائباً عنه. وكذلك لو سمعه يشهد الشاهد على شهادته ويأمره بأدائها لم يسع السامع له أن يشهد؛ لأنه لم يحمله الشهادة، وإنما حمل غيره (2).
فالنوع الثاني إذن يكون بتكليف الشاهد لغيره نقل شهادته أمام القضاء.

المطلب الثالث ـ شروط أداء الشهادة:
يشترط في مذهب الحنفية لجواز أداء الشهادة عند القاضي شروط في الشاهد وفي الشهادة نفسها، وفي مكان الشهادة. وفي إيضاح هذه الشروط نتبين من تقبل
_________
(1) فتح القدير: 19/ 6، اللباب: 59/ 4، الشرح الكبير للدردير: 193/ 4، المغني: 160/ 9.
(2) الكتاب مع اللباب: 58/ 4 وما بعدها.

(8/6034)


شهادته، ومن لا تقبل، وحالة اختلاف الشهود في الشهادة، وصفة العدالة في الشهود.

شروط الشاهد:
يشترط في الشاهد شرائط عامة في كل الشهادات، وشرائط خاصة ببعض أنواع الشهادات.
أما الشرائط العامة فهي ما يأتي (1):

1 - أهلية العقل والبلوغ: يشترط أن يكون الشاهد عاقلاً بالغاً باتفاق الفقهاء، فلا تقبل شهادة من ليس بعاقل إجماعاً، مثل المجنون والسكران والطفل؛ لأنه لا تحصل الثقة بقوله، ولا تقبل شهادة صبي غير بالغ؛ لأنه لا يتمكن من أداء الشهادة على الوجه المطلوب، لقوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [البقرة:282/ 2] وقوله: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق:2/ 65] وقوله: {ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282/ 2] والصبي ممن لا يرضي؛ ولأن الصبي لا يأثم بكتمان الشهادة، فدل على أنه ليس بشاهد.
وأما شهادة الصبيان بعضهم على بعض، فتجوز عند الإمام مالك في الجراح وفي القتل، خلافاً لجمهور الفقهاء، بشرط أن يتفقوا في الشهادة، وأن يشهدوا قبل تفرقهم، وألا يدخل بينهم كبير (2).

2 - الحرية: اتفق الحنفية والمالكية والشافعية على أن الشاهد يشترط فيه أن
_________
(1) البدائع: 267/ 6 وما بعدها.
(2) بداية المجتهد: 451/ 2، 452، البدائع: 164/ 6، المرجع السابق، الشرح الكبير للدردير: 165/ 4، المغني: 164/ 9، مغني المحتاج: 427/ 4.

(8/6035)


يكون حراً، فلا تقبل شهادة رقيق، لقوله تعالى: {ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء} [النحل:75/ 16] ولأن الشهادة فيها معنى الولاية، وهو لا ولاية له.
وقال الحنابلة والظاهرية: تقبل شهادة العبد، لعموم آيات الشهادة، ولأن العبودية ليس لها تأثير في الرد، وقيدها الحنابلة فيما عدا الحدود والقصاص (1).

3 - الإسلام: اتفق الفقهاء على اشتراط كون الشاهد مسلماً، فلا تقبل شهادة الكافر على المسلم؛ لأنه متهم في حقه، وأجاز الحنفية والحنبلية شهادة الكافر في الوصية في السفر، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموتُ حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم، أو آخران من غيركم} [المائدة:106/ 5] وأجاز الحنفية خلافاً للجمهور شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض إذا كانوا عدولاً في دينهم، وإن اختلفت مللهم كاليهود والنصارى (2)، لما روى ابن ماجه عن جابر بن عبد الله: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أجاز شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض» (3) وفي بعض رجاله مقال.
ولا تقبل شهادة الحربي المستأمن على الذمي؛ لأنه لا ولاية له عليه؛ لأن الذمي من أهل ديارنا، وهو أعلى حالاً منه. وتقبل شهادة الذمي على الحربي المستأمن، كما تقبل شهادة المسلم عليه وعلى الذمي. وتقبل شهادة المستأمنين بعضهم على بعض إذا كانوا أهل دار واحدة.
_________
(1) المراجع السابقة، البدائع: ص 267 وما بعدها، بداية المجتهد: ص 452، الشرح الكبير: 165/ 4، مغني المحتاج: ص 427، المغني: ص 194.
(2) المراجع السابقة، فتح القدير: 41/ 6، الكتاب مع اللباب: 63/ 4، نصب الراية: 85/ 4، بداية المجتهد: ص 452، مغني المحتاج: ص 427، المغني: ص 182.
(3) أخرجه ابن ماجه في سننه عن جابر بن عبد الله: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أجاز شهادة أهل الكتاب، بعضهم على بعض» وفيه مجالد وفيه مقال (نصب الراية: 85/ 4).

(8/6036)


4 - البصر: يشترط عند أبي حنيفة ومحمد والشافعية: أن يكون الشاهد مبصراً، فلا تقبل شهادة الأعمى؛ لأنه لا بد من معرفة المشهود له والإشارة إليه عند الشهادة، ولا يميز الأعمى بين الناس إلا بنغمة الصوت، وفيه شبهة؛ لأن الأصوات تتشابه. وتشدد الحنفية فمنعوا قبول شهادة الأعمى وإن كان بصيراً عند تحمل الشهادة.
وأجاز المالكية والحنابلةوأبو يوسف شهادة الأعمى إذا تيقن الصوت؛ لعموم الآيات الواردة في الشهادة، ولأنه رجل عدل مقبول الرواية، فقبلت شهادته كالبصير، ولأن السمع أحد الحواس التي يحصل بها اليقين، ولهذا أجاز الشافعية شهادة الأعمى فيما يثبت بالاستفاضة. كما أجازوا أن يكون شاهداً في الترجمة؛ لأنه يفسر ما سمعه بحضرة الحاكم، وسماعه كسماع البصير (1).

5 - النطق: اشترط الحنفية والشافعية والحنابلة أن يكون الشاهد ناطقاً، فلا تقبل شهادة الأخرس، وإن فهمت إشارته؛ لأن الإشارة لا تعتبر في الشهادات؛ لأنها تتطلب اليقين، وإنما المطلوب التلفظ بالشهادة.
وأجاز المالكية قبول شهادة الأخرس إذا فهمت إشارته؛ لأنها تقوم مقام نطقه في طلاقه ونكاحه وظهاره، فكذلك في شهادته (2).

6 - العدالة: اتفق العلماء على اشتراط العدالة في الشهود، لقوله تعالى: {ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282/ 2] وقوله سبحانه: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق:2/ 65] فلا تقبل شهادة الفاسق كالزاني والشارب
_________
(1) المراجع السابقة، البدائع: ص 268، فتح القدير: ص 27، مغني المحتاج: ص 446، المهذب: 335/ 2، المغني: ص 189، الشرح الكبير للدردير: 167/ 4، اللباب: 60/ 4.
(2) المغني: 110/ 9، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 168/ 4.

(8/6037)


والسارق ونحوهم، وكذا مجهول الحال، وروي عن أبي يوسف: أن الفاسق إذا كان وجيهاً في الناس، ذا مروءة، تقبل شهادته؛ لأنه لا يستأجر لشهادة الزور لوجاهته، ويمتنع عن الكذب لمروءته. وقال جمهور الحنفية: لا تقبل شهادة الفاسق مطلقاً، إلا أن القاضي لو قضى بشهادة الفاسق نفذ قضاؤه، ويكون القاضي عاصياً.
والعدالة: لغة التوسط، وشرعاً: اجتناب الكبائر وعدم الإصرار على الصغائر. والحقيقة أن اجتناب الكبائر كلها هو شرط لصحة الشهادة، وبعد توقيها يلاحظ الشأن الغالب، فمن كثرت معاصيه أثَّر ذلك في شهادته، ومن ندرت منه المعصية قبلت شهادته. وهذا هو حد العدالة المعتبرة، حتى لا يترتب على التشدد سد باب الشهادة وإماتة الحقوق.
وضابط عدالة الشاهد في مذهب الشافعية: أن يكون مجتنباً الكبائر، وغير مصر على الصغائر، وسليم السريرة أي العقيدة، ومأموناً عند الغضب، ومحافظاً على مروءة مثله.
واكتفى أبو حنيفة بظاهر العدالة في المسلم، ولا يسأل عن الشهود، حتى يطعن الخصم بها إلا في الحدود والقصاص، فإنه يسأل عن الشهود، وإن لم يطعن فيهم الخصوم، ودليله على الاكتفاء بظاهر العدالة قوله صلّى الله عليه وسلم: «المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدوداً في قذف» (1) ومثله مروي عن عمر رضي الله عنه (2). وأما دليله على استثناء الحدود والقصاص، فهو أن القاضي يتحايل
_________
(1) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ولفظه: «إلا محدوداً في فرية» (نصب الراية: 81/ 4).
(2) رواه الدارقطني عن أبي المليح الهذلي، وهو في كتاب عمر المشهور إلى أبي موسى الأشعري (نصب الراية، المرجع السابق).

(8/6038)


لإسقاطها عن المتهم، فيشترط فيها استقصاء معرفة حال الشهود؛ ولأنها تدرأ بالشبهات.
وقال الصاحبان والفتوى على قولهما: لا بد من أن يسأل القاضي عن الشهود في السر والعلانية في سائر الحقوق؛ لأن القضاء قائم على الحجة، وهي شهادة العدول، فلا بد من التعرف على العدالة، وفي ذلك صيانة للحكم القضائي عن النقض والإبطال بسبب الطعن في عدالة الشهود (1).
قال المتأخرون من الحنفية: هذا الاختلاف اختلاف عصر وزمان، لا اختلاف حجة وبرهان؛ لأن زمن أبي حنيفة كان زمن خير وصلاح؛ لأنه زمن التابعين، وشهد لهم النبي صلّى الله عليه وسلم بالخيرية، بخلاف زمان الصاحبين، قال عليه الصلاة والسلام: «خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم إن من بعدهم قوماً يشهدون ولا يُستشهدون، ويخونون ولايؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن» (2).
وقال فقهاء الحنفية: لا تقبل شهادة مُخنَّث، لفسقه، وهو الذي يفعل الرديء ويؤتى كالنساء. أما الذي في كلامه لين وفي أعضائه تكسر فهو مقبول الشهادة.
ولا تقبل شهادة نائحة في مصيبة غيرها بأجر، ولا مغنية، ولو لنفسها لحرمة رفع صوتها، خصوصاً مع الغناء، ولا شهادة مدمن الشرب لهواً، سواء أكان الشراب خمراً أم غيره لحرمة ما ذكر في الإسلام، ولا شهادة من يلعب بالطيور؛
_________
(1) راجع المبسوط: 113/ 16، فتح القدير: 12/ 6 وما بعدها، البدائع: 268/ 6 وما بعدها، الدر المختار: 388/ 4، الكتاب مع اللباب: 57/ 4 وما بعدها، بداية المجتهد: 451/ 2، مغني المحتاج: 427/ 4، المغني: 165/ 9 وما بعدها.
(2) رواه الشيخان وأحمد عن عمران بن حصين (نيل الأوطار: 296/ 8، سبل السلام: 126/ 4).

(8/6039)


لأنه يورث غفلة، ولأنه قد يطلع على عورات النساء بصعود سطحه ليطير طيره، ولا شهادة من يغني للناس؛ لأنه يجمع الناس على ارتكاب كبيرة، ولا من يأتي كبيرة موجبة للحد كالزنا والسرقة ونحوها؛ لأنه يفسق، ولا من يدخل الحمام بغير إزار؛ لأن كشف العورة حرام إذا رأى الشخص غيره، ولا من يأكل الربا إذا كان مشهوراً به، ولا المقامر بالنرد (أي الزهر) والشطرنج؛ لأن كل ذلك من الكبائر، لكن الشطرنج عند الشافعي مكروه فقط، وليس كبيرة، إذا لم يكن قماراً.
ولا تقبل شهادة من يفعل الأفعال المستقبحة، كالبول على الطريق والأكل على الطريق؛ لأنه في عرف السابقين تارك للمروءة؛ ومثله لا يمتنع عن الكذب فيتهم. ولا تقبل شهادة من يظهر سب السلف كالصحابة والتابعين لظهور فسقه، بخلاف من يخفيه؛ لأنه فاسق مستور (1).
واتفق الفقهاء على أن الفاسق إذا تاب من فسقه، تقبل شهادته. واستثنى الحنفية المحدود في القذف، فإنه لا تقبل شهادته عندهم وإن تاب، خلافاً لبقية الفقهاء. ومنشأ الخلاف هو عود الاستثناء في قوله تعالى: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً، وأولئك هم الفاسقون، إلا الذين تابوا من بعد ذلك} [النور:4/ 24 - 5]. فقال الحنفية: لا تقبل شهادة المحدود في قذف وإن تاب، لقوله تعالى: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً} [النور:4/ 24] وأما الاستثناء فهو راجع عندهم إلى الجملة الأخيرة وحدها، أي إلى أقرب مذكور إليه.
وقال جمهور الفقهاء: تقبل شهادة المحدود في قذف بعد التوبة؛ لأن الاستثناء بعد الجمل المتعاطفة بالواو يعودإليها جميعاً إلا إذا خصص الحكم
_________
(1) راجع الكتاب مختصر القدوري مع اللباب: 61/ 4 وما بعدها، فتح القدير: 34/ 6 وما بعدها.

(8/6040)


بالإجماع، وهنا خصص الإجماع أحد الأحكام السابقة عند التوبة وهو أن الحد لا يسقط بالتوبة (1).
وتقبل شهادة أهل الأهواء، أي أصحاب البدع التي لا تكفر صاحبها مثل الجبرية والقدَرية والرافضة والخوارج والمشبهة والمعطلة.
وكذلك تقبل شهادة الأقلف (غير المختون) إلا إذا تركه استخفافاً بالدين، فلا يكون حينئذ عدلاً، وتقبل شهادة الخصي وولد الزنا إذا كان عدلاً، وشهادة الخنثى ويعتبر كأنثى (2).

7 - عدم التهمة: أجمع الفقهاء على أن التهمة ترد بها الشهادة. والتهمة: أن يجلب الشاهد إلى المشهود له نفعاً أو يدفع عنه ضرراً، فلا تجوز شهادة الوالد لولده وولد ولده ولا شهادة الولد لأبويه وأجداده، ولا شهادة الخصم لخصمه. والخصم: كل من خاصم في حق، فلا تقبل شهادة الوكيل لموكله، ولا الموصى له للميت أو الموصى عليه: وهو اليتيم في حجره ورعايته، ولا الشريك لشريكه في أمور الشركة؛ لأنها شهادة لنفسه من وجه لاشتراكهما في الشركة. فلو شهد الشريك بما ليس من شركتهما تقبل شهادته لانتفاء التهمة، وأجاز المالكية شهادة الشريك، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين» (3) وقوله عليه الصلاة
_________
(1) مذكرة تفسير آيات الأحكام بالأزهر: 131/ 3، وراجع بداية المجتهد: 452/ 2، فتح القدير: المرجع السابق: ص 29، البدائع، المرجع نفسه: ص 271، مغني المحتاج: 438/ 4، المغني، المرجع نفسه: ص 197 وما بعدها، المهذب: 330/ 2 وما بعدها.
(2) الكتاب مع اللباب: 63/ 4 ومابعدها.
(3) أخرجه مالك في الموطأ موقوفاً على عمر، وهو منقطع، ورواه أبو داود في المراسيل عن طلحة بن عبد الله بن عوف، ورواه أيضاً البيهقي من طريق الأعرج مرسلاً، ورواه الحاكم عن أبي هريرة مرفوعاً، وفي إسناده نظر (نيل الأوطار: 291/ 8).

(8/6041)


والسلام: «لا تقبل شهادة بدوي على حضري» (1).
ولا تقبل شهادة العدو على عدوه بالاتفاق حتى عند الحنفية؛ لأن العداوة تورث التهمة، ولا يؤمن التقول فيها، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تجوز شهادة الخائن، ولا خائنة، ولا ذي غِمْر على أخيه، ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت، والقانع: الذي ينفق على أهل البيت» (2) والمراد بالعدو الذي ترد شهادته: هو صاحب العداوة الدنيوية، وهو من يبغض المشهود عليه بحيث يتمنى زوال نعمته، ويحزن بسروره، ويفرح بمصيبته.
واتفقوا على جواز شهادة الأخ والعم والخال ونحوهم بعضهم لبعض، لانعدام التهمة؛ لأن مال كل واحد منهم مستقل عن الآخر عرفاً وعادة، فكانوا كالأجانب.
واختلفوا في شهادة أحد الزوجين للآخر، فردها جمهور الفقهاء؛ لأن كل واحد منهما يرث الآخر، وينتفع بماله عادة، فينتفع بشهادته لصاحبه.
وأجاز الشافعية قبولها؛ لأن الحاصل بين الزوجين عقد يطرأ ويزول فلا يمنع قبول الشهادة، كما لو شهد الأجير للمستأجر وعكسه.
_________
(1) رواه أبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة بلفظ: «لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية» (انظر نيل الأوطار: 291/ 8، سبل السلام: 129/ 4، الإلمام: ص 520) والبدوي: من سكن البادية، نَسَب على غير قياس النسبة، والقياس بادوي، والقرية: المصر الجامع.
(2) رواه أبو داود وأحمد وعبد الرزاق والبيهقي وابن دقيق العيد وابن ماجه بإسناد حسن، قال ابن حجر في التلخيص: وسنده قوي. وروايته من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وقوله «ذو الغمر»: أي صاحب الشحناء والحقد، والغمر بكسر الغين وسكون الميم، وقال صاحب سبل السلام: بفتح الغين وفتح الميم وكسرها، والقانع: هو الخادم المنقطع إلى الخدمة، فلا تقبل شهادته للتهمة بجلب النفع لنفسه كالأجير الخاص (نصب الراية: 83/ 4، نيل الأوطار: 291/ 8، سبل السلام: 128/ 4، الإلمام: ص 519).

(8/6042)


وتقبل شهادة الصديق لصديقه باتفاق الفقهاء، والصديق: من صدق في ودادك، بأن يسرَّه ما يسرك، ويضره ما يضرك، ويهمه مايهمك. وقبول شهادته، لضعف التهمة بالنسبة إليه، بعكس شهادة الأصل للفرع، وبالعكس ونحوهما (1).

وأما الشرائط الخاصة ببعض الشهادات دون بعض، فأهمها مايأتي:
1 - العدد في الشهادة بما يطلع عليه الرجال، لقوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين، فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282/ 2] وذلك في الحقوق المدنية، مالاً كان الحق، أو غير مال، مثل النكاح والطلاق والعدة والحوالة، والوقف، والصلح، والوكالة، والوصية، والهبة، والإقرار، والإبراء، والولادة، والنسب، فهذه الحقوق تثبت عند الحنفية بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين. وقبول شهادة المرأة هنا لتوافر أهلية الشهادة عندها: وهي الشهادة والضبط والأداء. والسبب في جعل المرأتين في مقام رجل في الشهادة: هو نقصان الضبط بسبب زيادة النسيان، كما في قوله تعالى: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} [البقرة:282/ 2] (2).
وقال الشافعية والمالكية والحنابلة: لا تقبل شهادة النساء مع الرجال إلا في الأموال وتوابعها كالبيع والإجارة والهبة والوصية والرهن والكفالة؛ لأن الأصل عدم قبول شهادة النساء لغلبة العاطفة عليهن، واختلال ضبط الأمور، وقصور
_________
(1) راجع المبسوط: 120/ 16 ومابعدها، البدائع: 272/ 6، فتح القدير: 31/ 6 وما بعدها، الدر المختار: 392/ 4 ومابعدها، اللباب: 60/ 4 وما بعدها، بداية المجتهد: 452/ 2 ومابعدها، الشرح الكبير: 168/ 4 وما بعدها، المهذب: 329/ 2 وما بعدها، مغني المحتاج: 433/ 4 وما بعدها، المغني: 185/ 9، 191.
(2) فتح القدير: 7/ 6، البدائع: 277/ 6، الكتاب مع اللباب: 55/ 4 ومابعدها.

(8/6043)


الولاية على الأشياء. أما ما ليس بمال ولا يقصد منه المال ويطلع عليه الرجال كالنكاح والرجعة والطلاق والوكالة وقتل العمد والحدود سوى حد الزنا، فلا يثبت إلا بشاهدين ذكرين، لقوله تعالى في الرجعة: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق:2/ 65] ولما روى ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» (1) وعن الزهري أنه قال: «جرت السنة على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده ألا تقبل شهادة النساء في الحدود والدماء» (2) قال الشافعية: فدل النص على الرجعة والنكاح والحدود، وقسنا عليها كل ما لا يقصد به المال ويطلع عليه الرجال (3).
وفي حد الزنا: أجمع العلماء على أنه لا يثبت بأقل من أربعة شهود رجال عدول أحرار مسلمين، لقوله تعالى: {لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء، فإذ لم يأتوا بالشهداء، فأولئك عند الله هم الكاذبون} [النور:13/ 24] وقوله سبحانه: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} [النساء:15/ 4] وقوله عز وجل: {ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} [النور:4/ 24].وقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أربعة شهود، وإلا حد في ظهرك» (4).
_________
(1) أخرجه البيهقي وابن حبان والطبراني في الأوسط عن عمران بن حصين وعائشة وأبي هريرة وجابر وغيرهم، وذكر السيوطي تصحيحه (الجامع الصغير: 204/ 2، نصب الراية: 167/ 3، مجمع الزوائد: 286/ 4).
(2) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن الزهري، وأخرجه عبد الرزاق عن علي، قال: «لا تجوز شهادة النساء في الحدود والدماء» (نصب الراية: 79/ 4).
(3) المهذب: 333/ 2، بداية المجتهد: 454/ 2، المغني: 149/ 9 ومابعدها، الطرق الحكمية: ص 152 وما بعدها.
(4) رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أنس بن مالك، وأخرجه البخاري عن ابن عباس بلفظ: «البينة وإلا حد في ظهرك» (نصب الراية: 306/ 3).

(8/6044)


وفي سائر الحدود الأخرى والقصاص اتفق الجمهور على أنها تثبت بشهادة رجلين لقوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [البقرة:282/ 2] ولا تقبل فيها شهادة النساء لا مع رجل، ولا مفردات.
وقال الظاهرية: تقبل شهادة النساء مع رجل في الحدود إذا كان النساء أكثر من واحدة، عملاً بظاهر الآية: {فإن لم يكونا رجلين، فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282/ 2].
وأما مالايطلع عليه إلا النساء، فتقبل فيه شهادة النساء، لما روي: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أجاز شهادة القابلة» (1) ولما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن الزهري، قال: «مضت السنة أن تجوز شهادة النساء فيما لا يطلع عليه غيرهن، من ولادات النساء وعيوبهن» (2).
واختلف في تحديد تلك الحالات، فقال الحنفية: تقبل شهادة النساء في الولادة والبكارة وعيوب النساء في موضع لا يطلع عليه الرجال، ولا تقبل شهادتهن منفردات على الرضاع؛ لأنه يجوز أن يطلع عليه محارم المرأة من الرجال، ولا تقبل شهادتهن عند أبي حنيفة على استهلال الصبي بالنسبة للإرث؛ لأن الاستهلال صوت الصبي عند الولادة، وهو مما يطلع عليه الرجال، فلا تكون شهادتهن فيه حجة، لكن تقبل شهادتهن في صلاة الجنازة على المولود؛ لأن الصلاة من أمور الدين، وشهادتهن فيها حجة كشهادتهن على هلال رمضان.
_________
(1) رواه الدارقطني في سننه عن حذيفة بن اليمان، وفيه رجل مجهول، ورواه الطبراني في الأوسط، قال الهيثمي: وفيه من لم أعرفه، وقال في التنقيح: هو حديث باطل لا أصل له (راجع نصب الراية: 80/ 4، مجمع الزوائد: 201/ 4).
(2) ورواه ابن أبي شيبة أيضاً (نصب الراية: 80/ 4).

(8/6045)


وقال الصاحبان: تقبل شهادتهن على الاستهلال بالنسبة للإرث أيضاً؛ لأن الاستهلال صوت عند الولادة، ولا يحضرها الرجال عادة، فصار كشهادتهن على نفس الولادة. وهو الرأي الأرجح عند الكمال بن الهمام صاحب فتح القدير.
وقال المالكية والشافعية والحنابلة: تقبل شهادة النساء منفردات فيما لا يراه رجال غالباً كبكارة وثيوبة وولادة وحيض ورضاع واستهلال ولد، وعيوب نساء تحت الثياب، كجراحة ورتَق وقرَن وبرص وانقضاء عدة، ودليلهم خبر الزهري السابق ذكره، ويقاس ما لم يذكر في الخبر على ما ذكر فيه مما شاركه في الضابط المذكور من ولادة وعيوب النساء.
واختلفوا في العدد المشترط في شهادة النساء منفردات: فقال الحنفية والحنبلية: تقبل شهادة امرأة واحدة عدل (1). وقال المالكية: يكفي امرأتان. وقال الشافعية: ليس يكفي أقل من أربع نسوة؛ لأن الله عز وجل قد جعل عديل الشاهد الواحد امرأتين، واشتراط الاثنينية (2).

