الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي الفَصْلُ الثَّاني: الدّعوى والبَيّنات (1)
خطة الموضوع:
الكلام هنا عن وسيلة الوصول إلى الحق وهي الدعوى، وعن طرق إثبات الحق: وهي
الشهادة واليمين والنكول والإقرار والقرائن، وعن تعارض الدعويين مع تعارض
البينتين، في المباحثات الآتية:
المبحث الأول ـ تعريف الدعوى وركنها وشرائطها والأصل في مشروعيتها.
المبحث الثاني ـ نوعا الدعوى أو ما يجب على المدعى عليه بعد الادعاء.
المبحث الثالث ـ حكم الدعوى أو ما يجب على المدعى عليه بعد الادعاء.
المبحث الرابع ـ حجج المتداعين أو طرق إثبات الحق.
المبحث الخامس ـ حكم تعارض الدعويين مع تعارض البينتين.
المبحث السادس ـ حكم تعارض الدعويين فقط في الملك، وحكم الملك وما يقتضيه
من حقوق.
_________
(1) البينات جمع بينة وهي اسم لما يبين الحق ويظهره، وهي تارة تكون
بالأيمان وتارة تكون بالشهود، سموا بذلك؛ لأن بهم يتبين الحق، وقد جمعت
البينات لأنها مختلفة وأفردت الدعوى؛ لأن حقيقتها واحدة.
(8/5980)
المبحث الأول ـ
تعريف الدعوى، وركنها، وشرائطها، والأصل في
مشروعيتها:
تعريف الدعوى: الدعوى لغة، قول يقصد به
الإنسان إيجاب حق على غيره أو هي الطلب والتمني، قال تعالى: {ولهم ما
يدَّعون} [يس:57/ 36] وتجمع على دعاوى ودعاوي. وشرعاً: إخبار بحق للإنسان
على غيره عند الحاكم (1).
وركنها: هو قول الرجل: لي على فلان، أو قبل فلان كذا، أو قضيت حق فلان، أو
أبرأني عن حقه، ونحوها (2).
وشرائطها عند الحنفية:
أولاً ـ أهلية العقل أو التمييز: يشترط أن يكون المدعي والمدعى عليه
عاقلين، فلا تصح دعوى المجنون والصبي غير المميز، كما لا تصح الدعوى
عليهما، فلا يلزمان بالإجابة على دعوى الغير عليهما، ولا تسمع البينة
عليهما.
ثانياً ـ أن تكون في مجلس القضاء: لأن الدعوى لا تصح في غير هذا المجلس.
ثالثاً ـ أن تكون دعوى المدعي على خصم حاضر لدى الحاكم عند سماع الدعوى
والبينة والقضاء، فلا تقبل الدعوى على غائب، كما لا يقضى على غائب عند
الحنفية، سواء أكان غائباً وقت الشهادة أم بعدها، وسواء أكان غائباً عن
مجلس القاضي أم عن البلد التي فيها القاضي. ولا يشترط هذا الشرط في المذاهب
الأخرى.
_________
(1) الدر المختار: 437/ 4، تكملة فتح القدير: 137/ 6، اللباب شرح الكتاب:
26/ 4، مغني المحتاج: 461/ 4، المغني: 271/ 9.
(2) البدائع: 222/ 6.
(8/5981)
وقد سبق لدينا أن المالكية والشافعية
والحنابلة في الأرجح: يجوزون القضاء على الغائب إذا أقام المدعي البينة على
صحة دعواه، وذلك في الحقوق المدنية لا في الحدود الخالصة لله تعالى.
رابعاً ـ أن يكون المدعى به شيئاً معلوماً: وعلمه إما بالإشارة إليه عند
القاضي إذا كان الشيء من المنقولات (1)، أو ببيان حدوده إذا كان قابلاً
للتحديد كالأراضي والدور وسائر العقارات، أو بكشف يجريه القاضي أو من ينوب
عنه إذا لم يكن المدعى به قابلاً للتحديد كحجر الرحى، أو ببيان جنسه ونوعه
وقدره وصفته إذا كان المدعى به ديناً، كالنقود والبُر والشعير؛ لأن الدين
لا يصير معلوماً إلا ببيان هذه الأمور. والسبب في اشتراط العلم بالمدعى به:
هو أن المدعى عليه لا يلزم بإجابة دعوى المدعي إلا بعد معرفة المدعى به،
وكذلك الشهود لا يمكنهم الشهادة على مجهول، ثم إن القاضي لا يتمكن من إصدار
الحكم أو القضاء بالدعوى إلا إذا كان المدعى به شيئاً معلوماً.
خامساً ـ أن يكون موضوع الدعوى أمراً يمكن إلزام المدعى عليه به، أي أن
يكون الطلب مشروعاً ملزماً في مفهومنا الحاضر:
فإذا لم يكن بالإمكان إلزام المدعى عليه بشيء، فلا تقبل الدعوى، كأن يدعي
إنسان أنه وكيل هذا الخصم عند القاضي في أمر من أموره، أو يدعي على شخص
بطلب صدقة أو بتنفيذ مقتضى عقد باطل، فإن القاضي لا يسمع دعواه هذه إذا
أنكر الخصم ذلك؛ لأن الوكالة عقد غير لازم، فيمكنه عزل مدعي الوكالة في
الحال.
_________
(1) حتى يشير إليه المدعي بالدعوى، والشهود بالشهادة، والمدعى عليه
بالاستحلاف؛ لأن الإعلام بأقصى ما يمكن شرط، ويتم بالإشارة في المنقولات؛
لأن النقل ممكن، والإشارة أبلغ في التعريف. واليوم يكتفى بالوصف في
المنقولات كالديون.
(8/5982)
سادساً ـ أن يكون المدعى به مما يحتمل
الثبوت: لأن دعوى ما يستحيل وجوده حقيقة أو عادة، تكون دعوى كاذبة، فلو قال
شخص لمن هو أكبر سناً منه: هذا ابني، لا تسمع دعواه؛ لاستحالة أن يكون
الأكبر سناً ابناً لمن هو أصغر سناً منه، وكذا إذا قال لمعروف النسب من
الغير: هذا ابني، لا تسمع دعواه (1).
ويشترط أيضاً عدم تناقض أقوال المدعي أو دعاويه، فلو ادعى شخص على آخر
ديناً، ثم ثبت أنه أقر بعدمه، لم تقبل دعواه، ولو ادعى على شخص أنه القاتل
وحده، ثم ادعى أنه شريك مع آخر، لم تسمع الدعوى الثانية، لمناقضتها الأولى،
إلا إذا صدقه المتهم الثاني بالقتل، فيؤخذ بإقراره.
الأصل في مشروعية الدعوى: الأصل في
الدعوى قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجل
أموال قوم ودماءهم، لكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» (2) ولفظ
مسلم: «ولكن اليمين على المدعى عليه».
وبما أن الخصومات والمنازعات أمر واقع بين البشر، فكان لا بد من الفصل فيها
بطريق الدعوى؛ لأن في امتدادها فساداً كبيراً، والله تعالى لا يحب الفساد
(3).
المبحث الثاني ـ نوعا الدعوى، وتعيين من هو
المدعي والمدعى عليه:
الدعوى نوعان: صحيحة وفاسدة.
_________
(1) المبسوط: 39/ 17، تكملة فتح القدير: 137/ 6، 141 وما بعدها، البدائع:
222/ 6، 224، الدر المختار: 438/ 4، اللباب: 27/ 4، الميزان: 194/ 2.
(2) حديث حسن رواه البيهقي وأحمد هكذا ورواه مسلم والبخاري بلفظ آخر
(الأربعين النووية: ص 74، نصب الراية: 95/ 4، نيل الأوطار: 305/ 8).
(3) المبسوط: 28/ 17، المغني: 272/ 9، مغني المحتاج: 461/ 4.
(8/5983)
ف الدعوى
الصحيحة: هي التي استكملت شرائط الصحة المذكورة في المبحث الأول
ويتعلق بها أحكامها المقصودة منها: وهي إحضار الخصم إلى ساحة المحكمة
بواسطة أعوان القاضي، ومطالبته بالجواب على دعوى المدعي، واليمين إذا أنكر
المدعى به. ويثبت فيها حق المدعي: إما بالبينة أو بنكول المدعى عليه عن
اليمين.
والدعوى الفاسدة أو الباطلة: هي التي لم
يتوافر فيها شرط من شروط الصحة المذكورة آنفاً، ولا تترتب عليها الأحكام
السابقة المقصودة منها، كأن تكون الدعوى على غائب، أو كان المدعى به
مجهولاً؛ لأن المجهول يتعذر إثباته بالشهادة، فلا يمكن للشهود أن يشهدوا
به، ولا يتمكن القاضي من القضاء بالمجهول، لا بالبينة ولا بالنكول عن
اليمين (1).
من هو المدعي والمدعى عليه؟ لما كانت
مسائل الدعوى متوقفة على معرفة المدعي والمدعى عليه، وهي من أهم ما تبتنى
عليه الدعاوى، لا سيما فيما يتعلق بما يلزم به أحدهما من البينة أو اليمين
ونحوهما، كان من الضروري تعيين المتصف بصفة المدعي والمدعى عليه، وفي
تعيينه تعريفات شتى، منها:
المدعي: من لا يجبر على الخصومة إذا تركها؛ لأنه مطالب. أو هو من خالف قوله
الظاهر.
والمدعى عليه: من يجبر على الخصومة؛ لأنه مطلوب (2). أو هو من وافق قوله
الظاهر، والظاهر هو البراءة.
_________
(1) تكملة فتح القدير: 137/ 6، المبسوط: 30/ 17.
(2) اللباب شرح كتاب القدوري: 26/ 4، تكملة فتح القدير: 138/ 6، الدر
المختار: 237/ 4، تكملة رد المحتار على الدر المختار: 310/ 1، البدائع:
224/ 6.
(8/5984)
وقيل: المدعي: من يلتمس بقوله أخذ شيء من
يد غيره، أو إثبات حق في ذمته.
والمدعى عليه: من ينكر ذلك.
وقيل: المدعى عليه: هو المنكر، والآخر هو المدعي (1).
المبحث الثالث: حكم الدعوى أو ما يجب على
المدعى عليه بعد الادعاء:
للقاضي الدور المهم في الدعوى، فإذا جاء المدعي إلى المحكمة مع خصمه سأله
القاضي عن موضوع الدعوى، فإذا كانت الدعوى صحيحة، بأن كانت على خصم حاضر
واستوفت شروطها، طلب القاضي من المدعى عليه جوابه عن الدعوى؛ لأن قطع دابر
الخصومة واجب.
حكم الدعوى إذن: وجوب الجواب على المدعى عليه بقوله: لا أو نعم، حتى إنه لو
سكت، كان سكوته إنكاراً، فتقبل بينة المدعي، ويحكم بها على المدعى عليه.
فإن أقر المدعى عليه بموضوع الدعوى، حكم القاضي عليه؛ لأنه غير متهم في
إقراره على نفسه، ويؤمر بأداء الحق لصاحبه.
وإن أنكر، طلب القاضي من المدعي إثبات حقه بالبينة، فإن أقام البينة قضى
بها، لترجح جانب الصدق على الكذب بالبينة. وإن عجز المدعي عن تقديم البينة،
وطلب يمين خصمه المدعى عليه، استحلفه القاضي، ودليله قول النبي صلّى الله
عليه وسلم للمدعي في قصة الحضرمي والكندي: «ألك بينة؟» قال: لا، فقال
النبي: «فلك يمينه» (2) أي يمين المدعى عليه.
_________
(1) البدائع، المرجع السابق، المغني لابن قدامة الحنبلي: 271/ 9.
(2) أخرجه البخاري ومسلم عن وائل بن حجر (نصب الراية: 94/ 4).
(8/5985)
فإن قال المدعي: (لي بينة حاضرة في البلد)
وطلب اليمين من المدعى عليه لم يستحلف
عند أبي حنيفة؛ لأن حق المدعي في طلب اليمين مرتب على عجزه عن إقامة
البينة، كما في الحديث المذكور قريباً.
وقال أبو يوسف: يستحلف؛ لأن طلب اليمين حق المدعي، لقول النبي صلّى الله
عليه وسلم: «البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر» (1).
وهل يقضى بشاهد واحد ويمين المدعي، وهل ترد اليمين على المدعي أو يقضى على
المدعى عليه بنكوله عن اليمين؟ هذا ما يجاب عنه في المبحث التالي:
المبحث الرابع ـ حجج المتداعين أو طرق إثبات
الحق:
طرق الإثبات التي يعتمد عليها في القضاء: هي الشهادة، واليمين، والنكول،
والإقرار، أو الشهادة مع اليمين.
أما الشهادة: فهي حجة المدعي: لقوله صلّى الله عليه وسلم: «البينة على
المدعي» ولأن المدعي يدعي أمراً خفياً، فيحتاج إلى إظهاره، وللبينة قوة
الإظهار ..
