الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

الفَصْلُ الثَّالث: السُّلطة القضائيَّة في الإسلام الكلام في هذا الفصل المتعلق بتنظيم القضاء، لا بموضوعاته السابقة، يتناول:
نشأة القضاء وتاريخه وحكمه، وأنواعه، القضاء العادي وتنظيمه، التحكيم، ولاية المظالم، نظام الحسبة، الدعوى، الإثبات، تنفيذ الأحكام.

المبحث الأول ـ نشأة القضاء وتاريخه وحكمه وأنواعه:
القضاء لغة: الحكم بين الناس. والقاضي: الحاكم، وشرعاً: فصل الخصومات وقطع المنازعات (1). وهو أمر مطلوب في الإسلام لقوله تعالى مخاطباً رسوله: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة:49/ 5] {فاحكم بينهم بالقسط} [المائدة:42/ 5] {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} [النساء:105/ 4]. ولقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإذا اجتهد فأصاب فله أجران» (2) «إذا جلس الحاكم للحكم بعث الله له ملكين يسددانه ويوفقانه، فإن عدل أقاما، وإن جار عرجا وتركاه» (3).
_________
(1) الدر المختار: 309/ 4، الشرح الكبيرللدردير: 129/ 4.
(2) أخرجه الشيخان من حديث عمرو بن العاص وأبي هريرة، ورواه الحاكم والدارقطني من حديث عقبة ابن عامر وأبي هريرة وعبد الله بن عمر بلفظ: «إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله عشرة أجور» لكن في إسناده فرج بن فضالة، وهو ضعيف (نيل الأوطار: 262/ 8).
(3) أخرجه البيهقي من حديث ابن عباس، وإسناده ضعيف (نيل الأوطار: 262/ 8).

(8/6231)


وحكمه شرعا ً أنه فريضة محكمة من فروض الكفايات باتفاق المذاهب، فيجب على الإمام تعيين قاض، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط} [النساء:135/ 4] قال بعضهم: «القضاء أمر من أمور الدين، ومصلحة من مصالح المسلمين، تجب العناية به؛ لأن بالناس إليه حاجة عظيمة (1). وهو من أنواع القربات إلى الله عز وجل، ولذا تولاه الأنبياء عليهم السلام، قال ابن مسعود: «لأن أجلس قاضياً بين اثنين أحب إلي من عبادة سبعين سنة».
وحكمة تشريعه: حاجة الناس إليه لفض منازعاتهم، وتوفير مصالحهم، ورعاية حقوقهم، ومنع الظلم والتظالم، ومحاربة الأهواء.

أهمية القضاء:
القضاء منصب عظيم وخطير، وله مكانة في الدين، وهو وظيفة الأنبياء والخلفاء والعلماء، قال الله تعالى لنبيه داود عليه السلام: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض، فاحكم بين الناس بالحق، ولا تتبع الهوى، فيضلك عن سبيل الله، إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} [ص:26/ 38].
وكان الرسول صلّى الله عليه وسلم في دولة المدينة يتولى بنفسه القضاء بين الناس، فلم يكن للمسلمين قاض سواه، يصدر عنه التشريع، ثم يشرف على تنفيذه، فكان يجمع بين التشريع والتنفيذ والقضاء، وكان قضاؤه اجتهاداً لا وحياً، معتمداً على ما قرره: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» ويقول: «أمرت أن أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر» «إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إلي، ولعل
_________
(1) اللباب شرح الكتاب للميداني: 77/ 4.

(8/6232)


بعضكم أن يكون ألحن (1) بحجته من بعض» (2) وباتساع الدولة عهد الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى بعض الصحابة بالقضاء، فبعث علياً كرم الله وجهه إلى اليمن للقضاء بين الناس، وبعث إليها أيضاً معاذ بن جبل رضي الله عنه. وولى عتَّاب بن أسيد أمر مكة وقضاءها بعد فتحها.
وسار الخلفاء الراشدون على هذا المنهج، فتولى عمر القضاء في عهد أبي بكر فظل سنتين لا يأتيه متخاصمان، لما اشتهر عنه من الحزم والشدة. وتم في عهد عمر بأمره فصل القضاء عن الولاية الإدارية، وعين القضاة في أجزاء الدولة الإسلامية في المدينة ومكة والبصرة والكوفة ومصر (3). فكان عمر هو أول من وضع أساس السلطة القضائية المتميزة، كماكان أول من وضع الدواوين كما عرفنا، وأول من وضع دستور القضاء في رسالته المشهورة إلى أبي موسى الأشعري (4)، وأول من استحدث نظام السجون، وكان الحبس في الماضي هو ملازمة المتهم من قبل المدعي أو غيره في منزل أو مسجد، وكان قضاء القضاة المستقلين عن الخليفة محصوراً في المنازعات المدنية المالية (5). أما الجنايات الموجبة للقصاص أو الحدود فبقيت في يد الخليفة، وولاة الأقاليم ذوي الولاية العامة. وأما ولاة الإمارة الخاصة، فلهم فقط حق استيفاء الحدود المتعلقة بحقوق الله تعالى المحضة كحد الزنى جلداً أو رجماً، أو المتعلقة بحقوق الأشخاص إن طلب طالب منهم ذلك (6).
_________
(1) أي أفطن بها وأبصر.
(2) الحديث الأول رواه البيهقي والثاني غير ثابت بهذا اللفظ، والحديث الثالث رواه الجماعة عن أم سلمة (نيل الأوطار: 278/ 8، كشف الخفا: ص 221 وما بعدها).
(3) القضاء في الإسلام لعارف النكدي: ص 79.
(4) أنظر أعلام الموقعين لابن قيم: 85/ 1 وما بعدها، الأحكام السلطانية للماوردي: ص68.
(5) الإسلام والحضارة العربية للأستاذ محمد كرد علي: 154/ 2.
(6) الماوردي، المصدر السابق: ص 30.

(8/6233)


وكان عثمان رضي الله عنه أول من اتخذ داراً للقضاء، بعد أن كان القضاء في المسجد.
وكان القضاء يقوم على أساسين:
الأول: نظام القاضي الفرد.
الثاني: عدم تدوين الأحكام في سجلات؛ لأنها تنفذ فوراً بإشراف القاضي (1).
وكان للقضاة أجور من بيت مال المسلمين منذ عهد عمر مقابل تفرغهم للقضاء.
ويتم إصدار الحكم باجتهاد القاضي وفراسته بالاعتماد على مصادر التشريع الأربعة: وهي القرآن والسنة والإجماع والقياس.
ثم تطور القضاء في عهد الأمويين والعباسيين باستقرار الدولة، فتحددت سلطات القاضي واختصاصاته وتنوع القضاء، وكان القضاة مستقلين في أعمالهم غالباً، وبدأ تسجيل أحكام القضاء في بدء العهد الأموي، واستحدث في عهد العباسيين منصب قاضي القضاة الذي كان أول من تولاه أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة، وكان بمثابة وزير العدل يعين القضاة، ويعزلهم، ويراقب أعمالهم وأحكامهم، وظهر أيضاً قضاة المذاهب، فوجد في كل إقليم قاضٍ مذهبي، ففي العراق يعمل بالمذهب الحنفي، وفي الشام والمغرب على وفق المذهب المالكي، وفي مصر على وفق مذهب الشافعي.
_________
(1) السلطات الثلاث للطماوي: ص 306.

(8/6234)


واتسع سلطان القاضي تدريجياً، فأصبح ينظر بالإضافة إلى المنازعات المدنية في أمور إدارية أخرى كالأوقاف وتنصيب الأوصياء. وقد يجمع القاضي بين القضاء والشرطة والمظالم والحسبة ودار الضرب وبيت المال (1).
وكان نظام التحكيم معمولاً به بجانب القضاء. وانفصل قضاء المظالم وولاية الحسبة عن القضاء.

إلا أن القضاء العادي كان أسبق نشأة من غيره عندما تولاه الرسول صلّى الله عليه وسلم في المدينة وهو يفترض وجود اعتداء على حق شخصي وقيام خصومة بين شخصين. ثم ظهر نظام الحسبة في زمن المهدي للنظر في الاعتداءات الواقعة على المصالح العامة التي تمس أمن الجماعة وإن لم يوجد فيها مدعٍ شخصي لحماية حق خاص به. ثم وجد قضاء المظالم لحماية الحقوق والحريات من جور الولاة والحكام واستبداد الأقوياء حينما توسعت الدولة وضعف الوازع الديني وامتدت أطماع القواد إلى أموال الرعية. ومن أجل إقرار العدالة وإحقاق الحق لا بد من توافر الأسس التالية للقضاء في الإسلام:
أولاً ـ اعتماده على العقيدة والأخلاق: لتربية الضمير والوجدان، وتهذيب النفس، وإعداد الوازع الديني والخلقي المهيمن على سير الدعوى. وهو مطلوب في اختيار القاضي، وعند رفع الدعوى، وفي معاملة الخصوم، وفي إصدار الأحكام وتنفيذها، وفي الإثبات الشرعي والتزام أحكام الشريعة ونحوها.
ثانياً ـ ضرورته في كل دولة: القضاء أمر لازم لكل دولة، كما اتضح من ممارسة الرسول صلّى الله عليه وسلم له، ومتابعة الخلفاء سنته واهتمامهم بتنظيمه. فهو إذن يحتل
_________
(1) مقدمة ابن خلدون: ص 192 وما بعدها.

(8/6235)


مركزاً مهماً في الدولة، ويعد أحد سلطاتها الضرورية لوجودها وبقائها: «العدل أساس الملك» بل ويستمد قوته من الدولة في التخاصم وإصدار الأحكام، واستيفاء الحقوق.

ثالثاً ـ استقلال السلطة القضائية والفصل بين السلطات: كان القضاء في عهد الرسول وخلافة أبي بكر وجزء من خلافة عمر يقوم به الولاة الإداريون، ثم أمر عمر بفصل أعمال القضاة عن أعمال الولاة، فعين القضاة في المدينة وسائر المدن الإسلامية، وجعل سلطة القضاء تابعة له مباشرة. وبه تحقق فصل السلطة القضائية عن بقية سلطات الدولة.
المبحث الثاني ـ القضاء العادي وتنظيمه:
الكلام في هذا المبحث عن شروط القاضي وواجباته وأنواع القضاة وتنظيم القضاء.

المطلب الأول ـ شروط القاضي:
القضاء ولاية عامة مستمدة من الخليفة كغيره من ولايات الدولة كالوزارة ونحوها، فلا يصلح للتعيين فيه إلا من كان مستكملاً أوصافاً معينة مستلهمة من صنيع الخلفاء الراشدين الذين كانوا يتشددون في اختيار القضاة طبقاً لأهلية معينة (1). وقد حدد الفقهاء هذه الشروط، فاتفقوا على أكثرها واختلفوا في بعضها (2).
_________
(1) الطرق الحكمية لابن قيم: ص 238.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 61 وما بعدها، البدائع: 2/ 7، فتح القدير: 453/ 5 ومابعدها، 485، الدر المختار: 312/ 4، 318، بداية المجتهد: 449/ 2، الشرح الكبير للدردير: 129/ 4 ومابعدها، تبصرة الحكام: 17/ 1، مغني المحتاج: 375/ 4 وما بعدها، المهذب: 290/ 2، المغني: 39/ 9 وما بعدها، أعلام الموقعين: 105/ 1.

(8/6236)


أما الشروط المتفق عليها بين أئمة المذاهب فهي أن يكون القاضي عاقلاً بالغاً، حراً، مسلماً، سميعاً بصيراً ناطقاً، عالماً بالأحكام الشرعية.
أولاً ـ أهلية البلوغ والعقل: حتى تتحقق فيه المسؤولية عن أقواله وأفعاله، وليستطيع إصدار الحكم في الخصومات على غيره، قال الماوردي: «ولايكتفى فيه بالعقل الذي يتعلق به التكليف من علمه بالمدركات الضرورية، حتى يكون صحيح التمييز، جيد الفطنة، بعيداً عن السهو والغفلة، يتوصل بذكائه إلى إيضاح ما أشكل وفصل ما أعضل».
ثانياً ـ الحرية: لأنه لاتصح ولاية العبد على الحر؛ لما فيه من نقص يمنع انعقاد ولايته على غيره. ولم يعد هذا الشرط ذا موضوع الآن.
ثالثاً - الإسلام: لأن القضاء ولاية، ولا ولاية لغير المسلم على المسلم، فلا تقبل شهادته عليه، لقوله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} [النساء:141/ 4]. وأجاز أبو حنيفة
تقليد غير المسلم القضاء بين أهل دينه (1).
رابعاً ـ سلامة الحواس من السمع والبصر والنطق ليتمكن من أداء وظيفته، فيميز بين المتخاصمين، ويعرف المحق من المبطل، ويجمع وسائل إثبات الحقوق، ليعرف الحق من الباطل.
خامساً ـ العلم بالأحكام الشرعية: بأن يعلم بفروع الأحكام الشرعية ليتمكن من القضاء بموجبها.

وأما الشروط المختلف فيها فهي ثلاثة: العدالة، والذكورة، والاجتهاد.
_________
(1) ما يجري عليه العمل الآن من تولية الذميين منصب القضاء حتى بين المسلمين مأخوذ مما قررته لجنة مجلة الأحكام العدلية عملاً بقبول شهادته على المسلم للضرورة.

(8/6237)


أما العدالة (1): فهي شرط عند المالكية والشافعية والحنابلة، فلا يجوز تولية الفاسق، ولا مرفوض الشهادة بسبب إقامة حد القذف عليه مثلاً، لعدم الوثوق بقولهما، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة، فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} [الحجرات:6/ 49] فإذا لم تقبل الشهادة من امرئ فلأن لا يكون قاضياً أولى.
وقال الحنفية: الفاسق أهل للقضاء، فلو عين قاضياً صح قضاؤه للحاجة، لكن ينبغي ألا يعين، كما في الشهادة ينبغي ألا يقبل القاضي شهادة فاسق، لكن لو قبل ذلك منه جاز، مع وقوعه في الإثم. وأما المحدود في القذف فلا يعين قاضياً ولا تقبل شهادته عندهم.
وأما الذكورة: فهي شرط أيضاً عند المالكية والشافعية والحنابلة، فلا تولى امرأة القضاء؛ لأن القضاء ولاية، والله تعالى يقول: {الرجال قوامون على النساء} [النساء:34/ 4] وهو يحتاج إلى تكوين رأي سديد ناضج، والمرأة قد يفوتها شيء من الوقائع والأدلة بسبب نسيانها، فيكون حكمها جوراً، وهي لا تصلح للولاية العامة لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» (2).
وقال الحنفية: يجوز قضاء المرأة في الأموال، أي المنازعات المدنية؛ لأنه تجوز شهادتها فيها. وأما في الحدود والقصاص، أي في القضاء الجنائي، فلا تعين قاضياً؛ لأنه لا شهادة لها في الجنايات، وأهلية القضاء تلازم أهلية الشهادة.
_________
(1) العدالة كما قال الماوردي في الأحكام: ص 62: هي أن يكون صادق اللهجة، ظاهر الأمانة، عفيفاً عن المحارم، متوقياً المآثم، بعيداً عن الريب، مأموناً في الرضا والغصب، مستعملاً لمروءة مثله في دينه ودنياه».
(2) رواه أحمد والبخاري والترمذي والنسائي عن أبي بكرة.