2 - الاتفاق في الشهادتين عند التعدد: يشترط اتفاق الشهادتين (3) فيما
_________
(1) لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أجاز شهادة القابلة، رواه الدارقطني عن حذيفة، وروى أبو الخطاب عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «يجزئ في الرضاع شهادة امرأة واحدة» روى أحمد والطبراني في الكبير عن ابن عمر «أنه سأل النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال، أو أن رجلاً سأل النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: ما الذي يجوز في الرضاع من الشهود؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: رجل أو امرأة، وفي رواية: «رجل وامرأة» وفيه ضعيف ولكن له مؤيد في أن شهادة المرضعة وحدها تقبل (راجع سبل السلام: /218، مجمع الزوائد: 201/ 4).
(2) راجع لكل ما ذكر: المبسوط: 112/ 16، فتح القدير: 6/ 6 وما بعدها، البدائع: 277/ 6، 279، الدر المختار: 386/ 4 وما بعدها، اللباب: 55/ 4 وما بعدها، بداية المجتهد: 453/ 2 وما بعدها، الشرح الكبير: 185/ 4، المهذب: 332/ 2 وما بعدها، مغني المحتاج: 441/ 4 وما بعدها، المغني: 147/ 9 وما بعدها، 155، المحلى لابن حزم: 483/ 9، الطرق الحكمية: ص 129.
(3) يشترط عند أبي حنيفة اتفاق الشاهدين في اللفظ والمعنى معاً، ويكتفى عند الصاحبين بالموافقة المعنوية (الكتاب مع اللباب: 65/ 4).

(8/6046)


يطلب فيه العدد، فإن اختلفت الشهادة لم تقبل؛ لأن اختلاف الشهادتين مثلاً يوجب اختلاف الدعوى. والاختلاف يكون في جنس المشهود به، وفي قدره، وفي الزمان والمكان ونحوها.

أما الاختلاف في الجنس فقد يكون في العقد كأن يشهد أحدهما بالبيع والآخر بالميراث أو بالهبة، وقد يكون في المال كأن يشهد أحدهما بمكيل والآخر بموزون فلا تقبل الشهادة، لاختلاف العقدين، أولاختلاف الجنسين.
وأما الاختلاف في القدر: فهوأن يدعي رجل على آخر ألفي درهم، ويثبت ادعاءه بالبينة، فيشهد له شاهد بألفين، والآخر بألف، فلا تقبل الشهادة عند أبي حنيفة؛ لأنه يشترط اتفاق الشاهدين باللفظ والمعنى، وهنا اختلف الشاهدان لفظاً؛ لأن أحدهما مفرد، والآخر مثنى، واختلاف الألفاظ إفراداً وتثنية يدل على اختلاف المعاني الدالة عليها، فكان كلام كل منهما مبايناً لكلام الآخر، فصار كما إذا اختلف جنس المال، وهذا هو الصحيح.
وتقبل هذه الشهادة عند الصاحبين على ألف درهم؛ لأن الشاهدين اتفقا على الألف، وتفرد أحدهما بالزيادة، فيثبت الحق فيما اتفقا عليه دون ما تفرد به أحدهما.
وهذا الاختلاف يجري فيما إذا شهد أحد الشاهدين على طلقة، والآخر على طلقتين أو ثلاث، لا تقبل الشهادة عند أبي حنيفة، وتقبل على الأقل عند الصاحبين.
واتفق أبو حنيفة مع صاحبيه على أنه إذا كان المدعي يدعي ألفاً وخمس مئة، فشهد أحد الشاهدين على الألف، والآخر على ألف وخمس مئة، تقبل الشهادة على الألف، لاتفاق الشاهدين عليها لفظاً ومعنى؛ لأن الألف والخمس مئة

(8/6047)


جملتان عطفت إحداهما على الأخرى، والعطف يقرر المعطوف عليه ويؤكده، بخلاف الألف والألفين، فليس بينهما حرف العطف.

وأما الاختلاف في الزمان والمكان: فإن كان الاختلاف في الإقرار فتقبل الشهادة؛ لأن الإقرار يحتمل التكرار، فيمكن التوفيق بين الشهادتين بسماع الإقرار في زمانين أو مكانين.
وإن كان الاختلاف في الفعل كالقتل والغصب وإنشاء البيع والطلاق والنكاح ونحوها، فإنه يمنع قبول الشهادة، لاختلافها؛ لأن الأفعال لا تحتمل التكرار، فاختلاف الزمان والمكان فيها يوجب اختلاف الشهادتين، فما لم يوجد على كل حالة شاهدان لا يقبل. فلو شهد شاهدان أن زيداً قتل يوم النحر بمكة، وشهد آخران أنه قتل يوم النحر بالكوفة، لم تقبل الشهادتان للتيقن بكذب إحداهما.
ولو ادعى رجل على آخر قرض ألف درهم، فشهد شاهدان: أحدهما على القرض، والآخر على القرض والقضاء، أي أنه أدى الدين، يقضى بشهادتهما على القرض، ولا يقضى بالأداء في ظاهر الرواية؛ لأن الشهادتين اتفقتا على القرض، فيقضى به، واختلفا في الأداء، فلا يقضى به (1).

شروط في الشهادة نفسها:
يشترط في الشهادة شروط منها:

1 - لفظ الشهادة: ينبغي أن يذكر الشاهد لفظة الشهادة، فإن قال الشاهد: أعلم أو أتيقن، لم تقبل شهادته في تلك الحادثة.
_________
(1) البدائع: 278/ 6 ومابعدها، فتح القدير: 52/ 6 وما بعدها، مختصر القدوري مع اللباب: 65/ 4 وما بعدها، الدر المختار: 405/ 4 وما بعدها.

(8/6048)


2 - أن تكون الشهادة موافقه للدعوى: فإن خالفتها لا تقبل، إلا إذا وفق المدعي بين الدعوى وبين الشهادة عند إمكان التوفيق (1).
وتجوز الشهادة على الشهادة في كل الحقوق التي لا تسقط بالشبهة، لشدة الحاجة إليها؛ إذ قد يعجز الأصل عن أداء الشهادة لعذر من الأعذار، فلو لم تجز الشهادة على شهادته، أدى إلى ضياع الحقوق. ولا تقبل الشهادة على الشهادة في الحدود والقصاص، وإنما تشترط فيها الأصالة؛ لأنها تسقط بالشبهة كما عرفنا.
وتجوز في الشهادة على الشهادة شهادة شاهدين على شهادة شاهدين؛ لأن نقل الشهادة من جملة الحقوق، وقد شهدا بحق، ثم بحق آخر، فتقبل؛ لأن شهادة الشهادتين على حقين جائزة.
ولا تقبل شهادة واحد على شهادة واحد؛ لأن شهادة الفرد لا تثبت الحق.

وصفة الإشهاد في الشهادة على الشهادة: أن يقول شاهد الأصل لشاهد الفرع: اشهد على شهادتي أني أشهد أن فلان ابن فلان أقر عندي بكذا، وأشهدني على نفسه؛ لأنه لا بد أن يشهد شاهد الأصل عند الفرع كما يشهد القاضي لينقله إلى مجلس القضاء.
وإن لم يقل العبارة الأخيرة السابقة وهي «أشهدني على نفسه» جاز ذلك؛ لأن من سمع إقرار غيره، حل له الشهادة، وإن لم يقل له: اشهد.
ويقول شاهد الفرع عند الأداء لما تحمله: أشهد أن فلاناً أشهدني على شهادته أنه يشهد أن فلاناً أقر عنده بكذا، وقال لي: اشهد على شهادتي بذلك؛ لأنه لا بد من شهادة الفرع، وذكر شهادة الأصل، وذكر تحميله الشهادة.
_________
(1) المراجع السابقة، البدائع: ص 273، فتح القدير: ص 10، اللباب: 64/ 4.

(8/6049)


وقال في الدر المختار: الأقصر أن يقول الأصل: اشهد على شهادتي بكذا، ويقول الفرع: أشهد على شهادته بكذا. وهذا ما أفتى به السرخسي وغيره، وابن الكمال، وهو الأصح.
ولا تقبل شهادة الفرع إلا أن يتعذر حضور شهود الأصل، كأن يموت شهود الأصل عند الأداء، أو يغيبوا مسيرة سفر ثلاثة أيام فصاعداً، أو يمرضوا مرضاً قوياً بحيث لا يستطيعون معه حضور مجلس الحاكم؛ لأن جواز هذه الشهادة للحاجة، وإما تمس الحاجة عند عجز الأصل، وبهذه الأشياء يتحقق العجز.
وتقبل تزكية شهود الأصل بشهود الفرع؛ لأن الفروع من أهل التزكية، فصح تعديلهم، فإن لم يزكوهم نظر القاضي في رأي أبي يوسف في حال شهود الأصل، كما لو حضروا بأنفسهم وشهدوا. وهذا هو الرأي الأصح وظاهر الرواية. وقال محمد: لا تقبل تزكية الأصول بالفروع؛ لأنهم ينقلون الشهادة، ولا شهادة بدون العدالة.
وإن أنكر شهود الأصل الشهادة بأن قالوا: ما لنا شهادة على هذه الحادثة، وماتوا أو غابوا، ثم جاء الفروع يشهدون على شهادتهم، أو أنكر شهود الأصل تحميل الشهادة لغيرهم بأن قالوا: لم نشهدهم على شهادتنا، وماتوا أوغابوا، لم تقبل شهادة شهود الفرع؛ لأن التحميل شرط، ولم يتوافر ذلك بسبب تعارض الخبرين (1).

شرط مكان الشهادة:
يشترط أن تكون الشهادة في مجلس القضاء (2).
_________
(1) راجع الكتاب مع اللباب: 68/ 4 - 70، تبيين الحقائق: 237/ 4 وما بعدها.
(2) البدائع، المرجع نفسه: ص 379.

(8/6050)


المطلب الرابع ـ حكم الرجوع عن الشهادة:
الرجوع عن الشهادة: أن يقول الشاهد: رجعت عما شهدت به، ونحوه، فلو أنكر شهادته بعد القضاء لا يكون رجوعاً، ولا يصح الرجوع إلا في مجلس القضاء؛ لأنه فسخ للشهادة، فيكون في المكان الذي تعتبر فيه الشهادة، وهو المحكمة، ولأن الرجوع توبة، والتوبة تكون بحسب الجناية: السر بالسر، والعلانية بالعلانية (1)، أي إذا كان الذنب سراً فالتوبة سرية، وإن كان علانية فالتوبة علانية.
وإذا لم يصح الرجوع عن الشهادة في غير المحكمة: فلو ادعى المشهود عليه رجوع الشاهدين أو أراد يمينهما أنهما لم يرجعا، لا يحلفان، وكذا لو أقام المشهود عليه بينة على هذا الرجوع، لا تقبل؛ لأنه ادعى رجوعاً باطلاً؛ إذ أنه في غير المحكمة، وإقامة البينة وإلزام اليمين لا تقبل إلا على دعوى صحيحة، بدليل أنه لو أقام البينة أن الشاهد رجع عند قاضي بلدة كذا، وحكم عليه بضمان المال، تقبل بينته.
وكذلك لا يصح الرجوع عن الشهادة بعد صدور الحكم من القاضي، وإذا رجع الشهود حينئذ، لم ينتقص الحكم الذي حكم بشهادتهما فيه، ولا يفسخه القاضي باتفاق العلماء، وإذا رجع الشهود قبل صدور الحكم، لم يحكم القاضي بشهادتهما، ويصح رجوعهما حينئذ؛ لأن الشهادة إخبار يحتمل الغلط.
ويترتب على الرجوع عن الشهادة بعد الحكم: أن الشهود يلتزمون بضمان الغرم أو التلف الذي تسببوا في إلحاقه بالمشهود عليه من مال أو دية باتفاق المذاهب
_________
(1) هذا بعض حديث معاذ رضي الله عنه حين بعثه النبي صلّى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن، فقال: أوصني، فقال: عليك بتقوى الله تعالى ما استطعت. إلى أن قال: «وإذا عملت شراً، فأحدث توبة: السر بالسر، والعلانية بالعلانية» (فتح القدير: 87/ 6).

(8/6051)


الأربعة على الراجح عند بعضهم، لإقرارهم على أنفسهم بسبب الضمان، فهم قد أخرجوا المال من يد المشهود عليه بغير حق، ويوزع الضمان بينهم، ولا ضمان عليهم إذا كان المشهود عليه قد استوفى عوضاً عما أتلف عليه. وإذا كانت الشهادة على حد زنا مثلاً، ثم رجع الشهود كلهم أو بعضهم، فيقام عليهم حد القذف (1). وتطبيقات هذه القاعدة تعرف عند الحنفية في المسائل الآتية (2):
ـ إذا شهد شاهدان على رجل بمال، وقضى القاضي به، وسلم المدعى عليه المال إلى المدعي، ثم رجع الشاهدان: ضمنا المال بينهما نصفين. ولو رجع أحدهما، غرم نصف المال، وبقي النصف الآخر ببقاء شاهد. ودليل الضمان أن الشاهدين تسببا بإتلاف مال المشهود عليه تعدياً، والتسبب سبب الضمان.
ـ لو كان الشهود أربعة، فرجع اثنان أو واحد منهم: فلا ضمان عليه، لبقاء المال للمشهود له ببقاء الشاهدين. ولو رجع منهم ثلاثة يلزمهم نصف المال المشهود عليه، لبقاء النصف، أي أنه ببقاء أحدهما يبقى نصف الحق عند الحنفية والشافعية. وأما عند الحنابلة: فيغرم الشاهد الذي رجع بقدر نسبته إلى عدد الشهود، فإن كانوا ثلاثة فرجع واحد، فعليه الثلث، وإن كانوا عشرة فعليه العشر.
ـ وإن شهد رجل وامرأتان على مال، فرجعت امرأة: غرمت ربع المال، ولو رجعتا غرمتا نصف المال، لبقاء نصف الحق ببقاء رجل، ومن المعلوم أن المرأتين بمنزلة رجل واحد في الشهادات. وكذا يغرم الرجل نصف المال، إن رجع وبقيت المرأتان.
_________
(1) المبسوط: 177/ 16، 2/ 17، 8، 16، فتح القدير: 85/ 6 وما بعدها، البدائع: 283/ 6 وما بعدها، الدر المختار: 412/ 4 وما بعدها، اللباب شرح الكتاب: 72/ 4 وما بعدها، مجمع الضمانات: ص 359 وما بعدها، الشرح الكبير للدردير: 207/ 4، مغني المحتاج: 456/ 4 وما بعدها، المهذب: 340/ 2، المغني: 248/ 9 وما بعدها.
(2) مراجع الحنفية السابقة.

(8/6052)


ـ ولو شهد رجل واحد، وعشر نسوة، على مال، ثم رجعوا جميعاً بعد صدور الحكم، فالضمان بينهم عند أبي حنيفة أسداساً، على الرجل سدس المال بحسب نسبته إلى عدد النسوة، وعلى النساء خمسة أسداس؛ لأن كل امرأتين بمنزلة رجل واحد في الشهادة.
وقال الصاحبان: الضمان بينهما مناصفة، على الرجل النصف، وعلى النساء النصف؛ لأن النساء، وإن كثرن، لهن شطر الشهادة فقط.
ـ لو شهد اثنان على بائع ببيع شيء بمثل القيمة أو أكثر، وقضى القاضي به، ثم رجعا، لم يضمنا للمشهود عليه شيئاً، لأن شهادتهما أدت إلى إتلاف بعوض قبضه بديلاً عن المبيع، والإتلاف بعوض لا يعد إتلافاً، وإن شهد الاثنان بأقل من قيمة المثل، ضمنا الجزء الناقص، لإتلافهما هذا الجزء بلا عوض.
ـ وكذا لو شهد اثنان على رجل أنه تزوج امرأة بمقدار مهر مثلهما، ثم رجعا: فلا ضمان عليهما، ولا يفسخ النكاح برجوعهما؛ لأن منافع البضع (أي محل الاستمتاع بالمرأة) غير متقومة عند الإتلاف، بعكس الأعيان المالية، وبما أن المنافع لاتتقوم فلا تضمن؛ لأن التضمين يتطلب المماثلة بين العوض والمعوض عنه، ولا مماثلة بين الأعيان التي تحرز وتتمول، وبين الأعراض التي تزول ولا تبقى، وإنما تتقوم منافع البضع على الزوج عند الدخول بالمرأة إظهاراً لخطورة محل الاستمتاع فقط، وحينئذ تعتبر شهادة الشاهدين مؤدية إلى إتلاف بعوض، وهو أن الشاهدين أثبتا للزوج البضع بمقابلة المال، والإتلاف بعوض لا يعد إتلافاً، كما ذكر، وإن شهدا بأكثر من مهر المثل ثم رجعا، ضمنا الزيادة؛ لأنهما أتلفا الزيادة من غير عوض.
ـ وكذلك لو شهد اثنان على رجل: أنه طلق امرأته ثلاثاً، وقد دخل بها وأقر

(8/6053)


الزوج بالدخول، وقضى القاضي بالفرقة، ثم رجع الشاهدان: لم يضمنا، إلا ما زاد على مهر المثل؛ لأنه بقدر مهر المثل إتلاف بعوض، وهو استيفاء منافع البضع، وإذا لم ننظر إلى معنى المعاوضة في الزواج، فلا ضمان أيضاً؛ لأن المهر يجب بنفس العقد عند الحنفية، ويتأكد بالدخول، لا بشهادة الشهود، فلم يترتب على الشهادة إتلاف، فلم يجب الضمان.
وإن كان الطلاق قبل الدخول، فقضى القاضي بنصف المهر إذا كان المهر مسمى في العقد، أو بالمتعة إذا لم يكن المهر مسمى، ثم رجع الشاهدان، فإنهما يضمنان للزوج نصف المهر في الحالة الأولى، والمتعة في الحالة الثانية؛ لأن شهادتهما أدت إلى إتلاف شيء على الزوج دون أن يحصل في مقابله على عوض. ولا يقال: إن الحكم الصادر من القاضي أمر لا بد منه؛ لأن هذا هو حكم المهر أو المتعة قبل الدخول. لا يقال ذلك؛ لأنه بشهادة الشاهدين على الطلاق، تأكد الواجب في ذمة الزوج، فلم يعد محتملاً للسقوط بأن تحدث الفرقة من قبل المرأة.
ـ وكذلك لو شهد اثنان على رجل بإجارة داره سنة، والمستأجر ينكر، وقضى القاضي بالإيجار، ثم رجعا بعد استيفاء منفعة السكنى، فإنهما يغرمان للمستأجر ما زاد على أجر المثل؛ لأنه بقدر أجر المثل حصل العوض، والباقي بغير عوض، فتكون شهادتهما مؤدية إلى إتلاف على المستأجر بقدر الباقي وهو الزيادة.
ـ ولو شهد اثنان على رجل أنه قال لامرأته: «إن دخلت الدار فأنت طالق» وشهد اثنان آخران بالدخول، ثم رجعوا بعد أن قضى القاضي بالفرقة، ضمن الشاهدان الأولان؛ لأن هذه شهادة على الطلاق، وهو إتلاف بغير عوض، فيضمنان؛ لأن الطلاق علة الحكم، ولا يجب على شهود الدخول شيء؛ لأن الدخول شرط.

(8/6054)


ـ ولو شهد اثنان على رجل بسرقة نصاب (وهو عشرة دراهم عند الحنفية) فقضى القاضي بعد ادعاء المالك المسروق منه بقطع اليد، وقطعت يده، ثم رجع الشاهدان، يغرمان دية اليد.
ـ وكذلك لو شهد اثنان على رجل أنه قتل فلاناً خطأ، أو جرحه خطأ، وقضى القاضي بالعقوبة، ثم رجعا، ضمنا الدية؛ لأنهما أتلفاها عليه، وتكون في مالهما؛ لأن الشهادة منهما بمنزلة الإقرار منهما بالإتلاف، والعاقلة (أي عصبة القاتل) لاتعقل بالإقرار بالقتل.
ـ ولوشهد رجلان على آخر أنه قتل فلاناً عمداً، فقضى القاضي بالقصاص، واقتص منه أي قتل، ثم رجعا، لا يقتص منهما عند الحنفية، وهو ظاهر المدونة لمالك وقول ابن القاسم، وإنما يضمنان الدية في مالهما في ثلاث سنين؛ لأنهما معترفان، والعاقلة لا تعقل الاعتراف. والدليل على أنه لا يقتص منهما هو أنهما لم يباشرا القتل، بل ولم يوجد منهما ـ في تقدير الحنفية ـ تسبب بالقتل؛ لأن التسبب: ما يفضي إلى ما تسبب فيه غالباً، والشهادة لا تفضي إلى القتل
غالباً، وإن أفضت إلى القضاء به، وإنما كثيراً ما يقضى بالقتل، ثم يتوسط الناس في الصلح على الدية (1).
وقال الشافعية والحنابلة وأكثر أصحاب مالك (2): إذا رجع الشهود، وقد نفذ القصاص أو قتل الردة، أو رجم الزنا، أو الجلد أو القطع ومات المجلود أو المقطوع، وقال الشهود: تعمدنا الشهادة، فيقتص منهم، أو يلزمون بدية مغلظة في مالهم موزعة على عدد رؤوسهم، لتسببهم في إهلاك المشهود عليه، وقتلهم نفساً ب
_________
(1) فتح القدير: 95/ 6 وما بعدها، البدائع: 285/ 6، الشرح الكبير: 207/ 4.
(2) مغني المحتاج: 457/ 4، المهذب: 340/ 2، المغني: 247/ 9.

(8/6055)


غير شبهة، ولما روى الشعبي: أن رجلين شهدا عند علي رضي الله عنه على رجل أنه سرق، فقطعه، ثم أتياه برجل آخر، فقالا: إنا أخطأنا بالأول، وهذا السارق، فأبطل شهادتهما على الآخر، وضمنها دية الأول، وقال: «لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعتكما».
وإن قال الشاهدان اللذان رجعا: أخطأنا، فعليهما الدية مخففة في أموالهما عند الحنابلة، لأن العاقلة لا تحمل الاعتراف، وعند الشافعية: عليهما نصف الدية، وعلى القاضي النصف الآخر، توزيعاً للدية على من باشر القتل ومن تسبب فيه.
ـ ولو شهد أربعة على رجل بالزنا، وشهد آخران عليه بأنه محصن، ثم رجعوا بعد إقامة الرجم: فضمان الدية على شهود الزنا، ولا يجب شيء على شهود الإحصان؛ لأن الزنا علة الحكم، والإحصان شرط، والحكم يضاف إلى العلة أو السبب لا إلى الشرط.
وأما بالنسبة لحد القذف: فإن رجع جميع الشهود يحدون حد القذف، سواء رجعوا بعد القضاء بالرجم أو قبل القضاء.
وإن رجع أحد الشهود بالزنا بعد الرجم: فإنه يحد حد القذف،؛ لأن شهادته صارت قذفاً بإقراره، ويغرم ربع الدية، ويتحمل ثلاثة أرباع الدية الباقية الشهود الثلاثة الآخرون.
وإن رجع واحد من الشهود بعد قضاء الحاكم بالرجم وقبل إقامة الحد، فإنهم يحدون جميعاً عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن رجوعه قبل إقامة الحد بمنزلة رجوعه قبل القضاء بالحد. وعند محمد: يحد الراجع وحده استحساناً؛ لأن كلام الشهود اعتبر شهادة بدليل القضاء بموجبه، فلا ينقلب قذفاً إلا بالرجوع، ولم

(8/6056)


يرجع واحد منهم، فينقلب كلامه خاصة قذفاً، فلم يؤثر بالنسبة للباقين، فيظل كلامهم شهادة.
واتفق أئمة الحنفية ما عدا زفر على أنه إذا رجع أحد الشهود قبل القضاء بالرجم، فإن الشهود جميعاً يحدون حد القذف؛ لأن كلامهم لا يعتبر شهادة بالزنا إلا بقرينة القضاء به (1).
أما أثر الرجوع عن الشهادة في حكم القاضي: فإن رجع الشهود قبل الحكم، امتنع على القاضي الحكم بشهادتهم، وإن رجعوا عن شهادة في زنى، حدّوا حد القذف. وإن رجعوا بعد إصدار الحكم، فإن كان قبل استيفاء الحق المالي لم يستوف من المقضي عليه، وإن كان عقوبة لم تستوف من المتهم.
وإن رجعوا بعد استيفاء الحق لم ينقض الحكم، لتأكد الأمر وتوفير الثقة بأحكام القضاة، واتصاف الشهود بالفسق، والفاسق لا ينقض الحكم بقوله، فإن كان المقضي به مالاً، غَرِم الشهود المال المستوفى من المحكوم عليه؛ لتسببهم في تغريمه، وإن كان المقضي به قصاصاً، اقتص منهم عند جماعة، ووجب عليهم الدية المغلظة عند جماعة أخرى كما تقدم. وإن كان المقضي به حداً عزِّروا، وإن شهدوا بطلاق وفرّق القاضي بين الزوجين، وجب عليهم عند الشافعي مهر المثل للزوج، لأنه بدل ما فوتوه عليه، وعليهم عند الحنفية الزائد عن مهر المثل كما تقدم، ولا ضمان عليه عند الحنابلة (2).