وسأخصص مبحثاً للكلام عن الشهادات. والسبب في تكليف المدعي البينة أو
الشهادة أن جانبه ضعيف، لكون دعواه خلاف الأصل، فكلف الحجة القوية وهي
البينة، وأن جانب المدعى عليه قوي، لأنه متمسك بالأصل وهو البراءة، فاكتفي
منه بالحجة الضعيفة وهي اليمين.
والبينة إما شهادة رجلين أو رجل وامرأتين أو شاهد ويمين، أو أربعة رجال، أو
أربع نسوة.
_________
(1) تكملة فتح القدير: 151/ 6 ومابعدها، الدر المختار: 438/ 4، اللباب: 29/
4.
(8/5986)
وأما اليمين: فهي حجة المدعى عليه، لقوله
عليه الصلاة والسلام: «واليمين على المدعى عليه» فإن حلف المدعى عليه، قضى
القاضي بفصل الدعوى، وتنتهي الخصومة بين طرفي الدعوى إلى أن يتمكن المدعي
من إقامة البينة.
وإن نكل عن اليمين، فهل ترد اليمين إلى المدعي أو يقضى عليه بالنكول؟ فيه
رأيان للفقهاء، أذكرهما فيما يلي:
رد اليمين والقضاء بالنكول: إذا أبى
المدعى عليه أن يحلف، هل يحلف المدعي، أو يقضى له بنكول صاحبه عن اليمين
(1)؟ اختلف العلماء في الموضوع.
قال المالكية: ترد اليمين على المدعي بعد النكول في الأموال ما يؤول إليها
فقط كخيار وأجل. وذلك إذا ثبتت الدعوى، أما مجرد دعوى الاتهام فلا ترد على
المدعي.
وقال الشافعية: ترد اليمين على المدعي في جميع الحقوق ما عدا جنايات الدماء
والحدود، ويقضى له بمدعاه، ولا يقضى بنكول المدعى عليه. وتعتبر اليمين
المردودة إقراراً تقديرياً. وهذا هو الذي صوبه الإمام أحمد، فيكون رأي مالك
والشافعي وأحمد هو القول برد اليمين، لكن المختار عند الحنابلة القول بعدم
رد اليمين.
استدل الجمهور بما روى ابن عمر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم رد اليمين
على طالب الحق» (2) ولأن المدعى عليه إذا نكل عن اليمين بعد أن طلبت منه،
ظهر صدق
_________
(1) النكول: استنكاف الخصم عن حلف اليمين الموجهة عليه من القاضي (المدخل
الفقهي للأستاذ الزرقاء: ص 1051، الطبعة السادسة) وقال في البحر الزخار: 4/
410: النكول لغة: التأخر عن لقاء العدو، وشرعاً عن اليمين الواجبة.
(2) رواه الدارقطني والبيهقي بإسناد ضعيف، والحاكم وصحح إسناده (سبل
السلام: 4/ 136، تلخيص الحبير: 4/ 209).
(8/5987)
المدعي، وقوي جانبه، فتشرع اليمين في حقه،
كالمدعى عليه قبل نكوله، وكالمدعي إذا شهد له شاهد واحد، كما سأبين، وقال
تعالى: {أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم} [المائدة:108/ 5] أي بعد
الامتناع من الأيمان الواجبة، فدل على نقل الأيمان من جهة إلى جهة.
ولا يقضى عند الجمهور بالنكول: لأن النكول كما يحتمل أن يكون امتناعاً
وتحرزاً عن اليمين الكاذبة، يحتمل أن يكون تورعاً عن اليمين الصادقة، فلا
يقضى للمدعي مع تردد المدعى عليه، إذ لا يتعين بنكوله صدق المدعي، فلا يجوز
الحكم له من غير دليل، فإذا حلف المدعي كانت يمينه دليلاً عند عدم ما هو
أقوى منها (1).
وقال الحنفية، والحنابلة في المشهور عندهم: لا ترد اليمين على المدعي،
وإنما يقضي القاضي على المدعى عليه بالنكول عن اليمين، وبإلزامه بما ادعى
عليه المدعي. والنكول إما أن يكون حقيقة كقوله: (لا أحلف) أو حكماً كأن
سكت، دون أن يكون هناك عارض كخرس وطرش.
وتعرض اليمين على المدعى عليه مرة واحدة. ولكن لزيادة الاحتياط والمبالغة
في إبداء العذر: ينبغي للقاضي تكرار عرض اليمين ثلاث مرات بأن يقول له: إني
أعرض عليك اليمين ثلاثاً، فإن حلفت فبها، وإلا قضيت عليك بما ادعاه خصمك.
استدلوا بقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «البينة على المدعي واليمين على
من أنكر» فقد جعل جنس الأيمان على المنكرين، كما جعل جنس البينة على
المدعي. وفي لفظ
_________
(1) راجع مغني المحتاج: 150/ 4، 444، 447 وما بعدها، المهذب: 301/ 2، 318،
بداية المجتهد: 454/ 2، الشرح الكبير للدردير: 146/ 4 وما بعدها، المغني:
235/ 9، الميزان: 196/ 2، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: ص 116، الشرح
الصغير: 64/ 5.
(8/5988)
آخر للحديث في الصحيحين: «ولكن اليمين على
المدعى عليه» فحصر اليمين في جانب المدعى عليه.
واستدل الحنفية أيضاً بأن النكول دليل على كون المدعى عليه باذلاً للحق إذا
اعتبرنا النكول بذلاً، وهو رأي أبي حنيفة، أو كونه مقراً إقراراً تقديرياً
بالحق المدعى به إذا اعتبرنا النكول إقراراً، وهو رأي الصاحبين (1)، ولولا
كون المدعى عليه باذلاً أو مقراً، لأقدم على اليمين دفعاً لضرر الدعوى عن
نفسه وقياماً بالواجب؛ لأن اليمين واجبة عليه بقوله صلّى الله عليه وسلم:
«واليمين على من أنكر» وكلمة (على) للوجوب (2).
وينبغي للقاضي أن يقول للمدعى عليه: «إني أعرض اليمين عليك ثلاث مرات، فإن
حلفت، وإلا قضيت عليك بما ادعاه المدعي» فإن كرر العرض عليه ثلاث مرات قضى
عليه بالنكول.
_________
(1) النكول: معناه عند أبي حنيفة البذل أي ترك المنازعة والإعراض عنها
وإباحة المال والتبرع به في سبيل قطع الخصومة بدفع ما يدعيه الخصم، أي أن
النكول له أثر سلبي عند أبي حنيفة، فلا يفيد الهبة والتمليك، ومعناه عند
الصاحبين: الإقرار بالحق، أي أن أثره إيجابي (راجع تكملة فتح القدير: 165/
6 مع شرح العناية بهامشه، الطرق الحكمية لابن قيم الجوزية: ص 124 وما
بعدها) احتج أبو حنيفة الذي جعل النكول كالبذل: بأنا لو اعتبرنا إقراره
يكون كاذباً في إنكاره، والكذب حرام، فيفسق بالنكول بعد الإنكار، وهذا
باطل، فجعلناه بذلاً وإباحة، صيانة له عما يقدح في عدالته، ويجعله كاذباً.
واحتج الصاحبان اللذان جعلا النكول كالإقرار بأن الناكل كالممتنع من اليمين
الكاذبة ظاهراً، فيصير معترفاً بالمدعى به؛ لأنه لما نكل ـ مع إمكان تخلصه
باليمين ـ دل نكوله على أنه لو حلف لكان كاذباً، وهو دليل اعترافه. ومن
ثمرة الخلاف أن الصبي المأذون بالتجارة هل يحلف أو لا؟ فعند أبي حنيفة: لا
يحلف لأنه لو نكل كان باذلاً، وهو ليس من أهل البذل، وعند الصاحبين: يحلف؛
لأن النكول إقرار وهو من أهل الإقرار (الفرائد البهية في القواعد الفقهية
للشيخ محمود حمزة: ص 105).
(2) تكملة فتح القدير، المرجع نفسه: ص 155، 158، المبسوط: 35/ 17، البدائع:
/6 225 وما بعدها، 230، الدر المختار: 442/ 4، اللباب شرح الكتاب: 30/ 4،
المغني: 235/ 9 وما بعدها، الطرق الحكمية، المرجع السابق.
(8/5989)
مجال القضاء بالنكول:
قال الحنفية وأصحاب أحمد: يقضى بالنكول في الأموال، أما غير المال أو مالا
يقصد به المال كنكاح وطلاق ولعان وقصاص ووصاية ووكالة، فلا يقضى فيه
بالنكول، فلا يقضى بالنكول في القصاص بالنفس أو بالطرف عند الحنابلة
والصاحبين، وإنما يقضى عندهما بالدية أو بالأرش.
وقال أبو حنيفة: يقضى بالقصاص في الطرف حالة العمد، وبالدية حالة الخطأ،
أما في القصاص بالنفس فلا يقضى فيه عنده لا بالقصاص ولا بالمال أي بالدية،
لكن يحبس الجاني حتى يقر أو يحلف.
وإذا كان لا يقضى بالنكول في القصاص عند الحنابلة، سواء أكان في النفس أم
في الطرف، فماذا يصنع بالجاني؟ وجهان ـ أحدهما: يخلى سبيله؛ لأنه لم يثبت
عليه حجة، والثاني: يحبس حتى يقر أو يحلف.
وكذلك لا يقضى بالنكول في الحدود الخالصة لله تعالى كحد الزنا والسرقة
والشرب؛ لأن النكول يعتبر بذلاً عند أبي حنيفة، وإقراراً فيه شبهة عند
الصاحبين؛ لأنه في نفسه سكوت، والحدود لا تحتمل البذل، أي لا يقبل من
المتهم إباحة نفسه لإقامة الحد عليه، وتندرئ بالشبهات، فلا تثبت بدليل فيه
شبهة، والنكول فيه شبهة، كما أوضحت، فلا تجب به.
وقال أبو حنيفة: لا يقضى أيضاً بالنكول في الأشياء السبعة: وهي النكاح،
والرجعة، والفيء في الإيلاء، والنسب، والرق، والاستيلاد، والولاء،
ولايستحلف المنكر فيها؛ لأن النكول عنده يعتبر بذلاً وإباحة، والبذل لا
يجري في هذه الأشياء. فإذا أنكر الرجل أو المرأة عقد النكاح، فقالت المرأة
مثلاً: لا نكاح بيني وبينك، ولكن بذلت لك نفسي، لم يصح بذلها؛ لأن الزوجية
لا تباح بالبذل.
(8/5990)
وكذلك في الرجعة: بأن ادعى الرجل بعد
الطلاق وانقضاء المدة أنه كان قد راجعها في العدة، وأنكرت المرأة، أو
بالعكس، فلا يحلف المنكر، ولا يصح بذله نفسه للآخر.
وفي دعوى الفيء بالإيلاء، أي الرجوع إلى معاشرة الزوجة بعد أن حلف ألا
يطأها مدة أربعة أشهر (1): إذا ادعى الرجل بعد انقضاء مدة الإيلاء أنه كان
قد فاء إليها في المدة، وأنكرت المرأة أو بالعكس، فلا يستحلف المنكر، ولا
يصح بذله نفسه للآخر.
وفي دعوى النسب: بأن يدعي شخص على مجهول النسب أنه ولده أو والده وأنكر
المجهول أو بالعكس، فلا يحلف المنكر ولا يصح قوله: أبحت له أن يدعي نسبي،
لم يصح بذله.
وفي دعوى الرق: بأن ادعى مجهول النسب أنه عبده، وأنكر المجهول أو بالعكس،
فلا يحلف المنكر، ولا يقبل قوله: بذلت له نفسي ليسترقني.
وفي دعوى استيلاد الأمة، بأن ادعت أمة على مولاها أنها ولدت منه ولداً،
وأنكر المولى، لا يحلف ولا يقبل قوله: بذلت نفسي لجعل الأمة مستولدة مني.
وفي هذه الصورة لايتأتى العكس، أي أن يكون من قبل الأمة؛ لأن المولى إذا
ادعى الاستيلاد، ثبت ذلك بإقراره، ولا يلتفت إلى إنكار الأمة.
وفي دعوى الولاء، بأن ادعى إنسان على مجهول أنه عتيقه ومولاه وأنكر
_________
(1) هذا مأخوذ من قوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن
فاؤوا فإن الله غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم}
[البقرة:2/ 226 - 227].
(8/5991)
المجهول، أو بالعكس، فلا يحلف المنكر، ولا
يصح قوله: بذلت نفسي ليجعلني مولاه (1).
كل هذا بخلاف الأموال، فإنه يجري فيها البذل، فلو قال شخص: هذا المال ليس
لفلان، ولكن أبحته وبذلته له، لأتخلص من خصومته، صح بذله.
