الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي الفَصْلُ الرَّابع: الدَّولة الإسلاميَّة
نشأتها، وظائفها، علاقاتها الخارجية، حصاناتها، زوالها
يشتمل هذا الفصل على مبحث تمهيدي وخمسة مباحث أصلية:
المبحث التمهيدي ـ مقدمات
المطلب الأول:
أولاً ـ المنشأ التاريخي لمفهوم دار الإسلام ولمفهوم الدولة الحديث.
ثانياً ـ التمييز بين المفهومين.
ثالثاً ـ اتجاه تطور كل من المفهومين.
المطلب الثاني ـ نشأة مصطلح الدولة الإسلامية:
1 - عن طريق من بحثوا في تطبيق مفهوم الدولة الحديث على مبادئ الإسلام
السياسية والواقع التاريخي لسيادة هذه المبادئ.
2 - وعن طريق من بحثوا أو حاولوا تقديم صورة حديثة لهذا المصطلح للتطبيق في
هذا العصر.
(8/6293)
3 - هل يوجب الإسلام إقامة دولة؟
المبحث الأول ـ أركان الدولة الإسلامية ونشأتها وشخصيتها:
المطلب الأول: أركان الدولة الإسلامية:
الركن الأول ـ الشعب:
أولاً ـ موقع هذا الركن مادياً، وأساسيته في مفهوم الدولة الإسلامية.
ثانياً ـ بيان اختلاف هذا الركن عن نظيره في المفهوم الحديث للدولة من حيث
إن الإسلام يقرر «اللاعنصرية».
الركن الثاني ـ الإقليم:
أولاً ـ موقع هذا الركن مادياً وبيان اختلافه عن نظيره في المفهوم الحديث
للدولة من حيث إن الإسلام يقرر «اللا إقليمية».
ثانياً ـ مشمول إقليم الدولة:
1 - ما هو جزء أساسي من الأقليم:
أـ الأرض.
ب ـ الأنهار الوطنية.
جـ ـ المياه الساحلية ـ المنطقة الملاصقة ـ الامتداد القاري ـ المياه
الداخلية (موانئ وخلجان وبحار داخلية).
(8/6294)
2 - ما هو امتداد أو ملحق بالإقليم
اعتباراً: وسائل النقل الدولية: (السفن، القطارات، الطائرات).
3 - ما يعتبر أصلاً جزءاً من إقليم الدولة، ولكن تترتب عليه حقوق ارتفاق
لدولة أو لدول أخرى:
أـ الجزء الواقع في إقليم الدولة من الأنهار الدولية.
ب ـ طبقات الجو عمودياً وما تستتبعه من حقوق في الملاحة الجوية والمواصلات
والإذاعات (اللاسلكية).
4 - الأقاليم المشتركة بين عدة دول.
5 - ما لا يعتبر جزءاً من الإقليم ولا تتناوله سيادة دولة ما، ويمكن
اعتباره امتداداً مشتركاً مشاعاً لإقليم كل دولة، وتعتبر فيه حقوق مشاعة أو
مرافق مشتركة يباح فيها مالا يضر بالآخرين دون ما يضر كتلويث مياه البحار
والجو بالإشعاع النووي وغيره:
أـ أعالي البحار.
ب ـ الفضاء الكوني.
الركن الثالث ـ السيادة:
تمهيد:
1 - نظرية السيادة في المفهوم الحديث للدولة والنظريات البديلة كمعيار
للدولة.
(8/6295)
2 - تمييز السيادة عما يشتبه بها كالسلطة
الفعلية غير الأصلية، وكحق الملكية وحقوق الارتفاق.
أولاً ـ موقع هذا الركن اعتبارياً في الدولة الإسلامية وبيان اختلافه عن
نظيره في المفهوم الحديث للدولة من حيث إن الإسلام يقرر أن الحاكمية لله.
ثانياً ـ نصاب هذه الحاكمية أو حدها الأدنى في التحقق، والفرق بينه وبين
الحد الأدنى في تطبيق أحكام الإسلام لتحقق مفهوم دار الإسلام.
ثالثاً ـ هل يشترط وحدة السلطة على كافة أجزاء دار الإسلام؟.
المطلب الثاني ـ نشأة الدولة الإسلامية:
مبدأ نشوء الدولة بمجرد تكامل أركانها
أولاً ـ طرق نشأة الدولة الإسلامية:
1 - نشوء جديد كلية.
2 - نشوء جديد من عناصر قديمة.
ثانياً ـ الاعتراف وأنواعه ونتائجها في المجال الدولي
النوع الأول ـ الاعتراف الكامل:
1 - بالدولة.
2 - بالحكومة واستلزامه الاعتراف بالدولة.
النوع الثاني ـ الاعتراف الناقص أو التمهيدي:
(8/6296)
1 - بالأمة.
2 - بالثورة.
3 - بالحكومة في الخارج (حكومة المنفى).
النوع الثالث ـ الاعتراف بحالة الحرب:
ثالثاً ـ شخصية الدولة الإسلامية:
إيضاح الشخصية الاعتبارية للدولة، وبيان موقع الدولة في الذروة من أنواع
الشخص الاعتباري.
المبحث الثاني: خصائص الدولة الإسلامية ومقارنتها بالدولة الحديثة:
المطلب الأول ـ خصائص الدولة الإسلامية:
أولاً ـ كونها دولة فكرة ومبادئ لإصلاح الحياة البشرية.
ثانياً ـ كون غايتها أداء رسالة الإسلام وجوباً اعتقادياً.
المطلب الثاني ـ مقارنتها بالدولة الحديثة:
أولاً ـ بيان مدى ارتباط الدول الحديثة بالمبادئ والأديان.
ثانياً ـ مقارنة بالدولة الشيوعية.
(8/6297)
المبحث الثالث - وظيفة دولة الإسلام:
تمهيد:
دراسة مختلف التعاريف التي وضعها العلماء في هذا الصدد.
الوظيفة الأولى ـ وظيفتها في الداخل:
أولاً ـ وظيفة تقوم على اعتبار ضرورات المجتمع.
1 - المحافظة على الأمن والنظام.
2 - تنظيم القضاء وإقامة العدل.
3 - إدارة المرافق العامة.
4 - الإعداد لحماية الدولة والدعوة لتدريب الشعب وتصنيع الأسلحة.
ثانياً ـ وظيفة تقوم على اعتبار خصائص الدولة الإسلامية وأهدافها:
1 - تقوية وحدة الأمة وتعاونها وأخوة أبنائها.
2 - تحقيق المصالح الأساسية التي تدور عليها الشريعة (وهي حفظ الدين والنفس
والعقل والنسل والمال).
3 - عمارة الأرض.
4 - صيانة الآداب الإسلامية.
5 - إقامة العدالة الاجتماعية.
6 - تحقيق الحياة الطيبة للأفراد بالنظر الإسلامي.
(8/6298)
7 - تحقيق المجتمع الخيّر.
8 - العمل باستمرار على تحقيق الأفضل والأصلح والأمثل في جميع نواحي الحياة
الإنسانية.
9 - إعداد الدعاة لنشر الدعوة في الداخل والخارج.
الوظيفة الثانية ـ وظيفتها في الخارج:
أولاً ـ وظيفة تقوم على اعتبار ضرورات الحياة الدولية:
1 - الدفاع عن أراضي الإسلام وتحرير شعوبه، وحماية أقلياته.
2 - دعم التعاون بين أقاليم الدولة الإسلامية، وتحقيق أقصى روابط الوحدة
والتنسيق بينها في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية، وحل
خلافاتها بصورة منظّمة.
3 - دعم السلام العالمي.
4 - دعم مبادئ كرامة الإنسان والعدالة والحرية والمساواة في العالم أجمع.
ثانياً ـ وظيفة تقوم على اعتبار خصائص الدولة الإسلامية وأهدافها:
1 - التعاون مع المخلصين من غير المسلمين؛ سواء أكانوا من أهل الكتاب أم من
غير أهل الكتاب.
2 - الدعوة إلى الإسلام.
3 - دفع شبهات الكنيسة والمستشرقين والملاحدة عموماً، والشيوعيين خاصة.
(8/6299)
المبحث الرابع ـ حصانات الدولة وإعفاءاتها
في الخارج
ـ شرح المراد بالحصانة وتاريخ هذا الاصطلاح
المطلب الأول ـ ما تشمله الحصانات والإعفاءات:
شخصية الدولة ـ سفنها ـ وكالاتها ومؤسساتها ـ وحداتها السياسية ـ سفاراتها.
المطلب الثاني ـ أنواع الحصانات والإعفاءات:
أولاً ـ الحصانة القضائية.
ثانياً ـ الحصانة المالية.
ثالثاً ـ الاستثناءات:
أـ النشاط التجاري ـ الملكية الخاصة.
ب ـ حالة رضا الدولة.
المبحث الخامس ـ تغير حالة الدولة الإسلامية وزوالها وآثار ذلك
المطلب الأول ـ حالة الدولة الإسلامية:
النوع الأول: التغيير الكياني في التنظيم السياسي الداخلي:
1 - بالانقلاب.
2 - بحرب أهلية.
3 - بالثورة ـ الفرق بين الانقلاب والثورة.
(8/6300)
النوع الثاني: التغيير في النطاق الإقليمي
(إضافة وانتقاصاً).
أولاً ـ بما لا يمس إقليم دولة أخرى:
1 - بالإضافة.
2 - بالاستيلاء على أرض غير خاضعة لدولة أخرى.
ثانياً ـ بما يمس إقليم دولة أخرى:
1 - بطريق المعاهدة.
2 - بطريق التقادم.
3 - بالفتح عند قيام موجباته بالنظر الإسلامي (الجهاد).
المطلب الثاني ـ زوال الدولة الإسلامية:
أولاً ـ الزوال الكلي بزوال واحد أو أكثر من أركان الدولة الإسلامية.
ثانياً ـ الزوال الجزئي بالتجزؤ وزوال وحدة السيادة.
موقف السلطة العليا الأصلية في الحالات الآتية:
أـ حالة إمكان إخضاع الجزء المنفصل.
ب ـ حالة العجز عن إخضاعه وما تحتها من احتمالات:
1 - إذا كان الجزء المنفصل معترفاً بالسلطة العليا الأصلية وبارتباطه بها
ولو اسماً.
(8/6301)
2 - إذا كان الجزء المنفصل غير معترف
بالسلطة العليا، بل يدعي أنه هو صاحبها.
المطلب الثالث ـ أثر تغير حالة الدولة أو زوالها في خَلَفها (التعاقب)
أولاً ـ أثره في المعاهدات.
ثانياً ـ أثره في ديون الدولة.
ثالثاً ـ أثره في أملاك الدولة.
رابعاً ـ أثره في التشريع.
خامساً ـ أثره في الأحكام القضائية.
سادساً ـ أثره في جنسية الأفراد.
(8/6302)
المبحث التمهيدي:
مقدمات وفيه مطلبان:
المطلب الأول:
أولاً ـ المنشأ التاريخي لمفهوم دار الإسلام ولمفهوم الدولة الحديث: فقرة 1
ـ كانت الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة (يثرب) وما سبقها من بيعتي
العقبة أساساً في نشأة أو تكوين الدولة الإسلامية، أو دار الإسلام في
اصطلاح فقهائنا؛ إذ بذلك تميزت شخصية المسلمين عن المشركين، وتوطدت لهم في
المدينة الدعائم الأولى للأمن والاستقرار، وبرزت السلطة السياسية للنبي،
وهذه السلطة تعتبر الآن هي العنصر الجوهري في تكوين الدولة (1).
وكان من مظاهر ممارسة النبي عليه السلام لتلك السلطة أنه قام بموادعة
اليهود في المدينة حينما كتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه
يهود، وعاهدهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم، واشترط عليهم (2).
وبدأ التشريع القرآني ينظم أوضاع الجماعة الإسلامية لتدبير شؤونها وسياسة
ملكها، وكان النبي صلّى الله عليه وسلم يمارس سلطانه السياسي في تنفيذ
القوانين والأنظمة المشرعة، وتأديب العصاة، ومعاقبة الجناة، وعقد الاتفاقات
أو المعاهدات ومحاربة الأعداء؛ إذ أنه بعد اثني عشر شهراً من مقدمه عليه
السلام إلى المدينة
_________
(1) النظم السياسية للدكتو ثروت بدوي: 37/ 1.
(2) سيرة ابن هشام: المجلد الأول/501، ط الحلبي. ولقد كان هذا الاتفاق على
إنشاء (أمة) واحدة من أعجب الاتفاقات التي عرفها التاريخ من هذا النوع.
(8/6303)
وقعت أول غزوة
في الإسلام: وهي غزوة الأبواء التي خرج فيها الرسول صلّى الله عليه
وسلم يريد قريشاً، فوادعته بنو ضمرة بودَّان (1).
الهجرة إذن كانت نقطة تحول في تاريخ الإسلام تمخص عنها ميلاد دولة جديدة لم
يعرف لهامثال سابق بين العرب أطلق عليها الفقهاء اصطلاح (دار الإسلام)، لأن
اصطلاح (الدولة) لم يكن معروفاً وقتذاك، ولأنه كان هناك تلازم بين مفهومي
الدولة ودار الإسلام.
ويلاحظ أنه تميزت دولة دار الإسلام في بدء تكوينها بأنها دولة متحدة تجمع
كل من استجاب لدعوة الإسلام، وآمن برسالة محمد صلّى الله عليه وسلم على
أساس أن حكم الإسلام أو شرعه يسودها، وإن ولايته الشخصية تمتد إلى مختلف
الأقاليم الإسلامية (2).
فقرة 2 ـ وأما مفهوم الدولة الحديث فقد ظهر في أوربا خلال القرنين السادس
عشر والسابع عشر بعد أن تحطمت السلطة البابوية. وانهار النظام الإقطاعي، أو
مبدأ الزعامات الإقطاعية الذي كان يقوم على الجمع بين ملكية الأرض وبعض
الامتيازات كقيادة الجيش أو جمع الضرائب مثلاً، دون أن يكون للملك سلطة
حقيقية إلا على أرضه التي اقتطعها لنفسه. وقد أدى تجمع سكان الإقطاعات إلى
ما يدعى بالأمة كالأمة الإيطالية والأمة الفرنسية، ثم تولد عن ذلك ما يعرف
بالدولة بوجود سلطة سياسيةفي المجتمع، لأن السلطة السياسية هي الصورة
الحديثة للجماعة السياسية.
وهكذا توالى ظهور الدول الحديثة ذات القومية الواحدة، وتوطدت أركانها
_________
(1) سيرة ابن هشام: 590/ 1.
(2) أحكام القانون الدولي في الشريعة الإسلامية للدكتور حامد سلطان: ص 157.
(8/6304)
الاقتصادية، كما حدث في إنجلترا وفرنسا
وأسبانيا، والبرتغال والسويد والدانمرك والنرويج، والمجر وبولندة وروسيا،
وأصبحت القاعدة أن تتمتع الدول بالسيادة ولا تخضع لسلطة عليا أخرى.
وتحددت فكرة العائلة الدولية منذ مؤتمر وستفاليا سنة (1648) م، وكانت
مقصورة في أول الأمر على دول غرب أوربا، ثم انضمت إليها سائر الدول
المسيحية، غير الأوربية، ثم اتسعت في سنة 1856 م فشملت تركيا الدولة
الإسلامية ودولاً أخرى غير مسيحية كاليابان والصين (1).
ثانياً ـ التمييز بين مفهومي دار الإسلام والدولة الإسلامية: 3 ـ على الرغم
مما كان قائماً من وجود التلازم بين مفهومي دار الإسلام والدولة الإسلامية،
فإن دار الإسلام تتميز بارتكازها على أساس العنصر المادي (أي الأرض أو
الاقليم) (2) وأما الدولة الإسلامية فتتميز بما لها من صفة السيادة (أو
الاستقلال) والشخصية المعنوية ذات الأهلية والذمة المالية المستقلة عن ذمة
أشخاص رعاياها، فلها مالية مستقلة عن أموالهم تتمثل في بيت المال (3).
وكانت الدولة الإسلامية مستقلة لا تخضع لأي سلطة أخرى، كما كانت مستقلة
_________
(1) مبادئ القانون الدولي العام للدكتور حافظ غانم: ص 46 ومابعدها، النظم
السياسية المرجع السابق: ص 23 وما بعدها، و 37.
(2) يتضح ذلك من مفهوم دار الإسلام: وهي كما قال أبو منصور البغدادي: كل
دار ظهرت فيه دعوة الإسلام من أهله بلا خفير ولا مجير ولا بذل جزية، ونفذ
فيها حكم المسلمين على أهل الذمة إن كان فيهم ذمي ولم يقهر أهل البدعة فيها
أهل السنة (ر: كتاب أصول الدين لأبي منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي
البغدادي المتوفى سنة 429هـ: ص 270، ور أيضاً: دار الإسلام ودار الحرب، بحث
المؤلف).
(3) ر: المدخل إلى نظرية الالتزام العامة في الفقه الإسلامي للأستاذ مصطفى
الزرقاء: ف 187.
(8/6305)
عن أشخاص الحكام فيها، وكان يعد الحاكم
بمثابة أمين على السلطة ونائباً عن الأمة (1). وهذا هو المعنى الذي يرمز
إليه فقهاء القانون الوضعي القائلون بأن الدولة توجد حينما تجد السلطة
السياسية سندها لا في إنسان، ولكن في شخص معنوي مجرد له طابع الدوام
والاستقرار والاستقلال عن أشخاص الحكام أنفسهم (2).
ثالثاً ـ اتجاه تطور مفهومي دار الإسلام والدولة الحديثة: 4 - المبدأ أو
الأصل الفقهي أن تكون دولة الإسلام أو دار الإسلام موحدة السياسة وشاملة
لجميع الأقاليم الإسلامية، وذلك لتحقيق غاية الإسلام الأساسية: وهي قوة
الإسلام والمسلمين بأن يكونوا جميعاً يداً واحدة، فيتجهون، اتجاهاً واحداً،
وتسوسهم سياسة واحدة تحقق الخير والمصلحة للجميع. وقد ظلت الخلافة أو
الدولة الإسلامية بناء على ذلك موحدة الصف طوال القرون الثلاثة الأولى
الهجرية، ثم تجزأت دار الإسلام خلافاً للمبدأ السابق، فقامت دول إقليمية في
عهد الدولة العباسية، وانقسمت الخلافة العباسية إلى دويلات: في العراق
نفسها، وإيران والشام ومصر وشمالي إفريقية، ثم فيما بعد في الأندلس، فظهرت
في أسبانيا الدولة الأموية الثانية (317 - 423 هـ)، وقامت الخلافة الفاطمية
(297 - 567 هـ)، في المغرب، ثم انتقلت إلى مصر في عهد المعز لدين الله سنة
_________
(1) ر: للتفصيل موضوع دار الإسلام ودار الحرب للمؤلف: ف/20.
(2) ثروت بدوي، المرجع السابق: ص 24 وما بعدها. ومن المعلوم الآن أن من
خصاص الدولة تمتعها بالشخصية المعنوية أو بالشخصية القانونية، ومن ثم فهي
تلزم وتلتزم كالأشخاص الطبيعيين تماماً، ويترتب على الاعتراف للدولة
بالشخصية القانونية، علاوة على أهلية التمتع بالحقوق وتحمل الالتزامات
تأكيد الانفصال بين الحاكم والسلطة، أي أن الدولة وحدة قانونية مستقلة عن
أشخاص الحكام الذين يمارسون السلطة، وأن هذه الوحدة لها طابع الدوام
والاستقرار (ثروت بدوي: ص 52 وما بعدها) وهذه المعاني سبق إليها الإسلام
كما تقدم.
(8/6306)
(362 هـ).
وهكذا وجدت في وقت واحد ثلاث خلافات إسلامية: خليفة عباسي في العراق،
وخليفة أموي في الأندلس، وخليفة فاطمي في إفريقية وجنوبي إيطاليا وصقلِّية،
ثم مصر وقسم كبير من الشام (1).
وكان من أهم عوامل التجزئة وفصم عرى الوحدة الإسلامية هو الفتنة الأولى أو
الكبرى التي انتهت بمصرع عثمان بن عفان رضي الله عنه، والفتنة الثانية التي
انتهت بقتل الحسين بن علي وآل بيته رضي الله عنهم في كربلاء.
وفي وسط هذا الاختلاف بين أهل السنة والشيعة وتشعب الآراء وتعدد الفرق
وانقسام المسلمين إلى دويلات، انقض التتر والمغول على الخلافة العباسية في
بغداد، فأزالوا معالمها ثم استولوا على دمشق. ثم جاءت الدولة العثمانية،
فاستولت على البلاد الإسلامية وعاصرت انسلاخ الأندلس وطرد المسلمين منها
ومن سائر أوربا بسبب ضعفهم أمام العدو، وطلبهم النصرة بل الحماية من العدو
المشترك أيام (ملوك الطوائف).
ثم ضعفت الدولة العثمانية: فانقض المستعمرون الغربيون على الأقاليم
الإسلامية يتقاسمونها بينهم بالحماية أو الانتداب أو الوصاية مستفيدين من
النُّعَرة الوطنية (2) وظل الحال كذلك إلى أن استقل معظم البلاد في وحدات
اقليمية أو دويلات متعددة بنحو خمسين دولة إسلامية في الوقت الحاضر.
والخلاصة: إن مفهوم دار الإسلام اتجه خلافاً للمبدأ الإسلامي نحو التجزؤ
_________
(1) مقدمة ابن خلدون: ص 292، ط مصطفى محمد، الشرع الدولي في الإسلام
للدكتور نجيب الأرمنازي: ص 158، مقدمة كتاب السياسة لأبي القاسم المغربي: ص
28.
(2) الكلام عن مآسي الاستعمار الغربي في هذا الصدد يتسع لمؤلف ضخم، وقد
شاهد جيلنا الحاضر الكثير من ويلاته بتجزئة الإقليم الواحد إلى أوطان
متعددة خاضعة تحت نفوده، وبذر بذور الفتن والتفرقة بين الإخوة عملاً بقاعدة
(فرق تسد).
(8/6307)
والانقسام في واقع الحياة الإسلامية مما
أدى إلى ضعف دولة الإسلام. وبسط نفوذ المتسلطين عليها، ومعاناة مختلف أشكال
الاستعمار القديم والجديد.
5 - وأما الدول الحديثة فإنها بعد أن قامت على أساس الإقليمية الضيقة، دأبت
على توفير أو استكمال خصائصها أوعناصرها: وهي النظام (1) والسيادة (2)
والشخصية القانونية (3).
_________
(1) النظام: معناه ائتمار الجماعة بأمر فئة منها وخضوعها لقراراتها. أو
بعبارة أخرى: وجود طبقة من الحكام وأخرى من المحكومين. وهذا في الحقيقة هو
المظهر الداخلي لسيادة الدولة وسلطانها (راجع موجز القانون الدستوري
للأستاذين عثمان خليل والطماوي: ص 14).
(2) السيادة: وصف أو خاصية تنفرد بها السلطة السياسية في الدولة، ومقتضاها
أن سلطة الدولة سلطة عليا لا يسمو عليها شيء، ولاتخضع لأحد، ولكن تسمو فوق
الجميع، وتفرض نفسها على الجميع. ومقتضاها أيضاً أن سلطة الدولة سلطة
أصيلة، أي لا تستمد أصلها من سلطة أخرى. وللسيادة وجهان: سيادة خارجية،
وسيادة داخلية. الأولى خاصة بالعلاقات الخارجية بين الدول، ومقتضاها عدم
خضوع الدولة صاحبة السيادة الخارجية لأية دولة أجنبية، والمساواة بين جميع
الدول أصحاب السيادة، ومن ثم فالسيادة الخارجية مراد فة للاستقلال السياسي،
وذلك يتوفر باعتراف الجماعة الدولية بها، فهي ذات دور سلبي محض. وأما
السيادة الداخلية أوالنظام كما ذكرت فلها معنى إيجابي مضمونه أن الدولة
تتمتع بسلطة عليا على جميع الأفراد والهيئات الموجودة على إقليمها، وأن
إرادتها تسمو على إرادتهم جميعاً، أي أن سيادة الدولة الكاملة تعني
استقلالها الخارجي، وسمو سلطانها في الداخل، وهذا يدل على أنه لا دولة بدون
سيادة، وقد حل محل هذه الكلمة في العرف الحديث لفظة (استقلال الدولة) (راجع
ثروت بدوي: 40/ 1 - 43، حافظ غانم: ص 13، المرجعان السابقان). ويمكن القول
بوجود أساس لمبدأ السيادة الخارجية أو الاستقلال السياسي في القرآن الكريم
في قوله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} [النساء:141/
4] وقوله تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} [المنافقون:8/ 63] والعزة:
الأنفة. ومن أّهم مقوماتها الاستقلال الذي هو من مستلزمات التمكين في الأرض
الذي وعد الله به المؤمنين الذي يعملون الصالحات.