المطلب الخامس ـ عقوبة شاهد الزور:
إذا أقر الشاهد أنه شهد زوراً، فقال أبو حنيفة: يشهَّر به في الأسواق إن كان سوقياً، أو بين قومه إن كان غير سوقي، وذلك بعد صلاة العصر في مكان تجمع الناس. ولا يعزر بالضرب، أو بالحبس؛ لأن المقصود هو التوصل إلى الانزجار،
_________
(1) راجع البدائع: 289/ 6.
(2) المغني: 250/ 9.

(8/6057)


وهو يحصل بالتشهير، بل ربما يكون أعظم عند الناس من الضرب، فيكتفى به. وقال الصاحبان: نوجعه ضرباً، ونحبسه، حتى يتوب (1).
ويوافق الشافعية رأي الصاحبين (2)، قالوا: ومن شهد بالزور فسق وردت شهادته؛ لأنها من الكبائر، بدليل ما روى خُرَيم بن فاتك قال: صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم صلا ة الصبح، فلما انصرف، قام قائماً، ثم قال: عُدِّلت شهادة الزور بالإشراك بالله، ثلاث مرات (3)، ثم تلا قوله عز وجل: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور} [الحج:30/ 22]. وإذا ثبت أنه شاهد زور، ورأى الإمام تعزيره بالضرب أو بالحبس أو الزجر، فعل، وإن رأى أن يشهر أمره في سوق ومصلاه وقبيلته، وينادى عليه أنه شاهد زور فاعرفوه، فعل، لقوله عليه الصلاة والسلام: «اذكروا الفاسق بما فيه ليحذره الناس» (4) وشدد المالكية والحنابلة على شاهد الزور فقالوا: يعزر بالسجن والضرب ويطاف به في المجالس (5).

المطلب السادس ـ القضاء بشهادة غير المسلمين:
شهادة غير المسلمين إما على بعضهم بعضاً، وإما على المسلمين (6).
_________
(1) تبيين الحقائق: 241/ 4، الكتاب مع اللباب: 70/ 4 وما بعدها.
(2) المهذب: 328/ 2 وما بعدها.
(3) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن خريم بن فاتك بلفظ «عدت شهادة الزور والإشراك بالله، ثلاث مرات .. إلخ» (الترغيب والترهيب: 221/ 3 وما بعدها).
(4) رواه ابن أبي الدنيا وابن عدي والطبراني والخطيب عن معاوية بن حَيْدة بلفظ: «اذكروا الفاجر بما فيه يحذره الناس» وهو لا يصح (كشف الخفا: 114/ 1، 242/ 2).
(5) القوانين الفقهية لابن جزي: ص 309، المحرر في الفقه الحنبلي لأبي البركات: 355/ 2.
(6) المراجع السابقة في شروطهم الشهادة، بداية المجتهد: 452/ 2، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن قيم: ص 176 - 193، ط السنة المحمدية، مقارنة المذاهب في الفقه للأستاذين السايس وشلتوت: ص 131 - 137.

(8/6058)


أولاً ـ شهادة غير المسلمين على بعضهم: للفقهاء رأيان في قبول شهادة الكفار على بعضهم:
1ً - قال الحنفية: تقبل شهادة الكفار بعضهم على بعض، بدليل الكتاب والسنة والمعقول. أما الكتاب فقوله تعالى: {ومن أهل الكتاب مَنْ إن تأمنه بقنطار يؤده إليك} [آل عمران:75/ 3] فأخبر أن منهم الأمين على مثل هذا القدر من المال، ولا ريب أن الشهادة تعتمد على صفة الأمانة.
وقوله تعالى: {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض} [الأنفال:73/ 8] فأثبت لهم الولاية على بعضهم بعضاً، والولاية أعلى رتبة من الشهادة، وغاية الشهادة أن تشبه بها.
وأما السنة: فما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه: «أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ائتوني بأربعة منكم يشهدون، قالوا: وكيف؟ الحديث» والذي في الصحيح: «مُرَّ على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيهودي قد حُمِّم (1)، فقال: ما شأن هذا؟ فقالوا: زنى، فقال: ما تجدون في كتابكم؟ .. الحديث» فأقام الحد بقولهم، ولم يسأل اليهودي واليهودية، ولا طلب اعترافهما وإقرارهما.
وقد جاء في القصة أنه صلّى الله عليه وسلم قال لليهود: «ائتوني بأربعة منكم يشهدون عليه» فقد قبل النبي شهادتهم على الفعل وحكم بناء عليها.
وأما المعقول: فهو أن الكفار يتعاملون فيما بينهم بأنواع المعاملات من المداينات وعقود المعاوضات وغيرها، وتقع بينهم الجنايات، ولا يحضرهم غالباً
_________
(1) التحميم: تسخيم الوجه بالفحم.

(8/6059)


مسلم، فلو لم تقبل شهادتهم عند ترافعهم وتحاكمهم إلينا، لأدى ذلك إلى تظالمهم وضياع حقوقهم. وللواحد منهم أن يزوج ابنته وأخته، ويلي مال ولده، وقد أجاز الله شهادة الكفار على المسلمين في السفر في الوصية للحاجة، وحاجتهم إلى قبول شهادة بعضهم على بعض أعظم بكثير من حاجة المسلمين إلى قبول شهادتهم عليهم.
والكافر قد يكون عدلاً في دينه بين قومه، صادق اللهجة عندهم، فلا يمنعه كفره من قبول شهادته عليهم إذا ارتضوه. وقد أباح الله معاملتهم، وأكل طعامهم، وحِلَّ نسائهم، وذلك يستلزم الرجوع إلى أخبارهم قطعاً، فإذا جاز لنا الاعتماد على خبرهم في أمر الحلال والحرام، فلأن نرجع إلى أخبارهم في معاملاتهم أولى وأحرى.
وأما رفض قبول شهادة الحربي على الذمي أو على الحربي من دار أخرى، فلانقطاع الولاية بينهما.

2ً - وقال الجمهور غير الحنفية: لا تقبل شهادة غير المسلمين مطلقاً، سواء اختلفت مللهم أم اتفقت. ونقل ابن القيم عن مالك: أنه تجوز شهادة الطبيب الكافر حتى على المسلم للحاجة. واستدلوا بأوجه هي:
الأول ـ اشترط الله تعالى العدالة لقبول الشهادة في قوله: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق:2/ 65] وغير المسلم ليس بعدل، واشترط أن يكون الشهود من المسلمين، في قوله: {منكم} [الطلاق:2/ 65] وفي قوله: {ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282/ 2] وقوله: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [البقرة:282/ 2] وآيات كثيرة أخرى. وغير المسلم ليس منا ولا من رجالنا ولا من المرضيين عندنا.

(8/6060)


الثاني ـ إن الله تعالى وصف الكفار بالكذب على الله وبالفسق، ولا شهادة لكاذب ولا فاسق، ومن كذب على الله، فهوأولى أن يكذب على مثله من إخوانه وأقرب، كما قال الشافعي.
الثالث ـ إن قبول شهادتهم يؤدي إلى إلزام القاضي بشهادتهم، ولا يجوز أن يلزم المسلم بشهادة الكافر.
الرابع ـ إن في قبول شهادتهم إكراماً لهم، ورفعاً لمنزلتهم وقدرهم، ورذيلة الكفر تحول دون إكرامهم.
والراجح لدي رأي الحنفية لقوة أدلتهم، ولأن الله لم يمنع قبول قول الكفار على المسلمين للحاجة، بنص القرآن، ولم يمنع ولاية بعضهم على بعض، والقاضي ملزم بالقضاء الحق عند ظهور الحجة الصادقة، وأما وصفهم بالكذب والفسق فهو بسبب ذات العقيدة لا لمجرد المعاملة، ولا يعد قبول شهادتهم إكراماً لكفرهم، فهذا من جملة المصالح التي لا غنى عنها.

ثانياً ـ شهادة غير المسلمين على المسلمين:
للفقهاء أيضاً رأيان في قبول شهادة غير المسلمين على المسلمين.
1 ً - فقال الجمهور غير الحنابلة: لا تقبل شهادتهم على المسلمين؛ لأن الشهادة ولاية، ولا ولاية للكافر على المسلم، لقوله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} [النساء:141/ 4].
2 ً - وأجازها الحنابلة في الوصية في السفر للضرورة إذا لم يوجد غيرهم، وكذا في كل ضرورة حضراً وسفراً، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا شهادة

(8/6061)


بينكم إذا حضر أحدَكم الموتُ حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم، أو آخران من غيركم، إن أنتم ضربتم في الأرض، فأصابتكم مصيبة الموت} [المائدة:106/ 5].
وصح عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: «هذا لمن مات، وعنده المسلمون فأمر الله أن يشهد في وصيته عدلين من المسلمين» ثم قال تعالى: {أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض} [المائدة:106/ 5] فهذا لمن مات، وليس عنده أحد من المسلمين، فأمر الله عز وجل أن يشهد رجلين من غير المسلمين. فإن ارتيب بشهادتهما، استحلفا بعد الصلاة بالله: لا نشتري بشهادتنا ثمناً، وقضى به ابن مسعود في زمن عثمان، وكذلك علي، وقضى به أبو موسى الأشعري في الكوفة وكثير من التابعين.
وعن سعيد بن المسيب: {أو آخران من غيركم} [المائدة:106/ 5] قال: «من أهل الكتاب» وفي رواية صحيحة عنه: «من غير أهل ملتكم».
وصح عن شريح قال: «لا تجوز شهادة المشركين على المسلمين إلا في الوصية. ولا تجوز في الوصية إلا أن يكون مسافراً».
وصح عن الشعبي: {أو آخران من غيركم} [المائدة:106/ 5] قال: «من اليهود والنصارى».
وأما ادعاء نسخ هذه الآية ـ فيما روي عن زيد بن أسلم وغيره ـ فيرده ما صح عن عائشة ـ فيما يرويه جبير بن نفير ـ أنها قالت: هل تقرأ سورة المائدة؟ قلت: نعم، قالت: فإنها آخر سورة أنزلت، فما وجدتم فيها من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيهامن حرام فحرموه. فالحق أن الآية محكمة، وأن حكمها شرع دائم، وأن شهادة غير المسلمين جائزة مقبولة في الوصية إذا كان المسلم على سفر، ولم يجد أحداً من المسلمين.

(8/6062)


وقال ابن القيم: قال شيخنا ابن تيمية رحمه الله: وقول الإمام أحمد في قبول شهادتهم في هذا الموضع: (هو ضرورة): يقتضي هذا التعليل ُقبولها في كل ضرورة حضراً وسفراً.

المبحث الثاني ـ اليمين:
يتضمن مطالب سبعة هي:
الأول ـ تعريف اليمين ومشروعيتها والمحلوف به.
الثاني ـ صيغة اليمين القضائية وصفتها والنية فيها واليمين بالطلاق.
الثالث ـ تغليظ اليمين باللفظ وبالزمان والمكان.
الرابع ـ شروط اليمين.
الخامس ـ أنواع اليمين.
السادس ـ حكم اليمين.
السابع ـ أنواع الحقوق التي تجوز فيها اليمين.

المطلب الأول ـ تعريف اليمين ومشروعيتها والمحلوف به:
اليمين مؤنث، وهي لغة: الحَلف والقسم. واصطلاحاً بمعناها العام هي توكيد الشيء أو الحق أو الكلام إثباتاً أو نفياً بذكر اسم الله أو صفة من صفاته (1).
_________
(1) تبيين الحقائق: 107/ 3، الشرح الكبير مع الدسوقي: 126/ 2 وما بعدها، حاشية القليوبي على شرح المحلي للمنهاج: 270/ 4، كشاف القناع: 236/ 6.

(8/6063)


أما تعريف اليمين القضائية لإثبات الدعوى: فهي تأكيد ثبوت الحق أو نفيه أمام القاضي بذكر اسم الله أو بصفة من صفاته.
واليمين مشروعة بآيات كثيرة في القرآن، منها قوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم الأيمان} [المائدة:89/ 5] وقد أمر الله تعالى نبيه أن يقسم على الحق في ثلاثة مواضع من القرآن، والله تعالى لا يشرع محرماً.
ومشروعة بأحاديث كثيرة أيضاً، منها قوله صلّى الله عليه وسلم: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» وفي رواية البيهقي: «ولكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» (1).
ومنها حديث يحذر من الحلف الكاذب ليقتطع به مال أخيه، ويدل على ما فيه من إثم كبير، وهو من الكبائر، أخرج أصحاب الكتب الستة عن الأشعث بن قيس، قال: كان بيني وبين رجل ابن عم لي خصومة في بئر، فاختصمنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «بيِّنتك أو يمينه» قلت: إذن يحلف ولا يبالي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين هو فيها فاجر، ليقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله، وهو عليه غضبان» فأنزل الله تصديق ذلك: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً، أولئك لا خلاق لهم في الآخرة، ولا يكلمهم الله، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم} [آل عمران:77/ 3]. وحلف عمر لأبي بن كعب على نخيل، ثم وهبه له، وقال: خفت إن لم أحلف أن يمتنع الناس من الحلف على حقوقهم، فتصير سنَّة.
_________
(1) حديث حسن رواه البيهقي عن ابن عباس، وبعضه في الصحيحين.

(8/6064)


وأما المحلوف به: فقد اتفق الفقهاء على أن اليمين المنعقدة هي القسم بالله تعالى، أو بصفة من صفاته مثل: والله، ورب العالمين، والحي الذي لا يموت، ومَن نفسي بيده، أو وعزة الله وعظمته، ولا يجوز الحلف بغير الله تعالى، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً، فليحلف بالله أو ليصمُت» قال عمر: «فوالله ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عنها ذاكراً ولا آثراً» (1) أي حاكياً. ولقوله عليه السلام أيضاً: «من حلف بغير الله فقد أشرك» وفي لفظ: «فقد كفر» (2) وقوله فيما رواه النسائي: «لا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون».
واكتفى الجمهور غير المالكية بلفظ الجلالة فقط، لقوله تعالى: {يحلفون بالله لكم ِليُرضوكم} [التوبة:62/ 9] {يحلفون بالله: ما قالوا} [التوبة:74/ 9] ولا قتصاره صلّى الله عليه وسلم على ذلك في يمينه بغزو قريش قائلاً: «والله لأغزون قريشاً» (3).
وقال المالكية (4): يضم إليه عبارة «لا إله إلا هو» لقوله صلّى الله عليه وسلم لرجل حلَّفه: «احلف بالله الذي لا إله إلا هو» (5).
واليمين تنعقد بمجرد النطق بها ولو هزلاً؛ لأنها من الأحوال التي يستوي فيها الجد والهزل، لا يقبل قول الحالف في القسم: لم أرد اليمين، لا في الظاهر، ولا فيما بينه وبين الله تعالى (6).
_________
(1) أخرجه الجماعة إلا النسائي عن ابن عمر (نصب الراية: 295/ 3).
(2) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم.
(3) رواه أبو داود عن ابن عباس (نيل الأوطار: 220/ 8).
(4) المبسوط: 18/ 16، القوانين الفقهية: ص 306، المهذب: 322/ 2، كشاف القناع: 228/ 6، المغني: 226/ 9.
(5) رواه أبو داود بسند صالح والنسائي.
(6) المحلي على المنهاج: 270/ 4.

(8/6065)


ولا تنعقد اليمين اتفاقاً إذا قال: إن شاء الله تعالى، بشرط كونه متصلاً باليمين من غير سكوت عادي؛ لأن الاستثناء يزيل حكم اليمين (1)، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من حلف، فقال: إن شاء الله، لم يحنث» (2).
ولا تدخل النيابة في اليمين، ولا يحلف أحد عن غيره، فلو كان المدعى عليه صغيراً أو مجنوناً، لم يحلف عنه، ووقف الأمر حتى يبلغ الصبي، ويعقل المجنون، ولم يحلف عنه وليه (3).

المطلب الثاني ـ صيغة اليمين القضائية وصفتها والنية فيها واليمين بالطلاق:
صيغة اليمين: هي عند الجمهور أن يقول الحالف: والله، أو بالله، أو ورب العالمين، أو والحي الذي لا يموت، أو ومَن نفسي بيده، ونحو ذلك من كل اسم لله مختص به سبحانه وتعالى كالإله، والرحمن، وخالق الخلق، أو يحلف بصفة من صفات الله الذاتية مثل: وعظمة الله أو عزته أو كبريائه أو كلامه أو مشيئته أو علمه أو قدرته أو حقه، إلا أن يريد بالحق العبادات، وبالعلم والقدرة المقدور والمعلوم، وبالبقية ظهور آثارها، فلا تكون يميناً لاحتمال اللفظ. والحلف بكتاب الله أو بالقرآن أو بالمصحف يمين باتفاق المذاهب الأربعة (4)، والحلف بالتوراة أو الإنجيل ونحوهما من كتب الله المنزلة كالزبور يمين في رأي الحنابلة؛ لأن إطلاق اليمين ينصرف إلى المنزَل من عند الله، دون المبدَّل.
_________
(1) المغني: 237/ 9.
(2) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 219/ 8).
(3) المغني: 234/ 9 وما بعدها، المهذب: 302/ 2.
(4) بجيرمي الخطيب: 300/ 4 وما بعدها، كشاف القناع: 228/ 6 وما بعدها.

(8/6066)


وقال المالكية: صيغة اليمين لكل حالف في جميع الحقوق على المشهور: هي «بالله الذي لا إله إلا هو». وأما يمين الكافر: فاتفق أكثر الفقهاء (1) على أن الكافر يحلف بالله كالمسلم؛ لأن اليمين لا تنعقد بغير اسم الله، للحديث المتقدم: «من حلف بغير الله فقد أشرك» ولما رواه البخاري: «من حلف بغير ملة الإسلام فهو كما قال». وسيأتي الكلام في تغليظ اليمين عليه، فتغلظ عليه في رأي الحنابلة والشافعية.

وأما صفة اليمين أو الحلف على البت ونفي العلم (2): فقد اتفق الفقهاء (3) على أن الحالف يحلف على البت والقطع على فعل نفسه، سواء في حال الإثبات أم النفي، فيقول مثلاً: والله ما بعت أو ما اشتريت، أو لقد بعت أو اشتريت؛ لأن الإنسان أعلم بأحواله وأفعاله، فتكون يمينه حجة قاطعة. فالأيمان كلها على البت والقطع، إلا على نفي فعل الغير، فإنها على نفي العلم؛ لحديث ابن عباس المتقدم: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم استحلف رجلاً، فقال له: قل: والله الذي لا إله إلا هو، ماله عليك حق» وروى الأشعث بن قيس: «أن رجلاً من كِنْدة ورجلاً من حضرموت اختصما إلى النبي صلّى الله عليه وسلم في أرض من اليمن، فقال الحضرمي: يا رسول الله، إن أرضي اغتصبنيها أبو هذا، وهي في يده، قال: هل لك بيِّنة؟ قال: لا، ولكن أحلفه، والله العظيم ما يعلم أنها أرضي اغتصبنيها أبوه، فتهيأ الكندي لليمين» (4).
_________
(1) البدائع: 227/ 6 وما بعدها، تبيين الحقائق: 109/ 4، القوانين الفقهية: ص 306، مغني المحتاج: 473/ 4، المهذب: 322/ 2، كشاف القناع: 228/ 6 وما بعدها.
(2) الحلف على البت: أي الحلف على القطع والجزم. ونفي العلم: هو نفي اليقين أنه لا يعلم كذا، فيحلف بالله ما له علي شيء.
(3) المغني: 230/ 9 - 234، المهذب: 322/ 2.
(4) رواه أبو داود.

(8/6067)


ففي حال الإثبات: يحلف على فعل نفسه أنه فعل كذا، وفي حال النفي: يحلف أنه ما فعل كذا. وأما ما يتعلق بفعل غيره، فإن كان إثباتاً، مثل أن يدعي أنه أقرض أو باع، ويقيم شاهداً بذلك، فإنه عند الجمهور غير الحنفية يحلف مع شاهده على البت والقطع، فيقول والله إنه باع؛ لأن حال الإثبات يستطيع الإنسان الاطلاع عليها. وإن كان على نفي العلم مثل أن يدعى عليه دين أو غصب أو جناية، فإنه يحلف على نفي العلم لا غير، فيقول: والله لا أعلم أنه مدين، أو لا أعلم أن له وارثاً غير فلان، بدليل قصة الحضرمي السابقة.
وقال الحنفية والإمامية (1): يحلف الشخص في فعل غيره على نفي علمه مطلقاً، سواء أكان إثباتاً أم نفياً، لما ثبت في الصحيح أن النبي صلّى الله عليه وسلم حلف اليهود في القسامة: «بالله ما قتلتم ولا علمتم له قاتلاً» ولأن الإنسان لا علم له بفعل غيره ولا يدرك حقيقةتصرفاته، فيحلف على نفي العلم.

النية في اليمين: اليمين غير القضائية التي يحلفها الحالف باختياره، أو يطلبها شخص منه دون أن يكون له عليه حق اليمين، تكون على نية الحالف في كل الأحوال، ويجوز للحالف التورية في يمينه، بأن يقصد فيها غير المعنى المتبادر من اللفظ أو ينوي فيها خلاف الظاهر، للحديث المشهور الذي رواه الجماعة إلا ابن ماجه عن عمر: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» وقد حكى القاضي عياض الإجماع على أن الحالف من غير استحلاف ومن غير تعلق حق بيمينه، له نيته ويقبل قوله.
أما اليمين القضائية الموجهة من القاضي أو نائبه لفصل الخصومة والنزاع،
_________
(1) البحر الرائق: 217/ 7، المختصر النافع في فقه الإمامية: ص 282.

(8/6068)


فتكون باتفاق الفقهاء (1) على نية المستحلف وهو القاضي، فلا يصح فيها التورية، ولا ينفع الاستثناء، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «يمينك على ما يصدّقك به صاحبك» وفي لفظ: «اليمين على نية المستحلف» (2). قال ابن تيمية في منتقى الأخبار: وهو محمول على المستحلف المظلوم. وقال النووي: أما إذا حلف بغير استحلاف، وورّى، فتنفعه التورية، ولا يحنث، سواء حلف ابتداء من غير تحليف، أو حلفه غير القاضي أو غير نائبه في ذلك، ولا اعتبار بنية المستحلف غير القاضي.
واشترط الشافعية والحنابلة (3) شرطين في كون اليمين على نية المستحلف:
1ً - ألا يحلفه القاضي بالطلاق أو العتاق.
2ً - ألا يكون القاضي ظالماً أو جائراً في طلب اليمين.
فإن حلفه بالطلاق أو علم منه نفسه أنه على الحق، جازت التورية؛ لأن اليمين تكون غير فاجرة.

اليمين بالطلاق أمام القاضي: قال جمهور الفقهاء على المفتى به عند الحنفية: إن اليمين بالطلاق لإثبات الحقوق وإنهاء الخصومات أمام القاضي حرام؛ لأن اليمين لا تكون إلا بالله، ولأن القسم لتعظيم المقسم به، ولا يجوز تعظيم غير الله. فإن طلبه الخصم، لم يجبه القاضي؛ لأنه حرام.
وأجاز متأخرو الحنفية الحلف بالطلاق إذا طلبها الخصم وألح فيها، أو كان الحالف لا ينزجر إلا بها، لفساد الزمان، وقلة المبالاة بالحلف بالله تعالى.
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 306، مغني المحتاج: 475/ 4، كشاف القناع: 242/ 6.
(2) اللفظ الأول رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والترمذي. واللفظ الثاني رواه مسلم وابن ماجه، عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 218/ 8).
(3) مغني المحتاج: 475/ 4، كشاف القناع: 242/ 6.