هذا رأي أبي حنيفة. وقال الصاحبان: يجري الاستحلاف والنكول في هذه الأشياء
السبعة؛ لأن النكول عندهما إقرار، والإقرار يجري في هذه الأشياء، لكنه فقط
إقرار فيه شبهة، فلا يقبل في الحدود، كما أشرت. فنكول المدعى عليه دليل على
كونه كاذباً في إنكاره؛ لأنه لو كان صادقاً لما امتنع من اليمين الصادقة،
فكان النكول إقراراً دلالة أو تقديراً، إلا أنه إقرار فيه شبهة، وهذه
الأشياء تثبت بدليل فيه شبهة، إذ يجوز إثباتها بالشهادة على الشهادة،
وشهادة رجل وامرأتين.
والفتوى على قول الصاحبين أي بتحليف المنكر، والقضاء عليه بالنكول في هذه
الأشياء، لا في الحدود والقصاص، واللعان؛ لأنه في معنى الحد؛ إذ أنه (أي
اللعان) بالنسبة للزوج يعد قائماً مقام حد القذف، وبالنسبة للمرأة يعد
قائماً مقام حد الزنا، فلا يجري النكول فيه (2).
والخلاصة عند الحنفية: أنه لا تحليف في الحدود اتفاقاً، ويستحلف في القصاص
والأموال كلها اتفاقاً، واختلفوا في التحليف في سبع مسائل، فعند الإمام: لا
يستحلف. وعند الصاحبين: يستحلف. وكل ما يجري فيه التعزير من الحقوق كالضرب
والشتم والألفاظ
_________
(1) جاريت الفقهاء في بيان بعض الأحكام المتعلقة بالرق إتماماً للبحث من
الناحية التاريخية؛ لأنهم يصفون هذه الأشياء بصفة واحدة، ويقولون عنها:
«لايجري البذل في الأشياء السبعة» فكان من الضروري ذكرها لمعرفة ما هذه
الأشياء السبعة، ولبيان طبيعة هذه الحالات.
(2) تكملة فتح القدير: 162/ 6 - 166، البدائع: 230/ 6، الدر المختار وحاشية
ابن عابدين عليه: 443/ 4، اللباب شرح الكتاب للميداني: 31/ 4.
(8/5992)
القبيحة يجري فيه التحليف ولا يسقط
بالتقادم، وتقبل فيه شهادة النساء كما في سائر الحقوق (1).
كيفية اليمين وأثرها في الدعوى: لليمين
كيفية معينة، سواء أكانت يميناً مردودة، أم مع الشاهد، أم يميناً من المدعى
عليه.
اتفق العلماء على أن اليمين تكون بالله عز وجل دون غيره، لقوله صلّى الله
عليه وسلم: «من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت» (2) ولقوله عليه السلام:
«من حلف بغير الله فقد كفر» (3)، واتفقوا أيضاً على أن اليمين المشروعة في
الحقوق التي يبرأ بها المدين هي اليمين بالله.
إلا أن الإمام مالك قال: أحب أن يحلف بالله الذي لا إله إلا هو، وإن استحلف
حاكم بالله، أجزأ.
وقال الشافعية: يندب تغليظ اليمين، وإن لم يطلب الخصم تغليظها فيما ليس
بمال، ولا يقصد به مال كنكاح وطلاق ولعان وقصاص ووصاية ووكالة، وفي مال
يبلغ نصاب زكاة، لا فيما دونه.
والتغليظ يكون مثلاً بزيادة أسماء وصفات الله عز وجل، كأن يقول: والله الذي
لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم السر
والعلانية. أو بالله الطالب الغالب المدرك المهلك الذي يعلم السر وأخفى.
_________
(1) الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة: ص 106 - 108.
(2) أخرجه الجماعة إلا النسائي عن ابن عمر، وفي لفظ «أو ليسكت» وفي لفظ «من
كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله» (نصب الراية: 295/ 3، نيل الأوطار: 227/
8).
(3) رواه أبو داود والترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن ابن عمر مرفوعاً. ويروى
«فقد أشرك» وهو عند أحمد، وكذا عند الحاكم، ورواه الترمذي وابن حبان بلفظ
«فقد كفر وأشرك» (نيل الأوطار، المرجع السابق).
(8/5993)
وقال الحنابلة: اليمين التي يبرأ بها
المدين هي اليمين بالله، وإن كان الحالف كافراً، لقوله تعالى: {فيقسمان
بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما} [المائدة:107/ 5] وقوله سبحانه: {وأقسموا
بالله جهد أيمانهم} [النور:53/ 24] قال بعض المفسرين:
«من أقسم بالله، فقد أقسم جهد اليمين» (1).
وقال الحنفية: للقاضي أن يحلِّف المسلم من غير تغليظ مثل: (بالله) أو
(والله)، وله أن يغلظ، أي يؤكد اليمين بذكر أوصاف الله تعالى مثل قوله: قل:
(والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من
السر ما يعلم من العلانية: ما لفلان هذا علي ولا قبلي هذا المال الذي ادعاه
وهو كذا وكذا، ولا شيء منه) وله أن يزيد على هذه الصيغة وله أن ينقص منها،
إلا أنه يجتنب العطف كيلا يتكرر اليمين؛ لأن المطلوب منه يمين واحدة. ولا
يستحلف بالطلاق في ظاهر الرواية، لقوله عليه الصلاة والسلام: «من كان
حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت» وفي لفظ: «أو ليذر».
ولا يجب تغليظ اليمين عند الحنفية والحنابلة على المسلم بزمان كيوم الجمعة
بعد العصر، ولا بمكان مثل بين الركن والمقام بمكة، وعند منبر النبي صلّى
الله عليه وسلم في المدينة؛ لأن المقصود تعظيم المقسم به، أي الله تعالى،
وهو حاصل بدون ذلك، وفي إيجابه حرج على القاضي، حيث يكلف حضورها، والحرج
مرفوع (2).
وقال مالك والشافعي كما تقدم: تغلظ اليمين في الزمان في اللعان؛ لأن الله
تعالى قال في اللعان محدداً أن يكون بعد صلاة العصر: {تحبسونهما من بعد
الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمناً} [المائدة:106/ 5] وتغلظ
في
_________
(1) راجع بداية المجتهد: 455/ 2، المغني: 226/ 9، مغني المحتاج: 472/ 4.
(2) تكملة فتح القدير: 174/ 6، البدائع: 227/ 6، اللباب شرح الكتاب: 40/ 4
ومابعدها، المغني: 288/ 9 وما بعدها.
(8/5994)
المكان عند الحلف على قدر معين من الحقوق،
وهذا القدر عند مالك ثلاثة دراهم فصاعداً، فمن ادعي عليه بثلاثة دراهم
فأكثر، وجبت عليه اليمين في المسجد الجامع، فإن كان مسجد النبي عليه الصلاة
والسلام، فلا خلاف أنه يحلف على المنبر، وإن كان في غيره من المساجد، ففيه
روايتان: إحداهما وهي الراجحة حيثما كان في المسجد، والثانية عند المنبر.
وقال الشافعي: يحلف في المدينة عند المنبر، وفي مكة بين الركن والمقام، وفي
القدس في المسجد عند الصخرة، وكذلك يحلف في كل بلد عند المنبر، والنصاب
الذي يندب فيه التغليظ كما عرفنا هو نصاب الزكاة، أي عشرون ديناراً (1).
ثم قال الحنفية وغيرهم: إن كان الحالف كافراً فتغلظ اليمين في حقه، فإن كان
يهودياً، حلف بالله الذي أنزل التوراة على موسى. وإن كان نصرانياً حلف
بالله الذي خلق النار، فيغلظ على كل واحد بحسب اعتقاده. والوثني لا يحلف
إلا بالله. ولا يحلف الكفار عند الحنفية في بيوت عباداتهم، لكراهة دخولها،
ولما فيه من إيهام تعظيمها. وأجاز الحنابلة تحليفهم في المواضع التي
يعظمونها (2).
الحلف على البت أو نفي العلم: ويحلف
الشخص باتفاق أئمة المذاهب الأربعة على البت (وهو القطع والجزم) في فعله
إثباتاً كان أو نفياً؛ لأنه يعلم حال نفسه ويطلع عليها، فيقول في البيع
والشراء حالة الإثبات: (والله لقد بعت بكذا أو اشتريت بكذا) وفي حالة
النفي: (والله ما بعت بكذا، ولا اشتريت بكذا).
_________
(1) بداية المجتهد: 455/ 2، الشرح الكبير: 228/ 4، الشرح الصغير: 314/ 4،
المغني: 228/ 9، مغني المحتاج: 377/ 3، 472/ 4.
(2) تكملة فتح القدير: 176/ 6، البدائع: 227/ 6، اللباب: 40/ 4 وما بعدها.
(8/5995)
وكذلك يحلف الشخص أيضاً على البت على فعل
غيره إن كان الأمر إثباتاً كبيع وإتلاف وغصب؛ لأنه يسهل معرفة الواقع
والشهادة به، وإن كان نفياً فيحلف على نفي العلم، أي لا يعلم أنه كذلك،
لعدم علمه بما فعل غيره، فيقول: (والله ما علمت أنه فعل كذا) لأن نفي الشيء
يعسر معرفته (1). وعليه، إذا ادعى إنسان على آخر أنه سرق منه شيئاً أو غصب
منه شيئاً، فيحلف المدعى عليه على البت أنه ما سرق أو غصب. وإن ادعى على
فعل الغير، كأن ادعى ديناً على ميت بحضور وارثه، أو أن أباه سرق منه شيئاً،
فيحلف الوارث بالله ما يعلم أن على أبيه ديناً أو أنه سرق هذا الشيء.
صفة المحلوف عليه: إذا كان المدعى به
أرضاً وأنكر المدعى عليه، يحلف على الحاصل فعلاً في النهاية، فيقول: (والله
ما هذه الأرض لفلان، ولا شيء منها) وإن ادعى أنه أقرضه ألفاً أو غصبه ألفاً
أو أودعه ألفاً، وأنكر المدعى عليه، فيحلف (بالله ما يستحق المدعي رد شيء
عليه) ولا يحلف بالله ما استقرضت أو غصبت أو استودعت؛ لأنه قد تحصل هذه
الأسباب ثم يفسخ، أي يزول معنى القرض أو الغصب أو الإيداع بالهبة أو
بالبيع، فلو حلف المدعى عليه على السبب الذي هو الغصب ونحوه لتضرر به،
فيحلف على الحاصل في النهاية لدفع الضرر عنه. وقال أبو يوسف: إنه يحلف على
القرض والغصب والإيداع.
ومن ادعى أنه اشترى من هذا حيواناً، فأنكر المدعى عليه، استحلف بالله ما
بينكما بيع قائم في هذا الحيوان. ولا يستحلف بالله ما بعت، خلافاً لأبي
يوسف؛ لأنه قد يبيع الحيوان، ثم يفسخ البيع أو تطرأ عليه الإقالة، فلا يبقى
البيع على حاله.
_________
(1) الدر المختار: 444/ 4، مغني المحتاج: 473/ 4 وما بعدها، تكملة فتح
القدير: 180/ 6، المغني: 230/ 9 وما بعدها. قال الكاساني في البدائع: 279/
5: ومن حلف على غير فعله، يحلف على العلم؛ لأنه لا علم له بما ليس بفعله،
ومن حلف على فعل نفسه يحلف على البتات.
(8/5996)
وفي النكاح، يحلف المنكر: (بالله ما بينكما
نكاح قائم في الحال) لأنه قد يطرأ عليه الخلع.
وكذلك في دعوى الطلاق، يحلَّف المدعى عليه: (بالله ما هي بائن منك في هذه
الساعة بالوجه الذي ذكرته المدعية) ولا يستحلف بالله ما طلقها، خلافاً لأبي
يوسف، لاحتمال تجدد النكاح بعد البينونة، فيحلف على ما هو حاصل فعلاً في
النهاية، لأنه لو حلف على السبب الذي هو الطلاق، لتضرر المدعى عليه، وهذا
قول أبي حنيفة ومحمد.
أما على قول أبي يوسف: فيحلف المدعى عليه في جميع هذه الصور على سبب الدعوى
من طلاق ونحوه إلا إذا حدث منه تعريض للقاضي بأمر طارئ كما تقدم، فيقول
المدعى عليه للقاضي إذا طلب منه اليمين: (بالله ما بعت أيها القاضي، إن
الإنسان قد يبيع شيئاً، ثم يقيل فيه) أي يفسخ البيع بالإقالة (1).
العبرة في اليمين بنية القاضي المستحلف:
يلاحظ أن العبرة في الحلف بنية القاضي المستحلف للخصم، لقوله صلّى الله
عليه وسلم: «اليمين على نية المستحلف» (2) وقد حمل هذا الحديث على الحاكم؛
لأنه الذي له ولاية الاستحلاف، فلو أخذ بنية الحالف، لبطلت فائدة الأيمان
وضاعت الحقوق؛ إذ كل أحد يحلف على ما يقصد، فلو ورَّى الحالف في يمينه، بأن
قصد خلاف ظاهر اللفظ عند تحليف القاضي، أو تأول أي اعتقد خلاف نية القاضي،
أو استثنى الحالف، كقوله عقب يمينه: «إن شاء الله»
_________
(1) راجع تكملة فتح القدير: 177/ 6 وما بعدها، اللباب شرح الكتاب: 41/ 4
وما بعدها، البدائع: 228/ 6.
