الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

الفَصْلُ الثّاني: سُلطة التَّنفيذ العُليَا ـ الإمامَة ويتضمن مباحث عشرة هي:
المبحث الأول ـ تعريف الإمامة:
الإمامة العظمى أو الخلافة أو إمارة المؤمنين كلها تؤدي معنى واحداً، وتدل على وظيفة واحدة هي السلطة الحكومية العليا. وقد عرفها علماء الإسلام بتعاريف متقاربة في ألفاظها، متحدة في معانيها تقريباً، علماً بأنه لا تشترط صفة الخلافة، وإنما المهم وجود الدولة ممثلة بمن يتولى أمورها، ويدير شؤونها، ويدفع غائلة الأعداء عنها.
قال الدهلوي: الخلافة: هي الرياسة العامة في التصدي لإقامة الدين بإحياء العلوم الدينية، وإقامة أركان الإسلام، والقيام بالجهاد، وما يتعلق به من ترتيب الجيوش والفروض للمقاتلة، وإعطائهم من الفيء، والقيام بالقضاء، وإقامة الحدود، ورفع المظالم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نيابة عن النبي صلّى الله عليه وسلم (1).
_________
(1) إكليل الكرامة في تبيان مقاصد الإمامة لصديق حسن خان: ص 23.

(8/6144)


وقال التفتازاني: الخلافة: رئاسة عامة في أمر الدين والدنيا، خلافة عن النبي صلّى الله عليه وسلم (1).
وقال الماوردي: الإمامة: موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا (2).
وحدد ابن خلدون بطريقة أخرى وظيفة الإمامة فقال: هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إلىها؛ إذ أن أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة. فهي (أي الخلافة) في الحقيقة: خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به (3).
ويتبين من هذه التعاريف أن سلطة الخليفة تتناول أمور الدين، وسياسة الدنيا على أساس شرائع الإسلام وتعاليمه؛ لأن هذه التعاليم يراد بها تحقيق مصالح الناس في عالمي الدنيا والآخرة، أي أن العنصر العقدي والإنساني أو الأخلاقي يسير جنباً إلى جنب مع العنصر المادي، ويتآزر العنصران لإقامة المجتمع الفاضل المستقر المرفه المتمكن في الأرض الذي يقيم العزة والسيادة الفعلية بين جناحيه. وتتعاضد فيه الهداية الإلهية مع الإرادة البشرية والقوى العقلية عن طريق الإجماع والقياس.
وبهذا تغاير الخلافة أساساً السلطات السياسية الحالية التي تسير على هدي القوانين الوضعية التي تقتصر على تنظيم العلاقات الاجتماعية، وتقر واقع المجتمع ولو عارض الدين أو الفضيلة أحياناً.
_________
(1) شرح العقائد النسفية، الخلافة لرشيد رضا: ص 10.
(2) الأحكام السلطاني: ص 3، ط صبيح.
(3) المقدمة: ص 191، ط التجارية.

(8/6145)


المبحث الثاني ـ حكم إقامة الدولة في الإسلام:
بالرغم من أن إيجاد الدولة أمر يوجبه العقل، ويحتمه الواقع، وتفرضه طبائع الأحداث، فقد رأينا اختلافاً بسيطاً غير حاد ولا خطير في شأن حكم الإمامة وجوباً وجوازاً. قال ابن تيمية (1): يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس، حتى قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم» (2).
ويمكن تصنيف مذاهب الفرق الإسلامية في ثلاثة: مذهب الإيجاب، ومذهب الجواز، ومذهب الوجوب على الله.

أولاً ـ مذهب إيجاب الإمامة: ترى الأكثرية الساحقة من علماء الإسلام (وهم أهل السنة والمرجئة والشيعة والمعتزلة إلا نفراً منهم، والخوارج ما عدا النجدات): أن الإمامة أمر واجب أو فرض محتم (3). قال ابن حزم: اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة، وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيهم أحكام الله، ويسوسهم بأحكام الشريعة التي جاء بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، حاشا النجدات، فإنهم قالوا: لا يلزم الناس فرض الإمامة، وإنما عليهم
_________
(1) السياسة الشرعية لابن تيمية: ص 161.
(2) رواه أبو داود من حديث أبي سعيد وأبي هريرة.
(3) شرح العقائد النسفية للتفتازاني: ص 142 وما بعدها، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين للأشعري: 133/ 2، حجة الله البالغة للدهلوي: 110/ 2، أصول الدين للبغدادي: ص 271 وما بعدها، ط استانبول، الأحكام السلطانية للماوردي: ص 3.

(8/6146)


أن يتعاطوا الحق بينهم (1). ونوع الفرضية هو الفرض الكفائي، قال الماوردي: فإذا ثبت وجوب الإمامة ففرضها على الكفاية كالجهاد وطلب العلم، فإذا قام بها من هو من أهلها سقط فرضها عن الكافة (2).
ثم انقسم هؤلاء فرقاً ثلاثاً، فقال أكثر الأشعرية والمعتزلة والعترة: إنها تجب شرعاً؛ لأن الإمام يقوم بأمور شرعية.
وقال الشيعة الإمامية: تجب الإمامة عقلاً فقط للحاجة إلى زعيم يمنع التظالم، ويفصل بين الناس في التنازع والتخاصم، ولولا الولاة لكان الأمر فوضى.
وقال الجاحظ والبلخي (الكعبي) وأبو الحسين الخياط والحسن البصري: تجب الإمامة عقلاً وشرعاً.

أدلة هذا المذهب:
أورد أصحاب هذه النظرية عدة براهين شرعية وعقلية وضرورات وظيفية.

1ً - البرهان الشرعي: وهو الإجماع: أجمع الصحابة والتابعون على وجوب الإمامة، إذ بادر الصحابة فور وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم وقبل تجهيزه وتشييعه إلى عقد اجتماع السقيفة ـ سقيفة بني ساعدة، وبعد تشاور كبار المهاجرين والأنصار بايعوا أبا بكر الصديق رضي الله عنه قياساً على تقديم الرسول صلّى الله عليه وسلم له لإمامة الناس في الصلاة أثناء مرضه الشريف،
_________
(1) الفِصَل في الملل والنحل: 87/ 4، المحلى: 438/ 9، مسألة 1768، مراتب الإجماع: ص 124.
(2) الأحكام السلطانية: ص 3.

(8/6147)


وأقر المسلمون هذه البيعة في المسجد في اليوم التالي، مما ينبئ أنهم مجمعون على ضرورة وجود إمام أو خليفة.
قال الإيجي في المواقف وشارحه الجرجاني: «إنه تواتر إجماع المسلمين في الصدر الأول، بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم على امتناع خلو الوقت من إمام، حتى قال أبو بكر رضي الله عنه في خطبته المشهورة، حين وفاته عليه السلام: ألا إن محمداً قد مات، ولا بد لهذا الدين ممن يقوم به، فبادر الكل إلى قبوله، وتركوا له أهم الأشياء، وهو دفن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولم
يزل الناس على ذلك، في كل عصر إلى زماننا هذا، من نصب إمام متبع في كل عصر» (1) وواضح من قول العلماء أن الإجماع منصب على ضرورة وجود الحاكم، وليس المهم شكل الحكم، من خلافة أو غيرها، مادام الشرع هو المطبق (2).
والإجماع حجة قطعية يقينية على وجوب الإمامة بعد الرسول صلّى الله عليه وسلم وفي كل عصر، إذ لا يصلح الناس فوضى لا قادة ولا رؤساء لهم في كل زمان.
ويؤكد هذا الإجماع أو يعد مستنداً له إشارات في القرآن والحديث، قال الماوردي (3): جاء الشرع بتفويض الأمور إلى ولي في الدين، قال الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} (4)
_________
(1) المواقف وشرحه: ص 603 وما بعدها، وانظر نهاية الإقدام للشهرستاني: ص 489.
(2) شكك الأستاذ علي عبد الرزاق في دعوى الإجماع هذه في كتابه الشاذ: «الإسلام وأصول الحكم»: ص 21 وما بعدها، متعللاً بعدم وجود دراسات علمية موسعة للخلافة عند السابقين، وأن كل الحكومات الإسلامية قامت على القهر والغلبةما عدا الخلافة الراشدية، والحقيقية أنه بالرغم من أن تأليف هذا الكتاب كان لظروف معينة اقتضته وهي التنديد بالخلافة العثمانية فهو إن أنكر صورة الحكم، فلا يستطيع إنكار ما تفرضه البداهة وطبيعة الأشياء من ضرورة إقامة دولة، وهو ماتم عليه الإجماع بالذات، لا أن الإجماع أمر لا بد منه لنصب كل حاكم، فالأغلبية فيه تكفي.
(3) الأحكا م السلطانية: ص 3.
(4) أي أن طاعة أولي الأمر تقتضي وجوب نصبهم وإقامتهم. [النساء:59/ 4].

(8/6148)


ففرض علينا طاعة أولي الأمر فينا، وهم الأئمة المتأمرون علينا. وروى هشام بن عروة عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «سيليكم بعدي ولاة، فيليكم البر ببره، والفاجر بفجوره، فاسمعوا لهم، وأطيعوا في كل ماوافق الحق، فإن أحسنوا فلكم ولهم، وإن أساءوا فلكم وعليهم». وهناك آيات أخرى مثل قوله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} [المائدة:49/ 5] {وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله} [آل عمران:159/ 3]. ومارس النبي عليه السلام سلطات سياسية لا تصدر من غير قائد دولة، كإقامة الحدود وعقد المعاهدات وتعبئة الجيوش
وتعيين الولاة وفصل الخصومات بين الناس في الشؤون المالية والجنائية ونحوها (1).

2ً - البرهان العقلي ـ الشرعي: وهو توفير النظام ودرء الفوضى، أي أن الاجتماع والتمدن طبيعي في البشر، وكل اجتماع يؤدي إلى التنازع والتزاحم والاختلاف بسبب حب الذات والحرص على المصالح الذاتية، وتحقيق أكبر قدر من المصالح الشخصية، والتنازع يفضي غالباً إلى الخصام والصراع والهرج والفوضى المؤذنة بهلاك البشر وانقراض النوع الإنساني إذا لم تنظم الحقوق وتحدد الواجبات ويفرض النظام، ويقوم الوازع الرادع، ويتم ذلك بالسلطان. قال الماوردي (2): تجب الإمامة عند طائفة عقلاً لما في طباع العقلاء من التسليم لزعيم يمنعهم من التظالم، ويفصل بينهم في التنازع والتخاصم، ولولا الولاة لكانوا فوضى مهملين، وهمجاً مضاعين، وقد قال الأفواه الأودي ـ وهو شاعر جاهلي:
_________
(1) راجع زاد المعاد لابن القيم: 124/ 2 وما بعدها.
(2) الأحكام السلطانية، المكان السابق.

(8/6149)


لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ..... ..... ولاسراة إذا جهالهم سادوا
وهذا يعني أن ضرورات الحياة والحفاظ على حقوق الإنسان تقتضي وجوب الإمامة أو السلطة.

3ً - برهان الوظيفة: إن قيام الإنسان بوظيفته بكونه خليفة الدنيا في الأرض وحامل الأمانة: (الفروض والتكاليف الدينية) يتوقف على وجود السلطة السياسية التي تمكنه من أداء وظيفته على نحو أكمل.
وهذه الواجبات لا تتحقق إلا في ظل وجود دولة، سواء أكانت عبادات محضة كالصلوات والحج والعمرة أم شعائر عامة كالأذان والجمعة والأعياد، أم معاملات اجتماعية كالعقود بأنواعها، أم تكاليف جماعية كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة المجتمع الفاضل والتعاون في سبيل الخير، وقمع الشر، ومحاربة الأهواء.
وجدير بالذكر أن كل رسالة إصلاحية وعلى رأسها الإسلام لا يمكن أن يقر قرارها أو تظهر فائدتها إلا في سياج منيع من القوة المانعة والسطوة الرادعة التي تلازم وجود الدولة.
وغريب أن نجد فكرة سديدة تخالف هذا المنطق أو تتجافى مع هذا التصور. قال النسفي: «والمسلمون لا بد لهم من إمام يقوم بتنفيذ أحكامهم، وإقامة حدودهم، وسد ثغورهم، وتجهيز جيوشهم وأخذ صدقاتهم، وقهر المتغلبة والمتلصصة وقطاع الطريق، وإقامة الجمع والأعياد، وقطع المنازعات الواقعة بين العباد، وقبول الشهادات القائمة على الحقوق، وتزويج الصغار والصغيرات الذين

(8/6150)


لا أولياء لهم، وقسمة الغنائم (1)، أي ونحو ذلك من الأمور المتطلبة لوجود الحاكم».
وقال الإيجي في المواقف (2): «إن في نصب الإمام دفع ضرر مظنون، وإن دفع هذا الضرر واجب شرعاً. وبيان ذلك أننا نعلم علماً يقارب الضرورة أن مقصود الشارع، فيما شرع من المعاملات، والمناكحات، والجهاد، والحدود والمقاصات، وإظهار شعائر الشرع في الأعياد والجماعات، إنما هو مصالح عائدة إلى الخلق معاشاً ومعاداً، وذلك المقصود لا يتم إلا بإمام يكون من قبل الشارع يرجعون إليه فيما تعين لهم».
وهناك برهان آخر يستتبع القيام بالوظيفة المقدسة للبشر: وهو أن مرفق القضاء الذي تقوم به الدولة أمر ضروري لفض المنازعات الدائمة بين البشر، لا سيما بعد زوال النظام القبلي الذي يحكم فيه رئيس القبيلة بالعرف والهوى الشخصي، وعدم جدوى اللجوء إلى التحكيم إذا تعذر اتفاق المتخاصمين، فلم يبق إلا القضاء الذي يلجأ إلىه كل إنسان بمفرده.
ومهمة القضاء في الإسلام لا تقتصر على إقامة العدل بالمفهوم الإلهي، وفصل الخصومات، وتطبيق أحكام الشريعة، وإنما يشمل كل ما من شأنه رعاية الحرمات الدينية، واحترام الفضيلة، وإقرار المعروف، ومكافحة المنكرات والفواحش بمختلف ألوانها.
فلولا القضاء لاستأصل البشر بعضهم، وهلكوا جميعاً، فكان وجوده رحمة، وتنظيمه فريضة، وقيام الدولة به ووجودها من أجله أمراً محتماً.
_________
(1) شرح العقائد النسفية للتفتازاني: ص 142 وما بعدها.
(2) المرجع السابق.

(8/6151)


وإذا لا حظنا أن مهمة الدولة في الإسلام حراسة شؤون الدين والدنيا، وتحقيق السعادة للبشر في الحياة الدنيا والآخرة، علمنا مدى الأهمية المنوطة بالدولة المستلزمة للسعي الفوري في إيجادها، ولولا ذلك لعمت الفوضى، وشاع الفساد، وانتشر الظلم بين العباد.
والخلاصة: إن تلازم وجود الدولة مع دعوة الإسلام ودين الإسلام أمر لا يمكن فصله في مفهوم إنسان، منذ أن قامت دولة المدينة باعتبارها أول نواة لوجود الدولة بالمعنى الحديث القائم على أركان ثلاثة: هي الشعب، والإقليم (الوطن) والسلطة السياسية أو السيادة (1).

ثانياً ـ القائلون بمبدأ جواز الإمامة: قالت فئة قليلة بجواز الإمامة لا بوجوبها، وهم المحكِّمة الأولى والنجدات من الخوارج، وضرار، وأبو بكر الأصم المعتزلي، وهشام الفُوَطي، وعباد بن سليمان تلميذه من المعتزلة. قال الأصم ممثلاً هذا الرأي: لو تكافّ الناس عن التظالم لاستغنوا عن الإمام (2).
ويظهر من أقوال هؤلاء كما أبان ابن خلدون (3) أنهم ينشدون إلى تحقيق المثل
_________
(1) انظر بحث الدولة الإسلامية المستفيض للموسوعة الفقهية في الكويت، للمؤلف والذي سيأتي طبعه هنا لأول مرة.
(2) قال الشهرستاني مبيناً رأي هؤلاء: إن الإمامة غير واجبة في الشرع وجوباً لو امتنعت الأمة عن ذلك استحقوا اللوم والعقاب، بل هي مبنية على معاملات الناس، فإن تعادلوا وتعاونوا وتناصروا على البر والتقوى واشتغل كل واحد من المكلفين بواجبه وتكليفه استغنوا عن الإمام ومتابعته (نهاية الإقدام في علم الكلام: ص 482).
(3) المقدمة، الفصل 26 ص 192.

(8/6152)


العليا، ويعارضون نظام الملك أو الخلافة المقرون بالظلم والقهر والتمتع باللذات، والاعتداء على الحقوق والاستبداد الغاشم.
فهم لم يتهاونوا في شأن الإمامة إذا كان يفهم منها تنفيذ أحكام الشريعة، بل قد أعلنوا وجوبها، فنقلوا الوجوب من الإمامة كهيئة متميزة منفصلة إلى تنفيذ القانون نفسه، أي أن على الجميع الاشتراك في تنفيذ أحكام التشريع بأنفسهم، دون حاجة إلى وجود قوة قاهرة مسيطرة. وهذه هي الديمقراطية المباشرة أو الجمهورية في أكمل صورها كما يحلم بها فلاسفة السياسة. ولكن تحقيق هذا أمر متعذر، فإن اقترن وجود الدولة ببعض المساوئ فلا يمكن الاستغناء عنها (1).

أدلتهم:
استدل هؤلاء المجوزون بأدلة جانبيةفحواها تعداد أضرار الحكومات فقالوا: إن وجود الحكومة يتنافى مع مبدأ الحرية الطبيعية وحق الاجتهاد بالرأي، ومبدأ المساواة، بسبب ضرورة توفير الطاعة للحاكم. وإذا لم يطع الناس وقعت الفتنة والاختلاف. مع أن الحاكم ليس معصوماً من الخطأ، والشروط المطلوبة فيه قلما توجد في كل زمان.
لكن الحق يقال: إن المصالح التي تتوافر بوجود الحاكم أكثر بكثير من المضار التي تلحق الأفراد، ويتحمل أخف الضررين لدفع أشدهما، ولأن الحرية الحقيقية هي التي تكون في ظل النظام لتأمين حريات وحقوق الآخرين. ثم إن المفاسد التي تحدث من تنازع وتقاتل وهلاك وفوضى وتعرض للأخطار الخارجية من العدو تفوق بكثير ما يفقد الشخص من بعض الحقوق الخاصة، أو يقدمه من ولاء وطاعة أو يتحمله من تبعات ومغارم.
_________
(1) النظريات السياسية الإسلامية للدكتور ضياء الدين الريس: ص 141 وما بعدها.

(8/6153)


ثالثاً - رأي الشيعة الإمامية والزيدية والإسماعيلية: اتفق الشيعة الإمامية والزيدية وأهل السنة والمعتزلة على وجوب الإمامة، لكن الإمامة والإسماعيلية قالوا بوجوبها عقلاً على الله، لا على الأمة.
وبما أن الشيعة يرون رأي المعتزلة في العقائد، فهذا الرأي مفرع على نظرية المعتزلة القائلة بوجوب فعل الصلاح والأصلح على الله تعالى، أو على (فعل اللطف) الإلهي عملاً بقوله تعالى: {كتب ربكم على نفسه الرحمة} [الأنعام:54/ 6]. واللطف كما قال الشريف المرتضى (1): هو الأمر الذي علم الله تعالى من حال المكلف أنه متى وجد ذلك الأمر، كان حاله إلى قبول الطاعات والاحتراز عن المعاصي أقرب مما إذا لم يوجد ذلك الأمر، وبشرط ألا ينتهي إلى حد الإلجاء. وبعبارة أخرى: اللطف هو خلق القدرة للعبد وإكمال العقل ونصب الأدلة وتهيئة وسائل فعل الطاعة، وترك المعصية.

أدلة الشيعة:
استدل الشيعة على مذهبهم بعد أن قدموا له بمقدمات معينة، فقالوا: إن في إقامة الإمام منافع كثيرة ودفع مضار متعددة، وبه يتم صلاح المعاش والمعاد، كما أوضحت في الأدلة العقلية السابقة.
وإذا كان الله تعالى قد خلق في الإنسان القوى الشهوانية والغضبية والوهمية، ولم يجعل له قوة تعصمه من الزلل وتحمله على الخير، فقد وجب عليه أن ينصب إماماً يقرب الإنسان من الطاعات، ويبعده من القبائح.
_________
(1) الأربعين في أصول الدين للرازي: ص 429.