(8/6238)


وأجاز ابن جرير الطبري قضاء المرأة في كل شيء لجواز إفتائها (1) ورد عليه الماوردي بقوله: ولا اعتبار بقول يرده الإجماع مع قول الله تعالى: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض} [النساء:34/ 4] يعني في العقل والرأي، فلم يجز أن يقمن على الرجال (2).
وأما الاجتهاد (3): فهو شرط عند المالكية والشافعية والحنابلة وبعض الحنفية، كالقدوري، فلا يولى الجاهل بالأحكام الشرعية ولا المقلِّد (4)؛ لأن الله تعالى يقول: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة:49/ 5] {لتحكم بين الناس بما أراك الله} [النساء:105/ 4] {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء:59/ 4] ولأن الاجتهاد يستطيع به المجتهد التمييز بين الحق والباطل، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في النار. فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق، فقضى به. ورجل عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار» (5) والعامي يقضي على جهل.
وأّهلية الاجتهاد تتوافر بمعرفة ما يتعلق بالأحكام من القرآن والسنة وإجماع الأمة، واختلاف السلف، والقياس، ولسان العرب. ولا يشترط الإحاطة بكل القرآن والسنة أو الاجتهاد في كل القضايا، بل يكفي معرفة ما يتعلق بموضوع النزاع المطروح أمام القاضي أو المجتهد.
_________
(1) بداية المجتهد: 458/ 2.
(2) الأحكام السلطانية: ص 61.
(3) الاجتهاد: عملية استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.
(4) المقلد: هو من حفظ مذهب إمامه دون معرفة بأدلته.
(5) رواه ابن ماجه وأبو داود عن بُرَيدة (نيل الأوطار: 263/ 8 وما بعدها).

(8/6239)


وقال جمهور الحنفية: لا يشترط كون القاضي مجتهداً، والصحيح عندهم أن أهلية الاجتهاد شرط الأولوية والندب والاستحباب. فيجوز تقليد غير المجتهد للقضاء، ويحكم بفتوى غيره من المجتهدين؛ لأن الغرض من القضاء هو فصل الخصائم وإيصال الحق إلى مستحقه، وهو يتحقق بالتقليد والاستفتاء. لكن قالوا: لا ينبغي أن يقلد الجاهل بالأحكام، أي بأدلة الأحكام؛ لأن الجاهل يفسد أكثر مما يصلح، بل يقضي بالباطل من حيث لا يشعر به.
والواقع في زماننا عدم توافر المجتهدين بالمعنى المطلق، فيجوز تولية غير المجتهد، ويولى الأصلح فالأصلح من الموجودين في العلم والديانة والورع والعدالة والعفة والقوة. وهذا ما قاله الشافعية والإمام أحمد، وقال الدسوقي من المالكية: والأصح أن يصح تولية المقلد مع وجود المجتهد.

المطلب الثاني ـ واجبات القضاة:
عرفنا سابقاً أنه يلتزم القضاة وجوباً بأمور، وندباً أو استحباباً بأمور أخرى. أما الواجبات المفروضة عليهم أساساً فهي (1):
أولاً ـ بالنسبة للقانون الواجب التطبيق: هو الالتزام بالأحكام الشرعية، فيجب على القاضي أن يقضي في كل حادثة بما يثبت عنده أنه حكم الله تعالى؛ إما بدليل قطعي: وهو النص المفسر الذي لا شبهة فيه من كتاب الله عز وجل، أو السنة المتواترة، أو المشهورة، أو الإجماع.
وإما بدليل ظاهر للعمل كظواهر النصوص المذكورة في القرآن الكريم أو السنة المشرفة، أو الثابت بالقياس الشرعي، في المسائل الاجتهادية التي اختلف فيها الفقهاء.
_________
(1) المبسوط: 68/ 16، البدائع: 5/ 7 وما بعدها، مختصر الطحاوي: ص 327.

(8/6240)


فإن لم يجد القاضي حكم الحادثة في المصادر الأربعة (الكتاب والسنة والإجماع والقياس) يجب عليه العمل بما أداه إليه اجتهاده إن كان مجتهداً. وإن لم يكن مجتهداً يختار قول الأفقه والأورع من المجتهدين بحسب اعتقاده.
والأفضل بسبب تعدد آراء الفقهاء وضع تقنين موحد للأحكام الشرعية، كمجلة الأحكام العدلية في المعاملات المدنية، وكمرشد الحيران والأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية لقدري باشا.
ثانياً ـ في تكوين رأي القاضي واقتناعه: الالتزام بوسائل الإثبات الشرعية كالشهادة والإقرار والكتابة واليمين والقرائن القطعية والعرفية، حتى يكون حكمه ـ كما هو مقرر بداهة ـ مبنياً على دليل صحيح لا يتعرض للنقض والطعن والتهمة.
ثالثاً ـ منع التهمة: وهو ألا يقضي لخصم يتهم بمحاباته بأن يكون ممن تقبل شهادته للقاضي. فإن كان ممن لا تقبل شهادته له لا يجوز قضاء القاضي له؛ لأن القضاء له قضاء لنفسه من جهة، فلم يكن القضاء مجرداً، وإنما فيه تهمة، فلا يصح القضاء. وعلى هذا يجب على القاضي الامتناع والتنحي عن القضاء لنفسه أو لأحد أبويه أو أجداده، أو لزوجته أو لأولاده وأحفاده، أو لكل من لا تجوز شهادته لهم بسبب التهمة. وهو رأي أكثر الفقهاء (1).
وأما الواجبات المندوبة أو الكمالية للقاضي فهي كثيرة مستمدة في أغلبها من رسالة سيدنا عمر في القضاء والسياسة إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما، وهي تتوخى إقامة العدل المطلق في أكمل وأدق صوره. وبعض هذه الآداب مستمد أيضاً من كتاب علي كرم الله وجهه إلى الأشتر النخعي.
_________
(1) بداية المجتهد: 460/ 2، فتح القدير: 477/ 5، مغني المحتاج: 393/ 4، المغني: 107/ 9.

(8/6241)


وهذه الآداب نوعان: عامة وخاصة (1).
فالآداب العامة: كالمشاورة لجماعة من الفقهاء، والتسوية بين الخصمين في المجلس والإقبال، ورفض قبول الهدايا: «هدايا الأمراء غلول» (2) أي خيانة، والامتناع عن قبول الدعوات الخاصة، أو العامة إذا كان لصاحبها خصومة أو مصلحة.
والآداب الخاصة: كاتساع مكان القضاء (المحكمة)، وملاءمته المناخ أو الطقس في الحر والبرد، والاستعانة بالمساعدين القضائيين كالكتاب والحارس، والمزكي، والترجمان، والمحضر (الذي يحضر الخصوم ويبلغ الدعاوى)، ونائب القاضي حالة السفر أو المرض أو أداء فريضة الحج ونحوها، ووكلاء الخصومة (المحامين). ومن هذه الآداب: ضرورة فهم كل ما يتعلق بالمنازعة أو الخصومة موضوع الدعوى، وصفاء القاضي نفسياً بألا يكون قلقاً مضطرباً وقت القضاء موضوع الدعوى، وصفاء القاضي نفسياً بألا يكون قلقاً ضجراً مضطرباً وقت القضاء بسبب الغضب ونحوه من كل ما يشغل النفس من الهم والنعاس والجوع المفرط والعطش المفرط، والتخمة، والخوف، والمرض وشدة الحزن والسرور، ومدافعة الأخبثين (البول والغائط). ومنها الاعتماد على مبدأ تزكية الشهود، والأخذ بمبدأ مصالحة الخصمين قبل الحكم لقوله تعالى: {والصلح خير} [النساء:128/ 4].
_________
(1) راجع البدائع: 9/ 7 - 13، المبسوط: 61/ 16 - 64، فتح القدير: 465/ 5 - 470. الدر المختار: 316/ 4 - 325،بداية المجتهد: 462/ 2، الشرح الكبير للدردير: 137/ 4، مغني المحتاج: 390/ 4 وما بعدها، المغني: 45/ 9، الأحكام للماوردي: ص 72.
(2) رواه أحمد والبيهقي وابن عدي من حديث أبي حميد الساعدي، وإسناده ضعيف (نيل الأوطار: 297/ 7، 268/ 8).

(8/6242)


وأما حقوق القضاة فمنها المادي ومنها المعنوي. فمن الحقوق المادية: توفير الكفاية المعيشية له ولأسرته بتخصيص مرتب كاف له، كيلا تمتد يده إلى أموال الناس، ولا يتطلع إلى الهدية أو الرشوة. وقد سار النبي وخلفاؤه على هذا النهج. ويضمن بيت المال الضرر الناشئ عن أحكام القضاة دون عمد ولا تقصير أوإهمال. ومن الحقوق المعنوية: توفير الاستقرار للقاضي وعدم عزله إلا بسبب شرعي، تحقيقاً للحصانة القضائية له. وعلى الدولة حماية القاضي من أي تعرض له بسبب حكمه، ومنع مخاصمته في الحكم، ومعاونته في تنفيذ أحكامه.
المطلب الثالث ـ أنواع القضاة واختصاصاتهم:
قسم أقضى القضاة الماوردي قضاة زمانه بحسب عموم ولا يتهم وخصوصها إلى أنواع أربعة وهي:

أولاً ـ القاضي ذو الولاية العامة: وهو القاضي الذي لا تتحدد ولايته بزمان ومكان معين، ولا بأشخاص معينين، وإنما له سلطة مطلقة بالنظر والتصرف فيما يختص بولايته. واختصاصه يشمل عشرة أمور، وهي (1):
1 - فصل المنازعات وقطع المشاجرة والخصومات، إما صلحاً عن تراض فيما يحل شرعاً، أو بحكم بات ملزم.
2 - استيفاء الحقوق ممن مطل بها، وإيصالها إلى مستحقيها بعد ثبوت استحقاقها بالإقرار أو البينة ونحوهما من طرق الإثبات الشرعية.
3 - ثبوت الولاية على عديم الأهلية بجنون أو صغر، والحجر على ناقص الأهلية بسبب السفه (التبذير) والإفلاس، حفظاً للأموال، وتصحيحاً للعقود.
_________
(1) الأحكام السلطانية: ص 67 وما بعدها.

(8/6243)


4 - النظر في الأوقاف، بحفظ أصولها، وتنمية فروعها، وصرف ريعها لمستحقيها.
5 - تنفيذ الوصايا على شروط الموصي فيما أباحه الشرع.
6 - تزويج الأيامى بالأكفاء إذا عدِمن الأولياء ودعين إلى النكاح، وهذا مقصور عند الحنفية على تزويج الصغار.
7 - إقامة الحدود على مستحقيها: فإن كان من حقوق الله تعالى تفرد باستيفائه من غير طالب. وإن كان من حقوق الآدميين كان موقوفاً على طلب مستحقه.
8 - النظر في مصالح عمله من الكف عن التعدي في الطرقات والأفنية، وإخراج ما لا يستحق من الأجنحة والأبنية، وله أن ينفرد بالنظر فيها، وإن لم يحضره خصم. وقال أبو حنيفة: لا يجوز له النظر فيها إلا بدعوى من الخصم.
9 - تصفح شهوده وأمنائه واختيار النائبين عنه من خلفائه في إقرارهم والتعويل عليهم.
10 - التسوية في الحكم بين القوي والضعيف، والعدل في القضاء بين المشروف والشريف، ولا يتبع هواه في تقصير المحق، أو ممايلة المبطل.
ويلاحظ أن هذه الأمور تتضمن بعض التوجيهات العامة بالإضافة إلى تحديد الاختصاصات القضائية.

ثانياً ـ القاضي خاص الولاية: وهو الذي تقتصر ولايته على بعض الاختصاصات المتقدمة، أو تكون ولايته ذات اختصاص موضوعي أضيق،

(8/6244)


كالحكم بالإقرار دون البينة، أو في الديون، دون الأحوال الشخصية، أو في المقدرات الشرعية، فيتقيد بما خصص فيه، ولا يتعداه إلى غيره (1).

ثالثاً ـ القاضي عام النظر خاص العمل (الاختصاص المكاني): وهو الذي يختص بالنظر في جميع اختصاصات النوع الأول، ولكن في بلدة معينة أو محلة معينة، فتنفذ أحكامه في هذا النطاق فقط (2).
رابعاً ـ القاضي المحدد الولاية: وهوالذي تقتصر ولايته بالحكم في قضية أشخاص معينين، أو في أيام محدودة، كيوم السبت وحده بالنسبة لجميع الدعاوى بين الخصوم، وتزول ولايته بعدئذ (3).
المطلب الرابع ـ تنظيم القضاء:
الكلام عن تنظيم القضاء يتناول أموراً كثيرة أهمها:

طرق تعيين القضاة وعزلهم، وتخصص القضاة، وأسلوب القضاء الفردي والجماعي ودرجات التقاضي أو المحاكم.
والتنظيم القضائي: هو مجموعة القواعد والأحكام التي تؤدي إلى حماية الحقوق وفصل الخصومات.
طرق تعيين القضاة وعزلهم:
القضاء ولاية من الولايات المستمدة من الخليفة باعتباره ممثلاً الأمة، فلا بد
_________
(1) المصدر السابق: ص69.
(2) المصدر والمكان السابق.
(3) المصدر السابق: ص 70.

(8/6245)


للقاضي من تعيين صادر عن الحاكم الأعلى أو نائبه، سواء أكان عادلاً أم جائراً، ولا يصح أن يولي نفسه، أو يوليه جماعة من الرعية. وقد بيَّن الماوردي (1) صيغة قرار التعيين الصريح أو ما يقوم مقامه من الألفاظ الدالة على التقليد أو الاستخلاف أو النيابة، واشترط لتمام الولاية أربعة شروط مجملها:
معرفة المولي توافر الصفات اللازمة في المولَّى، ومعرفة المولَّى بصلاحية المولي للتعيين، وتحديد اختصاص القاضي، وتعيين البلد التي يقضي فيها.
وللحاكم عزل القاضي متى شاء، والأولى ألا يعزله إلا بعذر، كما أن للقاضي عزل نفسه من القضاء إذا شاء، والأفضل ألا يعتزل منصبه إلا بعذر، لما في عمله من تحقيق مصلحة عامة للمسلمين، ولا ينعزل القاضي عند الحنفية بعزل الحاكم إلا بعلمه بذلك، وتظل أحكامه نافذة حتى يبلغه نبأ العزل.
وتنتهي ولاية القاضي كما تنتهي الوكالة العادية بأسباب أخرى كالموت والجنون المطبق، وإنجاز المهمة الموكولة للشخص، إلا في أمر واحد: وهو أن الموكل العادي إذا مات أو خلع ينعزل الوكيل. أما ولي الأمر الحاكم إذا مات أو خلع فلا ينعزل قضاته وولاته؛ لأن الحاكم لا يعمل باسمه الشخصي، وإنما بالنيابة عن جماعة المسلمين، وولاية المسلمين تظل باقية بعد موت الإمام (2).
تخصص القضاة:
يتخصص القضاة زماناً ومكاناً ونوعاً وموضوعاً.
1 - التخصص الزماني: وهو أن يتخصص القاضي بالنظر في وقت معين،
_________
(1) المصدر نفسه: ص 65 وما بعدها.
(2) الأحكام السلطانية: ص 66، البدائع: 16/ 7، 37/ 6 وما بعدها.