(2) رواه مسلم عن أبي هريرة، وفي لفظ له: «يمينك على ما يصدقك به صاحبك»
(سبل السلام: 102/ 4، الإلمام لابن دقيق العيد: ص 427).
(8/5997)
أو وصل باللفظ شرطاً، مثل: إن دخلت الدار
(1)، بحيث لا يسمع القاضي كلامه، لم يدفع ما ذكر إثم اليمين الفاجرة، وإلا
ضاع المقصود من اليمين وهو حصول الهيبة من الإقدام عليها.
أثر اليمين في الدعوى: أما أثر اليمين
في الدعوى فهو يترتب عليها قطع الخصومة والمنازعة وعدم المطالبة بالحق في
الحال لا مطلقاً، وإنما مؤقتاً إلى وقت إمكان إقامة البينة، فلا تفيد
اليمين براءة ذمة المدعى عليه عند جمهور العلماء (2)، لما روى ابن عباس «أن
النبي صلّى الله عليه وسلم أمر رجلاً بعد ما حلف، بالخروج من حق صاحبه،
كأنه صلّى الله عليه وسلم علم كذبه» (3) فدل على أن اليمين لا توجب براءة.
القضاء بشاهد ويمين:
إذا أقام المدعي شاهداً، وعجز عن تقديم شاهد آخر وحلف مع شاهده، هل يقضى به
بشاهده ويمينه؟
1 - قال الحنفية (4): لا يقضى بالشاهد الواحد مع اليمين في شيء، لقوله
تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين، فرجل وامرأتان
ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282/ 2] وقوله سبحانه: {وأشهدوا ذوي عدل
منكم} [الطلاق:2/ 65] طلب القرآن الكريم إشهاد رجلين أو رجل وامرأتين،
فقبول الشاهد الواحد ويمين المدعي زيادة على النص، والزيادة على النص نسخ،
والنسخ في القرآن الكريم لا يجوز إلا بمتواتر أو مشهور، وليس هناك واحد
منهما.
_________
(1) مغني المحتاج: 475/ 4.
(2) البدائع: 229/ 6، مغني المحتاج: 477/ 4، بداية المجتهد: 454/ 2.
(3) رواه أبو داود والنسائي والحاكم وأحمد عن ابن عباس.
(4) المبسوط: 30/ 17، البدائع: 225/ 6، مقارنة المذاهب في الفقه للأستاذين
شلتوت والسايس: ص 128.
(8/5998)
واستدلوا بالسنة أيضاً بقوله صلّى الله
عليه وسلم فيما رواه مسلم وأحمد: «ولكن اليمين على المدعى عليه» وفي لفظ
«البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» وقال صلّى الله عليه وسلم لمدعٍ:
«شاهداك أو يمينه» (1).
فالحديث الأول أوجب اليمين على المدعى عليه، فلو جاز القضاء بشاهد ويمين
المدعي، لما بقيت اليمين واجبة على المدعى عليه. ثم إنه في هذا الحديث وفي
الحديث الثاني جعل الرسول عليه الصلاة والسلام جنس اليمين حجة للمنكر، فإن
قبلت يمين المدعي، لم يكن جميع أفراد اليمين على المنكرين.
وكذلك تضمن الحديث الثاني قسمة وتوزيعاً بين المتخاصمين، والقسمة تنافي
اشتراك الخصمين في أمر وقعت القسمة فيه.
والحديث الثالث خير المدعي بين أمرين لا ثالث لهما: إما البينة أو يمين
المدعى عليه، والتخيير بين أمرين يمنع تجاوزهما إلى غيرهما أو الجمع
بينهما.
2 - وقال جمهور الفقهاء (2): يقضى باليمين مع الشاهد في الأموال، واستدلوا
بما ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «أنه قضى بشاهد ويمين» (3).
_________
(1) رواه البخاري ومسلم وأحمد عن الأشعث بن قيس (نيل الأوطار: 302/ 8).
(2) راجع بداية المجتهد: 456/ 2، الشرح الكبير للدردير: 47/ 4، المهذب:
301/ 2، 334، مغني المحتاج: 443/ 4، 482، المغني: 151/ 9، 225، الميزان:
200/ 2، مقارنة المذاهب في الفقه للأستاذين شلتوت والسايس: ص 129، الطرق
الحكمية في السياسة الشرعية: ص 132 وما بعدها.
(3) هذا الحديث متواتر، رواه أكثر من عشرين صحابياً كما ذكر ابن الجوزي
والبيهقي، روى ذلك في خلافياته والصحابة كأبي هريرة وعمر وابن عمر وعلي
وابن عباس وزيد بن ثابت وجابر بن عبد الله وسعد بن عبادة وعبد الله بن
عمرو، والمغيرة بن شعبة، وعمارة بن حزم، وسُرَّق، بأسانيد حسان، وأصحها
حديث ابن عباس الذي أخرجه مسلم وأحمد وأصحاب السنن الأربعة، والدارقطني
والبيهقي (راجع نصب الراية: 96/ 4 وما بعدها، نيل الأوطار: 282/ 8، النظم
المتناثر من الحديث المتواتر: ص 109، مجمع الزوائد: 202/ 4، سبل السلام:
131/ 4، الإلمام: ص 521).
(8/5999)
قال الشافعي: وهذا الحديث ثابت لا يرده أحد
من أهل العلم لو لم يكن فيه غيره، مع أن معه غيره مما يشده. وقال النسائي:
إسناده جيد. وقال البزار: في الباب أحاديث حسان، أصحها حديث ابن عباس وقال
ابن عبد البر: لا مطعن لأحد في إسناده، ولا خلاف بين أهل العلم في صحته.
الإقرار:
الإقرار سيد الأدلة غالباً، وهو إذا كان بيِّناً لا خلاف في وجوب القضاء
به. وسأخصص مبحثاً مستقلاً له.
المبحث الخامس ـ حكم تعارض الدعويين مع تعارض
البينتين:
قد ترفع دعويان للقضاء حول موضوع واحد، ويكون لكل واحد من المتداعيين بينة
تساند مدعاه، وتثبت حقه في موضوع الدعوى المتنازع عليه، فكيف يقضي القاضي
بينهما؟
تنازع الدعويين قد يكون في ملك مطلق أو في ملك مقيد بسبب. والملك المطلق:
أن يدعي شخص الملك من غير أن يتعرض لذكر سبب الملكية، بأن يقول: «هذا ملكي»
ولا يقول: «هذا ملكي بسبب الشراء أو الإرث أو نحوهما».
والملك المقيد بسبب: أن يدعي شخص ملكية شيء مع بيان سبب الملكية كنتاج
ونكاح وشراء وإرث (1).
وتعارض الدعويين في ملك مطلق يحدث عادة بين اثنين: أحدهما ـ يكون الشيء في
يده وهو المسمى صاحب اليد أو الداخل أو الحائز (2). والثاني ـ لا يكون
_________
(1) تكملة فتح القدير: 156/ 6.
(2) الحيازة: وضع اليد على الشيء والاستيلاء عليه، وتصرف الحيازة مثل
السكنى والزرع والغرس والهبة والبيع والهدم ونحوها.
(8/6000)
الشيء في يده، ويسمى في لغة الفقهاء:
الخارج أو غير الحائز، وقد يتم التنازع بين الخارجين عن ذي اليد، أو بين
ذوي اليد أنفسهم.
وقد تكون بينة كل من المتنازعين مؤرخة، أو إحداهما مؤرخة، والأخرى بدون
تاريخ، أو أن تاريخ إحداهما أسبق من الأخرى.
تبحث هذه الافتراضات في نوعين: دعوى الملك المطلق ودعوى الملك المقيد.
النوع الأول ـ تعارض الدعويين مع تعارض
البينتين في ملك مطلق:
نجد في هذا القسم احتمالات ثلاثة: وهي التعارض في الدعويين بين الخارج عن
ذي اليد وذي اليد، والتعارض في الدعويين بين الخارجين عن ذي اليد، والتعارض
في الدعويين بين ذوي اليد.
الأول ـ تعارض الدعويين بين الخارج وذي اليد:
إذا كانت الدعوى من الخارج أي (غير الحائز) على ذي اليد أي (الحائز) دعوى
الملك، وأقام كل منهما بينة، فإما أن تكون البينتان غير مؤرختين، أو
مؤرختين وتاريخهما سواء، أو تاريخ أحدهما أسبق من الآخر، أو أحدهما بتاريخ،
والآخر من غير تاريخ.
ففي هذه الصور قال الحنفية والحنابلة في الجملة: تقدم بينة المدعي، أي
الخارج إلا أن تكون بينة أحدهما أسبق تاريخاً من الأخرى، فتقدم عند أبي
حنيفة وأبي يوسف، ولا تقبل بينة صاحب اليد في الملك المطلق؛ لأنها لا تفيد
أكثر مما تفيد اليد؛ إذ أن ظاهر الملك ثابت له باليد فلم تثبت له شيئاً
زائداً. والتفصيل فيما يأتي (1):
_________
(1) المبسوط: 32/ 17، تكملة فتح القدير: 156/ 6 ومابعدها، البدائع: 225/ 6،
232، الدر المختار: 455/ 4، كتاب القدوري مع اللباب: 32/ 4، المغني: 275/ 9
ومابعدها.
(8/6001)
1 - إذا كانت الدعوى من الخارج على ذي اليد
بدون تاريخ: فبينة المدعي وتسمى بينة الخارج أولى بالقبول عند الحنفية
والحنابلة؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «البينة على المدعي، واليمين
على المدعى عليه» (1) فجعل جنس البينة على المدعي، فلا يؤبه لبينة ذي اليد؛
لأنه ليس بمدع، فلا تكون البينة حجته (2). والدليل على أنه ليس بمدع عدم
انطباق وصف المدعى عليه، لأن المدعي: هو من يخبرعما في يد غيره لنفسه.
والموصوف بهذه الصفة هو الخارج، لا ذو اليد؛ لأنه يخبر عما في يد نفسه
لنفسه، فلم يكن مدعياً، وإنما هو مدعى عليه، فلا تكون البينة حجة له، فتعد
بينته لاغية.
ولأن بينة المدعي أكثر فائدة، فوجب تقديمها كتقديم بينة الجرح على التعديل،
ودليل كثرة فائدتها: أنها تثبت شيئاً لم يكن، وبينة المنكر إنما تثبت أمراً
ظاهراً تدل اليد عليه، فلم تكن مفيدة، أي أن بينته لا تفيد أكثر مما تفيد
اليد، أي الحيازة فقط.
2 - إذا كانت البينتان مؤرختين، وتاريخهما سواء: يقضى للمدعي الخارج؛ لأنه
لم يثبت سبق ملك أحدهما؛ إذ أنه بطل اعتبار الوقتين للتعارض، فبقي الحال
حال دعوى ملك مطلق، كالصورة الأولى.
3 - إذا كان تاريخ أحدهما أسبق من الآخر: يقضى للأسبق وقتاً أيهما كان عند
أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد. وروي في النوادر عن محمد أنه رجع عن هذا القول
عند رجوعه من الرقة، وقال: لا تقبل من صاحب اليد بينة على وقت ولا غيره إلا
في النتاج؛ لأنه لا قيمة لبينته إذ أنه مدعى عليه، والبينة حجة المدعي.
_________
(1) رواه أحمد والشيخان وابن ماجه عن ابن عباس.
(2) وبعبارة أخرى: هي أن الشرع قد جعل البينة في حيز المدعي واليمين في حيز
المدعى عليه، فوجب ألا ينقلب الأمر، وهذا عندهم من باب العبادة.
(8/6002)
والصحيح القول الأول وهو ظاهر الرواية؛ لأن
بينة صاحب الوقت الأسبق أظهرت الملك له في وقت لا ينازعه فيه أحد، فيثبت له
الحق في موضوع النزاع إلى أن يثبت الآخر سبباً لنقل الملكية له.
4 - إذا أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر: يقضى للخارج عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأن
الملك المطلق يحتمل التأخر والسبق، لجواز أن صاحب البينة المطلقة لو وقتت
بينته، كان وقتها أسبق. فوقع الاحتمال في سبق الملك المؤقت، وإذا حصل
الاحتمال في شيء سقط اعتباره، فيسقط اعتبار الوقت، وتبقى الدعوى دعوى ملك
مطلق، فيقضى للخارج.
وقال أبو يوسف: يقضى لصاحب البينة المؤرخة؛ لأن بينة صاحب الوقت أظهرت
الملك له في وقت معين خاص به، لا يعارضها فيه بينة مدعي الملك المطلق
بيقين، بل تحتمل بينته المعارضة وعدمها، والمعارضة لا تثبت بالشك، فبقيت
بينة صاحب التاريخ سالمة عن المعارضة، فيقضى له.