(3) الشخصية القانونية أو المعنوية: هي الخاصة الثانية للدولة، ومعناها أن
الدولة وحدة قانونية مستقلة عن أشخاص الحكام الذين يمارسون السلطة، وأن هذه
الوحدة لهاطابع الدوام والاستقرار لا تزول بزوال الأفراد الذين يباشرون
الحكم، وإن السلطة التي تتمتع بها إنما تقوم من أجل خدمة أغراض الجماعة، لا
من أجل تحقيق مآرب شخصية للحاكم. ويترتب على ذلك أن الشخص المعنوي يلزم
غيره، ويلتزم في ذمته كالأشخاص الطبيعيين تماماً، أي أن له أهلية التمتع
بالحقوق وتحمل الالتزامات، كما أشرت سابقاً (ثروت بدوي، المرجع السابق: ص
52 وما بعدها).
(8/6308)
إلا أن نظريةالسيادة المطلقة تعرضت في
العصر الحديث لانتقادات جوهرية، وهجرها الكثيرون على اعتبار أنها لا تتفق
مع الظروف الحالية للمجتمع الدولي (1)، وبرز اتجاه معاصر نحو إمكان
الانتقاص من السيادة على الصعيدين: الإقليمي والدولي، ففي مجال التعاون
الإقليمي نما الإدراك لدى بعض الشعوب والأمم بوجوب التجمع في صور تغاير
صورة الدولة بعناصرها التكوينية الحالية، وبوجوب التعديل في عنصر السيادة
الذاتية، وظهرت الاتحادات القارِّية كالاتحاد الأمريكي الذي نشأ في أواخر
القرن الماضي، ثم تجدد تنظيمه بعد الحرب العالمية الثانية، وكالاتحاد
الأوربي الذي برز إلى حيز التحقيق العملي بعد الحرب العالمية الأولى، ثم
بدت أهم مظاهره بعد الحرب العالمية الثانية، فنشأ المجلس الأوربي سنة
(1949م)، وعقدت اتفاقية السوق الأوربية المشتركة عام (1957 م)، وفي أعقاب
الحرب العالمية الثانية وقعت روسيا والدول الشيوعية ميثاق وارسو سنة
(1955م) (2). وهكذا تتجه الدول الحديثة في النطاق الإقليمي نحو الوحدة أو
الاتحاد لتقوية شأنها ودعم نفوذها.
وعلى الصعيد الدولي طرأ على مفهوم السيادة قيد جديد، فأصبحت الدول من
الناحية النظرية القانونية لا الواقعية الفعلية غير مطلقة التصرف في ميدان
العلاقات الدولية لخضوعها للقانون الدولي العام المفروض على الدول بناء على
اعتبارات تعلو على إرادتها، والذي هو يورد قيوداً على تصرفات الدول، ويحكم
علاقاتها مع الدول الأخرى ومع الهيئات الدولية، فمثلاً: تضمَّن ميثاق الأمم
المتحدة قيداً على مبدأ السيادة المطلقة في مظهرها الخارجي، فقضى على حق
_________
(1) حافظ غانم، المرجع السابق: ص 134.
(2) أحكام القانون الدولي في الشريعة، حامد سلطان: ص 153، الحقوق الدولية
العامة، فؤاد شباط: ص 258.
(8/6309)
الدولة في إعلان الحرب متى شاءت، لأن
الميثاق يقوم على فكرة نبذ الحروب ووجوب استتباب الأمن والسلم الدولي (1).
والخلاصة: أن الاتجاه الحالي للدول نحو التجمع والاتحاد يتفق مع أصل الفكرة
الشرعية الداعية إلى وحدة السلطة أو السيادة في جميع أقاليم دار الإسلام.
المطلب الثاني ـ نشأة مصطلح الدولة الإسلامية:
1 - السبب في إطلاق مصطلح الدولة الإسلامية على
نظم الحكم الإسلامية:
6 - لم يضع العلماء المجتهدون نظرية عامة للدولة تبين أسسها النظرية أو
العملية، وإنما كانوا يضعون الحلول ويقدمون الآراء بمناسبة كل حالة طارئة،
كما هو الشأن في أغلب أحكام الفقه الإسلامي، لكنهم مع ذلك يلاحظ أنهم
يسيرون على هدى مبادئ ونظريات عامة ثابتة، وهكذا فإن الدولة الإسلامية قامت
على دعائم جديدة مبتكرة تختلف تماماً عن الدعائم التي قامت عليها بيزنطة
وفارس، ومنها أن الإسلام نبذ فكرة سيطرة الحاكم، وفكرة خضوع المحكومين في
الشؤون الدينية والدنيوية معاً لغير مبادئ الإسلام، فالله وحده هو صاحب
السلطان في شؤون الآخرة من ثواب أو عقاب، ويقوم نظام الحكم في الشؤون
الدنيوية على القواعد الشرعية في حفظ المصالح ودرء المفاسد بحسب حال الزمان
والمكان،
_________
(1) القانون الدولي العام للدكتور حامد سلطان: ص 752 وما بعدها، حافظ غانم،
المرجع السابق: ص153.
(8/6310)
وعلى أسس العدل والشورى والمساواة
والمعاملة بالمثل والأخلاق، وعدم التمييز بين الناس في الجنس واللغة أو
اللون أو الإقليم (1).
7 - ونلاحظ أن عناصر الدولة الحديثة نفسها التي تتكون منها الآن كانت
متوافرة في تكوين الدولة الإسلامية في الماضي (2): وهي الجماعة من الناس،
والخضوع لنظام معين، والتسليم المحدد، والسلطان أو السيادة، والشخصية
المعنوية.
هذه العناصر والخصائص توافرت بذاتها في الحكومة النبوية التي أقامها الرسول
صلّى الله عليه وسلم في المدينة، فالمسلمون الأولون من المهاجرين والأنصار
هم شعب الدولة، والشريعة الإسلامية هي نظامها، والمدينة هي إقليمها، والنبي
صاحب السلطان لا يشاركه فيه سلطة أخرى، والجماعة الإسلامية تمثل الشخصية
المعنوية للدولة فيكون لها حقوق، وعليها التزامات، وتظل المعاهدات التي
يعقدها الحاكم الأعلى نافذة المفعول لا تنتقض أو لا تنتهي بوفاته.
وكانت بيعتا العقبة الأولى والثانية قبل الهجرة (3) على الإيمان بالله
وبرسوله، وعلى السمع والطاعة للرسول عليه الصلاة والسلام، وحمايته ونصرته
هما الركيزة الأولى في الاتفاق على تكوين دولة المدينة (4).
_________
(1) تفسير ابن كثير: 217/ 4، السياسة الشرعية لابن تيمية: ص 157 وما بعدها،
شرح أدب الدنيا والدين: ص 240، 488، تفسير المنار: 11/ 3 وما بعدها، و 199/
4 وما بعدها، و 188/ 5 وما بعدها، أحكام القانون الدولي في الشريعة لحامد
سلطان: ص 127 وما بعدها.
(2) ر: للتفصيل دار الإسلام ودار الحرب للمؤلف.
(3) حدثت البيعة الأولى قبل الهجرة بسنة وثلاثة أشهر، والثانية بعدها بعام
واحد في موسم الحج: (سيرة ابن هشام: المجلد الأول/431، 418، ط الثانية
للحلبي).
(4) على الرغم مما كانت عليه هذه الدولة من بساطة، فإنها كانت دولة مستوفية
جميع أركانها، كما كان شأن دولة مدينة روما، أو دولة مدينة أثينا في
الأزمنة القديمة (انظر مبادئ نظام الحكم في الإسلام للدكتور عبد الحميد
متولي: ص 451 و 488).
(8/6311)
كانت إذن الحكومة النبوية في المدينة جديرة
بإطلاق مصطلح الدولة الإسلامية عليها، ويؤكد ذلك ما قام به النبي صلّى الله
عليه وسلم من إصلاحات اجتماعية وسياسية عقب الهجرة مباشرة، فجمع بين
المهاجرين والأنصار وآخى بينهم، ووادع يهود المدينة، وكانت هذه المعاهدة
بين المسلمين وغيرهم بمثابة الدستور الذي نظم شؤون المسلمين وعلاقاتهم
بغيرهم داخل المدينة وخارجها (1) على نحو أشبه ما يسمى اليوم بالميثاق
الوطني.
وكان النبي صلّى الله عليه وسلم يمارس شؤون السلطات الثلاث (التشريعية
والقضائية والتنفيذية)، فكان عن طريق الوحي والاجتهاد الخاص يضع قواعد
السلوك للناس في حياتهم الاجتماعية، ويحكم بين الخصوم، ويجبي الصدقات،
ويوزع الغنائم، ويولي الأمراء على القبائل والمدن ويحدد لهم الاختصاصات،
ويرسل القضاة إلى الأمصار، ويقود المعارك، ويعقد عقود الصلح أو الموادعة.
أنشأ النبي صلّى الله عليه وسلم بهذه التصرفات تنظيماً أو جهازاً إدارياً
بالتدريج توضحت معالمه واستكملت عناصر بنيانه قبل وفاته بسنتين، حيث أرسل
الأمراء والعمال إلى البلاد التي آمنت برسالته، وكان في كل وقت شديد الحرص
على مشاورة أصحابه، ويقوم أحد كتاب الوحي عنده بالكتابة إلى الملوك
والأمراء، ويتخصص بعض الكتاب لحوائج الناس أو لمنازعاتهم، أو لعلاقات
القبائل وتوزيع الحقوق فيما بينهما ونحو ذلك مما يثبت أن الرسول عليه
الصلاة والسلام لم يكن رسولاً فحسب، وإنما كان كذلك حاكماً ورئيساً لدولة
(2).
_________
(1) سيرة ابن هشام، المرجع السابق: ص 501 وما بعدها.
(2) عبقرية الإسلام في أصول الحكم للدكتور منير العجلاني: ص 90 - 98، مبادئ
نظام الحكم في الإسلام للدكتور عبد الحميد متولي: ص 451.
(8/6312)
8 - واستمرت الخلافة الراشدية على الأسس
نفسها التي قامت عليها الحكومة النبوية مع إضافة اصلاحات رائعة في عهد عمر
بن الخطاب في نظام القضاء والإدارة بوضع الدواوين وتعيين القضاة وتحديد
صلاحيات الولاة والعمال في الأمصار الإسلامية (1).
إلا أنه في عهد أبي بكر فصلت السلطة القضائية عن السلطة الإدارية بدليل قول
أبي عبيدة لأبي بكر: أنا أكفيك المال، وقول عمر له: وأنا أكفيك القضاء.
وكانت الخلافتان الأموية والعباسية رمز قوة الدولة وصاحبة الكلمة النافذة
في العالم مع وضوح التقسيمات الإدارية للدولة وتعيين اختصاصات الولاة
والأمراء.
وكذلك كان شأن الدولة العثمانية عدة قرون.
وهكذا ظلت الدولة الإسلامية طوال عشرة قرون مثالاً صحيحاً للدولة نظمت
شؤونها على نحو سليم يتضمن كل ما تتطلبه مقومات الدولة الأساسية في الوقت
الحاضر، مع ملاحظة فارق التطور والتقدم العلمي الحديث.
2 - صلاحية نظام الحكم الإسلامي للتطبيق في
الوقت الحاضر:
9 - الخلافة (أو الإمامة أو إمارة المؤمنين) أو أي نظام شوري يجمع بين
مصالح الدنيا والآخرة كلها ذات مدلول واحد، لا يختلف عما هو متعارف الآن من
أنظمة الحكم الدستورية النيابية إلا في أن الخلافة ذات صبغة دينية وسياسية
أو
_________
(1) سيرة عمر بن الخطاب للأستاذين علي وناجي الطنطاوي: 224/ 1 و 263 و 548/
2، ط الترقي بدمشق، تاريخ الحضارة العربية للأستاذ راتب الحسامي: ص 54 و
86.
(8/6313)
رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا ولجميع
المسلمين في كل قطر (1)، فهي تقوم على أساس الشورى أو الانتخاب، ويلتزم
فيها تطبيق شريعة الإسلام، وتسود فيها مبادئ المساواة التامة في الحقوق
والواجبات بين أفراد المجتمع، مهما اختلفت الأجناس والألوان، وتباينت
الأقدار، وتتوخى تطبيق العدالة بحق، وتوفر لأبنائها الحرية الكافية في
القول والرأي والنقد في ظل من القيم الخلقية الأصيلة (2).
والحاكم ليس هو صاحب السيادة، وإنما الأمة والشريعة معاً هما صاحبا السيادة
في الدولة الإسلامية (3).
وهذا كله من الناحيتين النظرية والعملية قابل للتطبيق في الوقت الحاضر كما
طبق في عصر صدر الإسلام، بشرط أن يتوافر لدى الناس الاستعداد الكافي وحسن
التفهم والإدراك العقلي والتجريبي، مع مراعاة وسائل التطبيق الزمنية، إذ أن
من مبادئ الفقه الإسلامي المرونة ومراعاة المصالح، وقابلية التطور في
الأحكام الفقهية الاجتهادية، ودفع الضرر، وإقامة العدل ومنع العدوان.
وبالتزام هذه المبادئ يتيسر على الناس اختيار شكل الحكم الذي يحقق تلك
الأهداف دون تقيد بتسمية معينة كنظام الخلافة، وذلك عملاً بمبدأ نفي الحرج
في الإسلام.
3 - هل يوجب الإسلام إقامة دولة؟ 10 ـ
الإسلام نظام ديني ومدني متكامل، ويتلازم وجود المسلمين مع قيام
_________
(1) ليس صحيحاً أن نظام الخلافة والإجماع الأصولي ضرباً من المحال كما توهم
بعض رجال القانون وذلك بدليل وقوعهما بالفعل (قارن الدكتور متولي: ص 548).
(2) راجع نظام الحكم في الإسلام للدكتور عبد الله العربي: ص 48 وما بعدها.
(3) النظريات السياسية الإسلامية للدكتور ضياء الدين الريس: ص 340.
(8/6314)
الدولة، ومن أهم أركان كل دولة كما أشرت
سابقاً وجود سلطة عامة سياسية عليا يخضع لهاجميع الأفراد المكونين للجماعة
(1).
لذلك نرى الأكثرية الساحقة من علماء الإسلام (وهم أهل السنة والمرجئة
والشيعة والمعتزلة إلا قليلاً منهم، والخوارج ما عدا النجدات) تقرر وجوب
إقامة حكومة عليا (أو إمارة أو دولة أو إمامة). والمراد بالوجوب هنا هو
المعروف في علم أصول الفقه المرادف عند جمهور العلماء لمعنى الفرضية، وقد
قال العلماء فعلاً: إن الإمامة فرض كفاية (2).
قال ابن تيمية: يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لا
قيام للدين إلا بها، فإن بني آدم لاتتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم
إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس حتى قال النبي صلّى الله عليه
وسلم: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم» رواه أبو داود من حديث أبي
سعيد وأبي هريرة (3).
وقال ابن حزم: (اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع
الخوارج على وجوب الإمامة، وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل
_________
(1) النظم السياسية للدكتور ثروت بدوي: 33/ 1.
(2) مغني المحتاج: 129/ 4، شرح المواقف للجرجاني: 346/ 8، شرح العقائد
النسفية للتفتازاني: ص142 وما بعدها، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين
للأشعري: 133/ 2، حجة الله البالغة للدهلوي: 110/ 2، أصول الدين للبغدادي:
ص 271 وما بعدها، ط استانبول، الأحكام السلطانية للماوردي: ص 3، ولأبي
يعلى: ص 3، نيل الأوطار: 256/ 8، مقدمة ابن خلدون: ص 191 وما بعدها، الحسبة
لابن تيمية: ص 4 - 7، السياسة الشرعية لابن تيمية: ص 161، النظريات
السياسية الإسلامية للريس: ص 144،إكليل الكرامة في مقاصد الإمامة لصديق حسن
خان: ص 7 وما بعدها.
(3) السياسة الشرعية له، المكان السابق.
(8/6315)
يقيم فيهم أحكام الله، ويسوسهم بأحكام
الشريعة التي جاء بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، حاشا النجدات، فإنهم
قالوا: لا يلزم الناس فرض الإمامة وإنما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهم
(1).إلا أن هؤلاء الموجبين للإمامة فريقان: قال أكثر الأشعرية، والمعتزلة،
والعترة؛ إنها تجب شرعاً، لأن الإمام يقوم بأمور شرعية. وقال الشيعة
الإمامية: تجب الإمامة عقلاً فقط للحاجة إلى زعيم يمنع التظالم ويفصل بين
الناس في التنازع والتخاصم، ولولا الولاة لكان الأمر فوضى.
وقال الجاحظ والبلخي والكعبي وأبو الحسن الخياط والحسن البصري: تجب الإمامة
عقلاً وشرعاً.
وشذ جماعة (وهم المُحكِّمة الأولى والنجدات من الخوارج، وضرار، وأبو بكر
عبد الرحمن بن كيسان الأصم المعتزلي وهشام الفُوطَي) فقالوا بجواز الإمامة
وأنها لا تجب، قال الأصم: لو تكافَّ الناس عن التظالم لاستغنوا عن الإمام.
واستدل كل فريق على رأيه بأدلة مطولة لا مجال هنا لذكرها (2).
_________
(1) الفصل في الملل والنحل: 87/ 4، وانظر المحلى: 438/ 9، م/1768 ومراتب
الإجماع: ص124.
(2) ر: للتفصيل إمامة ـ الإمامة الكبرى. وقد سبق إيراد هذه الأدلة في فصل:
نظام الحكم في الإسلام.
(8/6316)
المبحث الأول ـ
أركان الدولة الإسلامية ونشأتها وشخصيتها
المطلب الأول ـ أركان الدولة الإسلامية:
تمهيد:
11 - الدولة في العرف الحديث: مجموع كبير من الناس يقطن بصفة دائمة في
إقليم جغرافي معين، ويخضع لسلطة عليا أو تنظيم سياسي معين.
يظهر من هذا التعريف التقليدي للدولة أن عناصرها أو أركانها ثلاثة: هي
الشعب أو مجموعة من الأفراد، والإقليم، والسلطة الحاكمة. ويربو عدد الدول
الآن على (170) دولة.
وتتصف الدولة بوصفين أو خاصتين: وهما السيادة والشخصية المعنوية أو
القانونية، فالسيادة هي المعيار التقليدي للدولة، أي الذي يميزها عن غيرها
من الجماعات (1).
وسأبحث هنا ركنين من أركان دولة الإسلام: وهما الشعب والإقليم (2) وأبحث
أيضاً وصف (السيادة) الذي يعتبره بعض فقهاء القانون الدستوري ركناً من
أركان الدولة (3).
_________
(1) النظم السياسية، ثروت بدوي: ص 28 و 40، حافظ غانم، المرجع السابق: ص
124 و 128، أحكام القانون الدولي في الشريعة: ص 212.
(2) من المعلوم أن الدولة الإسلامية سبقت ـ في مظهرها القانوني ـ نشوء
الدول الأوربية من حيث اكتمال عنصر الإقليم وعنصر الشعب وعنصر الولاية
الذاتية فيها، انظر (أحكام القانون الدولي لحامد سلطان، المرجع السابق: ص
231).
(3) موجز القانون الدستوري، عثمان خليل والطماوي: ص 10 - 14.
(8/6317)
فصارت مواضيع هذا المبحث ثلاثة: الشعب
والإقليم والسيادة.
الركن الأول ـ الشعب:
أولاً ـ موقع هذا الركن مادياً وأساسيته في مفهوم الدولة الإسلامية:
12 ـ الشعب أو الأمة في المفهوم الحديث يقوم على عنصرين: عنصر مادي وهو
الاستقرار على بقعة معينة من الأرض، وعنصر معنوي: وهو الرغبة في الحياة
المشتركة. ويعتبر أول عناصر الدولة هو العنصر الإنساني وهو الشعب، وتعد
ضخامة عدد أفراد الدولة الحديثة من مميزاتها إذا قورنت بدولة (المدينة)
السياسية القديمة.
والشعب في مفهوم تكوين الدولة الإسلامية هو شعب دار الإسلام الذي يتألف من
المسلمين الذين يؤمنون برسالة الإسلام ديناً وشرعاً وعقيدة ونظاماً سياسياً
ومن الذميين، أي غير المسلمين الذين يقيمون إقامة دائمة في دار الإسلام،
فمن هؤلاء جميعاً يتكون شعب الدولة الإسلامية أو رعاياها الذين يرتبطون في
المفهوم الحديث برابطة سياسية وقانونية هي رابطة الجنسية أو الرعوية.
وتنحصر غاية المسلمين في توحيد الله والدعوة إليه وإلى تطبيق الدستور
الإسلامي في الحياة عامة في كل مكان، دون تمييز بين الناس إلا على أساس
العقيدة والفضيلة والكفاية والكفاح التي تجمعها كلمة (التقوى).
ولقد كان الهدف من تركيز هجرة المسلمين إلى المدينة وتلاقيهم مع الأنصار هو
إيجاد ركيزة الشعب المكون للدولة الإسلامية الأولى، إذ لا يمكن لدولة أن
تعيش في فراغ عن السكان، كما أن تنفيذ شريعة الإسلام أيضاً يتطلب وجود
المكلفين المؤمنين بها.
(8/6318)
وقد يوجد مع شعب الدولة مؤقتاً مستأمنون
أوأجانب بلغة العصر.
ثانياً ـ اختلاف هذا الركن عن نظيره في المفهوم الحديث للدولة: 13 - يختلف
مدلول الشعب في الدولة الإسلامية عن مدلوله في المفهوم الحديث للدولة،
فالشعب أو الأمة في المفهوم الحديث شعب
محصور في حدود جغرافية، يعيش في إقليم واحد، تجمع بين أفراده روابط من الدم
أو الجنس أو اللون أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العادات والمصالح
المشتركة (1) أي أن الشعب يقوم في الغالب على أساس عنصري.
أما الشعب في مفهوم الدولة الإسلامية فإنه يقوم على أساس مبادئ وغايات
أساسها ما جاء به الإسلام من نظام صالح للحياة البشرية قائم على محاربة
العنصرية أو القبلية أو العصبية الإقليمية أو القومية. والرابطة أصلاً هي
الوحدة في العقيدة أي في الفكرة والوجدان، فكل من اعتنق الإسلام من أي جنس
أو لون ووطن وكل من التزم أحكام الإسلام من غير المسلمين وأقام في دار
الإسلام، فهو أحد مواطني دولة الإسلام، مما يدل على أن نظرة الإسلام
إنسانية وأفقه عالمي، لأن أساس تجمع الأفراد المكونين للدولة الإسلامية ليس
هو الأرض ولا اللون ولا اللغة ونحوها، وإنما أساس الارتباط بالدولة هو إما
الإقرار بعقيدة الإسلام أو الولاء السياسي للدولة الإسلامية.
14 - ومن هنا يتحدد مفهوم الأمة والقومية في الإسلام:
أما الأمة في مفهوم الإسلام فليست هي التي تربط بين أفرادها وحدة الجنس
_________
(1) حافظ غانم، المرجع السابق، ص 125 وما بعدها، ثروت بدوي: ص 29، أحكام
القانون الدولي في الشريعة لسلطان: ص 215.
(8/6319)
أو اللون أو اللغة أووحدة المكان. وإنما هي
التي تجمع بينها رابطة العقيدة والأخلاق.
وأما القومية في نظر الإسلام فهي رابطة
تنظيمية تؤلف بين جماعة تعيش في رقعة ذات حدود جغرافية متعاونة في تدبير
شؤونها ومصالحها المشتركة، دون انعزال عن الأقوام الأخرى التي تقيم في
رقعات أرضية أخرى، فهي دعوة للتعارف والتآلف بين القوميات المتعددة
المنتشرة في بقاع العالم، وليست دعوة للانعزال أو التعصب (1)، وبعبارة
أخرى: هي أن القومية في كل صورها الحديثة تتنافى مع مبادئ الإسلام، لأن
الإسلام يقرر مبدأ المساواة التامة بين الناس، ويقيم وحدة المسلمين على
أساس الأخوة أو الاشتراك في عقيدة واحدة ونظرة أخلاقية واحدة تسمو فوق
اعتبارات الجنس والنشأة واللغة، قال الله تعالى: {يا أيها الناس إنا
خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا. إن أكرمكم عند الله
أتقاكم} [الحجرات:13/ 49]، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ليس لأحد
فضل على أحد إلا بدين أو تقوى، الناس كلهم بنو آدم وآدم من تراب، لا فضل
لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على
أبيض إلا بالتقوى» (2)، وقال أيضاً: «يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم
نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، أيها الناس، كلكم من آدم، وآدم من تراب لا
فخر للأنساب، لا فضل للعربي على العجمي، ولا للعجمي على العربي، إن أكرمكم
_________
(1) نظام الحكم في الإسلام للدكتور العربي: ص55، النظريات السياسية
الإسلامية للريس: ص 339، نظرية الإسلام السياسية للمودودي: ص 47 و 52،
العرب والإسلام لأبي الحسن الندوي: ص85. حامد سلطان، المرجع السابق: ص 111و
141 و 155 و 183 و 217، نحو مجتمع إسلامي لسيد قطب: ص 92 وما بعدها، منهاج
الإسلام في الحكم لمحمد أسد: ص 71، الإسلام عقيدة وشريعة للأستاذ محمود
شلتوت: ص 362 وما بعدها، ط 1959.