(8/6246)


كأيام محددة في الأسبوع. وهو حالة من حالات اختصاص القاضي المحدد الولاية كما بيَّن الماوردي.
2 - التخصص المكاني: وهو تقييد القاضي بالقضاء في بلدة معينة أو أكثر، أو ناحية من بلد معين، كما قلد النبي صلّى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب قضاء اليمن، وقلد معاذ بن جبل القضاء في ناحية منها. وهذا هو اختصاص النوع الثالث من أنواع القضاة الذين ذكرهم الماوردي.
3 - التخصص النوعي: وهو تخصيص القاضي عند تعيينه أو بعده ببعض معين من القضايا، كما هو الحادث الآن في دوائر المنازعات المدنية، والأحوال الشخصية، والتجارية، والجنائية ونحوها. أو تخصيصه بقضايا لا تزيد فيها المبالغ المستحقة عن قدر معين. وقد سبق بيانه في النوع الثاني من أنواع القضاة.
4 - التخصص الموضوعي: وهو الاقتصار على سماع دعاوى موضوعات معينة والمنع من سماع دعاوى أخرى، كدعوى الوقف أو الإرث، بسبب مضي المدة أو التقادم الطويل الأمد بلا عذر، وهو مدة (33 أو 36) سنة في الأوقاف وأموال بيت المال، أو 15 سنة في الحقوق الخاصة؛ لأن ترك الادعاء مع الإمكان يدل على عدم الحق ظاهراً.
ومنها عدم سماع دعوى الزوجية بسبب صغر السن، في الفتى دون 18 سنة، وفي الفتاة دون 16 سنة مثلاً.

أسلوب القضاء الفردي والجماعي:
إن أساس القضاء الذي كان سائداً في الإسلام هو الأخذ بنظام وحدة القاضي أو القاضي الفرد كما عرفنا: وهو أن يفصل في الخصومات قاض واحد يعينه الإمام أو نائبه في بلد معين.

(8/6247)


ولا مانع عند فقهاء الحنفية (1) وبعض الحنابلة والشافعية من الأخذ بنظام قضاء الجماعة: وهو اشتراك أكثر من قاض في نظر الدعاوى؛ لأن القاضي نائب أو وكيل عن الإمام، وللموكل أن يوكل عنه شخصاً أو أكثر، وحينئذ فلا بد من اشتراكهم جميعاً عند النظر في الدعاوى وإصدار الحكم فيها، على أساس الشورى.
وأما غير الحنفية (2) الذين لم يجيزوا تعدد القضاة، فتعللوا بتعذر اتفاق القضاة في الرأي بالمجتهد فيه، مما يؤدي إلى تعذر الفصل في الخصومات. وهذا السبب يمكن التغلب عليه بالأخذ برأي الأكثرية، ولأن القضاة يستندون إلى الرأي الذي صوبه الإمام، كما قال بعض الشافعية.

درجات التقاضي أو درجات المحاكم والطعن في الأحكام:
الأصل في القضاء أن يكون على درجة واحدة حسماً للنزاع في أسرع وقت، ولكن ضماناً لسير العدالة وإحقاق الحق، وبسبب قلة الورع، ونقص العلم، جرى العمل حديثاً على تعدد المحاكم.
ولا مانع في الفقه الإسلامي من مبدأ التعدد، بدليل أن سيدنا علياً قضى بين خصمين في اليمن، وأجاز لهما إذا لم يرضيا أن يأتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأتياه فأقر قضاء علي. وقال عمر لأبي موسى الأشعري في رسالته المشهورة: «ولا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس، ثم راجعت فيه نفسك، وهديت لرشدك أن ترجع إلى الحق؛ لأن الحق قديم، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل».
_________
(1) الفتاوى الهندية: 317/ 3، التبصرة لابن فرحون: 37/ 1.
(2) مغني المحتاج: 380/ 4، المغني: 105/ 9، حاشية الدسوقي: 134/ 4.

(8/6248)


وقد فصل فقهاء المذاهب الأربعة هذا الموضوع في بحث الاجتهاد أو نقض الحكم على النحو التالي:
إذا كان الحكم معتمداً على دليل قطعي من نص أو إجماع أوقياس جلي (1) فلا ينقض؛ لأن نقضه إهمال للدليل القطعي، وهو غير جائز أصلاً.
وأما إذا خالف الحكم دليلاً قطعياً، فينقض بالاتفاق بين العلماء، سواء من قبل القاضي نفسه، أو من قاضٍ آخر، لمخالفته الدليل.
فإن كان الحكم في غير الأمور القطعية، وإنما في مجال الاجتهادات أو الأدلة الظنية، فلا ينقض (أي بحسب نظام القضاة الفردي) حتى لا تضطرب الأحكام الشرعية أو تنعدم الثقة بأحكام القضاة، وتبقى الخصومات على حالها بدون فصل زماناً طويلاً.
أما في أسلوب تعدد المحاكم، فإن الخصمين يعلمان سلفاً أن الحكم لم يكتسب الدرجة القطعية، وإنما يجوز استئنافه ونقضه، فلم تعد هناك خشية من اضطراب الأحكام؛ لأن الحكم لم يكتمل بعد. ويمكن تأييد ما ذكر بما قرر الفقهاء من جواز نقض الحكم إذا صدر سهواً، أو ظهر فيه خطأ (2). فإن اكتسب الحكم الدرجة القطعية من محكمة النقض، فلا ينقض الحكم السابق في حادثة مشابهة عملاً بقاعدة: «الاجتهاد لا ينقض بمثله» وأصلها قول عمر: «تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي».
_________
(1) وهو ما كانت العلة فيه منصوصة، أو قطع بنفي تأثير الفارق بين الأصل والفرع، كقياس الضرب على التأفف في الحرمة.
(2) راجع تبصرة الحكام: 55/ 1 وما بعدها، فتح القدير: 487/ 5، البدائع: 14/ 7، مغني المحتاج: 396/ 4، المغني: 56/ 9، العقد المنظم للحكام: 192/ 2، أصول الفقه للمؤلف 1114/ 2 ومابعدها.

(8/6249)


والخلاصة: إن فقهاءنا عرفوا مبدأ الطعن في الأحكام، ولا يعد تنظيم المحاكم حديثاً مخالفاً لمبادئ الإسلام، وإنما يتمشى معها، عملاً بما قرره الفقهاء فيما يجوز نقضه من الأحكام أو الطعن في الحكم بسبب التهمة الموجهة للقاضي. وقد عرف القضاء في الأندلس فعلياً مبدأ القضاء بالرد.

صفة قضاء القاضي:
يلاحظ أخيراً أن حكم القاضي عند جمهور العلماء يعتمد الظاهر في المال وغيره من الأحوال الشخصية، فلا يحل الحرام ولا يحرم الحلال، ولا ينشئ الحقوق وإنما يظهرها ويكشف عنها في الوقائع، عملاً بالحديثين السابقين: «نحن نحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر» (1) «إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بنحوٍ مما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من نار» (2).
وقال أبو حنيفة: ينفذ حكم القاضي في العقود والفسوخ ظاهراً وباطناً؛ لأن مهمته القضاء بالحق. فلو ادعى رجل على امرأة أنه تزوجها، فأنكرت، فأقام على ادعائه شاهدي زور، فقضى القاضي بعقد الزواج بينهما، حل للرجل الاستمتاع بها. ولو قضى القاضي بالطلاق فرق بينهما، وإن كان الرجل منكراً. ونفاذ حكم القاضي على هذا النحو مقيد بشرطين: ألا يعلم بكون الشهود زوراً، وأن يكون من الأمور التي له فيها صلاحية الإنشاء.

المبحث الثالث ـ التحكيم التحكيم: أن يحكم المتخاصمان شخصاً آخر لفض النزاع القائم بينهما على
_________
(1) لم يثبت بهذا اللفظ.
(2) رواه الجماعة عن أم سلمة.

(8/6250)


هدى حكم الشرع. وقد دل على جوازه قوله تعالى: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما} [النساء:35/ 4] وعن أبي شريح قال: «يا رسول الله، إن قومي إذا اختلفوا في شيء فأتوني فحكمت بينهم، فرضي عني الفريقان، فقال له الرسول صلّى الله عليه وسلم: ما أحسن هذا» وعمل الرسول بحكم سعد بن معاذ الذي اتفق مع يهود بني قريظة على تحكيمه فيهم. وأجمع الصحابة على جواز التحكيم.
ويشترط في المحكَّم أن يكون أهلاً للشهادة رجلاً كان أو امرأة، وأن تتوافر فيه هذه الأهلية وقت الحكم، وأن يكون الموضوع في غير الحدود والقصاص لاختصاص الإمام بالنظر فيها وفي استيفائها، فيصح التحكيم في القضايا المالية وفي الأحوال الشخصية من زواج وطلاق.
ويلتزم المتحاكمان بقرار المحكم عند الحنفية والحنبلية. ولكل واحد الرجوع عن التحكيم قبل إصدار الحكم عند الحنفية. والراجح عند المالكية ألا يشترط دوام رضائهما حتى صدور الحكم، فإن رجعا معاً ولم يرتضياه قبل الحكم، فلهما ذلك. وإن رجع أحدهما فله ذلك عند سحنون،
وليس له حق الرجوع عند ابن الماجشون (1).

المبحث الرابع ـ ولاية المظالم تعريفها ونشأتها، المختص بالنظر فيها، هيئة مجلسها، اختصاصاتها، الفرق بينها وبين القضاء العادي.
_________
(1) انظر فتح القدير: 498/ 5، المبسوط: 62/ 21، تبصرة الحكام: 43/ 1، حاشية الدسوقي: 140/ 4 ومابعدها.

(8/6251)


أولاً ـ تعريف ولاية المظالم ونشأتها: ولاية المظالم تشبه إلى حد كبير نظام القضاء الإداري ومجلس الدولة حديثاً، فهي أصلاً للنظر في أعمال الولاة والحكام ورجال الدولة مما قد يعجز عنه القضاء العادي، وقد ينظر واليها في المنازعات التي عجز القضاء عن فصلها، أو في الأحكام التي لا يقتنع الخصوم بعدالتها. ويجتمع فيها القضاء والتنفيذ معاً (1).
وعرفها الماوردي بقوله (2): «نظر المظالم: هو قود المتظالمين إلى التناصف بالرهبة، وزجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة، فكان من شروط الناظر فيها أن يكون جليل القدر نافذ الأمر، عظيم الهيبة، ظاهر العفة، قليل الطمع، كثيرالورع؛ لأنه يحتاج في نظره إلى سطوة الحماة، وثبت القضاة، فيحتاج إلى الجمع بين صفات الفريقين، وأن يكون بجلالة القدر نافذ الأمر في الجهتين».
نشأتها: كان الرسول صلّى الله عليه وسلم في صدر الإسلام أول من نظر المظالم بنفسه، فقضى في شِرْب بين الزبير بن العوام وأنصاري (3)، وأرسل علياً لدفع دية القتلى الذين قتلهم خالد من قبيلة بني جذيمة بعد أن خضع أهلها وقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد».
ولم يُنتدب للمظالم من الخلفاء الأربعة أحد؛ لأن الناس كان يقودهم التناصف إلى الحق، ويزجرهم الوعظ عن الظلم.
ولكن عمر رضي الله عنه كان شديد الوطأة على الولاة، ودائم التحذير لهم، فأمر بالاقتصاص من عمرو بن العاص؛ لأنه قال لأعرابي في المسجد: يا منافق، إلا أن يعفو الأعرابي، واقتص من ابن عمرو لإهانته مصرياً قبطياً.
_________
(1) السلطات الثلاث: ص 313، الماوردي: ص 73.
(2) الأحكام السلطانية: ص 73.
(3) الماوردي: ص 73.

(8/6252)


وحينما تأخرت إمامة علي واختلط الناس فيها وجاروا، احتاجوا إلى صرامة في السياسة، فكان علي رضي الله عنه أول من نظر في مظالم النا س، ولم يعين يوماً محدداً لها.
وعندما تجاهر الناس بالظلم في عهد الدولة الأموية كان عبد الملك بن مروان أول من أفرد للظلامات يوماً يتصفح فيه قصص المتظلمين.
ثم زاد جور الولاة وظلم العتاة ولم يكفهم إلا أقوى الأيدي وأنفذ الأوامر، فكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله أول من ندب نفسه للنظر في المظالم، فردها، وراعى السنن العادلة، ورد مظالم بني أمية على أهلها، فلما عوتب في شدته عليهم فيها قال: «كل يوم أتقيه وأخافه دون يوم القيامة لا وُقِيته».
ثم جلس لها من خلفاء بني العباس جماعة، أولهم المهدي ثم الهادي ثم الرشيد ثم المأمون وكان آخرهم المهتدي، حتى عادت الأملاك إلى مستحقيها (1).
وهكذا نشأ نظام المظالم واستقل عن القضاء العادي.

ثانياً ـ صفة ناظر المظالم: كان الخليفة كما تقدم أول من نظر المظالم ومثله الوزراء والأمراء. ويصح النظر في المظالم بتقليد خاص من ولي الأمر لكل من توافرت فيه شروط ولاية العهد، أو وزارة التفويض، أو إمارة الأقاليم إذا كان نظره في المظالم عاماً.
فإن اقتصرت مهمة المقلد للقضاء على تنفيذ ما عجز القضاة عن تنفيذه، وإمضاء ما قصرت يدهم عن إمضائه، جاز أن يكون ناظر المظالم دون مرتبة الوزير والأمير في القدر والخطر، بشرط ألا تأخذه في الحق لومة لائم.
_________
(1) المرجع السابق: ص 73 وما بعدها.

(8/6253)


هيئة محكمة المظالم: لابد لتكوين مجلس نظر المظالم من خمسة أصناف لا يستغني عنهم ناظر المظالم ولا ينتظم نظره إلا بهم، وهم (1):
1 - الحماة والأعوان لجذب القوي، وتقويم الجريء.
2 - القضاة والحكام لاستعلام ما ثبت عندهم من الحقوق، ومعرفة ما جرى في مجالسهم بين الخصوم.
3 - الفقهاء ليرجع إليهم فيما أشكل، ويسألهم عما اشتبه وأعضل.
4 - الكتّاب ليثبتوا ما جرى بين الخصوم وما توجه لهم أو عليهم من الحقوق.
5 - الشهود: ليشهدهم على ما أوجبه من حق وأمضاه من حكم. فإذا استكمل مجلس المظالم بهؤلاء الأصناف شرع الناظر حينئذ في النظر فيها.

ثالثاً ـ اختصاصات ديوان المظالم: يختص ناظر المظالم باختصاصات متعددة بعضها استشاري يتعلق بمراقبة تطبيق أحكام الشرع، وبعضها إداري يتعلق بمراقبة أعمال الموظفين ولو بدون متظلم من الناس، كما يظهر من الاختصاصات الثلاثةالأولى، وبعضها قضائي يتعلق بفصل الخصومات بين الحكام والرعية، أو بين الرعية أنفسهم. وهذه الاختصاصات تفصيلاً هي ما يأتي (2):
أولاً ـ النظر في تعدي الولاة على الرعية وأخذهم بالعسف في السيرة. ثانياً ـ النظر في جور العمال فيما يجبونه من الأموال، فيرجع فيه إلى القوانين
_________
(1) المصدر السابق: ص 76.
(2) المصدر السابق نفسه: ص76 ومابعدها.

(8/6254)


العادلة في دواوين الأئمة، فيحمل الناس عليها، ويأخذ العمال بها، وينظر فيما استزادوه، فإن رفعوه إلى بيت المال أمر برده، وإن أخذوه لأنفسهم استرجعه لأربابه.