وقال المالكية والشافعية في هذه الصور (1): تقدم بينة صاحب اليد وتسمى بينة
الداخل على الإطلاق؛ لأنهما استويا في إقامة البينة، فتعارضت البينتان،
وترجحت بينة صاحب اليد بيده أي بحيازته، كترجيح أحد الحديثين المتعارضين
بالقياس، فيقضى بالشيء لصاحب اليد، ولأن بينة المدعى عليه تفيد معنى زائداً
على كون الشيء المدعى فيه موجوداً بيده.
ولأن جانب المدعى عليه أقوى، استصحاباً للأصل، فالأصل معه وهو بقاء ما كان
على ما كان، ويمينه تقدم على يمين المدعي، فإذا تعارضت البينتان، وجب
_________
(1) مغني المحتاج: 480/ 4، المهذب: 311/ 2.
(8/6003)
إبقاء يد صاحب اليد على ما كانت عليه،
ويقدم هو، كما لو لم تكن بينة لأحد المتنازعين.
ويؤيد هذا حديث جابر بن عبد الله: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم اختصم
إليه رجلان في دابة أو بعير، فأقام كل واحد منهما البينة بأنها له أنتجها،
فقضى بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم للذي هي في يده» (1).
الثاني ـ تعارض الدعويين بين الخارجين عن ذي
اليد في ملك مطلق:
إذا تنازع اثنان عيناً، وهي في يد شخص ثالث، وهو منكرلها، وأقام كل منهما
بينة يريد بها إثبات حقه فيها.
فقال الشافعية في الأرجح: تهاترت البينتان أي تساقطتا وبطلتا لتناقض
موجبيهما، سواء أكانت البينتان مطلقتي التاريخ، أم متفقتين فيه، أم إحداهما
مطلقة عن التاريخ والأخرى مؤرخة. فأشبه ذلك تعارض الدليلين ولا مرجح
بينهما، فكأنه لا بينة، ويصار إلى الحكم في القضية، كما لو تداعيا ولا بينة
لواحد منهما، فيحلف كل واحد منهما يميناً، ويقضى بالشيء بينهما نصفين. وفي
قول عندهما: يقرع بينهما، ويرجح من خرجت قرعته (2).
وكذلك قال المالكية: تسقط البينتان، ويقضى كأنه لا بينة فيحلف كل منهما
يميناً، ويقسم الشيء بينهما، فإن حلف أحدهما دون الآخر قضي له (3).
_________
(1) أخرجه البيهقي ولم يضعفه بلفظ: «أن رجلين اختصما في ناقة، فقال كل واحد
منهما: نُتجت هذه الناقة عندي، وأقاما بينة، فقضى بها رسول الله صلّى الله
عليه وسلم للذي هي في يده. ورواه الدارقطني وفي إسناده ضعف، ورواه أبو
حنيفة، وأخرج نحوه عن الشافعي إلا أن فيه «تداعيا دابة» ولم يضعف إسناده
(راجع سبل السلام: 135/ 4) وانظر حادثة مشابهة رواها الطبراني في مجمع
الزوائد: 203/ 4.
(2) مغني المحتاج: 480/ 4، المهذب: 311/ 2.
(3) بداية المجتهد: 461/ 2، الميزان: 195/ 2، الشرح الكبير للدردير: 222/ 4
وما بعدها.
(8/6004)
والراجح عند الحنابلة: أنه تسقط البينتان
ويقترع المدعيان على اليمين كما لو لم تكن بينة، فمن خرجت له قرعته حلف،
وأخذ العين (1).
وقال الحنفية في الجملة: يقضى بالشيء بينهما نصفين إلا أن يكون تاريخ
أحدهما أسبق، فيقضى له به، وتفصيله في الصور الأربعة الآتية (2):
1 و 2 ـ إذا كانت الدعوى من الخارجين، وقامت البينتان على ملك مطلق، بلا
تاريخ أو تاريخهما سواء، والشيء في يد ثالث: فيقضى به بينهما نصفين، عملاً
بالبينتين بقدر الإمكان (3)، صيانة لهما عن الإلغاء؛ لأن العمل بالدليل
واجب بالقدر الممكن، أي أنه إذا تعذر العمل بالبينتين في كل الشيء المتنازع
فيه، أمكن العمل بهما في بعض الشيء، فيقضى لكل واحد منهما بالنصف؛ لأنهما
تساويا في الدعوى، فيتساويان في القسمة.
ويؤيده «أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بعير، وأقام
كل واحد منهما البينة أنه له، فقضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم به
بينهما نصفين» (4).
_________
(1) المغني: 287/ 9.
(2) تكملة فتح القدير: 217/ 6، البدائع: 236/ 6، الدر المختار: 465/ 4،
اللباب شرح الكتاب: 32/ 4.
(3) لكن إن ادعى اثنان نكاح امرأة، وأقاما البينة على ذلك، لم يقض بواحدة
من البينتين لعدم أولوية إحداهما، وتعذر الحكم بهما لعدم قبول المحل
اشتراكهما، ويرجع إلى تصديق المرأة لأحدهما، إذا لم تؤقت البينتان وقتاً
للزواج، فأما إذا وقتتا، فصاحب الوقت الأول أولى. وإن أقرت المرأة لأحدهما
قبل إقامة البينة، فهي امرأته لتصادقهما على الزواج، والزواج مما يحكم به
بتصادق الطرفين. فإن أقام الآخر البينة على الزواج، قضي بها لأن البينة
أقوى من الإقرار. (اللباب شرح الكتاب: 4/ 32).
(4) أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد والحاكم والبيهقي عن أبي موسى الأشعري
بلفظ ((أن رجلين ادعيا بعيراً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث
كل واحد منهما بشاهدين، فقسمه النبي صلى الله عليه وسلم بينهما نصفين))
ورواه الطبراني في الكبير عن جابر بن سمرة، وفيه متروك (نصب الراية: 109/
4، نيل الأوطار: 200/ 8، الإلمام: ص522، سبل السلام: 13/ 4)
(8/6005)
3 - إذا كان تاريخ أحدهما أسبق من الآخر:
فالأسبق أولى؛ لأن كلاً من الخارجين ينطبق عليه وصف المدعي، فكانت بينتاهما
مسموعتين مقبولتين قضاء، فترجح إحداهما بأسبقية التاريخ؛ لأنها أثبتت الملك
في وقت لم تعارضه فيه البينة الأخرى، فيؤمر صاحب اليد بتسليم الشيء
المتنازع عليه إلى المقضي له، إلى أن يثبت الآخر انتقال الملكية إليه بطريق
ما.
4 - إن أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر: يقضى بينهما نصفين عند أبي حنيفة، ولا
عبرة للتاريخ؛ لأن الملك المؤرخ يحتمل أن يكون سابقاً عن تاريخ ملك الآخر،
ويحتمل أن يكون متأخراً عنه، لوجود احتمال أن صاحب الملك الآخر لو أرخ لكان
تاريخه أقدم، ونظراً لطروء الاحتمال في التاريخ، سقط اعتباره، فبقي ادعاء
ملك مطلق بالنسبة لكل منهما. وعند أبي يوسف: يقضى لصاحب الوقت، أي صاحب
الملك المؤرخ؛ لأن البينة المؤرخة أظهرت الملك في زمان لا تعارضها فيه
بيقين البينة المطلقة عن التاريخ، بل تحتمل المعارضة وعدم المعارضة، فلا
تثبت المعارضة بالشك، فتثبت بينة صاحب التاريخ بلا معارض، فيكون هو أولى
بالشيء.
وعند محمد: يقضى لصاحب الملك المطلق الذي لم تذكر بينته تاريخاً؛ لأن
البينة القائمة على الملك المطلق أقوى؛ إذ أنه مالك من الأصل حكماً، بدليل
استحقاقه زوائد الشيء من أولاد وألبان وأصواف وغلات ونحوها.
الثالث ـ تعارض الدعويين في ملك مطلق بين ذوي
اليد:
إذا كانت هناك دار يحوزها اثنان، أي تحت يدهما، فادعاها كل منهما، وأقام كل
منهما بينة على ملكيته لها، فقال الشافعية على الصحيح (1): تهاترت
البينتان،
_________
(1) مغني المحتاج: 480/ 4، المهذب: 311/ 2.
(8/6006)
أي تساقطتا وبطلتا لتعارضهما وتناقض
موجبهما، كتعارض الدليلين دون مرجح لأحدهما، فيقضى ببقاء الدار في يدهما،
كما كانت قضاء ترك، إذ ليس أحدهما أولى بها من الآخر. وفي قول: يقرع بينهما
كما أشرت سابقاً.
وقال الحنابلة: إذا تنازع رجلان في عين في أيديهما، وأقام كل واحد منهما
بينة، وتساوت البينتان، تعارضتا، وقسمت العين بينهما نصفين، لما روى أبو
موسى رضي الله عنه: «أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم في
بعير فأقام كل واحد منهما شاهدين، فقضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم
بالبعير بينهما نصفين» رواه أبو داود، ولأن كل واحد من المتنازعين يعد
بالنسبة لما في يده داخلاً في نصف الشيء، وخارجاً عن النصف الآخر (1) وقد
عرفنا أنه يقضى ببينة الخارج؛ لأنه هو المدعي.
وقال الحنفية في الجملة: يقضى بالشيء بين صاحبي اليد نصفين، إلا أن تكون
بينة أحدهما أسبق تاريخاً من بينة الآخر، وتفصيله فيما يأتي (2).
1 - إن أقام كل واحد من صاحبي اليد بينة أن الشيء له: فإنه يقضى لكل واحد
منهما بالنصف الذي في يد صاحبه؛ لأنه كما ذكر عند الحنابلة يعتبر خارجاً
بالنسبة لذلك النصف، والخارج: هو المدعي، وهوالذي تقبل بينته، وأما النصف
الذي في يده فيترك في يده قضاء ترك، وعلى هذا فكأن الدار الواحدة بمنزلة
دارين، في يد كل واحد منهما دار، وكل واحد منهما يدعيها، فكان كل واحد
منهما مدعياً لما في يد صاحبه، فعليه البينة، ومنكر الدعوى: صاحبه بالنسبة
لما في يده.
_________
(1) المغني: 280/ 9 وما بعدها.
(2) البدائع: 240/ 6 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 248/ 6 ومابعدها،
المبسوط: 32/ 17، الدر المختار: 460/ 4، الكتاب مع اللباب: 32/ 4.
(8/6007)
وكذلك إن أقام أحدهما البينة ولم يقم الآخر
بينة: يقضى له بالنصف الذي في يد صاحبه، وأما ما في يده فيترك في يده قضاء
ترك.
وأيضاً إذا لم يكن لأحدهما بينة: يترك الشيء في يديهما قضاء ترك، حتى لو
قامت لأحدهما بينة بعدئذ تقبل؛ لأنه لم يصر مقضياً عليه حقيقة.
2 - إن أرخ كل منهما بينته، وتاريخهما سواء يقضي بالشيء بينهما نصفين، كما
في الصورة الأولى.
3 - إذا كان تاريخ أحدهما أسبق: فالأسبق أولى عند أبي حنيفة وأبي يوسف.
وقال محمد: لا عبرة للتاريخ بالنسبة لصاحب اليد، فيكون الشيء بينهما نصفين،
والحجج سبق بيانها.
4 - إن أرخ أحدهما دون الآخر: يقضى بالشيء بينهما نصفين عند أبي حنيفة
ومحمد، ولا عبرة للوقت؛ لأنه ساقط الاعتبار لوجود الاحتمال في تقدمه عن
تاريخ بينة الآخر وتأخره. وقال أبو يوسف: هو لصاحب التاريخ، وأدلة كل من
الفريقين عرفت فيما سبق.
هل ترجح بينة أحد المتداعيين بكثرة عدد الشهود
أو اشتهار العدالة؟.
في الصور السابقة الذكر وغيرها من حالات تعارض البينات قرر جمهور الفقهاء
أنه لا ترجح إحدى البينتين بكثرة عدد الشهود، ولا اشتهاد العدالة؛ لأن كلاً
من البينتين حجة كاملة من الطرفين بتقدير الشرع، فلا تتقوى بالزيادة، كما
هو الشأن في الديات: لا يختلف مقدارها باختلاف الأشخاص.
(8/6008)
وقال الإمام مالك: يرجح بزيادة العدالة،
كما يرجح بها أحد الخبرين
المرويين، ولا يرجح بكثرة العدد (1).
النوع الثاني - تعارض الدعويين مع تعارض
البينتين في دعوى الملك بسبب: دعوى الملك بسبب كما عرفنا: هي أن
يذكر فيها سبب الملك من إرث أو شراء أو نتاج. وأبحث كل حالة على حدة فيما
يأتي. ومجمل القول في الملك المقيد عند الحنفية: هو أنه إذا ادعى اثنان
تلقي الملك من واحد وأحدهما قابض، أو ادعيا الشراء من اثنين، وأرخا وتأريخ
ذي اليد أسبق، ففي هاتين الصورتين تقبل بينة ذي اليد باتفاق الحنفية.