(8/6069)


وأجاز بعض المالكية الحلف بالطلاق للتغليظ، عملاً بقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله: «تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور» ولأن الحاجة ماسة إليه. وأفتى الإمام مالك بعدم وقوع طلاق المكره حينما أراد أوائل الخلفاء العباسيين بأن يوثقوا بيعة الناس لهم بالأيمان والطلاق والعتاق، ويكرهون الناس على ذلك، وكان مالك يحدث بحديث: «ليس على مستكره طلاق» مما أغضب المنصور.

المطلب الثالث ـ تغليظ اليمين باللفظ وبالزمان والمكان:
أجاز الفقهاء من السنة والشيعة ما عدا الحنابلة والظاهرية (1) تغليظ اليمين باللفظ، والتغليظ عند المالكية يكون بقول الحالف: «بالله الذي لا إله إلا هو» وعند الجمهور: «بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية» ونحوه، لحديث ابن عباس المتقدم وقول النبي صلّى الله عليه وسلم لرجل: «احلف بالله الذي لا إله إلا هو، ماله عندك شيء» وهذا هو الراجح لدي؛ لأن القصد باليمين الزجر عن الكذب، وهذه الألفاظ أبلغ في الزجر، وأمنع من الإقدام على الكذب.
أما الظاهرية والحنابلة فلم يجيزوا تغليظ اليمين، ويكتفى بلفظ الجلالة فقط؛ لأنه يتضمن كل معاني الترغيب والترهيب، واقتصاراً على ما ورد في القرآن، مثل: {فيقسمان بالله} [المائدة:106/ 5] وما ورد في السنة: «من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت» (2).
_________
(1) البدائع: 227/ 6، القوانين الفقهية: ص 306 وما بعدها، المهذب: 322/ 2، مغني المحتاج: 472/ 4، المغني: 227/ 9 وما بعدها، الروضة البهية: 159/ 2، المحلى: 468/ 9 وما بعدها.
(2) متفق عليه من حديث ابن عمر.

(8/6070)


واستحب الشافعية تغليظ اليمين إذا كانت يمين المدعي وهي اليمين المردودة أو مع الشاهد واليمين، أو يمين المدعى عليه وإن لم يطلب الخصم تغليظها، وذلك فيما ليس بمال، ولا يقصد به المال، كنكاح وطلاق ولعان وقصاص، ووصاية ووكالة، وفي المال البالغ نصاب الزكاة، لا فيما دونه، لخطورته بدليل وجوب المواساة فيه، وعدم الاهتمام بما دونه.
أما التغليظ بالزمان والمكان: فقد اختلف فيه الفقهاء على رأيين (1):
1 - فقال الحنابلة: إذا كان الحالف مسلماً، فيحلفه القاضي بالله تعالى من غير تغليظ، اكتفاء بما ورد في القرآن الكريم: {فآخران يقومان مقامهما، من الذين استحق عليهم الأوليان، فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما} [المائدة:107/ 5] ولم يذكر مكاناً ولا زمناً، ولا زيادة في اللفظ.
وقال الحنفية: إن شاء القاضي حلف الشخص من غير تغليظ، لما روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم حلف ركانة بن عبد يزيد بالله عز وجل: ما أردت البتة، ثلاثاً؟ وإن شاء غلظ؛ لأن الشرع ورد بتغليظ اليمين في الجملة؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم حلف ابن صوريا الأعور، وغلظ.
أما الكافر غير المسلم فتغلظ يمينه عند الحنابلة، وإن شاء القاضي عند الحنفية والشافعية وفي قول مرجوح عند المالكية، فإن كان الحالف يهودياً، أحلفه «بالله الذي أنزل التوراة على موسى» زاد الشافعية: «ونجاه من الغرق» وإن كان نصرانياً، أحلفه «بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى» وإن كان مجوسياً أو وثنياً أحلفه «بالله الذي خلقه وصوره». وإن كان لهم مواضع يعظمونها ويتوقَّوْن أن يحلفوا فيها كاذبين، حلِّفوا فيها.
_________
(1) المراجع السابقة.

(8/6071)


2 - وقال المالكية والشافعية: يجوز تغليظ اليمين بالزمان والمكان مطلقاً للمسلم وغير المسلم، ثم اختلفوا في التغليظ بالمكان، فقال الما لكية: تغلظ اليمين بالمكان في القسامة واللعان، ويحلف الحالف إن كان في المدينة على منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وإن كان في غير المدينة يحلف في مساجد الجماعات، ولا يشترط الحلف على المنبر في سائر المساجد، ويحلف قائماً.
وتغليظ اليمين بالزمان يكون باللعان والقسامة فقط دون غيرهما، فيكون بعد صلاة العصر.
وقال الشافعية: يحلف المسلم في مكة بين الركن والمقام، وفي المدينة عند منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وفي سائر البلدان في الجوامع عند المنبر ـ خلافاً للمالكية ـ وفي بيت المقدس عند الصخرة. وتغلظ في الزمان بالاستحلاف بعد العصر. وهذا هو الراجح لدي لقوة أدلتهم. ويندب عندهم تغليظ يمين المدعي (اليمين المردودة أو مع الشاهد واليمين) ويمين المدعى عليه وإن لم يطلب الخصم تغليظها فيما ليس بمال ولا يقصد به المال كنكاح وطلاق ولعان وقود وعتق وإيلاد ووصاية ووكالة، وتغلظ في مال يبلغ نصاب الزكاة.
واستدلوا على جواز التغليظ بالكتاب والسنة والآثار والقياس. أما الكتاب: فقوله تعالى: {تحبسونهما من بعد الصلاة، فيقسمان بالله} [المائدة:106/ 5] والمراد من بعد صلاة العصر، كما قال ابن عباس وجماعة من التابعين. وأما السنة: فقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يحلف أحد على يمين آثمة عند منبري هذا، ولو على سواك أخضر، إلا تبوأ مقعدَه من النار، أو وجبت له النار» (1).
_________
(1) رواه البيهقي ومالك وأحمد وأبو داود والنسائي عن جابر.

(8/6072)


وما روى عبد الرحمن بن عوف: «أنه رأى قوماً يحلفون بين المقام والبيت، فقال: أعلى دم؟ فقالوا: لا، فقال: أفعلى عظيم من المال؟ قالوا: لا، قال: خشيت أن يتهاون الناس بهذا المقام» (1).
وأما الآثار فكثيرة منها: أن عمر رضي الله عنه استحلف رجلاً بين الركن والمقام، عندما قال لامرأته: حبلك على غار بك. ومنها أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أحلف نفيس بن ملوِّح في قتل على المنبر خمسين يميناً.
وأما القياس: فقد قاسوا التغليظ بالزمان والمكان على التغليظ باللفظ، والتغليظ في أيمان القسامة واللعان، بجامع الزجر في كلٍ، بل إن التغليظ بالزمان والمكان أشد زجراً، فجاز بالأولى.

المطلب الرابع ـ شروط اليمين:
اشترط الفقهاء بالاتفاق (2) ستة شروط في اليمين القضائية، واختلفوا في شرطين. أما المتفق عليها فهي ما يأتي:
1ً - أن يكون الحالف مكلفاً (بالغاً عاقلاً) مختاراً: فلا يحلف الصبي والمجنون، ولا تعتبر يمين النائم والمستكره.
2ً - أن يكون المدعى عليه منكراً حق المدعي: فإن كان مقراً فلا حاجة للحلف.
_________
(1) رواه الشافعي والبيهقي.
(2) البحر الرائق: 202/ 7، البدائع: 226/ 6 وما بعدها، بداية المجتهد: 455/ 2 وما بعدها، الشرح الكبير مع الدسوقي: 145/ 4 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 306، ط فاس، مغني المحتاج: 475/ 4 وما بعدها، كشاف القناع: 232/ 6 وما بعدها، المغني: 234/ 9.

(8/6073)


3ً - أن يطلب الخصم اليمين من القاضي وأن يوجهها القاضي إلى الحالف: لأن النبي صلّى الله عليه وسلم استحلف رُكانة بن عبد يزيد في الطلاق، فقال: «آلله ما أردت إلا واحدة» فقال ركانة: «الله ما أردت إلا واحدة» (1).
4ً - أن تكون اليمين شخصية: فلا تقبل اليمين النيابة، لصلتها بذمة الحالف ودينه، فلا يحلف الوكيل أو ولي القاصر، ويوقف الأمر حتى يبلغ.
5ً - ألا تكون في الحقوق الخالصة لله تعالى كالحدود والقصاص.
6ً - أن تكون في الحقوق التي يجوز الإقرار بها: للحديث المتقدم: «واليمين على من أنكر» فلا تجوز اليمين في الحقوق التي لا يجوز الإقرار بها، فلا يحلف الوكيل والوصي والقيم؛ لأنه لا يصح إقرارهم على الغير.
واشترط أبو حنيفة أيضاً أن يكون المدعى به مما يحتمل البذل، فلا تصح اليمين في النسب والنكاح والرجعة والفيء في الإيلاء ونحوها.

وأما المختلف فيه من الشروط فهو اثنان:
1ً - العجز عن البينة أو فقدها عند الجمهور غير الشافعية: فإذا كانت البينة حاضرة في مجلس القضاء، فلا يصح تحليف المدعى عليه، وكذلك لا يصح التحليف عند أبي حنيفة إذا كانت البينة في بلد القاضي. وأجاز الصاحبان والحنابلة التحليف حينئذ. ودليلهم على هذا الشرط الحديث السابق: «بيِّنتك وإلا فيمينه» فإن حق المدعي في اليمين مرتب على عجزه عن إقامة البينة.
ولم يشترط الشافعية هذا الشرط، عملاً بحديث: «البينة على المدعي واليمين
_________
(1) رواه البيهقي وأبو داود والترمذي.

(8/6074)


على من أنكر» فاليمين حق المدعي وواجبة على المدعى عليه، ولأنه يحتمل أن يقر المدعى عليه، فيستغني المدعي عن إقامة البينة.
2ً - الخلطة بين المتخاصمين بالتعامل في رأي المالكية: حتى لا يتطاول السفلة على أصحاب المكانة والفضل، باستدعائهم إلى المحاكم، وطلب اليمين منهم أوالحكم عليهم بالنكول، وتثبت الخلطة بشهادة اثنين على التعامل مرتين أو ثلاثاً. واشترطوا في غير المال وجود شاهد واحد حتى يصح توجيه اليمين، كالطلاق والرجعة والخلع والوكالة والوصية والنسب والإسلام والردة.
واستثنوا من اشتراط الخلطة أو وجود الشاهد لتوجه اليمين ثماني مسائل هي: صاحب الصنعة مع عماله، والمتهم بين الناس، والضيف في ادعائه أو الادعاء عليه، والمسافر مع رفقته في الوديعة وغيرها، وادعاء الإيداع عند شخص، وادعاء شيء معين كثوب بعينه، وادعاء مريض في مرض موته على غيره بدين، وادعاء بائع على شخص حاضر المزايدة أنه اشترى سلعته بكذا والحاضر ينكر الشراء، فتتوجه اليمين في هذه الحالات، ولو لم تثبت خلطة.
ولم يشترط هذا الشرط باقي المذاهب، وهو الراجح لدي، لحديث: «واليمين على من أنكر».

المطلب الخامس ـ أنواع اليمين:
الأصل العام في توزيع طرق إثبات الحق بين الخصمين المتنازعين أمام القضاء: أن يطالب المدعي بالبينة أو الشهادة، ويطالب المدعى عليه باليمين عند العجز عن البينة في رأي الجمهور غير الشافعية كما تقدم، فالبينة حجة المدعي، واليمين حجة المدعى عليه، واليمين تُشرع في حق كل مدعى عليه، سواء أكان

(8/6075)


مسلماً أم كافراً، عدلاً أم فاسقاً، امرأة أم رجلاً (1)، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه».
واختلف الحنفية (2) في تحديد المدعي والمدعى عليه، فقال بعضهم: المدعي: من إذا ترك الخصومة لا يجبر عليها، والمدعى عليه: من إذا ترك الجواب يجبر عليه.
وقال بعضهم: المدعي: من يلتمس قبل غيره لنفسه عيناً أو ديناً أو حقاً. والمدعى عليه: من يدفع ذلك عن نفسه.
وقال بعضهم: ينظر إلى المتخاصمين، أيهما كان منكراً فالآخر يكون مدعياً.
وقال بعضهم: المدعي: من يخبر عما في يد غيره لنفسه. والمدعى عليه: من يخبر عما في يد نفسه لنفسه.
والأظهر عند الشافعية (3): أن المدعي من يخالف قوله الظاهر: وهو براءة الذمة، والمدعى عليه: من يوافق قوله الظاهر.

واليمين بحسب الحالف أنواع ثلاثة: يمين الشاهد، ويمين المدعى عليه، ويمين المدعي.
1ً - يمين الشاهد: هي اليمين التي يحلفها الشاهد قبل أداء الشهادة للاطمئنان إلى صدقه، وهي التي يلجأ إلىها في عصرنا بدلاً من تزكية الشاهد. وقد
_________
(1) البدائع: 225/ 6، المغني: 227/ 9.
(2) البدائع: 224/ 6.
(3) مغني المحتاج: 464/ 4.

(8/6076)


أجازها المالكية والزيدية والظاهرية وابن أبي ليلى وابن القيم، لفساد الزمان وضعف الوازع الديني، ومنعها الجمهور (1).

2ً - يمين المدعى عليه: وتسمى اليمين الأصلية أو الواجبة أو الدافعة أو الرافعة. وهي التي يحلفها المدعى عليه بطلب القاضي بناء على طلب المدعي لتأكيد جوابه عن الدعوى. وهي حجة المدعى عليه للحديث المتقدم: «ولكن اليمين على المدعى عليه» (2).
3ً - يمين المدعي: وهي عند الجمهور غير الحنفية اليمين التي يحلفها المدعي لدفع التهمة عنه، أو لإثبات حقه، أو لرد اليمين عليه. وهي ثلاثة أنواع (3):
الأول ـ اليمين الجالبة: وهي التي يحلفها المدعي لإثبات حقه، إما مع شهادة شاهد واحد، وهي اليمين مع الشاهد، وإما بسبب نكول المدعى عليه عن اليمين الأصلية وردها إلى المدعي ليحلف، وهي اليمين المردودة، وإما لإثبات تهمة الجناية على القاتل، وهي أيمان القسامة، وإما لنفي حد القذف عنه وهي أيمان اللعان، وإما لتأكيد الأمانة، فالقول قول الأمين بيمينه كالوديع والوكيل، إذا ادعى الرد على من ائتمنه، إلا المرتهن والمستأجر والمستعير، فلا يصدقون إلا بالبينة؛ لأن وجود الشيء في يدهم أو حيازتهم كان لمصلحة أنفسهم.
الثاني ـ يمين التهمة: وهي التي توجه على المدعي بقصد رد دعوى غير محققة على المدعى عليه، قال بها المالكية والزيدية.
_________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص 92، ط 1322 هـ، فتح العلي المالك للشيخ عليش: 311/ 2، مخطوط الحاوي الكبير للماوردي: 13/ق 48 ب، 49 أ، الطرق الحكمية لابن قيم: ص 142 وما بعدها، البحر الزخار: 18/ 5، المحلى: 462/ 9، مغني المحتاج: 476/ 4.
(2) البدائع: 225/ 6، تهذيب الفروق: 151/ 4، الفرق: 240، مغني المحتاج: 468/ 4، المغني: 224/ 9، الطرق الحكمية: ص 113، 143، 147، القوانين الفقهية: ص 306.
(3) المراجع السابقة.

(8/6077)


الثالث ـ يمين الاستيثاق أو الاستظهار: وهي التي يحلفها المدعي بطلب القاضي لدفع التهمة عنه بعد تقديم الأدلة المطلوبة في الدعوى. فهي تكمل الأدلة كالشهادة، ويتثبت بها القاضي.
ويلجأ إليها القاضي عادة إذا كانت الدعوى بحق على غائب أو ميت، ويحتمل أن يكون المدعي قد استوفى دينه من الميت أو الغائب أو أبرأه عنه، أو أخذ رهناً مقابله، وليس للشاهدين علم بذلك. فيحلِّف القاضي المدعي؛ لأن البينة لا تفيد إلا غلبة الظن، فيستحق ما ادعاه بالبينة واليمين معاً، فهي يمين القضاء بعد ثبوت الحق على الغائب والمحجور، وقد أجيزت استحساناً بسبب احتمال الشبهة والشك عند غياب المدين.
وقد أيدها ابن القيم قائلاً: وهذ القول ليس ببعيد من قواعد الشرع، ولا سيما مع احتمال التهمة. وكان علي يستحلف المدعي مع شهادة الشاهدين. وكان شريح يستحلف الرجل مع بينته، وقال الأوزاعي والحسن بن حَيّ: يستحلف مع بينته وهو قول النخعي والشعبي وابن أبي ليلى أيضاً (1).

أحوال يمين الاستظهار:
أجاز الفقهاء هذه اليمين في أحوال استثنائية للضرورة أو الحاجة، فقال المالكية (2): توجه هذه اليمين في نفقة الزوجة، وفي الدعوى على الغائب واليتيم والوقف والمساكين وفي كل وجوه البر، وعلى بيت المال، وعلى كل من استحق شيئاً من الحيوان وغيره. ويحلف المدعي أيضاً إذا شهد له اثنان على خط غريمه، وفي شهادة التسامع والاستفاضة، والبينة على الغريم المجهول الحال بكونه معدماً.
_________
(1) الطرق الحكمية: ص 145 وما بعدها، المبسوط: 118/ 16، تبصرة الحكام لابن فرحون بهامش فتح العلي المالك للشيخ عليش: 275/ 1 وما بعدها.
(2) تبصرة الحكام، المكان السابق.

(8/6078)


وقال الحنفية (1): تجب يمين الاستظهار في الادعاء على الميت، ولو بدون طلب المدعى عليه، وفي خمس حالات أخرى عند أبي حنيفة ومحمد بطلب المدعى عليه، وبدون طلب عند أبي يوسف: وهي حالة الاستحقاق للمعقود عليه: فإذا أثبت المدعي استحقاق مال، حلف على عدم بيعه أو هبته أو تمليكه. وفي الشفعة: أنه طلبها بمجرد علمه بها ولم يبطلها بوجه ما، وفي نفقة الزوجة على زوجها الغائب أنه لم يطلقها ولم يترك لها نفقة. وفي رد المبيع بالعيب أنه لم يرض به، وفي خيار البلوغ للبكر أنها اختارت الفرقة مباشرة.
وقال الشافعية (2): توجه يمين الاستظهار بدون طلب الخصم في الدعوى على الميت والغائب والصغير والمحجور والسفيه والمجنون والمغلوب على عقله، ومع الشاهد واليمين.
وأجاز الحنابلة في رواية عن أحمد هذه اليمين إذا قامت البينة على الغائب، أو المستتر في البلد، أو الميت، أو الصبي أو المجنون (3).

القضاء بالنكول والقضاء بشاهد ويمين المدعي واليمين المردودة:
اتفق الفقهاء على أن المدعي إذا قدم شاهدين على دعواه وقبلت شهادتهما، حكم له بما ادعى. وعلى أنه إذا عجز عن البينة وطلب تحليف المدعى عليه، وحلف، رفضت دعواه.
_________
(1) البحر الرائق: 207/ 7، الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص 95، المجلة: م 1746، وقد نصت المجلة على أربع حالات ليمين الاستظهار بلا طلب: وهي ادعاء حق في التركة، الاستحقاق، رد المبيع بعيب، الشفعة.
(2) مغني المحتاج: 407/ 4 وما بعدها، المهذب: 303/ 2 وما بعدها.
(3) المحرر في الفقه الحنبلي لأبي البركات: 210/ 2، الإفصاح لابن هبيرة: ص 483.

(8/6079)


واختلفوا بعدئذ على رأيين فيما إذا نكل المدعى عليه عن اليمين، هل يقضى للمدعي بنكول صاحبه عن اليمين، أم ترد اليمين إلى المدعي، فيقضى له بيمينه وشاهد واحد يقدمه للشهادة؟ قال الحنفية والحنابلة: يقضى بالنكول في الأموال، وقال الجمهور: لا يقضى بالنكول، وترد اليمين على المدعي.

الرأي الأول ـ للحنفية والحنابلة في المشهور عندهم:
قال الحنفية والحنابلة (1): إذا نكل المدعى عليه عن اليمين، فإنه يقضى عليه بالمال، لكن ينبغي للقاضي أن يقول له: (إني أعرض عليك اليمين ثلاث مرات، فإن حلفت وإلا قضيت عليك) لاحتمال خشية القضاة ومهابة المجلس في المرة الأولى. ولا يقضى عند الحنفية بالشاهد واليمين ويقضى بها عند الحنابلة.
ودليلهم على القضاء بالنكول: أن القاضي شريح قضى على رجل بالنكول، فقال المدعى عليه: أنا أحلف، فقال شريح: مضى قضائي. وكانت لا تخفى قضاياه على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولم ينقل أنه أنكر عليه منكر، فيكون إجماعاً منهم على جواز القضاء بالنكول. وقضى عثمان على ابن عمر بالنكول. ورد عليه عبداً معيباً اشتراه منهم حينما نكل، ولأنه ظهر صدق المدعي في دعواه عند نكول المدعى عليه، فيقضى له، كما لو أقام البينة.
واستدلوا على عدم مشروعية رد اليمين إلى المدعي بالحديث السابق: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» جعل جنس اليمين على المنكر، فتشمل كل مدعى عليه.
_________
(1) البدائع: 225/ 6، 230، تكملة فتح القدير: 155/ 6، الطرق الحكمية: ص 116، المغني: 235/ 9.

(8/6080)


واستدل الحنفية على عدم مشروعية القضاء بشاهد ويمين بما يأتي من الكتاب والسنة والمعقول.
1 ً - الكتاب: وهو قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين، فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282/ 2] وقوله سبحانه: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق:2/ 65] الله سبحانه طلب إشهاد اثنين ولم يذكر الشاهد واليمين، فقبولهما زيادة على النص، والزيادة على النص نسخ، ونسخ القرآن لا يجوز إلا بمتواتر أو مشهور، ولا يجوز بخبر الواحد، وليس خبر رد اليمين متواتراً أو مشهوراً، وإنما هو خبر آحاد.
2 ً - السنة: حديث مسلم وأحمد «ولكن اليمين على المدعى عليه» وحديث البيهقي «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» وقوله صلّى الله عليه وسلم لمدعٍ في حديث الجماعة: «شاهداك أو يمينه». الحديث الأول أوجب اليمين على المدعى عليه فقط، وجعل كل جنس اليمين على المنكر، فإذا قبلت يمين من المدعي، لم تكن جميع حالات اليمين على المنكرين. وكذلك الحديث الثاني جعل جميع أفراد البينة على المدعي، وجميع أفراد اليمين على المنكر، والقسمة والتوزيع تنافي اشتراك الخصمين فيما تمت فيه القسمة. والحديث الثالث خيَّر المدعي بين أمرين لا ثالث لهما إما البينة أو يمين المدعى عليه.
3 ً - المعقول: إن اليمين تقوم مقام الشاهد الثاني، ولو جاز ذلك، لجاز تقديم اليمين كأحد الشاهدين على الآخر، ولكن لا يجوز تقديمه، فلا يصح أن يكون قائماً مقامه.

(8/6081)


الرأي الثاني ـ للجمهور:
قال الجمهور من أهل السنة والشيعة (1) وصوبه الإمام أحمد: لا يقضى بالنكول، ولكن ترد اليمين إلى المدعي فيحلف، فيأخذ حقه، ويقضى بالشاهد واليمين.
والنكول: أن يقول: أنا ناكل، أو يقول: لا أحلف.
استدلوا على عدم جواز القضاء بالنكول بالحديث المتقدم: «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه» فإنه جعل البينة حجة المدعي، واليمين حجة المدعى عليه، ولم يذكر عليه الصلاة والسلام النكول، فلو كان حجة المدعي لذكره، ولأن النكول يحتمل لكونه كاذباً في الإنكار، ويحتمل لكونه صادقاً في الإنكار، تورعاً عن اليمين الصادقة، فلا يكون حجة القضاء مع الشك والاحتمال.
واستدلوا على مشروعية القضاء برد اليمين: بما روى الدارقطني والبيهقي والحاكم من حديث نافع عن ابن عمر: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم رد اليمين على طالب الحق» وبقوله تعالى: {أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم} [المائدة:108/ 5] وثبت عن عمر وعثمان وعلي وغيرهم القول برد اليمين.
واستدلوا مع الحنابلة على جواز القضاء بشاهد ويمين المدعي: بما روى ابن
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 301، 306، بداية المجتهد: 456/ 2، 459، الشرح الكبير مع الدسوقي: 187/ 4، تهذيب الفروق: 151/ 4، مغني المحتاج: 468/ 4 وما بعدها، 477 وما بعدها، المهذب: 301/ 2، 318، المغني: 225/ 9، 235، الطرق الحكمية: ص 116، 132 - 142، المختصر النافع في فقه الإمامية: ص 283، البحر الزخار: 404/ 4، المحلى: 464/ 9.