ثالثاً ـ تصفح أعمال كتاب الدواوين؛ لأنهم أمناء المسلمين على ثبوت أموالهم فيما يستوفونه لهم، ويوفونه منه.
هذه الأقسام الثلاثة لا يحتاج والي المظالم في تصفحها إلى متظلم.

رابعاً ـ النظر في تظلم المسترزقة (أي الموظفين والجنود) من نقص أرزاقهم أو تأخرهم عنهم.
خامساً ـ رد الغصوب، أي الأموال المغتصبة بدون حق. وهي نوعان:
أـ غصوب سلطانية: وهي التي يأخذها الحكام أو ولاة الجور من أصحابها بدون حق، إما بأخذها للدولة أو لأنفسهم ظلماً. وحكمها أن والي المظالم يأمر بردها إلى أصحابها إن علم بها عند ممارسة إشرافه على الولاة، ولو قبل التظلم إليه، فإذا لم يعلم بها توقف نظره فيها على تظلم أربابها. ويمكنه الاعتماد على ديوان السلطنة في إثبات حق صاحبها، دون حاجة لتقديم الأدلة من مستحقها.
ب ـ غصوب الأقوياء: وهي التي يتغلب عليها ذوو الأيدي القوية من الأفراد المتنفذين ذوي الوجاهة في الدولة، فيتصرفون فيها تصرف الملاك بالقهر والغلبة. وهذا النوع يتوقف النظر فيه على تظلم أربابه.
ولا ينتزع من يد غاصبه إلا بأحد أمور أربعة: وهي اعتراف الغاصب وإقراره أو علم والي المظالم بها، أو بينة تشهد بالغصب، أو تظاهر الأخبار، أي التسامع الذي ينفي عنها التواطؤ ولا يختلج فيها الشك.

(8/6255)


سادساً ـ الإشراف على شؤون الأوقاف وهي نوعان:
أـ أوقاف عامة على مصالح عامة كالمساجد والمدارس ونحوها. وهذه ينظر في شأنها، وإن لم يكن فيها متظلم، ليصرف ريعها في سبلها، وينفذ شروط واقفها إذا عرفها من أحد ثلاثة أوجه: إما من دواوين المندوبين لحراسةالأحكام، وإما من دواوين السلطنة، وإما من كتب فيها قديمة يترجح ظن صحتها، وإن لم يشهد الشهود بها.
ب ـ أوقاف خاصة: وهي الموقوفة على أشخاص معينين. فلا ينظر في منازعاتها إلا بتظلم مستحقيها، ولا يحكم بها إلا بطرق الإثبات العادية المقررة شرعاً.

سابعاً ـ تنفيذ أحكام القضاة التي عجزوا عن تنفيذها، لتعزز المحكوم عليه وقوة يده، أو لعلو قدره وعظيم خطره.
ثامناً ـ النظر فيما عجز عنه ناظرو الحسبة في المصالح العامة كالمجاهرة بمنكر ضعف عن دفعه، والتعدي في طريق عجز عن منعه، والتحيف في حق لم يقدر على رده.
تاسعاً ـ مراعاة العبادات الظاهرة كالجُمَع والأعياد والحج والجهاد، من تقصير فيها، وإخلال بشروطها، فإن حقوق الله أولى أن تستوفى، وفروضه أحق أن تؤدى.
عاشراً ـ النظر بين المتشاجرين، والحكم بين المتنازعين، فلا يخرج في النظر بينهم عن موجب الحق ومقتضاه، ولا يسوغ أن يحكم بينهم إلا بما يحكم بها الحكام والقضاة.
رابعاً ـ الفرق بين نظر المظالم ونظر القضاة: قد يثور التساؤل في تحديد جهة المحكمة المختصة بنظر النزاع، هل ديوان المظالم أو القضاء العادي، مما يدعو إلى توضيح الفروق بينهما وهي عشرة كما أبان الماوردي (1):
1 - لناظر المظالم من فضل الهيبة وقوة اليد ما ليس للقضاة في ردع الخصوم ومنع الظلمة من التسلط.
2 - ناظر المظالم أفسح مجالاً وأوسع مقالاً.
3 - سلطات ناظر المظالم أوسع في التحقيق والاستدلال وطرق الإثبات المعتمدة على القرائن والأمارات وشواهد الأحوال.
4 - لناظر المظالم أن يقابل من ظهر ظلمه بالتأديب، ويأخذ من بان عدوانه بالتقويم والتهذيب.
5 - له الحق في التأني والتأجيل عند الاشتباه والإبهام ما ليس للحكام إذا طلب منهم أحد الخصمين فصل الحكم وإصدار القرار.
6 - له رد الخصوم لفصل التنازع صلحاً عن تراض، وليس للقاضي الرد إلا إذا رضي الخصمان.
7 - له أن يفسح في ملازمة الخصمين إذا وضحت أمارات التجاحد، ويأذن بالكفالة فيما يسوغ فيه التكفل لينقاد الخصوم إلى التناصف ويعدلوا عن التجاحد والتكاذب.
8 - له أن يسمع من شهادات المستورين ما يخرج عن عرف القضاة في شهادة المعدلين.
9 - له إحلاف الشهود عند إرتيابه بهم، ويستكثر من عددهم ليزول عنه الشك، وينفي عنه الارتياب، وليس ذلك للحاكم العادي.
10 - له أن يبدأ باستدعاء الشهود، ويسألهم عما عندهم من تنازع الخصوم. وأما عادة القضاة فهي تكليف المدعي إحضار بينة، ولا يسمعونها إلا بعد مسألته وطلبه.
وفيما عدا هذه الأمور العشرة هما متساويان.

المبحث الخامس ـ نظام الحسبة أو ولاية الحسبة في الإدارة الإسلامية:
تمهيد في تاريخ الحسبة:
ظهر في العهود الإسلامية الأولى نظام الحسبة إلى جانب نظام القضاء العادي وولاية المظالم، وكان ذلك أحد أنظمة الإدارة الإسلامية الأصلية المنبثقة عن نظام
_________
(1) الأحكام: ص79 وما بعدها.

(8/6256)


الخلافة التي هي في الحقيقة نيابة عن صاحب الشرع في حفظ الدين وسياسة الدنيا.
ذكر ابن خلدون في مقدمته: أن الخطط الدينية الشرعية، من إمامة الصلاة، والفتيا، والقضاء، والجهاد والحسبة، كلها مندرجة تحت الإمامة الكبرى التي هي الخلافة، فكأنها الإمام الكبير، والأصل الجامع، وهذه كلها متفرعة عنها، وداخلة فيها لعموم نظر الخلافة، وتصرفها في سائر أحوال الملة الدينية والدنيوية، وتنفيذ أحكام الشرع فيها على العموم (1).
وهنا أفصل الكلام في ولاية الحسبة على النحو التالي:
1 - حقيقة الحسبة:
وهي تشمل تعريف الحسبة وأساسها وغايتها، وقاعدتها وأصلها، وواضعها والفرق بين المحتسب والمتطوع وشروطها وآدابها.
2 - اختصاصات المحتسب.
3 - مقارنة أوموازنة بين ولاية الحسبة ونظام القضاء وولاية المظالم أو نظر المظالم.

أولاً ـ حقيقة الحسبة: تتبين حقيقة الحسبة في توضيح الأمور التالية:
1 - تعريفها: الحسبة: هي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا
_________
(1) مقدمة ابن خلدون: ص 195، ط دار الشعب بالقاهرة.

(8/6257)


ظهر فعله (1). أو هي وظيفة دينية، من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين، يعيِّن لذلك من يراه أهلاً له، فيتعيَّن فرضه عليه، ويتخذ الأعوان على ذلك، ويبحث عن المنكرات، ويعزِّر، ويؤدِّب على قدرها، ويحمل الناس على المصالح العامة في المدينة، مثل المنع من المضايقة في الطرقات، ومنع الحمَّآلين وأهل السفن من الإكثار في الحمل، والحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها، وإزالة ما يتوقع من ضررها على السابلة (المارّة) (2).
قال ابن القيم في كتاب الطرق الحكمية: وأما الحكم بين الناس فيما لا يتوقف على الدعوى، فهو المسمى بالحسبة، والمتولي له والي الحسبة.
وقد جرت العادة بإفراد هذا النوع بولاية خاصة، كما أفردت ولاية المظالم بولاية خاصة، والمتولي لها يسمى والي المظالم، وولاية المال قبضاً وصرفاً بولاية خاصة والمتولي لذلك يسمى وزيراً، وناظر البلد لإحصاء المال وضبطه تسمى ولايته: ولاية استيفاء، والمتولي لاستخراجه وتحصيله ممن هو عليه تسمى ولايته ولا ية السِّر، والمتولي لفصل الخصومات وإثبات الحقوق، والحكم في الفروج والأنكحة والطلاق والنفقات، وصحة العقود وبطلانها: هو المخصوص باسم الحاكم والقاضي. وبه يتبين أن ولاية الحسبة: خاصتها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما ليس من خصائص الولاة والقضاة (3).
يتبين من هذا أن الحسبة لا تتوقف على رفع الدعوى من أحد الخصوم،
_________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 240، ط البابي الحلبي بمصر.
(2) مقدمة ابن خلدون: ص 201، ط دار الشعب، 576 ط التجارية بالقاهرة.
(3) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: ص 344، 349، مطبعة المدني بالقاهرة.

(8/6258)


ويصح لأي واحد من الناس تبليغ المحتسب بوجود منكر في زمان أو مكان أو لدى شخص معين يقيم مثلاً علاقة غير مشروعة مع امرأة بسبب طلاقها، أو وجود رضاع مشترك بينه وبينها من أم واحدة، أو تعايش معها دون وجود عقد زواج صحيح يربط بينهما.
كما أن للمحتسب أن يتصدى بنفسه لأمر بمعروف أو منع منكر واقع دون انتظار دعوى مرفوعة من شخص ما.
وتكون الحسبة على هذا النحو متعلقة بالنظام العام والآداب، وقد تتعلق بالجنايات أحياناً مما يحتاج إلى سرعة في الفصل فيه، من أجل حماية القيم الإنسانية أو الدينية وتكوين المجتمع الفاضل، فهي إذن ضرورة اجتماعية لا بد منها تمثِّل المجتمع وقيمه، وهي أسبق إلى معرفة ما يسمى في العصر الحديث بنظرية الدفاع الاجتماعي ضد الجريمة، إذ لهاجانبان: إيجابي وسلبي، تقمع الجريمة وتطارد المجرمين من المجتمع دون حاجة لادعاء شخصي، وتقوم بدور الوقاية من الجرائم قبل وقوعها، بالترغيب في فعل المعروف، والترهيب من ارتكاب الفواحش والمنكرات التي تؤدي إلى الإخلال بأمن الجماعة واستقرارها، والحفاظ على الأعراض والحرمات.
قال ابن خلدون: ولا يتوقف حكم المحتسب على تنازع أو استعداء (أي ادعاء) بل له النظر والحُكم فيما يصل إلى علمه من المنكرات ويرفع إليه، وليس له إمضاء الحكم في الدعاوى مطلقاً، بل فيما يتعلق بالغش والتدليس (إخفاء العيوب بحيلة) في المعايش وغيرها في المكاييل والموازين، وله أيضاً حمل المماطلين على الإنصاف، وأمثال ذلك مما ليس فيه سماع بيِّنة ولا إنفاذ حكم، وكأنها أحكام يُنزَّه القاضي عنها لعمومها وسهولة أغراضها، فتدفع إلى صاحب هذه الوظيفة ليقوم بها، فوضعها على ذلك أن تكون خادمة لمنصب القضاء.

(8/6259)


وقد كانت في كثير من الدول الإسلامية، مثل العبيديين بمصر، والمغرب، والأمويين بالأندلس داخلةً في عموم ولاية القاضي، يولّي فيها باختياره.
ثم لما انفردت وظيفة السلطان عن الخلافة، وصار نظره عاماً في أمور السياسة، اندرجت في وظائف الملك وأفردت بالولاية (1).

2 - أساسها: أساس الحسبة: قول الله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون} [آل عمران:104/ 3] وقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من غشنا فليس منا» (2) فهي من قواعد الأمور الدينية، وهي ولاية دينية ناشئة من فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
3 - غايتها: غايتها أو مقصودها مثل مقصود جميع الولايات في الإسلام:
أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، بتحقيق العبودية لله، والقيام بواجب عبادة الله، وعبادته تكون بطاعته وطاعة رسوله، وذلك هو الخير والبر والتقوى، والحسنات والقربات، والباقيات الصالحات، والعمل الصالح، وهذه مظاهر إيجابية المسلم، ليظل نقياً بنفسه، طاهراً مطهراً من شوائب الانحراف، وجميع الحسنات لا بد فيها من شيئين: أن يراد بها وجه الله، وأن تكون موافقة للشريعة قولاً وعملاً، كلاماً طيباً وعملاً صالحاً.
والطاعة تتطلب أيضاً في شطرها الثاني: البعد عن المعاصي أو الجرائم والفواحش والمنكرات، لأن نقاوة المجتمع ونظافته لا تتوافر إلا بالإقلاع عن هذه الأمور، وذلك مظهر مدني وحضاري رفيع، كما أن للمعاصي انعكاسات سيئة على الفرد والجماعة، لأن الله تعالى أبان لنا بنحو واضح أن المعاصي سبب
_________
(1) مقدمة ابن خلدون، المرجع والمكان السابق.
(2) حديث صحيح أخرجه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(8/6260)


المصائب، فالمصيبة والجزاء من سيئات الأعمال، والطاعة سبب النعمة، وإحسان العمل سبب لإحسان الله، قال الله تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم، ويعفو عن كثير} [الشورى:30/ 42] وقال تعالى: {ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك} [النساء:4/ 79] وأخبر سبحانه بما عاقب به في الدنيا أهل السيئات من الأمم، كقوم نوح وعاد وثمود، وقوم لوط وأصحاب مدين، وقوم فرعون، وأخبر أيضاً بما يعاقبهم به في الآخرة (1).
ولهذا كانت الولاية لمن يتخذها ديناً يتقرب به إلى الله، ويفعل فيها الواجب بحسب الإمكان: من أفضل الأعمال الصالحة، حتى قد روى الإمام أحمد في مسنده عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أحب الخلق إلى الله إمام عادل، وأبغض الخلق إلى الله إمام جائر» (2).

4 - واضعها: واضع نظام الحسبة تنفيذاً لواجب أو مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المقرر في الإسلام وشرعه: هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه كان يقوم بنفسه بمراقبة أحوال السوق لمنع الغش ويتعسس في الليل لتفقد أحوال المسلمين ومقاومة الظلمة والمنحرفين وتعقب المجرمين. ولكن عرفت التسمية في عهد الخليفة العباسي (3):
5 - قاعدتها: قاعدة الحسبة وأصلها: هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، ووصف به هذه الأمة، وفضّلها لأجله
_________
(1) الحسبة لابن تيمية: ص 4، 75، 104، ط مكة.
(2) المرجع السابق: ص 7.
(3) تاريخ القضاء في الإسلام للقاضي محمود عرنوس: 107، مقدمة ابن خلدون: ص 576، ط التجارية بمصر.