الحالة الأولى ـ دعوى الملك بسبب الإرث:
يكون بحث تعارض دعويي الملك بسبب الإرث في حالتين: حالة ما إذا كان أحد
المتداعيين خارجاً، والآخر صاحب يد، وحالة ما إذا كان التداعي بين خارجين
على ما في يد ثالث.
أولاً ـ تعارض الدعويين بين الخارج وذي اليد في دعوى الملك بالإرث: إذا كان
متاع في يد رجل، فأقام رجل البينة أن أباه مات وتركه ميراثاً له، وأقام
صاحب اليد البينة أن أباه مات وتركه ميراثاً له، فقال الحنفية: يقضى به
للخارج سواء ذكروا وقتاً أم لم يؤقتوا، أو أرخوا وكان تاريخهما سواء. فإن
كان تاريخ أحدها أسبق فهو له. وتفصيله فيما يأتي (2):
_________
(1) تكملة فتح القدير: 243/ 6، المبسوط: 41/ 17، الدر المختار: 495/ 4،
اللباب: 37/ 4، مغني المحتاج: 482/ 4، الميزان: 195/ 2، المغني: 282/ 9،
بداية المجتهد: 461/ 2، الشرح الكبير للدردير: 220/ 4.
(2) المبسوط: 44/ 17، البدائع: 233/ 6.
(8/6009)
1 - إذا أقام كل واحد من الخارج وذي اليد
البينة على أنه ملكه مات أبوه وتركه ميراثاً له: يقضى به للخارج؛ لأن كل
واحد من المتداعيين أثبت ملكية المتاع للميت، لكن قام الوارث مقام الميت
فيما يملكه، فكأن الوارثين ادعيا ملكاً مطلقاً من غير سبب، فيقضى به
للخارج، كما عرفنا في دعوى الملك المطلق.
2 و 3 ـ كذلك يقضى بالمتاع المتنازع عليه للخارج إذا أرخا وتاريخهما سواء
أو ذكر أحدهما تاريخاً دون الآخر؛ لأنه في الصورة الأولى سقط اعتبار
الوقتين للتعارض، فبقي دعوى مطلق الملك. وفي الصورة الثانية: لا عبرة
للوقت؛ لأنه يحتمل تأخر ملك الآخر وتقدم، ومع الاحتمال لا ينظر إلى الوقت.
4 - إذا كان تاريخ أحدهما أسبق من الآخر: فهو لصاحب الوقت الأسبق عند أبي
حنيفة وأبي يوسف؛ لأن بينته أثبتت له الملك في وقت لا ينازعه فيه الآخر.
وقال محمد: يقضى به للخارج؛ لأن دعوى الإرث دعوى ملك الميت، فكل واحد من
البينتين أظهرت ملك الميت، لكن قام الوارث مقام الميت في ملك الميت، فكأن
المورثين ادعيا ملكاً مطلقاً أو مؤرخاً منذ سنة مثلاً من غير ذكر سبب
للملك، وقد عرفنا أنه في هذه الحالة يقضى بالشيء للخارج عند محمد.
ثانياً ـ تعارض الدعويين بين الخارجين عن ثالث في دعوى الإرث: إذا وجدت دار
في يد شخص، ثم أقام شخصان آخران غيره، كل منهما البينة على أن الدار ملك
له، مات أبوه، وترك الدار ميراثاً له.
قال الحنفية (1): يقضى بالدار بين الشخصين نصفين، سواء أرخت البينتان
_________
(1) المرجعان السابقان، المبسوط: ص 41، البدائع: ص 237.
(8/6010)
وقت الإرث أم لم تؤرخاه، أو كان تاريخهما
سواء، لما ذكر أن الملك الموروث هو ملك الميت بعد موته، وإنما الوارث
يخلفه، ويقوم مقامه في ملكه، فكأن المورثين حضرا وادعيا ملكاً مطلقاً عن
الوقت لهما في يد ثالث، أو مؤقتاً وكان تاريخهما سواء، أو أحدهما مؤقتاً
والآخر مطلقاً، وقد عرفنا أنه يقضى بالشيء حينئذ مناصفة بين الخارجين؛
لأنهما مدعيان متساويان في الادعاء.
وإن كان تاريخ أحدهما أسبق: فهو له عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن الوارث
بإقامة البينة يظهر الملك للمورث لا لنفسه، فيصير كأنه حضر المورثان، وأقام
كل واحد منهما بينة مؤرخة، وتاريخ أحدهما أسبق، وحينئذ يقضى لأسبقهما
وقتاً، لإثباته الملك في وقت لا تعارضه فيه بينة الآخر.
وقال محمد: يقضى بالشيء بين الخارجين في هذه الحالة نصفين، ولا عبرة
للتاريخ عنده في الميراث، لما ذكر أن الموروث ملك الميت، والوارث قام
مقامه، فلم يكن الموت تاريخاً لملك الوارث، فسقط اعتبار التاريخ لملكه،
وكأنه لم يكن، فبقي دعوى الملك المطلق عن التاريخ، فيتساوى الخارجان حينئذ.
الحالة الثانية ـ دعوى الملك بسبب الشراء:
إذا تنازع اثنان على ملكية دار مثلاً، وكانت الدار في يد أحدهما فادعى
أحدهما الشراء من الآخر، أو ادعى كل منهما الشراء من صاحبه، أو كانت الدار
في يد شخص ثالث، فادعى كل منهما الشراء من صاحب اليد أو من رجل آخر غير
الذي ادعى عليه صاحبه، فكيف يحكم القاضي بينهما؟ يعرف الجواب من الصور
الآتية:
(8/6011)
1 - التنازع بين
الخارج وذي اليد (1):
نجد في هذه الحالة افتراضات ثلاثة:
أولاً ـ إذا ادعى الخارج أنه اشترى هذه الدار من صاحب اليد بألف ليرة ونقده
الثمن: يقضى للخارج بالبينة؛ لأنه هو المدعي.
ثانياً ـ إذا ادعى صاحب اليد الشراء من خارج: يقضى له بالبينة؟ لأنه يصح
تلقي الملك من الخارج؛ لأنه هو المدعي.
ثالثاً ـ إذا ادعى كل واحد من الخارج وصاحب اليد أنه اشترى الدار من صاحبه
بألف ليرة ونقده الثمن، وأقام كل واحد منهما البينة على ذلك ولم يؤرخا وقت
الشراء، أو أرخا وتاريخهما سواء:
ف إن لم يثبتا قبض المبلغ بالبينة: لا
تقبل البينتان عند أبي حنيفة وأبي يوسف، ولا يجب لواحد منها على صاحبه شيء،
ويترك المدعى به في يد الحائز، أي صاحب اليد؛ لأن كل مشترٍ يكون مقراً بكون
المبيع ملكاً للبائع. وعلى هذا تعد دعوى الشراء من كل واحد منهما إقراراً
بملك المبيع لصاحبه، وتكون البينتان قائمتين على إثبات إقرار كل واحد منهما
بالملك لصاحبه، وبين موجبي الإقرارين تناف وتناقض، فتعذر العمل بالبينتين
أصلاً.
وقال محمد: يقضى بالبينتين، ويؤمر صاحب اليد بتسليم المدعى به للخارج؛ لأن
الجمع والتوفيق بين الدليلين مطلوب بقدر الإمكان، والتوفيق هنا ممكن:
بتصحيح العقدين بأن نفترض أن صاحب اليد اشترى المبيع أولاً من الخارج
_________
(1) البدائع: 233/ 6 ومابعدها، تحفة الفقهاء: 301/ 3 ومابعدها الطبعة
القديمة، الكتاب مع اللباب: 36/ 4.
(8/6012)
وقبضه، ثم اشتراه الخارج ثانية من صاحب
اليد، ولم يقبضه، وإنما باعه مرة أخرى لصاحب اليد. فبذلك يمكن تصحيح
العقدين: الأول والثاني بالتقدير المذكور.
ولا يصح افتراض العكس: بأن نقدر أن الخارج اشترى أولاً من صاحب اليد، ولم
يقبضه، وإنما باعه ثانية لصاحب اليد؛ لأنه يترتب على هذا الافتراض إفساد
العقد الثاني؛ لأن هذا بيع للعقار المبيع قبل قبضه، وهذا البيع غير جائز
عند محمد، كما هو معروف في عقد البيع.
وإذا صح العقدان بحسب الافتراض الأول، فيبقى الشيء في يد الحائز صاحب اليد،
فيؤمر بتسليمه إلى الخارج.
وأما إذا أرخا، وتاريخ أحدهما أسبق، ولم تذكر البينتان قبضاً: فإنه يقضى
لصاحب البيع المتأخر وقتاً، والبيع الثاني ينقض البيع الأول عند أبي حنيفة
وأبي يوسف.
وعند محمد: يقضى للخارج؛ لأن بيعه إذا كان أسبق، افترض كأنه اشترى الدار
أولاً، ولم يقبضها، ثم باعها لصاحب اليد، وبيع العقار قبل القبض لا يجوز
عنده، وإذا لم يجز بقي المبيع على ملك الخارج. أما عند أبي حنيفة وأبي
يوسف، فيجوز، فصح البيعان ويقضى بالشيء لصاحب اليد.
وإذا كان بيع صاحب اليد أسبق: فيقضى بالدار للخارج اتفاقاً؛ لأنه إذا كان
وقته أسبق يجعل سابقاً في الشراء، كأنه اشترى من الخارج وقبض، ثم اشترى منه
الخارج ولم يقبض، فيؤمر بتسليم الدار إليه.
وأما إن أثبتا القبض بالبينة: فقد
تهاترت البينتان، أي تساقطتا عند أبي حنيفة وأبي يوسف، ويقضى بالدار قضاء
ترك لمن كانت الدار في يده.
(8/6013)
وقال محمد: يقضى بالدار لمن كانت في يده
قضاء حقيقة، وتحصل مقاصة بين ثمن البيع الأول وثمن البيع الثاني، فمن زاد
له أخذ الزيادة من صاحبه، كأن الخارج اشترى الدار من الداخل صاحب اليد،
فقبضها ثم اشتراها الداخل منه، وقبض، تصحيحاً لتصرف الإنسان؛ لأنه مهما
أمكن أن يجعل القبض قبض بيع، يجعل.
2 - التنازع بين الخارجين على ما في يد شخص
ثالث:
نجد في هذه الحالة افتراضين:
أولاً ـ أن يدعي الخارجان الشراء من شخص واحد على صاحب اليد: إذا ادعى
اثنان داراً عند إنسان آخر، كان قد اشتراه كل منهما من واحد معين، وأقاما
البينة على الشراء منه بثمن معلوم، ونقد الثمن:
قال الحنفية (1): فإن لم يذكرا تاريخاً للشراء ولا قبضاً للمبيع: يقضى
بالدار بينهما نصفين ويثبت لهما الخيار كما سيُبين؛ لاستوائهما في سبب
الاستحقاق، وقبول محل النزاع للاشتراك فيه.
وقال الشافعية في هذه الحالة: تعارضت البينتان، فتساقطتا، لتناف بين
موجبيهما ومقتضاهما، فكأنه لا بينة، فيحلف كل منهما يميناً على نفي كونه
للآخر بأن يقول: إن هذا الشيء ليس لك، ثم يجعل الشيء بينهما، أي يقسم
بينهما نصفين لقضائه صلّى الله عليه وسلم بذلك، كما صححه الحاكم على شرط
الشيخين. وفي قول: يقرع بينهما (2).
_________
(1) البدائع: 237/ 6، تكملة فتح القدير: 221/ 6 وما بعدها، الدر المختار:
456/ 4، اللباب: 34/ 4 وما بعدها.
(2) مغني المحتاج: 480/ 4، حاشية الباجوري على متن أبي شجاع: 359/ 2.
(8/6014)
ثم قال الحنفية: أما إذا أرخا، وتاريخ
أحدهما أسبق: فيقضى للأسبق؛ لأن بينته تظهر الملك له في وقت لا تعارضه فيه
بينة الآخر، أي أن الأسبق أثبت الشراء في زمان لا ينازعه فيه أحد، فاندفع
الآخر به.
ولو أرخت بينة أحدهما دون الآخر: فيقضى لصاحب الوقت، لثبوت ملكه في ذلك
الوقت، فاحتمل الآخر أن يكون قبله أو بعده، فلا يقضى له بالشك.
ولو لم تؤرخ البينتان، أوأرخت إحداهما دون الأخرى، أو كان تاريخهما سواء،
ولكن مع أحدهما قبض: أي أن القبض ثابت في يده معاينة: فهو أولى بالشيء
المتنازع عليه، لأن تمكنه من قبضه يدل على سبق شرائه، ولأن المتداعيين
استويا في إثبات الشراء بالبينة، والقبض أمر مرجح، فلا تزول اليد الثابتة
بالشك. هذا .. إلا أن تشهد بينة التاريخ أن شراءه قبل شراء الآخر فيقضى له،
ويرجع الآخر بالثمن على البائع.