(8/6154)


فنصب الإمام إذن لطف، وكل لطف واجب على الله تعالى، فنصب الإمام واجب على الله تعالى. أما أن الإمامة لطف من الله في حق عباده، فلأن وجوب إمام عادل يمنعهم من المحظورات، ويحثهم على الطاعات يجعلهم أقرب إلى الطاعة، وأبعد عن المعصية. ثم إن الإمامة من الله لطف لأنها خالية من المفاسد والقبائح (1).
فهم يقيسون (الإمامة) على (النبوة). وبما أن الإمام هو حجة الله على خلقه، أو حجة الله في الأرض، وبما أن إرسال الرسل هو حجة الله على عباده لقوله تعالى: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} [النساء:165/ 4] فكذلك الأئمة حجة له، وتكون الحكمة من وجود الأئمة مشابهة لحكمة وجود الرسل.
ومعنى كون الإمام حجة أنه البرهان القائم على أن الله أراد أن يبلغ شرعه لعباده، وأنه يخاطبهم ويكلفهم باتباع أوامره واجتناب نواهيه، ولولا ذلك لكان للناس عذر في العصيان (2).
ويخلصون من هذا إلى أن الإمامة ركن الدين وقاعدة الإسلام، ولا يجوز لنبي إغفاله ولا تفويضه إلى الأمة، بل يجب عليه تعيين الإمام لهم، ويكون معصوماً من الكبائر والصغائر (3).
والأئمة الذين يعترفون بهم هم علي ومن بعده. ويستدلون بآيات وأحاديث على أن الشرع قد جاء بتعيين هؤلاء الأئمة، لكن الإمامية قالوا: جاء التعيين بالنص على علي. وقال الزيدية: كان التعيين بالوصف.
_________
(1) نطرية الإمامة لدى الشيعة الاثني عشرية، للدكتور أحمد محمود صبحي: ص 72 ومابعدها.
(2) نهاية الإقدام للشهرستاني: ص 485.
(3) مقدمة ابن خلدون: الفصل 27.

(8/6155)


نقد ومناقشة:
نوقش مذهب الشيعة في الإمامة فيما يتعلق بمبدأ اللطف في وجوب الإمام، وأدلتهم النقلية والعقلية. أما بالنسبة للّطف فكيف يتم قرب العبد من الطاعة وبعده عن المعصية بإمام غير ظاهر، فضلاً عن كونه غير متمكن ولا قادر. قال الرازي (1): «الإمام الذي تقولون بوجوبه غير ظاهر قاهر سائس، فلا أثر له ولا خبر» إذ أنهم يقولون (بالتقية) وهي جواز اختفاء الإمام. وقال ابن تيمية (2): الإمام الذي تصفونه مفقود غالباً ومعدوم لا حقيقة له عند سواكم، ومثله لا يحصل به شيء من مقاصد الإمامة، بل الإمام الذي يقوم وفيه جهل وظلم أنفع لمصالح الأمة ممن لا ينفعهم بوجه. وقال الإيجي (3): إنما يحصل اللطف بإمام ظاهر قاهر وأنتم لا توجبونه، فالذي لا توجبونه ليس بلطف، والذي هو لطف لا توجبونه.
وأما أدلتهم النقلية السمعية على تعيين الإمام فهي محل نظر، قال ابن حزم (4): «وعمدة هذه الطوائف كلها في الاحتجاج أحاديث موضوعة مكذوبة». ومن المستحيل على الصحابة العدول المبشر بعضهم بالجنة أن يكتموا خبراً عن الرسول صلّى الله عليه وسلم، لا سيما في شأن الإمامة ذات الأثر الخطير والشهير. وهل يعقل أن يتم التعيين من النبي ولا يعلم المعين نفسه، وإذا عين، فلماذا لم يتمسك به ويخاصم عليه، ويقطع دابر الخلاف الذي حدث لاختيار الخليفة (5)؟!
وكذلك أدلتهم العقلية القائمة على مبدأ العصمة تحتاج إلى تأمل ودعم
_________
(1) الأربعين في أصول الدين: ص 439، ط حيدر آباد.
(2) المنتقى من منهاج الاعتدال: ص 408.
(3) المواقف: ص 387.
(4) الفصل في الملل والنحل: 94/ 4.
(5) مقدمة ابن خلدون، الفصل 27.

(8/6156)


أقوى، إذ العصمة لم تثبت إلا لنبي، ولو كان علي كرم الله وجهه معصوماً لاستغنى بعصمته عن النبي في التعليم وغيره، كما قال الرازي (1)، مع أنهم يسلمون بأنه كان محتاجاً للنبي ومؤتماً به، وإلا كان ذلك خروجاً عن الدين. وقال ابن حزم (2): إن عمدة ما احتجت به الإمامية أن قالوا: لا بد من أن يكون إمام معصوم، عنده جميع علم الشريعة، فالجواب: أن ذلك هو النبي صلّى الله عليه وسلم نفسه في حياته وبعد مماته إلى يوم القيامة، فبلاغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قائم بعد موته إلى يوم القيامة.

المبحث الثالث ـ كيفية اختيار الإمام (أو الحاكم الأعلى):
طرق التعيين:
ذكر فقهاء الإسلام طرقاً أربعة في كيفية تعيين الحاكم الأعلى للدولة وهي: النص، والبيعة، وولاية العهد، والقهر والغلبة. وسنتبين أن طريقة الإسلام الصحيحة عملاً بمبدأ الشورى ومبدأ الفروض الكفائية هي طريقة واحدة وهي بيعة أهل الحل والعقد، وانضمام رضا الأمة باختياره. وأما ما عدا ذلك فمستنده ضعيف بسبب التعسف في تأويل النصوص، أو الاعتماد على نصوص واهية وأهواء خاصة، أو إقرار لواقع قائم لم يجد المسلمون حكمة أو مصلحة في الثورة عليه، أو القضاء على وجوده حسماً للدماء ومنعاً للفوضى، ومراعاة لظروف خارجية، أو رهبة من ضراوة الممسك بالسلطة التي آلت إليه بطرق غير مشروعة كالوراثة ونحوها.
_________
(1) نهاية العقول: ص 435، مخطوط بدار الكتب المصرية.
(2) الفصل في الملل والنحل: 95/ 4.

(8/6157)


تعيين الإمام بالنص:
قال الشيعة الإمامية (1): إن نصب الإمام لا يكون إلا بالنص أو الاختيار من الأمة، ولكنهم حرصاً منهم على حصر الإمامة في علي بن أبي طالب رضي الله عنه نقدوا مبدأ الاختيار، وقالوا: يجب على الله لطفاً منه نصب إمام بنص صريح في آياته، وما على النبي إلا أن يبلغ ما أنزل إليه، وقد فعل، فنص على أن علياً هو الخليفة من بعده.
وأطالوا في تأييد رأيهم بأدلة نقلية وعقلية وتاريخية (2). أذكر بعضاً منها بإجمال وردّ أهل السنة عليها.

الأدلة الواردة في القرآن والسنة:
استدلوا ب الآيات القرآنية الدالة على وجوب التزام أوامر الله والرسول، مثل: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} [الحجرات:1/ 49] {وربك يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخِيَرة} [القصص:68/ 28] {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخِيَرة من أمرهم} [الأحزاب:36/ 33] فليس للناس اختيار أمام أمر الله، فمن يختاره للنبوة والإمامة، وجبت طاعته، وبما أن الإمامة من الوظائف الدينية الموكول أمرها إلى الله، فتكون مما قضى الله ورسوله فيها بالنص.
لكن يلاحظ أن هذه الآيات ليست واردة في شأن الإمامة، وإنما تفيد النهي
_________
(1) ينكر الشيعة الزيدية ومعتزلة بغداد وغيرهم وجود نص من الرسول صلّى الله عليه وسلم على خلافة علي، وإن كانوا يفضلونه على غيره.
(2) راجع نظرية الإمامة لدى الشيعة الاثني عشرية للدكتور أحمد محمود صبحي: ص 79 ومابعدها.

(8/6158)


عن الاجتهاد بالرأي الشخصي حالة وجود نص على الحكم الشرعي في القرآن والسنة.
كذلك استدلوا بآيات من القرآن تفيد في زعمهم النص على إمامة علي، مثل قوله تعالى: {قل: لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى} [الشورى:23/ 42] وقرابته: أهل بيته وهم علي
وفاطمة وابناهما (1)، لكن ثقات العلماء يبينون أن هذه الآية نزلت قبل زواج علي بفاطمة.
وبرهنوا على مذهبهم من السنة بأحاديث أهمها:

1 - حديث غدير خم:
وهو الذي أخرجه الطبراني والنسائي وأحمد والحاكم عن زيد بن أرقم في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، وفيه: «يا أيها الناس، إن الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله».
والواقع أن هذا الحديث غير صحيح، قال الإيجي: لا صحة للحديث، إذ لم ينقله أكثر أصحاب الحديث، بل إن علياً رضي الله عنه لم يكن يوم الغدير مع النبي صلّى الله عليه وسلم، بل كان في اليمن، وإن سلِّم فرواته لم يرووا مقدمة الحديث (2). وقال ابن تيمية: مع افتراض أن النبي قاله يوم الغدير فإنه لم يرد به الخلافة قطعاً، ولكن الشيعة يزكون الحديث، ويعتبرونه صحيحاً لأنه يوافق مبدأهم (3). وقال الباقلاني: إن لكلمة (مولى) معاني كثيرة، فمنها المولى بمعنى الناصر، ومنها
_________
(1) المرجع السابق: ص 183 وما بعدها.
(2) المواقف: ص 405.
(3) المنتقى من منهاج الاعتدال: ص 423.

(8/6159)


المولى بمعنى ابن العم، ومنها المولى بمعنى الموالي المحب، ومنها المولى بمعنى المكان والقرار، ومنها المولى بمعنى المعتِق المالك للولاء، ومنها المولى بمعنى المعتَق الذي مُلك ولاؤه، ومنها المولى بمعنى الجار، ومنها المولى بمعنى الصهر، ومنها المولى بمعنى الحلف. فهذا جميع ما يحتمله قوله مولى، وليس من معنى هذه اللفظة أن المولى إمام واجب الطاعة. والذي قصده النبي بهذه الكلمة ـ على فرض صحتها ـ يحتمل أمرين.
أحدهما ـ من كنت ناصره على دينه وحامياً عنه بظاهري وباطني وسري وعلانيتي، فعلي ناصره على هذه السبيل.
والثاني ـ من كنت محبوباً عنده، وولياً له على ظاهري وباطني، فعلي مولاه، أي أن ولاءه ومحبته
من ظاهره وباطنه واجب، كما أن ولائي ومحبتي على هذه السبيل واجب (1).

2 - حديث المنزلة:
حينما خلف النبي صلّى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه على المدينة بعد خروجه لغزوة تبوك، قال المنافقون: إنما خلفه لأنه يبغضه، فبلغ ذلك علياً، فبكى واشتكى إلى النبي صلّى الله عليه وسلم قائلاً: «أتخلفني في النساء والصبيان؟!» فرد النبي: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي» وهذا حديث صحيح متواتر. فسَّره الشيعة بما يثبت خلافة علي؛ لأن تشبيه علي بهارون يثبت له كل منازل هارون فيما عدا النبوة. ومن منازله: الأخوة والوزارة، والخلافة، وولاية الأمر بعده لو عاش بعد موسى، وكونه شريكاً في أمره.
_________
(1) التمهيد: ص 164 وما بعدها، وانظر نهاية العقول للرازي: ص 263.

(8/6160)


وقال أهل السنة: ليس الحديث حجة في الدلالة على إمامة علي، لكونه مخصوصاً بواقعة حال معينة: وهي الاستخلاف على المدينة، كما يستخلف كل قائد أحداً بعده في إدارة ولايته حال غيبته. ثم إن النبي صلّى الله عليه وسلم قد خلف علياً في أهله، وليست الخلافة في الأهل كالخلافة على البشر. والاستخلاف المقيد بالغيبة لا يكون باقياً بعد انقضائها، كما لم يبق في حق هارون (1).
وقد أجاب الباقلاني عنه بأنه لا يجب أن نفهم من هذا الحديث بأنه نص على خلافته بعده؛ لأن معناه أني أستخلفك على أهلي وعلى المدينة إذا توجهت إلى هذه الغزوة. وهذا واضح من سياق الحديث الذي رواه سعد بن أبي وقاص قال: إن علياً لحق بالنبي صلّى الله عليه وسلم بعد أن استخلفه، وقال له: أتتركني مع الأخلاف؟! فأجابه الرسول صلّى الله عليه وسلم بقوله: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي».

3 - حديث الراية يوم خيبر:
قال النبي صلّى الله عليه وسلم محدداً أوصاف علي لقيادته معركة خيبر: «لأعطين الراية غداً إلى رجل يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كرَّار غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يده» وهو حديث صحيح رواه البخاري والترمذي والحاكم. هذه الصفات أصبحت خاصة بعلي رضي الله عنه، مما يدل على أفضليته وبالتالي أحقيته للإمامة؛ لأن الإمامة للأفضل. ورد أهل السنة على الاستدلال به بأنه لا ملازمة بين كونه محباً لله ولرسوله ومحبوباً منهما، وبين كونه إماماً، كما لا يلزم من إثباتهما له نفيهما عن غيره (2)، فقد قال الله تعالى في حق أبي بكر: {يا أيها
_________
(1) نظرية الإمامة، صبحي: ص 225 وما بعدها.
(2) المرجع السابق: ص 231 وما بعدها.

(8/6161)


الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي بقوم يحبهم ويحبونه} [المائدة:54/ 5] وقال في حق أهل بدر: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص} [الصف:4/ 61].

الأدلة العقلية:
استدل الشيعة بأدلة عقلية كثيرة على وجوب النص على الإمام من قبل الله، وهي في جملتها تتفق مع مبدئهم في عصمة الإمام، وتوجه النقد إلى طريقة تعيينه بالاختيار.
من هذه الأدلة قولهم (1): لا يجوز إسناد أمر الإمامة إلى الناس؛ لأنها أهم أركان الدين، فالذي شرع الأحكام وجب عليه النص على من لا تتم الأحكام الشرعية إلا بنصبه لطفاً من الله ورحمة منه بعباده.
ولا يترك الاختيار للأمة؛ لأن الإمام خليفة الله أو لرسوله، وليس خليفة للأمة.
ثم إن ترك الإمامة لاختيار الناس يفضي إلى اختلاف الناس وانتشار الفتن وقيام التنازع والحروب والهرج والمرج، وكل ذلك فساد في الأرض، والله لا يحب الفساد.
وليس الاختيار مضمون النتائج، فقد يخطئ الناس في تعيين المستحق لهذا المنصب الخطير الذي هو نظير منصب النبوة لقيامه بحراسة شؤون الدين والدنيا؛ وذلك أن كل شخص سيختارحسب مصلحته الشخصية لا بمقتضى المصلحة الكلية والحكمة الإلهية، بل إنه لم يحدث أن قامت إمامة على الاختيار الحر والمشيئة المطلقة لجمهور المسلمين.
_________
(1) صبحي، المرجع السابق: ص 89 وما بعدها.

(8/6162)


يظهر من هذه الأدلة ونحوها أنها هي الانتقادات الموجهة للنظام الديمقراطي بوجه عام لقيامه على مبدأ سلطة الأمة وأحقيتها في اختيار الإمام. ولا شك أن ذلك صحيح، ولكن الفلاسقة السياسيين ما زالوا يحاولون إصلاح الخلل الواقع في النظام الديمقراطي، كما أن الفقهاء المسلمين وضعوا ضوابط وشروطاً دقيقة في المرشح للخلافة سأذكرها، وفيما الضمانة الغالبة من الوقوع في خطأ الاختيار.

الأدلة التاريخية:
إن اعتقاد الشيعة بضرورة النص على الإمام كان رد فعل لوقائع التاريخ التي صدمت أمانيهم (1)، وأدت إلى نكبة آل البيت التي تستثير عاطفة كل مسلم صادق بعيد عن التأثرات السياسية.
إنهم يفترضون أنه لا بد من أن يعين الرسول صلّى الله عليه وسلم خليفة من بعده، حتى لا تقع أمته في بحر من الفتن والاضطرابات والاختلافات التي أخبر عنها بقوله: «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة .. » (2) ولو جاء التاريخ والأحاديث المدونة بغير ذلك، وجب أن نتشكك في وقائع التاريخ وصحة الأحاديث، ونتهمها بالكتمان وتشويه الحقيقة.
وأما أهل الحل والعقد الذين يختارون الإمام فكانوا مرتع النزاع والخصام والخلاف، بسبب اعتقاد كل واحد أنه أحق بزعامة الأمة. والواقع ـ كما يرون ـ أنه لم تتم بيعة لإمام بالاختيار أو الشورى أو رضا الأمة، إذ عين عمر بالنص من أبي بكر، وعثمان بالشورى بين ستة حددهم عمر ثم صارت القضية بولاية العهد.
_________
(1) المرجع نفسه: ص 99 وما بعدها.
(2) رواه الطبراني في الكبير والبزار ورجاله رجال الصحيح عن عوف بن مالك بلفظ «تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة .. ».

(8/6163)


ولكن يلاحظ أن التاريخ لا تتقرر أحكامه بالافتراض، والاحتمال المنطقي، وإنما يعتمد الخبر والرواية والنظر في مدى صحتها وصدقها وتمحيص الوثائق المنقولة. وما اعتمد عليه الشيعة من أخبار ناتج عن الفكرة المسيطرة على أذهانهم سابقاً بوجوب النص، واستخلاف علي رضي الله عنه بالذات.
والخلاصة: أنه لم يثبت يقيناً نص صريح قطعي يدل على إمامة علي أو غيره، ولم يصح في ذلك شيء عند أحد من أئمة النقل (1).
وحبذا لو طوينا هذا الخلاف السياسي القديم بين أهل السنة والشيعة، وأنهينا كل ما خلفه من عصبيات موروثة وخلافات جانبية، وأدركنا جميعاً ضرورة الحفاظ على الوحدة الإسلامية، وحدة الصف أمام العدو الخارجي فقط، وأن الكل مسلمون، يعملون للإسلام دون تفرقة بين الطوائف؛ لأن الخلاف بينها ليس في الأصول قطعاً، وإنما في جوانب هي أقل من الفروع والجزئيات، ولا يصح أن نتحمل آثار ومخلفات الماضي السياسية، ولا أن تبقى سبباً للخلاف؛ لأن الدين واحد، والعقيدة واحدة، والدستور واحد واضح في القرآن والسنة، وخلاف الرجال لا يصح أن يشتت وحدة الأمة.

تعيين الإمام بولاية العهد أو الاستخلاف:
ولاية العهد: هي أن يعهد الإمام إلى شخص بعينه أو بواسطة تحديد صفات معينة فيه، ليخلفه بعد وفاته، سواء أكان قريباً أم غير قريب.
رأى الفقهاء جواز انعقاد الإمامة بولاية العهد أو بالإيصاء إذا توافرت في ولي العهد شروط الخلافة، وتمت له البيعة من الأمة. فهي إذن بمثابة ترشيح
_________
(1) مقدمة ابن خلدون: ص 168.

(8/6164)


واقتراح من الخليفة السابق. قال الماوردي (1): وأما انعقاد الإمامة بعهد من قبله، فهو مما انعقد الإجماع على جوازه، ووقع الاتفاق على صحته لأمرين عمل المسلمون بهما ولم يتناكروهما:
أحدهما ـ أن أبا بكر رضي الله عنه عهد بها إلى عمر رضي الله عنه، فأثبت المسلمون إمامته بعهده.
والثاني ـ أن عمر رضي الله عنه عهد بها إلى أهل الشورى فقبلت الجماعة دخولهم فيها، وهم أعيان العصر، اعتقاداً لصحة العهد بها.
وأما ضرورة توافر شروط الإمام الشرعي في ولي العهد فهو أمر بدهي مفروغ منه، ككونه أميناً ورعاً ثقة مخلصاً لله، ناصحاً للمسلمين. قال الماوردي (2): وإذا عهد الإمام بالخلافة إلى من يصح العهد إليه على الشروط المعتبرة، كان العهد موقوفاً على قبول المولى. وتعتبر شروط الإمامة في المولى من وقت العهد إليه، فإن كان صغيراً أو فاسقاً وقت العهد لم تصح خلافته حتى يستأنف أهل الاختيار بيعته.
ويتضح ذلك من حادثتي تولية أبي بكر لعمر، وتولية عمر لأهل الشورى، فقد كان معيار الاختيار هو الحرص على رعاية مصالح الأمة، وانتقاء المستوفي لشروط الإمامة.
وأما رضا الأمة بالمولَّى فهو أمر أساسي أيضاً كما سنعرف، وهو الرأي الذي قرره بعض علماء البصرة إذ قالوا: إن رضا أهل الاختيار لبيعته شرط في لزومها للأمة؛ لأنها حق يتعلق بهم، فلم تلزمهم إلا برضا أهل الاختيار منهم.
_________
(1) الأحكام السلطانية: ص 8.
(2) الأحكام السلطانية: ص 9.