(8/6261)


على سائرالأمم التي أخرجت للناس، وهذا واجب على كل مسلم قادر، وهو فرض كفاية، ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره من ذوي الولاية والسلطان، فعليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم، فإن مناط الوجوب: هو القدرة، فيجب على القادر ما لا يجب على العاجز، قال الله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن:16/ 64] (1).

6 - الفرق بين المحتسب والمتطوع:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كان واجباً عاماً على كل مسلم قادر، كما تقدم، غير أن هناك فرقاً بين المحتسب والمتطوع من تسعة أوجه ذكرها الماوردي (2)، ويمكن إيجازها فيما يأتي:
أحدها ـ الحسبة فرض عين على المحتسب بحكم ولايته أو وظيفته المأجورة، فلا يجوز أن يتشاغل عنه، وفرض كفاية على غيره من المسلمين، فهي من نوافل عمله الذي يجوز أن يتشاغل عنه.
الثاني ـ المحتسب مخصص للادعاء فيما يجب إنكاره، وعليه إجابة المدعي المستعدي، وأما غيره فليس مخصصاً لهذا، ولا يلزمه إجابة المستعدي.
الثالث ـ على المحتسب أن يبحث عن المنكرات الظاهرة لينكرها على فاعلها، ويفحص عما ترك من المعروف الظاهر ليأمر بإقامته، وليس على المتطوع بحث ولا فحص.
الرابع ـ للمحتسب أن يتخذ أعواناً على إنكاره، وله أن يعزِّر في المنكرات الظاهرة وله رزق من بيت المال، وليس للمتطوع ذلك.
_________
(1) الطرق الحكمية لابن القيم: ص 345، ط المدني بالقاهرة.
(2) الأحكام السلطانية: ص 240، ط: البابي الحلبي.

(8/6262)


الخامس ـ للمحتسب الاجتهاد فيما يتعلق بالعرف دون الشرع، كالقعود في الأسواق، وإخراج الأجنحة (القواعد البارزة) في الشوارع وليس هذا للمتطوع.

7 - شروطها وآدابها:
يشترط في والي الحسبة: أن يكون حراً، عدلاً، ذا رأي وصراحة وخشونة في الدين، وعلم بالمنكرات الظاهرة، وهذه الضوابط توفر له الهيبة، وتعينه على قمع المنكر، وتجعله نافذ الكلمة، مسموع القول، لا مكان للجدال فيما يأمر به أو ينهى عنه، لأن المهم تحقيق الغاية من وجوده، وإظهار حرمة الشرع، وشيوع الفضيلة، واحترام الأخلاق والآداب العامة.
واختلف الفقهاء وعلماء الأصول في اشتراط كونه من أهل الاجتهاد على قولين، فقال بعضهم وهو أبو سعيد الاصطخري: يشترط، وله بالتالي إلزام الناس برأيه واجتهاده، وقال الأكثرون: لا يشترط، فليس له إلزام الناس برأيه ومذهبه الاجتهادي فيما لا نص صريح فيه. وعلى هذا يجوز في الراجح أن يكون المحتسب من غير أهل الاجتهاد إذا كان عارفاً بالمنكرات المتفق على تحريمها.
ولابد للمحتسب من الرفق في أموره كلها، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلم ـ فيما رواه عبد ابن حميد والضياء عن أنس ـ «ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه» ولا بد أيضاً أن يكون حليماً صبوراً على الأذى، فإن لم يحلم ويصبر، كان مفسداً أكثر مما يصلح، كما قال لقمان لابنه: {وأمر بالمعروف وانه عن المنكر، واصبر على ما أصابك، إن ذلك من عزم الأمور} [لقمان:17/ 31] ويضم المحتسب إلى أمره ونهيه الإحسان إلى الغير إحساناً يحصل به مقصوده من حصول المحبوب واندفاع المكروه، فإن النفوس لا تصبر على المرّ إلا بنوع من الحلو (1).
_________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 241، الحسبة لابن تيمية: ص 72 وما بعدها، 89، طبع مكة.

(8/6263)


ثانياً ـ اختصاصات المحتسب: يتولى المحتسب وظائف لها صلة بالقضاء والمظالم والشرطة، فهو ينظر في المنازعات الظاهرة التي لاتحتاج إلى أدلة إثباتية، كدعاوى الغش والتدليس (إخفاء العيوب بحيلة) وتطفيف المكيال والميزان (بالزيادة له والنقص لغيره) فهو بهذا كالقاضي، ويؤدب مرتكبي المعاصي التي ترتكب جهراً أو تخل بآداب الإسلام، فهو بهذا كناظر المظالم. ويرعى النظام والآداب والأمن في الشوارع والأسواق مما لا تجوز مخالفته، فيكون بهذا كالشرطة أو النيابة العامة (1).
وتنحصر اختصاصات المحتسب في أمرين:
أحدهما ـ الأمر بالمعروف.
والثاني ـ النهي عن المنكر (2).
وذلك مما ليس من خصائص الولاة والقضاة وأهل الديوان ونحوهم. وكل ما يتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثلاثة أقسام:
أحدها ـ حقوق الله تعالى: والمراد بحق الله تعالى: ما يتعلق به النفع العام للعالم من غير اختصاص بأحد، ويقابله الحق العام أو حق المجتمع في الاصطلاح القانوني الحديث، ويدخل فيه العبادات وحقوق الجماعة.
وثانيها ـ حقوق العباد أو الآدميين: والمراد بحق العبد: ما يتعلق به مصلحة خاصة، كحق الملكية وحرمة مال الغير، ويقابله في عرفنا اليوم الحق الخاص.
_________
(1) السلطات الثلاث للدكتور سليمان الطماوي: ص 323، مدخل الفقه الإسلامي للأستاذ المرحوم محمد سلام مدكور: ص 407.
(2) انظر الأحكام السلطانية للماوردي: ص 243 - 252، الحسبة لابن تيمية: 11 - 29، 31 - 37، 41 - 49، 52 - 57، ط مكة، الطرق الحكمية لابن القيم: ص 349 - 363، ط المدني بالقاهرة.

(8/6264)


وثالثها ـ حقوق مشتركة بين الله والعباد: وهو ما اجتمع فيه حق الله وحق العبد، لكن يكون المراعى فيه إما مصالح العباد أو مصلحة المجتمع وإما مصلحة العبد، مثل حق القصاص في رأي الحنفية والمالكية، وحد القذف في رأي الحنفية، والغالب في القصاص حق العبد، والغالب في حد القذف حق الله تعالى، أي حق الجماعة.
وأبيّن أقسام كل منهما لتتضح مهمة المحتسب.

1 - الأمر بالمعروف:
المعروف: كل ما أمر به الشرع وارتضاه العقل السليم والأعراف الحميدة ويكون الأمر بالمعروف على النحو التالي:
أـ ما يتعلق بحقوق الله الخالصة: وهو إما أن يخص الجماعة أو يخص الأفراد (أو الأشخاص).
فأما ما يخص الجماعة: فيراقب المحتسب ترك الواجبات الدينية العامة، سواء أكانت من الشعائر، كإقامة الأذان للصلوات، وأداء صلاة الجمعة والجماعة في المساجد، أم من غير الشعائر، كترك فريضة الصيام والصلاة، فيأمر المقصرين بها، ويعاقب من لم يصل أولم يصم بالضرب والحبس.
ويلاحظ أن اعتناء ولاة الأمور بإلزام الرعية بإقامة الصلاة: أهم من كل شيء فإنها عماد الدين، وأساسه وقاعدته، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى عماله: «أن أهم أمركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها، حفظ دينه، ومن ضيعها كان لماسواها أشد إضاعة».

(8/6265)


وأما ما يخص الأشخاص أو الأفراد: فهو زجر من يؤخر الصلاة عن وقتها بلا عذر شرعي.
ب ـ ما يتعلق بحقوق العباد: وهو أيضاً نوعان: عام وخاص.
فأما الحقوق العامة: فمثل تعطل مرافق البلد العامة من شِرْب وتهدم أسوار ومساجد، ومراعاة بني السبيل، فيأمر بتأمين هذه المرافق وإشباعها إما من بيت المال، أو من أغنياء المسلمين عند عجز بيت المال.
وأما الحقوق الخاصة: فمثل المماطلة في أداء الحقوق والديون، وكفالة من تجب كفالته من الصغار، فيأمر المحتسب بأداء الحقوق عند القدرة واليسار، بشرط ادعاء المستحق لها عنده وإثبات حقه. وكذلك يأمر بالكفالة عند استيفاء شروطها.
جـ ـ ما يتعلق بالحقوق المشتركة: كمطالبة الأولياء بإنكاح الأيامى (غير المتزوجات) من أكفائهن إذا طلبن، وإلزام النساء أحكام العِدَد إذا فورقن، وللمحتسب تأديب من خالف في العدة من النساء، وليس له تأديب من امتنع من الأولياء من تزويج الأيامى. وتكليف أرباب البهائم بإطعامها، وألا يستعملوها فيما لا تطيق. وإلزام من التقط لقيطاً بحقوقه أو تسليمه لمن يقوم بها ويلتزمها، وتضمينه الضالة بالتقصير في رعايتها أو تسليمها إلى غيره، وعدم ضمان اللقيط إذا هلك أو سلمه لغيره.

2 - النهي عن المنكر:
أـ ما يتعلق بحقوق الله تعالى، وتقسم ثلاثة أقسام:
الأول ـ العبادات: ينكر المحتسب الإخلال بشروط الصلاة وآدابها وطهارتها الشرعية، ويؤدب المعاند فيها. ويردع المفطرين في رمضان بغير عذر شرعي من

(8/6266)


سفر أو مرض، وينكر المجاهرة بالإفطار لئلا يعرض المفطر نفسه للتهمة، ولئلا يقتدي به من ذوي الجهالة ممن لا يقدر العذر.
ويجبي الزكاة جبراً من الممتنع عن أدائها من الأموال الظاهرة، ويعزره على الخيانة بغير عذر. وينكر على المقصر بأداء الزكاة عن الأموال الباطنة، ويؤدبه إن ثبت تقصيره.
كذلك ينكر التسول (السؤال) من غير حاجة، ويؤدب الغني بمال أو عمل، وينكر أيضاً تصدي الجهلة لإفتاء الناس بعلم الشرع، ويمنعهم من ذلك منعاً من التغرير والفتنة والإيقاع في الضلالة.
الثاني ـ المحظورات: وهي التي نهى عنها الله ورسوله. ووظيفة المحتسب: أن يمنع الناس من مواقف الريب ومظان التهمة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (1) فيقدم الإنكار ولا يعجل بالتأديب، مثل اختلاط النساء بالرجال في المساجد والطرقات والأماكن العامة. والمجاهرة بإظهار الخمر والمسكرات، أو الملاهي المحرمة، فيريق المسكرات على المسلم، ويؤدب الذمي على إظهارها، ويفك أدوات الملاهي حتى تصير خشباً، ويؤدب المجاهر بها، ولا يكسرها إن صلح خشبها للانتفاع به لغير الملاهي.
وأما ما لم يظهر من المحظورات فليس للمحتسب أن يتجسس عنها، ولا أن يهتك الأستار حذراً من الاستتار بها، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من أتى من هذه القاذورات شيئاً، فليستتر بستر الله، فإن من يبد لنا صفحته، نقم حد الله تعالى عليه» (2).
_________
(1) رواه الترمذي والنسائي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(2) ذكره الماوردي في الأحكام السلطانية: ص 252. وأخرج الترمذي وابن ماجه والحاكم عن علي رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من أصاب حداً فعُجِّل عقوبته في الدنيا فالله أعدل من أن يثنّي على عبده العقوبة في الآخرة، ومن أصاب حداً فستره الله عليه وعفا عنه، فالله أكرم من أن يعود في شيء قد عفا عنه».

(8/6267)


الثالث ـ المعاملات المنكرة: كالربا وعقود الميسر والبيوع الفاسدة وما منع الشرع منه، كالغش والتدليس في الصناعات والبياعات، وبخس الكيل والميزان، والخيانة. وعلى المحتسب إنكاره والمنع منه والزجر عليه والتأديب عليه بحسب الأحوال إذا كان متفقاً على حظره. وأما المختلف فيه بين الفقهاء بالحظر والإباحة، فلا دخل له في إنكاره.
وتعد عقود الزواج المحرَّمة في معنى المعاملات الممنوعة.
ب ـ وأما حقوق الآدميين المحضة، كتعديات الجيران فيما بينهم، بتجاوز حد الجار أو حريم داره، أو تركيب الجذوع على جداره، أو تدلي أغصان الشجرة على دار الجار، ونحو ذلك مما يسمى (التعسف في استعمال الحق) فليس للمحتسب النظر فيها إلا بادعاء شخصي من الجار.
وأما أهل الصنائع: فيقر المحتسب المتقن لها، كالطبيب والمعلم أو الأمين كالصانع والحائك والقصار والصباغ، أو المجيد كالنجار والحذَّآء، وينكر على المقصر أو الخائن أو الرديء.
جـ ـ ما يتعلق بالحقوق المشتركة: كالمنع من الإشراف على منازل الناس، ومنع أئمة المساجد من إطالة الصلاة حتى يعجز عنها الضعفاء، وينقطع عنها ذوو الحاجات، وتنبيه القضاة الذين يحجبون المتخاصمين من التحاكم بلا عذر مشروع، ومنع أرباب المواشي من استعمالها فيما لا تطيق الدوام عليه، ومنع أصحاب السفن من حمل ما لا تسعه ويخاف من غرقها، ومن السير عند اشتداد الريح، ومن اختلاط الرجال بالنساء فيها، ووضع حائل (حاجز) بينهم.
ويراقب المحتسب الأسواق والطرقات العامة، فيمنع إقامة المباني فيها، ويأمر بهدم ما بني، ولو كان المبني مسجداً، لأن مرافق الطرق للسير لا للأبنية. ويمنع

(8/6268)


أيضاً وضع الأمتعة وآلات البناء فيها، كما يمنع إخراج الأجنحة والأسبطة ومجاري المياه والآبار الملحية ونحوها إذا أضرت بالناس.
وله منع نقل الموتى من قبورهم حتى لا تنتهك حرماتهم، ويمنع من خصاء البهائم والآدميين ويؤدب عليه، ومن التكسب بالكهانة واللهو، ويؤدب عليه الآخذ والمعطي ونحوها من المنكرات.
ويمنع المحتسب سائر الحيل المحرمة على أكل الربا، وهي ثلاثة أنواع (1):
أحدها: ما يكون من واحد، كما إذا باعه سلعة بنسيئة، ثم اشتراها منه بأقل من ثمنها نقداً، حيلة على الربا.
وثانيها: ما تكون ثنائية: وهي أن تكون من اثنين، مثل أن يجمع إلى القرض بيعاً أو إجارة أو مساقاة أو مزارعة ونحو ذلك، وقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك» قال الترمذي: حديث صحيح.
وثالثها: ما تكون ثلاثية: وهي أن يدخلا بينهما محللاً للربا، فيشتري السلعة من آكل الربا، ثم يبيعها لمعطي الربا إلى أجل، ثم يعيدها إلى صاحبها بنقص دراهم يستعيدها المحلل.
ومن المنكرات: تلقي السلع قبل أن تجيء إلى السوق، فإن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، لما فيه من تغرير البائع، فإنه لا يعرف السعر، فيشتري منه المشتري، بدون القيمة، ولذلك أثبت له النبي صلّى الله عليه وسلم الخيار إذا دخل إلى السوق (2). وفي الحديث: «غبن المسترسل ربا» (3) والمسترسل: هو الذي لا يعرف قيمة السلعة.
_________
(1) الطرق الحكمية: ص 351 ومابعدها.
(2) الحسبة لابن تيمية: ص 42، الطرق الحكمية لابن القيم: ص 352.
(3) رواه البيهقي عن أنس وعن جابر وعن علي رضي الله عنهم.