(8/6082)


عباس رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد» (1) قال الشافعي: «وهذا الحديث ثابت لا يرده أحد من أهل العلم، لو لم يكن فيه غيره، مع أن معه غيره مما يشده» وقال الترمذي عنه: حسن غريب، وقال النسائي: إسناده جيد. وأجمع الصحابة على القضاء بالشاهد واليمين، منهم أبو بكر وعمر وعلي وأبي بن كعب.
وهذا هو الرأي الراجح عندي لصحة الحديث وثبوته، وعده السيوطي متواتراً، ولأن الخلفاء الراشدين حكموا به، وهو لا يخالف الكتاب العزيز.

مجال القضاء بشاهد ويمين والقضاء بالنكول:
قال المالكية والشافعية وابن القيم (2): المواضع التي يحكم فيها بالشاهد واليمين: المال، وما يقصد به المال، كالبيع والشراء وتوابعهما من اشتراط صفة في المبيع، أو نقد غير نقد البلد، والإجارة والجعالة، والمساقاة والمزارعة، والمضاربة والشركة والهبة، والوصية لمعين، أو الوقف عليه.
ومما يثبت بالشاهد واليمين أيضاً: الغصوب، والعواري، والوديعة، والصلح، والإقرار بالمال أو ما يوجب المال، والحوالة، والإبراء، والمطالبة بالشفعة وإسقاطها، والقرض، والصداق، وعوض الخلع، وتسمية المهر، والوكالة في المال والإيصاء به.
_________
(1) رواه مسلم وأحمد والشافعي وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. وذكر ابن الجوزي عدد رواة هذا الحديث بما يزيد على عشرين صحابياً. ورواه أيضاً أحمد والترمذي وابن ماجه عن جابر. ورواه أيضاً أحمد والدارقطني والبيهقي ومالك والشافعي عن علي رضي الله عنه، وأخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه والشافعي عن أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه ابن ماجه عن سرَّق. وأخرجه أبو داود والبيهقي والطبراني عن الزبيب بن ثعلبة.
(2) الطرق الحكمية: ص 141 وما بعدها، الشرح الكبير: 147/ 4، القوانين الفقهية: ص300 وما بعدها، حاشية الشرقاوي: 502/ 2، تبصرة الحكام: 270/ 1.

(8/6083)


وكذا يقضى بهما في الجنايات الموجبة للمال، كالخطأ، وما لا قصاص فيه كالهاشمة والمأمومة والجائفة، وقتل المسلم الكافرَ، والحرِّ العبد، والصبيِّ والمجنون.

وأما مجال القضاء بالنكول: فهو عند الحنفية (1) والحنابلة في الأموال، وأما غير المال وما لا يقصد به المال كنكاح وطلاق ولعان وحد وقصاص، ووصاية، ووكالة، فلا يقضى فيه بالنكول، كما تبين سابقاً (2)، لكن المفتى به عند الحنفية هو قول الصاحبين بأنه يقضى بالنكول إلا في الحدود والقصاص واللعان؛ لأنه في معنى الحد. ويقضى على السارق لأجل المال بالنكول، فيضمن المال المسروق، ولا تقطع يده.
المطلب السادس ـ حكم اليمين:
حكم اليمين: هو الأثر المترتب على حلفها أمام القاضي، سواء أكانت من المدعي أم من المدعى عليه.

1 - حكم يمين المدعي:
يترتب على أداء اليمين من المدعي مع الشاهد عند الجمهور غير الحنفية ثبوت الحق المحلوف عليه، بناء على الشاهد واليمين معاً في الأصح عند الشافعية، وفي المعتمد عند المالكية؛ لأن الأحاديث علقت القضاء عليهما معاً، وبناء على الشاهد
_________
(1) الدر المختار: 442/ 4 وما بعدها، الكتاب مع اللباب: 30/ 4 وما بعدها.
(2) انظر مجال القضاء بالنكول في بحث الدعوى والبينات. والنكول: الامتناع من حلف اليمين، سواء قال: لا أحلف، أو أصر على السكوت، بعد طلب القاضي منه اليمين.

(8/6084)


فقط، وإنما اليمين للتأكيد والاستظهار والاحتياط في رأي الحنابلة؛ لأن الشاهد حجة الدعوى، واليمين من المدعي ليست بحجة على خصمه (1).

2 - حكم يمين المدعى عليه:
يترتب على حلف اليمين من المدعى عليه باتفاق الفقهاء (2): إنهاء النزاع بين المتداعيين وسقوط الدعوى، وكذا انقطاع الخصومة والمطالبة في الحال، لا مطلقاً، بل مؤقتاً إلى غاية إحضار البينة في رأي الجمهور غير المالكية، فلا تبرأ ذمة المدعى عليه من الحق، وتظل مشغولة به إلى أن يتمكن المدعي من إثبات دعواه بوسيلة أخرى من وسائل الإثبات.
وقال المالكية: يترتب على يمين المدعى عليه سقوط الدعوى مطلقاً، فليس للمدعي أن يقيم البينة بعد الحكم باليمين، إلا لعذر كنسيان وعدم علم بالشهادة، ثم علمه بها، فتقبل منه، ويحلف يميناً على عذره.

3 - حكم يمين الاستيثاق أو الاستظهار:
ليست هذه اليمين دليلاً في الإثبات، وإنما هي لزيادة التأكيد والاطمئنان وإقناع القاضي بصحة الأدلة المقدمة إليه؛ لأن القاضي يوجهها للاحتياط في الحكم.
_________
(1) الشرح الكبير مع الدسوقي: 146/ 4، 187، تبصرة الحكام بهامش فتح العلي المالك: 271/ 1، الوجيز للغزالي: 154/ 2، مغني المحتاج: 477/ 4، الطرق الحكمية: ص138 - 140.
(2) البدائع: 229/ 6، المبسوط: 119/ 16، بداية المجتهد: 454/ 2، الشرح الكبير مع الدسوقي: 146/ 4 وما بعدها، حاشية الشرقاوي: 502/ 2، الطرق الحكمية: ص 112، مغني المحتاج: 478/ 4.

(8/6085)


المطلب السابع ـ أنواع الحقوق التي يجوز فيها اليمين:
هناك حقوق يجوز فيها اليمين بالاتفاق، وحقوق لا يجوز فيها اليمين اتفاقاً، وحقوق مختلف فيها على التفصيل التالي (1):
1ً - اتفق الفقهاء على عدم جواز التحليف في حقوق الله تعالى المحضة، سواء أكانت حدوداً كالزنا والسرقة وشرب المسكرات، أم عبادات كالصلاة والصوم والحج والنذر والكفارة، إلا إذا تعلق بها حق مالي لآدمي فيجوز؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، ولا يقضى فيها بالنكول عند الحنفية والحنابلة؛ لأنه بذل عند أبي حنيفة، وإقرار فيه شبهة العدم عند أحمد والصاحبين، والحدود لا تحتمل البذل، ولا تثبت بدليل فيه شبهة؛ لأن النكول قائم مقام الإقرار، ولا يجوز إقامة الحد بما يقوم مقام غيره. ولأنه لو أقر، ثم رجع، قبل منه وخلي من غير يمين، فلأن لا يستحلف مع عدم الإقرار أولى، ولأنه يستحب ستره.
وأما أن العبادات لا يستحلف فيها، فلأنها علاقة بين العبد وربه، فلا يتدخل فيها أحد، قال الإمام أحمد: «لا يحلف الناس على صدقاتهم» فإذا ادعى الساعي الزكاة على رب المال وأن الحول قد تم وكمل النصاب، فالقول عند أحمد قول رب المال من غير يمين. ونقل ابن قدامة عن الشافعي وأبي يوسف ومحمد أنه يستحلف؛ لأنها دعوى مسموعة، فتشبه حق الآدمي. أما إذا تعلق بالحدود وغيرها حق مالي للعباد كالمال في السرقة، فيجوز فيها الاستحلاف.
_________
(1) تبيين الحقائق: 297/ 4، تكملة فتح القدير: 162/ 6، 165، البدائع: 227/ 6، الشرح الكبير مع الدسوقي: 227/ 4، الوجيز للغزالي: 160/ 2، المهذب: 301/ 2 وما بعدها، الطرق الحكمية: ص 110 وما بعدها، 124، المغني: 237/ 9 ومابعدها، البحر الزخار: 404/ 4 و 133/ 5، شرائع الإسلام: 214/ 2، 223، شرح النيل: 583/ 6.

(8/6086)


2ً - واتفق الفقهاء أيضاً على جواز اليمين في الأموال، وما يؤول إلى المال، فيحلَّف المدعى عليه إثباتاً ونفياً، لقوله تعالى: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً، أولئك لا خلاق لهم في الآخرة، ولا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذابٌ أليم} [آل عمران:77/ 3] وللحديث السابق عند الجماعة: «لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى أناس دماء قوم وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه».
3ً - واتفق الفقهاء على جواز التحليف في الجنايات من قصاص وجروح وفي بعض مسائل الأحوال الشخصية. واختلفوا في بعض مسائل هذا النوع على أقوال ثلاثة:
أـ فقال المالكية: إن التحليف غير جائز في النكاح فقط؛ لأنه يجب فيه الشهادة والإعلان، إذا لم يوجد الشهود لم يصح النكاح، فلا يقبل فيه اليمين لتحقق التهمة والكذب، ولأنه لو أقر بالنكاح لا يثبت ولا يلزم.
ب ـ وقال أبو حنيفة: يستثنى سبع مسائل لا يجوز فيها التحليف وهي النكاح والطلاق والنسب، والفيء في الإيلاء، والعتق، والولاء، والاستيلاد، وزاد الحنابلة القود؛ لأن القصد من توجيه اليمين هو النكول عن الحلف، والقضاء بناء عليه، والنكول بذل وإباحة وترك للمنازعة في رأي أبي حنيفة، صياغة عن الكذب الحرام، وهذه المسائل لا يجوز فيها البذل والإباحة، كما تقدم سابقاً، ولأن النكول في رأي أحمد والصاحبين وإن جرى مجرى الإقرار، فليس بإقرار صحيح صريح، لا يراق به الدم بمجرده، ولا مع يمين المدعي إلا في القسامة للَّوْث. والمفتى به عند الحنفية هو رأي الصاحبين كما تقدم، وهو أنه يجوز التحليف في هذه الأمور إلا في الحدود والقصاص واللعان.

(8/6087)


فإن كان المقصود من الدعوى في هذه المسائل المال، فيستحلف المدعى عليه، ويثبت المال دون النكاح والنسب والرجعة، كأن تدعي امرأة على رجل أنه لم يدفع لها نصف المهر قبل الدخول، أو نفقة العدة بعد الدخول، فيحلف.
وعند الحنابلة روايتان أرجحهما أنه لا يستحلف المدعى عليه، ولا تعرض عليه اليمين فيما ليس بمال، ولا المقصود منه المال: وهوكل ما لا يثبت إلا بشاهدين كالقصاص وحد القذف والنكاح والطلاق والرجعة والعتق والنسب والاستيلاد والولاء والرق؛ لأن هذه الحالات لا تثبت إلا بشاهدين ذكرين، فلا تعرض فيها اليمين كالحدود.
جـ ـ وقال الشافعية والصاحبان وبرأيهما يفتى عند الحنفية، والشيعة الإمامية والزيدية والإباضية: يجوز التحليف في هذه المسائل، ويحلف المنكر في إثباتها أو نفيها، للحديث السابق عند الترمذي: «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه» يتناول بعمومه كل مدعى عليه، فإذا لم تتوافر البينة، حلف المدعى عليه على إنكاره حق المدعي. وقد حلف النبي صلّى الله عليه وسلم رُكانة بن عبد يزيد على طلاق امرأته البتة فيما رواه البيهقي قائلاً له: والله ما أردتَ إلا واحدة؟ فقال ركانة: والله ما أردتُ إلا واحدة فردها عليه.
وهذا الرأي هو الراجح لدي لعموم النصوص وقوة الأدلة التي اعتمدوا عليها.
تحليف الشهود اليمين: لجأ القضاة في عصرنا الحاضر بسبب كثرة الناس بدلاً عن العمل بمبدأ تزكية الشهود اللجوء إلى تحليف الشاهد اليمين، ولا مانع من هذا في رأيي، بدليل تحليف النبي صلّى الله عليه وسلم رُكانة على ما يريد من تطليق امرأته طلقة واحدة أم أكثر.

(8/6088)


وقد أخذ بهذا الرأي ابن أبي ليلى ومحمد بن بشير قاضي قرطبة، ورجحه ابن نجيم المصري وهو رأي ابن القيم. وأخذت مجلة الأحكام العدلية بذلك، فنصت المادة (1727) على أنه:
«إذا ألح المشهود عليه على الحاكم بتحليف الشهود بأنهم لم يكونوا في شهادتهم كاذبين، وكان هناك لزوم لتقوية الشهادة باليمين، فللحاكم أن يحلِّف الشهود، وله أن يقول لهم: إن حلفتم قبلت شهادتكم، وإلا فلا».

المبحث الثالث ـ الإقرار
يتضمن هذا المبحث المطالب الآتية:

المطلب الأول ـ تعريف الإقرار وحجيته وحكمه.
المطلب الثاني ـ ألفاظ الإقرار.
المطلب الثالث ـ شروط صحة الإقرار.
المطلب الرابع ـ أنواع المقر به بشكل عام.
المطلب الخامس ـ الإقرار بالأموال.
المطلب السادس ـ الإقرار في حال الصحة وفي حال المرض.
المطلب السابع ـ الإقرار بالنسب.
المطلب الأول ـ تعريف الإقرار وحجيته وحكمه:
الإقرار لغة: الإثبات، مأخوذ من قولهم: قرَّ الشيء يقر قراراً: إذا ثبت، وشرعاً: هوإخبار عن ثبوت حق للغير على نفسه.

(8/6089)


وبما أن الإقرار إخبار متردد بين الصدق والكذب، فكان محتملاً لهذين الأمرين، إلا أنه جعل حجة بدليل معقول: وهو أنه ظهر رجحان الصدق على الكذب فيه؛ لأن الإنسان غير متهم فيما يقر به على نفسه، فإن المال محبوب المرء طبعاً، فلا يقر به لغيره كاذباً، فلم يكن في الإقرار تهمة وريبة.

وأدلة حجيته من الكتاب والسنة والإجماع هي ما يلي:
أما الكتاب: فقوله تعالى {أأقررتم، وأخذتم على ذلكم إصري؟ قالوا: أقررنا} [آل عمران:81/ 3] فالله سبحانه طلب منهم الإقرار، ولو لم يكن الإقرار حجة، لما طلبه. وقوله سبحانه: {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم} [النساء:135/ 4] قال المفسرون: شهادة المرء على نفسه إقرار. وقوله عز وجل: {بل الإنسان على نفسه بصيرة} [القيامة:14/ 75] قال ابن عباس: أي شاهد بالحق.
وأما السنة: فخبر الصحيحين في قصة العسيف: «واغدُ يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» فأثبت الرسول صلّى الله عليه وسلم الحد بالاعتراف.
وأما الإجماع: فإن الأمة الإسلامية أجمعت على صحة الإقرار، وكونه حجة من لدن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير.
وبالقياس ثبتت الحجية أيضاً: وهو أننا إذا قبلنا الشهادة على الإقرار، فلأن نقبل الإقرار أولى.

وحكمة تشريع الإقرار: التوصل لإثبات الحقوق وإيصالها إلى أصحابها من أقرب الطرق وأيسرها، لأن الشرع يحرص على حفظ الأموال وصيانتها من الضياع، كما يحرص على أداء حقوق الله تعالى.

(8/6090)


وحكم الإقرار: ظهور ما أقر به المقر، لا ثبوت الحق وإنشاؤه من أول الأمر، ولذا لا يصح الإقرار بالطلاق مع الإكراه، مع أن الإنشاء يصح مع الإكراه عند الحنفية، فمن أقر لغيره بمال، والمقر له يعلم أنه كاذب في إقراره لا يحل له أخذه عن كره منه فيما بينه وبين الله تعالى.
والإقرار حجة قاصرة على المقر، لا يتعدى أثره إلى غيره، لقصور ولاية المقر على غيره، فيقتصر أثر الإقرار على المقر نفسه. والإقرار أيضاً سيد الأدلة؛ لانتفاء التهمة فيه (1)، والإقرار يثبت الملك في المخبر به.
وأما الشهادة فهي حجة مطلقة ثابتة في حق جميع الناس غير مقتصرة على المقضي عليه، لذا تسمى بالبينة لأنها مبينة يظهر بها الملك، وقال الحنفية: البينة أقوى من الإقرار.

المطلب الثاني ـ ألفاظ الإقرار:
الإقرار إما أن يكون بلفظ صريح أو بلفظ ضمني أو دلالة (2).

1 - الإقرار بلفظ صريح: أن يقول إنسان: «لفلان علي ألف درهم»؛ لأن كلمة (علي) كلمة تفيد الإيجاب والإلزام لغة وشرعاً، قال تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً} [آل عمران:97/ 3].
أو يقول لرجل: (لي عليك ألف درهم) فقال الرجل: نعم، لأن كلمتي
_________
(1) راجع المبسوط: 184/ 17 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 279/ 6 وما بعدها، الدر المختار: 203/ 4، 467، اللباب: 76/ 2، مغني المحتاج: 238/ 2، المهذب: 343/ 2، المغني: 137/ 5، مجمع الضمانات: ص 364).
(2) المبسوط: 15/ 18، البدائع: 207/ 7 وما بعدها، المغني: 200/ 5، تكملة فتح القدير: 296/ 6. اللباب: 78/ 2.

(8/6091)


«نعم، وأجل» ونحوهما للتصديق، قال تعالى: {فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ قالوا: نعم} [الأعراف:44/ 7].
أو يقول: (لفلان في ذمتي ألف درهم)؛ لأن ما في الذمة هو الدين، فيكون إقراراً بالدين.
أو يقول: (لفلان قبلي ألف درهم) فهو إقرار بالدين على الأرجح؛ لأن القبالة هي الكفالة، قال الله سبحانه: {والملائكة قبيلاً} [الإسراء:92/ 17] أي كفيلاً. والكفالة هي الضمان. قال الله عز وجل: {وكفلَها زكريا} [آل عمران:37/ 3] على قراءة التخفيف: أي ضمن القيام بأمرها، أو يقول: (أليس لي عندك ألف درهم؟) قال: بلى، كان قراراً صحيحاً؛ لأن (بلى) جواب للسؤال بحرف النفي، قال تعالى: {ألست بربكم؟ قالوا: بلى} [الأعراف:172/ 7].
ولو قال رجل لآخر: (له في مالي ألف درهم) فهو إقرار له به في ماله. وهل يكون مضموناً أو أمانةً؟ اختلف مشايخ الحنفية فيه: فقال الجصاص: إنه يكون إقراراً بالشركة بينه وبينه، فيكون القدر المقر به عنده أمانة؛ لأنه جعل ماله ظرفاً للمقر به، وهو الألف فيقتضي ذلك الخلط بين ماليهما، وهو معنى الشركة.
وقال بعض مشايخ العراق: إن كان مال المقر محصوراً، أي محدداً في تجارة معينة، أو عمل معين، يكون إقراراً بالشركة، وإن لم يكن محصوراً يكون إقراراً بالدين.
والراجح كما في مختصر القدوري أنه يدل على الإقرار بالدين كيفما كان الأمر؛ لأن كلمة الظرف في مثل هذا تستعمل في الوجوب والالتزام، قال عليه الصلاة والسلام: «وفي الركاز الخمس» (1).
_________
(1) أخرجه أصحاب الكتب الستة عن أبي هريرة (راجع نصب الراية: 380/ 2).

(8/6092)


ولو قال رجل لآخر: (له من مالي ألف درهم) لا يكون إقراراً، بل يكون هبة، وإذا كان هبة لا يملكها المخاطب إلا بالقبول والقبض؛ لأنه ليس في هذا القول ما يدل عى الالتزام في الذمة؛ لأن اللام في (له) للتمليك، والتمليك بغير عوض هبة.
ولو قال: (له عندي درهم) فهو وديعة، لأن (عندي) لا تدل على التزام شيء في الذمة، بل هي كلمة تفيد الوجود، وليس لهذا المعنى دلالة على الالتزام.
وكذلك لو قال: (لفلان معي، أوفي منزلي، أو في بيتي، أو في صندوقي، أو في كيسي ألف درهم) فهو وديعة؛ لأن هذه الألفاظ لا تدل إلا على قيام اليد أو الحيازة، وهذا المعنى لا يفيد الالتزام في الذمة، فلم يكن إقراراً بالدين، فكانت وديعة، لتعارف الناس ذلك.
ولو قال: (لفلان عندي ألف درهم عارية) فهو قرض؛ لأن (عندي) تستعمل في الأمانات، وقد فسرت بالعارية، والمعروف أن عارية الدراهم والدنانير تكون قرضاً؛ إذ لا يمكن الانتفاع بها إلا باستهلاكها، وإعارة ما لا يمكن الانتفاع به إلا باستهلاكه، يكون قرضاً في العرف.
وكذلك كل ما يكال أو يوزن: يكون الإقرار بإعارته إقراراً بالقرض؛ إذ يتعذر الانتفاع به إلا باستهلاكه.

2 - الإقرار الضمني أو الإقرار دلالة: قد يكون الإقرار بلفظ يدل على التزام الشيء ضمناً أو دلالة، مثل أن يقول شخص لغيره: (لي عليك ألف درهم) فيقول: قد قضيتها؛ لأن القضاء يدل على تسليم مثل الواجب الملتزم به في الذمة، فيقضي سبق الالتزام بهذا المبلغ، ولا يثبت الوفاء إلا بالبينة.

(8/6093)


وكذا لو قال رجل لآخر: (لي عليك ألف درهم) فقال المخاطب: (أجلني بها)؛ لأن التأجيل إنما يكون في حق واجب، ولو لم يذكر الضمير في هذا وفيما قبله، لا يكون إقراراً، لعدم انصرافه إلى الكلام المذكور.
وفي دعوى الإبراء بأن قال: (أبرأتني منها) مثل قوله: (قد قضيتها)؛ لأن الإبراء إسقاط، وهذا إنما يكون في مال واجب عليه.
وكذلك دعوى الصدقة والهبة بأن قال: (تصدقت بها علي أو وهبتها لي) كان ذلك أيضاً إقراراً منه، مثل دعوى القضاء؛ لأن التمليك بالصدقة أو بالهبة يقتضي أسبقية الوجوب والالتزام.
وكذلك لو قال: (أجلتك بها على فلان) يكون إقراراً أيضاً؛ لأنه يعني تحويل الدين من ذمة إلى ذمة، وهذا لا يكون بدون التزام.
ولو قال رجل لآخر: (لي عليك ألف درهم) فقال: حقاً أو صدقاً، يكون إقراراً؛ لأن معناه تصديقه فيما يدعي عليه.
الإقرار بالدين المقترن بلفظ آخر: كل ما ذكر إذا كان لفظ الإقرار مطلقاً عن التقييد بشيء آخر، فإن اقترن بلفظ الإقرار لفظ آخر مخالف لمعنى اللفظ الأول، بأن قال: (لفلان علي ألف درهم وديعة) يكون إقراراً بالوديعة بشرط اتصاله بالإقرار كالاستثناء؛ لأن قوله (وديعة) تغيير لحكم الإقرار من كون المال ديناً إلى كونه محفوظاً أمانة، وهذا بيان معتبر، فيصح بشرط كونه موصولاً بالكلام السابق لا منفصلاً، كما هو الشرط في الاستثناء.
فإن كان البيان منفصلاً عن الكلام السابق، بأن سكت، ثم قال: عنيت به الوديعة، لا يصح بيانه، ولا يصدق، ويكون إقراراً بالدين؛ لأن بيانه المتأخر خلاف ظاهر الكلام السابق، فلا يصدق به على الغير.