(8/6165)


ولسنا مع الماوردي الذي صحح أن بيعته منعقدة وأن الرضا بها غير معتبر؛ لأن بيعة عمر رضي الله عنه لم تتوقف على رضا الصحابة (1)، وذلك لأن الإمام أو أهل الشورى كانوا يمثلون في اختيارهم الأمة، وقد تمت فعلاً بيعة عمر وعثمان رضي الله عنهما برضا الأمة وموافقتها.
يتضح من هذا أن الإمامة لا تورث، فإن جميع الفقهاء أجمعوا على أن الإمامة لا يصح أن تورث. قال ابن خلدون: «وأما أن يكون القصد بالعهد حفظ التراث على الأبناء، فليس من المقاصد الدينية، إذ هو أمر من الله يخص به من يشاء من عباده ينبغي أن تحسن فيه النية ما أمكن، خوفاً من العبث بالمناصب الدينية» (2) وقال ابن حزم: «ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أنه لا يجوز التوارث فيها» (3).

انعقاد الإمامة بالقهر والغلبة:
رأى فقهاء المذاهب الأربعة وغيرهم أن الإمامة تنعقد بالتغلب والقهر، إذ يصير المتغلب إماماً دون مبايعة أو استخلاف من الإمام السابق وإنما بالاستيلاء، وقد يكون مع التغلب المبايعة أيضاً فيما بعد (4).
قال ابن المنذر (5): والذي عليه أهل العلم أن للرجل أن يدفع عن دينه ودمه
_________
(1) المرجع السابق: ص 8.
(2) المقدمة، الفصل 30.
(3) الفصل في الملل والنحل: 167/ 4.
(4) حجة الله البالغة للدهلوي: 111/ 2، حاشية ابن عابدين: 319/ 3 ومابعدها، مغني المحتاج: 130/ 4 - 132، الأحكام السلطانية لأبي يعلى: ص 6 وما بعدها، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 298/ 4، غاية المنتهى: 348/ 3.
(5) تلخيص الحبير: 15/ 4، المغني: 638/ 7 وما بعدها.

(8/6166)


وماله وعرضه ومظلمته، إذا أريد ظلماً، بغير تفصيل، إلا أن كل من يحفظ عنه من علماء الحديث كالمجمعين على استثناء السلطان، للآثار الواردة بالأمر بالصبر على جوره، وترك القيام عليه.
وعبارة الحنفية في هذا الشأن هي كما قال الدهلوي: تنعقد الخلافة باستيلاء رجل جامع للشروط على الناس، وتسلطه عليهم كسائر الخلفاء بعد النبوة. ثم إن استولى من لم يجمع الشروط (أي المطلوبة لتولي الإمامة) لا ينبغي أن يبادر إلى المخالفة؛ لأن خلعه لا يتصور غالباً إلا بحروب ومضايقات، وفيها من المفسدة أشد مما يرجى من المصلحة. «وسئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عنهم، فقيل: أفلا ننابذهم؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وقال: إلا أن تروا كفراً بَوَاحاً، عندكم من الله فيه برهان (1)».
يظهر من هذا الكلام أن القهر حالة استثنائية غير متفقة مع الأصل الموجب لكون السلطة قائمة بالاختيار، وإقرارها فيه مراعاة لحال واقعة للضرورة ومنعاً من سفك الدماء.
وعبارة المالكية كما قال الدسوقي: اعلم أن الإمامة العظمى تثبت بأحد أمور ثلاثة:
إما بإيصاء الخليفة الأول المتأهل لها؛ وإما بالتغلب على الناس؛ لأن من اشتدت وطأته بالتغلب، وجبت طاعته، ولا يراعى في هذا شروط الإمامة؛ إذ المدار على درء المفاسد، وارتكاب أخف الضررين؛ وإما ببيعة أهل الحل والعقد: وهم من اجتمع فيهم ثلاثة أمور: العلم بشروط الإمام، والعدالة، والرأي.
_________
(1) ورد ذلك في رواية للبخاري من حديث رواه البخاري ومسلم والموطأ والنسائي عن عبادة بن الصامت (جامع الأصول: 165/ 1 - 166).

(8/6167)


وشروط الإمام: الحرية والعدالة والفطانة وكونه قرشياً، وكونه ذا نجدة وكفاية في المعضلات. وبيعة أهل الحل تكون بالحضور والمباشرة بصفقة اليد، وإشهاد الغائب منهم. ويكفي العامي اعتقاد أنه تحت أمره، فإن أضمر خلاف ذلك فسق، ودخل تحت قوله عليه الصلاة والسلام:
«من مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية» (1).
وقال ابن حجر (2): أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه، لما في ذلك من حقن الدماء، وتسكين الدهماء، ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح، فلا تجوز طاعته في ذلك، بل تجب مجاهدته لمن قدر عليه، لحديث البخاري عن عبادة: «إلا أن تروا كفراً بَواحاً عندكم من الله فيه برهان».

بيعة الخليفة:
أولاً ـ طريقة بيعة الخليفة: لقد أجمع المسلمون ما عدا الشيعة الإمامية على أن تعيين الخليفة يتم بالبيعة، أي الاختيار والاتفاق بين الأمة وشخص الخليفة، فهي عقد حقيقي من العقود التي تتم بإرادتين على أساس الرضا.
وهذه النظرية سبقت نظرية الفقيه الفرنسي جان جاك روسو الذي افترض أن أساس السلطة السياسية أو السيادة هو عقد اجتماعي بين الشعب والحاكم.
_________
(1) رواه مسلم في باب الإمارة.
(2) فتح الباري: 112/ 16.

(8/6168)


وسميت عملية التعاقد هذه (بيعة) تشبيهاً بفعل البائع والمشتري لأنهم كانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيداً للعهد (1).
قال الماوردي: فإذا اجتمع أهل العقد والحل للاختيار، تصفحوا أحوال أهل الإمامة الموجودة فيهم شروطها، فقدموا للبيعة منهم أكثرهم فضلاً، وأكملهم شروطاً، ومن يسرع الناس إلى طاعته، ولا يتوقفون عن بيعته (2).
وأهل الحل والعقد يمثلون الأمة في اختيارهم الخليفة (3)، باعتبار أن نصب الإمام من الفروض الكفائية على الأمة بمجموعها، وأن لها الحق في عزله حال فسقه. قال الرازي والإيجي وغيرهما: إن الأمة هي صاحبة الرئاسة العامة (4). وقال البغدادي: قال الجمهور الأعظم من أصحابنا (أي أهل السنة) ومن المعتزلة والخوارج والنجارية: إن طريق ثبوتها (أي الإمامة) الاختيار من الأمة (5).
وهذه يدلنا على أن الأمة هي مصدر السلطة التنفيذية؛ لأن حق التعيين والعزل ثابت لها.

ثانياً ـ من هم أهل الحل والعقد؟ أـ أهل الحل والعقد:
هم العلماء المختصون (أي المجتهدون) والرؤساء ووجوه الناس الذين يقومون باختيار الإمام نيابة عن الأمة. قال الماوردي: وإن لم يقم بها (أي الإمامة)
_________
(1) مقدمة ابن خلدون: ص 174، الفصل 29.
(2) الأحكام السلطانية: ص 5، حجة الله البالغة للدهلوي: 111/ 2.
(3) راجع النظريات السياسية للريس: ص 170.
(4) المواقف: 345/ 8.
(5) أصول الدين للبغدادي: ص 279.

(8/6169)


أحد، خرج من الناس فريقان: أحدهما ـ أهل الاختيار، حتى يختاروا إماماً للأمة. والثاني ـ أهل الإمامة حتى ينتصب أحدهم للإمامة، وليس على من عدا هذين الفريقين من الأمة في تأخير الإمامة حرج ولا مأثم (1).

ب ـ شروطهم:
يتحدد أولو الحل والعقد بالصفات أو الشروط المطلوبة فيهم، وهي كما ذكر الماوردي ثلاثة هي (2):
أولاً ـ العدالة الجامعة لشروطها. والعدالة: هي ملكة تحمل صاحبها على ملازمة التقوى والمروءة، والمراد بالتقوى: امتثال المأمورات الشرعية، واجتناب المنهيات الشرعية.
ثانياً ـ العلم الذي يتوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة على الشروط المعتبرة فيها.
ثالثاً ـ الرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو للإمامة أصلح، وبتدبير المصالح أقوى وأعرف.
وهذه الشروط يقرها المنطق وتمليها المصلحة، وتوجبها المدنية الحقة، ويفهم منها أن هذه الهيئة بمثابة مجلس الشيوخ في عرفنا الحاضر، على أن يكون أعضاؤه من ذوي الكفاءات العلمية، لا المالية المادية، أو الطبقية، أو كونهم من أهل المدينة لا الريف. لذا قال الماوردي: وليس لمن كان في بلد الإمام على غيره من أهل البلاد فضل مزية تقدم بها على غيره (3). ويلاحظ أن أهل الحل والعقد في السياسة
_________
(1) الأحكام السلطانية: ص 3 وما بعدها.
(2) المرجع السابق: ص 4.
(3) المرجع السابق: ص 4.

(8/6170)


لا يقتصر على (المجتهدين) الذي يتولون مهمة استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها، وإنما يشمل فئات أخرى لها ميزاتها في المجتمع.

جـ ـ عددهم:
لا نرى مجالاً صحيحاً للكلام في تحديد عدد أهل الحل والعقد؛ لأن المعول عليه هو ثقة الأمة بهم، وكونهم يمثلون الأمة فيما ترغب وتريد وتتوافرفيهم شروط معينة، فلا يمكن تحديدهم. لكن لمجرد العلم والاطلاع أذكر ما قاله الفقهاء في هذا الشأن، وقد استعرض الماوردي آراءهم، فقال (1): اختلف العلماء في عدد من تنعقد به الإمامة منهم، على مذاهب شتى:
1 - قالت طائفة: لا تنعقد إلا بجمهور أهل العقد والحل من كل بلد ليكون الرضاء به عاماً، والتسليم لإمامته إجماعاً، وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر رضي الله عنه على الخلافة باختيار من حضرها، ولم ينتظر ببيعته قدوم غائب عنها.
2 - وقالت طائفة أخرى: أقل من تنعقد به منهم الإمامة خمسة يجتمعون على عقدها، أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة استدلالاً بأمرين:
أحدهما ـ أن بيعة أبي بكر رضي الله عنه انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها، ثم تابعهم الناس فيها، وهم عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح، وأسيد بن حضير، وبشر بن سعد، وسالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهم.
والثاني ـ أن عمر رضي الله عنه جعل الشورى في ستة ليعقد لأحدهم برضا الخمسة.
_________
(1) الأحكام السلطانية: ص 4 وما بعدها.

(8/6171)


وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل البصرة.
3 - وقال آخرون من علماء الكوفة: تنعقد بثلاثة يتولاها أحدهم برضا الاثنين ليكونوا حاكماً وشاهدين، كما يصح عقد النكاح بولي وشاهدين.
4 - وقالت طائفة أخرى: تنعقد بواحد؛ لأن العباس قال لعلي رضوان الله عليهما: امدد يدك أبايعك، فيقول الناس: عم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بايع ابن عمه، فلا يختلف عليك اثنان؛ ولأنه (أي إىجاب العقد) حكم، وحكم واحد نافذ.

د ـ موافقة الأمة:
الحقيقة أنه لا دليل من نص أو إجماع على ما قال هؤلاء جميعاً في تحديد العدد، والقضية مجرد اجتهاد، فيعتبر مذهب أهل السنة هو أولى الآراء بالاتباع، وهوأن تحديد العدد فيه تعسف. وينبغي مراعاة مبدأ الاختيار والشورى من الأمة، ومثل هذه الأمور العامة لا تقاس على أحكام القضاة الخاصة في قضية معينة. فإذا عقد البيعة شخص واحد لا تنعقد حتى تتم موافقة الأمة ورضاها. قال الغزالي في بيعة أبي بكر رضي الله عنه: ولو لم يبايعه غيرعمر، وبقي كافة الخلق مخالفين أو انقسموا انقساماً متكافئاً لا يتميز فيه غالب عن مغلوب، لما انعقدت الإمامة (1).
وقال الإمام أحمد في تفسير: «من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية»: أتدري ما الإمام؟ الإمام الذي يجمع عليه المسلمون، كلهم يقول: هذا إمام، فهذا معناه (2). وقال ابن تيمية في مبايعة أبي بكر: «لو قدر أن عمر وطائفة معه بايعوه، وامتنع سائر الصحابة عن البيعة، لم يصر إماماً بذلك، وإنما صار إماماً بمبايعة جمهور الصحابة الذين هم أهل القدرة والشوكة» (3).
_________
(1) الرد على الباطنية: ص 64 وما بعدها.
(2) منهاج السنة النبوية لابن تيمية: 142/ 1، ط بولاق.
(3) المرجع السابق: 141/ 1.

(8/6172)


هـ ـ وظيفة أهل الحل والعقد:
يتبين مما ذكر أن مهمة هؤلاء مقصورة على الترشيح والترجيح على وفق المصلحة والعدل. وقد حدد الماوردي ضوابط الاختيار، فقال (1): فإذا اجتمع أهل العقد والحل للاختيار، تصفحوا أحوال أهل الإمامة الموجودة فيهم شروطها، فقدموا للبيعة منهم أكثرهم فضلاً، وأكملهم شروطاً، ومن يسرع الناس إلى طاعته، ولا يتوقفون عن بيعته، فإذا تعين لهم من بين الجماعة من أداهم الاجتهاد إلى اختياره، عرضوها عليه، فإن أجاب إليها بايعوه عليها وانعقدت ببيعتهم له الإمامة، فلزم كافة الأمة الدخول في بيعته والانقياد لطاعته. وإن امتنع من الإمامة ولم يجب إليها لم يجبر عليها؛ لأنها عقد مراضاة واختيار، لا يدخله إكراه ولا إجبار، وعدل عنه إلى سواه من مستحقيها.
ثم بين الماوردي صعوبة مهمة أهل الاختيار عند تكافؤ المرشحين، فوضع لهم الضوابط التي يتمكنون بها من إنجاح مهمتهم، فقال: فلو تكافأ في شروط الإمامة اثنان قدم لها اختياراً أسنهما، وإن لم تكن زيادة السن مع كمال البلوغ شرطاً، فإن بويع أصغرهما سناً جاز. ولو كان أحدهما أعلم والآخر أشجع روعي في الاختيار ما يوجبه حكم الوقت. فإن كانت الحاجة إلى فضل الشجاعة أدعى لانتشار الثغور وظهور البغاة، كان الأشجع أحق. وإن كانت الحاجة إلى فضل العلم أدعى لسكون الدهماء، وظهور أهل البدع، كان الأعلم أحق.

ثالثاً ـ طريقة اختيار الخلفاء الراشدين: أذكر بإيجاز طريقة اختيار الخلفاء الأربعة الراشدين لتوكيد أن البيعة من الأمة
_________
(1) الأحكام السلطانية: ص 5.

(8/6173)


هي أساس التعيين، لا النص، ولا العهد، ولا الغلبة، ولا الوراثة ونحوها. علماً بأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يبين للناس كيفية اختيار الخليفة ولم ينص على خليفة معين، وفي ذلك حكمة بالغة، هي ترك المجال مفتوحاً لإرادة الأمة تفعل ما يحقق المصلحة دون تحديد لشكل الحكم وأساليب التعيين، وإنما تتصرف بكامل حريتها وفقاً لما يتناسب مع كل زمان ومكان؛ لأن المهم هو قيام الحاكم بواجباته أو وظائفه الدينية والدنيوية معاً في ظل من رقابة الأمة، حتى لا يعتقد أحد من الحكام باستمداد سلطانه من الله، أوأنه في مرتبة النبي الذي لا يعارض قوله أو فعله أو حكمه.

1 - أبو بكر الصديق:
لقد تم انتخاب أبي بكر الخليفة الأول بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أحدث صورة لمؤتمر سياسي جرى فيه نقاش حاد بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة عقب وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلم وقبل دفنه، وكان قصدهم من النقاش هو تحقيق مصلحة الإسلام وخير المسلمين. وكان عمر هو أول من رشح أبا بكر رضي الله عنه، ووافقه أهل العقد والحل، وبايعه المسلمون جميعاً، من وافق منهم أو خالف في أثناء النقاش (1). حتى إن علياً كرم الله وجهه الذي انتابه مرض بسبب وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم بايع أبا بكر بعد برئه.

2 - عمر بن الخطاب:
كان اختيار عمر رضي الله عنه بترشيح من أبي بكر في صورة عهد إلى المسلمين، بعد استشارة أهل الحل والعقد، ثم بايعه المسلمون ورضوا به. فعندما
_________
(1) انظر سجل الجلسة في تاريخ الطبري: 199/ 3، وفي طبقات ابن سعد: 179/ 3، وصحيح البخاري: 7/ 5.

(8/6174)


أحس أبو بكر بدنو أجله، طلب من الناس أن يؤمّروا عليهم واحداً في حال حياته، حتى لا يختلفوا بعده، خشية على المسلمين من التفرق بعد أن بدؤوا الحرب مع فارس والروم، فردوا الأمر إليه في أن يختار لهم من يرى فيه الخير ولهم وللدين. فاستمهل ثم بدأ مشاوراته مع كبار الصحابة وأهل الرأي، سائلاً الواحد تلو الآخر في ترشيح عمر، وكان من أشهر من استدعاهم عثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد وأسيد بن الخضير وغيرهم من المهاجرين والأنصار، فأثنوا عليه خيراً، وتخوف بعضهم وهو ابن عوف من شدته (غلظته)، فأجابه أبو بكر بقوله: ذلك لأنه يراني رقيقاً، ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيراً مما هو عليه. وبعد أن أتم أبو بكر مشاوراته، أملى على عثمان عهده إلى المسلمين، ثم أشرف على الناس وزوجته أسماء بنت عميس تمسكه، فقال: أترضون بمن استخلفت عليكم، فإني والله ما ألوت من جهد الرأي، ولا وليت ذا قرابة؟! وإني قد استخلفت عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا، فقالوا: سمعنا وأطعنا.
ثم أمر أبو بكر عثمان بتبليغ الناس وأخذ البيعة، فذهب ومعه عمر وأسيد بن سعيد القرظي، فقال عثمان للناس: أتبايعون لمن في هذا الكتاب (أي لعمر)؟ فقالوا: نعم. وبعد تمام البيعة بايعه أبو بكر معلناً أنه لم يرد إلا صلاح المسلمين وإبعادهم عن الفتنة، وأوصاه بما هو خير (1).

3 - عثمان بن عفان:
يبدو لنا في صورة اختيار عثمان مظهر الشورى بشكل أوضح، إذ أن عمر رضي الله عنه وهو صحيح حدد لجنة الشورى في ستة: وهم (2) علي والزبير بن
_________
(1) راجع طبقات ابن سعد: 122/ 3، 200، تاريخ الطبري: 51/ 4 - 54.
(2) تاريخ الإسلام السياسي للدكتور حسن إبراهيم: 254/ 1 وما بعدها.

(8/6175)


العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد ابن أبي وقاص. وعين لهم مدة ثلاثة أيام للاختيار، ورسم لهم خطة المشاورة، بالأخذ برأي الأكثرية، فإن تساووا يرجح الجانب الذي فيه عبد الله بن عمر، أي في حالة تساوي الأصوات، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر، فليكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف. وأمر بضرب عنق من خالف بعدئذ. وخلف على أصحاب الشورى أبا طلحة في خمسين من قومه من الأنصار، في ألا يتركهم يمضي اليوم الثالث حتى يؤمروا أحدهم، وقال له عمر قبل موته بساعة: اللهم أنت خليفتي عليهم.
وقام أهل الشورى هؤلاء بإجراء مشاورات طوال الأيام الثلاثة ليلاً نهاراً، وكان عبد الرحمن ـ الذي خلع نفسه من الخلافة ـ يلقى أصحاب رسول الله، ومن وافى المدينة من أمراء الأجناد وأشراف الناس، يشاورهم، فوجد الناس يجمعون على أحد اثنين: عثمان أو علي. إلا أن أكثرية أهل الشورى والمسلمين رغبوا بعثمان لما عرفوا فيه من لين ورحمة وأفضال على الناس بتجهيز جيش العسرة من ماله وشراء بئر رومة وجعله سبيلاً للمسلمين يسقون منه. ثم جمع عبد الرحمن المسلمين في المسجد، واستوثق من عثمان وعلي بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين الراشدين من قبله بالعدل والإنصاف، ثم بايع (أي عبد الرحمن) عثمان رضي الله عنه وتابعه المسلمون بالمبايعة، وفيهم علي بن أبي طالب بعد أن تأخر عن المبايعة بسبب مرضه.
ولم تكن مبايعة عبد الرحمن محاباة ولا ظلماً كما قد ظن بعض الناس، وإنما كانت تعبيراً أميناً صادقاً عن آراء الأمة ومشاوراته الليالي والأيام مع أكابرها

(8/6176)


ومتقدميها. مع ما عرف من فضله ونبله وسابقته في الإسلام وعلمه وزهده في الخلافة وشدة خوفه وحذره وعظيم مناصحته للأمة، كما أبان الباقلاني (1).