والخلاصة: أن بينة ذي اليد أولى من بينة غير القابض في دعوى الملك بسبب،
خلافاً لحالة دعوى الملك المطلق، فإن بينة الخارج أولى.
وإذا ادعى اثنان على ثالث ذي يد، أحدهما يدعي شراء منه، والآخر هبة وقبضاً،
وأقاما البينة على ذلك، ولا تاريخ معهما، فالشراء أولى؛ لأنه أقوى، لكونه
معاوضة من الجانبين؛ ولأنه يثبت بنفسه بخلاف الهبة، فإنه يتوقف على القبض.
وإن ادعى أحدهما الشراء وادعت امرأة أنه تزوجها على هذا الشيء، فهما سواء
لاستوائهما في القوة؛ لأن كلاً منهما معاوضة من الجانبين، ويثبت الملك
لنفسه. وإن ادعى أحدهما رهناً وقبضاً، والآخر هبة وقبضاً، فالرهن أولى؛ لأن
المرهون مضمون، والموهوب غير مضمون وعقد الضمان أولى.
(8/6015)
ثانياً ـ أن يدعي كل واحد من الخارجين
الشراء من رجل غير الذي ادعى عليه صاحبه: إذا ادعى شخصان داراً في يد شخص
آخر، وأقام كل واحد منهما البينة على أنه اشتراها من شخص غير الذي ذكره
صاحبه سوى صاحب اليد: يقضى به بينهما نصفين؛ لأن المشتريين قاما مقام
البائعين، كأنهما حضرا، وأقاما البينة على ملك مطلق، ولو كان الأمر كذلك
يقضى به بينهما نصفين، فكذا هذا، ويثبت لهما الخيار كما سأبين.
ولو أرخا وكان تاريخهما سواء أو أرخت بينة أحدهما ولم تؤرخ الأخرى: يقضى به
بينهما نصفين أيضاً. وإن كان تاريخ أحدهما أسبق من الآخر، فالأسبق تاريخاً
أولى عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وكذا عند محمد في رواية الأصول بخلاف
الميراث: إنه يكون بينهما نصفين عنده.
والفرق بالنسبة لمحمد بين الميراث والشراء: هو أن المشتري يثبت الملك
لنفسه، والوارث يثبت الملك للميت.
وفي رواية عن محمد في الإملاء: أنه سوى بين الميراث والشراء، وقال: لا عبرة
بالتاريخ في الشراء أيضاً، إلا أن يؤرخ المدعيان ملك البائعين (1).
ثبوت الخيار لمن يقضى لهما: في حالة
القضاء بالدار بين المتداعيين الخارجين مناصفة، سواء في ادعاء الشراء من
واحد أو من اثنين: يثبت الخيار لكل واحد من مدعيي الشراء: إن شاء أخذ كل
واحد منهما نصف الدار بنصف الثمن، وإن شاء ترك لتفريق الصفقة عليه؛ لأن غرض
كل واحد من المتداعيين الوصول إلى شراء
_________
(1) راجع البدائع: 238/ 6.
(8/6016)
جميع المبيع، ولم يحصل له شراؤه، مما ترتب
عليه حدوث خلل في رضا كل منهما، فلا يرضى بالنصف مشتركاً مع الآخر، فأثبت
لهما الخيار.
فإن اختار كل واحد منهما أخذ نصف الدار، رجع على البائع بنصف الثمن؛ لأنه
لم يحصل له في ملكه إلا نصف المبيع.
وإن اختار كل منهما رد المبيع ونقض البيع، رجع كل واحد منهما بجميع الثمن
على البائع؛ لأنه انفسخ البيع.
وإن اختار أحدهما الرد، والآخر الأخذ: فإن حدث هذا قبل تخيير الحاكم لهما،
والحكم لهما نصفين، فللآخر أن يأخذ جميع المبيع بجميع الثمن؛ لأن المستحق
له بالعقد كل المبيع، وامتناع استحقاقه للكل بسبب مزاحمة الآخر له، فإذا
زالت الخصومة فقد زال المانع من الاستحقاق، فيأخذه كله.
وأما إن حدث ذلك بعد قضاء القاضي وتخييره إياهما: فليس له أن يأخذ إلا
النصف بنصف الثمن؛ لأنه بحكم القاضي ينفسخ العقد بالنسبة لكل واحد منهما في
النصف، فلا يعود إلا بالتجديد (1).
الحالة الثالثة ـ دعوى الملك بسبب النتاج:
النتاج: هو ولادة الحيوان، مشتق من فعل (نُتجت) المبني للمجهول: يعني ولدت
ووضعت. والمراد هنا: ولادة الحيوان في ملك الإنسان نفسه أو في ملك بائعه،
أو في ملك مورثه.
إذا تنازع رجلان في دابة مثلاً، فادعى كل واحد منهما أنها ملكه دون
_________
(1) البدائع: 237/ 6، تكملة فتح القدير: 221/ 6 وما بعدها.
(8/6017)
صاحبه، وأقام كل واحد منهما بينة أنها له
نُتجت عنده أو عند بائعه أو عند مورثه، فكيف يقضي القاضي بينهما؟
نجد هنا ثلاثة افتراضات أذكر حكمها عند الحنفية:
أولاً ـ أن يدعي الخارج وصاحب اليد نتاج أي (منتوج) دابة، ويقيم كل واحد
منهما بينة على النتاج من غير تاريخ، أو أرخا تاريخاً واحداً: فصاحب اليد
أولى؛ لأن صاحب اليد لا يستحق الملك هنا بظاهر يده فقط، وإنما تثبت بينته
شيئاً آخر عدا الحيازة باليد، وهوأولية الملك بالنتاج؛ لأن النتاج لا يتكرر
حدوثه، كما تُثبت بينة الخارج، فاستوت البينتان في إظهار أولية الملك،
وترجحت بينة ذي اليد باليد، فيقضى له. وذلك بخلاف الملك المطلق فهناك لا
تُثبت بينته إلا ما هو ثابت له بظاهر يده، باعتبار أن الملك ينتقل ويتكرر
حدوثه.
وفي هذا ورد حديث جابر: «أن رجلين اختصما في ناقة، فقال كل واحد منهما:
نتجت هذه الناقة عندي، وأقاما بينة، فقضى بها رسول الله صلّى الله عليه
وسلم للذي هي في يده» (1) ويقضى في ظاهر مذهب الحنفية لصاحب اليد قضاء
حقيقة، لا أن يترك في يده قضاء ترك. وهو موافق لمذهب الشافعية.
وقال عيسى بن أبان: تتهاتر البينتان ويترك المدعى به في يد صاحب اليد قضاء
ترك (2).
ثانياً ـ أن يقيم أحد المتنازعين على النتاج، والآخر على الملك المطلق عن
النتاج: إذا أقام أحد المتخاصمين البينة على النتاج، والآخر على الملك
المطلق عن
_________
(1) رواه الدارقطني والبيهقي وإسناده ضعيف.
(2) راجع المبسوط: 63/ 17، البدائع: 234/ 6، تكملة فتح القدير: 235/ 6،
الدر المختار: 459/ 4، اللباب: 35/ 4.
(8/6018)
النتاج، بأن قال: هو ملكي، فبينة النتاج
أولى، سواء أكان خارجاً أم ذا اليد، لما ذكر أنها تثبت أولية الملك لصاحبه،
فلا تثبت لغيره إلا بالتلقي منه (1).
ثالثاً ـ ادعاء النتاج من الخارجين على ثالث يدعي ملكاً مطلقاً: إذا ادعى
الخارجان النتاج وهو في يد شخص ثالث يدعي ملكاً مطلقاً: فهو بين الخارجين
نصفين، لا ستوائهما في سبب الاستحقاق.
فإن أرخت البينتان، واتفق تاريخهما، فيقضى بالمدعى به أيضاً نصفين، لسقوط
اعتبار الوقتين بالتعارض.
وإن اختلف التاريخان يحكَّم سن الدابة: فيقضى لصاحب الوقت الذي يوافقه سن
الدابة إن علم سنها؛ لأنه ظهر أن البينة الأخرى كاذبة بيقين.
فإن أشكل السن، كانت الدابة بينهما نصفين؛ لأنه سقط اعتبار التاريخ، وجعل
كأنهما لم يذكرا تاريخاً؛ لأنه يحتمل أن يكون سنها موافقاً لتاريخ أحدهما
أو مخالفاً لهما.
وإن خالف سنها الوقتين جميعاً، سقط اعتبار التاريخ في ظاهر الرواية؛ لأنه
ظهر بطلان اعتبار التوقيت، فكأنهما لم يؤقتا، فبقيت البينتان قائمتين على
ملك مطلق.
وذكر الحاكم الشهيد في مختصره (الكافي) أنه تتهاتر البينتان، ويبقى النتاج
في يد صاحب اليد قضاء ترك، قال: وهو الصحيح.
والواقع أن الأصح في هاتين الحالتين: حالة إشكال السن ومخالفته للوقتين
_________
(1) البدائع، المرجع السابق، تكملة فتح القدير: 337/ 6.
(8/6019)
هو ما قاله محمد، وهو أن تكون الدابة
بينهما نصفين، سواء أكانت الدابة في يديهما، أم في يد أحدهما، أم في يد شخص
ثالث (1).
ما يتكرر سببه وما لا يتكرر:
كل ما ذكرمن الأحكام في تعارض الدعويين في الملك المطلق أو بسبب الإرث أو
الشراء، ينطبق على كل ما يتكرر فيه سببه، ويصنع مرتين فأكثر كبناء وغرس
ونسج خز (2) وزرع بر ونحوه، يقضى بالمدعى به للخارج، فلو ادعى رجل ثوباً
أنه ملكه من خزه، أو ادعى داراً أنهاملكه بناها بماله، أو ادعى غرساً أنه
ملكه غرسه بنفسه، أو ادعى حنطة أنها ملكه زرعها أو حباً آخر من الحبوب،
وأقام على مدعاه بينة وادعى ذو اليد مثل ذلك، وأقام عليه بينة، قضي به
للخارج؛ لأن هذه الأشياء ليست في معنى النتاج لتكررها.
وكل ما ذكر من الأحكام في النتاج ينطبق على ما لا يتكرر فيه سبب الملك
ولايعاد، ولا يصنع مرتين كنسج الثياب التي لا تنسج إلا مرة واحدة، وغزل
قطن، وحلب لبن، وجز صوف، ونحوها؛ لأنه في معنى النتاج، يقضى به لصاحب اليد.
فلو ادعت امرأة غزل قطن أنه ملكها، غزلته بيدها، أو ادعى رجل ثوباً أنه
ملكه، نسجه بيده، وهو مما لا يتكرر نسجه، أو ادعى لبناً أنه ملكه حلبه من
شاته، أو ادعى جبناً أنه ملكه، صنعه بيده، أو ادعى صوفاً مجزوزاً بأنه
ملكه، جزَّه من شاته، وأقام على مدعاه بينة، فادعى ذو اليد مثل ذلك، وأقام
عليه بينة، فإنه يقضى به لذي اليد؛ لأنه في معنى النتاج، فيلحق به (3).
_________
(1) راجع البدائع: 234/ 6، تكملة فتح القدير: 246/ 6 وما بعدها، اللباب شرح
الكتاب: 43/ 4.
(2) أي الصوف الخليط بالإبريسم أي الحرير، فإن هذا إذا بلي يغزل مرة أخرى
وينسج.
(3) تكملة فتح القدير مع العناية: 236/ 6 وما بعدها، البدائع: المرجع نفسه:
ص 234، الدر المختار: 459/ 4 وما بعدها، اللباب: 36/ 4.
(8/6020)
المبحث السادس ـ حكم
تعارض الدعويين في أصل الملك فقط، وحكم الملك وما يقتضيه من حقوق:
يتناول هذا المطلب قضيتين مختلفتين، وإنما جمعتُ بينهما؛ لأن كلاً منهما لا
يستحق على الانفراد مطلباً مستقلاً لقلة الكلام فيه، ولأن بينهما ارتباطاً
جزئياً من جهة ولاية التصرف في الشيء.
حكم تعارض الدعويين في أصل الملك فقط أو
التنازع بالأيدي:
انتهى بيان تعارض الدعويين مع تعارض البينتين، والكلام في هذا المطلب عن
تعارض الدعويين لا غير، تمسكاً بظاهر اليد، فيحكم بين المتداعيين بأرجحية
يد أحدهما على الآخر، ويظهر الحكم في المسائل الآتية (1):
1 - إذا تنازع اثنان في دابة: أحدهما
راكبها، والآخر متعلق بلجامها، فالراكب أولى؛ لأن تصرفه أقوى، فإن الركوب
يختص بالملك غالباً.