(2) رواه أحمد في مسنده (مجمع الزوائد: 266/ 3) قال الهيثمي: ورجاله رجال
الصحيح.
(8/6320)
عند الله أتقاكم» (1)، وفي حديث آخر: «ليس
منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على
عصبية» (2).
وذلك يعني أن الإسلام هدم برج العصبية القاتلة، والعنصرية السقيمة البغيضة
لأنها تفرق الجماعات، وتولد الأحقاد والشرور والمنازعات، وأحل محلها
الإنسانية العالمية، لأنها سبيل الإخاء والمحبة والسلام (3).
الركن الثاني ـ الإقليم:
أولاً ـ موقع هذا الركن مادياً واختلافه عن نظيره في المفهوم الحديث
للدولة: 15 - يشمل إقليم الدولة الإسلامية جميع البلاد الإسلامية، فهو
يتحدد بحدود دار الإسلام مهما اتسعت رقعتها، ودار الإسلام: (اسم للموضع
الذي يكون تحت يد المسلمين) (4). وهذا يعني ضمناً أن حدود إقليم الدولة
الإسلامية ليست ثابتة أو دائمة (5)، إذ أنه يجب شرعاً تبليغ الدعوة
الإسلامية إلى العالم،
_________
(1) رواه الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة بلفظ مقارب لهذا (سنن أبي داود:
624/ 2، جمع الفوائد: 398/ 2، الترغيب والترهيب: 573/ 3، 614).
(2) رواه أبو داود عن جبير بن مطعم (سنن أبي داود: 625/ 2).
(3) إذا كان نظام الدولة الحديث يقوم على أساس فكرة الأمة التي يرتبط
أفرادها بروابط الجنس واللغة والدين أو بالروابط الاقتصادية أو الجغرافية
أو التاريخية، فإن مفهوم الأمة الذي يقوم عليه نظام الدولة المسلمة أوسع
مدى، فهي تشمل كل من آمن بالإسلام أو التزم أحكام الإسلام، مهما كان جنسه
أو لونه أو أصله أو لغته، لأن رابطة الأخوة الإسلامية فوق رابطة الجنسية
ورابطة الإقليمية أو التوطن في بلد معين.
(4) شرح السير الكبير: 81/ 3، وانظر للتفصيل دار الإسلام ودار الحرب
للمؤلف.
(5) كان ركن الإقليم في دولة المدينة في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلم
عبارة عن المدينة وضواحيها، ثم أخد إقليم الدولة يمتد في عهده، ثم في عهد
خلفائه على النحو المعروف.
(8/6321)
وعندئذ تنتقل الحدود بانتقال سلطان الإسلام
إلى البلاد الأخرى، فكلما اتسع نطاق سلطان المسلمين اتسعت الأقاليم
الإسلامية. ولا يراد بالوطن عند فقهاء الإسلام إلا مكان إقامة الشخص
الدائمة، أي بلده التي يقيم فيها عادة، أو محل سكناه.
فإذا وقف سلطان امتداد الإسلام تحدد الإقليم تحت وطأة الضرورة والظروف
بالحدود التي وقف عندها، وأصبحت حدود دار الإسلام مقيدة من الناحية
الواقعية بهذه الحدود (1).
إلا أن الإسلام حين يزيل الحواجز الجغرافية أو العنصرية التي تقوم عليها
فكرة الوطن القومي، فإنه لا يلغي فكرة الوطن على الإطلاق، لأن تعلق الإنسان
بوطنه أمر فطري، حتى إن حبه يملأ نفسه ومشاعره، لذا فهو أي الإسلام يبقي
على المعنى الطيب وحده لهذه الفكرة: معنى التجمع والتآخي والتعاون والنظام
والمشاركة في الأفراح والأحزان، والالتفاف مع الإخوان في الوطن حول الهدف
الأعلى المشترك (2)، وبالتالي فالوطن فكرة في الشعور لا رقعة من الأرض نعيش
_________
(1) أما من الناحية المثالية فإن إقليم الدولة الإسلامي غير محدود، شأنه
شأن الخطاب التكليفي غير محدد إطلاقاً بإقليم محصور معين، ولا مقيد برابطة
الجنسية أو الموطن، بل هو خطاب مطلق من كل قيد، وموجه إلى المسلمين والبشر
جميعاً، بغض النظر عن الروابط الإقليمية، يعني أن الشريعة ليست ذات صبغة
إقليمية وإنما هي ذات صبغة عامة أو عالمية. إلا أن سلطة الدولة الإسلامية
مقيدة في الواقع بحدود دار الإسلام لعدم قدرتها على التنفيذ الجبري
لأحكامها في خارج دار الإسلامي (قارن التشريع الجنائي الإسلامي: 278/ 1 وما
بعدها والإسلام وأوضاعنا السياسية للأستاذ عبد القادر عودة: ص221 وما
بعدها، وأحكام القانون الدولي في الشريعة لحامد سلطان: ص 111و 184 و 231).
(2) نحو مجتمع إسلامي لسيد قطب: ص 96، الإسلام والحياة للدكتور محمد يوسف
موسى: ص189.
(8/6322)
فيها، هذه الفكرة يجتمع في ظلها الناس من
كل جنس ولون وأرض (1). وكما أن ركن (الشعب) يختلف عن نظيره في المفهوم
الحديث للدولة من حيث إن الإسلام يقرر (اللاعنصرية) فدولة الإسلام ليست
دولة عنصرية محدودة بحدود أرض القوم والجنس والعنصر، وإنما هي دولة فكرية
تمتد إلى المدى الذي تصل إليه عقيدتها، دون أن يكون هناك امتيازات تقوم على
أساس الجنس أو اللون أو الإقليم (2)، كذلك فإن ركن (الإقليم) يختلف عن
نظيره في المفهوم الحديث للدولة من حيث إن الإسلام يقرر مبدأ (اللا
إقليمية) (3).
ثانياً ـ مشمول إقليم الدولة: 16 - يظهر من تعاريف الفقهاء لدار الإسلام أن
إقليم الدولة الإسلامية يشمل كل موضع أو جزء من البلاد خاضع لسلطان
المسلمين (4). وبناء عليه يكون مشمول إقليم الدولة ما يأتي:
1 - ما هو جزء أساسي من الإقليم:
يشمل إقليم الدولة كل ما يدخل في تكوينها الجغرافي أو الطبيعي، وهو مايأتي:
_________
(1) هذا ويلاحظ أن ارتباط الدولة بالإقليم في المفهوم الجديد رابطة حديثة
النشأة يرجع وجودها إلى القرن التاسع عشر، وتوثقت في القرن العشرين،
فالإقليم لم يكن عنصراً أساسياً من عناصر الدولة عند اليونان والرومان،
وإنما بدأت الرابطة بين الدولة وبين الإقليم تظهر في الإدراك القانوني في
أواخر القرون الوسطى (حامد سلطان، المرجع السابق: ص 228).
(2) بحث الفرد والدولة في الشريعة للدكتور عبد الكريم زيدان: ص 14.
(3) ر: للتفصيل دار الإسلام ودار الحرب للمؤلف.
(4) ر: دار الإسلام ودار الحرب.
(8/6323)
أـ الأرض: أي الجزء اليابس أو الرقعة التي
يعيش عليها المسلمون وتخضع لسلطانهم أو ولايتهم، سواء أكانت مدينة أو قرية
أو صحراء أوغابة أو جبل أو جزيرة (1).
وكذلك يعتبر ما في باطن الأرض من محتويات تابعاً للدولة بدليل إيجاب الخمس
للمصالح العامة فيما يخرج من الأرض من المعادن والركاز (2) والباقي للمالك.
وهذا يعني أن ملك الأرض يستتبع ملك ما تحتها وما فوقها عملاً بالقاعدة
الشرعية: (من ملك شيئاً ملك ما هو من ضروراته).
ب ـ الأنهار الوطنية: وهي التي تمر من منبعها إلى مصبها في أراضي دار
الإسلام كأنهار مصر والشام والعراق ونحوها.
جـ ـ المياه الساحلية أو البحر الإقليمي: وهي قسم محدد من البحر ملاصق لأرض
الدولة التي تنتهي حدودها إلى البحر. وتابعيتها لدار الإسلام بناء على مبدأ
إحراز المباح، لأن من سبق إلى مالم يسبق إليه أحد من المباحات فهو له كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلم (3).
وفي حكم ذلك ما يعرف بالمنطقة المجاورة (أو الملاصقة أو التكميلية) (4)
تعتبر
_________
(1) رد المحتار: 277/ 3، ط الحلبي.
(2) ر: زكاة.
(3) رواه أبو داود عن أسمر بن مضرِّس بلفظ: (أتيت النبي صلّى الله عليه
وسلم فبايعته، فقال: من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له) (نيل
الأوطار: 302/ 5).
(4) هذه المنطقة عبارة عن قسم من أعالي البحار يجاور مباشرة البحر الإقليمي
تمارس الدولة الساحلية عليه بعض الاختصاصات المحددة في المسائل الاقتصادية
والمالية والجمركية، وفي مسائل أمن الدولة والصحة العامة وفي الغنائم وفي
الحياد (حافظ غانم، المرجع السابق: ص 402).
(8/6324)
جزءاً من دار الإسلام. ومثلها أيضاً
الامتداد القاري (1).
وأما المياه الداخلية القائمة في داخل أراضي دار الإسلام فهي جزء من إقليم
الدولة المسلمة بلا نزاع، لأنها خاضعة لنفوذ المسلمين وتحت أيديهم.
2 - ما هو امتداد أو ملحق بالإقليم اعتبارا
ً:
17 - تعتبر وسائل النقل الدولية من سفن وقطارات دولية تمر في أقاليم دولة
أخرى، وطائرات، جزءاً ممتداً من إقليم دار الإسلام، فإن كانت هذه الوسائل
حربية فتخضع لسيادة الدولة الإسلامية وتطبق عليها الشريعة باتفاق الحنفية
وغيرهم قياساً على اعتبارهم أرض المعسكر الإسلامي جزءاً من دار الإسلام.
فإن كانت هذه الوسائل تجارية أو مدنية:
ففي أصل المذهب الحنفي الذي يقرر أن لا ولاية للسلطة المسلمة على جرائم دار
الحرب: إن كانت في مياه أو أراض أوأجواء تابعة لدار الحرب، فلا تخضع لسيادة
الدولة الإسلامية. وإن كانت في مناطق تابعة لدار الإسلام، أو حرة غير تابعة
لأحد، كما لو كانت في وسط البحر مثلاً، فتخضع لسيادة الدولة الإسلامية
وتطبق عليها الشريعة. وبما أنه يمكن الآن ممارسة ولاية الدولة على هذه
الوسائط في أراضي دولة أخرى، فإن هذه الوسائل في جميع الحالات تخضع لسيادة
الدولة المسلمة، عملاً بقاعدة: (الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً).
وفي رأي غير الحنفية القائلين بمعاقبة رعايا الدولة الإسلامية على الجرائم
التي
_________
(1) الامتداد القاري: أي الطبقات الأرضية المنحدرة الواقعة في قاع أعالي
البحار بجوار مياه الدولة الإقليمية. واهتمام الدول بها مرجعه إلى رغبتها
في استغلال الثروات الطبيعية كالبترول مثلاً الموجودة في قاع البحر الممتد
أمام شواطئها خارج البحر الإقليمي (حافظـ غانم المرجع السابق: ص 392).
(8/6325)
يرتكبونها في أي مكان عند عودتهم لدار
الإسلام: تخضع هذه الوسائل لسيادة الدولة الإسلامية مطلقاً سواء أكانت في
مناطق تابعة لدار الحرب أو لدار الإسلام أو حرة (1).
3 - ما هو جزء من إقليم الدولة، ولكن عليه حقوق
ارتفاق لدولة أخرى:
18 - يشمل هذا العنصر منطقتين تعتبران من إقليم الدولة الإسلامية لولايتها
وسلطانها عليهما وهما:
أـ الجزء الواقع في إقليم الدولة من الأنهار الدولية: إذ أن هذا الجزء خاضع
لسيادة الدولة الإسلامية، وتمارس سلطانها عليه، وإن كان لا مانع عن طريق
الاتفاق أو التبادل ونحوهما من انتفاع الدول الأخرى بالملاحة فيه ونحوها،
كما هو الشأن في نطاق الملكية الخاصة بتقرير حقوق ارتفاق عليها بسبب الجوار
ونحوه.
ب ـ طبقات الجو عمودياً: يشمل إقليم الدولة أعماق الأرض والطبقات الهوائية
التي تعلو إقليمها الأرضي والمائي، وذلك يكسب الدولة الحق في مباشرة
اختصاصها وحقوقها على الأجواء العليا، سواء في الملاحة الجوية أو المواصلات
والإذاعات (اللاسلكية). والدليل الشرعي العمل بالقاعدة الفقهية السابقة:
(من ملك شيئاً ملك ما هو من ضروراته) والملكية عامة كانت أو خاصة تستتبع
ملك ما فوق الأرض من طبقات الجو، وما تحتها من الأعماق، فيبني المالك مثلاً
ما شاء فيها من طباق (2) ويمارس عليها كل ما يكون له من حقوق بشرط عدم
الإضرار بالآخرين، وتأمين مصالحهم الضرورية.
_________
(1) ر: دار الإسلام ودار الحرب: ف/43 و 111 - 113، التشريع الجنائي
الإسلامي: 296/ 1.
(2) المدخل الفقهي العام للأستاذ الزرقاء: ف/635.
(8/6326)
4 - الأقاليم
المشتركة بين عدة دول:
19 - تمارس الدولة المسلمة سيادتها على الأجزاء المشتركة بينها وبين دول
أخرى بحسب المعاهدة أو الاتفاق المعقود، كما هو الحال بالنسبة إلى نظام
المضايق التركية التي تشرف تركيا بموجبه على مضايق البوسفور والدردنيل
بمقتضى معاهدة مونتريه في (26) تموز (يوليو) سنة (1936م)، مع الحفاظ على
مبدأ حرية الملاحة للسفن التجارية. وكما هو شأن مضيق جبل طارق وطنجة
الموضوعة في حالة حياد دائم بموجب اتفاقية تدويلها سنة (1923م) وكذلك
المنطقة المحايدة بين الكويت والسعودية في الشمال والجنوب الشرقي تحكمها
الاتفاقيات المعقودة. وهذا كله يعني أن سيادة الدولة على الإقليم المشترك
إما ناقصة أو معدومة فلا تتبع دولة ما بحكم الحياد.
5 - ما لا يعتبر جزءاً من الإقليم ويمكن اعتباره امتداداً مشتركاً مشاعاً
لإقليم كل دولة: 20 - إن المناطق الحرة غير التابعة لدولة ما يمكن اعتبارها
في الإسلام مشاعة لكل الدول على السواء؛ لأن الأصل في الأشياء الإباحة،
ولأنها لا تخضع لحيازة أحد، فتنتفع بها كل الدول بشرط عدم الإضرار بالآخرين
كتلويث مياه البحار والجو بالغبار الذري، لأن الضرر ممنوع شرعاً لقوله عليه
الصلاة والسلام: «لا ضرر ولا ضرار» (1). وتشتمل هذه المناطق ما يأتي:
_________
(1) رواه مالك في الموطأ وأحمد في مسنده، وابن ماجه والدارقطني في سننهما
عن ابن عباس وعبادة (الفتح الكبير وغيره).
(8/6327)
أـ أعالي البحار (1): الأصل في الشريعة أن
البحار العامة ليست ملكاً لأحد (2) لعدم الحيازة لها، سئل بعض فقهاء
الحنفية عن البحر الملح أمن دار الإسلام أو دار الحرب؟ فأجاب بأنه ليس من
أحد القبيلين، لأنه لا قهر لأحد عليه (3). ويؤيد ذلك الاعتماد على بعض
قواعد الإسلام لتقرير مبدأ حرية البحار مثل مبدأ العدالة ومبدأ المساواة
وقاعدة الحيازة الفعلية أو الحيازة الحكمية وأن الأصل في الأشياء والأعيان
الإباحة، فالعدالة والمساواة تقضيان بجعل البحار مشاعة لجميع الدول، إذ لا
حيازة لإحدى الدول عليها فعلاً أو حكماً مما يوجب رفض القول بمبدأ ملكية
البحار والسعي لتقرير مبدأ حريتها (4).
ب ـ الفضاء الكوني (5): يعتبر الفضاء الكوني أيضاً حراً يجوز لكل دولة
الانتفاع به قياساً على مبدأ حرية البحار العامة السابق ذكره لعدم
الاستيلاء أو حيازة دولة ما له، ولكن مع مراعاة الشرط السابق وهو عدم
الإضرار بالآخرين.
_________
(1) المقصود بأعالي البحار في العرف الحاضر: كل أجزاء البحر التي لا تدخل
في البحر الإقليمي أو في المياه الداخلية لدولة من الدول (حافظ غانم،
المرجع السابق: ص 405). ويقصد بحرية البحار: أن يكون لكافة الدول أن تنتفع
بها على قدم المساواة. ولا تخضع السفينة الموجودة في أعالي البحار إلا
لاختصاص الدولة التي ترفع علمها.
(2) التشريع الجنائي الإسلامي لعودة: 296/ 1.
(3) رد المحتار على الدر المختار: 267/ 3 و 277، ط الحلبي، وانظر التفصيل
في بحث دار الإسلام ودار الحرب للمؤلف.
(4) بدأ رجال الكنيسة الكاثوليكية وعلى رأسهم البابا في العصر الوسيط
بإدخال البحار في ملكية ملوك أوربا كي يتسنى لهم محاصرة الدولة الإسلامية
عن طريق البحر المكتشف أو الذي سيعرف (ر: أحكام القانون الدولي في الشريعة
لحامد سلطان: ص 243، نظم الحكم والإدارة في الشريعة والقوانين لعلي منصور:
ص 312).
(5) توصلت بعض الدول الكبرى في عصرنا الحاضر إلى الفضاء الكوني بقذائف
صاروخية تحمل كواكب صناعية تدور حول الكواكب السماوية، وتشرف على الكرة
الأرضية، وتصور أي جزء منها، وترسل معلومات فلكية عن الفضاء والأشعة
الشمسية إلى الدولة التي أطلقتها.
(8/6328)
الركن الثالث:
السيادة:
تمهيد:
1 - نظرية السيادة في المفهوم الحديث للدولة
والنظريات البديلة كمعيار للدولة:
21 - السيادة فكرة حديثة نسبياً، فلم تكن معروفة حتى القرن السادس عشر، وهي
تعني مجموعة من الاختصاصات تنفرد بها السلطة السياسية في الدولة، وتجعل
منها سلطة آمرة عليا. ولعل أهم هذه الاختصاصات هو قدرتها على فرض إرادتها
على غيرها من الهيئات والأفراد بأعمال من جانبها وحدها، تكون نافذة من
تلقاء نفسها، دون أي توقف على قبول المحكومين لها.
ولا يصح الخلط بين السلطة السياسية والسيادة؛ إذ أن هناك فرقاً بين السلطة
في ذاتها وأوصاف السلطة، فالسيادة في الواقع ليست إلا الصفة التي تتصف بها
السلطة السياسية في الدولة، لأن السلطة ركن من أركان الجماعة، أما السيادة
فهي وصف أو خاصية تنفرد بها السلطة السياسية في الدولة.
والمعيار التقليدي للدولة هو السيادة، فالذي يميز الدولة عن غيرها من
الجماعات هو تمتعها بالسيادة.
وللسيادة مظهران أو وجهان ذكرتهما سابقاً (1)، وبينت أيضاً أن نظرية
السيادة في المفهوم الحديث أصبحت نسبية؛ إذ أن سيادة الدولة صارت خاضعة
داخلياً للخير العام القومي وخارجياً للخير المشترك الدولي.
ووجدت نظريات أخرى تحل محل نظرية السيادة المطلقة، منها نظرية
_________
(1) ر: حاشية ف/5.
(8/6329)
(لاباند) وأساسها أن ما يميز الدولة هو ما
تملكه من قوة للجبر والقهر تباشرها على أشخاص آخرين، وهذه القوة هي حق خاص
للدولة لم تستمده من سلطة أخرى.
ومنها نظرية (بلنيك) وهي تقول: أن ما يميز الدولة هو كونها تملك اختصاص
إعطاء الاختصاص، فهي السلطة الوحيدة في الإقليم التي تملك حق وضع دستور
ينظم الدولة، ويحدد اختصاص سائر الأشخاص والهيئات الموجودين على إقليمها.
وقال بعض فقهاء القانون الدولي: يمكن وضع معيار آخر مزدوج للدولة يتلخص في
أمرين:
1 - عمومية اختصاص الدولة، أي أن الدولة تتمتع باختصاص عام في حدود
إقليمها.
2 - الخضوع المباشر للقانون الدولي العام، فتستمد منه حقوقها وواجباتها،
وتخضع لما يقيد حريتها في التصرف (1).
2 - تمييز السيادة عما يشتبه بها:
22 ـ يميز فقهاء القانون الدولي بين السيادة وبين بعض الأنظمة وبعض مظاهر
نشاط الدولة التي قد تختلط أو تلتبس بها (2).
أـ التمييز بين السيادة والسلطة الفعلية:
يجب التمييز بين السيادة كحق قانوني وبين مباشرة السلطة الفعلية إذ من
_________
(1) حافظ غانم: ص 128 - 137، ثروت بدوي: ص 40 وما بعدها، حامد سلطان: ص
150، فؤاد شباط: ص 62، المراجع السابقة.
(2) حافظ غانم، المرجع السابق: ص132 ومابعدها، الشريعة والقانون الدولي،
علي منصور ص123.
(8/6330)
الجائز أن تباشر دولة أو هيئة دولية سلطة
فعلية في إقليم لا يخضع لسيادتها، ومثالها نظامان:
1 - الإيجار: ومقتضاه أن تؤجر الدولة جزءاً من إقليمها لدولة أخرى، وتتولى
الدولة المستأجرة إدارة الإقليم محل الإيجار، واستخدامه مقابل أجر معين
تدفعه للدولة المؤجرة، كاستئجار أمريكا لمدة (90) عاماً بعض مناطق في
نيوفوندلند وبرمودا من إنجلترا بموجب اتفاقية سنة (1941م).
2 - الإدارة: ومقتضاه أن تتنازل دولة عن إدارة جزء من إقليمها إلى دولة
أخرى، وتتولى الدولة المديرة إدارة الإقليم نيابة عن الدولة الأولى،
ولمصلحة هذه الدولة، كنظام الوصاية الدولية تحت إشراف الأمم المتحدة.
ب ـ التمييز بين السيادة والملكية:
23 ـ للسيادة في القانون الدولي مدلول قانوني مبناه اعتبار الدولة أعلى
سلطة في داخل إقليمها، واعتبار هذا الإقليم النطاق الذي تباشر الدولة
سلطتها فيه، ولا يمكن تشبيه سلطات الدولة واختصاصاتها بالملكية الخاصة لفرد
من الأفراد. فالقانون الداخلي لكل دولة يختص بتنظيم ملكية الأفراد أو
الملكية العامة بتأثير مبادئ ونظريات معينة، وملكية الدولة لبعض الأموال في
داخل إقليمها أو في أقاليم دولة أخرى شيء مختلف عن السيادة الإقليمية.
بعد هذا التمهيد أذكر أموراً ثلاثة:
أولاً ـ فكرة السيادة في الدولة الإسلامية: 24 ـ تتمتع الدولة الإسلامية
بصفة السيادة في النطاقين الداخلي والخارجي بدءاً من الحكومة النبوية في
المدينة وما تلاها من عهود مستقلة.
(8/6331)
ففي النطاق الداخلي: للدولة الهيمنة التامة
على جميع الأشخاص والهيئات القائمة في دار الإسلام. فتلتزم الرعية بالطاعة
والسمع ضمن حدود الشرع. قال النبي صلّى الله عليه وسلم: (لا طاعة في معصية
الله، إنما الطاعة في المعروف) (1). وقال الماوردي: بعد أن ذكر ما يلزم
الإمام من الأمور العامة: (وإذا قام الإمام بما ذكرناه من حقوق الأمة، فقد
أدى حق الله تعالى فيما لهم وعليهم، ووجب له عليهم حقان: (الطاعة والنصرة)
ما لم يتغير حاله. والذي يتغير به حاله، فيخرج به عن الإمامة شيئان:
أحدهما: جرح في عدالته. والثاني: نقص بدنه. فأما الجرح في عدالته وهو الفسق
فهو على ضربين: أحدهما: ما تابع فيه الشهوة، والثاني: ما تعلق فيه بشبهة،
فأما الأول منهما فمتعلق بأفعال الجوارح: وهو ارتكاب للمحظورات وإقدامه على
المنكرات تحكيماً للشهوة وانقياداً للهوى، فهذا فسق يمنع من انعقاد الإمامة
ومن استدامتها ... الخ) (2).
وفي موضوع تقليد الإمارة على الجهاد، قال الماوردي أيضاً: وأما ما يلزمهم
-أي الجيش في حق الأمير عليهم - فأربعة أشياء:
ـ أحدها: التزام طاعته والدخول في ولايته، لأن ولايته عليهم انعقدت وطاعته
بالولاية وجبت.