4 - علي بن أبي طالب:
لقد ترتب على الفتنة الكبرى بمقتل عثمان رضي الله عنه ووقوع الفوضى بالمدينة أحداث خطيرة في تاريخ الإسلام أثَّرت في خلافة علي رضي الله عنه تأثيراً بالغاً منذ بداية عهده بها. فلم يتوافر له الاتفاق أو الإجماع الشامل الذي حظي به الخلفاء السابقون. فبايعه كبار المهاجرين والأنصار في المدينة وأهل الأمصار والمصريون، ولم يبايعه أهل الشام وبنو أمية بزعامة معاوية بن أبي سفيان، ونقل عن طلحة والزبير أنهما بايعاه مكرهين، ثم خرجا من المدينة إلى مكة ثم إلى البصرة مع عائشة مطالبين بدم عثمان رحمه الله، فقاتلهما علي كرم الله وجهه يوم الجمل، وقتلا في هذه المعركة. ولكن بالرغم من أن سيدنا علي كرم الله وجهه قد استنكر قتل عثمان، ولزم بيته، أصرالمهاجرون والأنصار على بيعته حسماً للفتنة وصيانة لدار الهجرة، فطلب حينئذ منهم عقدها في المسجد علانية وعن رضا المسلمين، ورضي في ذلك بعد شدة، وبعد أن رآه مصلحة (2).
والخلاصة: إن اختيار الخليفة يتم أساساً ببيعة أكثر المسلمين العامة، بعد ترشيح أولي النظر والرأي أو أهل الحل والعقد، عملاً بمبدأ الشورى قاعدة الحكم في الإسلام: {وأمرهم شورى بينهم} [الشورى:42/ 38]. وأما العهد السابق من الخليفة فلا يعدو أن يكون مجرد ترشيح لا أثر له إذا لم تنضم إليه البيعة
_________
(1) راجع التمهيد للباقلاني: ص 208 وما بعدها، صحيح البخاري: 78/ 9، تاريخ الطبري: 13/ 5، 34 - 41، طبقات ابن سعد: 61/ 3.
(2) انظر التمهيد: ص 227 وما بعدها، ابن سعد: 31/ 3 وما بعدها، الطبري: 152/ 5 ومابعدها.

(8/6177)


العامة (1). وهذا ماكان يفعله الناس في عهد الراشدين ومن بعدهم من خلفاء الأمويين. لكن باستثناء خلافة عمر بن عبد العزيز (2) رحمه الله، برزت صفة وراثة الحكم التي ابتكرها معاوية، واستمرت سنَّة متبعة دون مراعاة الشروط المطلوبة شرعاً في الخليفة أحياناً، وحرصاً على الحفاظ على وحدة المسلمين، واستمرار الفتوح، وبقاء الدولة قوية في وجه أعداء الإسلام.

المبحث الرابع ـ شروط الإمام:
اشترط العلماء في المرشح للخلافة أو الوزراة وفي أثناء عمله شروطاً سبعة هي (3):

أولاً ـ أن يكون ذا ولاية تامة بأن يكون مسلماً، حراً، ذكراً، بالغاً، عاقلاً.
أما اشتراط الإسلام فلأنه يقوم بحراسة الدين والدنيا، وإذا كان الإسلام شرطاً في جواز الشهادة، فهو شرط في كل ولاية عامة، لقوله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} [النساء:141/ 4].
وأما اشتراط الحرية فلأنه وصف كمال، فلا يعقل أن يكون صاحب الولاية
_________
(1) راجع نظام الحكم في الإسلام لأستاذنا الدكتور محمد يوسف موسى: ص 118 وما بعدها، النظريات السياسية الإسلامية للدكتور ضياء الدين الريس: ص 194.
(2) خلع عمر نفسه بعد أن قرئ كتاب العهد له من سليمان بن عبد الملك على الناس، فصعد المنبر وقال: «إني والله ما استؤمرت في هذا الأمر، وأنتم بالخيار» وفي رواية أخرى: «أيها الناس، إني قد ابتليت بهذا الأمر من غير رأي مني ولا طلبة له ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم». ونظراً لهذا الموقف المشرف، وبسبب عدالته في الحكم كان خامس الخلفاء الراشدين.
(3) حجة الله البالغة للدهلوي: 111/ 2، الأحكام السلطانية للماوردي: ص 4.

(8/6178)


أدنى رتبة من المولى عليهم. قال الماوردي: تشترط الحرية؛ لأن نقص العبد عن ولاية نفسه يمنع من انعقاد ولايته على غيره، ولأن الرق لما منع من قبول الشهادة، كان أولى أن يمنع من نفوذ الحكم وانعقاد الولاية (1).
وأما الذكورة فلأن عبء المنصب يتطلب قدرة كبيرة لا تتحملها المرأة عادة، ولا تتحمل المسؤولية المترتبة على هذه الوظيفة في السلم والحرب والظروف الخطيرة، قال صلّى الله عليه وسلم: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» (2) لذا أجمع الفقهاء على كون الإمام ذكراً.
وأما البلوغ فأمر بدهي؛ لأن الصبي ليس كفئاً لمثل هذه المهام الكبرى، فهو غير مسؤول عن أفعاله، ولا يتعلق بفعله حكم معين (3).
وأما العقل فمطلوب لصحة كل تصرف خاص أوعام. ولا يكفي فيه الحد الأدنى للمطالبة بالتكاليف الشرعية من صلاة وصيام ونحوهما، بل لا بد فيه من رجحان الرأي، بأن يكون صاحبه صحيح التمييز، جيد الفطنة بعيداً عن السهو والغفلة، يتوصل بذكائه إلى إيضاح ما أشكل وفصل ما أعضل، كما قال الماوردي (4).

ثانياً ـ العدالة: أي الديانة والأخلاق الفاضلة، وهي معتبرة في كل ولاية، وهي أن يكون صادق اللهجة، ظاهر الأمانة، عفيفاً عن المحارم، متوقياً المآثم، بعيداً من الريب، مأموناً في الرضا والغضب، مستعملاً لمروءة مثله في دينه ودنياه،
_________
(1) الأحكام السلطانية: ص 61.
(2) رواه البخاري وأحمد والنسائي والترمذي وصححه عن أبي بكرة، وقد سبق تخريجه في بحث القضاء.
(3) المرجع السابق: الفصل في الملل والنحل لابن حزم: 110/ 4.
(4) المرجع السابق.

(8/6179)


كما قال الماوردي (1). وفي الجملة: هي التزام الواجبات الشرعية، والامتناع عن المنكرات والمعاصي المحرمة في الدين.

ثالثاً ـ الكفاية العلمية بأن يكون لديه من العلم ما يؤدي به إلى الاجتهاد فيما يطرأ من نوازل وأحداث، أو يستنبط من أحكام شرعية وغيرها من أحوال السياسة الشرعية. وهذا الشرط متفق عليه بين العلماء (2). ولا يكون العالم مجتهداً إلا إذا علم الأحكام الشرعية وكيفية استنباطها من مصادرها الشرعية الأربعة: وهي القرآن والسنة والإجماع والقياس. وأن يعرف أحوال العصر وما طرأ عليه من تغيرات وتطورات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية.
رابعاً ـ حصافة الرأي في القضايا السياسية والحربية والإدارية، قال الماوردي: الرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح (3)، وتابعه في هذا العلماء معبرين عن هذا الشرط بما يفيد الخبرة الكافية بشؤون الناس وأمور البلاد وحاجات الحكم والسياسة (4).
خامساً ـ صلابة الصفات الشخصية: بأن يتميز بالجرأة والشجاعة والنجدة المؤدية إلى حماية البيضة (الوطن) وجهاد العدو، وإقامة الحدود، وإنصاف المظلوم من الظالم، وتنفيذ الأحكام الإسلامية (5).
_________
(1) المرجع السابق: ص 62.
(2) المرجع السابق: ص 4، 62، الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد لإمام الحرمين: ص426، الرد على الباطنية للغزالي: ص 75.
(3) الأحكام السلطانية: ص 4.
(4) أصول الدين للبغدادي: ص 277، المواقف للإيجي: 349/ 8، مقدمة ابن خلدون: ص 161، الفصل 26، ط المهدي.
(5) المراجع السابقة، العقائد النسفية: ص 145.

(8/6180)


سادساً ـ الكفاية الجسدية: وهي سلامة الحواس من السمع والبصر واللسان ليصح معها مباشرة ما يدرك بها. وسلامة الأعضاء من نقص يمنع عن استيفاء الحركة وسرعة النهوض (1).
فإن طرأ نقص على بدن الإمام مما يخل بهذا الشرط، فقد بحث الماوردي ـ مؤسس القانون الدستوري والإداري في الإسلام أثر ذلك على استدامة الإمامة مما لا نجد له مثيلاً عند غيره، فقال: ينقسم النقص ثلاثة أقسام (2):
أحدها ـ نقص الحواس. والثاني ـ نقص الأعضاء. والثالث ـ نقص التصرف.
أـ فأما نقص الحواس فينقسم ثلاثة أقسام: قسم يمنع من الإمامة، وقسم لا يمنع، وقسم مختلف فيه: فأما القسم المانع منها فشيئان: أحدهما ـ زوال العقل، والثاني ـ ذهاب البصر. وأما القسم الثاني من الحواس التي لا يؤثر فقدها في الإمامة فشيئان أحدهما ـ الخشم في الأنف الذي لا يدرك به شم الروائح. والثاني ـ فقد الذوق الذي يفرق به بين الطعوم، فلا يؤثر هذ في عقد الإمامة؛ لأنهما يؤثران في اللذة، ولا يؤثران في الرأي والعمل.
وأما القسم الثالث من الحواس المختلف فيه فشيئان: الصمم والخرس: فيمنعان من ابتداء عقد الإمامة؛ لأن كمال الأوصاف بوجودهما مفقود. واختلف في الخروج بهما من الإمامة، فقالت طائفة: يخرج بهما منها، كما يخرج بذهاب البصر لتأثيرهما في التدبير والعمل، وهو أصح المذاهب.
وقالت طائفة: لا يخرج بهما من الإمامة لقيام الإشارة مقامهما.
_________
(1) المراجع السابقة.
(2) انظر التفصيل في الأحكام السلطانية: ص 16 - 19، مقدمة ابن خلدون: الفصل 26، ص161.

(8/6181)


وقال آخرون: إن كان يحسن الكتابة لم يخرج بهما من الإمامة، وإن كان لا يحسنها خرج من الإمامة بهما؛ لأن الكتابة مفهومة، والإشارة موهومة.
ب ـ وأما فقد الأعضاء فينقسم أربعة أقسام:
أحدها ـ ما لا يؤثر على الترشيح للإمامة ولا على استدامتها: وهو ما لا يؤثر فقده في رأي ولا عمل ولا نهوض ولا يشين في المنظر، مثل قطع الذكر والأنثيين وقطع الأذنين.
الثاني ـ ما يمنع من عقد الإمامة ومن استدامتها: وهو ما يمنع من العمل كذهاب اليدين، أو من النهوض كذهاب الرجلين.
الثالث ـ ما يمنع من عقد الإمامة، واختلف في أثره على استدامتها: وهو ما ذهب به بعض العمل أو فقد به بعض النهوض كذهاب إحدى اليدين أو إحدى الرِّجلين، فذلك يمنع الترشيح للإمامة. وأما استدامتها ففي إنهاء ولايته مذهبان: أحدهما: تنتهي إمامته، والثاني لا تنتهي.
الرابع ـ ما لا يمنع من استدامة الإمامة، واختلف في أثره على صلاحية الترشيح، وهو ما يؤدي إلى تشويه الجسد، ولكن لا يؤثر في عمل ولا في نهضة كجدع الأنف وسمل إحدى العينين. فذلك لا يؤثر على بقائه في الإمامة. واختلف في منعه من الترشيح لها على مذهبين: أحدهما يمنع، والآخر لا يمنع.
جـ ـ وأما نقص التصرف فنوعان: حجر وقهر.
فأما الحجر: فهو أن يستولي عليه من أعوانه من يستبد بتنفيذ الأمور من غير تظاهر بمعصية ولا مجاهرة بمشاقة، فلا يمنع صحة ولايته، ولكن ينظر في أفعال المتسلط على أموره، فإن وافقت أحكام الشرع والعدل أقر عليها، وإن خالفت أحكام الدين ومقتضى العدل، لم يقر عليها ووجب تنحية المتسلط.

(8/6182)


وأما القهر: فهو أن يصير مأسوراً في يد عدو قاهر لا يقدر على الخلاص منه، فيمنع ذلك من ترشيحه للخلافة. فإن أسر بعد انعقاد الإمامة له، وجب على كافة الأمة استنقاذه من الأسر، ولا يخلع من الإمامة إلا إذ يئس المسلمون من استخلاصه من الأسر.

سابعاً ـ النسب وهو أن يكون المرشح للخلافة من قريش، وهذا الشرط مختلف فيه (1)، أما الشروط السابقة فمتفق عليها في الجملة.
فقال أهل السنة: يجب كونه من قريش لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «الأئمة من قريش» «قدموا قريشاً ولاتقدموها» «لا يزال هذا الأمر في هذا الحي من قريش ما استقاموا» أو «ما أقاموا الدين» (2).
وقال الخوارج، والمعتزلة بعدهم: إن الإمامة حق لكل مسلم متى استكمل الشروط الأخرى.
ولكن يلاحظ أن الفقهاء الشرعيين الذين نظروا إلى شرط النسب في الإمامة، وفي بعض الأحكام الخاصة كالكفاءة بين الزوجين في الزواج، لا يتنافى رأيهم مع مبدأ المساواة المقرر في الإسلام بين الناس؛ لأن المساواة مطلوبة فيما ثبت للأفراد من الحقوق أو كلفوا به من الواجبات. وقضية الإمامة والكفاءة روعي فيها
_________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 4، مقدمة ابن خلدون: ص 162، الفصل 26، الملل والنحل للشهرستاني: 199/ 1، أصول الدين للبغدادي: ص 275، المواقف: 392/ 8.
(2) حديث «الأئمة من قريش» رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني عن بكير بن وهب، وأخرج مسلم عن جابر: «الناس تبع لقريش في الخير والشر» وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة: «الناس تبع لقريش في هذا الشأن، مسلمهم لمسلمهم، وكافرهم لكافرهم» وروى الطبراني عن علي: «قدموا قريشاً ولا تقدموها» وروى الطبراني عن ثوبان «استقيموا لقريش ما استقاموا لكم ... » (مجمع الزوائد: 228/ 5، الترغيب والترهيب: 170/ 3).

(8/6183)


عرف الناس وعاداتهم وتوفير المصلحة التي لا يعقبها نزاع، وكون الحق فيها مقصوراً على من حددهم الشرع لحكمة معينة (1).
وبما أن قريشاً كانت لها الصدارة بين العرب، وتألف شؤون المدنية والاجتماع ويتبعها أكثر الناس، وكلمتها نافذة بين القبائل منذ الجاهلية، فمن المصلحة إناطة الأمر العام والسياسة بها، فإذا تغير الأمر وأصبحت الغلبة لمن ترضى عنه أكثرية الناس بالانتخاب ونحوه، فلا مانع في تقديري من عقد الإمامة له، كالخلافة العثمانية ونحوها.
ومن هنا رأى ابن خلدون أن الحكمة في اختصاص قريش بهذه الميزة هي كونها صاحبة العصبية التي تكون بها الحماية والمطالبة، ويرتفع الخلاف والفرقة بوجودها لصاحب المنصب، فتسكن إلىه الملة وأهلها، وينتظم حبل الألفة فيها.
وعقب الدكتور ضياء الدين الريس وغيره على ذلك بأن الإسلام لما لم يقر فكرة العصبية كغاية في التشريع أو كأساس في تكوين المجتمعات، فإن المعول عليه توفير القوة والطاعة، وبما أن ذلك لم يعد يعتمد على العصبية كما كان في الماضي، بل أصبح مستمداً من نظام الدولة وما تملك من جيوش، فإن هذا الشرط لم يعد ضرورياً، ويكفي أن يختار الخليفة بالطريقة المشروعة، وأن يحوز رضا المسلمين.
ويلزم من هذا أن يكون الشرط الآن هو أن القائم بأمور المسلمين يجب أن يكون متبوعاً من الكثرة الغالبة، ليكون مطاعاً مرضياً عنه، ذا قوة مستمدة من الإرادة العامة، فيترتب على وجوده حصول الوحدة، وتنتفى دواعي الخلاف (2).
_________
(1) قارن النظريات السياسية الإسلامية للدكتور الريس: ص 254، حيث اعتبر شرط النسب منافياً لمبدأ المساواة المقرر في الآيات والأحاديث النبوية.
(2) النظريات السياسية، المرجع السابق: ص 257، السلطات الثلاثة للدكتور سليمان الطماوي: ص259 وما بعدها.

(8/6184)


ولا يجوز تعدد الإمام في وقت واحد، لأن ذلك يؤدي لتفريق المسلمين في أقطارهم وبلدانهم، والواجب حفاظهم على وحدتهم الدولية، أما تعدد الدول الإسلامية الآن، فهو واقع اقتضته ظروف المجتمع الدولي الإقليمي، ويمكن تحقيق الوحدة بينهم في السياسة والاقتصاد والجيش والتمثيل الخارجي.

المبحث الخامس ـ وظائف الإمام (أو واجباته واختصاصاته) حدد الفقهاء واجبات الإمام أو ظائفه بعشرة أمور أساسية، يمكن أن يتفرع عنها عدة اختصاصات أخرى بحسب تغير الظروف والأوضاع والتطورات الحادثة (1)، ويمكن تصنيفها أو قسمتها إلى وظائف دينية ووظائف سياسية.
الوظائف الدينية وهي أربعة:
أولاً ـ حفظ الدين: أي المحافظة على أحكامه وحماية حدوده وعقاب مخالفيه. قال الماوردي: «حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف الأمة. فإن نجم مبتدع، أو زاغ ذو شبهة عنه، أوضح له الحجة، وبين له الصواب، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود، ليكون الدين محروساً من خلل، والأمة ممنوعة من زلل».
ثانياً ـ جهاد الأعداء: أي قتال من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم، أو يدخل في الذمة، ليقام بحق الله تعالى في إظهاره على الدين كله. وهذا مشروط بوجود قوة للمسلمين ووجود عدوان على دعاة الإسلام أو بلاده، كما سيبين في بحث الإسلام والحرب.
_________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 14، ولأبي يعلى: ص 11، حجة الله البالغة للدهلوي: 132/ 2، غاية المنتهى: 349/ 3.

(8/6185)


ثالثاً ـ جباية الفيء والصدقات (1). والمقصود بالفيء والغنائم: الأموال التي تصل إلى المسلمين من المشركين أو كانوا سبب وصولها. وأما الصدقات فهي الأموال الواجبة على المسلمين نصاً كالزكاة، واجتهاداً كالأموال المفروضة على الأغنياء إذا خلا بيت المال، واحتاجت الدولة لتجهيز الجيش ونحوه من المصالح العامة.
رابعاً ـ القيام على شعائر الدين من أذان وإقامة صلاة الجمعة والجماعة والأعياد، وصيام، وحج، فبالنسبة للصلاة يعين الخليفة الإمام والمؤذن، ويصون المساجد ويرعاها، ويؤم الناس في الصلاة الجامعة إذا حضر، ويشرف على توقيت الصيام بدءاً ونهاية، ويعاقب من يعلن الإفطار دون عذر مقبول، وييسر أداء فريضة الحج بتعيين ولاة للسهر على أداء هذا الواجب، والولاية على الحج لتسيير الحجيج وإقامتهم (2).