(8/6094)


ولو قال: (علي ألف درهم وديعة قرضاً، أو وديعة ديناً، أو مضاربة قرضاً أو ديناً) فهو إقرار بالدين؛ لأن الجمع بين اللفظين في معناهما ممكن، بأن يكون الشيء في مبدأ الأمر أمانة، ثم يتغير حاله، فيصير مضموناً، إذ الضمان قد يطرأ على الأمانة كالوديعة إذا استهلكت ونحوها، والإنسان غير متهم على نفسه في الإقرار بالضمان.
ولو قال: (لفلان عندي أو معي ألف درهم قرضاً) فهو إقرار؛ لأنه بيان معتبر دال على أن وجود الألف عنده ليس أمانة، وإنما ديناً مضموناً.
ولو قال: (عندي كذا) وأعني به الإقرار: صُدِّق، وإن كان كلامه منفصلاً؛ لأن هذا إقرار على نفسه، فلا يتهم الإنسان فيه.
ولو قال: (له من مالي ألف درهم لا حق لي فيها) فهو إقرار بالدين؛ لأن الألف التي لا حق فيها تكون ديناً إذ لو كانت هبة لكان له فيها حق.
الإقرار المكتوب: لو ادعى رجل على آخر مالاً، وأخرج بذلك خطاً بخط يده على إقرار له بالمال، وأنكر المدعى عليه أنه خطه، فاستكتب، فكتب، فكان بين الخطين مشابهة ظاهرة دالة على أنهما خطا كاتب واحد، قال أئمة بخارى: إنه حجة يقضى بها، وقد نص محمد في المبسوط على أنه لا يكون حجة؛ لأنه لو قال: (هذا خطي وأنا كتبته غير أنه ليس علي هذا المال): لا يلزمه شيء، فهذا أولى.
ولو كتب بخطه صكاً فقيل له: تشهد به؟ فقال: نعم، فيكون إقراراً، ولو لم يقل شيئاً: لا يكون إقراراً.

(8/6095)


ويعمل بدفتر السمسار والصراف والبياع؛ لأن كل واحد من هؤلاء لا يكتب في دفتره إلا ماله وعليه (1).
والخلاصة: يشترط في صيغة الإقرار لفظ صريح أو كناية يدل على الالتزام بالمقر به، وفي معنى اللفظ الصريح الكتابة مع النية، وإشارة الأخرس المفهمة.

المطلب الثالث ـ شروط صحة الإقرار:
اتفق الفقهاء على صحة الإقرار بحق من الحر البالغ العاقل المختار غير المتهم في إقراره (2). ويصح إقرار العبد بجريمة تقتضي حداً أو قصاصاً، كما يصح إقرار العبد المأذون في التجارة والمعاملة بثمن الأشياء، والأجرة، والغصوب، والودائع، ويصح إقرار المكاتب في الأموال، ويصح عند الحنفية إقرار العبد المحجور بالمال، لكن لا ينفذ على السيد في الحال، وإنما يطالب به العبد بعد العتق والحرية. ولا ينفذ عند الحنابلة إقرار العبد بالقصاص في النفس، وإنما يطالب به بعد العتق، ولكن يصح الإقرار منه بالقصاص فيما دون النفس عندهم. وبالاتفاق لا يصح إقرار الصبي والمجنون والمكرَه والمتهم في إقراره. وعلى هذا تكون شروط الإقرار ما يلي:
1 - العقل والبلوغ: فلا يصح إقرار المجنون. ويعبر البلوغ شرطاً عند الجمهور لصحة الإقرار، فلا يصح إقرار الصبي غير البالغ أيضاً، لقوله عليه الصلاة والسلام: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى
_________
(1) مجمع الضمانات: ص 370 وما بعدها.
(2) البدائع: 222/ 7، تكملة فتح القدير: 281/ 6، اللباب: 76/ 2، تبيين الحقائق: 3/ 5، الشرح الكبير للدردير: 397/ 3 وما بعدها، المهذب: 343/ 2، مغني المحتاج: 238/ 2، المغني: 138/ 5، مجمع الضمانات: ص 365 وما بعدها.

(8/6096)


يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» (1) ورفع القلم معناه رفع التكليف والمسؤولية. ولأن غير البالغ ممنوع من التصرفات.
وليس البلوغ شرطاً لصحة الإقرار عند الحنفية، فيصح إقرار الصبي العاقل بالديون والأعيان؛ لأنه من ضرورات التجارة.
2 - الطواعية أو الاختيار: فلا يصح إقرار المستكره، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» وقد سبق تفصيل حكم إقرارات المستكره في بحث الإكراه.
3 - عدم التهمة: يشترط ألا يكون المقر متهماً في إقراره، فإن اتهم بإقراره لملاطفة صديق ونحوه بطل الإقرار؛ لأن التهمة تخل برجحان الصدق على الكذب في إقراره، والإقرار يعتبر شهادة على النفس، والشهادة ترد بالتهمة، ودليل اعتباره شهادة قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوَّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم} [النساء:135/ 4].
4 - أن يكون المقر معلوماً: فلو قال رجلان: (لفلان على واحد منا ألف درهم) لا يصح الإقرار؛ لأن المقر إذا لم يكن معلوماً لا يتمكن المقر له من المطالبة بالدين، فلا يكون في هذا الإقرار فائدة، فلا يصح.
فإذا أقر الحر البالغ العاقل لزمه إقراره عند الحنفية، سواء أكان المقر به مجهولاً أم معلوماً، ويقال له: بيِّن المجهول، فإذا لم يبين أجبره القاضي على البيان. والقول في البيان قول المقر مع يمينه، إن ادعى المقر له أكثر من الذي بينه، لإنكاره
_________
(1) سبق تخريجه، رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة إلا الترمذي عن السيدة عائشة، وصححه الحاكم، وأخرجه ابن حبان أيضاً.

(8/6097)


الزائد، واليمين على من أنكر. فإن قال: (له علي مال) فالمرجع في بيانه إليه، ويقبل قوله في القليل والكثير (1).
ويلاحظ أن الشافعية (2): فرقوا بين أثر الحجر على السفيه وأثر الحجر على المفلس، فقالوا: لا يصح إقرار السفيه بدين في معاملة قبل الحجر أو بعده، وكذا بإتلاف مال في الأظهر، لأنه ممنوع من التصرف بماله. ويصح إقراره بالحد والقصاص؛ لعدم تعلقهما بالمال، ولبُعد التهمة، ويصح طلاقه وخلعه وظهاره ونفيه النسب بلعان، وحكمه في العبادة كالرشيد، لكن لا يفرّق الزكاة بنفسه، وإذا أحرم بحج فرض وكّل الولي ثقة ينفق عليه في طريقه، وإ ن أحرم بتطوع، المذهب أنه كمحصر فيتحلل بالصوم.
أما المفلس فيصح ويقبل إقراره بعين أو دين وجب قبل الحجر في الأصح في حق الغرماء، كما لو ثبت بالبينة، ولا يصح إقراره بدين أو حق وجب بعد الحجر بمعاملة أو مطلقاً بأن لم يقيده بمعاملة ولا غيرها، ولا يقبل في حق الغرماء. ويصح نكاحه وطلاقه وخلعه واقتصاصه وإسقاطه كالسفيه كما تقدم.

المطلب الرابع ـ أنواع المقر به:
المقر به عموماً نوعان: حقوق الله تعالى، وحقوق العباد (3).
أما حقوق الله تعالى:
فنوعان عند الحنفية:
_________
(1) مجمع الضمانات: ص 364 - 366، الكتاب مع اللباب: 76/ 2.
(2) مغني المحتاج: 148/ 2، 172 وما بعدها.
(3) راجع البدائع: 223/ 7.

(8/6098)


أحدهما ـ أن يكون الحق خالصاً لله، أي للمجتمع، وهو حد الزنا والسرقة وشرب الخمر ونحوه من المسكرات، والإقرار به صحيح. ولو رجع المقر عن إقراره بموجب الحد قبل إقامة الحد، بطل الحد، لاحتمال صدقه في الرجوع، فأورث رجوعه شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات.
ويكفي في الإقرار أن يكون مرة إلا في الزنا عند الحنفية، فإنه يشترط أن يكون أربع مرات، كما حدث في إقرار ماعز بين يدي الرسول صلّى الله عليه وسلم، وذلك خلافاً للقياس، فيقتصر على مورد النص.
وقال أبو يوسف وزفر: يشترط تعدد الإقرار بأن يكون مرتين بعدد الشهود. ولكن روي أن أبا يوسف رجع عن هذا الرأي، ويلاحظ أن التعدد في الإقرار بالقذف ليس بشرط باتفاق الحنفية.
ويحكم بموجب الإقرار في الحدود، سواء تقادم العهد على حدوث مقتضى الحد، أم لا، إلا في شرب الخمر، فإنه لا يعتبر الإقرار عند أبي حنيفة وأبي يوسف بعد ذهاب الرائحة وتقادم العهد؛ لأن ابن مسعود جلد رجلاً وجد منه رائحة الخمر، ولم يجلده حتى تحقق من الرائحة.
وسبق ذكر الحديث وتفصيل هذا الموضوع في مبحث حد الشرب الذي عرفنا فيه أن محمداً رحمه الله قال: يحد شارب الخمر بالإقرار أو بالشهادة، ولو بعد ذهاب الرائحة.
الثاني ـ أن يكون للعبد فيه حق: وهو حد القذف. وقد ذكرت في مبحث هذا الحد شروط صحة الإقرار بجريمة القذف والزنا وسائر الحدود.

(8/6099)


وأما حقوق العباد أي حقوق الأفراد، فأنواع:
منها: حق طلب واستيفاء القصاص أو الدية.
ومنها: الحق في الأموال النقدية، أو العينية.
ومنها: الحق في الطلاق وحق الشفعة والنسب ونحوها.
ولا يشترط لصحة الإقرار بهذه الحقوق الفردية مايشترط للإقرار بحقوق الله تعالى من التعدد، وكونه في مجلس القضاء، والنطق بعبارة صريحة، وإنما يصح الإقرار فيها من الأخرس؛ كما لا يشترط لصحة الإقرار بها الصحو، فيصح إقرار السكران بها. وهذه الحقوق تثبت مع الشبهات، بخلاف حقوق الله تعالى.
والشروط المختصة بالإقرار بحقوق العباد عند الحنفية هي ما يأتي (1):
أولاً ـ أن يكون المقر له معلوماً، سواء أكان موجوداً أم حملاً في البطن: فلو كان المقر له مجهولاً، بأن قال إنسان: (لواحد من الناس علي ألف درهم) لا يصح الإقرار؛ لأنه لا يملك أحد مطالبته بمقتضى إقراره.
ولو قال: (لحمل هند علي ألف درهم): فإن عزا إقراره لسبب مقبول، يصلح لثبوت الملك له، من طريق إرث أو وصية (2)، كأن يقول: مات أبو الحمل، فورث الحمل هذا الألف، أو يقول: أوصى بالألف فلان لهذا الحمل، صح الإقرار، وكان المبلغ المقر به للحمل، أي الجنين بالاتفاق.
_________
(1) المبسوط: 196/ 17 ومابعدها، البدائع: 223/ 7 وما بعدها، تكملة فتح القدير: 304/ 6، تبيين الحقائق: 11/ 5، الدر المختار: 474/ 4، اللباب: 83/ 2، مجمع الضمانات: ص 369.
(2) إذ أن أهلية الجنين أهلية وجوب ناقصة فلا يتمكن من ثبوت الحقوق المالية له إلا ماكان من طريق الإرث، أو الوصية، أو الوقف، كما هو معلوم.

(8/6100)


وحينئذ إن جاءت هند هذه بالولد في مدة يعلم أنه كان قائماً وقت الإقرار، لزم المقر ما أقر به. وإن جاءت به ميتاً، فالمال للموصي والمورث؛ لأنه إقرار في الحقيقة لهما، وإنما ينتقل إلى الجنين بعد الولادة، ولم ينتقل في الواقع، فيقسم بين ورثة المورث. ولو جاءت بولدين حيين، فالمال بينهما.
وإن بين المقر سبباً مستحيلاً في العادة لا يمكن حدوثه من الجنين، كأن قال: أقرضني أو باعني شيئاً، فالإقرار باطل لاغ اتفاقاً.
وإن أبهم الإقرار، أي أطلقه، فلم يبين سبباً صالحاً يتصور لثبوت الملك للحمل كالإرث والوصية: لم يصح الإقرار عند أبي يوسف، قيل: وأبو حنيفة معه؛ لأنه لا يثبت للجنين شيء من الحقوق المالية، سواء أكان من جهة التجارة والمعاملة، أم من جهة الجناية، ومطلق الإقرار ينصرف إلى الإقرار بحق ثابت بسبب التجارة، فيعتبر كأن المقر صرح به، وهو غير مقبول منه.
وقال محمد والشافعي في الأظهر ومالك وأحمد: يصح الإقرار للحمل إذا أطلقه المقر، أي لم يسنده إلى سبب كإرث أو وصية، ويحمل إقراره على سبب الملكية المتصور للحمل، بأن يحمل على أن هذا المبلغ أوصى به رجل، أو مات مورث الحمل وتركه ميراثاً له؛ لأن الإقرار حجة شرعية، فإذا صدر من أهله في محله، فيجب إعماله، وقد أمكن العمل به على النحو المذكور (1).
هذا هو حكم الإقرار للحمل. وأما الإقرار بالحمل فجائز اتفاقاً، كما إذا أقر بحمل شاة لرجل، صح إقراره والتزم المقر بما أقر به، سواء بيَّن سبباً صالحاً لثبوت الملك أو أبهم؛ لأن لإقراره وجهاً صحيحاً: وهو الوصية بالحمل من جهة غير
_________
(1) تكملة فتح القدير: 306/ 6، الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه: 398/ 3، المهذب: 344/ 2 وما بعدها، مغني المحتاج: 241/ 2 وما بعدها، المغني: 141/ 5 وما بعدها.

(8/6101)


المقر، بأن أوصى بالحمل مالك الشاة لرجل، ومات فأقر وارثه، وهو عالم بوصية مورثه بأن هذا الحمل لفلان (1).
ثانياً ـ ألا يتعلق بالمقر به حق الغير؛ لأن حق الغير معصوم محترم، فلا يجوز إبطاله من غير رضاه، كإقرار المريض مرض الموت بدين لوارثه، لا يصح إقراره إلا بإجازة بقية الورثة؛ لأنه متهم في هذا الإقرار، إذ يجوز أنه آثر بعض الورثة على بعض. وسأفصل بحثه في مبحث لاحق.
واشترط الشافعية شرطين في المقَرّ به:
1 - ألا يكون الحق المقر به ملكاً للمقر حين يقرّ به، لأن الإقرار إخبار عن كون الشيء مملوكاً للمقرّ له.
2 - أن يكون الحق المقرّ به في يد المقرّ، ليسلمه بالإقرار إلى المقرّ له، وإلا لم يتحقق مقتضى الإقرار.

المطلب الخامس ـ الإقرار بالأموال:
يصح الإقرار بالأموال، سواء أكان المال عيناً من الأعيان، أم ديناً ثابتاً في الذمة، وسواء أكان المقر به معلوماً أم مجهولاً باتفاق العلماء؛ لأن جهالة المقر به لا تمنع صحة الإقرار؛ لأن الحق قد يلزم الإنسان مجهولاً بأن أتلف مالاً لا يدري قيمته، أو يطالب بتعويض جناية على أعضاء الإنسان لا يعلم مقداره، فلا تمنع الجهالة صحة الإقرار، والإقرار: إخبار عن ثبوت الحق، فيصح به. وحينئذ يصح أن يقول المقر: علي شيء أو حق، فيلزمه مجهولاً، ثم يطالب ببيان المجهول،
_________
(1) المراجع السابقة، تكملة فتح القدير: 308/ 6،البدائع: 224/ 7، تبيين الحقائق: 12/ 5، اللباب: 84/ 2.

(8/6102)


ليتمكن الغير من استيفائه، فإن لم يبين أجبره القاضي على البيان بالحبس ونحوه؛ لأن المقر لزمه تفريغ ذمته التي شغلها بصحيح إقراره، ويتم ببيان مقدار المقر به.
وهذا بخلاف جهالة المقر له، فإن جهالته تفسد الإقرار؛ لأن المجهول لا يصلح مستحقاً، وبخلاف جهالة المقر، فإنها تفسد الإقرار أيضاً لجهالة المقضي عليه بوجوب دفع الحق إلى صاحبه، فلا يتمكن المقر له من المطالبة، فيصبح الإقرار عديم الفائدة (1).
وعلى هذا، إن جهالة المقر به لا تمنع صحة الإقرار، وجهالة المشهود به تمنع صحة الشهادة والقضاء؛ لأنه لا يمكن القضاء بمجهول، وأما في الإقرار فيطالب المقر ببيان الشيء أو الحق الذي أقر به، والقول قوله مع يمينه. ويظهر الحكم في المسائل الآتية التي تعتبر نموذج القبول عند القاضي لبيان ما يبينه المقر:

في الغصب:
1 ً - إذا أقر إنسان أنه «غصب من فلان مالاً» أو قال «لفلان علي شيء، أو حق» فالإقرار صحيح ويلزمه أن يبين شيئاً له قيمة، ولا يقبل منه أن يبين شيئاً لا قيمة له، لأنه في المثال الأول لا يرد الغصب إلا على ما هو مال، وفي المثال الثاني أخبر المقر عن التزامه شيئاً في ذمته، وما لا قيمة له لا يلزم في الذمة.
2ً - وإذا قال: «غصبت منه شيئاً» ثم بين ما لا قيمة له شرعاً، بأن قال: (غصبت صبياً حراً صغيراً) أو (خمراً لمسلم) أو (جلد ميتة) يصدق؛ لأن هذا مما يغصب عادة.
_________
(1) تبيين الحقائق: 4/ 5، تكملة فتح القدير، المرجع نفسه: ص282، اللباب: 76/ 2، الدر المختار: 469/ 4، مغني المحتاج: 247/ 2، المهذب: 348/ 2، المغني: 171/ 5.

(8/6103)


3ً - ولو قال: (غصبت شاة أو ثوباً): فيصدق في بيان كون ذلك سليماً أو معيباً، أو قال: (غصبت داراً) يصدق سواء أكانت الدار في بلدة قريبة أم بعيدة؛ لأن الغصب يقع على حسب ما يصادف الشخص عادة، سواء أكان سليماً أم معيباً، ويصدق في بيان مكان الدار؛ لأنه أبهم المكان، فكان القول قوله في بيان المكان، ويلزمه تسليم الدار إلى المغصوب منه إن قدر على التسليم (1). وإن عجز عن التسليم، بأن خربت الدار، فالقول قول المقر عند أبي حنيفة وأبي يوسف، ولا يضمن العقار عندهما؛ لأنه غير مضمون القيمة بالغصب في رأيهما، وإنما هو مضمون الرد فقط؛ لأن معنى الغصب وهو إزالة يد المالك عن ماله بفعل في المال لم يوجد في العقار.
وعند محمد: يضمن قية الدار؛ لأن العقار عنده مضمون الرد إن كان موجوداً، ومضمون القيمة أيضاً إن كان هالكاً؛ لأن الغصب إزالة يد المالك عن ماله، والفعل في المال ليس بشرط، وقد تحقق هذا المعنى بإبعاد يد المالك عن العقار (2).
_________
(1) البدائع: 215/ 7 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 286/ 6، المبسوط: 185/ 17، مجمع الضمانات: ص 117.
(2) الخلاف بين أئمة الحنفية راجع إلى اختلافهم في ضمان العقار المغصوب بالهلاك، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف: إذا غصب رجل عقاراً، فهلك في يده بآفة سماوية كغلبة سيل، لم يضمنه، لعدم تحقق الغصب بإزالة اليد؛ لأن العقار في محله بلا نقل، والتبعيد للمالك عنه فعل في المالك، لا في العقار، فكان الحال كما إذا بعد المالك عن المواشي. وقال محمد: يضمنه لتحقق إثبات اليد الغاصبة التي يترتب على ثبوتها زوال يد المالك لاستحالة اجتماع اليدين على محل واحد في حالة واحدة.
فإذا انهدم البناء بفعل الغاصب ضمنه باتفاقهم جميعاً؛ لأن ما فعله إتلاف، والعقار يضمن بالإتلاف (راجع البدائع: 147/ 7، اللباب شرح مختصر الكتاب: 189/ 2) وراجع بحث الغصب.

(8/6104)


المكيال والميزان:
4 ً- لو قال المقر: (علي مد حنطة أو رطل شعير) فيعتبر بيانه بحسب مد البلد أو رطل البلد الذي أقر فيه.

الوزن أو العدد:
5 ً - لو قال: (علي ألف درهم) فهو على ما يتعارفه أهل البلد من اعتبار الوزن أو العدد. فإن لم يكن شيئاً متعارفاً، فيحمل على الوزن؛ لأن الدراهم في الأصل موزونة. ويلاحظ أن المعتبر في عرفنا اليوم هو العدد، فإذا أقر بألف ليرة ذهبية أو فضية، فينصرف إقراره إلى العدد، فيلزم بهذا المبلغ عدداً، لا وزناً؛ لأن الأوزان متحدة عند سك النقود.

المقصود بدريهم ونحوه:
6 ً - لو قال: (لفلان علي دريهم أو دنينير) فيلزم بدرهم تام ودينار كامل؛ لأن التصغير قد يذكر لصغر الحجم، وقد يذكر لاستحقار الدرهم، ونحوهما.

المقصود بدراهم ودنانير:
7 ً - لو قال: (لفلان علي دراهم أو دنانير) فيصدق على ثلاثة فأكثر؛ لأن أقل الجمع الصحيح ثلاثة.
ولو قال: (علي دراهم كثيرة) يصدق في عشرة دراهم عند أبي حنيفة؛ لأنه جعل الكثرة صفة للدراهم، وأكثر ما يستعمل فيه اسم الدراهم هو العشرة، بدليل أنه إذا زاد على العشرة يقال: أحد عشر درهماً، واثنا عشر درهماً، ولا يقال: دراهم، فكانت العشرة أكثر ما يستعمل فيه اسم الدراهم، فلا تلزمه الزيادة عليها.

(8/6105)


وعند الصاحبين: لا يصدق في أقل من مئتي درهم؛ لأن المقر به دراهم كثيرة، وما دون المئتين في حد القلة، ولهذا لم يعتبر ما دونه نصاباً للزكاة.

مفهوم المال العظيم أو الكبير:
8 ً ـ لو قال المقر: (لفلان علي مال عظيم) أو (كثير) أو (كبير): فعليه مئتا درهم باتفاق الحنفية على المشهور عندهم؛ لأنه أقر بمال موصوف بوصف العظم، ونصاب الزكاة، أي المال الذي تجب فيه الزكاة: وهو المئتا درهم عظيم شرعاً وعرفاً، بدليل أنه اعتبر مالكه غنياً به، فأوجب عليه الشرع مواساة الفقراء، والغني عظيم عند الناس، حتى إنه يعد من الأغنياء عادة بملكه النصاب الشرعي.
هذا إذا كان المقر به من الدراهم، فإن كان من غيرها فيقدر بأقل النصاب الشرعي الواجب فيه الزكاة فيها، فإذا قال: (علي دنانير كثيرة) فيلزمه عشرون، وفي الإبل خمس وعشرون، وفي الحنطة خمسة أوسق أي (653) كغ تقريباً.
وإن قال: (علي أموال عظام) فعليه ست مئة درهم؛ لأن عظام جمع عظيم، وأقل الجمع الصحيح ثلاثة، وهذا على المشهور عند الحنفية (1).
وقال الشافعية: لو أقر بمال أو بمال عظيم أو كبير أو كثير: قبل في تفسيره قليل المال وكثيره، لأن ما من مال إلا وهو عظيم وكثير بالنسبة إلى ما هو دونه.
وقال المالكية والشافعية والحنابلة: إن قال: (له علي دراهم) لزمه ثلاثة؛ لأنه جمع، وأقل الجمع ثلاثة، وكذلك يلزمه ثلاثة عند الشافعية والحنابلة إن قال:
_________
(1) راجع لما سبق: المبسوط: 4/ 18 وما بعدها، البدائع: 219/ 7 وما بعدها، تكملة فتح القدير: 288/ 6 وما بعدها، تبيين الحقائق: 5/ 5 وما بعدها، الدر المختار: 469/ 4 وما بعدها، اللباب: 77/ 3.

(8/6106)


(له علي دراهم كثيرة)؛ لأن الكثرة والعظمة لا حد لهاشرعاً ولا لغة ولا عرفاً، وتختلف بحسب النسب والإضافة وأحوال الناس، فالثلاثة أكثر مما دونها، وأقل مما فوقها. وقال المالكية: يلزمه أربعة؛ لأن الرابع أول مبادئ كثرة الجمع (1).