(8/6269)


ويمنع المحتسب الاحتكار لما يحتاج إليه الناس، روى مسلم عن معمر بن عبد الله العدوي: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يحتكر إلا خاطئ» فإن المحتكر الذي يعمد إلى شراء ما يحتاج إليه الناس من الطعام، فيحبسه عنهم، ويريد إغلاءه عليهم هو ظالم لعموم الناس.
ولهذا كان لولي الأمر أن يكره المحتكرين على بيع ما عندهم بقيمة المثل، عند ضرورة الناس إليه (1).
وأما التسعير: فمنه ما هو ظلم محرم، ومنه ما هو عدل جائز (2).
فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه، أو منعهم مما أباح الله لهم، فهو حرام. وإذا تضمن العدل بين الناس، مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل، فهو جائز، بل واجب، لما فيه من إلزامهم بالعدل، ومنعهم من الظلم.
وعلى ولي الأمر توزيع نسب الإنتاج بحسب المصلحة، من زراعة وصناعة وتجارة وبناء وغيرها، لأن توفير الحاجيات أمر مطلوب شرعاً، وتعلم الصناعات فرض على الكفاية، فلولي الأمر أن يلزم الناس بما يحقق الحاجة بأجرة المثل، فإنه لا تتم مصلحة الناس إلا بذلك.
والقاعدة العامة في هذا كما ذكر ابن تيمية في الحسبة: أنه إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات، أو تزاحمت، فإنه يجب ترجيح الراجح
_________
(1) الحسبة لابن تيمية: ص 29، 41، الطرق الحكمية: ص 354.
(2) الحسبة، المرجع السابق: ص 17 - 18، 41 - 43، الطرق الحكمية: ص 355 وما بعدها، 368 ومابعدها.

(8/6270)


منها. لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر (1).

ثالثاً ـ مقارنة بين الحسبة والقضاء وولاية المظالم: تشترك هذه الوظائف العامة الثلاث في مهمة القضاء بالمعنى العام، لكن وظيفة المظالم أعلاها، ثم رتبة القضاء العادي، ثم ولاية الحسبة.
أوضح الماوردي أوجه الشبه والاختلاف بين هذه الوظائف (2).

1 - المقارنة بين الحسبة والقضاء العادي:
هناك أوجه شبه واختلاف بينهما.
فأما أوجه الشبه فمحصورة في أمرين:
الأول ـ جواز الاستعداء (الادعاء الشخصي) إلى المحتسب والقاضي، وسماع كل منهما دعوى المستعدي (المدعي) في حقوق الآدميين ضمن أنواع ثلاثة من الدعاوى فيها، وهي المتعلقة بالبخس والتطفيف في الكيل والوزن، أو بالغش والتدليس في المبيع أو الثمن، أوبالمطل والتأخير في الحقوق والديون مع القدرة. والسبب في انحصار اختصاصه بهذه الدعاوى الثلاث دون ما عداها: هو تعلقها بمنكر ظاهر يختص بإزالته، لأن موضوع الحسبة إلزام الحقوق والمعونة على استيفائها، وليس للناظر فيها أن يتجاوز ذلك إلى الحكم الناجز والفصل البات.
والثاني ـ للمحتسب كما للقاضي إلزام المدعى عليه بوفاء الحقوق التي يجوز
_________
(1) الحسبة: ص 66 ومابعدها.
(2) الأحكام السلطانية: ص 241 وما بعدها.

(8/6271)


له سماع الدعوى فيها، متى ثبت ذلك باعتراف وإقرار، وكان في وسعه الوفاء بها لتمكنه وإيساره، لأن في تأخير أدائها منكراً هو منصوب لإزالته.
وأما أوجه الخلاف فهي أربعة:
الأول ـ ليس للمحتسب سماع الدعاوى الخارجة عن ظواهر المنكرات في العقود والمعاملات وسائر الحقوق والمطالبات، فهي من اختصاص القضاء.
الثاني ـ تقتصر الدعاوى التي يسمعها المحتسب على الحقوق المعترف بها، فأما ما يتداخله التجاحد والتناكر، فلا يجوز له النظر فيه، لأن الحاكم فيها يحتاج إلى سماع بيِّنة وإحلاف يمين، ولا يجوز للمحتسب أن يسمع بيِّنة على إثبات الحق، ولا أن يحلف يميناً على نفي الحق.
وهذان الوجهان يدلان على أن الحسبة أدنى رتبة من القضاء.
الثالث ـ للمحتسب أن ينظر فيما يختص به دون حاجة إلى مدّعٍ متظلم. أما القاضي فلا يحق له النظر في نزاع من دون ادعاء أو شكوى.
الرابع ـ عمل المحتسب يتسم بالشدة والسلاطة والقسوة، لأن الحسبة موضوعة للرهبة. وأما عمل القاضي فيتسم بالحلم والأناة والوقار، لأن القضاء موضوع للمناصفة.
وهذان الوجهان يدلان على أن الحسبة تزيد رتبة عن القضاء.

2 - المقارنة بين الحسبة وولاية المظالم:
هناك أيضاً نواحي شبه واختلاف بين هذين النظامين.
أما أوجه الشبه فهي:

(8/6272)


الأول ـ موضوعهما يعتمد على الرهبة وقوة الصرامة المختصة بالسلطنة.
الثاني ـ للقائم بهما النظر في حدود اختصاصه من دون حاجة إلى متظلم. وأما أوجه الاختلاف فهي:
الأول ـ النظر في المظالم موضوع لما عجز عنه القضاة، والنظر في الحسبة موضوع لما لاحاجة لعرضه على القضاء.
الثاني ـ يجوز لوالي المظالم أن يحكم، ولا يجوز لوالي الحسبة أن يحكم.
وهكذا يظهر أن المظالم والقضاء والحسبة يكمل بعضها بعضاً، وتؤدي غاية موحدة هي تحقيق العدل والإنصاف وحفظ الحقوق والأموال والدماء، وتطبيق أحكام الشرع المحققة لسعادة الناس في الدنيا والآخرة، وإقامة المجتمع الإنساني الفاضل.
وليس للمحتسب تطبيق العقوبات الشرعية على ترك المعروف والواجبات وفعل المنكر والمحرمات سواء أكان حداً أم تعزيراً، فإن ذلك من اختصاص ولي الأمر، وتكون إقامة الحدود والتعازير، أي العقوبات على فعل محرم، أو ترك واجب على ولاة الأمور فقط، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يتم إلا بالعقوبات الشرعية، فإن «الله يزَع بالسلطان ما يزَع بالقرآن» أي يردع، والتعزير أجناس، فمنه ما يكون بالتوبيخ والزجر بالكلام، ومنه ما يكون بالحبس، ومنه ما يكون بالنفي عن الوطن، ومنه ما يكون بالضرب.
والتعزير بالعقوبات المالية مشروع أيضاً في مواضع مخصوصة في مذهب مالك في المشهور عنه، ومذهب أحمد في مواضع، وأحد قولي الشافعي (1).
_________
(1) الحسبة لابن تيمية: ص 46 - 57، الطرق الحكمية: ص 384 - 391.

(8/6273)


والثواب والعقاب يكونان من جنس العمل في قدر الله وفي شرعه، فإن هذا من العدل الذي تقوم به السماء والأرض، كما قال الله تعالى:
{إن تبدوا خيراً أو تخفوه أو تعفوا عن سوء، فإن الله كان عفواً قديراً} [النساء:4/ 149] (1) {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} [النحل:126/ 16] {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم، واتقوا الله، واعلموا أن الله مع المتقين} [البقرة:194/ 2].

المبحث السادس ـ أصول التقاضي تتجلى الصورة العملية للتقاضي في مراحل ثلاث: وهي الدعوى، وطرق الإثبات، والحكم النهائي. فبها يمكن التوصل للحقوق وحسم النزاع واستقرار الأوضاع الحقوقية وإنهاء العدوان.
المرحلة الأولى ـ الدعوى: تعريفها، مشروعيتها، شرائطها، نوعاها، نطاقها، حكمها.
الدعوى: هي إخبار بحق لإنسان على غيره عند الحاكم (2). أو هي قول مقبول عند القاضي يقصد به صاحبه طلب حق له عند غيره، أو حمايته وإلزامه به. بأن يقول مثلاً: لي على فلان كذا، أو قضيت حق فلان، أو أبرأني عن حقه، ونحوها. وهي الوسيلة القضائية المشروعة لطلب الحق، إذ لا يجوز شرعاً للمحق ممارسة أي فعل يؤدي إلى الاعتداء على شخص المدعى عليه، منعاً للفوضى واستئصالاً للمنازعات، واستمرار التعديات، وإماتة الحقوق، ففي امتداد وجود
_________
(1) الحسبة، المرجع السابق: ص 57 وما بعدها.
(2) الدر المختار: 437/ 4، تكملة فتح القدير: 137/ 6، مغني المحتاج: 461/ 4، المغني: 271/ 9.

(8/6274)


الخصومة والمنازعة فساد كبير، والله تعالى لا يحب الفساد (1). والأصل في مشروعيتها قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم، ودماءهم، لكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» (2).

واشترط فقهاء الحنفية لقبول الدعوى الشرائط الآتية (3):
أولاً ـ أهلية العقل أو التمييز: يشترط أن يكون المدعي والمدعى عليه عاقلين، فلا تصح دعوى المجنون والصبي غير المميز، كما لا تصح الدعوى عليهما، فلا يلزمان بالإجابة على دعوى الغير عليهما، ولا تسمع البينة عليهما. ويشترط توافر صفة البلوغ لممارسة أي حق عند غير الحنفية، أما القاصر فيمارس الدعوى عنه وليه.
ثانياً ـ أن تكون الدعوى في مجلس القضاء؛ لأن الدعوى لا تصح في غير هذا المجلس، أي المحكمة.
ثالثاً ـ أن تكون دعوى المدعي على خصم حاضر لدى القاضي عند سماع الدعوى والبينة والقضاء، فلا تقبل الدعوى على غائب، كما لا يقضى على غائب عند الحنفية، سواء أكان غائباً وقت الشهادة أم بعدها، وسواء أكان غائباً في مجلس القضاء، أم عن البلد التي فيها القاضي، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «فإنما أقضي له بحسب ما أسمع» (4) وقوله لعلي حين أرسله إلى اليمن:: «لا تقض لأحد الخصمين حتى تسمع من الآخر» (5).
_________
(1) المبسوط: 28/ 17، المغني: 272/ 9، مغني المحتاج، المرجع السابق.
(2) رواه البيهقي وغيره هكذا، وبعضه في الصحيحين عن ابن عباس.
(3) المبسوط: 39/ 17، تكملة فتح القدير، المكان السابق، و 141 وما بعدها، البدائع: 222/ 6، 224، الدر المختار: 438/ 4.
(4) من حديث أم سلمة الذي رواه الجماعة (نيل الأوطار: 287/ 8).
(5) رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن علي (نيل الأوطار: 274/ 8 وما بعدها).

(8/6275)


وقال غير الحنفية: يجوز القضاء على الغائب إذا أقام المدعي البينة على صحة دعواه، وذلك في الحقوق المدنية، لا في الحدود الخالصة لله تعالى (1) لأنها مبنية على المسامحة والدرء والإسقاط، لاستغنائه تعالى، بخلاف حق الإنسان الخاص.
رابعاً: أن يكون المدعى به شيئاً معلوماً: وذلك إما بالإشارة إليه عند القاضي إذا كان الشيء من المنقولات، أو ببيان حدوده إذا كان قابلاً للتحديد، كالأراضي والدور وسائر العقارات، أو بذكر رقم محضر السجل العقاري في التنظيم الحديث الذي يستغنى به عن الحدود والأوصاف في الماضي، أو بكشف يجريه القاضي أو من ينوب عنه إذا لم يكن المدعى به قابلاً للتحديد كحجر الرحى (الطاحونة)، أو ببيان جنسه ونوعه وقدره وصفته إذا كان المدعى به ديناً كالنقود والحبوب؛ لأن الدين لا يصير معلوماً إلا ببيان هذه الأمور.
والسبب في اشتراط هذا الشرط، أي العلم بالمدعى به: هو أن المدعى عليه لا يلزم بإجابة دعوى المدعي إلا بعد معرفة المدعى به، وكذلك الشهود لا يمكنهم الشهادة على مجهول، ثم إن القاضي لا يتمكن من إصدار الحكم أو القضاء بالدعوى إلا إذا كان المدعى به شيئاً معلوماً.
خامساً: أن يكون موضوع الدعوى أمراً يمكن إلزام المدعى عليه به، أي أن يكون الطلب مشروعاً ملزماً في مفهومنا الحاضر. فإذا لم يكن بالإمكان إلزام المدعى عليه بشيء، فلا تقبل الدعوى، كأن يدعي إنسان أنه وكيل هذا الخصم الحاضر عند القاضي في أمر من أموره، أو يدعي على شخص بطلب صدقة، أو بتنفيذ مقتضى عقد باطل، فإن القاضي لا يسمع دعواه هذه إذا أنكر الخصم ذلك؛
_________
(1) البدائع: 222/ 6، 8/ 7، تكملة فتح القدير: المكان السابق، المبسوط، المكان السابق، بداية المجتهد: 460/ 2، المهذب: 3/ 2، المغني: 110/ 9.

(8/6276)


لأن الوكالة عقد غير لازم للموكل، فيمكنه عزل مدعي الوكالة في الحال. ولأن التبرع لا يلزم عليه الإنسان، وبطلان العقد لا يوجب على العاقد تنفيذ أي التزام ينشئه العقد الصحيح.
سادساً: أن يكون المدعى به مما يحتمل الثبوت: لأن دعوى ما يستحيل وجوده حقيقة أو عادة، تكون دعوى كاذبة، فلو قال شخص لمن هو أكبر منه سناً: هذا ابني، لا تسمع دعواه؛ لاستحالة أن يكون الأكبر سناً ابناً لمن هو أصغر منه سناً. وكذا إذا قال لمعروف النسب من الغير: هذا ابني، لا تسمع دعواه.

وبناء عليه تكون الدعوى نوعين: دعوى صحيحة مقبولة، ودعوى فاسدة مرفوضة.
ف الدعوى المقبولة: هي التي استكملت شرائط الصحة المتقدمة، ويتعلق بها أحكامها المقصودة منها: وهي إلزام الخصم الحضور إلى ساحة المحكمة بواسطة أعوان القاضي، وإجابته دعوى المدعي، واليمين إذا أنكر المدعى به. ويثبت فيها حق المدعي بطرق الإثبات المشروعة، كالبينة (وهي الشهادة أي الإخبار في مجلس القضاء بحق شخصي على غيره)، ونحوها من اليمين والقرينة.
والدعوى المرفوضة أو الفاسدة الباطلة: هي التي لم يتوافر فيها شرط من شروط القبول المذكورة آنفاً، ولا تترتب عليها الأحكام السابقة المقصودة من الادعاء، كأن يكون المدعى به مجهولاً؛ لأن المجهول يتعذر إثباته بالشهادة، فلا يمكن للشهود أن يشهدوا به، ولا يتمكن القاضي من القضاء بالمجهول.
واستحسن بعض شراح مجلة الأحكام العدلية قسمة الدعوى ثلاثة أقسام: صحيحة وفاسدة وباطلة (1). الصحيحة: هي المستوفية جميع شرائطها وتتضمن
_________
(1) المدخل الفقهي للأستاذ مصطفى الزرقا: ف/369.