الوظائف السياسية: بما أن الخليفة كان يجمع أحياناً بين السلطتين التنفيذية والقضائية، فإن وظائفه السياسية كانت تشمل التنفيذ والقضاء. أورد الماوردي ستة منها تعد في الحقيقة على سبيل المثال لا على سبيل الحصر، وهي (3):
_________
(1) ذكر الماوردي: ص 121 في المرجع السابق فروقاً أربعة بين أموال الفيء والغنائم وبين الصدقات: أحدها ـ أن الصدقات مأخوذة من المسلمين تطهيراً لهم، والفيء والغنيمة مأخوذان من الكفار انتقاماً منهم. والثاني ـ أن مصرف الصدقات منصوص عليه في القرآن ليس فيه اجتهاد. والفيء والغنيمة يصرفان بحسب اجتهاد الأئمة. والثالث ـ أن أموال الصدقات يجوز أن ينفرد أصحابها بقسمتها في أهلها، ولا يجوز ذلك لأهل الفيء والغنيمة. والرابع ـ اختلاف المصرف: فالصدقات تصرف للأصناف الثمانية في القرآن. والأموال الأخرى تصرف في سبيل المصالح العامة. ويلاحظ أن الفيء: هو كل مال وصل من المشركين عفواً من غير قتال. والغنيمة: ما وصل إلينا من أموال المشركين عنوة وبقتال.
(2) الأحكام السلطانية: ص 96، 103.
(3) الأحكام السلطانية للماوردي: ص14، والسلطات الثلاث للطماوي: ص278 ومابعدها.

(8/6186)


أولاً ـ المحافظة على الأمن والنظام العام في الدولة. عبر الماوردي عن ذلك بقوله: حماية البيضة (الوطن) والذب عن الحريم (الحرمات) ليتصرف الناس في المعايش، وينتشروا في الأسفار آمنين عن تغرير بنفس أو مال، وهذا ما يقوم به الشرطة الآن.
ثانياً ـ الدفاع عن الدولة في مواجهة الأعداء: وعبر عنه الماوردي بقوله: تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة، حتى لا تظهر الأعداء بغرة ينتهكون فيها محرماً، أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دماً.
ثالثاً ـ الإشراف على الأمور العامة بنفسه. قال الماوردي: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال، لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولا يعول على التفويض تشاغلاً بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين ويغش الناصح.
رابعاً ـ إقامة العدل بين الناس، وذلك على النحو التالي:
أـ تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بين المتنازعين حتى تعم التصفية، فلا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم.
ب ـ إقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاء، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك.
خامساً ـ إدارة المال: بتقدير العطايا وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقتير، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير.
سادساً ـ تعيين الموظفين: وعبر الماوردي عن الواجب بقوله: استكفاء الأمناء، وتقليد النصحاء فيما يفوضه إلىهم من الأعمال، ويكله إليهم من الأموال، لتكون الأعمال بالأكفاء مضبوطة، والأموال بالأمناء محفوظة.

(8/6187)


فإن طرأ طارئ اتخذ الخليفة من التدابير مايحقق سعادة الأمة بشرطين:
الأول ـ ألا يخالف نصاً صريحاً ورد في القرآن أو السنة أو الإجماع.
الثاني ـ أن تتفق التدابير مع روح الشريعة ومقاصدها العامة، على وفق ما بينه علماء أصول الفقه، بالحفاظ على الأصول الكلية الخمسة وتوابعها: وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال (1).

المبحث السادس ـ انتهاء ولاية الحاكم:
تنتهي ولاية الحاكم أو الخليفة بأحد أمور ثلاثة وهي (2):
أولاً ـ الموت: وهذا أمر طبيعي لزوال الولاية؛ لأن مدة استخلافه مؤقتة بمدة حياته. ولا يحق له توريث ولايته لأحد، وإنما الحق في التولية لأهل الاختيار، ويرى الدكتور السنهوري أن روح النظام الإسلامي لا تتنافى إطلاقاً مع توقيت الخلافة بمدة زمنية محدودة، إذا ما تضمن عقد الخلافة ذلك (3).
ثانياً ـ خلع الخليفة نفسه: وهذا حق شخصي للخليفة، حتى لا يكون مكرهاً على البقاء في منصبه بالرغم من إرادته، قال الماوردي: وإذا خلع الخليفة نفسه انتقلت إلى ولي عهده، وقام خلعه مقام موته، أي أن الأمر يصبح منوطاً باختيار أهل الحل والعقد؛ لأن ولايته مستمدة من الأمة، وليست حقاً أصيلاً له.
ثالثاً ـ العزل لتغير حاله: والذي يتغير به حاله، فيخرج به عن الإمامة شيئان: جرح في عدالته، ونقص في بدنه.
_________
(1) راجع الموافقات للشاطبي: 10/ 2، ط التجارية، الإحكام للآمدي: 48/ 3، ط صبيح، المستصفى للغزالي: 140/ 1، ط التجارية.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 9 وما بعدها، 15 - 19، السلطات الثلاث: 270 ومابعدها.
(3) الخلافة للسنهوري: ص 190 وما بعدها.

(8/6188)


أما جرح العدالة فهو الفسق: وهو ارتكابه المحظورات، وإقدامه على المنكرات، وانقياده للأهواء والشهوات.
وأما نقص البدن فهو كما ذكر سابقاً ثلاثة أقسام:
أـ نقص الحواس، كزوال العقل وذهاب البصر والصمم والخرس.
ب ـ نقص الأعضاء كذهاب اليدين، أو ذهاب الرجلين.
جـ ـ نقص التصرف: وهو يشتمل على نوعين: أولاً ـ الحجر بأن يستولي أحد أعوانه على السلطة ويجاهر بالمعصية أو يخالف أحكام الشرع. فإن لم يخالف حكماً شرعياً استنصرت الأمة أو الخليفة بمن يعمل على تنحيته. وثانياً ـ الأسر: بأن يقع الخليفة في أسر الأعداء وييأس المسلمون من فكاكه واستخلاصه من الأسر.
وتقرير مبدأ العزل من الأمة دليل واضح على أن الخليفة يستمد سلطانه من الأمة، وليس له ادعاء أحقيته السلطة بتفويض من الإله كما كان يزعم ملوك أوربا في القرون الوسطى. كما أنه ليس معصوماً من الخطأ، ولا حق له في التشريع وإنما ينفذ أحكام الشريعة ويجتهد في نطاقها، وليس له سلطة روحية كما هو الحال بالنسبة للبابا رئيس الكنيسة الكاثوليكية في العالم، فلا يحل ولا يحرم ولا يغفر الذنوب ولا يطرد مذنباً.

المبحث السابع ـ حقوق الإمام الحاكم:
حدد الماوردي واجبات المسلمين نحو الحاكم بأمرين وهما:
1 - الطاعة في غير معصية.
2 - النصرة ما لم يتغير حاله.

(8/6189)


فقال: «إذا قام الإمام بما ذكرناه من حقوق الأمة، فقد أدى حق الله تعالى فيما لهم وعليهم، ووجب له عليهم حقان: الطاعة والنصرة ما لم يتغير حاله» (1).

1 ـ حق الطاعة:
إذا بايع أكثرية المسلمين إماماً وجبت طاعته من الكل، لقول الرسول صلّى الله عليه وسلم: «يد الله على الجماعة» «ومن شذ شذ في النار» «من فارق الجماعة شبراً، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» (2).
وبذل الطاعة مشروط بقيام الحاكم بواجباته التي ذكرت سابقاً، ومضمونها التزام أوامر الشريعة.
وحينئذ تصبح القوانين والتكاليف التي تصدر عن الحاكم واجبة التنفيذ، كالإلزام بالتجنيد الإجباري وفرض الضرائب على الأغنياء بالإضافة إلى الزكاة كلما دعت حاجة البلاد إلى ذلك.
ومصدر الالتزام بالطاعة آيات وأحاديث، منها قوله تعالى: {يا أيها الذين أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء:59/ 4] وأولو الأمر: الحكام والعلماء كما بين المفسرون والصحابة. ومنها قوله صلّى الله عليه وسلم: «عليك بالسمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك» (3) «على المرء المسلم
_________
(1) الأحكام السلطانية: ص 15.
(2) حديث «يد الله مع الجماعة» أخرجه الترمذي عن ابن عمر، ورواه النسائي والطبراني عن عرفجة، وحديث «من شذ» رواه الترمذي عن ابن عمر: «يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار» وحديث «من فارق» رواه أحمد ورجاله ثقات بلفظ «من خرج من الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من رأسه».
(3) رواه البزار عن سعد بن عبادة، وفيه حصين بن عمر، وهو ضعيف جداً (مجمع الزوائد، 227/ 5) وللبخاري ومسلم والموطأ والنسائي عن عبادة بن الصامت: «با يعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا .. ».

(8/6190)


السمع والطاعة فيما أحب أو كره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» (1).
ولا يجوز الخروج عن الطاعة بسبب أخطاء غير أساسية لا تصادم نصاً قطعياً، سواء أكانت باجتهاد، أم بغير اجتهاد، حفاظاً على وحدة الأمة وعدم تمزيق كيانها أو تفريق كلمتها، قال عليه الصلاة والسلام: «ستكون هَنَات وهنات ـ أي غرائب وفتن وأمور محدثات ـ فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع، فاضربوه بالسيف كائناً من كان» وقال عليه السلام أيضاً: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه» «أيما رجل خرج يفرق بين أمتي فاضربوا عنقه» (2) رواهما مسلم عن عرفجة.
وبديهي أن الطاعة بقدر الاستطاعة لقوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة:286/ 2] وقال ابن عمر رضي الله عنه: «كنا إذا بايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم على السمع والطاعة يقول لنا: فيما استطعتم» (3).
وإذا أخطأ الحاكم خطأ غير أساسي لا يمس أصول الشريعة وجب على الرعية تقديم النصح له باللين والحكمة والموعظة الحسنة، قال عليه الصلاة والسلام: «الدين النصيحة قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم» (4) وقد حض رسول الله صلّى الله عليه وسلم على إسداء النصح والمجاهرة بقول
_________
(1) رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة عن ابن عمر، ويلاحظ أن أحاديث الطاعة في غير معصية رويت بألفاظ: منها ما رواه الشيخان وأبو داود والنسائي عن علي: «لا طاعة لأحد في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف» ومنها ما رواه أحمد والحاكم عن عمران والحكم بن عمرو الغفاري: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق».
(2) وانظر أحاديث لزوم الجماعة والنهي عن الخروج عن الأمة وقتالهم في مجمع الزوائد: 222/ 5 وما بعدها. وحديث «من أتاكم .. » رواه مسلم عن عرفجة بن شريح (شرح مسلم: 242/ 2).
(3) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن ابن عمر (جامع الأصول: 168/ 1).
(4) رواه مسلم عن أبي رقية تميم بن أوس الداري.

(8/6191)


الحق، فقال: «أفضل الجهاد: كلمة حق عند سلطان جائر» (1) «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» (2). فإن لم ينتصح وجب الصبر لقوله عليه السلام: «من رأى من أميره شيئاً، فكره فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً، فيموت إلا مات ميتة جاهلية» (3).
ولكن لا تجب الطاعة عند ظهور معصية تتنافى مع تعاليم الإسلام القطعية الثابتة، لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا طاعة لأحد في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف» «لا طاعة لمن لم يطع الله» (4).
وهل تعالج الأخطاء الجوهرية المصادمة لأصول الإسلام بالثورة المسلحة من قبل الشعب؟
أذكر في الموضوع حديثين وأتبعهما بآراء الفقهاء وما يستنبط منهما.
الحديث الأول الذي أخرجه مسلم عن عوف بن مالك الأشجعي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم. وشرار أئمتكم الذي تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم. قلنا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، لا، ما أقاموا فيكم الصلاة».
_________
(1) رواه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري، ورواه أحمد وابن ماجه والطبراني والبيهقي عن أبي أمامة، ورواه أحمد والنسائي والبيهقي عن طارق بن شهاب.
(2) رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة عن أبي سعيد الخدري.
(3) رواه الطبراني بلفظ آخر، وفيه متروك (مجمع الزوائد: 219/ 5).
(4) سبق تخريجه قريباً.

(8/6192)


والحديث الثاني الذي يرويه البخاري وغيره والذي ورد في بعض رواياته عن عبادة بن الصامت قال: «دعانا النبي صلّى الله عليه وسلم، فبايعناه على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بَوَاحاً (1) عندكم من الله فيه برهان».
والمبدأ هو وحدة الإمامة أو الخلافة، لحديث: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما» (2).
وبناء عليه تجوز الثورة في حالة واحدة هي إعلان الكفر الصراح. قال الدهلوي: وبالجملة فإذا كفر الخليفة بإنكار ضروري من ضروريات الدين، حل قتله، بل وجب، وإلا لا؛ وذلك لأنه حينئذ فاتت مصلحة نصبه (إقامته حاكماً)، بل يخاف مفسدته على القوم، فصار قتاله من الجهاد في سبيل الله. قال صلّى الله عليه وسلم «: السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة (3).».

واستنبط بعض الكتاب المحدثين (4) من الحديثين السابقين مبادئ أربعة بين فيها حدود الطاعة وحالة جواز الثورة على الحكم. وهي:
_________
(1) أي ظاهراً. والمراد به كما استظهر ابن حجر في شرح البخاري هو الكفر الظاهر على حقيقته الذي لايحتمل التأويل. فإن رأى المسلمون منكراً محققاً أنكروه عليهم وقالوا الحق، ولكن الخروج عليهم وقتالهم حينئذ حرام، وإن كانوا فسقة ظالمين منعاً من الفتن وإراقة الدماء. وقد سبق تخريج الحديث (جامع الأصول: 166/ 1).
(2) رواه البزار والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة (مجمع الزوائد: 198/ 5) ورواه أيضاً مسلم عن أبي سعيد الخدري (شرح مسلم للنووي: 242/ 12).
(3) حجة الله البالغة للدهلوي: 112/ 2، والحديث رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن الأربعة عن ابن عمر.
(4) منهاج الإسلام في الحكم لمحمد أسد: ص 144.

(8/6193)


أولاً ـ إن للأمير الذي يمثل الحكومة الشرعية في الدولة حق الطاعة من المواطنين جميعاً، بغض النظر عن أن فريقاً أو فرداً منهم قد لا يحبه، أو لا يرضى أحياناً عن سياسته في إدارة شؤون الدولة.
ثانياً ـ إذا ما أقدمت الحكومة على إصدار قوانين أو أوامر تتضمن معصية صريحة بالمعنى الشرعي، فإنه لا سمع ولاطاعة على المواطنين بالنسبة لهذه القوانين والأوامر.
ثالثاً ـ إذا ما وقفت الحكومة موقفاً تتحدى به تحدياً صريحاً متعمداً نصوص القرآن، فإن هذا الموقف يعتبر (كفراً بواحا ً) الأمر الذي يستوجب نزع السلطة من يدها وإسقاطها.
رابعاً ـ إن نزع السلطة هذا من يد الحكومة في غير حالة إعلان الكفر صراحة يجب ألا يتم عن طريق ثورة مسلحة من جانب أقلية من المجتمع؛ لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد حذرنا من اللجوء لهذه الوسيلة، فقال: «من حمل علينا السلاح فليس منا» (1) وقال: «من سل علينا السيف فليس منا» (2) والمراد بذلك البغاة: وهم فئة من الناس خارجة عن طاعة الإمام.
ومن المقرر فقهاً أن السلطة التي تملك التعيين تملك حق العزل. وهذا يعني أن أهل الشورى يقترحون العزل ببراهين واضحة، ثم تقوم أكثرية الأمة بواسطة استفتاء مثلاً بالتصويت على عزل الإمام من منصبه.
ويرى بعض الكاتبين الجدد ضرورة عرض النزاع القائم بين أهل الشورى والإمام، على هيئة تحكيم عليا محايدة مختصة بشؤون الدستور، مكونة من نوابغ
_________
(1) رواه مالك وأحمد والشيخان والنسائي وابن ماجه عن ابن عمر.
(2) رواه أحمد ومسلم عن سلمة بن الأكوع.

(8/6194)


القضاة، وأقطاب القانون الإسلامي في الدولة، منعاً من تفاقم الأزمة التي لا تحل إلا بذلك.
وتأمر هذه المحكمة بإجراء استفتاء عام على خلع الإمام لمخالفته قصداً نصوص الشريعة. فإن منع الإمام من اللجوء إلى الاستفتاء، كان لها الحق بإعلان عزله، وأن الأمة في حل من بيعته (1)، عملاً بمبدأ «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (2).

آراء الفقهاء القدامى في مبدأ الخروج على الحاكم:
قال أهل الحديث والسنة بوجوب الصبر وعدم جواز الخروج على الحاكم مطلقاً، عملاً بالأحاديث الواردة عن النبي صلّى الله عليه وسلم الآمرة بالصبر مثل «كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل» (3). ورعاية لوحدة الأمة وعدم الفرقة واجتماع الكلمة واحتمال أخف الضررين، ولأن كثيراً من الصحابة والتابعين امتنعوا عن الخروج، بل اعتزلوا الفتنة ولم يساعدوا الخارجين، وبناء عليه لا يجوز الخروج على الحاكم إلا بإعلان الكفر صراحة، فإذا كفر بإنكار أمر من ضروريات أو بدهيات الدين، حل قتاله، بل وجب، منعاً من فساده وفوات مصلحة تعيينه، وإلا فلا، حفاظاً على وحدة الأمة، وعدم الفوضى. قال صلّى الله عليه وسلم: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» وسئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن خلع الحكام، فقيل: أفلا ننابذهم؟ قال: لا، ما
_________
(1) محمد أسد، المرجع السابق: ص 123، 127، 145 وما بعدها.
(2) رواه أحمد والحاكم عن عمران والحكم بن عمرو الغفاري.
(3) أخرجه ابن أبي خيثمة والدارقطني عن عبد الله بن خباب بن الأرت.

(8/6195)


أقاموا فيكم الصلاة. وقال: «إلا أن تروا كفراً بواحاً ـ أي ظاهراً ـ عندكم من الله فيه برهان» (1).وقال المعتزلة والخوارج والزيدية وكثيرمن المرجئة: الخروج واجب إذا أمكننا أن نزيل بالسيف أهل البغي ونقيم الحق، عملاً بقوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة:2/ 5] وقوله: {فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} [الحجرات:49/ 9] وقوله: {لا ينال عهدي الظالمين} [البقرة:124/ 2].
وقال أبو بكر الأصم من المعتزلة: السيف واجب إذا اتفق على إمام عادل يخرجون معه لإزالة أهل البغي (2).
وقال ابن حزم بجواز الخروج؛ لأن الأحاديث المجيزة للخروج على الفاسق الظالم ناسخة في رأيه للأحاديث الآمرة بالصبر؛ لأن هذه الأحاديث وردت في مبدأ الإسلام، ولأن الدليل المحرم يقدم على المبيح عند تعارضهما، ولقوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى، فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} [الحجرات:9/ 94] ولأنه يجب على المسلم إزالة المنكر، ولا طاعة في معصيته، ومن قتل دون ماله أو دينه أو مظلمته فهو شهيد (3).
_________
(1) حجة الله البالغة للدهلوي: 112/ 2 والحديث باللفظ الأول رواه أحمد ومسلم، والثاني رواه البخاري (نيل الأوطار: 172/ 6).
(2) مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين للأشعري: 445/ 2 وما بعدها.
(3) الفصل في الملل والنحل لابن حزم: 171/ 4 ومابعدها، والحديث رواه أحمد وابن حبان وأبو داود والترمذي والنسائي عن سعيد بن زيد بلفظ: «من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد» وروى النسائي والضياء عن سويد بن مقرن: «من قتل دون مظلمته فهو شهيد».

(8/6196)


ورجح الدكتور محمد يوسف موسى رأي ابن حزم؛ لأن الأمة الإسلامية موصوفة بأنها آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر، ترفض الظلم، وتقيم شعائر الله، ولكن بشرط واحد وهو أن يقدر تمام التقدير من يرى وجوب الخروج بالقوة على خليفة يستحق العزل شرعاً ضرورة صيانة وحدة الأمة التي ينبغي أن تحرص عليها الحرص كله، وضرورة تجنيبها الفتنة وإراقة الدماء بلا ضرورة (1). وهذا الرأي قريب من رأي المعتزلة الذين يوجبون الخروج على السلطان عند القدرة والإمكان (2).