المقصود بنوع الدراهم: إذا قال المقر: (لفلان علي ألف درهم) ولم يبين سبب الالتزام من بيع أو قرض ونحوهما: ثم قال: (هي زيوف) فيصدق إذا كان البيان متصلاً بالكلام السابق، فإن كان منفصلاً لا يصدق، لأن اسم الدراهم اسم جنس يقع على الجياد والزيوف، فكان قوله (زيوف) بياناً للنوع، فيصح بشرط كونه متصلاً بما سبق، لا منفصلاً عنه.
ولو قال: (لفلان عندي ألف درهم) ثم قال: (هي زيوف): يصدق سواء أكان البيان متصلاً بما قبله أم منفصلاً؛ لأن هذا إقرار بالوديعة، والوديعة مال محفوظ عند الوديع، قد يكون جيداً، وقد يكون رديئاً. والغصب في هذا مثل الوديعة.
فإن قال: (لفلان علي ألف درهم ثمن مبيع) أي بين سبب الالتزام، ثم قال: (هي زيوف) فلا يصدق، ويلزمه الجيد عند أبي حنيفة، سواء أكان البيان متصلاً أم منفصلاً؛ لأن البيع عقد معاوضة، فيتطلب سلامة العوضين عن العيوب؛ لأن كل عاقد لا يرضى إلا بالعوض السليم عن العيب، فكان إقراره بكون الدراهم ثمناً إقراراً بصفة السلامة عن العيوب، فيعتبر بيانه بعدئذ بالزيافة رجوعاً عن الإقرار، والرجوع عن الإقرار لا يصح، كما إذا قال: (بعتك هذا الثوب على أنه معيب) لا يصدق وإن كان بيانه متصلاً بما قبله، فكذا الحالة التي هنا.
_________
(1) انظر الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 407/ 3، المهذب: 347/ 2 وما بعدها، مغني المحتاج: 248/ 2، المغني: 160/ 5.

(8/6107)


وقال الصاحبان: يصدق إن وصل كلامه بأصل الإقرار، وإن فصل لا يصدق؛ لأن اسم (الدراهم) كما يطلق على الجياد، يطلق على الزيوف؛ لأن «الدراهم» اسم جنس، والجيد والرديء نوعان منها، فإذا أطلق لفظ (الدراهم) انصرف إلى الجياد، فيصح بيان المقر إذا كان متصلاً بما قبله، لتعيينه بعض ما يحتمله اللفظ، ولا يصح منفصلاً، حتى لا يكون رجوعاً عن الإقرار.
ولو قال: (لفلان علي ألف درهم قرضاً) ثم قال: (هي زيوف) ففيه روايتان: رواية بالتفصيل مثل قول الصاحبين في البيع: إن وصل يصدق وإن فصل لا يصدق، ورواية تقرر أنه لا يصدق مثل قول أبي حنيفة في البيع؛ لأن القرض في الحقيقة مثل البيع: مبادلة مال بمال.

الاختلاف بين المقر والمقر له في اقتضاء الدين أو صفة وجود الشيء عند المقر:
لو قال: (اقتضيت من فلان ألف درهم كانت لي عليه) أو قال: (استوفيت) أو (قبضت) أو (أخذت) وأنكر المقر له، فقال: (لم يكن لك علي شيء) وقال: (هو مالي قبضته مني) فالقول قول المقر له مع يمينه، ويؤمر المقر برد الألف إلى المقر له، لأن الإقرار بالاقتضاء إقرار بالقبض، والقبض موجب للضمان، فهو بادعائه القبض على أساس اقتضاء الألف ديناً له، يدعي براءته عن الضمان، والآخر ينكر فيكون القول قوله مع يمينه.
وكذلك إذا أقر الشخص أنه قبض من آخر ألف درهم كانت وديعة عنده، وأنكر المقر له، قائلاً: (بل أخذتها غصباً) فالقول قول المقر له، لما بينت.
أما لو قال: (أودعني فلان ألف درهم) فقال فلان هذا: (لا، بل أخذتها

(8/6108)


غصباً): فالقول قول المقر مع يمينه؛ لأن المقر ما أقر بسبب الضمان وهو الأخذ أو القبض، بخلاف ما سبق (1).

الاستثناء في الإقرار: إن استثناء بعض ما دخل في المستثنى منه جائز بغير خلاف، فهو ثابت في لغة العرب، وورد في الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً} [العنكبوت:29/ 14] وقال: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس} [الحِجر:15/ 30] وقال النبي صلّى الله عليه وسلم في الشهيد: «يكفِّر عنه خطاياه كلها إلا الدين» (2).
فإذا أقر رجل بشيء واستثنى منه، كان مقراً بالباقي بعد الاستثناء، فإذا قال: (له علي مئة إلا عشرة) كان مقراً بتسعين، ولذا قال في تعريف الاستثناء: إنه تكلم بالباقي بعد الثُنْيا (3).
ولا يصح الاستثناء إلا أن يكون متصلاً بالكلام السابق، بأن يتصل المستثنى بالمستثنى منه بحيث يعد معه كلاماً واحداً عرفاً، فلا يصح الفصل بسكوت طويل وكلام أجنبي؛ لأن الاستثناء مغاير لما قبله، ولايضر الفصل اليسير لعارض كسكتة تنفس أو عي أو تذكر أو انقطاع صوت أو سعال أو عطاس، ويصح استثناء القليل من الكثير اتفاقاً، كما يصح عند الحنفية فقط استثناء الكثير من القليل في ظاهر الرواية. ولايصح استثناء الكل من الكل بغير خلاف؛ لأن الاستثناء رفع بعض
_________
(1) راجع البدائع: 217/ 7 وما بعدها، المبسوط: 126/ 18، مختصر الطحاوي: ص 115، مجمع الضمانات: ص 376.
(2) هذا مأخوذ من مفهوم حديث طويل رواه مسلم والترمذي والنسائي عن أنس، وأخرج مسلم عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «القتل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدين» (التاج الجامع للأصول: 297/ 4، الإلمام: ص 483).
(3) بضم فسكون فألف مقصورة في آخره: اسم من الاستثناء.

(8/6109)


ما تناوله اللفظ، واستثناء الكل رفع الكل، فلو صح الاستثناء صار الكلام لغواً غير مفيد.
ويجوز الاستثناء من الاستثناء، بالعطف أو بدونه مثل: «علي عشرة إلا ثلاثة وإلا درهمين» فيكون مستثنياً لخمسة مبقياً لخمسة، ومثل قوله تعالى: {قالوا: إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين، إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين، إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين} [الحِجر:58/ 15 - 60].
ويصح عند المالكية والشافعية الاستثناء في الإقرار من غير الجنس، ولا يصح ذلك عند الحنفية والحنابلة (1). وتفصيله يعرف من التطبيقات الآتية:
واشترط الفقهاء أيضاً شرطاً آخر: وهو ألا يستغرق المستثنى المستثنى منه، فيصح الإقرار إذا قال المقر: له علي خمسة إلا أربعة، ولا يصح إذا قال: له علي خمسة إلا خمسة، فاستثناؤه باطل، وتلزمه الخمسة كلها؛ لأنه أقرَّ بها.

1 - استثناء القليل من الكثير:
إذا قال المقر: (علي عشرة دراهم إلا ثلاثة دراهم) يلزمه سبعة دراهم، لأن الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا، كأنه قال: لفلان علي سبعة دراهم.
وكذا إذا قال: (علي ثلاثة دراهم غير درهم) يلزمه درهمان؛ لأن كلمة (غير) بالنصب تفيد الاستثناء.
_________
(1) المبسوط: 191/ 17، البدائع: 209/ 7 وما بعدها، مجمع الضمانات: ص 371، تكملة فتح القدير: 390/ 6، تبيين الحقائق: 13/ 5، الدر المختار: 478/ 4، مختصر الطحاوي: ص 114، اللباب: 78/ 2، الشرح الكبير للدردير: 410/ 3 وما بعدها، مغني المحتاج: 257/ 2، المهذب: 349/ 2، المغني: 142/ 5 وما بعدها، 162.

(8/6110)


ولو قال: (لفلان علي ألف درهم سوى ثلاثة دراهم) يلزمه ما عدا المستثنى؛ لأن (سوى) من ألفاظ الاستثناء.
وكذا إذا قال: (علي ثلاثة دراهم إلا درهماً) فعليه درهمان.
ولو قال: (علي عشرة إلا ثلاثة) يلزمه سبعة.
ولو قال: (إلا سبعة) يلزمه ثلاثة؛ لأن الاستثناء تكلم بالباقي بعد الاستثناء.
ولو قال: (لفلان علي ألف إلا قليلاً) فعليه أكثر من نصف الألف، والقول قول المقر في الزيادة على النصف مع يمينه؛ لأن القليل من أسماء النسبة أو الإضافة، فيقتضي أن يكون ما يقابله أكثر منه، ليكون هو بالإضافة إليه قليلاً.
وكذا إذا قال: (علي قريب من الألف) أو (زهاء ألف) أو (عُظْم الألف)، لأن هذا أكثر من النصف بيقين، وفي الزيادة: القول قوله.

2 - استثناء الكثير من القليل:
إذا قال المقر: (لفلان علي تسعة دراهم إلا عشرة) فيجوز الاستثناء في ظاهر الرواية عند الحنفية، ويلزمه العشرة؛ لأن الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا، وهذا المعنى متحقق في استثناء الكثير من القليل، إلا أنه مستقبح في كلام العرب؛ لأن الاستثناء لاستدراك الغلط، ومثل هذا الغلط مما يندر وقوعه غاية الندرة.
وقال أبو يوسف وبقية علماء المذاهب: لا يجوز هذا الاستثناء؛ لأنه لم يرد في كلام العرب.

3 - استثناء الكل من الكل:
هو مثل أن يقول شخص: (لفلان علي عشرة دراهم إلا عشرة) يكون

(8/6111)


الاستثناء لاغياً بالاتفاق، ويلزمه جميع ما أقر به قبل الاستثناء وهو عشرة دراهم؛ لأن هذا ليس باستثناء، وإنما هو رجوع عما تكلم به، والرجوع عن الإقرار في حقوق الناس لا يصح، فبطل الرجوع، وبقي الإقرار.

4 - الاستثناء من الاستثناء:
الاستثناء من الاستثناء يكون استثناء المستثنى، أي من الكلام الذي يليه، لكونه أقرب المذكور إليه، ثم ينظر إلى الباقي من المستثنى، فيستثنى من المستثنى منه، أي ما قبل (إلا) أو غيرها من أدوات الاستثناء، مثل أن يقول: (علي عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهماً) يكون إقرار بثمانية؛ لأننا صرفنا الاستثناء الأخير إلى ما يليه، فبقي درهمان يستثنيان من العشرة، فيبقى ثمانية.
ولو قال: (لفلان علي عشرة دراهم إلا خمسة إلا ثلاثة إلا درهماً) يكون إقرراً بسبعة؛ لأنا جعلنا الدرهم مستثنى مما يليه، وهي ثلاثة، فبقي درهمان استثناها المقر من خسمة، فبقي ثلاثة استثناها من أصل المستثنى منه فبقي سبعة. وهكذا.

5 - الاستثناء من غير الجنس (أو الاستثناء المنقطع):
قال أبو حنيفة وأبو يوسف: إذا كان الاستثناء من غير جنس المستثنى منه ينظر: إن كان المستثنى مما لا يثبت ديناً في الذمة مثل: (لفلان علي عشرة دراهم إلا ثوباً) لا يصح الاستثناء؛ لأن المستثنى منه وهو العشرة دراهم ثبت بالإقرار ديناً في الذمة، وأما المستنثى وهو الثوب: فهوعين من الأعيان لا يحتمل الثبوت والالتزام به في الذمة، فلا يكون من جنس المستثنى منه، إذ لا مجانسة بين الثياب والدراهم، لا في الاسم ولا في احتمال الالتزام به في الذمة، فلا يتحقق معنى

(8/6112)


الاستثناء أصلاً. ثم إنه لا يعرف قدر الثوب من الدراهم، فيكون المستثنى مجهولاً، وجهالة المستثنى توجب جهالة المستثنى منه، فلا يصح الاستثناء.
وأما إن كان المستثنى مما يثبت ديناً في الذمة وهو المكيل والموزون والعددي المتقارب كالجوز والبيض، بأن قال: (لفلان علي مئة درهم إلا ديناراً أو إلا قفيز حنطة) صح الاستثناء عند الشيخين من الحنفية، ويلزمه مئة درهم إلا قدر قيمة ما استثناه من الدينار أو القفيز؛ لأن المجانسة بين المستثنى والمستثنى منه شرط عندهما، والمجانسة بين الدينار والدرهم متحققة إذ أن كلاً منهما من جنس الأثمان التي تقدر بها قيم الأشياء، والمجانسة بين الدراهم والمكيل والموزون ونحوها متحققة أيضاً؛ لأن كلاً منها يمكن أن يثبت ديناً في الذمة حالاً مؤجلاً، وذلك إذا وصف المكيل أو الموزون، ويكفي تحقق المجانسة بهذا المعنى.
وقال محمد وزفر والحنابلة، لا يصح الاستثناء في الإقرار من غير الجنس مطلقاً، سواء أكان المستثنى ثوباً أم مكيلاً أم موزوناً؛ لأن معنى الاستثناء ـ وهو (إخراج بعض ما تناوله المستثنى منه على معنى أنه لولا الاستثناء لكان داخلاً تحت اللفظ) ـ لا يتصور في خلاف الجنس، فغير الجنس المذكور ليس بداخل في الكلام، فلا يكون استثناء.
وقال مالك والشافعي: يصح الاستثناء من غير جنس المستثنى منه، مثل (لفلان علي ألف من الدراهم إلا ثوباً) يعني إلا قدر قيمة ثوب؛ لأنه ورد في القرآن الكريم ولغة العرب، قال الله تعالى: {وإذ قلنا للملائكة: اسجدوا لآدم، فسجدوا إلا إبليس كان من الجن} [الكهف:18/ 50] وقال الله تعالى: {فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} [الشعراء:77/ 26] وقال سبحانه: {ما لهم به من علم إلا اتباع الظن} [النساء:157/ 4] وقال الله عز وجل: {لا يسمعون فيها لغواً إلا سلاماً} [مريم:62/ 19]

(8/6113)


وقال الشاعر:
وبلدةٍ ليس بها أنيس ..... ..... إلا اليعافير، وإلا العيس (1)

6 - الاستثناء أو التعليق بمشيئة الله:
اتفق الحنفية، والشافعية على المذهب على أن المقر إذا قال: (لفلان علي ألف إن شاء الله) أو (إلا أن يشاء الله) لم يلزمه شيء، سواء قدَّم الألف على المشيئة أم لا؛ لأنه لم يجزم الالتزام، بل علقه بالمشيئة، ومشيئة الله مغيبة عنا. وكذلك لا يلزمه شيء إذا قال: (لفلان علي ألف درهم إن شاء فلان) فالإقرار باطل؛ لأن مشيئة غير الله لا توجب شيئاً (2).

العطف في الإقرار:
لو قال المقر: (علي درهم ودرهم) أو (درهم فدرهم) أو (درهم ثم درهم): لزمه درهمان عند الحنفية والحنابلة والمالكية؛ لأن حرف العطف يقتضي الجمع والتشريك بين المعطوف والمعطوف عليه.
وقال الشافعية: إن أقر بدرهم في وقت، ثم أقر بدرهم في وقت آخر: لزمه درهم واحد، لأنه إخبار، فيجوز أن يكون قوله خبراً عما أخبر به أولاً، وهذا مذهب الحنابلة أيضاً خلافاً للحنفية. وإن قال: (علي درهم ودرهم) أو (درهم ثم درهم): لزمه درهمان؛ لأن الواو تقتضي أن يكون المعطوف غير المعطوف عليه. وإن قال: (درهم فدرهم) لزمه درهم واحد إذا لم يرد العطف؛ لأنه يحتمل الصفة
_________
(1) أي رب بلدة، الواو بمعنى رب، واليعافير ـ جمع يعفور: وهو ولد الظبية، وولده البقرة الوحشية، والعيس: الإبل البيض واحدها أعيس، والأنثى عيساء، وهو استثناء منقطع، معناه: الذي يقوم مقام الأنيس: اليعافير والعيس.
(2) تكملة فتح القدير مع العناية: 314/ 6، تبيين الحقائق: 15/ 5، اللباب: 79/ 2، مغني المحتاج: 255/ 2.

(8/6114)


أي فدرهم لازم لي أو أجود منه (1).
وقال الحنفية (2): لو قال المقر: (علي ألف ونيِّف) فعليه الألف، والقول قوله في بيان النيف؛ لأنه عبارة عن الزيادة.
ولو قال: (لفلان علي بضع وخمسون درهماً) لا يصدق في بيان البضع في أقل من ثلاثة دراهم؛ لأن البضع في اللغة من الثلاثة إلى التسعة، فيحمل على أقل المتعارف؛ لأنه متيقن به.
ولو قال: (علي لفلان مئة درهم) فالمائة: دراهم. ولو قال: (مئة ودينار) فالمائة: دنانير، ويكون المعطوف عليه من جنس المعطوف، وهذا هو الحكم أيضاً في كل مكيل وموزون وعددي متقارب؛ لأنها تثبت ديناً في الذمة.
أما في عروض السلع كالثياب والعددي المتفاوت كالبطيخ والرمان ونحوهما، بأن قال: (علي مئة وثوب) أو (عشرة ودابة) أو (ألف ورمانة) فيلزمه المعطوف المسمى وهو الثوب أو الدابة ونحوهما. والمرجع في بيان المعطوف عليه وهو المئة وغيرهما إليه، لعطفه مفسراً على مبهم، والعطف لم يوضع للبيان، فبقيت المئة مبهمة، فيرجع في البيان إليه؛ لأنه هو الذي أبهم الكلام.

الاستدراك في الإقرار:
الاستدراك إما أن يكون في الصفة أو في القدر، والاستدراك في القدر إما أن
_________
(1) المغني: 157/ 5، المهذب: 348/ 2، مغني المحتاج: 252/ 2 وما بعدها، الشرح الكبير للدردير: 407/ 3.
(2) البدائع: 222/ 7، اللباب شرح الكتاب: 79/ 2، الدر المختار ورد المحتار: 473/ 4، تكملة فتح القدير: 299/ 6، مختصر الطحاوي: ص 113.

(8/6115)


يكون في نفس الجنس، أو في غير الجنس، فهذه ثلاثة أنواع للاستدراك (1).
1 - الاستدراك في الصفة: بأن يقول: (علي قفيز حنطة جيدة، لا بل وسط) فيلزمه الأجود عند الحنفية؛ لأنه غير متَّهم في زيادة الصفة، متَّهم في نقصان الصفة، فكان مستدركاً في الجيد، راجعاً في الوسط، فيصح استدراكه، ولا يصح الرجوع عن الإقرار.
2 - الاستدراك في القدر في نفس الجنس: بأن يقول: (علي ألف درهم، لا بل ألفان) أو قال: (علي دينار، لا بل ديناران) فيلزمه الأكثر في المذاهب الأربعة؛ لأن الإقرار إخبار، والمخبر عنه مما يجري الغلط في قدره أو صفته عادة، فيحتاج إلى استدراك الغلط فيه، فيقبل الاستدراك إذا لم يكن متهماً فيه؛ لأنه نفى الاقتصار على درهم واحد أو دينار واحد، وأثبت الزيادة عليه.
3 - الاستدراك في القدر بخلاف الجنس: بأن يقول: (علي ألف درهم، لا بل مئة دينار) أو (علي قفيز حنطة، بل قفيز شعير): وحكمه أنه يلزمه جميع ما أقر به عند جمهور الفقهاء؛ لأن الغلط في خلاف الجنس لا يقع عادة، فلا يحتاج لاستدراكه، ولأن ما قبل الاستدراك لا يمكن أن يكون نفس ما بعده ولا بعضه، فكان مقراً بهما، ولا يقبل رجوعه عن شيء منهما.
وقال المالكية: لو قال المقر: (علي درهم، لا بل ديناران) فإن الدرهم يسقط، ويلزمه الديناران؛ لأن (بل) نقلت حكم الأول للثاني، و (لا) للتأكيد على مذهب جمهور النحاة (2).
_________
(1) البدائع: المرجع السابق: ص 212، المبسوط: 103/ 18 وما بعدها، مجمع الضمانات: ص 377.
(2) راجع البدائع: 212/ 7، الشرح الكبير: 407/ 3، مغني المحتاج: 253/ 2، المهذب: 348/ 2، المغني: 158/ 5 وما بعدها.

(8/6116)


المطلب السادس ـ الإقرار في حال الصحة وفي حال المرض:
المراد بالصحيح: من ليس في مرض الموت، سواء أكان غير مريض أصلاً أم مريضاً بغير مرض الموت.
والمراد بالمريض: من هو في مرض الموت (1). فالمقصود من المرض والصحة هو المعنى الشرعي الذي تتبدل به الأحكام بحسب حالة كل منهما، وذلك في الطلاق والوصايا والإقرار وغيرهما، وليس المقصود بهما المعنى اللغوي.
ومرض الموت: هو المرض الذي يعجز صاحبه عن ممارسة أعماله المعتادة على أن يكون مما يخاف منه الهلاك غالباً، ويتصل به الموت فعلاً. فهذه ثلاث صفات لابد من تحقيقها كلها، بحيث لو لم تتحقق واحدة منهن لم يعتبر المرض مرض موت. فلو كان المرض يسيراً لا يمنع صاحبه من القيام بشؤون نفسه كما يعتاده الصحيح، أو كان مما تغلب النجاة منه عادة، ولو مات منه فعلاً، أو كان مما يخاف منه الهلاك غالباً، ولكنه لم يمت فعلاً، فإنه لا يعد مرض موت، وحينئذ يعتبر تصرف المريض فيه كتصرف الصحيح في الصحة والنفاذ (2).
والإقرار في حال الصحة: يصح للوارث والأجنبي، وينفذ من جميع مال المقر، لعدم تعلق حق الورثة بماله في حال الصحة، بل يثبت الدين في الذمة، وإنما يتعلق الدين بالتركة حالة المرض، أي يتعين فيها وينتقل من الذمة إليها. وعلى هذا فلا يقدم الدين السابق على اللاحق، ويتساوى الغرماء أي (الدائنون) في أخذ حقوقهم إذا صار المدين مريضاً، فليس لأحد أفضلية على الآخرين، ولا يحق للمدين أن يؤثر في حال مرضه بعض الغرماء على بعض، بعكس حال الصحة، فإن له أن يؤثر البعض.
_________
(1) المدخل الفقهي العام للأستاذ الزرقاء: ص 795، الطبعة السادسة.
(2) اللباب شرح الكتاب: 84/ 2، أصول الفقه للمؤلف: 173/ 1، ط دار الفكر.

(8/6117)


والإقرار في المرض نوعان: إقرار باستيفاء الدين من غيره، وإقرار بالدين لغيره.
أما إقرار المريض باستيفاء الدين من غيره: فيصح إذا كان الدين على أجنبي في حال الصحة، ولا يصح إذا كان الدين ناشئاً حال المرض لتعلق حق الغرماء بمال المريض. كذلك لا يصح إذا أقر باستيفاء دين وجب له على وارث؛ لأن إقراره بالاستيفاء إقرار بالدين، وإقرار المريض لوارثه باطل.
وأما إقرار المريض بالدين لغيره: فإن كان إقراراً لأجنبي جاز عند أكثر العلماء؛ لأنه غير متهم به في حقه، قال عمر وابنه عبد الله: (إذا أقر المريض بدين لأجنبي، جاز ذلك من جميع تركته).
وإن كان إقراراً بالدين لوارث: لم يصح إقراره عند الحنفية والحنابلة إلا ببينة أو بموافقة بقية الورثة أو بمشاهدة القاضي؛ لأنه متهم في هذا الإقرار، لجواز أنه آثر بعض الورثة على بعض، ولأنه تعلق حق الورثة بماله في مرضه، ولهذا يمنع من التبرع على الوارث أصلاً.
وقال عمر وابنه في الأثر السابق: (إذا أقر المريض لوارثه لم يجز) وروى الدراقطني في سننه عن جعفر بن محمد عن أبيه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: (لاوصية لوارث، ولا إقرار له بالدين) (1) إلا أن هذه الزيادة في الحديث غير مشهورة، وإنما المشهور هو قول ابن عمر السابق. فإن صدق المقر بقية الورثة فيما أقر به لواحد منهم صح الإقرار؛ لأن المانع تعلُّق حقهم في التركة، فإذا صدقوه زال المانع (2).
_________
(1) هذا حديث مرسل: وفيه نوح بن درَّاج ضعيف، وأسنده أبو نعيم الحافظ، ثم ذكر ما معناه أنه روي مرسلاً أيضاً، قال ابن القطان: وهو الصواب (نصب الراية: 111/ 4).
(2) المبسوط: 24/ 18، 31، البدائع: 224/ 7، تكملة فتح القدير: 8/ 7 وما بعدها، الدر المختار: 481/ 4، المغني: 197/ 5، تبيين الحقائق: 25/ 5.