ـ والثاني: أن يفوضوا الأمر إلى رأيه ويكلوه إلى تدبيره، حتى لاتختلف
آراؤهم فتختلف كلمتهم، ويفترق جمعهم.
ـ والثالث: أن يسارعوا إلى امتثال الأمر والوقوف عند نهيه وزجره، لأنهما من
لوازم طاعته.
_________
(1) رواه مسلم من حديث علي (شرح مسلم للنووي: 226/ 12 وما بعدها).
(2) الأحكام السلطانية: ص 15، وانظر الأحكام السلطانية لأبي يعلى: ص 8، 30.
(8/6332)
ـ والرابع: أن لا ينازعوه في الغنائم إذا
قسمها ويرضوا منه ... ) (1).
وأما مظهر السيادة في المجال الدولي أو الخارجي فإن ذلك واضح مما قرره
القرآن الكريم من مبدأ توفير العزة والاستقلال الكامل لدولة الإسلام دون
السماح لأية سلطة أخرى بانتقاصه أو محاولة التسلط عليه، قال تعالى: {ولن
يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} [النساء:141/ 4]. وقال سبحانه:
{ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} [المنافقون:63/ 8]. والعزة تقتضي ـ كما ذكر
سابقاً ـ الاستقلال ومن مستلزمات ذلك أوجب الفقهاء على الإمام (تحصين
الثغور والحدود بالعدة المانعة والقوة الدافعة حتى لا تظفر الأعداء بغرق
ينتهكون بها محرماً، أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دماً) (2).
ثانياً ـ نصاب الحاكمية أو حدها الأدنى في التحقق، والفرق بينه وبين الحد
الأدنى في تطبيق الأحكام لتحقق مفهوم دار الإسلام: 25 ـ إن السيادة الثابتة
للدولة الإسلامية بالمعنى السابق لا تتقيد إلا بقيود أو حدود الشرع أو
بالتعبير الحديث (مبدأ سيادة القانون)، لأن من أولى واجبات الدولة
الإسلامية (حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة) (3)،
والحد الأدنى المطلوب شرعاً لتحقيق سيادة الشرع أو كون الحاكمية لله تعالى
يتوافر بما يأتي:
1 - إقرار عقيدة التوحيد: إن أول مظهر للإسلام هو إعلان أصول عقيدته
_________
(1) المرجع السابق: ص 45.
(2) الماوردي، المرجع السابق: ص 14، الأحكام السلطانية لأبي يعلى: ص 11.
(3) الماوردي: ص 14، أبو يعلى: ص 11.
(8/6333)
المعروفة: وهي الإيمان بالله تعالى
وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره حلوه ومره من الله
تعالى (1).
2 - التزام الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة أو التي ثبتت بدليل قطع
الثبوت قطعي الدلالة، كوجوب الصلوات الخمس والصيام والزكاة والحج، وتحريم
جرائم الحدود: وهي الزنا والقذف والسرقة وشرب الخمر والمحاربة (أوقطع
الطريق) وإيجاب العقاب المقرر لها وللقتل العمد العدوان، وتحريم الربا،
والميسر، وزواج المحارم، وزواج المسلمة بغير المسلم، وإيجاب الكفارات
المقدرة للإيمان أو انتهاك حرمة بعض الأنظمة أوالفروض الدينية (2).
3 - إنفاذ الأحكام الشرعية المنصوص عليها صراحة في القرآن الكريم أو في
السنة أو في الإجماع كنظام المواريث والأسرة ومبادئ التعامل من رضا واختيار
ونحوهما. وطرق الإثبات والقضاء، ونظم السلم والحرب، ونحو ذلك مما يتصل
بالتزام الأوامر واجتناب النواهي.
4 - احترام مبادئ الإسلام السياسية والمدنية والاقتصادية: كمبدأ الشورى
والعدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والوفاء بالعهود والعقود
والالتزامات، والحفاظ على الحقوق، وتحقيق الأمن، ودفع الأذى والضرر ومنع
الظلم وجهاد الأعداء، وسد الذرائع إلى الفساد، وحماية الأنفس والأموال
_________
(1) القدر: لا شر فيه بوجه من الوجوه، فإنه علم الله وقدرته وكتابته
ومشيئه، وذلك خير محض وكمال من كل وجه، ليس إلى الرب تعالى بوجه من الوجوه،
لا في ذاته ولا في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله، وإنما يدخل الشر
الجزئي الإضافي في المقضي المقدر، ويكون شراً بالنسبة إلى محل وخيراً
بالنسبة إلى محل آخر، وقد يكون خيراً بالنسبة إلى المحل القائم به من وجه،
كما هو شر له من وجه، بل هذا هو الغالب. وهذ ما يحقق معنى التكامل في
الحياة (راجع العقيدة الواسطية لابن تيمية).
(2) انظر كتب أصول الفقه ـ باب الاجتهاد.
(8/6334)
والأعراض، وإقرار المسؤولية الفردية وضمان
الاعتداء أو الضرر، وتحريم الاحتكار والغش والتدليس والتطفيف في الكيل
والميزان (1)، وعدم إهدار حرمة الملكية الخاصة مع مراعاة كونها ذات وظيفة
اجتماعية، وتقييد جمع المال وإنفاقه بالقيود المشروعة.
وأما ما عدا ذلك من الأمور غير المنصوص عليها صراحة في الشريعة، فللعلماء
المختصين الاجتهاد فيها، عملاً بأن الأصل في الأشياء النافعة هو الإباحة،
وفي الأشياء الضارة هو الحظر أو المنع، ولقول الرسول عليه الصلاة والسلام:
«أنتم أعلم بأمر دنياكم» (2)، ولكن بشرط ألا يصادم الاجتهاد مبدأ أساسياً
من مبادئ الإسلام أوأصلاً من أصول الشريعة، أي أنه لا بد لصحة الاجتهاد
وسلامته من أن يكون متجاوباً مع روح الشريعة وأصولها ومقاصدها التشريعية،
كما هو معروف في علم أصول الفقه.
والخلاصة: إن الحد الأدنى لحاكمية الله، هو تطبيق الأحكام القطعية والمجمع
عليها وإقامة الحدود، وأما بقية الأحكام الفرعية الثابتة فهي مكملة لهذه
الحاكمية، إلا أن الإخلال بتطبيق الحد الأدنى لتلك الحاكمية لا يمكننا من
الإسراع بالحكم بالتكفير وإزالة وصف الإسلام، لأن الحكم بالتكفير والتبري
ليس بالهين ويحتاج إلى احتياط كما قرر الفقهاء، ولأن التكفير لا يكون إلا
بالترك، اعتقاداً بعدم الصلاحية أو مجاهرة بإعلان الكفر صراحة.
26 - ويلاحظ أن هذا الحد الأدنى للحاكمية القانونية يختلف عن الحد الأدنى
المطلوب لتحقيق مفهوم دار الإسلام، إذ يكفي لتحقيق مدلول دار الإسلام
_________
(1) الحسبة لابن تيمية: ص 29 و 45 وما بعدها، السياسة الشرعية لابن تيمية:
ص 63 وما بعدها و143 وما بعدها، 155 وما بعدها، المحلى لابن حزم: 440/ 9
م/1772.
(2) أخرجه مسلم عن أنس وعائشة (شرح مسلم: 118/ 15).
(8/6335)
لتتميز عن دارا لحرب: إقامة شعائر الدين أو
غالبها فيها، أو التمكين من أدائها، مثل إقامة صلاة الجمعة والجماعة
والأعياد وإعلان الأذان (1).
أما كون الحاكمية أو السيادة القانونية لله فمعناه تطبيق شريعته وإطاعة
أوامره، واجتناب نواهيه، والتزام الأحكام الواضحة الصريحة في القرآن الكريم
والسنة النبوية لقوله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله
أمراً أن يكون لهم الخِيَرة من أمرهم} [الأحزاب:36/ 33] {يا أيها الذين
آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء:59/ 4]، إذ
بذلك يتحقق المقصود من إنزال الشرائع السماوية وتوفير النظام الصالح
للبشرية.
ثالثاً ـ هل يشترط وحدة السلطة على كافة أجزاء بلاد الإسلام؟ 27 - إن الأصل
العام المقرر عند علماء الأشاعرة والمعتزلة والخوارج أن الإمامة والسلطة
السياسية في دار الإسلام في المشرق والمغرب الإسلامي واحدة (2) لأن الإسلام
دين الوحدة، ولأن المسلمين أمة واحدة، رائدها التعاون والتضامن، وعدوها
التفرق والتنازع والتمزق، قال الله تعالى: {إن هذه أمتكم أمة واحدة}
[الأنبياء:92/ 21] {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات:10/ 49] {واعتصموا بحبل
الله جميعاً ولا تفرقوا ... } [آل عمران:103/ 3] {ولا تكونوا كالذين تفرقوا
واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وأولئك لهم عذاب عظيم} [آل عمران:105/
3].
ويؤكد الرسول صلّى الله عليه وسلم على مبدأ الوحدة هذا، فيقول: «المسلم أخو
المسلم لا
_________
(1) ر: بحث دار الإسلام ودار الحرب للمؤلف: ف/48.
(2) البحر الزخار: 386/ 5، أصول الدين للبغدادي: ص 274.
(8/6336)
يظلمه ولا يخذُله ولا يكذِبه» (1) «المؤمن
للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً» (2) «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم
وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»
(3) «إن المؤمن من أّهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد يألم لأهل الإيمان
كما يألم الجسد لما في الرأس» (4).
وأجمع الصحابة يوم السقيفة لانتخاب خليفة بعد النبي صلّى الله عليه وسلم
على أنه لا يجوز إمامان في وقت واحد، بدليل ما أجاب به عمر بن الخطاب
الحُبَاب بن المنذر الأنصاري رضي الله عنهما حينما قال: (منا أمير ومنكم
أمير يا معشر قريش): فقال: (سيفان في غمد إذن لا يصلحان).
وقرر الفقهاء إنه لا يجوز إمامان في بلد واحد، حتى وإن كانت الجهات متباينة
لقيام العمال مقام الإمام الآخر في المقصود ولفعل الصحابة (5) الذين
امتثلوا أوامر الرسول صلّى الله عليه وسلم حيث قال: «إذا بويع لخليفتين
فاقتلوا الآخر منهما» (6) «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق
عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه» (7) «إنه لا نبي بعدي، وسيكون بعدي خلفاء
فيكثرون، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: أوفوا ببيعة الأول، ثم أعطوهم حقهم،
وسلوا الله الذي لكم، فإن الله
_________
(1) رواه مسلم عن أبي هريرة (الأربعين النووية).
(2) رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي موسى الأشعري (الفتح
الكبير والجامع الصغير).
(3) رواه مسلم وأحمد في مسنده عن النعمان بن بشير (المرجعان السابقان).
(4) رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد: 87/ 8).
(5) البحر الزخار، المكان السابق، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين
للأشعري: 133/ 2، ف/180، وانظر للتفصيل في الموسوعة الفقهية: إمامة.
(6) أي أبطلوا البيعة الأخيرة، قال في النهاية: أي أبطلوا دعوته واجعلوه
كمن مات، رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري (شرح مسلم للنووي: 242/ 12).
(7) رواه مسلم من حديث عرفجة بن شريح (شرح مسلم: 242/ 12).
(8/6337)
سائلهم عما استرعاهم» (1).
قال الماوردي وتبعه أبو يعلى: (إذا عقدت الإمامة لإمامين في بلدين لم تنعقد
إمامتهما، لأنه لا يجوز أن يكون للأمة إمامان في وقت واحد، وإن شذ قوم
فجوزوه) (2).
وقال ابن حزم: (ولا يحل أن يكون في الدنيا إلا إمام واحد، والأمر للأول
بيعة) (3) وأضاف أيضاً: (واتفقوا ـ أي الفقهاء ـ أنه لا يجوز على المسلمين
في وقت واحد في جميع الدنيا إمامان، لا متفقان ولا مفترقان، ولا في مكانين،
ولا في مكان واحد) (4).
28 - وأجاز قوم تعدد الأئمة عند تباعد الديار، وكمال الغرض المقصود بهم
وهؤلاء القوم: هم (إمام الحرمين وصاحب المواقف وأبو منصور البغدادي،
والكرَّامية وأبو الصباح السمرقندي وأصحابه، والإمامية والزيدية، والجاحظ،
وعبَّاد الصيمري، والناصر، والإمام يحيى بن حمزة بن علي الحسيني، والمؤيد
في قول له من آل البيت) (5).
وعباراتهم هي ما يأتي:
قال إمام الحرمين: والذي عندي أن عقد الإمامة لشخصين في صقع (6)
_________
(1) رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة (شرح مسلم: 231/ 12، جامع
الأصول: 443/ 4).
(2) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 7، ولأبي يعلى: ص 9.
(3) المحلى: 439/ 9، ف/1770.
(4) مراتب الإجماع: ص 124.
(5) الإرشاد لإمام الحرمين: ص 425، ط الخانجي، المواقف وشرحها للإيجي
والجرجاني: 353/ 8، أصول الدين للبغدادي، ص 274، الفصل في الملل والنحل:
88/ 4، الملل والنحل للشهرستاني: 113/ 1، البحر الزخار: 386/ 5.
(6) الصقع: بضم الصاد: الناحية.
(8/6338)
واحد متضايق الخطط والمخالف (1) غير جائز،
وقد حصل الإجماع عليه، وأما إذا بعد المدى وتخلل بين الإمامين شسوع (2)
النوى، فللاحتمال في ذلك مجال، وهو خارج عن القواطع (3).
وقال صاحب المواقف: (ولا يجوز العقد لإمامين في صقع متضايق الأقطار، أما في
متسعها بحيث لا يسمع الواحد تدبيره فهو محل الاجتهاد).
وقال البغدادي: (لا يجوز أن يكون في الوقت الواحد إمامان واجبا الطاعة ...
إلا أن يكون بين البلدين بحر مانع من وصول نصرة أهل كل واحد منهما إلى
الآخر، فيجوز حينئذ لأهل كل واحد منهما عقد الإمامة لواحد من أهل ناحيته).
وذكر الشهرستاني عن الكرامية: (إنهم جوزوا عقد البيعة لإمامين في قطرين،
وغرضهم إثبات إمامة معاويةفي الشام باتفاق جماعة من أصحابه، وإثبات أمر
المؤمنين علي بالمدينة والعراقين باتفاق جماعة من الصحابة ... ).
وأبان ابن حزم في كتابه: (الفِصَل في الملل والنحل) والبغدادي أن (محمد ابن
كرام السجستاني وأبا الصبح السمرقندي وأصحابهما أجازوا كون إمامين وأكثر في
وقت واحد، واحتج هؤلاء بقول الأنصار، أو من قال منهم يوم السقيفة: «منا
أمير ومنكم أمير» واحتجوا أيضاً بأمرعلي والحسين مع معاوية رضي الله عنهم.
ونقل المرتضى صاحب البحر الزخار رأي الباقين القائلين بجواز تعدد الأئمة
_________
(1) جمع مخلفة بوزن متربة: وهي الموضع.
(2) الشسوع: البعيد.
(3) أي الأدلة القاطعة التي تفيد اليقين بوجوب وحدة الأمة.
(8/6339)
مع تباعد الدار، ثم قال عن مذهب الزيدية:
والأصح الجواز مع تباين الديار لكمال المصلحة (1).
وقال الأشعري في مقالات الإسلاميين: (وقال قائلون: يجوز أن يكون إمامان في
وقت واحد، أحدهما صامت والآخر باطن، فإذا مات الباطن خلفه الصامت وهذا قول
الرافضة. وجوز بعضهم ثلاثة أئمة في وقت واحد، أحدهم صامت، وأنكر أكثرهم
ذلك).
وسيأتي في بحث (زوال الدولة الإسلامية) أحكام الأجزاء المنفصلة عن السلطة
الأصلية ليعرف مصيرها وصفتها: هل هي دولة إسلامية أو لا؟).
المطلب الثاني ـ نشأة الدولة الإسلامية:
وفيه تمهيد وثلاثة فروع:
تمهيد:
مبدأ نشوء الدولة بمجرد تكامل أركانها:
29 - تنشأ الدولة الحديثة باستكمال عناصر مادية مكونة لها وهي (الشعب
والإقليم والسلطة السياسية الحاكمة) وباعتراف المجتمع الدولي بها.
والدولة هي الصورة الحديثة للجماعة السياسية، فالجماعات السياسية الأخرى
لها نفس المقومات الأساسية التي للدولة الآن، فهي لا تختلف عنها في الطبيعة
والكُنْه، وإنما الفروق التي بينها هي فروق كيفية لا تمس الجوهر، لذلك تقوم
الدولة كغيرها من المجموعات السياسية على أساس وجود مجموعة كبيرة من
_________
(1) وانظر كتاب الشافعي ـ للأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة: ص 99.
(8/6340)
الناس يقطنون في إقليم معين، ويخضعون
لتنظيم سياسي معين (1). فإذا وجدت هذه العناصر أو الأركان نشأت الدولة.
وقد عرف التاريخ القديم دولاً بمعنى الكلمة كالدولة المصرية القديمة
والدولة الفارسية والدولة الرومانية.
وقامت على هذا النحو في الجزيرة العربية دولة إسلامية بزغ فجرها بعد هجرة
النبي صلّى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة سنة (622م) (2)، كان فيها
الرسول صلّى الله عليه وسلم يباشر أعمال الحاكم في ضوء رسالة الإسلام، ثم
تتابع على حكم هذه الدولة الخلفاء الراشدون، فالأمويون، ثم العباسيون ...
إلخ، أي أن نشأة الدولة الإسلامية في صدر الإسلام تمتد بطريقة تدريجية على
أساس البيعة والعهد، لأن سيرة النبي صلّى الله عليه وسلم وتعاليمه الدينية
أوجدت نظاماً اجتماعياً معيناً، وهذا النظام الاجتماعي هو الذي أوجد نظام
الحكومة (3).
يبدو من ذلك أن الدولة الإسلامية (4) تنشأ كغيرها من الدول باجتماع العناصر
المكونة لها عادة من إقليم وسكان وتنظيم سياسي، فالإقليم هو دار الإسلام
والسكان هم المسلمون وأهل الذمة (5)، والتنظيم
السياسي: هو السلطة الإسلامية العليا (أو الخلافة أو الإمامة) أي أن
للدولة المسلمة تنظيمها الحكومي الخاص.
_________
(1) ثروت بدوي: المرجع السابق: ص 28.
(2) تاريخ الإسلام السياسي للدكتور حسن إبراهيم: 100/ 1.
(3) بحث الدكتور محمد عزيز أحمد عن (مفهوم الدولة في الإسلام) المنشور في
مجلة (المسلمون) ـ المجلد الرابع ـ العدد السادس ـ ص 59.
(4) يلاحظ أن اصطلاحات الدين والدولة والعقيدة والسياسة ونحوها عند
الغربيين يجمعها عندنا كلمة (الدين الإسلامي) الذي يشمل كل هذه المصطلحات
متلازمة، غير منفصلة ولا متباعدة، فالعبادة والمعاملات التجارية والقضاء
والإدارة والحكم والحرب والسلم كلهاتلتقي في ظل نظام واحد هو نظام الإسلام،
وتنبع من عقيدة واحدة هي عقيدة الإسلام.
(5) أهل الذمة: هم الطوائف الأخرى غير المسلمة التي تقيم في دار الإسلامي
بموجب عقد الذمة.
(8/6341)
الفرع الأول ـ طرق
نشأة الدولة الإسلامية:
30 - إن نشأة الدولة الإسلامية بتوافر العناصر المادية السابقة يتم على
إحدى صورتين كغيرها من الدول (1).
آـ نشوء جديد كلية: قد تنشأ الدولة من
عناصر جديدة إما بامتلاكها عنوة أو سلماً أو بهجرة مجموعة من الناس
واستقرارها على إقليم غير مأهول أو مسكون بقبائل متأخرة أو بشعب ضعيف،
وتوفر الرغبة لديهم في تكوين تنظيم سياسي مستقل.
وهذه ظاهرة تاريخية يمكن إرجاع نشوء أغلب الدول القديمة إليها، ومنها
الدولة الإسلامية الأولى في المدينة وما جاورها، ثم امتدادها بطريق الفتح
إلى أنحاء الجزيرة العربية والبلدان الإسلامية المفتوحة، فقد هاجر المسلمون
إلى المدينة، ثم فتحوا بلدان الجزيرة العربية وغيرها، وكونوا لأنفسهم حكومة
ونظاماً سياسياً خاصاً يعتمد على أسس جديدة من حراسة الدين وسياسة الدنيا.
ب ـ نشوء الدولة من عناصر قديمة: وهذا
يكون إما بالانفصال أو بالاتحاد، وقد حدثت الحالة الأولى باستقلال الدول
المنفصلة عن الخلافة العباسية، وتكوين دول مستقلة في الأندلس والمغرب ومصر
وإيران. ويمكن حدوث الحالة الثانية باتحاد دولتين أو أكثر من دول العالم
الإسلامي الحاضرة إما في شكل دولة واحدة كما كان عليه الوضع أثناء نظام
الخلافة السابق، وإما في شكل اتحاد فعلي، أو دولة تعاهدية، ويتم التعاهد
إما بالاتفاق الاختياري أو الصلح مع أهل بلد كبير على عقد الذمة مثلاً.
_________
(1) حافظ غانم، المرجع السابق: ص 266 وما بعدها، الشريعة والقانون الدولي،
علي منصور: ص159 وما بعدها.
(8/6342)
الفرع الثاني ـ
الاعتراف وأنواعه ونتائجها في المجال الدولي:
ماهية مبدأ الاعتراف ومسوغاته:
31 - إن تنظيم المجتمع الدولي الحاضر تنظيم حديث لم يكن على هذا النحو وقت
ظهور الإسلام وفي عصور دوله المتتابعة كما هو معروف، لذا كان مرجع تفصيل
الأحكام الدولية إلى القانون الدولي العام، إلا أن المبادئ الأصلية
والأخلاق الدولية السائدة مقررة بوضوح في الإسلام.
فمن أنظمة القانون الدولي الحديث التي يشترطها لنشوء الدولة بعد استكمال
عناصرها المادية المكونة لها هو إصدار اعتراف دولي بوجودها، والاعتراف
بالدولة هو من جملة الأحكام السلمية في العلاقات الدولية.
وبما أن الإسلام ينشد في الحقيقة الوصول إلى سلم مستقرة في علاقاته مع
الشعوب الأخرى على أساس أحد أمرين: إما الدخول في الإسلام، أو المعاهدة
والأمان، فإن الاعتراف بوجود الدولة الأخرى غير المسلمة (دارا لحرب) أمر لا
مانع منه استصلاحاً في مبدأ الإسلام وفقهه المتمثل في تقسيم العالم إلى
دارين: دار إسلام ودار حرب، لأن دار الحرب تشمل كل الدول غير المسلمة التي
كانت في الأصل غير مسالمة للمسلمين ولا متعاهدة معهم، فإذا تمت المعاهدة
السلمية بين الدولة الإسلامية وغيرها من دول دار الحرب، أو التزمت هذه
الدول كلها ميثاقاً واحداً ينص على احترام السلم والأمن الدوليين، وتحريم
التدخل في شؤون الدول الأخرى كان ذلك اعترافاً ضمنياً من الدولة الإسلامية
بغيرها، فضلاً عن أن الاعتراف يصدر في الغالب صراحة بإرادة حرة.
وهذا موافق لقوله تعالى: {وإن جنحوا للسَّلم فاجنح لها وتوكل على الله،
(8/6343)
إنه هو السميع العليم} [الأنفال:61/ 8]،
وموافق أيضاً لرأي الفقهاء القائلين بأن الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم هو
السلم (1).
وبناء عليه يجوز للدولة المسلمة الاعتراف بدولة غير مسلمة اعترافاً علنياً
أو ضمنياً حقوقياً أو واقعياً بحسب الحال.
وكون الدعوة الإسلامية ذات نزعة عالمية من طريق الحكمة والموعظة الحسنة،
وبالتالي امتداد سلطان الدولة الإسلامية مع انتشارها في المعمورة: لا يعني
تجاهل ظروف الإمكان وضرورات الواقع ومصلحة السلام التي تجعل من دولة
الإسلام إحدى دول هذا العالم التي تتبادل بينها أمر الاعتراف لفض منازعاتها
على أساس سلمي يتمشى مع منطق الإسلام ووحي رسالته.
ويؤكد هذه المسوغات للاعتراف أنه عند الفقهاء الدوليين الآن عمل حر تقر
بمقتضاه دولة أو مجموعة من الدول وجود جماعة لها تنظيم سياسي في إقليم معين
مستقلة عن كل دولة أخرى، وقادرة على الوفاء بالتزامات القانون الدولي العام
وتظهر الدول بالاعتراف نيتها في اعتبار هذه الدولة عضواً في الجماعة
الدولية (2).
أنواع الاعتراف:
32 ـ للاعتراف أنواع ثلاثة حسبما يقرر فقهاء القانون الدولي الحديث، وهي:
الاعتراف الكامل، والاعتراف الناقص، والاعتراف بحالة الحرب (3).