2 - مناصرة الإمام ومؤازرته:
على المسلمين أن يتعاونوا مع الحاكم في كل ما يحقق التقدم والخير والازدهار في جميع المجالات الخارجية بالجهاد في المال والنفس، والداخلية، بزيادة العمران وتحقيق النهضة الصناعية والزراعية والأخلاقية والاجتماعية، وإقامة المجتمع الخيِّر، وتنفيذ القوانين والأحكام الشرعية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء فيما يمس المصلحة العامة أم المصلحة الخاصة (3)، وتقديم النصيحة، وبذل الجهد بتقديم الآراء والأفكار الجديدة التي تؤدي إلى النهضة والتقدم، وتوعية الناس والدعوة لها في السلم والحرب.
ومن المعلوم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصول الإسلام الأساسية المقررة بالتضامن بين الحكومة والأفراد؛ لأن في ذلك إقامة أمر الله وهدم
_________
(1) نظام الحكم في الإسلام ليوسف موسى: ص 158 وما بعدها.
(2) مقالات الإسلاميين: 466/ 2.
(3) انظر الأحكام السلطانية للماوردي: ص 236 - 249 لتفصيل كيفية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حقوق الله (المجتمع) وحقوق الأشخاص.

(8/6197)


كل ما يخالف الإسلام، قال الله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون} [آل عمران:104/ 3] {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله} [آل عمران:110/ 3] وقال تعالى في شأن اليهود بسبب عدم النهي عن المنكر: {لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون} [المائدة:78/ 5].
وجعلت سمة المؤمنين الاجتماعية هي القيام بهذا الواجب في قوله سبحانه: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر} [التوبة:71/ 9].
وورد في السنة النبوية أحاديث كثيرة بهذا المعنى، من أهمها المبدأ العام وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها ... » (1) الحديث. وقوله صلّى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لتأمرُنَّ بالمعروف، ولتنهُون عن المنكر، أو ليوشكن الله يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم» (2) وقال صلّى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعو الله فلا يستجيب لكم، وقبل أن تستغفروه فلا يغفر لكم .. » (3).
_________
(1) رواه أحمد والشيخان (البخاري ومسلم) وأبو داود والترمذي عن ابن عمر.
(2) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
(3) رواه الأصبهاني، عن ابن عمر (الترغيب والترهيب، 230/ 3).

(8/6198)


المبحث الثامن ـ حدود سلطات الإمام وقواعد نظام الحكم في الإسلام:
تتحدد سلطات الخليفة ضمن الإطار العام لدولة الإسلام، وهو أنها دولة ذات فكرة ومبادئ لإصلاح الحياة البشرية (1)، وأساس فكرتها مبادئ وغايات واضحة محددة (2)، تقوم على أساس الإيمان بالله تعالى، وتنظر إلى الكون والحياة والإنسان على هدي هذا الإيمان، وتنشد إصلاح الحياة البشرية قاطبة على وفق منهج العقيدة الإسلامية ومستلزماتها ونظمها التشريعية التي لا تتأثر بأهواء الواضعين، ولا بحدود إقليمية ضمن نطاق أرضي معين، إلا عند الضرورة، وسيراً على منهاج مرحلي تدريجي يوصل إلى الغاية الكبرى، وهو وحدة المسلمين.
وما على الإنسان أو الخليفة إلا أن يعمل في ضوء كونه مستخلفاً في هذه الدنيا بأمانة الله على الأرض، لقوله تعالى: {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض} [الأنعام:165/ 6].
وبما أن نظر الإنسان محدود، لا يمكنه الإحاطة بطبائع الأشياء ومقتضيات التشريع العامة، كان عليه التزام التشريع الإلهي الشامل الكامل.
وتشريع الإله لا يميز بين صاحب السلطة وأفراد الرعية، فكل منهم له الحق في الاستمتاع بحريته واحترام كرامته الإنسانية، وإنصافه من غيره، ومطالبته بإقامة العدل ومراعاة مبدأ المساواة.
_________
(1) نظرية الإسلام السياسية للمودودي: ص 47 وما بعدها.
(2) المرجع السابق.

(8/6199)


ومن هنا تتحدد سلطات الخليفة أو الحاكم في الإسلام بالأسس الآتية (1):
أولاً ـ يخضع الخليفة للتشريع الإسلامي، ويطالب بتنفيذ أحكامه، وإصدار القوانين التنظيمية طبقاً لمبادئه وقواعده، وليس له أية حصانة في هذا الشأن من دون بقية المسلمين. قال أبو بكر وتبعه من بعده من الراشدين في أول خطبة سياسية له بعد تولي الخلافة: «أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم ... ».
ثانياً ـ ليس للحاكم التشريع؛ لأن التشريع في الإسلام كما بان سابقاً لله ورسوله. ودور الخليفة مع أولي الحل والعقد هو مجرد الاجتهاد في نطاق القرآن والسنة. فلا يستمد المجتهدون سلطتهم من الخليفة، وإنما من مؤهلاتهم الذاتية. وفي هذا أكبر ضمان لشرعية الدولة؛ إذ المسلَّم به أن النظم الاستبدادية تقوم على أساس أن إرادة الدولة هي القانون.
ثالثاً ـ يلتزم الحاكم وأعوانه بقواعد نظام الحكم الإسلامي ومبادئه العامة التي حددها القرآن والسنة، ولم يفصل في شأنها مراعاة لظروف ومقتضيات التطور، وضماناً لقدسية المبدأ بحيث لا يقبل التغير وهذه القواعد هي:
1 - الشورى:
إن نظام الحكم الإسلامي نظام شوري، لقوله تعالى: {وشاورهم في الأمر} [آل عمران:159/ 3] {وأمرهم شورى بينهم} [الشورى:38/ 42] وورد في السنة النبوية القولية والعملية ما يوجب المشاورة، مثل: «استعينوا على
_________
(1) راجع السلطات الثلاث للطماوي: ص 281 وما بعدها، النظريات السياسية للريس: ص280 وما بعدها، بحث الدولة الإسلامية للموسوعة الفقهية للمؤلف والآتي بيانه.

(8/6200)


أموركم بالمشاورة» (1) «ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم» (2) «المستشار مؤتمن» (3) وقال أبو هريرة رضي الله عنه: «لم يكن أحد أكثر مشورة من رسول الله صلّى الله عليه وسلم» (4) وقد استشار النبي صلّى الله عليه وسلم أصحابه في وقائع كثيرة، تطييباً لنفوس أصحابه ولرفع أقدارهم، قائلاً: أشيروا علي أيها الناس. مثل استشارته قبيل معركة بدر لمعرفة مدى استعداد أصحابه للقتال، ونزوله على رأي الحُبَاب بن المنذر في اختيارالمكان الملائم لنزول الجيش وهو أدنى مقام من ماء بدر. وكذلك بعد المعركة استشار أصحابه في شأن قبول الفداء من أسرى بدر المشركين.
وقبل موقعة أحد استشار الأصحاب في شأن الخروج من المدينة، وقبل رأي الكثرة الشباب التي أشارت بالخروج، وكانت العاقبة الهزيمة المعروفة.
وقال صلّى الله عليه وسلم في قصة الإفك: «أشيروا علي معشر المسلمين في قوم ... ».
واستشار أيضاً أصحابه في رد سبي هوازن، وفي استطابة أنفسهم بذلك، دون تعويض عن حقهم.
وشاور النبي صلّى الله عليه وسلم أصحابه يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ، فأبى عليه السعدان: سعد بن عبادة وسعد بن معاذ، فترك ذلك (5).
وفي يوم الأحزاب تمت المشاورة عملاً برأي سعد بن معاذ وسعد بن عبادة على عدم مصالحة رؤساء غطفان لأخذ شطر ثمار المدينة. ونحو ذلك كثير (6).
_________
(1) ذكره الماوردي في أدب الدنيا والدين: ص 494.
(2) ورد مرفوعاً، وورد مرسلاً عن الحسن، أخرجه عبد بن حميد والبخاري في الأدب، وابن المنذر.
(3) رواه أبو داود والترمذي وحسنه النسائي، ورواه ابن ماجه عن أبي هريرة.
(4) رواه الترمذي.
(5) انظر تفسير ابن كثير: 287/ 1 وما بعدها، 420 في الوقائع المذكورة، وانظر أدب الدنيا والدين للماوردي: ص 496.
(6) راجع سيرة ابن هشام: 253/ 2 ومابعدها، أحكام القرآن للجصاص: 40/ 2، تفسير ابن كثير: 420/ 1، ط الحلبي.

(8/6201)


وسار الخلفاء الراشدون على هذه السنة الحميدة، فكانوا يجمعون رؤساء الناس، فيستشيرونهم فيما لم يجدوا فيه نصاً من القرآن والسنة.
منها مشاورة أبي بكر في حروب الردة، وفي جمع القرآن. ومشاورة عمر في قضية قسمة سواد العراق بين الغانمين، وفرض الخراج، ونحوها. وأهل الشورى: هم أهل الآراء من الناس والمتدربون فيهم، إذ لا يعقل، ولا يمكن مشاورة كل واحد من الناس (1)، ففي أمور الدين يجب أن يكون المستشار عالماً دينياً وقل ما يكون ذلك إلا في عاقل. وفي أمور الدنيا أن يكون عاقلاً مجرباً وادّاً في المستشير (2).

نطاقها: إن الأمر المطلق بالمشاورة الموجه للحكام يشمل كل القضايا الدينية والدنيوية: السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التنظيمية، أي فيما لم يرد به نص تشريعي واضح الدلالة (3)؛ لأن الأمر القرآني بالمشاورة غير مخصوص بأمر الدين. ولا يصح أن تكون نتيجة الشورى في الأمور الاجتهادية الدينية والدنيوية مخالفة نصوص الشريعة أو مقاصدها العامة ومبادئها التشريعية، لقوله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخِيرَة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينا ً} [الأحزاب:36/ 33].
وهي مطلوبة سواء أكانت القضايا محل المشاورة عامة كاختيار الحاكم وإدارة الحكم، وسياسة البلاد، وتنظيم الإدارات ومحاسبة الولاة، وإعلان الحرب، أم خاصة كالنظر في أحكام المعاملات والجنايات وأحوال الأسرة ونحوها. وهذه
_________
(1) تفسير الألوسي: 107/ 4.
(2) تفسير القرطبي: 250/ 4.
(3) أحكام القرآن للجصاص: 41/ 2.

(8/6202)


يجب على الإمام استشارة أهل العلم في شأنها، لقوله تعالى: {وشاورهم في الأمر} [آل عمران:159/ 3] وقوله سبحانه: واصفاً المؤمنين {وأمرهم شورى بينهم} [الشورى:38/ 42] وثبت في السنة أن النبي صلّى الله عليه وسلم استشار أصحابه في مختلف شؤون المسلمين، كما حدث في غزوات بدر وأحد والخندق وفي صلح الحديبية.

هيئة الشورى: كان السائد لدى الخلفاء الراشدين أن الخليفة هو الذي يعين أهل المشورة، حسبما يرى من المصلحة، ويعرف الكفاءات العلمية المطلوبة للأمر.
وفي عصرنا الحاضر يمكن الاتفاق بين الحاكم ورؤساء الأمة على وضع مبادئ الاختيار، كالتعيين بحسب الوظائف ذات الصفة التشريعية، أو الانتخاب على وفق ضوابط محددة تنطبق على ذوي الاختصاص والخبرة والمعرفة اللائقة.

حكم الشورى: اختلف الفقهاء في حكم الشورى: هل هي ملزمة للحاكم، أو اختيارية، وهل نتيجتها ملزمة أو اختيارية أيضاً؟.
قال جماعة: إن الشورى فيما لم ينزل فيه وحي في مكايد الحروب وعند لقاء العدو اختيارية، تطييباً للنفوس ورفعاً للأقدار، وتألفاً على الدين؛ لقوله تعالى: {فإذا عزمت فتوكل على الله} [آل عمران:159/ 3] والعزم من الحاكم قد يكون على رأيه أو رأي المستشارين، ولأن أبا بكر حينما استشار الناس بمحاربة المرتدين، لم ير غالبية المسلمين ومنهم عمر قتالهم، وأخذ أبو بكر برأيه الذي لم يفرق بين الصلاة والزكاة قائلاً: والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله لحاربتهم عليه.
وقال آخرون: إن الحاكم ملزم برأي أغلبية المستشارين من أهل الحل والعقد

(8/6203)


عملاً بالأوامر القرآنية، ويصبح الأمر عديم الأثر إذا لم يلزم الحاكم بنتيجتها. وقد عمل بها الرسول صلّى الله عليه وسلم وصحابته الراشدون من بعده (1).
ورأيي هو القول بوجوب الشورى على كل حاكم وضرورتها له وإلزامه بنتيجتها كما قرر المفسرون (2) لتسير الأمور على وفق الحكمة والمصلحة، ومنعاً من الاستبداد بالرأي؛ لأن حكم الإسلام يقوم على أصل الشورى، وبه تميز، وعلى نهجه سار السلف الصالح، وذلك ما لم يستطع الحاكم إقناع أهل الشورى بأفضلية رأيه، كما فعل أبو بكر الذي ما فتئ يوضح رأيه للمسلمين في شأن حرب المرتدين وجمع القرآن، حتى شرح الله صدورهم له، كما قال عمر رضي الله عنه. وكما فعل أيضاً بإقناع مخالفيه في قسمة سواد العراق، حتى شرح صدورهم لرأيه ووافقوه على فعله، فكان الرأي مجمعاً عليه، كما ذكر أبو يوسف في كتاب الخراج وغيره من الفقهاء.
أما رسول الله صلّى الله عليه وسلم فهو بحق لم يكن بحاجة للشورى لاعتماده على الوحي، ومع ذكل فإنه كان يشاور أصحابه تطييباً لقلوبهم وتعليماً لمن بعده (3). قال الحسن رضي الله عنه: علم الله أنه ما به إليهم حاجة، ولكنه أراد أن يستن به من بعده. وهذا هو معنى قوله تعالى {فإذا عزمت فتوكل على الله} [آل عمران:159/ 3] أي فإذا قطعت الرأي على شيء بعد الشورى، فتوكل على الله في إمضاء أمرك
_________
(1) راجع تفسير الطبري: 343/ 7 - 346، والقرطبي: 249/ 4 - 253، وابن كثير: 420/ 1، 118/ 4 عند تفسير آية {وشاورهم في الأمر} آل عمران: 159، تفسير الزمخشري: 357/ 1 وما بعدها، تفسير الألوسي: 106/ 4 وما بعدها، 46/ 25، الجصاص، المرجع السابق، البيضاوي: 50/ 1، 145/ 4، ط التجارية.
(2) راجع تفسير الطبري: 345/ 7، ط دار المعارف.
(3) راجع الآراء الأربعة في تحديد المقصود من أمر النبي بالمشاورة في الأحكام السلطانية للماوردي: ص41.

(8/6204)


على الأرشد الأصلح، فإن ما هو أصلح لك لا يعلمه إلا الله، لا أنت ولا من تشاور، والله هو الذي يرشدك للأفضل بالوحي، روى البيهقي عن ابن عباس قال: «أما إن الله ورسوله لغنيان عنها، ولكن جعلها الله تعالى رحمة لأمتي، فمن استشار منهم لم يعدم رشداً، ومن تركها لم يعدم غياً» قال ابن عطية: والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، هذا ما لا خلاف فيه، وقد مدح الله المؤمنين بقوله: {وأمرهم شورى بينهم} [الشورى:38/ 42]. وقال ابن أبي خُوَيزمَنْداد: واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وما أشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها (1).
ويلاحظ الفرق بين مجالس الشورى في الشريعة ومجالس الشورى في النظم الوضعية القانونية، فإن مجلس الشورى في الإسلام ليس بمشرِّع، وإنما هو مجرد كاشف وباحث عن حكم الله تعالى، لذا يستوي فيه القلة والكثرة الغالبة. أما مجلس الشورى في الأنظمة الوضعية فهو مشرع، فيلزم الحاكم برأي الأكثرية.

2 - العدل:
العدل بصفة عامة: هو تنفيذ حكم الله، أي أن يحكم طبقاً لماجاءت به الشرائع السماوية الحقة، كما أوحى بها الله إلى أنبيائه ورسله، وهو واجب على كل حاكم حتى على الأنبياء بإجماع العلماء، وهو أساس نظام الحكم الإسلامي وغايته المقصودة، سواء بين المسلمين، أم بينهم وبين الأعداء؛ لأن العدل قوام
_________
(1) راجع تفسير القرطبي: 249/ 4 وما بعدها.

(8/6205)


العالمين في الدنيا والآخرة، وبه قامت السموات والأرضون، وهو أساس الملك. وأما الظلم، فهو طريق خراب المدنيات وزوال السلطان (1).
وقد ورد في القرآن عدة آيات تحث عليه، وأكدت عليه أحاديث النبي صلّى الله عليه وسلم، وطبقه الصحابة فعلاً بين الناس.
فمن الآيات قوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} [النحل:90/ 16] {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} [النساء:58/ 4] {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} [الأنعام:152/ 6]. وجاء نص خاص يوجب العدل مع الأعداء وهو قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله، شهداء بالقسط، ولايجرمنكم شنآن (2) قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة:8/ 5].
ولم يقتصر القرآن على المطالبة بالعدل، وإنما حرم ما يقابله وهو الظلم تحريماً قطعياً صريحاً، قال الله تعالى: {ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار} [إبراهيم:42/ 14].
وكذلك الأحاديث النبوية الثابتة أوجبت العدل وحرمت الظلم، قال صلّى الله عليه وسلم: «لاتزال هذه الأمة بخيرما إذا قالت صدقت، وإذا حكمت عدلت، وإذا استُرحمت
_________
(1) انظر النظريات السياسية الإسلامية للريس: ص 280 وما بعدها، نظام الحكم في الإسلام ليوسف موسى: ص 191، بحث الدولة الإسلامية للمؤلف، مقدمة ابن خلدون: ص 319، الفصل 44.
(2) المعنى لا يحملنكم بغضكم للمشركين على أن تتركوا العدل، فتعتدوا عليهم، بأن تنتصروا منهم، وتتشفوا بما في قلوبكم من الضغائن بارتكاب ما لا يحل لكم من مثلة أو قذف أو قتل أولاد أو نساء، أو نقض عهد، أو ما أشبه ذلك (الكشاف: 449/ 1).

(8/6206)


رحمت» (1) «أحب الخلق إلى الله إمام عادل، وأبغضهم إليه إمام جائر» (2) «يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا» (3) «اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة» (4).
ومزية الإسلام في المطالبة به أنه عدل مطلق يشمل الحاكم والمحكومين والإنسانية جمعاء. فهو واجب في الحكم والإدارة وفرض الضرائب وجباية المال وصرفه في مصالح الناس، وفي توزيع الحقوق والواجبات وإقامة العدالة الاجتماعية، وفي الشهادة والقضاء والتنفيذ وإقامة الحدود والقصاص، وفي القول والكتابة، وفي القول والكتابة، وفي نطاق الأسرة مع الزوجة والأولاد، وفي التعليم والتملك، والرأي والفكر والتصرف.

العدل مع الأقليات الدينية والسياسية: أخصص هذا المطلب للرد على دعاوى القائلين بعدم إمكان الحكم بتشريع الإسلام حماية للأقليات، مع أن الإسلام في ضمانه حقوق هؤلاء واضح صريح متسامح أحياناً أكثر مما يجب واقعياً، فهم مع المسلمين سواء في الحقوق، ولا يلتزمون بكل الواجبات، ويتركون وما يدينون، ولهم حرية في ممارسة شعائر دينهم، ويمتنع إكراه أحد منهم على الإسلام، ولا يجوز الاعتداء على أشخاصهم وأموالهم وأعراضهم ومعابدهم. قال صلّى الله عليه وسلم: «ألا من ظلم معاهداً، أو نقصه حقه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس، فأنا خصمه يوم القيامة» (5) «من آذى ذمياً فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة» (6).
_________
(1) رواه أحمد والبزار والطبراني عن أبي موسى بلفظ: «إن هذا الأمر في قريش، ما إذا استُرحموا رحموا، وإذا حكموا عدلوا، وإذا قسموا أقسطوا ... » (الترغييب والترهيب: 171/ 3).
(2) رواه الترمذي والطبراني في الأوسط عن أبي سعيد الخدري.
(3) رواه مسلم عن أبي ذر الغفاري.
(4) رواه مسلم وأحمد والبخاري في الأدب المفرد.
(5) رواه أبو داود والبيهقي.
(6) رواه الخطيب في تاريخه عن أنس، وهو حديث حسن.

(8/6207)


3ً - المساواة أمام القانون: العدل بمعناه الشامل يشمل هذا المبدأ الشائع الآن؛ لأن العدل كما تقدم يتطلب التسوية في المعاملة وفي القضاء وفي الحقوق وملكيات الأموال. عبر أبو بكر رضي الله عنه عن ذلك بقوله: «الضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق الحق منه إن شاء الله» وفي رسالة عمر المشهورة لأبي موسى الأشعري: «آسِ بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك».
ولقد حمل الرسول صلّى الله عليه وسلم على محاولات التمييز بين الناس أمام القضاء والشريعة، فقال فيما يرويه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها: «إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها».