وكذلك إذا كان أحدهما راكباً على السرج، والآخر رديفه، فالراكب أولى، لقوة
يده، وهذا رأي أبي يوسف، وهو الذي مشى عليه القدوري في مختصره «الكتاب».أما
في ظاهر الرواية: فالدابة بينهما نصفان؛ لأنهما استويا في أصل الاستعمال.
وكذلك تكون الدابة بينهما اتفاقاً إذا كانا راكبين على السرج، لاستوائهما
في التصرف.
وإن تنازعا في بعير عليه لأحدهما حمل، وللآخر عليه مخلاة معلقة فصاحب الحمل
أولى، لأنه هو المتصرف، فهو ذو اليد في الواقع.
_________
(1) المبسوط: 87/ 17 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 247/ 6 وما بعدها،
البدائع: 255/ 6 وما بعدها، الدر المختار: 461/ 4 ومابعدها، اللباب: 44/ 4،
مختصر الطحاوي: ص354 وما بعدها.
(8/6021)
2 - إذا تنازع اثنان
في قميص: أحدهما لا بسه، والآخر متعلق به، فاللابس
أولى؛ لأنه أقواهما تصرفاً، فهو مستعمل للقميص.
ولو تنازعا في بساط أحدهما جالس عليه، والآخر متعلق به: فهو بينهما نصفان،
قضاء ترك، لا قضاء حقيقة؛ لأن القعود عليه ليس بيد عليه، حتى إنه لا يعتبر
غاصباً بالقعود عليه، وإنما تكون اليد، أي الحيازة على البساط إما بالنقل
والتحويل، أو بكونه في بيته، والجلوس عليه ليس بشيء من الأمرين، فلا يكون
يداً عليه. وبما أنهما يدعيانه على السواء، فيترك في يديهما لعدم وجود
منازع ينازعهما.
وإذا كان ثوب في يد رجل، وطرف منه في يد آخر، فهو بينهما نصفان؛ لأن
الزيادة من جنس الحجة، فإن كل واحد منهما متمسك باليد، إلا أن أحدهما أكثر
استمساكاً، ومثله لا يوجب الرجحان، كزيادة عدد الشهود، لا تُرجح بينة أحد
الخصمين.
3 - إذا كان حائط بين دارين: فادعاه كل
من المالكين المتجاورين، وليس لأحدهما عليه جذوع (1) ولا هو متصل ببناء كل
منهما، فإنه يكون بينهما، لاستوائهما في الاستظلال به.
وإن كان لأحدهما عليه جذوع، فهو له؛ لأنه مستعمل للحائط.
ولو كان لكل واحد منهما جذوع، على السواء، أو لأحدهما أكثر من الآخر، بأن
كان ثلاثة فصاعداً، فهو بينهما نصفان؛ لأنهما استويا في استعمال الحائط،
فاستويا في ثبوت اليد عليه، والزيادة على الثلاثة من جنس الحجة.
_________
(1) الجذع: ساق النخلة أو الشجرة، يوضع في منتصف السقف للاستناد عليه،
ويوضع طرفاه على جدارين متقابلين، وهو الآن مثل الجسور الحديدية في منتصف
السقوف.
(8/6022)
أما إن كان لأحدهما ما دون الثلاثة،
وللآخرأكثر، فهو لصاحب الكثير؛ لأن أصل الاستعمال لا يحل بما دون الثلاثة؛
لأن الجدار لا يبنى له عادة، وإنما يبنى لأكثر من الثلاثة، إلا أن الأكثر
لا نهاية له، والثلاثة أقل الجمع الصحيح، فقيِّد به. ولكن يبقى لصاحب
القليل حق الاستناد على الحائط، وليس لصاحب الحائط الحق في أن يطلب رفع
الجذوع، إلا إذا أثبت بالبينة أن الحائط له، فحينئذ يرفع الجذع.
وإن لم يكن لهما جذوع، ولأحدهما اتصال بالبناء اتصال التزاق وارتباط، فهو
لصاحب الاتصال، لأنه كالمتعلق به.
ولو كان لأحدهما اتصال التزاق، وللآخر جذوع، فصاحب الجذوع أولى؛ لأنه
مستعمل للحائط، ولا استعمال من صاحب الاتصال.
ولو كان لأحدهما اتصال التزاق وارتباط، وللآخر اتصال تربيع (1)، فصاحب
التربيع أولى؛ لأن اتصال التربيع أقوى من اتصال الالتزاق.
ولو كان لأحدهما اتصال تربيع وللآخر جذوع: فالحائط لصاحب التربيع، ولصاحب
الجذوع حق وضع الجذوع، أي استنادها عليه؛ لأن الظاهر ليس بحجة في
الاستحقاق. والسبب في ترجيح صاحب الاتصال: أن الحائطين بالاتصال يصيران
كبناء واحد. وقال السرخسي: صاحب الجذوع أولى؛ لأن لصاحب الاتصال اليد،
ولصاحب الجذوع التصرف والتصرف أقوى. والرأي الأول أرجح؛ لأن اتصال التربيع
يكون حالة البناء، وهو سابق على وضع الجذوع، فكانت يده أسبق من وضع الآخر
جذوعه، فصار مثل سبق التاريخ.
_________
(1) اتصال التربيع: أن يكون في حائط من المدر أو الآجر تداخل بين أنصاف
لبنات حائط المدعي، وأنصاف لبنات الحائط المتنازع فيه وبالعكس. وإن كان
الحائط من خشب: فالتربيع: أن تكون الخشبة مركبة في الأخرى. وأما إذا ثقب
فأدخل في الأخرى، فلايكون تربيعاً. (تكملة فتح القدير: 251/ 6، الدر
المختار: 461/ 4، البدائع: 257/ 6).
(8/6023)
ثم إن الاتصال الذي وقع الاختلاف السابق في
ترجيح صاحبه على صاحب الجذوع أو على العكس: هو الاتصال الذي وقع في أحد
طرفي أو جانبي الحائط المتنازغ فيه. وأما إذا وقع اتصال التربيع في طرفيه
أو جانبيه، فصاحب الاتصال أولى بلا خلاف (1).
ولو كان وجه البناء على الحائط في أحد الجانبين، فلا يرجح به باتفاق
الحنفية؛ لأن هذا لا يختص بالملك.
4 - إذا كان خُص (2) بين دارين، أو بين حقلين، والقُمط (3) إلى أحدهما،
وادعى كل واحد الخص، فهو بينهما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى عليه، ولا
ينظر إلى القمط؛ لأن هذا دليل الحيازة واليد في الماضي، لا وقت الدعوى، فلا
يفيد في الإثبات.
وقال الصاحبان: صاحب القمط أولى بالعرف والعادة، فإن الناس في العادة
يجعلون وجه البناء والطاقات (ما عطف من الأبنية) وأنصاف اللبن والقمط إلى
صاحب الدار، فيدل على أنه بناؤه.
تنبيه: كل موضع قضي فيه بالملك لأحد
المتنازعين لكون المدعى به في يده، تجب عليه اليمين لصاحبه إذا طلب، فإن
حلف برئ، وإن نكل يقضى عليه بالنكول (4).
_________
(1) تكملة فتح القدير، المرجع السابق: ص 225، البدائع، المرجع نفسه: ص 257،
رد المحتار: 461/ 4.
(2) الخص بضم الخاء: البيت من قصب، والجمع أخصاص.
(3) القمط - بضم القاف والميم: جمع قماط، والمراد به هنا حبل عريض ينسج من
ليف أو خوص تشد به الخيمة ونحوها.
(4) البدائع: 258/ 6، رد المحتار: 461/ 4.
(8/6024)
حكم الملك وما
يقتضيه من حقوق:
حكم الملك أو مقتضاه عند الحنفية: هو أن يثبت لصاحبه ولاية التصرف في الشيء
المملوك بمطلق اختياره، دون أن يكون لأحد عليه حق الإجبار على التصرف إلا
لضرورة، أو حق المنع من التصرف، وإن تضرر به إلا إذا تعلق به حق الغير،
فيمنع عن التصرف مراعاة لحق الغير، ولا يكون لغير المالك شيء من حقوق
التصرف في ملك غيره بدون إذنه أو رضاه إلا لضرورة.
وبناء عليه للمالك أن يتصرف في ملكه أي تصرف شاء، سواء أكان تصرفاً يتعدى
ضرره إلى غيره، أم لا يتعدى، فله أن يبني في ملكه مرحاضاً أو حماماً أورحى
أو تنوراً، وله أن يؤجر بناءه لحداد أو قصار، وله أن يحفر في ملكه بئراً أو
بالوعة، وإن كان يتأذى به جاره، وليس لجاره أن يمنعه؛ لأن حق الملكية حق
مطلق، ويتقيد هذا الحق عند وجود عارض من تعلق حق الآخرين به، لكن يجب أن
يمتنع الإنسان عن كل ما يؤذي جاره ديانة، لقوله صلّى الله عليه وسلم:
«المؤمن من أمن جاره بوائقه» (1).
فلو تصرف المالك في ملكه تصرفاً أدى إلى أن يوهن بناء جاره أو سقوط حائط
جاره، لا يضمن؛ لأنه لم يتعد على ملك الغير.
العلو والسفل: وعلى هذا لو كان لأحد
الجوار سفل، وللآخر علو عليه كطوابق المنازل الحديثة، فأراد صاحب السفل أن
يفتح باباً أو نافذة، أو يحفر طاقاً، أو يدق وتداً على الحائط، أو يتصرف
فيه تصرفاً لم يكن في القديم، من غير رضا صاحب العلو سواء أضر بالعلو، بأن
ترتب عليه وَهْن الحائط أم لم يضرَّ به، فليس له ذلك عند أبي حنيفة؛ لأن
حرمة التصرف في ملك الغير وحقوقه لا تتوقف على وقوع الضرر، بل هو حرام،
سواء تضرر به أم لا.
_________
(1) رواه الطبراني في الكبير والأوسط عن طلق بن علي بلفظ «ليس بالمؤمن:
الذي لا يأمن جاره بوائقه» أي شره، وفيه أيوب بن عتبة ضعفه الجمهور، وهو
صدوق كثير الخطأ، واعتبر السيوطي هذا الحديث حسناً (مجمع الزوائد: 169/ 8،
الجامع الصغير: 135/ 2).
(8/6025)
وقال الصاحبان: لصاحب السفل أن يفعل في
ملكه ما يشاء إن لم يضر بصاحب العلو؛ لأن صاحب السفل يتصرف في ملك نفسه،
فلا يمنع إلا لحق الغير، وحق الغير لا يمنع المالك من التصرف لذاته، وإنما
لما يترتب عليه من إيقاع الضرر به، بدليل أن الإنسان لا يمنع من الاستظلال
بجدار غيره، ومن الاصطلاء بنار غيره، لعدم تضرر المالك. والرسول صلّى الله
عليه وسلم يقول: «لا ضرر ولا ضرار» (1).
وإذا انهدم السفل والعلو: لم يجبر صاحب السفل على البناء؛ لأن الإنسان لا
يجبر على عمارة ملك نفسه، ولكن يقال لصاحب العلو: إن شئت فابن السفل من مال
نفسك، وضع عليه علوك، وارجع عليه بقيمته مبنياً، ثم امنع صاحب السفل عن
الانتفاع بالسفل حتى يرد عليك قيمة البناء؛ لأن البناء، وإن كان تصرفاً في
ملك الغير، لكن فيه ضرورة؛ لأنه لا يمكنه الانتفاع بملك نفسه إلا بالتصرف
في ملك غيره. وأما رجوعه بقيمة البناء، فلأنه ملكه بإذن الشرع، فله ألا
يمكن صاحب السفل من الانتفاع بملكه إلا بعد دفع قيمته.
أما إذا هدم صاحب السفل منزله، فانهدم الطابق العلوي، فيجبر على إعادته؛
لأنه أتلف حق صاحب العلو بنفسه.
ويجري هذا الخلاف في الحائط بين الدارين إذا انهدم، ولهما عليه جذوع، فإنه
لا يجبر واحد منها على بنائه، ولكن إذا أبى أحدهما البناء، يقال للآخر: إن
شئت فابن من مال نفسك، وضع خشبك عليه، وامنع صاحبك من الوضع والاستناد، حتى
يرد عليك نصف قيمة البناء، أو نصف ما أنفقته.
فإن هدمه أحدهما، يجبر على عمارته (2).
_________
(1) رواه مالك والشافعي مرسلاً عن عمر بن يحيى المازني عن أبيه، وهو عند
أحمد وعبد الرزاق وابن ماجه والطبراني عن ابن عباس، ورواه ابن ماجه
والدارقطني وغيرهما مسنداً عن أبي سعيد الخدري وهو حديث حسن (المقاصد
الحسنة: ص 468، مجمع الزوائد: 110/ 4، سبل السلام: 84/ 3، الإلمام: ص 363).
(2) البدائع: 263/ 6 وما بعدها، الدر المختار: 372/ 4 وما بعدها، درر
الحكام: 416/ 2 وما بعدها.
(8/6026)
|