_________
(1) ر: جهاد أو حرب فيما سبق.
(2) حافظ غانم، المرجع السابق: ص 268.
(3) لا مانع في الإسلام من اختيار الحاكم العمل بإحدى هذه الصور في ضوء
تقديره للمصالح العامة ومقتضيات السياسة الشرعية مادام كون مبدأ الاعتراف
مسلّماً به بحسب قواعد الإسلام كما تقدم.
(8/6344)
أولاً - الاعتراف الكامل: لا يكفي لنشوء
الدولة الجديدة ـ كما تقدم ـ توافر وقائع مادية فقط (وهي الشعب والإقليم
والسلطة الحاكمة) وإنما لا بد من أن يصاحب هذا النشوء إجراء قانوني هو
الاعتراف بالدولة، ومقتضاه التسليم من جانب الدول القائمة بوجود هذه الدول
وقبولها كعضو في المجتمع الدولي، وذلك يتم بإحدى صورتين:
أـ الاعتراف بالدولة: يوجد هذا الاعتراف
عادة بظهور دولة جديدة مستقلة وهو يتضمن الاعتراف بكل حكومة شرعية تقوم
فيها، ويتم إما صراحة أوعلناً بالنص عليه في معاهدة أو في وثيقة دبلوماسية،
وإما ضمناً بطريق التعامل مع الدولة الجديدة كتبادل التمثيل السياسي أو
القنصلي، أو إبرام معاهدات معها أو دعوتها لحضور المؤتمرات باعتبارها دولة
مستقلة.
ب ـ الاعتراف بالحكومة: محل هذا
الاعتراف هو حكومة جديدة وجدت في دولة قديمة نتيجة ثورة شعبية، أو انقلاب
عسكري (1) يؤدي إلى تغيير نظام الحكم فيها، وإحلال حكومة جديدة محل الحكومة
القديمة (2).
_________
(1) تنعقد الإمامة عند فقهاء الإسلام بوجهين: أحدهما: باختيار أهل الحل
والعقد (أي بالبيعة أو الانتخاب) والثاني: بعهد الإمام من قبل أو يجعل شورى
بين قوم. وروي عن الإمام أحمد وغيره: أنها تثبت بالقهر والغلبة، ولا تفتقر
إلى العقد، وعبارة الحنفية في ذلك: تنعقد الخلافة باستيلاء رجل جامع للشروط
على الناس وتسلطه عليهم كسائر الخلفاء بعد النبوة. ثم إن استولى من لم يجمع
الشروط لا ينبغي أن يبادر إلى المخالعة، لأن خلعه لا يتصور غالباً إلا
بحروب ومضايقات وفيها من المفسدة أشد مما يرجى من المصلحة. وسئل رسول الله
صلّى الله عليه وسلم عنهم، فقيل: أفلا ننابذهم؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم
الصلاة، وقال: إلا أن تروا كفراً بواحاً، وهذا من قبيل التسليم بالواقع
اضطراراً منعاً للفوضى مع مخالفة مبدأ الشورى المقرر في الإسلام (راجع
المنهاج ومغني المحتاج: 130/ 4 - 132، الأحكام السلطانية للماوردي: ص4 و 8
- 9، ولأبي يعلى: ص 6 - 7، حجة ال البالغة: 111/ 2، وانظر إمامة أو خلافة
في الموسوعة الفقهية) وإقرار الفقهاء لحالات الإمامة الاستثنائية يدل على
جواز إقرار حالات واقعية مماثلة.
(2) حافظ غانم: ص 277، علي منصور: ص 162 و 166، المرجعان السابقان.
(8/6345)
ثانياً ـ الاعتراف الناقص أو التمهيدي: 33
- إذا لم تستكمل الدولة عناصرها، فمن الجائز إصدار اعتراف تمهيدي بالجماعة
التي تسعى عن طريق ثورة أو حركة انفصالية (1) إلى إنشاء دولة مستقلة،
ويتضمن هذا الاعتراف إقرار الحالة القائمة فعلاً بين جماعة الثورة والدولة
الأصل.
ولهذا الاعتراف عند فقهاء القانون صور ثلاث (2):
أـ الاعتراف بالأمة: هذا النوع من
الاعتراف خطوة في سبيل الاعتراف بالدولة، ويتم عادة من الدول أصحاب المصالح
مع بعض الشعوب الموالية لها عن طريق الاعتراف بلجنة قومية تشكلت في الخارج،
وتتعامل معها بعض الدول الأجنبية، كأنها تمثل (الأمة) التي تنتسب إليها،
وذلك مثل اعتراف الدول العربية وبعض الدول الصديقة بمنظمة التحرير
الفلسطينية لتمثيل الشعب الفلسطيني.
ب ـ الاعتراف بالثورة: وهو يحصل إذا ما
نشبت ثورة في داخل دولة ما بقصد انفصال جزء من إقليمها عنها، ويقصد
بالثورة: الهياج المسلح الذي لا يبلغ في الجسامة مبلغ الحرب الأهلية.
جـ ـ الاعتراف بالحكومة في الخارج (حكومة
المنفى): وهذا مثل الاعتراف بالأمة يتم باعتراف بعض الدول الأجنبية
بحكومة تدعي أنها ذات الصفة الشرعية
_________
(1) لا يجوز الاعتراف في الإسلام بالجماعة الثائرة في وجه الدولة
الإسلامية، كما حدث عندما انفصلت الأندلس عن الشرق لم يعترف بها خلفاء
بغداد مطلقاً، لأنهم جماعة بغاة ينبغي عدم الإعانة على انشقاقهم أو إنجاح
ثورتهم، وعليه فلم يكن الأمويون في الأندلس والأدارسة في المغرب الأقصى إلا
بغاة يجب إخضاعهم وردهم إلى التزام طاعة الخليفة أو الإمام.
(2) حافظ غانم: ص 271 وما بعدها، علي منصور: ص 164 وما بعدها، الحقوق
الدولية العامة، فؤاد شباط: ص 175 - 178.
(8/6346)
تتكون خارج إقليم الدولة نتيجة وقوع انقلاب
عسكري يتسلم فيه زعيم الانقلاب مقاليد السلطة في داخل البلاد، وذلك تمهيداً
لدخول تلك الحكومة إلى البلاد لطرد جماعة الانقلاب، وممارسة الحكم فيها
بالسيطرة على الإقليم والشعب ومباشرة سائر الاختصاصات المتعلقة بالحكم.
ثالثاً ـ الاعتراف بحالة الحرب: 34 - وهو يحصل إذا ما اتخذت الثورة شكل
الحرب الأهلية، وأصبح للثوار حكومة منظمة تباشر سلطاتها على إقليم معين،
وجيش يتبع قواعد الحرب، ويترتب على اعتبار حالة الحرب قائمة بما يتبعها من
آثار فيما يتعلق باتباع قواعد الحرب الدولية، والتزام الدولة المعترفة
بمراعاة جانب الحياد حتى يتقرر مصير الحرب الدائرة، وينتهي النضال لصالح
الإقليم الثائر أو دولة الأصل (1).
وهذا الوضع يشبه في الفقه الإسلامي حالة البغاة أو دار البغي، فإذا تعذر
على الحاكم الأصلي إخضاع البغاة، وظلوا مسيطرين على الأماكن التي أعلنوا
فيها سلطانهم كان معنى ذلك إمكان صدور اعتراف بهم من الآخرين على أساس
الأمر الواقع، مع تقدير أن الاعتراف يسيء إلى الدولة الأصل.
الفرع الثالث ـ شخصية الدولة الإسلامية:
35 - تتمتع الدولة الإسلامية بشخصية مستقلة تعرف حديثاً بالشخصية المعنوية
أو الاعتبارية (2) وقد أقر فقهاء الإسلام مدلول هذا الاصطلاح بدليل ما
قرروه من نتائج أو خصائص بالنسبة للدولة ونحوها وهي:
_________
(1) حافظ غانم، وعلي منصور، المرجعان السابقان.
(2) عرف الفقه الدولي الغربي في منتصف القرن العشرين هذا الاصطلاح الذي
فرضه لبعض الجهات أو المؤسسات العامة، واعتبر أن الدولة تتمتع بالشخصية
المعنوية، ورتب عليها النتائج الآتية:
أـ تعد الدولة وحدة قانونية مستقلة عن أشخاص الحكام.
ب ـ حقوق الدولة تظل قائمة مدة بقائها وإن تبدل ممثلوها، والتزاماتها التي
تتعهد بها ومعاهداتها واتفاقاتها التي تبرمها تبقى نافذة فيها، وملتزمة بها
بالرغم من تغير ممثليها، أو انقراض الأشخاص الذين تعاقدوا باسمها.
جـ ـ تظل القوانين التي تصدرها الدولة قائمة ما دامت لم تلغ أو تعدل صراحة
أو ضمناً (حافظ غانم: ص 140 وما بعدها، ثروت بدوي: ص 52 وما بعدها، موجز
القانون الدستوري للدكتور عثمان خليل والدكتور سليمان الطحاوي: ص12
ومابعدها، حامد سلطان، المرجع السابق: ص 185، محاضرات في النظرية العامة
للحق للدكتور شمس الدين وكيل: ص113).
(8/6347)
أـ إنهم عرفوا فكرة الدولة مستلقة عن أشخاص
الحكام، فكان الحاكم أو الخليفة يعد بمثابة أمين على السلطة يمارسها بصورة
مؤقتة، ونيابة عن الأمة، كما يتضح من الخطب السياسية التي كان يلقيها
الخلفاء الراشدون بمجرد انعقاد البيعة لهم (1)، والتي يبدو منها أنهم كانوا
يمارسون السلطة من أجل مصلحة الجماعة الإسلامية لا من أجل مصالحهم الشخصية،
فالخليفة يعتبر نفسه وكيلاً عن الأمة في أمور الدين وفي إدارة شؤون الدولة
بحسب شريعة الله ورسوله (2)، وهو لهذا يستمد سلطانه من الأمة، ولها حق نصحه
وعزله من منصبه إن وجد ما يوجب العزل (3).
وكان العمال أو الموظفون لا ينعزلون بموت السلطان الذي عينهم، وكذا نائب
القاضي لا ينعزل بعزل القاضي ولا بموته؛ لأن القاضي الذي استناب غيره في
_________
(1) الإمامة والسياسة لابن قتيبة: ص 16و 50.
(2) تاريخ الإسلام السياسي لحسن إبراهيم: 203/ 1 وما بعدها، وقال صلّى الله
عليه وسلم واصفاً الإمارة: «إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا
من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها» رواه مسلم عن أبي ذر (شرح مسلم
للنووي: 209/ 12).
(3) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 15 وما بعدها، حجة ال البالغة: 112/ 2،
نظام الحكم في الإسلام، يوسف موسى: ص 124.
(8/6348)
القضاء إنما يعمل بولاية الأمة وفي حقوقها،
لا بولاية شخصية من السلطان ولا في حقه الخاص؛ لأن الخليفة أو السلطان
بمنزلة رسول معبر عن الأمة (1).
1/ 35 ـ ب ـ وتظل حقوق الدولة الإسلامية ثابتة لها، وإن تغير حكامها بدليل
أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبقى الأراضي المفتوحة على ملكية أهلها، على
أن يدفعوا خراجاً دائماً (2). وأكد معظم الفقهاء هذا المعنى، فقرروا أنها
وقف لجماعة المسلمين.
فقال مالك: تصير الأراضي التي استولى عليها المسلمون عنوة وقفاً على
المسلمين حيث غنت.
وقال أبو حنيفة: الإمام فيها بالخيار بين قسمتها بين الغانمين، فتكون أرضاً
عشرية، أو يعيدها إلى أيدي المشتركين بخراج يضربه عليها، فتكون أرض خراج
ويكون المشركون فيها أهل ذمة، أو يقفها على جميع المسلمين.
وقال الحنابلة في الأرجح عندهم: إن الإمام يفعل ما يراه الأصلح من قسمة هذه
الأراضي، ووقفها مقابل خراج دائم يقرر عليها كالأجرة.
وكذلك الأراضي المملوكة عفواً لانجلاء أهلها عنها خوفاً: تصير بالاستيلاء
عليها وقفاً. وأيضاً الأراضي المستولى عليها صلحاً على أن ملك الأرض لنا،
تصير بهذا الصلح وقفاً من دار الإسلام، ولايجوز بيعها ولا رهنها (3).
_________
(1) البدائع: 16/ 7، و 37/ 6 وما بعدها، المدخل إلى نظرية الالتزام العامة
في الفقه الإسلامي للأستاذ الزرقاء: ص 262، ف186/.
(2) شرح السير الكبير: 254/ 3، الخراج لأبي يوسف: ص 24 و 27 و 35،
القسطلاني شرح البخاري: 200/ 5، الأموال: ص 58، فتوح البلدان للبلاذري: ص
275.
(3) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 132 وما بعدها، ولأبي يعلى: ص 130 وما
بعدها، وانظر للتفصيل بحث: أموال الحربيين للمؤلف: ف/84 - 88.
(8/6349)
وقال الفقهاء أيضاً: (بيت المال وارث من لا
وارث له) (1) أي أن هذا حق ثبت له، وبديهي أن بيت المال من أخص حقوق
الدولة، بل ومن أهم مقومات وجودها. ومن الأحكام الفقهية: لبيت المال حق
الأخذ بالشفعة بسبب الشركة في ملكية العقار المبيع إن وجد في ذلك المصلحة
له (2).
2/ 35 - وأما بالنسبة لالتزامات الدولة، فقال عنها فقهاؤنا: تظل قائمة، ففي
بحثهم المعاهدات مثلاً قالوا: تبقى المعاهدة نافذة يلزمنا الوفاء بها حتى
تنقضي مدتها، أو ينقضها العدو، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا
بالعقود} (3) [المائدة 1/ 5]، وقوله صلّى الله عليه وسلم: «المسلمون عند
شروطهم ما وافق الحق من ذلك» (4)، فلو مات الإمام الذي عقد الهدنة أو عزل
لم ينتقض العهد، وعلى من بعده الوفاء به، لأن العقد السابق كان باجتهاد،
فلم يجز نقضه باجتهاد آخر، كما لم يجز للحاكم نقض أحكام من قبله باجتهاد
جديد، بدليل إتمام علي كرم الله وجهه ما عقده لأهل نجران (5). وهذا يدل على
أن الدولة شخص اعتباري يمثله الإمام ويتعاقد باسمه.
ويشير إلى ذلك أيضاً أن أمان الواحد من المسلمين رجلاً أو امرأة يسري على
المسلمين جميعاً، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «المسلمون تتكافأ دماؤهم،
ويسعى بذمتهم أدناهم،
_________
(1) يترك مال من لا وارث له في بيت المال باتفاق المذاهب الأربعة، غير أن
الحنفية والحنابلة يقولون: إن هذا ليس بطريق الإرث، وإنما هو من باب رعاية
المصلحة على أنه مال ضائع فيصرف في سبيل المصالح العامة. وقال متأخرو
المالكية، والراجح عند الشافعية: يكون بيت المال وارثاً بشرط كونه منتظماً
(شرح السراجية: ص 11، نظام المواريث للشيخ عبد العظيم فياض: ص 20، ط
الثانية).
(2) أسنى المطالب: 265/ 2، منْح الجليل للشيخ عليش: 584/ 3.
(3) المائدة: 1.
(4) رواه الحاكم عن أنس وعائشة (الفتح الكبير) ورواه الترمذي عن عمرو بن
عوف «المسلمون على شروطهم .. » (نيل الأوطار: 254/ 5).
(5) الدر المختار: 25/ 3، البدائع: 16/ 7، القوانين الفقهية: ص 155، مغني
المحتاج: 261/ 4، المغني: 462/ 8، البحر الزخار: 450/ 5 و 455.
(8/6350)
وهم يد على من سواهم» (1)، هذا الحديث يدل
على وجود شخصية اعتبارية لجماعة المسلمين يمثلها أحدهم ويعتبر الأمان
الصادر منه ملزماً لهم.
ومن الأحكام الفقهية في هذا الشأن ما قاله فقهاؤنا: (إن على بيت المال نفقة
من لا عائل له من الفقراء) (2).
وقالوا في نطاق المسؤولية المدنية والجنائية: إذا أتلف الحاكم شيئاً في غير
حالة تطبيق العقوبات الشرعية أثناء قيامه بمصلحة من المصالح العامة، فضمان
المتلفات على الدولة باعتبارها شخصية معنوية يمثلها الحاكم نياية عن جماعة
المسلمين، قال عز الدين بن عبد السلام: «إن الإمام أو الحاكم إذا أتلف
شيئاً من النفوس أوالأموال في تصرفهما للمصالح، فإنه يجب على بيت المال دون
الحاكم والإمام، ودون عواقلها على قول الشافعي، لأنهما لما تصرفا للمسلمين،
صار كأن المسلمين هم المتلفون، ولأن ذلك يكثر في حقهما، فيتضرران به،
ويتضرر عواقلهما) (3).
وذكر فقهاء الحنفية: إذا أخطأ القاضي في حق من حقوق الله تعالى الخالصة له
(أي من حقوق المجتمع) كأن قضى بحد زنا أو سرقة أو شرب خمر، واستوفى الحد،
ثم ظهر أن الشهود ساقطو العدالة، كأن كانوا محدودين في قذف، فالضمان في بيت
المال، لأن القاضي عمل في ذلك لعامة المسلمين لعود منفعتها
_________
(1) أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
مرفوعاً. وفي الصحيحين ومسند أحمد عن علي: (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها
أدناهم) .. (نيل الأوطار: 27/ 7 وما بعدها).
(2) السياسة الشرعية لابن تيمية: ص 51، الأحكام السلطانية للماوردي: ص 122،
المهذب: 167/ 2.
(3) قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 165/ 2، ط الاستقامة. وانظر للتفصيل:
نظرية الضمان للدكتور وهبة الزحيلي: ص 337.
(8/6351)
إليهم: وهو الزجر، فكان خطؤه عليهم، فيؤدى
(أي تدفع الدية) من بيت مالهم، ولا يضمن القاضي في ماله الخاص (1).
يظهر من كل ذلك أن الدولة لها أهلية وجوب كاملة وذمة مستقلة عن أفرادها
المكونين لها (2) وهذا هو المراد بالشخصية الاعتبارية للدولة.
المبحث الثاني ـ خصائص الدولة الإسلامية
ومقارنتها بالدولة الحديثة المطلب
الأول- خصائص الدولة الإسلامية:
وفيه فرعان:
أولاً ـ كونها دولة فكرة ومبادئ لإصلاح الحياة البشرية: 36 - إن نظرية
الدولة في الإسلام تقوم أساساً على أنها دولة فكرية (أي ذات منهج إلهي)
مؤسسة على مبادئ وغايات محددة واضحة (3) تنشد إصلاح الحياة البشرية قاطبة
على وفق منهج العقيدة الإسلامية ومستلزماتها ونظمها التشريعية التي لاتتأثر
بأهواء الواضعين، ولا بحدود إقليمية ضمن نطاق أرضي معين.
وإنما دستور الإسلام شامل لكل من آمن به من بني الإنسان دون اعتبار لميزات
الجنس والعنصر والقوم والوطن بالمعنى الضيق، كما أن الدعوة إلى إقامة دولة
في
_________
(1) البدائع: 16/ 7، رد المحتار: 355/ 4، ط الحلبي.
(2) المدخل إلى نظرية الالتزام في الفقه للأستاذ الزرقاء: ص 263، المرجع
السابق.
(3) نظرية الإسلام السياسية للمودودي: ص 47 وما بعدها، نظرية الإسلام وهديه
في السياسة والقانون والدستور له أيضاً: ص 71 وما بعدها.
(8/6352)
ظل الإسلام لا تعتمد على الروابط العنصرية
والأواصر التاريخية التي تعتمد عليها الدول والقوميات في بنائها الحاضر.
فدولة الإسلام إذن دولة ذات فكرة ومنهج موضوعي ورسالة دائمة مهمتها نشر
العقيدة الإسلامية وتصحيح مفاهيم الناس نحو عالم الغيب وعالم الشهادة
بتقديم الحلول السليمة ووضع المناهج السديدة للحياة الاجتماعية والاقتصادية
والعمرانية على نمط يحقق الخير والرفاه والسعادة للفرد والجماعة.
تتضح بذلك الغاية السامية للمسلمين أمام الشعوب: وهي أن الإسلام يريد لها
النمو والازدهار والمحافظة على كرامتها والإبقاء على خيراتها ومقدراتها
بأيدي أهلها الأصليين، على النقيض تماماً مما تفعله دول الاستعمار الحاضرة،
إذ أن الرغبة في نشر فكرة الإسلام لا تنشئ شيئاً من الشر الذي تنشئه الرغبة
في نشر نفوذ بقصد الاستغلال الذي يسمونه (الاستعمار) (1)، فالفكرة إذن هي
الإسلام، وفكرة الإسلام التي تقوم مقام فكرة الوطن في معناها الطيب لا ينشأ
عنها حب استغلال أرض الآخرين، أو طائفة أخرى من الناس.
ثانياً ـ كون غاية الدولة أداء رسالة الإسلام وجوباً اعتقادياً: 37 - إن
الغاية الجوهرية للحكم الإسلامي هي أن تقوم الدولة بمختلف أجهزتها بنشر
رسالة الإسلام، وحفظ الدين والدفاع عنه، حتى إن الفقهاء صرحوا بأن المقصود
بالجهاد ليس قتل الناس أو إكراههم على الدين، وإنما هو الهداية وما سواها
من الشهادة بالطريق الحسنى وبالاقتناع الحر (2).
_________
(1) نحو مجتمع إسلامي للمرحوم الأستاذ سيد قطب: ص 97.
(2) مغني المحتاج: 210/ 4، بجيرمي المنهج: 227/ 4.
(8/6353)
قال الماوردي وأبو يعلى: إن أول الأمور
التي تلزم الإمام هو (حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف
الأمة، فإن نجم مبتدع، أو زاغ ذو شبهة عنه، أوضح له الحجة، وبيَّن له
الصواب، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود ليكون الدين محروساً من خلل،
والأمة ممنوعة من زلل) (1).
وقال الدهلوي: (إن أمهات المقاصد أمور: منها: حفظ الملة بنصب الخطباء
والأئمة والوعاظ والمدرسين) (2).
وقال ابن تيمية: (إن جميع الولايات في الإسلام مقصودها أن يكون الدين كله
لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فإن الله سبحانه وتعالى إنما خلق الخلق
لذلك، وبه أنزل الكتب، وبه أرسل الرسل، وعليه جاهد الرسول والمؤمنون، قال
الله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات:56/ 51] وقال
تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا
فاعبدون} [الأنبياء:25/ 21]. وقال: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا
الله واجتنبوا الطاغوت} (3) [النحل:36/ 16].
وقال ابن تيمية أيضاً: المقصود الواجب بالولايات: إصلاح دين الخلق الذي متى
فاتهم خسروا خسراناً مبيناً، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا، وإصلاح ما
لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم، وهو نوعان: قسم المال بين مستحقيه،
وعقوبات المعتدين، فمن لم يعتد أصلح له دينه ودنياه، ولهذا كان عمر بن
الخطاب يقول: إنما بعثت عمالي إليكم ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم،
ويقيموا بينكم دينكم.
_________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 14، ولأبي يعلى: ص 11.
(2) حجة الله البالغة: 132/ 2.
(3) الحسبة: ص 4، ط المدينة.
(8/6354)
فلما تغيرت الرعية من وجه، والرعاة من وجه
تناقضت الأمور، فإذا اجتهد الراعي في إصلاح دينهم ودنياهم بحسب الإمكان،
كان من أفضل أهل زمانه، وكان من أفضل المجاهدين في سبيل الله، فقد روي: يوم
من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة (1).
من ذلك يتبين أن غاية الدولة الإسلامية إصلاح الدين والدنيا وإقامة العدل
وإعلاء كلمة الله تعالى، (أي تطبيق تعاليمه في القرآن والسنة) والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر.
وبهذا تحقق الحكومة الإسلامية المثل الأعلى الذي ينشده الإسلام للبشرية.
وهو تنفيذ أحكام الشريعة، وتمكين المسلم من أن يحيا طبقاً لمتطلباتها؛ لأن
الدين الإسلامي هو أساس كل التنظيمات في الحياة، فكلمة (دين) تشمل جميع
نواحي النشاط الإنساني، سواء في مجال التنظيم السياسي للجنس البشري، أم في
مضار الأخلاق والاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة والتربية التي يتضمنها
كلها القرآن الكريم (2). وبكلمة إجمالية: إن مهمة الدولة الإسلامية هي نشر
الحضارة ذات الطابع الإنساني الرفيع.
المطلب الثاني- مقارنة الدولة الإسلامية
بالدولة الحديثة:
وفيه فرعان:
الفرع الأول ـ بيان مدى ارتباط الدولة الحديثة
بالمبادئ والأديان:
38 ـ لا نجد الآن تقسيماً للدول بحسب أديانها، ولا يهتم القانون الدولي
_________
(1) السياسية الشرعية: ص 24، ط دار الكتاب العربي بمصر.