4ً - حماية الكرامة الإنسانية: الكرامة حق طبيعي لكل إنسان، رعاها الإسلام، واعتبرها مبدأ الحكم وأساس المعاملة، فلا يجوز إهدار كرامة أحد، أو إباحة دمه وشرفه، سواء أكان محسناً أم مسيئاً، مسلماً أم غير مسلم؛ لأن العقاب إصلاح وزجر، لا تنكيل وإهانة، ولا يحل شرعاً السب والاستهزاء والشتم وقذف الأعراض، كما لا يجوز التمثيل بأحد حال الحياة أو بعد الموت، ولو من الأعداء أثناء الحرب أو بعد انتهائها. ويحرم التجويع والإظماء والنهب والسلب.
وما أروع إعلان القرآن لمبدأ الكرامة الإنسانية في قوله تعالى: {ولقد كرمنا

(8/6208)


بني آدم} [الإسراء:70/ 17] وقال رسول الإسلام صلّى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم» (1).

5ً - الحرية: الحرية ملازمة للكرامة الإنسانية، فهي حق طبيعي لكل إنسان، وهي أغلى وأثمن شيء يقدسه ويحرص عليه، قال عمر بن الخطاب لواليه عمرو بن العاص: «متى تعبَّدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً» وعلى الحاكم توفير الحريات بمختلف مظاهرها الدينية والفكرية والسياسية والمدنية في حدود النظام والشريعة. وأعلن القرآن حرية العقيدة وحرية الفكر وحرية القول.
حرية العقيدة: من أجل حرية الاعتقاد أو الحرية الدينية منع القرآن الإكراه على الدين، فقال عز وجل: {لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي} [البقرة:256/ 2] {أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} [يونس:99/ 10]؛ لأن اعتناق الإسلام ينبغي أن يكون عن اقتناع قلبي واختيار حر، لا سلطان فيه للسيف أو الإكراه من أحد. وذلك حتى تظل العقيدة قائمة في القلب على الدوام، فإن فرضت بالإرغام والسطوة، سهل زوالها وضاعت الحكمة من قبولها، قال الله تعالى: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف:29/ 18].
وتقرير حرية العقيدة يستتبع إقرار حرية ممارسة الشعائر الدينية؛ لأننا أمرنا بترك الذميين وما يدينون، ولا يعتدى على كنائسهم ومعابدهم، ولهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، ولا يناقشون في عقائدهم إلا باللين والخطاب الحسن، قال الله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين
_________
(1) متفق عليه بين البخاري ومسلم عن أبي بكر (سبل السلام: 73/ 3).

(8/6209)


ظلموا منهم، وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون} [العنكبوت:46/ 29].

حرية الفكر والقول: رغب الإسلام في التفكير والنظر الطليق والتأمل في أسرار الكون للتوصل بالعقل والمنطق إلى إثبات الصانع وإثبات النبوة وفهم ما جاء به الأنبياء والرسل والإفادة من كنوز الأرض، وجعل التفكير فريضة إسلامية، والآيات القرآنية المطالبة باستخدام الفكر كثيرة، منها قوله سبحانه: {قل: انظروا ماذا في السموات والأرض} [يونس:101/ 10] وتختتم آيات كثيرة بعد بيان النظم الإسلامية في العقيدة وغيرها بأنها لقوم يعلمون، يعقلون، يتفكرون، يتدبرون، لأولي الألباب، ونحوها.
ومن أجل تثبيت الدعوة إلى الفكر وإقرار أحكام العقل السديد، ندد الله سبحانه بالتقليد في أصول العقائد والشرائع لتكون العقيدة عن وعي وإدراك وإذعان، فقال سبحانه: {وإذا قيل لهم: اتبعوا ما أنزل الله، قالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون} [البقرة:170/ 2] {أفلم يسيروا في الأرض، فتكون لهم قلوب يعقلون بها، أو آذان يسمعون بها، فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج:46/ 22].
وحرية الفكر تستتبع حرية الرأي والنقد والقول، وذلك واضح من مبدأ الإسلام في تكوين الشخصية الذاتية، والحض على صراحة القول، والأمر بالمعروف، وعدم إقرار المنكر، والجهر بالحق دون خشية من أحد أو مخافة لومة لائم، فلا يكون النقد حقاً فقط، وإنما هو واجب ديني أحياناً في ضوء مفاهيم الإسلام، وضرورة الحفاظ على أحكامه، بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم: «الدين

(8/6210)


النصيحة .. » (1) الحديث السابق ذكره. وقوله: «لا تكونوا إمَّعة (أي مع الناس) تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم: إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا» (2) «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» (3).
وسيرة الخلفاء الراشدين في احترام حق النقد وضرورته خير شاهد عملي على إبراز قيمته وأهميته في الإسلام، كما قال عمر رضي الله عنه: «أيها الناس، من رأى فيَّ اعوجاجاً فليقوِّمه» فيجيبه أعرابي: والله يا أمير المؤمنين لو وجدنا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا هذه، فيقول أمير المؤمنين مغتبطاً: «الحمد لله الذي جعل في هذه الأمة من يقوِّم اعوجاج عمر بسيفه إذا اعوج». وفي حادث آخر قال رجل لعمر: «اتق الله يا أمير المؤمنين، فرد عليه آخر: تقول لأمير المؤمنين: اتق الله؟! فقال عمر: دعه فليقلها، فإنه لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نسمعها منكم».
والحرية لا تتجزأ في مفهوم الإسلام، ولا ينفصل جانب الدين فيه عن السياسة والمدنية وغيرها، فإن حدث خطأ في تطبيق أحكام الدين، أو خلل في خط السياسة الإسلامية، أو مصادره للحقوق المدنية في المعاملات الحرة والتصرفات الشخصية، كان لأي مسلم توجيه النقد فيه للحاكم ورده إلى الصواب، كما حصل من المرأة التي عارضت سيدنا عمر عندما أراد وضع حد لغلاء المهور، وجواب عمر لها بقوله: «أصابت امرأة وأخطأ عمر». وكما حدث
_________
(1) رواه مسلم عن أبي رقيَّة تميم بن أوس الداري.
(2) رواه الترمذي عن حذيفة بن اليمان.
(3) رواه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري، ورواه أحمد وابن ماجه والطبراني عن أبي أمامة، ورواه غيرهم.

(8/6211)


مع الرسول نفسه حينما اعترض رجل بغير حق على قسمته الغنائم قائلاً: «إن هذه قسمة ما عدل فيها وما أريد بها وجه الله» فيجيب الرسول: «يرحم الله موسى، قد كان أوذي بأكثر من هذا فصبر». ونحو ذلك كثيرفي السيرة.

6ً - رقابة الأمة ومسؤولية الحاكم: يخضع الحاكم المسلم لرقابة الأمة التي ولته، فإن عدل ونفذ أحكام الشرع، وجبت طاعته، وإن جار وانحرف خلعته وولت غيره، كما تبين سابقاً. قال الإيجي (1): «وللأمة خلع الإمام وعزله بسبب يوجبه» كأن يوجد ما يوجب اختلال أحوال المسلمين وانتكاس أمور الدين. وقال ابن حزم بعد أن ذكر واجبات الخليفة (2): «فهو الإمام الواجب الطاعة ما قادنا بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فإن زاغ عن شيء منهما، منع من ذلك، وأقيم عليه الحد والحق، فإن لم يؤمن أذاه إلا بخلعه، خلع وولِّي غيره».
يظهر من هذا أن الحاكم مسؤول عن تصرفاته أمام رعيته. كما أنه يشعر بخطورة المسؤولية العظمى أمام الله في الدار الآخرة، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم، وأنتم تعلمون} [الأنفال:27/ 8] ويقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته ... » (3) «ما من والٍ يلي رعية من المسلمين، فيموت وهو غاش لهم، إلا حرم الله عليه الجنة» (4).
_________
(1) المواقف: 352/ 8.
(2) الفصل في الملل والنحل: 102/ 4، وانظر النظريات السياسية الإسلامية: ص292 - 299.
(3) رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن ابن عمر.
(4) رواه مسلم عن معقل بن يسار.

(8/6212)


ويشعر الخليفة بثقل هذه المسؤولية ويقدرها، كما يمثل لنا ذلك قول عمر رضي الله عنه: «لئن ضلت شاة على شاطئ الفرات، لخشيت أن يسألني الله عنها يوم القيامة».
وإذا عجزت الأمة عن خلع الحاكم، كما حدث في الماضي، فلا يعني عجزها التسليم بشرعية حكمه، وإنما يكون السكوت إقراراً للأمر الواقع، عملاً بمبدأ «الضرورات تبيح المحظورات» (1).

علاقة الإمام الحاكم بالناس: تتحدد طبيعة هذه العلاقة بما يأتي:
1 - الإمام مستخلف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعن خلفائه من بعده، فيتقيد بالكتاب والسنة.
2 - الإمام صاحب ولاية عامة على جميع من في دار الإسلام من مسلمين وذميين، فتصرفاته مقيدة بالمصلحة العامة.
3 - للإمام حق الإشراف والرقابة على جميع من دونه من الولاة والوزراء والقضاة فيما وكلَّهم فيه من خدمات.
4 - علاقة الإمام بالأمة أو بالرعية علاقة خادم أمين بمخدومه، فعليه توفير السعادة ونشر الأمن والرخاء للجميع وعليه التحلي بخصال الرحمة والإخلاص، دون إكراه ولا إضرار.
_________
(1) السلطات الثلاث للدكتور سليمان الطماوي: ص 283.

(8/6213)


المبحث التاسع ـ مصدر السيادة في الإسلام:
السيادة في القوانين الدستورية الحديثة يراد بها المصدر الذي يستمد منه القانون أو الحاكم حق الامتثال لأمره والعمل بما يصدر من تشريع أو يتخذه من تدبير. والسيادة أو السلطة السياسية من أركان قيام الدولة بالمعنى الحديث، وبموجبها تستطيع إصدار القوانين، وتقييد الحريات، وفرض الضرائب، وزجر الجناة، حتى يتوافر الاستقرار ويسود الأمن وتنعدم الفوضى.
وقد اختلفت آراء السياسيين قديماً وحديثاً في تحديد مصدر السيادة، هل هي من الله، أو من شخص الحاكم أو من الأمة.
فنادت جماعة بنظرية الحق الإلهي المطلق لتأييد سلطان الملوك، وأنه حق طبيعي مقدس مستمد من تفويض إلهي، فالحاكم أو الملك وكيل في تنفيذ أوامر الله وخليفة في الأرض، مما جعله يحكم حكماً استبدادياً مطلقاً دون أن يكون لأحد الحق في نقده، وسادت هذه النظرية قديماً إلى نهاية القرون الوسطى، وهي فترة الحكم الثيوقراطي أو الأتوقراطية، أي الاستبدادي.
والإسلام لا يقر هذه النظرية التي تمنح الحاكم حق الاستبداد بالحكم؛ لأن الله تعالى يقول لرسوله: {فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمصيطر} [الغاشية:22/ 88] {وما أرسلناك عليهم حفيظاً} [الشورى:48/ 42] {وما أنت عليهم بجبار} [ق:45/ 50] ويقول الرسول صلّى الله عليه وسلم لأعرابي ارتعد منه: «لست بملك ولا جبار» (1) وقال عمر للناس: «والله ما أنا بملك فأستعبدكم بملك أو جبرية، وما أنا إلا أحدكم، منزلتي منكم كمنزلة والي اليتيم منه ومن ماله».
_________
(1) الحديث ورد عن أبي هريرة وأبي ذر بلفظ: «هوّن عليك، فلست بملك، وإنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد» (الإحياء للغزالي: 338/ 2). وأخرج أبو داود عن عبد الله بن بسر: «إن الله جعلني عبداً كريماً، ولم يجعلني جباراً عنيداً».

(8/6214)


ونادى آخرون مع ظهور نظرية العقد الاجتماعي لروسو بأن الأمة مصدر السلطات، أي هي التي لها حق التشريع، وهي التي تعين الحكام وتمنحهم السلطة والسيادة. ولكن هذه النظرية لم تمنع الاستبداد، وإن أخذت صفة الديمقراطية؛ لأن بعض الحكام استبدوا بالسلطة متذرعين بأنهم يمثلون إرادة الشعب المقدسة.
والإسلام لا يقر جعل الأمة مصدر السلطة التشريعية؛ لأن التشريع لله وحده، والأمة وحدها صاحبة الخلافة في الأرض في تنفيذ أحكام الشريعة، والخليفة وأعوانه وقضاته وكلاء عن الأمة في أمور الدين وفي إدارة شؤونها بحسب شريعة الله ورسوله، ولها حق نصحه وتوجيهه وتقويمه إن أساء، وعزله إن انحرف، فهو يستمد سلطانه من الأمة بعقد البيعة أو الوكالة، ويكون مصدر السيادة حينئذ هو الأمة الموكل الأصلي، لا الوكيل النائب عنها. والأمة في المجتمع المسلم أو الديمقراطية الإسلامية ملتزمة بالقانون السماوي والأخلاقي ومقيدة بمبادئه، فالسيادة في الإسلام مبنية على حق إنساني ناشئ عن جعل شرعي. وبذلك تكون الأمة والشريعة معاً هما صاحبا (السيادة) في الدولة الإسلامية، بمعنى أن السيادة الأصلية لله تعالى، فيرجع إليه في الأمر والنهي، والسيادة العملية مستمدة من الشعب الذي يعين أهل الحل والعقد أصحاب الرأي والاجتهاد في ضوء مبادئ الشريعة (1). قال المرحوم الأستاذ عبد الوهاب خلاف (2): «وهذه الرياسة العليا مكانتها من الحكومة الإسلامية مكان الرياسة العليا من أية حكومة دستورية؛ لأن الخليفة يستمد سلطانه من الأمة الممثلة في أولي الحل والعقد،
_________
(1) راجع النظريات السياسية الإسلامية للريس: ص 320 - 341، مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها للأستاذ علال الفاسي: ص 209 - 215، منهاج الإسلام في الحكم لمحمد أسد: ص 77 - 86، نظام الحكم في الإسلام ليوسف موسى: ص 123 - 127.
(2) السياسة الشرعية: ص 58.

(8/6215)


ويعتمد في بقاء هذا السلطان على ثقتهم به ونظره في مصالحهم، ولهذا قرر علماء المسلمين أن للأمة خلع الخليفة لسبب يوجبه، وإن أدى إلى الفتنة احتمل أدنى المضرتين».

المبحث العاشر ـ تنظيم الخليفة للدولة (إدارة الدولة) المطلب الأول ـ الإدارة في عهد الخلفاء:
الخليفة رئيس الدولة الأعلى، وصاحب مسؤوليات كبرى، يقود الأمة نحو أفضل الغايات، ويخطط لمسيرتها في ضوء أعدل الطرق وأصحها وأيسرها. وبما أنه فرد ذو قدرات محدودة، فهو يحتاج إلى أعوان وأنصار لتسيير الحكم في البلاد، قال الماوردي: «إن ما وكل إلى الإمام من تدبير الأمة لا يقدر على مباشرة جميعه إلا باستنابة» (1) ومن هؤلاء الأعوان تتكون السلطة التنفيذية في الإسلام.
ولقد نقل التاريخ أن الخلفاء المسلمين أبدوا نجاحاً باهراً في إدارة البلاد، وأن الإسلام ابتكر وأبدع في الحرب والإدارة والسياسة، كما اخترع وأبدع في العلم والتشريع وأسباب المدنية (2).
وبدأت نواة الإدارة في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلم ببث الدعوة، وجهاد العدو، وأخذ الغنائم والصدقات والجزى والعشور، وقسمتها بين المجاهدين وأهل البلاد من المهاجرين والأنصار وفقراء المسلمين وتوزيع العمل بين عماله، ومعاملته لهم وللوفود والنساء (3)، وإرسال القضاة والمعلمين إلى بعض البلدان كاليمن.
_________
(1) الأحكام السلطانية: ص 20، ط صبيح.
(2) الإدارة الإسلامية في عز العرب للأستاذ محمد كرد علي: ص 5.
(3) المرجع السابق: ص 22.

(8/6216)


وسار أبو بكر بسيرة الرسول في الإدارة الإسلامية، واحتفظ بالعمال الذين استعملهم صاحب الشريعة، والأمراء الذين أمرهم. وقام أبو عبيدة بشؤون المال، وعمر بأمر القضاء. وكان الصديق يشاور أهل الرأي والفقه فيما يعرض له من القضايا. وقسمت جزيرة العرب إلى ولايات أو عمالات كمكة والمدينة والطائف وصنعاء ... إلخ. وقسمت الحجاز إلى ثلاث ولايات، واليمن إلى ثمان، والبحرين وتوابعها ولاية. وكان أهم شاغل لأبي بكر في مدة خلافته الوجيزة هو قتال المرتدين وتوطيد دعائم الإسلام، وتثبيت أركان الدولة بإظهار قوة المسلمين لمن خالفهم. وكان أيضاً يهتم بمراقبة أحوال العمال (1)، أي الموظفين الإداريين، وسموا عمالهم لبيان أن العامل ليس مطلق السلطة.
ووضحت صورة التنظيم الإداري في عهد عمر لاتساع رقعة الدولة الإسلامية، فعين العمال الأكفاء، وراقبهم مراقبة شديدة، وشاطرهم أموالهم، وأحصى القبائل وفرض لها الفروض وأعطاها العطايا، ودون الدواوين التي تشبه الوزارات اليوم، فوضع أول ديوان في الإسلام للخراج والأموال بدمشق والبصرة والكوفة على النحو الذي كان عليه قبل، وكان أول من استقضى القضاة، وأحدث التاريخ الهجري، وكان يرزق العامل بحسب حاجته وبلده، وحجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج من البلدان إلا بإذن وأجل، ونحو ذلك من التقسيمات والتنظيمات الإدارية السديدة (2).
وحافظ عثمان رضي الله عنه على الأوضاع التي وضعها عمر، وعلى العمال الذين عينهم عمر مع أناس من أهله وعشيرته في بدء ولايته. ثم ضعفت الإدارة
_________
(1) المرجع السابق: ص 23 - 27.
(2) المرجع السابق: ص 27 - 53.

(8/6217)


في النصف الأخير من عهد عثمان لشيخوخته، واشتغل بعض كبار العمال بأطماعهم في الولايات (1).
وكانت طريقة علي أيضاً في الإدارة طريقة من سبقوه إلى الإمامة.
ثم تبلورت النظم الإدارية في عهد الأمويين والعباسيين بسبب اتصالهم بالحضارات الأخرى، وظهور الطابع الدنيوي عليها (2)، مما مكَّن فقهاء الإسلام من صياغة الأحكام الإدارية المناسبة.

المطلب الثاني ـ أقسام الولايات في رأي الماوردي:
قسم الماوردي ولايات خلفاء الخليفة أربعة أقسام (3):
أولاً ـ أصحاب الولايات العامة في الأعمال العامة: وهم الوزراء؛ لأنهم يستنابون في جميع الأمور من غير تخصيص.
ثانياً ـ أصحاب الولاية العامة في أعمال خاصة: وهم أمراء الأقاليم والبلدان؛ لأن اختصاصهم عام في حدود الإقليم المنوط إدارته بهم.
ثالثاً ـ أهل الولاية الخاصة في الأعمال العامة: وهم قاضي القضاة ونقيب الجيوش وحامي الثغور ومستوفي الخراج وجابي الصدقات؛ لأن اختصاص كل واحد خاص في جميع أعماله.
رابعاً ـ ذوو الولاية الخاصة في الأعمال الخاصة: وهم كقاضي بلد، أوإقليم أو مستوفي خراجه، أو الجابي صدقاته، أو الحامي ثغره، أو نقيب جنده؛ لأن كل واحد خاص النظر خاص العمل.
_________
(1) المرجع السابق: ص 55 ومابعدها.
(2) المرجع نفسه: ص 65 وما بعدها.
(3) الأحكام السلطانية: ص 19.

(8/6218)


المطلب الثالث ـ وظائف الولاة:
كانت وظائف هؤلاء الولاة على النحو التالي:

أولاً ـ الوزارة. ثانياً ـ إمارة الأقاليم.
أولاً ـ الوزارة: كان الصحابة أعوان الرسول صلّى الله عليه وسلم في شؤونه، واستمر بعضهم عوناً لبعض في عهد الخلفاء الراشدين والأمويين، دون معرفة هذا الاصطلاح. ثم استعير هذا اللفظ من الفرس في عهد العباسيين.
وأبان الماوردي أحكام الوزارة، وقسمها نوعين:
1 - وزارة تفويض.
2 - وزارة تنفيذ (1).