(8/6277)


طلباً مشروعاً، كطلب ثمن مبيع أو استرداد مغصوب. والفاسدة: هي المستوفية شرائطها الأساسية ولكن ينقصها بعض النواحي الفرعية كجهالة المدعى به، فلا يردها القاضي فوراً، وإنما يكلف المدعي أولاً تصحيحها بتحديد مدعاه. والدعوى الباطلة: هي غير المشروعة في أصلها كادعاء طلب صدقة من أحد، أو طلب تنفيذ عقد باطل، أو إيفاد دين؛ لأنه من جيران المدين. وهذه لا يترتب عليها حكم، بل يردها القاضي فوراً لعدم إمكان إصلاحها.

وتحديد من هو المدعي والمدعى عليه أمر ضروري في الإسلام، لمعرفة المكلف بالبينة أو اليمين ونحوها. وقد عرِّف كل منهما بتعريفات شتى، منها أن المدعي: هو من لا يجبر على الخصومة إذا
تركها؛ لأنه طالب. والمدعى عليه: من يجبر على الخصومة؛ لأنه مطلوب. أو المدعي: من يلتمس بقوله أخذ شيء من يد غيره، أو إثبات حق في ذمته. والمدعى عليه: من ينكر ذلك (1).
وللدعوى أهمية كبرى بدليل اتفاق الفقهاء على أن استيفاء الحقوق وتوقيع العقوبات من قصاص وحدّ وتعزير لا يكون كقاعدة عامة إلا بواسطة الدعوى، ولا يستوفى الحق بغيرها وبغير القضاء إلا في أحوال استثنائية اضطرارية كالظفر بحق الدائن عند المدين المماطل.

ويتحدد نطاق الدعوى فيما اتفق عليه الفقهاء كما يأتي:
أولاً ـ الحسبة والمظالم: لا يشترط فيهما الادعاء، وإنما للمحتسب ووالي المظالم التصدي للنظر في النزاع بمجرد اطلاعه عليه.
ثانياً ـ حقوق الله تعالى: وهي المتعلقة بمصلحة المجتمع كانتهاك الحرمات
_________
(1) البدائع: 224/ 6، المغني لابن قدامة الحنبلي: 271/ 9.

(8/6278)


الدينية بالإفطار في نهار رمضان عمداً بغير عذر، والمجاهرة بالإلحاد، والإخلال بنظام الزواج شرعاً كزواج المسلمة بغير مسلم، والعقد على المحارم من النساء، والعشرة الزوجية بعد الطلاق البائن ثلاثاً، والعقد على المعتدة من طلاق أو وفاة. وارتكاب الجرائم الموجبة لحد يتعلق بحق الله المحض كالزنا وشرب الخمر ونحوهما. هذه الأمور يجوز للقاضي النظر في شأنها من تلقاء نفسه إذا علم بها، أو ادعى أي مسلم ولو لم يمسه الأمر شخصياً وإنما حسبة، كما تقدم في نظام الحسبة.

ثالثاً ـ حقوق العباد (أي الأفراد) الشخصية: وهي التي تمس مصلحة شخصية للإنسان. وهذه لا يختص القاضي بالنظر فيها بدون ادعاء صاحب الحق؛ لأن القضاء وسيلة إلى الحق، وحق الإنسان لا يستوفى إلا بطلبه. وتشمل هذه الحقوق ما يأتي:
أـ المعاملات والتصرفات المدنية من بيع وإيجار وشركة ونحوها.
ب ـ أحكام الأسرة المالية كالنفقة والمهر والسكنى.
وأما أحكام الأسرة غير المالية كادعاء النسب والبينونة والمحرمات والعشرة المحرمة، فلا يشترط فيها الدعوى.

جـ ـ الجرائم والعقوبات التي فيها حق للعبد: كالقصاص والجروح وجرائم التعزير والقذف والسرقة والحرابة.
وحكم الدعوى المقبولة: وجوب الجواب على المدعى عليه بقوله: لا، أو نعم. فلو سكت، كان ذلك منه إنكاراً، فتقبل بينة المدعي، ويحكم بها على المدعى عليه. فإذا أقر المدعى عليه بموضوع الدعوى، حكم القاضي عليه؛ لأنه غير

(8/6279)


متهم في إقراره على نفسه، ويؤمر بأداء الحق لصاحبه. وإن أنكر، طلب القاضي من المدعي إثبات حقه بالبينة، فإن أقام البينة قضى بها، لترجح جانب الصدق على الكذب بالبينة. وإن عجز المدعي عن تقدم البينة، وطلب يمين خصمه المدعى عليه، استحلفه القاضي (1)، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم في قصة خصمين: «ألك بينة؟ قال: لا، فقال النبي: فلك يمينه» أي يمين المدعى عليه (2).

المرحلة الثانية ـ طرق إثبات الحق:
إثبات الحق: هو إقامة الحجة أمام القضاء على الحق أو حدوث الواقعة. ولا يمكن للقاضي الفصل في أي خصومة أو قضية بمجرد الادعاء بدون إثبات بإحدى الوسائل الشرعية المتعددة وأهمها ما يأتي:

1ً - الشهادة: وهي شرعاً إخبار صادق لإثبات حق بلفظ الشهادة في مجلس القضاء. وهي حجة المدعي لقوله صلّى الله عليه وسلم: «البينة على المدعي» (3) وقوله أيضاً لمدعٍ: «شاهداك أو يمينه» (4). ونظام الشهادة محدد صراحة في القرآن الكريم: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282/ 2] {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق:2/ 65] {وأشهدوا إذا تبايعتم} [البقرة:282/ 2] {ولا يأب الشهداء
_________
(1) راجع الدر المختار: 438/ 4، اللباب شرح الكتاب: 29/ 4، تكملة فتح القدير: 151/ 6 وما بعدها.
(2) رواه مسلم والترمذي وصححه عن وائل بن حُجْر، في قصة الخصومة بين رجل من حضرموت ورجل من كندة (نيل الأوطار: 303/ 8).
(3) رواه البيهقي عن ابن عباس.
(4) متفق عليه بين أحمد والشيخين عن الأشعث بن قيس (نيل الأوطار: 302/ 8).

(8/6280)


إذا ما دعوا} [البقرة:282/ 2] {ولا تكتموا الشهادة، ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} [البقرة:283/ 2] {وأقيموا الشهادة لله} [الطلاق:2/ 65]. والبحث في الشهادة يطول، أكتفي هنا بتعداد أهم شروطها؛ لأن الفقهاء اشترطوا شروطاً لتحمل الشهادة وأدائها.

أما شروط تحمل الشهادة فهي ثلاثة عند الحنفية (1).
أولها ـ أن يكون الشاهد عاقلاً، أي مميزاً، فلا تصح شهادة المجنون والصبي غير المميز.
ثانيها ـ أن يكون بصيراً وقت التحمل، فلا يصح التحمل من الأعمى بسبب اختلاط الأصوات عليه وجواز اشتباهها عليه. وأجاز الحنابلة (2) شهادة الأعمى فيما يسمع كالبيع والإجارة وغيرهما إذا عرف القاضي المتعاقدين وتيقن أنه كلامهما.
ثالثها ـ معاينة المشهود به بنفسه، لا بغيره، إلا فيما تصح فيه الشهادة بالتسامع من الناس والاستفاضة، لقوله صلّى الله عليه وسلم للشاهد: «إذا علمت مثل الشمس فاشهد، وإلا فدع» (3) ولا يتم العلم مثل الشمس إلا بالمعاينة.
وتصح الشهادة بالتسامع في النكاح، والنسب، والموت، ودخول الرجل على امرأته، وولاية القاضي، فللشاهد أن يشهد بهذه الأمور إذا أخبره بها من يثق به استحساناً؛ لأن هذه الأمور يختص بمعاينة أسبابها خواص الناس، ولو لم يقبل
_________
(1) البدائع: 266/ 6، الدر المختار: 385/ 4.
(2) المغني: 58/ 9 وما بعدها.
(3) رواه الخلال في الجامع بإسناده عن ابن عباس.

(8/6281)


فيها الشهادة بالتسامع، لأدى الأمر إلى الحرج وتعطيل الأحكام. والتسامع: هو بأن يشتهر ذلك ويستفيض بين الناس، وتتواتر به الأخبار، بأن يخبر الشاهد رجلان عدلان أو رجل وامرأتان، ليحصل له نوع من العلم واليقين.
وقال المالكية (1): تجوز شهادة التسامع في عشرين حالة: منها عزل قاض أو وال أووكيل، وكفر، وسفه، ونكاح، ونسب، ورضاع، وبيع، وهبة، ووصية.

وأما شروط أداء الشهادة: فكثيرة، منها في نفس الشهادة (2): وهي أن تكون بلفظ الشهادة، وأن تكون موافقة للدعوى، ومنها في مكان الشهادة (3): وهي أن تكون في مجلس القضاء، ومنها فيما يخص بعض الشهادات (4): وهي التعدد، أي شهادة رجلين أو رجل وامرأتين في الحقوق المدنية والأموال كالبيع والإجارة ونحوهما. والاتفاق في الشهادة عند التعدد، فإن حدث اختلاف في جنس الشهادة كأن يشهد أحدهما بالبيع والآخر بالميراث أو في القدر كأن يشهد أحدهما بألفين، والآخر بألف، أو في الفعل كالقتل والغصب، رفضت الشهادة.
ومنها وأهمها ما يشترط في الشاهد وهو سبعة شروط كما تقدم (5):
أولها ـ أهلية العقل والبلوغ: فلا تقل شهادة المجنون والسكران والطفل.
ثانيها ـ الحرية: فلا تصح شهادة الرقيق على الحر.
_________
(1) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه: 198/ 4 وما بعدها.
(2) البدائع: 273/ 6، فتح القدير: 10/ 6.
(3) المراجع السابقة: البدائع: ص 279.
(4) المراجع السابقة: البدائع: 277/ 6 وما بعدها، فتح القدير: 52/ 6 وما بعدها، الدر المختار: 504/ 4 وما بعدها.
(5) البدائع: 267/ 6 وما بعدها، بداية المجتهد: 451/ 2 وما بعدها، الدردير والدسوقي: 165/ 4، مغني المحتاج: 427/ 4، المغني: 164/ 9.

(8/6282)


ثالثها ـ الإسلام: فلا تقبل شهادة الكافر على مسلم؛ لأنه متهم في حقه، وأجاز الحنفية والحنبلية شهادة الكافر في الوصية في السفر، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية: اثنان ذوا عدل منكم، أو آخران من غيركم} [المائدة:106/ 5].
رابعها ـ البصر: فلا تقبل شهادة الأعمى عند أبي حنيفة ومحمد والشافعية، لأنه لا بد من معرفة المشهود له والإشارة إليه عند الشهادة، ولا يميز الأعمى ذلك إلا بنغمة الصوت، وفيها شبهة؛ لأن الأصوات تتشابه. وأجاز المالكية والحنابلة وأبو يوسف شهادة الأعمى إذا تيقن الصوت، لعموم الآيات الواردة في الشهادة، ولأن السمع أحد وسائط العلم.
خامسها ـ النطق: فلا تقبل شهادة الأخرس عند الجمهور، وإن فهمت إشارته؛ لأن الشهادة تتطلب اليقين. وأجاز المالكية قبول شهادة الأخرس إذا فهمت إشارته؛ لأنها تقوم مقام نطقه في طلاقه ونكاحه.
سادسها ـ العدالة: فلا تصح شهادة الفاسق باتفاق العلماء؛ لقوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق:2/ 65].
سابعها ـ عدم التهمة: فترد شهادة المتهم بإجماع الفقهاء. والتهمة: أن يجلب الشاهد إلى المشهود له نفعاً أو ضرراً بسبب القرابة أو الخصومة أو العداوة، فلا تقبل شهادة الأب لابنه، أو الأم لابنها، ولا الخصم لخصمه كالوكيل والموصى عليه وهو اليتيم، ولا العدو على عدوه، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين» (1) «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غِمْر ـ حقد ـ على أخيه، ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت» (2) والقانع: الذي ينفق على أهل البيت.
_________
(1) أخرجه مالك في الموطأ موقوفاً على عمر، وهو منقطع، ورواه آخرون مرسلاً (نيل الأوطار: 291/ 8).
(2) رواه أحمد وأبو داود عن ابن عمر (128/ 4).

(8/6283)


2 - الإقرار: وهو إخبار الشخص عن ثبوت حق للغير على نفسه. وهو إما أن يكون بلفظ صريح، مثل (لفلان علي ألف درهم) أو بلفظ ضمني، مثل: (لي عليك ألف درهم) فيقول المخاطب: (قد قضيتها) أو (أجلني بها) أو (أبرأتني منها). وقد اتفق الفقهاء (1) على صحة الإقرار بحق من الحر البالغ العاقل المختار غير المتهم في إقراره. وشروط الإقرار هي ما يأتي:
أولها ـ أهلية العقل والبلوغ: فلا يصح إقرار المجنون والصبي غير البالغ، لقوله عليه الصلاة والسلام: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» (2).
ثانيها ـ الطواعية أو الاختيار: فلا يصح إقرار المستكره، لقوله عليه الصلاة والسلام: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (3).
ثالثها ـ عدم التهمة: فإن اتهم المقر بملاطفة صديق أو نحوه بطل الإقرار.
رابعها ـ أن يكون المقر معلوماً: فلو قال رجلان: «لفلان على واحد منا ألف درهم» لا يصح الإقرار، إذ لا فائدة من هذا الإقرار.
والإقرار حجة قاصرة على المقر، لا يتعدى أثره إلى غيره، لقصور ولاية المقر على غيره، فيقتصر أثر الإقرار على المقر نفسه.
_________
(1) البدائع: 222/ 7، تبيين الحقائق للزيلعي: 3/ 5، الدردير: 397/ 3، المهذب: 343/ 2، مغني المحتاج: 238/ 2، المغني: 138/ 5.
(2) رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة إلا الترمذي عن السيدة عائشة رضي الله عنها، وصححه الحاكم وأخرجه ابن حبان.
(3) رواه ابن ماجه عن أبي ذر، ورواه البيهقي عن ابن عمر بلفظ: «وضع عن أمتي .. ».

(8/6284)


3ً - اليمين: وهي الحلف بالله تعالى أمام القاضي لإثبات الحق أو الفعل، أو نفيهما. وهي حجة المدعى عليه، لقوله عليه الصلاة والسلام: «واليمين على المدعى عليه» (1)، فإن حلف المدعى عليه، قضى القاضي بفصل الدعوى، وتنتهي الخصومة بين طرفي الدعوى إلى أن يتمكن المدعي من إقامة البينة.
واتفق الفقهاء على أن اليمين في الدعاوى تكون بحسب نية المستحلف (2)، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «اليمين على نية المستحلف» «يمينك على ما يصدقك به صاحبك» (3). كما أنهم اتفقوا على أن الشخص يحلف على البت (وهو القطع والجزم) في فعله إثباتاً كان أو نفياً؛ لأنه يعلم حال نفسه، ويطلع عليها، فيقول في البيع مثلاً حالة الإثبات: «والله لقد بعت بكذا» وفي حالة النفي: «والله ما بعت بكذا».