(2) بحث مفهوم الدولة في الإسلام، الدكتور محمد عزيز أحمد المنشور في مجلة
(المسلمون) المجلد الرابع، العدد السادس: ص 59.
(8/6355)
العام بشأن دين الدولة، وإنما يعترف
بالدولة الموزعة في العالم على أساس إقليمي، لكن من المعروف أن الدول بحسب
الدين أربع مجموعات رئيسية: (1)
المجموعة الأولى: الدول النصرانية.
المجموعة الثانية: الدول اللادينية (العلمانية) والدول الملحدة.
المجموعة الثالثة: الدول البوذية والهندوكية والبرهمية.
المجموعة الرابعة: الدول الإسلامية.
أما المجموعة الأولى: فلا تكتفي بتعيين دينها، بل هي تصرح في دساتيرها
بمذهبها أيضاً، فهناك دول بروتستانية، ودول كاثوليكية، ودول أرثوذكسية. وقد
صرحت دساتير معظم الدول الحديثة ولا سيما دساتير أمم الغرب بأنها تعطي لدين
الأكثرية وثقافتها مكاناً ممتازاً، وتعمل على حمايتهما وتطورهما (2). ففي
إنجلترا: نصت المادة (7) من وثيقة الحقوق على أنه يسمح لرعايا الكنيسة
البروتستانية بحمل السلاح لحماية أرواحهم في حدود القانون. وفي المادة (8)
من الوثيقة المذكورة لكاثوليكي أن يرث أو يعتلي العرش البريطاني. وفي
المادة (3) من قانون التسوية: على كل شخص يتولى الملك أن يكون من رعايا
كنيسة انجلترا ولا يسمح بتاتاً لغير المسيحيين ولا لغير البروتستانيين أن
يكونوا أعضاء في مجلس اللوردات ويعتبر ملك بريطانيا حامياً للكنيسة
البروتستانية في العالم.
وفي اليونان: تنص المادة (1) من دستورها على أن المذهب الرسمي لأمة
_________
(1) انظر بحث (مكان الإسلام في مفهوم الدولة) للأستاذ عبد الرحمن خضر
المنشور في مجلة (المسلمون) المجلد الخامس ـ العدد الأول ـ ص 67 وما بعدها.
(2) راجع بحث (عنصر العقيدة في الدستور) للأستاذ ظفر أحمد الأنصاري المنشور
في مجلة (المسلمون) المجلد الخامس ـ العدد السابع: ص 59 - 64.
(8/6356)
اليونان هو مذهب الكنيسة الأرثوذكسية
الشرقية. وفي المادة (47) من الدستور: كل من يعتلي عرش اليونان يجب أن يكون
من أتباع الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية.
وفي الدانمرك تنص المادة (2) البند (5) على أنه يجب أن يكون الملك من أتباع
الكنيسة الانجيلية اللوثرية. وفي المادة (1) البند (3): إن الكنيسة
الإنجيلية اللوثرية هي الكنيسة المعترف بها في الدانمرك.
وفي إيرلندة: ينص الدستور على أن الدولة تعطي مكاناً خاصاً للكنيسة
الرسولية الكاثوليكية المقدسة.
وفي النرويج: ينص البند الثاني من المادة (12) على أنه ستظل الكنيسة
الانجيلية اللوثرية هي الكنيسة الرسمية في الدولة، وفي الفقرة الثانية من
البند الأول: يجب أن يكون الملك من أتباع الكنيسة المذكورة.
وفي السويد: في البند الثاني من المادة (4): يجب أن يكون الملك من أتباع
المذهب الإنجيلي الخالص، وفي المادة (4) من الدستور: يجب أن يكون أعضاء
المجلس الوطني من أتباع المذهب الإنجيلي.
وفي كولومبيا: تنص المادة (53) من الدستور على ضرورة تحسين العلاقات بين
الحكومة والكنيسة الكاثوليكية.
وفي جمهورية كوستاريكا: تنص المادة (66) من الدستور على أن المذهب
الكاثوليكي هو المذهب الرسمي للدولة.
وفي جمهورية السلفادور: تقرر المادة (12) من الدستور: أن الدولة تعترف
بالشخصية القانونية للكنيسة الكاثوليكية التي يتبعها غالبية السكان.
(8/6357)
وفي إسبانيا: تنص المادة (9) على أنه يجب
أن يكون رئيس الدولة من رعايا الكنيسة الكاثوليكية. وفي المادة (6): على
الدولة رسمياً حماية اعتناق وممارسة شعائر المذهب الكاثوليكي باعتباره
المذهب الرسمي لها.
وفي البرتغال: تقول المادة (24) البند (2): لما كانت الجماعات البشرية
البرتغالية التي ترعاها الكنيسة الكاثوليكية عبر البحار تعتبر أداة لنشر
المدنية والنفوذ القومي ومراكز لتدريب الرجال للخدمة في تحقيق الغايات، فإن
الدولة تعترف لها بالشخصية القانونية، وعليها حمايتها ومساعدتها باعتبارها
مراكز ثقافية هامة.
وفي جمهورية البارجوراي: تنص المادة (3) من الدستور على أن المذهب الرسمي
للدولة: هومذهب الكنيسة الكاثوليكية الرسولية. ويجب أن يكون رئيس الجمهورية
من أتباع الكنيسة المذكورة.
وفي الأرجنتين: تنص المادة (2) على: أن على الحكومة الفدرالية أن تحمي
الكنيسة الرسولية.
وفي بورما: تنص المادة (1) من الدستور على أن الدولة تعترف بالمكانة الخاصة
للديانة البوذية باعتبارها دين الأكثرية الساحقة.
وفي بلاد التايلاند: تنص المادة 7 من الدستور على أن الملك يعتنق الديانة
البوذية ويقدس شعائرها (1).
_________
(1) علق على هذه الظاهرة الأمير شكيب أرسلان، فقال في مجلة (المسلمون)
المجلد الخامس العدد الثالث: ص51 - 54: (خرافة فصل الدين عن السياسة في
أوربا التي لايزال يتشدق بها بعض المضللين في الشرق: ليس لها أصل إلا
بالمعنى الإداري الذي هو جار أيضاً في بلاد الإسلام، فالحكومات الكاثوليكية
بأجمعها مرتبطة أشد الارتباط بالدين الكاثوليكي إلا فرنسا، بل إن الدولة
الإفرنسية التي يزعم بعضهم أنها حكومة لا دينية هي أشد الدول حماية
للنصرانية عموماً وللكثلكة خصوصاً. وأما الدول البروتستانية فكلها تعلن أن
ثقافتها مسيحية وأن مدنيتها إنجيلية، وأنها لاتحيد عن هذا الطريق.
(8/6358)
1/ 38 - وأما
المجموعة الثانية: الدول العلمانية، فهي قسمان:
القسم الأول: ما يكتفي دستورها بالقول بأنها (علمانية) لا دينية، أي تقول
بلزوم فصل الدين عن الدولة، مثل فرنسا التي كانت أول من ابتدعت هذه البدعة
أثر ثورة 1789 م، وتبعتها في ذلك تركيا على يد مصطفى كمال. ومن هذا القسم
حكومة الهند.
والقسم الثاني: هو الدول الملحدة: وهي الدول التي لا يكتفي دستورها بالقول
بأنها (علمانية) بل يمنع التبشير بالدين، ويجعل الدعاية ضد الأديان حقاً من
الحقوق العامة. وأول من أقدم على ذلك اتحاد جمهوريات روسيا السوفياتية. وقد
انهار في عام 1989م.
2/ 38 - وأما المجموعة الثالثة: الدول البوذية
والكونفوشية والهندوكية، فهي كاليابان وحكومة الصين القديمة. وأما
الهند فهي خليط من الهندوس والمجوس وسائر الأديان ومختلف المذاهب. وبعد
الاستقلال نص دستور الدولة الهندية على أن الدولة علمانية، ونص دستور
الباكستان على أنها من الحكومات الإسلامية.
3/ 38 - وأما المجموعة الرابعة فهي الدول
الإسلامية: والملحوظ من هذه التسمية أن مبادئ الإسلام تحكمها، دون
أن يكون هناك طبقة دينية لها اختصاصات معينة في الحكم، وإنما يشترك في
إدارتها كل مسلم كفء للإدارة.
الفرع الثاني - مقارنة الدولة الإسلامية
بالدولة الشيوعية:
39 - تلتقي الدولة الإسلامية والدولة الاشتراكية ـ الشيوعية في طبيعة واحدة
هي أنهما تقومان على أساس فكرة ودعوة، لا على أساس مصالح مادية أو
(8/6359)
الارتباط بحدود جغرافية إقليمية، أورابطة
قومية عنصرية. فكل من الدولتين تتوخى نشر فكرتها في أرجاء العالم، ولا مانع
بالنسبة لمن يؤمن بتلك الفكرة أن يكون موالياً لدولة أخرى، أي أن هناك
بالنسبة للشخص صاحب الفكرة ازدواجاً في الولاء.
المبحث الثالث ـ وظيفة دولة الإسلام (1)
تمهيد: في تعريف وظيفة الدولة الإسلامية:
40 - امتاز الإسلام عما كان سائداً في الجاهلية العربية بحمايته نوعين من
المصالح اللذين بهما انتظام الملة والمدن، وقد بعث النبي صلّى الله عليه
وسلم لأجلهما، والإمام نائبه، فهو مسؤول عنهما (2).
لذلك تختلف وظيفة الدولة الإسلامية عن سائر الدول الدستورية البرلمانية في
أن مهمتها الحفاظ على أمور الدنيا والدين، وأنه لا فصل بين الدين والدولة
كما فعل أتباع الدين المسيحي (3)، وأن الخليفة أو الإمام كما أنه يلي سلطات
التشريع والقضاء والتنفيذ وسائر الشؤون الدنيوية، فإن له أيضاً إمامة
الصلاة وإمامة الحج والإذن بإقامة الشعائر في المساجد، والخطبة في الجمع
والأعياد وغير هذا من الشؤون الدينية، باعتبار أن الغاية من إقامته أن يقوم
بحراسة الدين وسياسة الدنيا (4).
_________
(1) أكتفي هنا بذكر المبادئ العامة، وأحيل بالنسبة للتفاصيل على موضوعات في
الموسوعة الفقهية: إمامة، حقوق الإنسان، الذميون، المستأمنون، ونحو ذلك من
البحوث الدستورية والقضائية والاجتماعية.
(2) حجة الله البالغة للدهلوي: 112/ 2، ط أولى.
(3) قال السيد المسيح عليه السلام: (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله).
(4) الماوردي وابن خلدون، المرجعان الآتيان، السياسة الشرعية للأستاذ خلاف:
ص 58 ومابعدها.
(8/6360)
41 - ويعرف هذا الواجب من تعاريف العلماء
للخلافة، ومنها ما يأتي (1):
قال الدهلوي: الخلافة هي الرياسة العامة في التصدي لإقامة الدين بإحياء
العلوم الدينية، وإقامة أركان الإسلام، والقيام بالجهاد وما يتعلق به من
ترتيب الجيوش والفروض للمقاتلة، وإعطائهم من الفيء، والقيام بالقضاء،
وإقامة الحدود، ورفع المظالم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نيابة عن
النبي صلّى الله عليه وسلم (2).
وقال في البحر الزخار: الإمامة: رياسة عامة لشخص مخصوص بحكم الشرع ليس
فوقها يد (3).
وقال الماوردي: الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا
(4).
وقال السعد التفتازاني في المقاصد: الإمامة: هي رياسة عامة في أمر الدين
والدنيا خلافة عن النبي صلّى الله عليه وسلم (5). وهذا فيما يبدو خير
التعاريف.
وزاد فخر الدين الرازي قيداً آخر في التعريف، فقال: هي رياسة عامة في الدين
والدنيا لشخص واحد من الأشخاص، وقال: هو احتراز عن كل الأمة إذا عزلوا
الإمام لفسقه (6).
_________
(1) ر: للتفصيل في الموسوعة الفقهية إمامة ـ الإمامة الكبرى.
(2) نقلاً عن (إكليل الكرامة في تبيان مقاصد الإمامة) لصديق حسن خان ص 23.
(3) ر: حـ 374/ 5.
(4) الأحكام السلطانية: ص 3.
(5) يلاحظ أن الخلافة والإمامة الكبرى وإمارة المؤمنين ألفاظ مترادفة بمعنى
واحد (النظريات السياسية الإسلامية للدكتور ضياء الدين الريس: ص 92 - 103،
ط الثانية).
(6) المواقف: 345/ 8، ط المغربي سنة 1907، الخلافة لرشيد رضا: ص 10،
السياسة الشرعية للشيخ محمد البنا: ص 14.
(8/6361)
واعترض الإيجي على هذا التعريف بأنه قد
ينطبق على مقام النبوة، فهي (رياسة عامة في هذه الأمور لشخص واحد) (1)
وقال: الأولى أن يقال: (هي خلافة الرسول صلّى الله عليه وسلم في إقامة
الدين وحفظ حوزة الملة، بحيث يجب اتباعه على كافة الأمة) (2).
وذكر ابن خلدون: أن الخلافة هي (حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في
مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها)، إذ أن أحوال الدنيا ترجع كلها
عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة: خلافة عن صاحب
الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به (3).
وقال بعض العلماء المتأخرين: الخلافة هي الرياسة العظمى والولاية العامة
الجامعة القائمة بحراسة الدين والدنيا (4).
وخلاصة المقال: إن وظيفة الدولة الإسلامية أو وظيفة الخليفة في الماضي
أمران: إقامة الدين الإسلامي، وتنفيذ أحكامه، والقيام بسياسة الدولة في
الحدود التي رسمها الإسلام. أو بعبارة أخرى: الوظيفة واحدة: هي إقامة
الإسلام. والإسلام كما هو معروف دين ودولة في اصطلاح العصر.
_________
(1) المواقف، المكان السابق.
(2) الفائدة في هذا التعريف أنه بعد بالإمامة عن الناحية الشخصية، وعاد إلى
وجهه نظر الماوردي، وهو لم يختلف عنه إلا في أنه وضع كلمة (إقامة) بدل
(حراسة) الدين وربما كانت كلمة (إقامة) أقوى، لأنها تدل على التنفيذ لا
مجرد الحفظ، إلا أنه لم يفصح في مسألة سياسية الدنيا (النظريات السياسية
الإسلامية، المرجع السابق: ص 116).
(3) مقدمة ابن خلدون: ص 191، ط التجارية.
(4) التراتيب الإدارية للأستاذ عبد الحي الكتاني: 2/ 1، ط الأهلية بالرباط.
(8/6362)
تفصيل واجبات
الحاكم أو وظائف الدولة:
42 ـ أوضح الماوردي وأبو يعلى وظائف الدولة أو واجبات الإمام وحدداها بعشرة
أمور وهي: (1)
1 - حفظ الدين على الأصول التي أجمع عليها سلف الأمة، ليكون الدين محروساً
من الخلل، والأمة ممنوعة من الزلل.
2 - تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بينهم، حتى تظهر النصفة فلا
يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم.
3 - حماية البيضة (الكيان) والذب عن الحوزة ليتصرف الناس في المعايش،
وينتشروا في الأسفار آمنين.
4 - إقامة الحدود لتصان محارم الله عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف
واستهلاك.
5 - تحصين الثغور بالعدة المانعة، والقوة الدافعة، حتى لا يظفر الأعداء
بغرَّة ينتهكون بها محرماً، ويسفكون فيها دماً لمسلم أو معاهد.
6 - جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة.
7 - جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصاً واجتهاداً من غير عسف.
_________
(1) الأحكام السلطانية للماردي: ص 14، ولأبي يعلى: ص 11، وانظر هذه
الواجبات أيضاً في حجة الله البالغة للدهلوي: 132/ 2. وقد عبر الماوردي عن
هذه الواجبات بعبارة أخرى وحصرها في سبعة أمور (راجع له أدب الدنيا والدين
مع شرحه منهاج اليقين لخان زاده: ص234 - 236).
(8/6363)
8 - تقدير العطاء وما يستحق في بيت المال
من غير سرف ولا تقصير فيه ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير.
9 - استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوضه إليهم من الأعمال، ويكله
إليهم من الأمور لتكون الأعمال مضبوطة والأموال محفوظة.
10 - أن يباشر مشارفة الأمور وتصفح الأحوال ليهتم بسياسة الأمة وحراسة
الملة، ولايعول على التفويض تشاغلاً بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين، ويغش
الناصح، وقد قال الله تعالى: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين
الناس بالحق ولا تتبع الهوى} [ص:26/ 38] فلم يقتصر سبحانه وتعالى على
التفويض دون المباشرة.
وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم «كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته» (1).
هذه هي أهم وظائف الدولة الإسلامية، فالأولى هي الوظيفة الدينية والثالثة
والخامسة والسادسة هي الوظيفة الدفاعية، والثانية والرابعة هي الوظيفة
القضائية، والسابعة والثامنة هي الوظيفة المالية، والتاسعة والعاشرة هي
الوظيفة الإدارية.
ويمكن تصنيف هذه الوظائف على نحو آخر وتقسيمها إلى وظيفتين: داخلية وخارجية
كما سيبين في البحثين التاليين:
الوظيفة الأولى ـ وظيفة الدولة في الداخل
هذه الوظيفة تقتضيها إما الضرورات الاجتماعية بتأمين المرافق العامة
للمجتمع، وإما الغايات الأساسية التي تتوخاها الدولة صاحبة الرسالة.
_________
(1) رواه مسلم عن ابن عمر (شرح مسلم للنووي: 213/ 12).
(8/6364)
ويبحث ذلك في المطلبين الآتيين:
أولاً ـ تأمين مصالح المجتمع: 43 - لا تختلف وظيفة الدولة الإسلامية عن
وظائف الدولة الحديثة كما لاحظنا فيما يلزم الإمام من الأمور العشرة السابق
ذكرها، والتي يهمنا منها هنا بكلمة إجمالية النظر في أمور الدنيا وتدبيرها،
وهذه الوظائف تشبه حديثاً ما تختص به السلطتان التنفيذية والقضائية في
الوقت الحاضر:
ومن المعروف أن للسلطة التنفيذية حقوقاً سياسية وإدارية وحربية وقضائية
(1).
ف الحقوق الإدارية (2): هي المتعلقة
بتنفيذ القوانين وإدارة الدولة ومختلف مرافقها العامة مع ما يتبع ذلك من حق
تعيين وعزل الموظفين. وهذه الحقوق تعرّض فقهاؤنا لها فيما ذكره الماوردي من
وظائف (الإمام) العشرة، ولا سيما الأخيرتان منها. قال الدهلوي: (إن أمهات
المقاصد أمور، منها: تدبير المدينة وسياستها من الحراسة والقضاء وإقامة
الحدود والحسبة. ومنها: منافع مشتركة ككري الأنهار وبناء القناطر ونحو ذلك)
(3).
والحقوق القضائية كحق العفو الخاص
والعام، وكحق التصديق على بعض الأحكام، وهذا من حيث المبدأ قد ذكره
الماوردي في الوظيفة الثانية والرابعة، إلا
_________
(1) موجز القانون الدستوري للأستاذين الدكتورين عثمان خليل وسليمان
الطماوي: ص 243 ط الرابعة.
(2) المبحث هنا مخصص لوظائف الدولة الداخلية، لذا فإن الكلام عن الحقوق
السياسية والحربية محله في المبحث الآخر المخصص لوظائف الدولة الخارجية.
(3) حجة الله البالغة: 132/ 2.
(8/6365)
أن الفقهاء فصلوا في الأمر، فقال الحنفية:
لا يجوز شرعاً للحاكم بعد رفع الأمر إليه العفو عن العقوبات المقدرة
(الحدود) ولا الشفاعة فيها (1). أما العقوبات التعزيرية فيجوز للحاكم العفو
عنها حسبما يرى من المصلحة في حال عفو صاحب الحق عنها، أو كون الحق فيها
للجماعة. وبعبارة أخرى: يجوز للإمام ترك التعزير إذا لم يتعلق به حق لآدمي
(2)، لما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أقيلوا ذوي الهيئات
عثراتهم إلا في الحدود» (3).
وأما السلطة القضائية فهي التي تفسر القانون وتطبقه على الوقائع التي تعرض
عليها في الخصومات. وهذه هي مهمة القاضي في الإسلام حيث إنه يقوم بتنفيذ
أحكام الشريعة بكل دقة وأمانة، وقد بلغ تنظيم القضاء في عهد الإسلام شأواً
رفيعاً لم يسبق إليه.
وسأفصّل الكلام هنا في أهم وظائف الدولة
الداخلية الإدارية والقضائية وهي ما يأتي:
1 - المحافظة على الأمن والنظام، والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر:
44 - كان من اختصاص رجال الشرطة الإدارية في العهد الإسلامي أمور منها (4):
أـ حفظ النظام: وذلك بمنع الفوضى
والتجمعات في الطرق والأماكن
_________
(1) المبسوط: 113/ 9، فتح القدير: 197/ 4، البدائع: 56/ 7، الدر المختار
ورد المحتار: 189/ 4.
(2) الدر المختار: 204/ 3.
(3) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن عدي والعقيلي من حديث عائشة رضي
الله عنها، وقال العقيلي: له طريق وليس فيها شيء يثبت (التلخيص الحبير: ص
361، جامع الأصول: 344/ 4، مجمع الزوائد: 282/ 6، نيل الأوطار: 135/ 7).
(4) عبقرية الإسلام في أصول الحكم للدكتور منير العجلاني: ص 370، ط
الثانية.
(8/6366)
العامة، والسهر على المواكب، ومرافقة
الأمير أو صاحب السلطان في تنقلاته لإظهار هيبته ودفع الناس عنه وتلقي
أوامره.
ب ـ حفظ الأمن: وذلك بمراقبتهم الأشرار
والدعار واللصوص، وطلبهم في مظانهم، وأخذهم على يد كل من يرتكب عدواناً على
غيره، أو يقدم على عمل من شأنه إثارة الناس وتهييج الفتنة.
قال الماوردي: القاعدة الرابعة من القواعد التي تصلح بها الدنيا: أمن عام
تطمئن إليه النفوس، وتنتشر فيه الهمم، ويسكن إليه البريء، ويأنس به الضعيف،
فليس لخائف راحة، ولا لحاذر طمأنينة، وقد قال بعض الحكماء: الأمن أهنأ عيش،
والعدل أقوى جيش (1).
45 - ولكن لا يقتصر دور الدولة الإسلامية على مجرد توفير وضمان الأمن
والطمأنينة للأفراد وصيانة حياتهم وأموالهم ودفع العدوان الداخلي والخارجي
عنهم، والإشراف على إطاعة الأنظمة والأحكام، وإنما على الدولة والأفراد أن
يخطوا خطوة إيجابية بالتضامن والتكافل معاً (2) نحو إيجاد باعث شخصي على
احترام حقوق الآخرين، والإذعان للنظام المتبع، وذلك بالقيام بواجب الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر ليتحقق المقصد الأساسي للشريعة: وهو إصلاح
المجتمع، أي الحياة الاجتماعية إصلاحاً جذرياً على نحو يستقر فيه الأمن
العام
_________
(1) أدب الدنيا والدين مع شرحه: ص 247، ط تركيا.
(2) مثَّل الرسول صلّى الله عليه وسلم في حديث السفينة هذا الواجب التكافلي
بين الفرد والجماعة بالنهي عن المنكر أروع تمثيل، فقال - فيما رواه البخاري
والترمذي - عن النعمان بن بشير: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها
كمثل قوم استهموا في سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين
في أسفلها إذا استقوا مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا
خرقاً ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا، وإن أخذوا على أيديهم
نجوا ونجوا جميعاً» (جامع الأصول: 340/ 4، الترغيب والترهيب: 235/ 3).
(8/6367)
والعدل بين الناس، وصيانة الحريات الأساسية
بدافع ذاتي ومحبة خالصة لمصالح الآخرين. وكل فرد يعتبر مسؤولاً بنفسه عن
الأمر بالمعروف، فإن قصر فهوآثم مخطئ، ويكفل هذا الأصل اليوم ما يسمى بحرية
النقد، ويقال له في الاصطلاح الحديث حق الدفاع الشرعي العام (1).
لكن الإسلام اعتبر ذلك واجباً، وبين أن النقد له حدود تقيده في الإسلام حتى
يكون نقداً بناء غير هدام. قال النووي في المنهاج: (ومن فروض الكفاية:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وعلق الشارح بقوله: يجب على الإمام أن
ينصب محتسباً (2) يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر (3). وقال الماوردي: أكد
الله زواجره بإنكار المنكرين لها، فأوجب الأمر بالمعروف ـ الواجب ـ والنهي
عن المنكر ـ الحرام (4). هذا الحكم بالوجوب باتفاق الفقهاء، إلا أن جمهورهم
قالوا: هو فرض كفاية كالجهاد. وقال بعضهم: هو فرض عين على المستطيع كالحج
(5).
_________
(1) التشريع الجنائي الإسلامي للأستاذ عبد القادر عودة: 86/ 1 و 491.