1 - وزارة التفويض: هي أن يستوزر الإمام من يفوض إليه تدبير الأمور برأيه، وإمضاءها على اجتهاده. فهي تشبه رئاسة الوزارة اليوم.
وهذا أخطر منصب بعد الخلافة، إذ يملك الوزير المفوض كل اختصاصات الخليفة كتعيين الحكام والنظر في المظالم وقيادة الجيش وتعيين القائد وتنفيذ الأمور التي يراها، والمبدأ: كل ما صح من الإمام صح من الوزير إلا ثلاثة أمور هي:
أـ ولاية العهد: فإن للإمام أن يعهد إلى من يرى، وليس ذلك للوزير.
ب ـ للإمام أن يستعفي الأمة من الإمامة، وليس ذلك للوزير.
_________
(1) الأحكام السلطانية: ص 20.

(8/6219)


جـ ـ للإمام أن يعزل من قلده الوزير، وليس للوزير أن يعزل من قلده الإمام (1).
وما عدا هذه الثلاثة تنفذ كل تصرفاته بمقتضى التفويض. فإن حدث اختلاف بينه وبين الإمام، يفضُّ على النحو التالي (2):
إن عارضه الإمام في رد ما أمضاه من أحكام قضائية نفذ على وجهه.
وإن كان تصرفه متصلاً بتوزيع الأموال في حقوقها، لم يجز نقض تصرفه ولا استرجاع ماوزعه برأيه.
وإن كان تصرفه في أمر عام كتقليد وال أو تجهيز جيش وتدبير حرب، جاز للإمام معارضته بعزل من ولاه، ورد الجيش إلى ثكناته، وتدبير الحرب بما هو أولى؛ لأن للإمام أن يستدرك ذلك من أفعال نفسه، فكان أولى أن يستدركه من أفعال وزيره.
ولو قلد الإمام والياً على عمل، وقلد الوزير غيره على ذاك العمل، ينفذ قرار الأسبق في التعيين.
وأما كيفية تنسيق أو تحديد العلاقة بين الإمام ووزير التفويض، فهي مايأتي (3):
أـ يطالب وزير التفويض بمطالعة الإمام لما أمضاه من تدبير وأنفذه من ولاية وتقليد، لئلا يصبح باستبداده كالإمام.
_________
(1) المرجع السابق: ص 23.
(2) المرجع والمكان نفسه.
(3) المرجع السابق: ص 22 - 23.

(8/6220)


ب ـ يتصفح الخليفة أفعال الوزير وتدبيره الأمور، ليقر منها ماوافق الصواب، ويستدرك ما خالفه؛ لأن تدبير الأمة موكول إليه، ومحمول على اجتهاده.
وبما أن منصب هذه الوزارة له أهميته وخطورته، اشترط الفقهاء فيمن يقلدها شروط الإمامة نفسها، إلا النسب القرشي وحده؛ لأنه يمضي الآراء وينفذ الاجتهاد، فينبغي أن يكون مجتهداً. والسبب في استثناء شرط النسب هو اقتصار النصوص الواردة بشأنه على الإمامة وحدها، مما دعا أبا بكر أن يقول للأنصار: فنحن الأمراء وأنتم الوزراء.
وزيد شرط آخر على شروط الإمامة: وهو أن يكون وزير التفويض من أهل الكفاية فيما وكل إليه من أمري الحرب والخراج خبرة بهما ومعرفة بتفصيلهما (1).
كذلك لا يكفي للتكليف بهذه الوزارة مجرد الإذن، بل لا بد من عقد معين صادر من الخليفة لمن يكلفه بها، والعقود لا تصح إلا بالقول الصريح (2).
وبما أن لهذا الوزير صلاحية عامة في الأعمال كالإمام فلا يجوز للخليفة تعيين وزيري تفويض في وقت واحد، كما لا يجوز تعيين إمامين،؛ لأنهما ربما تعارضا في العقد والحل والتقليد والعزل، لكن إن أشرك الخليفة اثنين في النظر المشترك في الأمور، دون أن ينفرد أحدهما بتصرف، بل لا بد من اتفاقهما معاً، فيجوز (3).

2 - وزارة التنفيذ (4): هي أقل مرتبة من وزارة التفويض؛ لأن الوزير فيها
_________
(1) المرجع نفسه: ص 20.
(2) المصدر نفسه: ص 21.
(3) المصدر نفسه: ص 26.
(4) المصدر نفسه: ص 24 - 26.

(8/6221)


ينفذ رأي الإمام وتدبيره، وهو وسط بينه وبين الرعايا والولاة، يؤدي عنه أوامره، وينفذ آراءه، ويمضي أحكامه، ويبلغ من قلدهم الولاية أو تجهيز الجيوش، ويعرض عليه ما ورد منهم، وتجدد من أحداث طارئة. فليس له سلطة الاستقلال بالتوجيه والرأي والاجتهاد، وهو محدد الاختصاص بأمرين:
أحدهما ـ أن يؤدي إلى الخليفة ما يبلغه من قضايا.
الثاني ـ أن يؤدى إليه أوامر الخليفة لتنفيذها.
ويكفي في تعيينه مجرد الإذن، ولا يشترط إجراء عقد معه لتعيينه. ولا يطلب فيه الحرية، لأنه لا ينفرد بالولاية وتقليد الوظائف لغيره، ولا العلم، أي الاجتهاد لأنه لا يجوز له أن يحكم برأيه.

شروطه: الشروط المطلوبة في وزير التنفيذ سبعة فقط تتعلق بالأخلاق الفاضلة والتجربة السياسية:
1 - الأمانة: حتى لا يخون فيما قد اؤتمن عليه، ولا يغش فيما استنصح فيه.
2 - صدق اللهجة: حتى يوثق بخبره فيما يؤديه ويعمل على قوله فيما ينهيه.
3 - قلة الطمع: حتى لا يرتشي ولا ينخدع.
4 - أن يكون مسالماً لا عداوة ولا شحناء بينه وبين الناس؛ لأن العداوة تصد عن التناصف وتمنع من التعاطف.
5 - حاضر البديهة والذاكرة حتى يؤدي إلى الخليفة وعنه؛ لأنه شاهد له وعليه.

(8/6222)


6 - الذكاء والفطنة حتى لا تدلس عليه الأمور، فتشتبه، ولا تموه عليه فتلتبس.
7 - ألا يكون من أهل الأهواء، فيخرجه الهوى من الحق إلى الباطل.
ولا يقبل لهذا المنصب ولا لوزارة التفويض والخلافة امرأة لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» (1) ولأن في هذه الوظائف من المهام الخطيرة التي تتطلب الرأي وثبات العزم ما تضعف عنه النساء. ويجوز أن يكون هذا الوزير من أهل الذمة، ولا يجوز لوزارة التفويض. ويجوز تعيين وزيري تنفيذ أو أكثر، على عكس وزارة التفويض. لكن يجوز للخليفة تعيين وزيرين في مهمة وزير تفويض ووزير تنفيذ، فيكون وزير التفويض مطلق التصرف، ووزير التنفيذ مقصوراً على تنفيذ أوامر الخليفة.

الفرق بين الوزارتين: ذكر الماوردي فروقاً ثمانية بين الوزارتين، أربعة منها تتعلق بالشروط، والأربعة الأخرى بالصلاحيات.
أما الفروق العائدة للشروط والمؤهلات فهي:
1 - الحرية: مطلوبة في وزارة التفويض، وغير مطلوبة في وزارة التنفيذ.
2 - الإسلام: مطلوب في وزارة التفويض، دون التنفيذ.
3 - العلم بالأحكام الشرعية (الاجتهاد): مطلوب في وزارة التفويض لا التنفيذ.
4 - المعرفة بشؤون الحرب والاقتصاد كالخراج: مطلوبة في وزارة التفويض لا التنفيذ.
_________
(1) رواه أحمد والبخاري والترمذي وصححه والنسائي عن أبي بكرة (نيل الأوطار: 263/ 8).

(8/6223)


وأما الفروق المتعلقة بالاختصاص والصلاحيات فهي:
1 - يجوز لوزير التفويض مباشرة الحكم والنظر في المظالم، وليس ذلك لوزير التنفيذ.
2 - ويجوز لوزير التفويض أن ينفرد بتقليد وتعيين الولاة، وليس ذلك لوزير التنفيذ.
3 - يجوز لوزير التفويض أن ينفرد بتسيير الجيوش وتدبير الحروب، وليس ذلك لوزير التنفيذ.
4 - يجوز لوزير التفويض أن يتصرف في أموال بيت المال بالجباية والصرف، وليس ذلك لوزير التنفيذ.

ثانياً ـ إمارة الأقاليم أو البلاد:
اتسعت الدولة الإسلامية في عهد عمر رضي الله عنه، فقسمت إلى أقسام إدارية كبيرة، فجعلت بلاد الشام قسمين، وبلاد فارس ثلاث ولايات، وأفريقيا ثلاث ولايات أيضاً. وكان على كل إقليم من هذه الأقسام عامل (أو وال أو أمير) يؤم الناس في الصلاة ويفصل في الخصومات، ويقود الجند في الحرب، ويجمع المال، وكان مع الوالي عامل خاص للخراج.
وفي عهد بني أمية حيث بلغت أقصى اتساعها، قسمت إلى خمس ولايات كبرى هي الحجاز واليمن وتوابعها، ومصر بقسميها السفلي والعلوي، والعراقان: العربي (بلاد بابل وآشور القديمة) والعجمي (بلاد فارس)، وبلاد الجزيرة ويتبعها أرمينية وأذربيجان، وأفريقية الشمالية وبلاد الأندلس وجزر صقلِّية.

(8/6224)


وحافظ العرب على هذا النظام الإداري في البلاد التي فتحوها، مع إحداث تغيير جزئي فيها اقتضته الروح العربية، ولكن بتقدم الدولة، واتساع حدودها، تعقَّد النظام الإداري جزئياً، وتعددت الدواوين، ولا سيما في عهد العباسيين الذين تأثروا بالفرس
كثيراً في نظم الحكم والإدارة (1).
وأملى هذا التطور على الفقهاء ضرورة البحث في طبيعة هذه الولايات وما يلائمها من أحكام تمس سياسة الدولة.
فقسموا، أي الفقهاء، الولاية أو الإمارة إلى قسمين: عامة وخاصة.

1 - الإمارة العامة: وهي التي تختص بجميع الأمور المتعلقة بالإقليم سواء فيما يتعلق بالأمن وحاجات الدفاع، أم بالقضاء وشؤون المال. وهي نوعان: إمارة استكفاء وإمارة استيلاء.
1 ً) ـ إمارة الاستكفاء (2): وهي التي يعقدها الإمام لشخص كفء عن رضا واختيار. بأن يفوض إليه الخليفة إمارة بلد أوإقليم ولاية على جميع أهله، ونظراً في المعهود من سائر أعماله، فيصير عام النظر فيما كان محدوداً من عمل، ومعهوداً من نظر، أي أنه مفوض الصلاحية العامة في كل الأعمال المسندة إليه. وقد بقيت هذه الإمارة من عهد الراشدين بتعيين الولاة على أقاليم مصر أو اليمن أو الشام أو العراق، إلى عصر الأمويين والعهد الذهبي للدولة العباسية. ثم انتشرت إمارة الاستيلاء مند النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، حيث وجدت الدويلات في المشرق والمغرب، كالدولة البويهية والسامانية والغزنوية والسلجوقية في الشرق، والطولونية والإخشيدية والأغلبية في الغرب (3).
_________
(1) السلطات الثلاث: 296 - 299.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 27 وما بعدها.
(3) النظريات السياسية للريس: ص 234.

(8/6225)


وأما الأعمال التي كان يمارسها صاحب هذه الإمارة فهي سبعة (1) وهي:
1 - النظر في تدبير الجيوش وترتيبهم في النواحي، وتقدير أرزاق الجند، إلا أن يكون الخليفة قدرها، فيعمل بما قرر.
2 - النظر في الأحكام وتقليد القضاة والحكام.
3 - جباية الخراج وقبض الصدقات وتقليد العمال لها، وتفريق ما استحق منها.
4 - حماية الدين والذب، أي الدفاع، عن الحريم ومراعاة الدين من تغيير أو تبديل.
5 - إقامة الحدود في حق الله وحقوق الآدميين.
6 - الإمامة في صلاة الجمع والجماعات بنفسه أو بالاستخلاف عليها.
7 - تسهيل أداء فريضة الحج كل عام.
وهناك واجب ثامن على والي البلاد الساحلية أو المجاورة لحدود العدو (الثغور): وهو جهاد الأعداء وقسمة الغنائم على وفق أحكام الشرع.
والشروط المطلوبة فيمن يعين لهذه الإمامة: هي ذات الشروط المقررة في وزارة التفويض؛ لأن الفرق بينهما إقليمي بحت، فسلطة وزير التفويض عامة في كل أنحاء الدولة، وأما اختصاص أمير الإقليم فمقيد في نطاق إقليمه. وحينئذ يكون لوزير التفويض الحق في مراقبة أعمال ولاة الأقاليم، بل وله عزلهم أحياناً إذا
_________
(1) الماوردي: ص 28.

(8/6226)


كان هو الذي عينهم. فإن عينهم الخليفة أو بإذن الخليفة فلا بد من موافقة الخليفة على العزل (1).
ويجوز لوالي الإقليم أن يستوزر لنفسه وزير تنفيذ بإذن الخليفة أو بغير إذن، ولكن لا يجوز له أن يستوزر وزير تفويض إلا بإذن الخليفة؛ لأن وزير التنفيذ معين، ووزير التفويض مستبد، أي مستقل الرأي (2).

2 ً) ـ إمارة الاستيلاء (3): وهي التي تعقد عن اضطرار بأن يستولي شخص على السلطة، كما حدث في العصر العباسي الثاني ـ عصر الدويلات، فيقره الخليفة على إمارتها، ويفوض إليه تدبير أمورها وسياستها. ولكن يحتفظ الخليفة بما يتعلق بالدين، فيكون الأمير ـ كما قال الماوردي ـ باستيلائه مستبداً بالسياسة والتدبير، والخليفة بإذنه منفذاً لأحكام الدين، ليخرج من الفساد إلى الصحة ومن الحظر إلى الإباحة.
وهذا اعتراف بالأمر الواقع أو بحكم الضرورة. أما أحكام الدين فلا يجوز التهاون بها، قال الماوردي بعد عبارته السابقة: «وهذا، وإن خرج عن عرف التقليد المطلق في شروطه وأحكامه، ففيه من حفظ القوانين الشرعية، وحراسة الأحكام الدينية ما لا يجوز أن يترك مختلاً مدخولاً، ولا فاسداً معلولاً».
والمعنى أن الفقهاء إزاء تجزؤ الدولة والتطور الحادث أرادوا الحفاظ على مبدأ شرعية الدولة، وشعور الناس بالتالي بأنهم يعيشون في ظل الشرعية، عن طريق الارتباط الاسمي بالخلافة المركزية، فتبقى الوحدة وروح التعاون سائدة في القضايا العامة.
_________
(1) المرجع السابق: ص 28.
(2) المصدر السابق: ص 29.
(3) المصدر السابق: ص 31.

(8/6227)


إلا أن إقرار هذا النوع الاستثنائي أو الاعتراف بالأمر الواقع مقيد بسبعة شروط تلزم أغلبها الأمير المستولي، ويلزم بعضها الخليفة نفسه وهي:
1 - حفظ منصب الإمامة في خلافة النبوة، وتدبير أمور الملة، لحفظ أحكام وحدود الشريعة وما تفرع عنها من حقوق.
2 - ظهور الطاعة الدينية التي يزول معها حكم العناد والانشقاق.
3 - اجتماع الكلمة على الألفة والتناصر، ليكون للمسلمين يد على من سواهم.
4 - أن تكون عقود الولايات الدينية جائزة، والأحكام والأقضية نافذة.
5 - أن يكون استيفاء الأموال الشرعية بحق تبرأ به ذمة مؤديها ويستبيحه آخذها.
6 - أن تكون الحدود مستوفاة بحق، وقائمة على مستحق.
7 - أن يكون الأمير في حفظ الدين ورعاً عن محارم الله، يأمر بحقه إن أطيع، ويدعو إلى طاعته إن عصي.
هذه هي شروط الاعتراف بالجزء المنفصل من قبل الخليفة تحفظ بها حقوق الإمامة.

الفرق بين إمارتي الاستكفاء والاستيلاء: هناك أربعة فروق وهي (1):
_________
(1) المصدر السابق: ص 32 ومابعدها.

(8/6228)


1 - إن إمارة الاستكفاء تتم بعقد وتراضٍ واختيار بين الخليفة والمستكفي. أما إمارة الاستيلاء فتنعقد عن اضطرار.
2 - إن إمارة الاستيلاء شاملة البلاد التي غلب عليها المستولي. وأما إمارة الاستكفاء فمقصورة على البلاد التي تضمنها عهد المستكفي.
3 - إمارة الاستيلاء تشتمل على النظر في جميع الأمور: المعهودة والنادرة. وإمارة الاستكفاء خاصة بالمعهود لا النادر.
4 - يجوز لأميرالاستيلاء تعيين وزير تفويض ووزير تنفيذ، ولا يجوز لأمير الاستكفاء تعيين وزير تفويض إلا بإذن الإمام، ولكن له أن يستوزر وزير تنفيذ.

2 - الإمارة الخاصة:
وهي التي تتحدد فيها سلطات الأمير بصلاحيات معينة. وخصصها الماوردي بشؤون الأمن والدفاع. فقال: وهي أن يكون الأمير مقصور الإمارة على تدبير الجيش وسياسة الرعية وحماية البيضة، أي إقليم الدولة، والذب عن الحريم. وليس له أن يتعرض للقضاء والأحكام ولجباية الخراج والصدقات.
ويلاحظ أن الإمارات كانت صدر الإسلام عامة، ثم بدأت تتخصص بتوسع الدولة وتعقد الجهاز الإداري. فكان عمرو بن العاص صاحب ولاية عامة على مصر. ثم عين الخليفة عمر شخصاً آخر لجباية الخراج هو عبد الله بن أبي سرح. ثم عين قاضياً في الخصومات هو كعب بن سور، فصارت سلطة الوالي مقصورة على قيادة الجيش وإمامة الصلاة (1).
_________
(1) النظم الإسلامية للدكتور حسن إبراهيم: ص 201، السلطات الثلاث للطماوي: ص 302 وما بعدها.

(8/6229)


انتهاء ولاية الإمام: تنتهي ولاية الإمام بأحد أسباب خمسة وهي ما يأتي (1):
1 ً - الموت: كما تنتهي الوكالة بالموت.
2 ً - الكفر أو الردة: إذا صدر من الإمام ما يجعله كافراً سواء بصريح القول أو بأي فعل أو قول يستلزم الكفر، بطلت إمامته. ولكن لا ينعزل بالفسق، أي بارتكاب معصية أو مخالفة شرعية، منعاً من الفتنة.
3 ً - زوال أهليته أو نقص في أعضائه أو حواسه بحيث يعجز عن القيام بواجبات الإمامة كالجنون المطبق (زوال العقل) وزوال البصر أو السمع وقطع اليدين أو الرجلين ونحو ذلك كما تقدم. واختلف الفقهاء في استمرار ولايته بقطع يد أو رجل فقط.
4 ً - نقص في إمكان التصرف: وهو يكون بأحد أمرين:
الأول ـ الحجر عليه: كأن يستولي عليه بعض أعوانه ممن يستبد بتنفيذ الأمور، فإن كان المستولي يحكم بأحكام الدين ومقتضى العدل، جاز إقراره منعاً من إلحاق الفساد بالأمة وتبقى إمامة الإمام الأصلي. وإن كانت أفعاله خارجة عن حكم الدين ومقتضى العدل، لم يجز إقراره، ووجب إزالة تغلبه.
الثاني ـ القهر: وهوأن يصير مأسوراً في يد عدو قاهر لا يقدر على الخلاص منه، فيجب استنقاذه إن أمكن، وإن وقع الإياس من إنقاذه، زالت إمامته.
5 ً - عزله من الأمة أو أن يعزل الإمام نفسه: بأن يستقيل وكان في الأمة من يقوم مقامه، ممن تنطبق عليه شروط الإمامة، فيعزل عن الحكم. وإن لم يوجد في الأمة من يسد مسده، لم تقبل استقالته، وللمسلمين حمله على البقاء في منصبه.
_________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 15 - 19.

(8/6230)