(8/6118)


وهنا ذكر فقهاء الحنفية (1) مسائل، فقالوا: من أقر بدين لأجنبي عنه في مرض موته ثم قال: هو ابني، ثبت نسبه منه وبطل إقراره له؛ لأن دعوى النسب تستند إلى وقت العلوق (بدء الحمل) فتبين أنه أقر لابنه فلا يصح إقراره.
ولو أقر لأجنبية، ثم تزوجها، لم يبطل إقراره لها؛ لأن الزوجية طارئة يقتصر وجودها على زمان التزوج.
ومن طلق زوجته في مرض موته طلاقاً ثلاثاً أو أقل بطلب منها ثم أقر لها بدين ومات وهي في العدة، فلها الأقل من الدين الذي أقر به، ومن ميراثها منه؛ لأن الزوجين متهمان في ذلك، لجواز أن يكونا توصلا بالطلاق إلى تصحيح الإقرار، فيثبت أقل الأمرين. فإن تم الطلاق بغير طلب المرأة، كان الزوج فارَّاً بطلاقه لحرمانها من الميراث، فلها الميراث بالغاً ما بلغ ويبطل الإقرار. وإذا انقضت عدتها قبل موته، ثبت إقراره ولا ميراث لها.
وقال الشافعية على المذهب: يصح إقرار المريض مرض الموت لوارث، كما يصح لأجنبي؛ لأن من صح إقراره له في الصحة، صح إقراره في المرض كالأجنبي؛ ولأن الظاهر أن المقر محق في إقراره؛ لأنه انتهى إلى حالة يصدق فيها الكاذب، ويتوب فيها الفاجر (2).
ومنشأ الخلاف بين الحنفية والشافعية في الإقرار هو أن الشافعية قالوا: إن الفعل إذا وجد مطابقاً لظاهر الشرع حكم بصحته، ولا تعتبر التهمة في الأحكام؛ لأن الأحكام تتبع الأسباب الجلية دون المعاني الخفية. وقال أبو حنيفة رضي الله
_________
(1) الكتاب مع اللباب: 85/ 2 وما بعدها.
(2) مغني المحتاج: 240/ 2، المهذب: 354/ 2.

(8/6119)


عنه:
كل فعل تمكنت التهمة فيه، حكم بفساده، لتعارض دليل الصحة والفساد (1).
وقال المالكية: يصح إقرار المريض مرض الموت إذا لم يتهم المقر في إقراره، ويبطل إن اتهم، كمن له بنت وابن عم، فأقر لابنته، لم يقبل، وإن أقر لابن عمه قبل، لأنه لا يتهم في أنه يمنع ابنته ويصل ابن عمه (2).

هل يفضل دين الصحة؟ لو أقر شخص في صحته بدين لإنسان، وأقر في مرضه لآخر: فقال الحنفية: دين الصحة وما لزمه في مرضه بسبب معروف، أي (ما ليس بتبرع) يقدم على ما أقر به في مرض موته، فإذا أقر رجل في مرض موته بديون، وكان عليه ديون لزمته حال صحته، سواء علم سببها أو ثبتت بإقراره، وعليه أيضاً ديون لزمته في مرضه، لكن علم سببها كبدل شيء تملكه أو أهلكه، أو مهر مثل امرأة تزوجها: فدين الصحة والدين الذي عرف سببه حال مرضه مقدم على ما أقر به في مرضه؛ لأن الإقرار لا يعتبر حجة إذا كان فيه إبطال حق الغير، وإقرار المريض يترتب عليه إبطال حق الغير؛ لأن حق غرماء الصحة تعلق بمال المريض بدلاً من ذمته كما أشرت، ولهذا منع المريض مرض الموت من التبرع ومحاباة أحد الغرماء مطلقاً إذا أحاطت الديون بماله، فإن لم يكن عليه دين يمنع من التبرع بما يزيد عن ثلث التركة.
وإنما تقدم ديون المرض المعروفة السبب ببينة أو بمعاينة القاضي؛ لأنه لا تهمة في ثبوتها؛ لأن الشيء المعاين لا مرد له. ولا يجوز للمريض أن يحابي أحد الغرماء، فيقضي دين البعض دون البعض؛ لأن في إيثار البعض إبطال حق
_________
(1) تخريج الفروع على الأصول: ص 102.
(2) المغني: 197/ 5، الشرح الكبير: 398/ 3.

(8/6120)


الباقين، إلا إذا قضى الدين الذي استقرضه في مرضه، أو نقد ثمن ما اشتراه أثناء مرضه.
فإذا قضيت ديون الصحة والديون المعروفة الأسباب، وفضل شيء عنها، كان ذلك الفاضل مصروفاً فيما أقر به حال المرض؛ لأن الإقرار في ذاته صحيح، لكنه لم ينفذ في حق غرماء الصحة، فإذا لم يبق لهم حق ظهرت صحته.
وإن لم يكن على المريض ديون في صحته: جاز إقراره؛ لأنه لم يتضمن إبطال حق الغير، وكان المقر له أولى من الورثة؛ لأن قضاء الدين مقدم على حقوق الورثة. هذا هو مذهب الحنفية (1).
وقال جمهور الفقهاء: دين الصحة ودين المرض يتساويان، فلا يقدم دين الصحة على دين المرض؛ لأنهما حقان يجب قضاؤهما من رأس المال ولم يختص أحدهما برهن، فاستويا كما لو ثبتا ببينة، أي أنهما يستويان لاستواء سببهما وهو الإقرار الصادر عن كامل الأهلية، بل إن الباعث على صدق المقر حال المرض أقوى منه حال الصحة؛ لأن المرض سبب التورع عن المعاصي والتوبة عما جرى في الماضي (2).
ومنشأ الخلاف بين الحنفية وغيرهم في دين الصحة والمرض هو القاعدة السابقة التي ذكرها الزنجاني، فعند الشافعي ومن وافقهم يتساوى إقرار الصحة وإقرار المرض في استحقاق الغرماء من التركة؛ إذ الإقرار مشروع في حالتي الصحة والمرض، ولا تعتبر التهمة في الأحكام. وقال الحنفية: إن الإقرار حال
_________
(1) راجع البدائع: 225/ 7، اللباب شرح مختصر القدوري: 84/ 2 وما بعدها، تكملة فتح القدير: 20/ 7 وما بعدها، تبيين الحقائق: 23/ 5 وما بعدها، الدر المختار: 482/ 4.
(2) مغني المحتاج: 240/ 2، المغني: 197/ 5.

(8/6121)


الصحة أقوى من حيث إنه صادف حالة إطلاق الحرية في التصرف. وإقرار المرض صادف حال الحجر والمنع من التبرعات، فهو متهم فيه من حيث إن الشرع قدرة التبرع، فلا يؤمن عدوله من التبرع إلى الإقرار (1).

المطلب السابع ـ الإقرار بالنسب:
يمكن الإقرار ببنوة طفل تصحيحاً لوضع سابق كزواج مكتوم، لا من زنى.
وهذا الإقرار بالنسب ـ أي القرابة ـ نوعان:
الأول: أن يلحق المقر النسب بنفسه.
الثاني: أن يلحقه بغيره. وإلحاق النسب بالغير قد يثبت النسب، وقد يقتصر فقط على المشاركة بالإرث دون ثبوت النسب.

وقد اشترط الفقهاء شروطاً أربعة لصحة إقرار الإنسان بنسب على نفسه، أي باستلحاق النسب من نفسه. وهي (2):
1ً - أن يكون المقر به مجهول النسب: فإن كان معروف النسب من غيره، لم يصح استلحاقه بالإقرار؛ لأن النسب الثابت من شخص لا ينتقل إلى غيره ولا يحتمل ثبوته له، ولأن المقر يقطع نسب المقر به الثابت من غيره. وقد لعن النبي صلّى الله عليه وسلم من انتسب إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه (3).
_________
(1) تخريج الفروع على الأصول للزنجاني: ص 102 وما بعدها.
(2) راجع البدائع: 228/ 7، تكملة فتح القدير: 14/ 7، الدرالمختار: 485، تبيين الحقائق: 27/ 5، اللباب: 86/ 2، الشرح الكبير: 412/ 3 - 414، مغني المحتاج: 259/ 2، المغني: 184/ 5.
(3) رواه أبو داود عن أنس بن مالك رضي الله عنه بلفظ (من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه، فعليه لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة) ورواه الطبراني عن خارجة بن عمرو الجمحي، وفيه ضعيف، وأخرجه الشيخان أيضاً (الجامع الصغير: 162/ 2، وراجع مجمع الزوائد: 214/ 4، 285/ 6، مذكرة تفسير آيات الأحكام بالأزهر: 11/ 4).

(8/6122)


2ً - أن يكون المقر به محتمل الثبوت من نسب المقر، فلا يكذبه الحس ظاهراً أو لا ينازعه فيه منازع، بأن يكون في سن يمكن أن يكون منه بحيث يولد مثله لمثله، فلو كان المقر به في سن لا يتصور كونه منه، أو كان المقر مقطوع الذكر والانثيين من زمن يتقدم على زمن بدء الحمل بالمقر به، لم يصح الإقرار بثبوت نسبه؛ لأن الحس يكذبه. وكذلك إذا نازع المقر منازع آخر غيره لم يثبت نسبه؛ لأنه إذا نازعه فيه غيره تعارض الإقراران، فلم يكن إلحاقه بأحدهما أولى من الآخر.
3ً - أن يصدق المقر له في إقراره إن كان أهلاً للتصديق بأن يكون مكلفاً، أي بالغاً عاقلاً عند الجمهور، أو يستطيع أن يعبر عن نفسه، أي يكون مميزاً عند الحنفية؛ لأن الولد له حق في نسبه، وهو أعرف به من غيره. فإن كان الولد صغيراً لا يعبر عن نفسه ـ بحسب رأي الحنفية ـ لم يعتبر تصديقه، لأنه بمنزلة المتاع.
وقال المالكية: ليس تصديق المقر به شرطاً لثبوت النسب من المقر؛ لأن النسب حق للولد على الأب، فيثبت بإقراره بدون توقف على تصديق من الولد إذا لم يقم دليلاً على تكذيب المقر.
4ً - ألا يكون فيه حمل النسب على الغير، سواء كذبه المقر له أم صدَّقه؛ لأن إقرار الإنسان حجة قاصرة على نفسه، لا على غيره؛ لأنه على غيره شهادة أودعوى، وشهادة الفرد فيما يطلع عليه الرجال غير مقبولة، والدعوى المفردة ليست بحجة.
وهذه الشروط تشترط أيضاً في الإقرار بنسب على الغير ما عدا الشرط الأخير بالطبع، فإنه لا يشترط عند الحنفية.
وقال الشافعية والحنابلة: يثبت النسب بالإقرار على الغير بالشروط السابقة،

(8/6123)


وبشرط كون المقر جميع الورثة، وبشرط كون الملحق به النسب ميتاً، فلا يلحق بالحي ولو مجنوناً لاستحالة ثبوت نسب الشخص ـ مع وجوده حياً ـ بقول غيره.

وعلى هذا يقول الحنفية في الإقرار بالنسب وفي حمل النسب على الغير ما يأتي:
1 - الإقرار بالنسب: يجوز إقرار الرجل بالوالدين، والولد، والزوجة، سواء في حالة الصحة أو المرض، كهذا ابني أو أنا أبوه؛ لأنه إقرار على نفسه، وليس فيه حمل النسب على الغير، وذلك بالشروط المتقدمة، وبشرط أن تكون الزوجة خالية عن زوج وعن عدته، وأن يخلو المقر عن أخت الزوجة أوعمتها أو خالتها، وألا يكون في عصمته أربع سواها.
ويقبل إقرار المرأة بالوالدين والزوج لما تقدم، ولا يقبل إقرارها بالولد؛ لأن فيه حمل النسب على الغير، وهو نسب الولد على الزوج، قال الله تعالى: {ادعوهم لآبائهم} [الأحزاب:5/ 33] فلا يقبل إقرارها إلاإذا صدقها الزوج، أو تشهد امرأة قابلة أو غيرها على الولادة، بخلاف الرجل؛ فإنه يصح إقراره بالولد؛ لأن فيه حمل نسب الولد على نفسه.
ويلاحظ أن إقرار المرأة بالولد إنما لا يصح إذا كانت ذات زوج، أو معتدة منه، فإن لم تكن متزوجة ولا معتدة، فيصح إقرارها بالولد مطلقاً؛ لأن فيه إلزاماً على نفسها دون غيرها. وكذلك يقبل إقرارها بالولد إذا كانت متزوجة أو معتدة وادعت أن الولد من غير هذا الزوج.
وإذا صح الإقرار بالنسب لإنسان، شارك الورثة في الميراث؛ لأنه لما ثبت نسبه من المقر صار كالوارث المعروف، فيشارك ورثة المقر.

(8/6124)


ولا يجوز الإقرار بالنسب بغير هؤلاء المذكورين من الوالدين والولد والزوج والزوجة، مثل الأخ والعم والجد وابن الابن، وإ ن صدَّقه المقر له؛ لأنه فيه حمل النسب على الغير، إلا إذا ثبت النسب ببرهان، كما سيأتي.

2 - الإقرار بحمل النسب على الغير: الإقرار من الرجل بالنسب على الغير، كهذا أخي أو عمي:
قد يثبت به النسب بإثباته بالبينة عند أبي حنيفة ومحمد، بواسطة إقرار رجلين أو رجل وامرأتين؛ لأن في الإقرار حمل النسب على غيره، فاعتبر بمثابة الشهادة، فلزم فيه العدد المذكور.
وقال مالك: لا يثبت النسب إلا بإقرار اثنين؛ لأنه يحمل النسب على غيره، فاعتبر فيه العدد كالشهادة.
وقال الشافعي وأحمد وأبو يوسف: إن أقر جميع الورثة بنسب من يشاركهم في الإرث، ثبت نسبه، وإن كان الوارث واحداً ذكراً أو أنثى؛ لأن النسب حق يثبت بالإقرار، فلم يطلب فيه
العدد كالدين، ولأن الإقرار قول لا تشترط فيه عدالة، فلم يصح قياسه على الشهادة (1).

وقد يقتصر الإقرار بالنسب على الغير ممن لا يصح إقراره، كالأخ والعم والجد وابن الابن على إثبات حق المشاركة في الإرث (2)، إذا لم يكن للمقر وارث معروف.
_________
(1) المغني: 183/ 5، الشرح الكبير: 417/ 3، مغني المحتاج: 261/ 2 وما بعدها، البدائع: 229/ 7 وما بعدها.
(2) ويلزم المقر في حق نفسه أيضاً بالنفقة والحضانة، كما يلزم بالإرث إذا تصادق المقر له والمقر على الإقرار؛ لأن إقرارهما حجة عليهما.

(8/6125)


وعلى هذا: إن كان للمقر وارث معروف نسبه: قريب كأصحاب الفروض والعصبات، أو بعيد كذوي الأرحام، فالوارث المعروف أولى بالميراث من المقر له؛ لأنه لما لم يثبت نسبه منه، لم يزاحم الوارث المعروف النسب، فلو أقر شخص بأخ وله عمة أو خالة، فالإرث للعمة أو الخالة، ولا شيء للمقر له؛ لأنهما وارثان بيقين، فكان حقهما ثابتاً بيقين، فلا يجوز إبطاله بصرف الإرث إلى غيرهما.
وإن لم يكن للمقر وارث معروف: استحق المقر له ميراثه؛ لأن له ولاية التصرف في مال مال نفسه عند عدم الوارث، فيستحق جميع المال، وإن لم يثبت نسبه منه، لما فيه من حمل النسب على الغير، ولا تعتبر هذه وصية في الحقيقة، حتى إنه يترتب ما يأتي:
من أقر بأخ، ثم أوصى لآخر بجميع ماله: كان للموصى له ثلث جميع ماله خاصة. فالوصية تنفذ من الثلث؛ لأن المقر له بالأخوة وارث في ظنه وزعمه، ولو كان موصى له لاشترك الاثنان في قسمة التركة نصفين، لكن يعتبر الإقرار المذكور يمنزلة الوصية، بدليل أنه يجوز للمقر أن يرجع عن الإقرار؛ لأن نسبه لم يثبت، فلا يلزمه الإقرار؛ لأنه وصية من وجه، فلو أقر شخص في مرضه بأخ، وصدقه المقر له، ثم أنكر المقر وراثته، ثم أوصى بماله كله لإنسان ومات ولا وارث له، كان ماله جميعاً للموصى له. فإن لم يوص لأحد كان ماله لبيت المال؛ لأن رجوعه عن الإقرار صحيح؛ لأن النسب لم يثبت، فبطل إقراره.
وإذا مات إنسان وخلف ابناً واحداً، فأقر بأخ آخر: لم يثبت نسب أخيه؛ لأن فيه حمل النسب على الغير، والإقرار مقبول في حق نفسه غير مقبول في حق غيره، ويشارك المقر له بالأخوة المقر في الإرث من أبيه؛ لأن إقراره تضمن شيئين: حمل النسب على الغير، ولا ولاية له عليه، فلا يثبت النسب، والاشتراك في المال، وله فيه ولاية، فيثبت.

(8/6126)


ومن مات وترك ابنين، فأقر أحدهما بأخ ثالث: فإن صدقه أخوه المعروف في أخوته، اشترك المقر له مع الابنين في الميراث. وإن كذبه فيه، فإنه يقسم المال بين الأخوين المعروفي النسب نصفين، ثم يقسم النصف بين الأخ المقر له، والأخ المقر مناصفة أيضاً (1).

المبحث الرابع ـ القضاء بالقرائن:
أهمية القرائن: القضاء بالقرائن أصل من أصول الشرع، وذلك سواء في حال وجود البينة أو الإقرار، أم في حال فقد أي دليل من دلائل الإثبات. فقد تمنع القرينة سماع الدعوى كادعاء فقير معسر إقراض غني موسر، وقد ترد البينة أو الإقرار حال وجود التهمة، مثل قرابة الشاهد للمشهود له، أو كون الإقرار في مرض الموت، وقد تستخدم القرينة دليلاً مرجحاً أثناء تعارض البينات مثل وضع اليد ونحوه كما عرفنا، وقد تعتبر القرينة دليلاً وحيداً مستقلاً إذا لم يوجد دليل سواها، مثل رد دعوى الزوجة القاطنة مع زوجها بعدم الإنفاق عليها، في رأي المالكية والحنابلة. قال ابن القيم: ومن أهدر الأمارات والعلامات في الشرع بالكلية، فقد عطل كثيراً من الأحكام، ووضع كثيراً من الحقوق (2).
تعريف القرينة: القرينة لغة: هي العلامة الدالة على شيء مطلوب (3). واصطلاحاً: هي كل أمارة ظاهرة تقارن شيئاً خفياً فتدل عليه. يفهم من هذا التعريف أنه لا بد في القرينة من أمرين:
_________
(1) راجع البدائع: 230/ 7، تكملة فتح القدير: 19/ 7، تبيين الحقائق: 28/ 5، الدر المختار: 487/ 4، اللباب شرح الكتاب: 87/ 2، مغني المحتاج: 261/ 2، المغني: 186/ 5، الشرح الكبير للدردير: 415/ 3، 417.
(2) الطرق الحكمية: ص 100.
(3) التعريفات للجرجاني: ص 152.

(8/6127)


1 - أن يوجد أمر ظاهر معروف يصلح أساساً للاعتماد عليه.
2 - أن توجد صلة مؤشرة بين الأمر الظاهر والأمر الخفي.
وبمقدار قوة هذه الصلة تنقسم القرائن قسمين: قرائن قوية، وقرائن ضعيفة. وللفقهاء والقضاة دور ملحوظ في استنباط نتائج معينة من القرائن. ومن القرائن الفقهية: اعتبار ما يصلح للرجال من متاع البيت عند اختلاف الزوجين في ملكيته هو للرجل، كالعمامة والسيف، وما يصلح للنساء فقط كالحلي للمرأة بشهادة الظاهر، وملاحظة العرف والعادة (1).

ومن القرائن القضائية: الحكم بالشيء لمن كان في يده، باعتبار أن وضع اليد قرينة على الملك بحسب الظاهر.
وإذا كانت القرينة قطعية تبلغ درجة اليقين، مثل الحكم على الشخص بأنه قاتل إذا رئي مدهوشاً ملطخاً بالدم، ومعه سكين بجوار مضرج بدمائه في مكان، فإنها تعد وحدها بينة نهائية كافية للقضاء.
أما إذا كانت القرينة غير قطعية، ولكنها ظنية أغلبية، كالقرائن العرفية، أو المستنبطة من وقائع الدعوى وتصرفات الأطراف المتخاصمين، فإنها تعد دليلاً مرجحاً لجانب أحد الخصوم، متى اقتنع بها القاضي، ولم يوجد دليل سواها، أو لم يثبت خلافها بطريق أقوى.
ولا يحكم عند جمهور الفقهاء بهذه القرائن في الحدود؛ لأنها تدرأ بالشبهات ولا في القصاص إلا في القسامة، للاحتياط في موضوع الدماء وإزهاق النفوس. ويحكم بها في نطاق المعاملات المالية والأحوال الشخصية عند عدم وجود بينة في إثبات الحقوق الناشئة عنها.
_________
(1) الكتاب مع اللباب: 50/ 4.

(8/6128)


إلا أن المالكية (1): أثبتوا شرب الخمر بالرائحة، والزنا بالحمل، ووافقهم ابن القيم في إثبات الزنا بالحمل، وفصل الحنابلة (2) فقالوا: تحد الحامل بالزنا، وزوجها بعيد عنها إذا لم تدّع شبهة، ولا يثبت الزنا بحمل المرأة وهي خلية لا زوج لها.
قال ابن القيم (3): نظر جمهور الفقهاء كمالك وأحمد وأبي حنيفة إلى القرائن الظاهرة والظن الغالب الملتحق بالقطع في اختصاص كل واحد منها بما يصلح له، ورأوا أن الدعوى تترجح بما هو دون ذلك بكثير، كاليد والبراءة والنكول، واليمين المردودة، والشاهد واليمين، والرجل والمرأتين، فيثير ذلك ظناً تترجح به الدعوى. ومعلوم أن الظن الحاصل ههنا أقوى بمراتب كثيرة من الظن الحاصل بتلك الأشياء، وهذا مما لا يمكن جحده ودفعه.
وقد نصب الله سبحانه على الحق الموجود والمشروع علامات وأمارات تدل عليه وتبينه. ونصب على الإيمان والنفاق علامات وأدلة. واعتبر النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده العلامات في الأحكام، وجعلوها مبينة لها، كما اعتبر العلامات في اللقطة، وجعل صفة الواصف لها آية وعلامة على صدقه، وأنها له.
وجعل الصحابة الحبل علامة وآية على الزنا، فحدوا به المرأة، وإن لم تقر، ولم يشهد عليها أربعة، بل جعلوا الحبل أصدق من الشهادة، وجعلوا رائحة الخمر وقيئه لها آية وعلامة على شربها، بمنزلة الإقرار والشاهدين.
وجعل النبي صلّى الله عليه وسلم نحر كفار قريش يوم بدر عشر جزائر أوتسعاً، آية وعلامة
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 356.
(2) مطالب أولي النهى: 193/ 6.
(3) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: ص 97 وما بعدها، 214 وما بعدها.

(8/6129)


على كونهم ما بين الألف والتسع مئة، واعتبر العلامة في السيف وظهور أثر الدم به في الحكم بالسلَب لأحد المتداعيين. ونزَّل الأثر منزلة بينة. واعتبر إنبات الشعر حول القبُل في البلوغ، وجعله آية وعلامة له. فكان يقتل من الأسرى يوم قريظة من وجدت فيه تلك العلامة، ويستبقي من لم تكن فيه، وجعل الحيض علامة على براءة الرحم من الحمل. واعتبر العلامة في الدم الذي تراه المرأة ويشتبه عليها: هل هو حيض أو استحاضة؟ واعتبر العلامة فيه بوقته ولونه، وحكم بكونه حيضاً بناء على ذلك.
وفرق الحنابلة بين الركاز واللقطة بالعلامات: فقالوا: الركاز: ما دفنته الجاهلية، ويعرف برؤية علاماتهم عليه، كأسماء ملوكهم وصورهم وصلُبهم. وأما ما عليه علامات المسلمين كأسمائهم، أو كقرآن ونحوه فهو لقطة؛ لأنه ملك مسلم لم يعلم زواله عنه. وإن كان على بعضه علامة الإسلام، وعلى بعضه علامة الكفار هو لقطة؛ لأن الظاهر أنه صار لمسلم دفنه في الأرض. وما ليس عليه علامة فهو لقطة، تغليباً لحكم الإسلام.

(8/6130)