(2) يميز بين الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأن الثاني واجب
ديني، وأما الحسبة فهي نظام واسطة بين أحكام القضاء وأحكام المظالم يقوم
بالرقابة والضبط والردع، وله قواعد وأصول ثابتة في الإسلام غايته تحقيق
واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (ر: الأحكام السلطانية للماوردي:
ص231 ومابعدها، ولأبي يعلى: ص 268 حيث قال كلاهما: الحسبة هي أمر بالمعروف
إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله، الحسبة لابن تيمية: ص 8، إحياء
علوم الدين: 274/ 2، ط العثمانية ـ عبقرية الإسلام في أصول الحكم: ص 335
وما بعدها).
(3) المنهاج مع مغني المحتاج: 211/ 4، الحسبة لابن تيمية، المكان السابق.
(4) أدب الدنيا والدين، المرجع السابق: ص 156.
(5) المحلى: 440/ 9، تفسير الكشاف: 340/ 1، تفسير ابن كثير: 390/ 1، تفسير
الرازي: 19/ 3، تفسير الألوسي: 21/ 4، إحياء علوم الدين: 869/ 2، أحكام
الجصاص: 35/ 2 وما بعدها و 592، ط البهية المصرية، تفسير الطبري: 38/ 4، ط
الثانية، الحلبي، تفسير القرطبي: 165/ 4 طبعة مصورة.
(8/6368)
46 - والأمر
بالمعروف: هو الترغيب في كل ما ينبغي قوله، أو فعله طبقاً لقواعد
الإسلام. والنهي عن المنكر: هو الترغيب في ترك ما ينبغي تركه، أو تغيير ما
ينبغي تغييره طبقاً لما رسمه الإسلام (1).
والمعروف: هو كل قول أو فعل ينبغي قوله أوفعله طبقاً لنصوص الشريعة
الإسلامية، ومبادئها العامة وروحها (2)، كالتخلق بالأخلاق الفاضلة والعفو
عند المقدرة، والإصلاح بين المتخاصمين وإيثار الآخرة على الدنيا، والإحسان
إلى الفقراء والمساكين، وإقامة المعاهد والملاجئ والمستشفيات ونصرة المظلوم
والتسوية بين الخصوم في الحكم، والدعوة إلى الشورى، والخضوع لرأي الجماعة
وتنفيذ مشيئتها، وصرف الأموال العامة في مصارفها، إلى غير ذلك (3).
والمنكر: هو كل معصية حرمتها الشريعة سواء أوقعت من مكلف أم غير مكلف (4)،
فمن رأى صبياً أو مجنوناً يشرب خمراً فعليه أن يمنعه ويريق خمره، ومن رأى
مجنوناً يزني بمجنونة أو يأتي بهيمة، فعليه أن يمنع ذلك (5)، وعرف الغزالي
المنكر: بأنه كل محذور الوقوع في الشرع (6).
_________
(1) الإسلام وأوضاعنا السياسية للاستاذ عودة: ص 71.
(2) وبعبارة أخرى: المعروف: هو كل هذه الأصول الكلية التي فرضها الإسلام
لصالح المجتمع الإسلامي، وكل ما يُبنى علىها مما تعرفه العقول الراجحة
والفطر السليمة (ر: تفسير المنار: 27/ 4، التفسير الواضح: 30/ 9 و 61/ 10 و
58/ 14، نظام الحكم في الإسلام للدكتور عبد الله العربي: ص45 و 61).
(3) التشريع الجنائي الإسلامي: 492/ 1.
(4) وبعبارة أخرى: المنكر: هو كل مانهت عنه أصول الشرع الكلية، وكل ما يقاس
عليها في إلحاق الأذى بالمجتمع مما تنكره العقول والفطر السليمة (الدكتور
العربي، المكان السابق).
(5) التشريع الجنائي، المكان السابق.
(6) إحياء علوم الدين للغزالي: 285/ 2، ط العثمانية. قال الغزالي: وعدلنا
عن لفظ المعصية إلى هذا (أي محذور الوقوع) لأن
المنكر أعم من المعصية، إذ من رأى صبياً أو مجنوناً يشرب الخمر
فعليه أن يريق خمره ويمنعه، وكذا إن رأى مجنوناً يزني بمجنونة أو بهيمة
فعليه أن يمنعه منه.
(8/6369)
47 - وقد أوجب الله على الحكومة والأفراد
القيام بواجب الأمر والنهي، لأن في ذلك إقامة أمر الله وهدم كل ما يخالف
الإسلام، ومن أهم واجبات الدولة ـ كما ذكر الماوردي وغيره ـ إقامة الإسلام
بالقضاء على الشرك ومظاهره، والتمكين لدين الله الحنيف، قال الله تعالى:
{ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر،
وأولئك هم المفلحون} [آل عمران:104/ 3] {الذين إن مكّناهم في الأرض أقاموا
الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور}
[سورةالحج:41/ 22] {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن
المنكر وتؤمنون بالله} [آل عمران:110/ 3] {لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل
على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا
يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون} [المائدة:78/ 5 - 79].
وحرض القرآن الكريم أيضاً على ضرورة تعاون المؤمنين في القيام بهذا الواجب،
فقال سبحانه: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف
وينهون عن المنكر} [التوبة:71/ 9].
وأيدت السنة النبوية ذلك المفهوم، فقال صلّى الله عليه وسلم: «كلكم راع،
وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع ومسؤول عن رعيته» (1)، «من رأى منكم
منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك
أضعف الإيمان» (2) «إن
_________
(1) رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن ابن عمر (جامع الأصول: 444/
4، الفتح الكبير، مجمع الزوائد: 207/ 5).
(2) رواه مسلم وأبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري
(جامع الأصول: 228/ 1).
(8/6370)
الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه
أوشك أن يعمّهم الله بعقاب» (1)، «أفضل الجهاد كله حق عند سلطان وأمير
جائر» (2)، «والذي نفسي بيده لتأمرُن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو
ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم» (3).
هذه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تدل على أن غاية الدولة الإسلامية
ليست سلبية، وإنما لها غاية إيجابية أيضاً، أي ليس من مقاصدها المنع من
العدوان، وحفظ حرية الناس فقط، بل إن هدفها الأسمى هو نظام العدالة
الاجتماعية الذي جاء به كتاب الله، وغايتها في ذلك النهي عن جميع أنواع
المنكرات التي منعها الله تعالى. قال ابن تيمية: إن صلاح المعاش والمعاد في
طاعة الله ورسوله، ولا يتم ذلك إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبه
صارت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس (4).
48 - ووسائل دفع المنكر كثيرة، منها التعريف والبيان، والوعظ والإرشاد،
والدعوة والتبليغ، والتربية والتعليم، والتعنيف، والتغيير باليد، والتهديد
بالضرب والقتل، والاستعانة بالغير، والقوة السياسية، والرأي العام والنفوذ
_________
(1) رواه الترمذي وأبو داود من حديث قيس بن أبي حازم عن أبي بكر (جامع
الأصول: 233/ 1) وذكره ابن تيمية في السياسة الشرعية: ص 75 بلفظ (إن الناس
إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه).
(2) رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي سعيد الخدري واللفظ لأبي داود
(جامع الأصول: 235/ 1).
(3) رواه الترمذي عن حذيفة بن اليمان وقال: «حديث حسن غريب» ورواه ابن ماجه
من حديث حديث عمرو بن أبي عمرو (جامع الأصول، المكان السابق، تخريج أحاديث
إحياء علوم الدين للعراقي: 270/ 2 وما بعدها).
(4) السياسة الشرعية: ص 73.
(8/6371)
الاجتماعي بحسب الظروف والأحوال (1).
وعلى الدولة المساهمة البناءة في هذا المضمار، فتخصص لإزالة المنكر ما يعرف
في الإسلام بالمحتسب، وهو المسلم المكلف (البالغ العاقل) القادر على الأمر
بالمعروف ودفع المنكر ورفع الظلم مما ليس من خصائص الولاة والقضاة وأّهل
الديوان ونحوهم (2). قال ابن تيمية: (وجميع الولايات الإسلامية إنما
مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء في ذلك ولاية الحرب الكبرى
مثل نيابة السلطنة، والصغرى مثل ولاية الشرطة وولاية الحكم، أو ولاية المال
وهي ولاية الدواوين، وولاية الحسبة (3)).
وهناك مسألة فلسفية بحثها العلماء وهي أنه هل وجوب النهي عن المنكر بالعقل
أو بالشرع (4).
2 - تنظيم القضاء وإقامة العدل:
49 - إن غاية الدولة الإسلامية هي تحقيق مصالح الناس ورفع الضرر عنهم، وذلك
بإقامة التوازن والعدل فيما بينهم، ومنع تعدي بعضهم على بعض.
وبما أن تنظيم القضاء ونصب القضاة مظهر من مظاهر إقامة العدل، كان من
_________
(1) إحياء علوم الدين: 277/ 2، ط العثمانية، مختصر منهاج القاصدين: ص 127
وما بعدها، ط الثانية، التشريع الجنائي الإسلامي: 505/ 1 وما بعدها، نظرية
الإسلام السياسية للمودودي: ص 45 وما بعدها.
(2) إحياء علوم الدين: 274/ 2، الأحكام السلطانية للماوردي وأبي يعلى،
المكان السابق، التراتيب الإدارية للكتاني: 284/ 1، منير العجلاني: ص 342.
(3) الحسبة له: ص 8.
(4) قال بعض المتكلمين: (وجب ذلك بالعقل وقال آخرون: وجب ذلك بالشرع دون
العقل) (ر: للتفصيل أدب الدنيا والدين مع شرحه: ص 158 وما بعدها).
(8/6372)
أعظم الواجبات التي اهتم بها فقهاء الإسلام
وخلفاؤه، فأبانوا شروطه، ووضعوا خطته وحددوا طرق الفصل بين الناس تحديداً
دقيقاً، وكان اختيار الخليفة للقاضي مثلاً فذاً من أمثلة الحفاظ على مصالح
الناس (1)، لأن غاية القضاء التي يمتاز بها في الإسلام هي إقامة العدل
باعتبار أن العدل هوقوام العالمين، لا تصلح الدنيا والآخرة إلا به (2)،
فكان العدل هو شعار فض الخصومات والمنازعات بين الناس. ومن أهم ضوابط العدل
هو تنفيذ أحكام شريعة الله دون تفرقة بين الحاكم والمحكومين، لأن الكل
خاضعون لحكم الله.
فمن تنظيمات القضاء الإسلامي أنه خصص للنظر في محاكمة أصحاب النفوذ والولاة
وعمال الدولة ما يعرف المظالم (3) التي تشبه (مجلس الدولة) في بعض
اختصاصاته الآن (4). قال المرجاني في وفية الإسلام (5): النظر في المظالم
وظيفة أوسع من وظيفة القاضي ممتزجة من السطوة السلطانية، ونصفة القضاء،
بعلو بيِّن، وعظيم رغبة تقمع الظالم من الخصمين، وتزجر المتعدي، ويمضي ما
عجز القضاة ومن دونهم عن إمضائه، ويكون نظره في البينات والتقرير واعتماد
القرائن والإمارات وتأخير الحكم إلى استجلاء الحق وحمل الخصم على الصلح،
واستحلاف الشهود، وكان الخلفاء يباشرونها بأنفسهم إلى أيام المهتدي بالله،
وربما سلموها إلى قضاتهم. وعلق الأستاذ الكتاني على ذلك بقوله: هذه الوظيفة
كان يليها المصطفى صلّى الله عليه وسلم بنفسه؛ لأنه كان ينتقد أحكام قضاته
وعماله ويناقشهم (6).
_________
(1) ر: السياسة الشرعية لابن تيمية: ص: 20 و 152، وباب القضاء في كتب
الفقه.
(2) المرجع السابق: ص 156.
(3) قال الماوردي في الأحكام السلطانية: ص 73: نظر المظالم: هو قود
المتظالمين إلى التناصف بالرهبة وزجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة.
(4) التراتيب الإدارية للكتاني: 266/ 1، النظريات السياسية الإسلامية
للدكتور الريس: ص 67.
(5) ص: 366.
(6) التراتيب الإدارية، المكان السابق.
(8/6373)
وقال الماوردي: «والذي يختص بنظر المظالم
يشتمل على عشرة أقسام، فالقسم الأول: النظر في تعدي الولاة على الرعية
وأخذهم بالعسف في السيرة، فهذا من لوازم النظر في المظالم الذي لا يقف على
ظلامة متظلم، فيكون لسيرة الولاة متصفحاً، وعن أحوالهم مستكشفاً ليقويهم إن
أنصفوا، ويكفهم أن عسفوا، ويستبدل بهم إن لم ينصفوا» (1).
50 - إلا أنه لم يكن للقضاة في الإسلام غير النظر في المسائل المدنية (أو
نظام الأموال) والأحوال الشخصية. أما القضاء الجزائي في الجرائم وإقامة
الحدود والنظر في المظالم، فكان من اختصاص الخلفاء والأمراء إلا في عهد
معاوية حيث تخلى عن حق النظر في بعض المسائل الجزائية المحدودة إلى قاض
خاص.
ولا مانع شرعاً من وضع نظام للسلطة القضائية يحدد اختصاصاتها ويكفل تنفيذ
الأحكام، ويضمن لرجالها حريتهم في إقامة العدل بين الناس (2). وهو أمر
ضروري في كل عصر يقل فيه الورع، وتكثر الأهواء وتزداد الخصومات، وتراعى فيه
تطورات الزمن.
51 - ومن المعلوم أن القرآن والسنة النبوية أكدا على ضرورة التزام العدل
المطلق في كل الأحكام العامة والخاصة وفي مختلف أحوال الحكم والإدارة، لا
في مجال القضاء فقط، قال الله عز وجل: {إن الله يأمر بالعدل} [النحل:90/
16] {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} [النساء:58/ 4] {وإذا قلتم
فاعدلوا ولو كان ذا قربى} [الأنعام:152/ 6] {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا
تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة:8/ 5].
_________
(1) الأحكام السلطانية: ص 76، ولأبي يعلى: ص 61.
(2) السياسة الشرعية للأستاذ خلاف: ص 49 وما بعدها، عبقرية الإسلام في أصول
الحكم لمنير العجلاني: ص 440 وما بعدها.
(8/6374)
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «أحب
الناس إلى الله يوم القيامة وأدناهم منه مجلساً: إمام عادل، وأبغض الناس
إلى الله تعالى، وأبعدهم منه مجلساً: إمام جائر» (1)، وقال عليه الصلاة
والسلام أيضاً: «لا تقدس أمة لا يقضى فيها بالحق، ولا يأخذ الضعيف حقه من
القوي غير مُتَعْتَع» (2) «يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة» (3).
وقال الماوردي: اعلم أن ما به تصلح الدنيا حتى تصير جميع أحوالها منتظمة،
وجملة أمورها ملتئمة ستة أشياء هي قواعدها وأصولها وإن تفرعت، وهي دين
متبع، وسلطان قاهر، وعدل شامل، وأمن عام، وخصب دائم، وأمل فسيح (4).
والخلاصة: أن العدل هو جِمَاع واجبات الدولة والغاية العامة للحكم
الإسلامي، حتى مع الأعداء، قال الفخر الرازي: (اجمعوا على أن من كان حاكماً
وجب عليه أن يحكم بالعدل) (5)، واستشهد بالآيات المذكورة ونحوها، والعدل ـ
كما أجمع العلماء ـ هو تنفيذ حكم الله.
_________
(1) رواه الترمذي والطبراني في الأوسط من حديث أبي سعيد الخدري (جامع
الأصول: 447/ 4).
(2) رواه الطبراني ورجاله ثقات من حديث معاوية بن أبي سفيان (مجمع الزوائد:
209/ 5).
(3) رواه الطبراني في الكبير والأوسط من حديث ابن عباس، قال الهيثمي: وفيه
سعد أبو غيلان الشيباني ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات وله ألفاظ أخرى (ر:
التلخيص الحبير: 183/ 4، مجمع الزوائد: ص 193/ 5).
(4) أدب الدنيا والدين مع شرحه منهاج اليقين للعلامة أويس وفا الأرزنجاني
العريف بخان زاده ص 226، وقال في الشرح المذكور: ص 240، العدل مصدر بمعنى
العدالة: وهو الاعتدال والاستقامة والميل إلى الحق. وفي الشريعة عبارة عن
الاستقامة على طريق الحق بالاجتناب عما هو محظور دينه، وفي اصطلاح الفقهاء:
من اجتنب الكبائر ولم يصر على الصغائر وغلب ثوابه، واجتنب الأفعال الخسيسة
كالأكل في الطريق والبول.
(5) التفسير الكبير: 355/ 3.
(8/6375)
3 - إدارة المرافق
العامة:
52 - إن طريقة إدارة المرافق العامة في الإسلام كالمساجد والمدارس والمشافي
والجسور والبريد والدفاع والعشور (الجمارك) والري وتوريد المياه ونحوها:
تلتقي مع الطريقة المتبعة الآن وهي طريقة الاستغلال المباشر. ومقتضاها أن
تقوم الدولة نفسها (أو المديرية والمدينة الآن، أو الإمارة أو الولاية في
الماضي) بإدارة المرافق العامة مستعينة بأموالها وموظفيها، ومستخدمة في ذلك
وسائل القانون العام، وهذه هي الطريقة التي تدار بها جميع المرافق العامة
الإدارية في الوقت الحاضر (1).
والإدارة الإسلامية كانت في الماضي كما تقدم على طريقة جعل الوزارة قسمين:
وزارة تفويض ووزارة تنفيذ (2). والإمارة على البلاد نوعين: إمارة خاصة،
وإمارة عامة (3).
أما وزارة التفويض: فهي أن يستوزر الإمام من يفوض إليه تدبير الأموربرأيه
وإمضاءها على اجتهاده. وكان وزير التفويض يوجه سياسة الدولة ويولي الموظفين
ويعزلهم ويجبي الأموال وينفقها، ويسير الجيوش ويجهزها، ويجلس للمظالم ويفصل
فيها (4).
وأما وزارة التنفيذ أو بالمعنى الأدق (إدارة التنفيذ): فهي لتنفيذ ما يصدر
عن الإمام لتدبير سياسة الدولة في الداخل والخارج، ويعتبر وزير التنفيذ
وسيطاً بين السلطان وبين الرعايا والولاة يؤدي عنه ما أمر، وينفذ ما طلب،
ويمضي ما حكم،
_________
(1) مبادئ القانون الإداري للدكتور سليمان الطماوي: ص 65، ط 1955م.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 20 - 26، ولأبي يعلى: ص 13 - 15.
(3) الماوردي المرجع السابق: ص 27 - 30، وأبو يعلى: ص 17 - 21.
(4) منير العجلاني، المرجع السابق: ص 226.
(8/6376)
ويخبر بتقليد الولاة وتجهيز الجيوش
والحماة، ويعرض عليه ماورد منهم وتجدد من حدث ملمّ ليعمل فيه بما يؤمر به:
وأما الإمارة الخاصة: فهي لتدبير الجيوش وسياسة الرعية والدفاع عن كيان
الدولة، وحماية حدود البلاد.
وأما الإمارة العامة فهي نوعان: إمارة استكفاء، وإمارة استيلاء. فإمارة
الاستكفاء تعقد برضا الخليفة واختياره، وصاحبها ينظر في سبعة أمور: هي
النظر في تدبير الجيش والأحكام وتقليد القضاة والحكام، وجباية الخراج، وقبض
الصدقات وتقليد العمال، وحمايةالحريم والدفاع عن البلاد ومراعاة الدين من
تغيير أو تبديل، وإقامة الحدود في حق الله تعالى، وحقوق الناس خاصة،
والإمامة في الجمع والجماعات، وتسيير الحجيج.
وتختص دواوين الدولة أو إدارة المصالح بقضاء مصالح الناس الذين يعيشون في
ظل سلطان الدولة. وأول من وضع الديوان في الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله
عنه (1).
53 - ويلاحظ أن أهم ما يميز إدارة المرافق العامة في الإسلام ملازمتها
للصبغة الدينية، فكان الوالي مسؤولاً عن رعاية أركان الإسلام، بل إن ولاية
الأمراء كانت تسمى (إمارة الصلاة والخراج) أو (الإمارة على الصلاة) ولم يكن
القصد من ذلك إمامة الناس في الصلوات فقط، وإنما كانت تعني الولاية عليهم
في جميع الأمور، فعندما كان النبي صلّى الله عليه وسلم يرسل شخصاً إلى
القبائل ليفقهها في أمور الدين ويعلمها القرآن، كان يعني بذلك إدارة مصالح
القبيلة في كل شؤونها (2).
_________
(1) الماوردي: ص 191 - 211، أبو يعلى: ص 221 - 241.
(2) منير العجلاني، المرجع السابق: ص 282، النظم الإسلامية للدكتور صبحي
الصالح: ص 308.
(8/6377)
4 - الإعداد لحماية
الدولة والدعوة لتدريب الشعب وتصنيع الأسلحة:
54 - إن من أول واجبات الدولة ـ كما ذكرت (عند الماوردي وغيره) فيما عرضته
ـ هو الدفاع عن كيان الدولة وتحصين الثغور، وحماية الرعية، وإعداد العدة
الملائمة والقوة الضاربة وتدريب المقاتلة، وتعلم فنون الحرب وكيفية استخدام
السلاح المناسب للزمان والمكان، فقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم بوصفه
القيادي أو كونه حاكماً بالإضافة إلى كونه رسولاً مبلغاً عن الله يقوم
بإعداد المسلمين لخوض معارك القتال، مما مكنه من تحقيق النصر المؤزر على
الأعداء في غالبية المعارك التي اشترك فيها أو أعد لها.
وعني المسلمون الأوائل من أجل الجهاد بأسلحة الحرب وآلات القتال كالسيوف
والرماح والنبال والدروع والمغافر ونحوها مما كان في الماضي تدرباً وتمرساً
واقتناء وتعلماً.
وكان الخلفاء يحضون الناس على التدرب على مختلف فنون الحرب وآلاتها،
ويحصنون الثغور من أجل الحفاظ على الأمة ورد العدوان عنها، كما هومعروف من
تاريخ الفتوحات الإسلامية.
والإسلام دستور المسلمين يفرض دائماً التزام الحذر من العدو، والاستعداد
للقائه وإعداد الجنود والأسلحة الملائمة للإرهاب وخوض المعارك، قال الله
تعالى: {يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثُباتٍ أو انفروا جميعاً}
[النساء:71/ 4] {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به
عدو الله وعدوكم، وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم} [الأنفال:60/
8].
فهذه الآية أمر إيجابي بالإعداد الملائم لكل القوى المادية والمعنوية التي
يتحقق بها إرهاب العدو.
(8/6378)
وقد أمر الرسول صلّى الله عليه وسلم
بالتدرب على فنون القتال واستعمال السلاح، قال سلمة بن الأكوع: «مرَّ رسول
الله صلّى الله عليه وسلم على نفر من أسلم ينتضلون (1) بالسوق، فقال: ارموا
يا بني إسماعيل، فإن أباكم كان رامياً، ارموا وأنا مع بني فلان ... » (2).
وعن عقبة بن عامر قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «وأعدوا لهم
ما استطعتم من قوة، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي» وقال: «من علم
الرمي ثم تركه، فليس منا» (3).
55 - وأمر عليه الصلاة والسلام أيضاً بصناعة السلاح وحث عليه، فقال: «إن
الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه الذي يحتسب في صنعته
الخير، والذي يجهز به في سبيل الله، والذي يرمي به في سبيل الله .. » (4).
وشجع الرسول صلّى الله عليه وسلم كل أنواع السباق الحربي والرياضة الحربية
فقال: «لاسَبْق إلا في خف أو نصل أوحافر» (5).
واتفق الفقهاء على جواز السباق على جُعْل من غير المتسابقين كالإمام يجعله
للسابق، وقال جمهور الفقهاء: يجوز الجُعل أيضاً من إحدى المتسابقين (6).
واعتبر الفقهاء تعلم مختلف الحرف والصنائع، ولا سيما صناعة الأسلحة من
_________
(1) أي يترامون.
(2) رواه أحمد والبخاري عن سلمة بن الأكوع (نيل الأوطار: 84/ 8).
(3) رواهما أحمد ومسلم عن عقبة (نيل الأوطار: 85/ 8).
(4) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن عقبة بن عامر (نيل الأوطار، المكان
السابق).
(5) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة ولم يذكر فيه ابن ماجه:
أو نصل (نيل الأوطار: 77/ 8).
(6) البدائع: 206/ 6، مغني المحتاج: 313/ 4 وما بعدها، المهذب: 415/ 1 وما
بعدها. المغني: 654/ 8 وما بعدها، نيل الأوطار: 78/ 8.
(8/6379)
فروض الكفايات على جماعة المسلمين (1). قال
ابن تيمية: (ومع أنه يجوز تولية غير الأهل للضرورة إذا كان أصلح الموجود،
فيجب مع ذلك السعي في إصلاح الأحوال حتى يكمل في الناس ما لا بد لهم من
أمور الولايات والإمارات ونحوها، كما يجب على المعسر السعي في وفاء دينه،
وإن كان في الحال لا يطلب منه إلا ما يقدر عليه؛ وكما يجب الاستعداد للجهاد
بإعداد القوة ورباط الخيل في وقت سقوطه للعجز، فإن ما لايتم الواجب إلا به
فهو واجب) (2).