4ً - الكتابة: وهي إثبات الحق بواسطة دليل كتابي معد مسبقاً. وهي حجة باتفاق الفقهاء، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} [البقرة:282/ 2] والكتابة من قبيل الإقرار. وقد نص فقهاء الحنفية على أنه يعمل بدفتر السمار والصراف والبياع؛ لأن كل واحد من هؤلاء لا يكتب في دفتره إلا ماله وعليه (4).
5ً - القرائن: القرينة: هي كل أمارة ظاهرة تقارن شيئاً خفياً فتدل عليه. وهي تتفاوت في القوة والضعف، فقد تصل إلى درجة الدلالة القطعية، كالدخان فإنه قرينة قطعية على وجود النار. وقد تضعف حتى تصير مجرد احتمال. فإن
_________
(1) متفق عليه بين أحمد والشيخين عن ابن عباس «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قضى باليمين على المدعى عليه» (نيل الأوطار: 305/ 8).
(2) البدائع: 20/ 3، بداية المجتهد: 403/ 1، مغني المحتاج: 321/ 4، المغني: 763/ 8.
(3) اللفظ الأول رواه مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة، والثاني رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والترمذي.
(4) مجمع الضمانات للبغدادي: ص 365 وما بعدها.

(8/6285)


كانت القرينة قطعية كانت بينة نهائية كافية للقضاء، كما لو رئي شخص خارجاً من دار وهو مرتبك وفي يده سكين ملوث بالدم، ووجد في الدار شخص مضرج بدمائه، فيعتبر الخارج هو القاتل.
وإذا كانت القرينة غير قطعية الدلالة والبيان، ولكنها ظنية أغلبية كالقرائن العرفية، فإن الفقهاء يعتمدونها دليلاً أولياً مرجحاً حجة الخصم مع يمينه، حتى يثبت خلافها بالبينة المعارضة.
والقرائن تعتمد على ذكاء القاضي وفراسته واجتهاده بملاحظة الظروف المقارنة للواقعة، فلا يمكن حصرها وتحديدها. ومنها الفراسة والقيافة، ووضع اليد، ووصف اللقطة، واللوث في الدماء، ودلائل الأحوال (1).

6ً - العلم الشخصي للقاضي نفسه: إذا اطلع القاضي على الحادثة، فهل له القضاء بعلم نفسه؟ اختلف الفقهاء فيه.
قال متقدمو الحنفية: يقضي القاضي بعلم نفسه، بالمعاينة أو بسماع الإقرار أو بمشاهدة الأحوال على النحو الآتي (2):
له أن يقضي بعلم حدث له زمن القضاء وفي مكانه في الحقوق المدنية كالإقرار بمال لرجل، أو الحقوق الشخصية كطلاق رجل امرأته، أو في بعض الجرائم: وهي قذف رجل أو قتل إنسان. ولا يجوز قضاؤه بعلم نفسه في جرائم الحدود الخالصة لله عز وجل، إلا أن في السرقة يقضي بالمال، لا بحد القطع؛ لأن الحدود يحتاط في درئها، وليس من الاحتياط فيها الاكتفاء بعلم القاضي.
_________
(1) راجع الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن قيم الجوزية: ص3، 7، 31،54،66، 108، 113، 214.
(2) المبسوط: 93/ 16، البدائع: 7/ 7، مختصر الطحاوي: ص 332، الدر المختار ورد المحتار: 369/ 4.

(8/6286)


فإن علم القاضي بالحادثة قبل أن يتسلم منصب القضاء، فلا يقضي به عند أبي حنيفة؛ لأن علمه حينئذ ليس في معنى البينة. ويقضي به في غير الحدود الخالصة لله عند الصاحبين، قياساً على جواز قضائه فيما علمه في زمن القضاء.

وقال الشافعية (1) مثل الحنفية تقريباً: الأظهر أن القاضي يقضي بعلمه قبل ولايته أو في أثناء ولايته، أو في غير محل ولايته، سواء أكان في الواقعة بينة أم لا، إلا في حدود الله تعالى، فيقضي في الأموال، وفي القصاص وحد القذف، لأنه إذا حكم بما يفيد الظن وهو الشاهدان، فقضاؤه بعلمه أولى.
وأما الحدود الخالصة لله كالزنا والسرقة والحرابة وشرب المسكر، فلا يقضي بعلمه فيها؛ لأنها تدرأ بالشبهات، ويندب سترها.
وقال متأخرو الحنفية والشافعية: المفتى به عدم جواز قضاء القاضي بعلمه مطلقاً في زماننا لفساد قضاة الزمان.

وقال المالكية والحنابلة (2): لا يقضي الحاكم بعلم نفسه في حد ولا غيره، لا فيما علمه قبل الولاية ولابعدها. ولكن يجوز له أن يقضي بما علمه في مجلس القضاء، بأن أقر الشخص بين يديه طائعاً. ودليلهم قوله صلّى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن ـ أي أفطن ـ بحجته من بعض، فأقضي بنحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار» فدل على أنه يقضي بما يسمع، لا بما يعلم. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم في قضية الحضرمي والكندي السابقة: «شاهداك أو يمينه، ليس لك منه إلا ذاك».
_________
(1) مغني المحتاج: 398/ 4.
(2) الدردير والدسوقي: 154/ 4، بداية المجتهد: 458/ 2 وما بعدها، المغني: 53/ 9 ومابعدها.

(8/6287)


7ً - الخبرة والمعاينة: الخبرة: هي الاعتماد على رأي المختصين في حقيقة النزاع بطلب القاضي. والمعاينة: هي الاعتماد على ما يشاهده القاضي بنفسه أو بنائبه من محل النزاع الذي يختصم فيه الخصمان. وهذان يجوز الإثبات بهما باتفاق الفقهاء.
8ً - كتاب القاضي إلى غيره: اتفق الفقهاء على أن القاضي له أن يقضي بكتاب قاض آخر إليه فيما ثبت عنده في الحقوق المالية للحاجة إليه. فقد يكون لامرئ حق في غير بلده، ولا يمكنه إتيانه والمطالبة به إلا بكتاب القاضي، بشرط أن يشهد شاهدان عدلان على أن الكتاب المرسل هو كتاب قاض، وأن يشهدهم بثبوت الحكم عنده على نحو معين. وذلك في الحقوق المدنية كالديون، أو الشخصية كالنكاح (1).
وأجاز الإمام مالك أن يحكم القاضي بكتاب قاضٍ في الحدود والقصاص أيضاً (2).
هذه هي إجمالاً أهم وسائل الإثبات الشرعية التي يعتمد عليها القاضي لفصل النزاع، ويظهر منها أن البينة تظهر الحق باتفاق الفقهاء بشرط ثبوت عدالة الشهود عند القاضي، وكذلك الإقرار حجة مطلقة؛ لأن الإنسان غير متهم بالإقرار على نفسه كاذباً. واليمين تسقط بها دعوى المدعي الذي لا بان له. ويثبت بها عند الإمام مالك حق المدعي الذي أنكره عليه خصمه.
_________
(1) المبسوط: 95/ 16، فتح القدير: 477/ 5، المهذب: 304/ 2، المغني: 90/ 9، مغني المحتاج: 452/ 4.
(2) بداية المجتهد: 458/ 2، الدردير: 159/ 4.

(8/6288)


المرحلة الثالثة ـ الحكم القضائي:
الحكم: هو فصل الخصومة وحسم النزاع بقول أو بفعل يصدر عن القاضي بطريق الإلزام. وهو يعتمد أساساً على حجية الإثبات التي تتوافر لدى القاضي. ويعتبر غاية القضاء ورمز العدالة. وينبغي ـ كما بان في آداب القاضي ـ مراعاة أمرين قبل إصداره.
أولهما ـ مصالحة الخصمين: فلا بأس للقاضي أن يرد الخصوم إلى الصلح، إن تأمل منهما المصالحة لقوله تعالى: {والصلح خير} [النساء:128/ 4] فكان طلب الصلح طلباً للخير. وقال سيدنا عمر: «ردوا الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن».
ثانيهما ـ مشاورة الفقهاء: يندب للقاضي أن يجلس معه جماعة من الفقهاء يشاورهم ويستعين برأيهم فيما يجهله من الأحكام، أو يشكل عليه من القضايا. قال تعالى: {وشاورهم في الأمر} [آل عمران:159/ 3] وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «ما رأيت أحداً بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أكثر مشاورة لأصحابه منه» (1).
فإن اتفق رأي الفقهاء على أمر قضى به، كما فعل الراشدون، وإن اختلفوا أخذ بأحسن أقاويلهم وقضى بما رآه صواباً، إلا أن يكون غيره أفقه منه، فيجوز له الأخذ برأيه وترك رأيه الشخصي.

وهناك أوصاف للحكم تراعى في الإسلام وهي:
أولاً ـ المسارعة إلى إصدار الحكم بعد ثبوت الحق أمام القاضي، ولا يجوز تأخيره إلا في حالة الريبة، ورجاء الصلح بين الأقارب، وإمهال المدعى عليه فترة محدودة لرد الشهادة.
_________
(1) رواه الترمذي.

(8/6289)


ثانياً ـ إصدار الحكم حضور ياً أمام الخصوم. إذ لا يجيز الحنفية كما تقدم القضاء على الغائب إلا لضرورة أو مصلحة. وأجاز غير الحنفية القضاء على الغائب وإصدار الحكم الغيابي على المدعى عليه.
ثالثاً ـ تعليل الأحكام: يفضل كون الحكم معللاً مبيناً في أسبابه التي بني عليها.
رابعاً ـ تدوين الأحكام: جرى القضاة على تسجيل الأحكام في سجلات بدءاً من العهد الأموي، حفاظاً عليها، وحرصاً على تنفيذها.
تنفيذ الأحكام: اتفق الفقهاء على أمرين خطيرين في التنفيذ وهما:
1 - حق التنفيذ منوط بالحاكم، أي السلطة التنفيذية في الدولة.
2 - منع الثأر والانتقام الشخصي أوعدم وجود أي سلطة شخصية لصاحب الحق على المسؤول.

ف في نطاق العقوبات الجنائية: الدولة هي المختصة بتطبيق العقاب الجزائي، سواء أكان مقدراً أم غير مقدر، حداً أو تعزيراً أو قصاصاً. وذلك حفظاً للنظام ومنع الفوضى ودرء الفساد وانتشار المنازعات بين الناس وإبطال عادة الأخذ بالثأر.
فلا يجوز لأي إنسان عادي القيام بتنفيذ العقوبة الجنائية، من قصاص وجلد وقطع وحبس وتوبيخ وتشهير أوتجريس، وإذا أراد ولي الدم وهو وارث القتيل ضرب رقبة القاتل، فيتم القصاص بإشراف الدولة، دون أن يكون له الحق في إثبات الجريمة، وإصدار حكم القصاص. وتمكين مستحق القصاص من استيفائه بإشراف الحاكم منوط بكونه يحسن القتل، ففيه شفاء لألم المصاب، دون ضرر بالجاني، وربما يكون ذلك أدعى لرحمة صاحب الحق وعفوه عن القاتل عندما يراه

(8/6290)


تحت سلطته، وعلى القاضي أن يتفقد آلة القتل منعاً للتعذيب (1)، أي أن تدخل ولي الدم يقتصر على الدور الذي يقوم به الجلاد أو السياف، دون أن يكون له الحق في تسلم القاتل يفعل به كما يرى، كما تصور بعض الجاهلين.

وفي نطاق القضايا المدنية: يقتصر حق الدائن على المطالبة بحقه بالتراضي، أو بواسطة رفع الدعوى إلى القضاء لاستصدار حكم يجبر المدين على إيفاء دينه في حال يساره وقدرته على الوفاء بالتزامه. وينتظر في حال إعساره وعجزه، لقوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظِرة إلى ميسرة} [البقرة:280/ 2].
وللقاضي إجبار المدين على الوفاء بدينه بأحد الوسائل الآتية: الحبس، والحجر، والبيع الجبري.
أما الحبس فمشروع إذا امتنع المدين الموسر عن الوفاء بدينه، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ليُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته» (2) أي أن مماطلة الغني تجيز الطعن به ومعاقبته. ويؤيده حديث آخر: «مَطْل الغني ظلم» (3).
ويظل المدين المماطل عند أبي حنيفة محبوساً حتى يوفي دينه. وقال صاحباه وبقية أئمة المذاهب: يحبس للتضييق عليه، فإذا لم يؤد الدين يحجر عليه ويباع ماله جبراً عنه، ويقسم بين الدائنين قسمة غرماء. وإذا ثبت إعساره يفرج عنه. ونظرة الميسرة والإفراج حال الإعسار دليل على أن الحبس مجرد وسيلة إكراه على الوفاء بالدين، وليس تنفيذاً على شخص المدين، كما هو الحال عند الرومان.
وأما الحجر على المدين (أي منعه من التصرف بماله تصرفاً يضر بمصلحة
_________
(1) انظر نظرية الضمان للمؤلف: ص 299 وما بعدها.
(2) رواه أبو داود والنسائي عن عمرو بن الشريد، وعلقه البخاري، وصححه ابن حبان، وأخرجه أحمد وابن ماجه والبيهقي (سبل السلام: 55/ 3).
(3) رواه الجماعة: (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 236/ 5).

(8/6291)


الدائنين) فأجازه صاحبا أبي حنيفة إذا كانت ديونه مستغرقة أمواله، أو كان يماطل في الوفاء بديونه. وأفتى به متأخرو الحنفية سداً للذرائع، أي حماية لمصلحة الدائنين من تصرفات المدين التي تضر بحقوقهم، وعملاً بقوله صلّى الله عليه وسلم: «لي الواجد يحل عرضه وعقوبته».
وأيد الحجر فقهاء المالكية والمتأخرون من فقهاء المذهب الحنبلي استحساناً. ووافق الإمام الشافعي على جواز الحجر على المدين إذا كانت ديونه مستغرقة. وأما في حالة مماطلته فلا يرى لزوماً له؛ لأن القاضي يستطيع الحكم عليه ببيع أمواله جبراً عنه، وإيفاء ديونه من ثمنها.
ولا حجر على المدين المعسر، كما لا حبس عليه كما سبق. وأما بيع مال المدين جبراً عنه فهو جائز عند الفقهاء الذين أجازوا الحجر عليه في الحالتين السابقتين.
فقد أجاز صاحبا أبي حنيفة بيع أموال المدين إذا قرر القاضي الحجر عليه، ولم يجد مسوغاً لتأجيل البيع، أو متى طلب الدائنون ابتدءً ذلك، وأبدوا أسباباً معقولة لطلبهم. ويقسم الثمن بين الدائنين قسمة غرماء.
ووافق المالكية على رأي الصاحبين، وأجاز الشافعي والحنابلة بيع المال ابتداء للمدين الموسر دون حجر عليه.
ويتم البيع في جميع الأحوال بمعرفة القاضي وبحضور الدائنين والمدين وفي سوق السلعة، أو في غير سوقها بثمن المثل، وبالمزاد العلني للوصول إلى أعلى سعر ممكن.
هذه هي أهم قواعد نظام القضاء في الإسلام، أوجزتها في بحث نظام الحكم في الإسلام، وقد كنت فصَّلت الكلام في القضاء وطرق إثبات الحق في الباب الخامس المتقدم.

(8/6292)