فدل ذلك كله على أنه على المسلمين تعلم كل ما يؤدي إلى التقوية والتفوق
العسكري بحسب متطلبات كل زمان ومكان من تسابق في آلات الحرب وإنتاجها،
وتهيئة عُدَد القتال، وتمرن على استعمالها، وحمل الأسلحة بمختلف أنواعها،
وإنشاء الصناعات الحربية، ومداومة على التدرب، ونحو ذلك من كل ما فيه إعداد
يرهب الأعداء، ويوفر القوة الكافية للمسلمين، قال صلّى الله عليه وسلم:
«المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف» (3).
ثانياً ـ الالتزام بخصائص الدولة الإسلامية وتحقيق أهدافها:
تمهيد:
56 - عرفنا أن الدولة الإسلامية دولة فكرية ذات ارتباط وثيق بالعدل الإلهي،
ويمكن إجمال خصائصها الأولية في ثلاثة (4).
_________
(1) مغني المحتاج: 213/ 4، نهايةا لمحتاج: 194/ 7، رد المحتار على الدر
المختار: 40/ 1، ط الأميرية، غاية المنتهى: 441/ 1، الطرق الحكمية لابن قيم
ص: 247، ط أنصار السنة المحمدية، الشرح الكبير للدردير: 174/ 2.
(2) السياسة الشرعية: ص 21.
(3) رواه مسلم عن أبي هريرة (شرح مسلم: 215/ 16).
(4) نظرية الإسلام السياسية للمودودي: ص 31 و 44 وما بعدها.
(8/6380)
1 - الحاكم الحقيقي فيها هو الله عز وجل،
والسلطة الحقيقية مختصة بالذات العلية، وليس لأحد من الناس نصيب من
الحاكمية، وإنما الحاكم هم رعايا الله ينوبون عن الأمة في تنفيذ شريعة
الإله التي ارتضاها للناس دستوراً دائماً وحكماً فصلاً كما قال تعالى: {إن
الحكم إلا لله} [الأنعام:57/ 6] {ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين}
[الأنعام:62/ 6].
2 - ليس لأحد من دون الله وظيفة تشريعية بغير ما شرع الله للمسلمين لقوله
سبحانه: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [المائدة:44/ 5].
3 - وظيفة الدولة تقتصر على تنفيذ شريعة الله، والحكم بما أنزل الله وتطبيق
ما جاء به النبي من عند ربه، واستحقاقها الطاعة مرهون بذلك لقوله تعالى:
{إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله}
[النساء:105/ 4].
وغاية الدولة الإسلامية وهدفها الأسمى هو تحقيق نظام العدالةالاجتماعية
الذي أمر به الله تعالى، أي إقامة نظام الإنسانية العادل على أساس ما أنزل،
وأبانه رسول الله، قال عليه السلام: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم
بهما: كتاب الله وسنة رسوله» (1).
ومجمل القول: إن الدولة الإسلامية مقيدة بشريعة الله القائمة على العدل
والخير والقوة والنظام والدعوة إلى الإقرار بعقيدة التوحيد، والإيمان بجميع
الرسل والأنبياء. قال عليه السلام: «إن أحسن الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي
هدي محمد صلّى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها ... » (2).
والدولة من أجل ذلك تلتزم بالواجبات الآتية:
_________
(1) أخرجه مالك في الموطأ بلاغاً (جامع الأصول: 186/ 1).
(2) أخرجه البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه (جامع الأصول: 197/ 1).
(8/6381)
1 - تقوية وحدة
الأمة وتعاونها وأخوة أبنائها:
57 - علمنا مما سبق أن المسلمين إخوة وأمة واحدة مهما نأت بهم الديار،
ومقتضى ذلك أنه يجب عليهم جميعاً المشاركة في الآلام، والسعي لتحقيق الآمال
الكبرى، والتعاون البناء في سبيل خير الجماعة، والحفاظ على وحدة الأمة،
وتنمية الروابط المشتركة فيما بينها، وعلى الدولة التي تمثل المسلمين أن
تسعى دائماً لشد أزر عُرَى التضامن الأخوي، ودعم وحدة الأمة وتعاون أفرادها
في شتى الميادين السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية تنفيذاً لقوله
تعالى: {إن هذه أمتكم أمة واحدة} [الأنبياء:92/ 21] {واعتصموا بحبل الله
جميعاً ولاتفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم،
فأصبحتم بنعمته إخواناً، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك
يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون} [آل عمران:103/ 3] {إنما المؤمنون إخوة}
[الحجرات:10/ 49] {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء
بينهم} [الفتح:29/ 48].
فبالوحدة تتوصل الدولة المسلمة إلى نهضة حيوية شاملة في جميع مرافق الحياة
وتصبح عزيزة الجانب مرهوبة السلطان.
ولقد حذر الإسلام من التفرق والفتن والاختلاف، وذكَّر المسلمين في كل آونة
بأنهم إخوة في السراء والضراء للحفاظ على الوحدة المنشودة، فقال: «المسلم
أخو المسلم لايظلمه، ولايخذله، ولايكذبه، ولايحقره .. » (1) «المؤمن للمؤمن
_________
(1) رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة (الترغيب والترهيب: 609/ 3 ومابعدها، شرح
مسلم: 139/ 6) وفي رواية أخرى لمسلم عن الزهري عن سالم عن أبيه: «المسلم
أخو المسلم لايظلمه ولايُسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن
فرَّج عن مسلم كربة فرّج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر
مسلماً ستره الله يوم القيامة» (شرح مسلم: 134/ 16).
(8/6382)
كالبنيان يشد بعضه بعضاً» (1) «انصر أخاك
ظالماً أو مظلوماً، قيل: كيف أنصره ظالماً؟ قال: تحجزه عن الظلم، فإن ذلك
نصره» (2).
ومن زاوية التاريخ نرى أنه قد انتصر الإسلام في جميع عهوده التي كان
المسلمون فيها متحدين متآخين، فبدأ الرسول صلّى الله عليه وسلم بالمؤاخاة
الفعلية بين المسلمين (3)، ثم حقق لهم معنى الإخاء الأكبر الدائم فيما
بينهم، وصار العرب بفضل الإسلام كتلة واحدة بعد أن كانوا في الجاهلية قبائل
متفرقة تمزقهم العداوات والأحقاد والإحن القديمة: {وألَّف بين قلوبهم، لو
أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألَّفت بين قلوبهم، ولكن الله ألَّف بينهم،
إنه عزيز حكيم} [الأنفال:63/ 8].
ولم يتمكن المسلمون من القضاء على أعدائهم بعد النبي عليه السلام إلا بوحدة
الصف وتوحيد الهدف، كما حصل مثلاً في وقعة اليرموك وفي حرب المغول والتتر
وانتصار المسلمين في موقعة عين جالوت، وفي معركة حطين وطرد الصليبيين من
بلاد المشرق وفتح بيت المقدس.
ومن مزايا الإخاء والاتحاد الإسلامي أنه يحقق للمسلمين تسامياً فوق
الاعتبارات الإقليمية الضيقة. أما الدول الحاضرة مثلاً فإنها تسعى لتحقيق
ما يعرف بالوحدة الوطنية المقيدة داخل نطاق أرضي معين، وتحت شعار قومية
واحدة، مع وجود فجوات وحزازات داخلية متعددة.
2 - تحقيق المصالح الأساسية التي تدور عليها
الشريعة:
58 - إن من أول واجبات الدولة رعاية المصالح أو المقاصد التي تقوم عليها
_________
(1) رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي موسى الأشعري (الفتح الكبير).
(2) رواه أحمد والبخاري والترمذي عن أنس (الفتح الكبير) وانظر شرح مسلم:
138/ 16.
(3) مجمع الزوائد: 171/ 8.
(8/6383)
الشريعة وتستهدف تحقيقها: وهي المحافظة على
الأصول الكلية الخمسة المعروفة بالضروريات، والتي لم تبح في ملة من الملل:
وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال. وسميت بالضروريات لأنه يتوقف عليها
حياة الناس الدينية والدنيوية بحيث إذا فقدت، اختل نظام الحياة في الدنيا
وضاع النعيم، واستحق العقاب في الآخرة.
وقد حافظت الشريعة على هذه الأصول من ناحيتين:
الأولى: تحقيقها وإيجادها.
الثانية: المحافظة على بقائها.
فتحقيق مبدأ الدين مثلاً بالإتيان بأركان الإسلام الخمسة، والمحافظة عليه
بمجاهدة من يريد إبطاله، وعقوبة المرتد عنه بالقتل إن لم يتب.
والنفس تتحقق وتوجد بالتزاوج الذي يؤدي إلى بقاء النوع الإنساني، والمحافظة
على بقائها تكون بفرض العقوبة على قاتلها وهو القصاص. فقد شرع القصاص
للحفاظ على النفوس والدماء، لأن القصاص مقررللحياة التي هي من أجلّ
المنافع.
والعقل إذا وهبه الله للإنسان يحافظ عليه بإباحة كل ما يكفل سلامته، وتحريم
ما يفسده أو يضعف قوته كشرب الخمر والمسكرات وتعاطي المخدرات، وإقامة الحد
على الشارب وتعزير متناول الحشيشة والأفيون ونحوهما لغير حاجة طبية.
والنسل شرع لإقامته استحلال البُضْع (1) بطريق مشروع، وللمحافظة عليه شرع
حد الزنى وحد القذف لصيانة الأعراض والكرامات.
_________
(1) البضع، بضم الباء جمعه إبضاع: يطلق على الفرج والجماع ويطلق على
التزويج أيضاً كالنكاح يطلق على العقد والجماع (ر: المصباح المنير).
(8/6384)
والمال شرع لإيجاده السعي في طلب الرزق
والمعاملات بين الناس، وللمحافظة عليه شرع حد السرقة بقطع اليد، وتحريم
الغش والربا وضمان المتلفات عند أخذ المال بالباطل (1).
قال الغزالي جامعاً المقاصد المذكورة (إن مقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو
أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه
الأصول الخمسة فهي مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة)
(2).
وعلى هذا فإن المحافظة على هذه الحقوق الأساسية للأفراد تعتبر من الدعائم
الأولى للحكم الإسلامي التي تتضمن قواعد تنظيم الحياة المدنية، قال الرسول
صلّى الله عليه وسلم في خطبته بحجة الوداع: «أيها الناس، إن دماءكم
وأموالكم، وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا»
(3) «كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه» (4).
59 - وبالمناسبة أبيِّن أنه للدولة دور مهم في تحقيق التوازن بين المصالح
الفردية والجماعية عند التعارض في سبيل الحصول على الحقوق المادية أو
التوصل
_________
(1) ر: الموافقات للشاطبي: 8/ 2 وما بعدها، فواتح الرحموت شرح مسلَّم
الثبوت: 63/ 3 التقرير والتحبير: 144/ 3، شرح العضد على مختصر المنتهى:
240/ 2، روضة الناظر: 414/ 1، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 137، شرح الإسنوي:
63/ 3، الإبهاج شرح المنهاج: 38/ 3.
(2) المستصفى: 140/ 1، ط التجارية، وانظر مثل ذلك في الإحكام للآمدي: 54/ 3
- 55 أعلام الموقعين: 14/ 3.
(3) رواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث جابر بن عبد الله ـ أطول
الأحاديث (ر: شرح مسلم: 182/ 8، 167/ 11، مجمع الزوائد: 265/ 3 جمع
الفوائد: 472/ 1 وما بعدها).
(4) رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه (شرح مسلم: 120/ 16،
الترغيب والترهيب: 309/ 3 وما بعدها).
(8/6385)
إلى المال، إذ أن الإسلام راعى مصلحة الفرد
ومصلحة الجماعة، وأقام توازناً فعالاً بين المصلحتين على وجه يحقق التضامن
والتكافل الاجتماعي، فلم يسمح الإسلام للفرد في الحالات العادية بالطغيان
على حساب المجموع أو يتعدى حدوده، ولا للجماعة أن تسحق مصلحة الفرد لحساب
المجتمع.
كذلك لا تضيع في نظام الإسلام شخصية الفرد، ولا تهدر مصلحة الجماعة، لأن
غاية حياة الإنسان حقيقة في الإسلام هي غاية الجماعة بعينها، أي تنفيذ
القانون الإلهي في الدنيا وابتغاء وجهه في الآخرة كما ذكرت. وبهذا يتحقق
التوازن المطلوب إسلامياً بين الفردية والجماعية رعاية للمصلحتين معاً حتى
يقوى الفرد ويدعم بالتالي الجماعة العامة.
ودليل ذلك أن الإسلام حرم كل ما يؤدي إلى الاستغلال والإخلال بتوازن
الثروات مثل الربا والاحتكار والميسر والغش والرشوة والتغرير والغبن
والتدليس (1) وإنقاص المكيال والميزان واكتناز الذهب والفضة ونحو ذلك.
وألزم الأغنياء بالإنفاق على الفقراء، وأجاز للدولة في مال الأغنياء فرض ما
يكفي من التكاليف المالية لتأمين حاجيات الدفاع عن البلاد.
ومنع تعدي المالك على الناس وإلحاق الضرر بهم، إذ لا ضرر ولا ضرار في
الإسلام، وقال عليه الصلاة والسلام: «من ضارّ أضر الله به، ومن شاقَّ شاق
الله عليه» (2).
وطلب من ولي الأمر الاهتمام بأمر الرعية كما كان يفعل سيدنا عمر بالتنقل
_________
(1) نيل الأوطار: 189/ 5، 212، 220، سنن أبي داود: 270/ 2 ط الحلبي.
(2) رواه أبو داود عن أبي صِرْمة (سنن أبي داود: 283/ 2).
(8/6386)
في الأمصار والطواف بالليل (1) ومشاطرة
الولاة والعمال أموالهم التي جمعوها بدون حق (2).
وأجيز لولي الأمر التدخل في الملكيات الخاصة لدفع الضرر أو لجلب مصلحة عامة
كما فعل الرسول صلّى الله عليه وسلم بأمر مالك النخل بقلع نخلة من بستان
الأنصاري لإيذائه قائلاً له: «أنت مضار» (3)، وكما فعل عمر بالسماح لرجل
يقال له الضحاك بن خليفة بإمرار خليج من الماء في أرض محمد بن مسلمة قائلاً
له: «والله ليمرن به ولو على بطنك» (4).
3 - عمارة الأرض:
60 - إن الله سبحانه استخلف البشر في الأرض بقصد عمارة الكون وإنمائه
واستغلال كنوزه وثرواته، والناس في ذلك شركاء، والمسلمون ينفذون أمر الله
ومقاصده، قال الله تعالى {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها} [هود:61/ 11]
والاستعمار: معناه التمكين والتسلط، كما هو واضح من قوله سبحانه: {ولقد
مكنَّاكم في الأرض، وجعلنا لكم فيها معايش قليلاً ما تشكرون} [الأعراف:10/
7]. وقوله عز شأنه {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة:29/ 2]
{وسخَّر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه} [الجاثية:13/ 45]
{الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء} [البقرة:
_________
(1) سيرة عمر بن الخطاب للأستاذ علي الطنطاوي وأخيه: 201/ 1، 309، السياسة
الشرعية لابن تيمية: ص 141.
(2) التلخيص الحبير: ص 254، السياسة الشرعية لابن تيمية ص 45 وما بعدها.
(3) رواه محمد الباقر عن أبيه علي زين العابدين، وأخرجه أبو داود عن سمرة
بن جندب (سنن أبي داود: 283/ 2، الأحكام السلطانية لأبي يعلى: ص 285).
(4) الموطأ: 218/ 2 وما بعدها.
(8/6387)
22/ 2]. {الذي جعل لكم الأرض مهداً، وسلك
فيها سُبلاً، وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى} [طه:53/
20] {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها، وكلوا من رزقه،
وإليه النشور} [الملك:15/ 67].
واللام في (لكم) تفيد الاختصاص على جهة الانتفاع للمخاطبين، أي أن ذلك مختص
بكم، مما يدل على أن الانتفاع بجميع مخلوقات الأرض، وما فيها من خيرات
مأذون فيه، بل مطلوب شرعاً.
واعتبر الفقهاء تعلم أصول الحراثة والزراعة ونحوها مما تتم به المعايش التي
بها قوام الدين والدنيا من فروض الكفاية (1)، لأن كل فرد من الأفراد عاجز
عن القيام بكل ما يحتاج إليه (2). وخصصوا باباً معيناً للكلام عن (إحياء
الموات) أو بتعبيرنا (استصلاح الأراضي المتروكة) كما فصلوا في بحث (الزكاة)
أحكام المعادن الجامدة والسائلة والركاز، ووضع الإمام أبو يوسف كتابه
(الخراج) لهارون الرشيد أبان فيه كيفية استثمار الأرض وطرق الري من الأنهار
الكبرى وموارد بيت المال من خراج ونحوه (3).
_________
(1) رد المحتار: 40/ 1 الطرق الحكمية لابن قيم ص 247، غاية المنتهى: 441/
1، الشرح الكبير للدردير: 174/ 2.
(2) سمع النبي صلّى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه يقول: اللهم لا
تحوجني إلى أحد من خلقك، فقال: لا تقل هكذا، ليس من أحد إلا وهو محتاج إلى
الناس، قال: فكيف أقول؟ قال: قل: اللهم لاتحوجني إلى شرار خلقك. قلت: يا
رسول الله ومن شر خلقه؟ قال: الذين إذا أعطوا أمنوا، وإذا منعوا عابوا.
وسمع صلّى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه يقول: اللهم إني أسألك
الصبر. فقال: سألت الله البلاء، فسله العافية. وسمع الإمام أحمد بن حنبل
رجلاً يقول: اللهم لاتحوجني إلى أحد من خلقك. فقال: هذا رجل تمنى الموت
(مغني المحتاج: 213/ 4).
(3) انظر فيه مثلاً: ص 91 - 102 و 109 وما بعدها.
(8/6388)
وحض الإسلام عموماً على الضرب في الأرض (أي
السفر التجاري) والسعي الحثيث في مناكبها، والتنقيب عن موارد الرزق في البر
والبحر، والإنشاء والتعمير وتوفير أسباب المعيشة والتنافس المشروع في
كسبها، والتسابق في الخيرات كلها دنيوية أم أخروية؛ لأن معنى استخلاف الله
للبشر وخلافتهم عن الله في الأرض يتطلب إطاعة المستخلف إطاعة كاملة، ولأن
السيطرة على الأرض بتمكين الله للبشرتقتضي استغلال كل أوجه الخير فيها من
استنبات الزرع، وإحياء الضرع، وتشجير الأشجار، واستخراج المعادن والزيوت،
واستثمار المناجم والمحاجر والمقالع وإقامة المساكن والمصانع والقرى والمدن
حتى يعرف بكل ذلك ونحوه عظمة الله وقدرته لأنه هو مانح الحياة لكل
الموجودات.
61 - وذلك على النقيض تماماً من الاتجاه المادي القاتم الذي يوجه الناس نحو
الشعور بألوهية الإنسان لسيطرته على الطبيعة ومواردها، ولتقدمه العلمي
والتقني والفني، مما يؤدي إلى عبادة المادة ويورث الإنسانية كثيراً من
القلاقل والاضطرابات، والعداوة والبغضاء والحروب المدمرة.
لذا فإن عمارة الأرض واستغلالها يتقيدان في الإسلام بإطاعة الله والاهتداء
بهديه والامتناع عما نهى عنه، والاعتقاد بأن الناس جميعاً شركاء في منتجات
الطبيعة المباحة، فكان لا بد لهم من التراحم والتعاون في العمل والنتاج
(العطاء) بدون تخصيص، أو تمييز البشر في الجنس أو اللون أو العنصر بل
والدين أيضاً.
ومن ثم فليس في الإسلام مجال للحقد أو الاستئثار أو الاستعمار بالمعنى
الشائع اليوم، أو حجر الآخرين عن الانتفاع الحر بالأرض، لأن البشر هم خلق
الله، وأحب خلق الله إلى الله أنفعهم لعياله (1). فلا معنى لاستغلال جنس من
_________
(1) قال عليه الصلاة والسلام «الخلق كلهم عيال الله، فأحب خلقه إليه أنفعهم
لعياله» رواه البزار والطبراني (مجمع الزوائد: 191/ 8، الفتح الكبير) وهو
ضعيف.
(8/6389)
الأجناس، أو بلد من البلدان لجنس آخر أو
بلد آخر، قال تعالى: {ومن آياته أن خلقكم من تراب، ثم إذا أنتم بشر
تنتشرون} [الروم:20/ 30]. {ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان،
إنه لكم عدو مبين} [يس:60/ 36].
قال الماوردي: (القاعدة الخامسة من القواعد التي تصلح بها الدنيا: خصب دار
تتسع النفوس به في الأحوال وتشترك فيه ذوو الإكثار والإقلال، لكون الأسعار
رخيصة فيقل في الناس الحسد، وينتفي عنهم تباغض العدم، وتتسع النفوس في
التوسع وتكثر المواساة والتواصل، وذلك من أقوى الدواعي لصلاح الدنيا،
وانتظام أحوالها، ولأن الخصب يؤول إلى الغنى، والغنى يورث الأمانة والسخاء)
(1).
4 - صيانة الآداب الإسلامية:
62 - إن صيانة مقاصد الشريعة الأساسية السابق ذكرها تتطلب من الدولة حماية
دائمة لها في المجتمع، لأن للأخلاق السائدة تأثيراً كبيراً على الأشخاص
وانعكاساً مباشراً في السلوك والتصرفات، لذا كان الدين والخلق أمرين
متلازمين في الإسلام، قال صلّى الله عليه وسلم «الخلق وعاء الدين» (2) وذلك
حتى يتكاتف الدين والخلق في تكوين الشخصية المسلمة المستقيمة، وإلا فسدت
الجماعة، وأصابها الوهن والانحلال، واختل الأمن واضطراب النظام.
ومن أصول الأخلاق الإسلامية: إباحة كل وسائل الفضيلة والمعروف، وتحريم كل
ذرائع الفساد والشر. قال ابن تيمية: (إن المعاصي سبب لنقص الرزق والخوف من
العدو، كما يدل عليه الكتاب والسنة .. ، والشر والمعصية ينبغي حسم
_________
(1) أدب الدنيا والدين مع شرحه: ص 249.
(2) رواه الحكيم الترمذي عن أنس بن مالك (الفتح الكبير).
(8/6390)
مادته، وسد ذريعته (1) ودفع ما يفضي إليه،
إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة .. (2) وقال القرافي: (إن الذريعة هي الوسيلة،
فكما أن وسيلة المحرم محرمة، فوسيلة الواجب واجبة كالسعي للجمعة والحج (3).
وتلزم الدولة الإسلامية شرعاً بالحفاظ على الآداب وحماية الأخلاق، ومنع
المعاصي وردع الفساق وقمع المنكرات وتأديب العصاة حتى تكون الحياة
الإسلامية نظيفة من الشوائب بعيدة عن المكدرات وأسباب الفوضى والانحراف.
قال الماوردي: (الذي يلزم الإمام إقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن
الانتهاك، وتحفظ حقوق عبادة من إتلاف واستهلاك) (4)، وقال علي بن أبي طالب
رضي الله عنه: (لا بد للناس من إمارة برَّة كانت أو فاجرة، فقيل: يا أمير
المؤمنين: هذه البرة قد عرفناها، فما بال الفاجرة؟ فقال: يقام بها الحدود،
وتأمن بها السبل، ويجاهد بها العدو ويقسم بها الفيء) (5).
5 - إقامة العدالة الاجتماعية:
63 - على الدولة أيضاً تحقيق التكافل الاجتماعي بين الناس، لأنها مسؤولة عن
الرعية وعن ضرورة إقامة العدل ومنع الظلم وغيره، وتحقيق التعاون على البر
والتقوى من استيفاء الحقوق وإعطاء المستحقين ونحوه (6)، قال النبي صلّى
الله عليه وسلم: «المؤمن
_________
(1) الذريعة: الوسيلة.
(2) السياسة الشرعية: ص 68 و 140 وما بعدها.
(3) الفروق: 33/ 2 وانظر أيضاً أعلام الموقعين لابن قيم: 147/ 3.
(4) الأحكام السلطانية ص 14 وقد سبق ذكره.
(5) السياسة الشرعية لابن تيمية: ص 63 وما بعدها.
(6) المرجع السابق: ص 47.
(8/6391)
للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً» (1). «من
ترك كَلاًّ أو ضَياعاً فأنا وليه» (2) «ليس المؤمن بالذي يشبع وجاره يجوع
إلى جنبه» (3) «إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع
فقراءهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا أو عروا إلا بما يصنع أغنياؤهم، ألا
وإن الله يحاسبهم حساباً شديداً، ويعذبهم عذاباً أليماً» (4) «أيما أهل
عَرْصة ـ بقعة ـ أصبح فيهم امرؤ جائعاً فقد برئت منهم ذمة الله تبارك
وتعالى» (5).
64 - ووسائل الدولة لتأمين معيشة رعاياها كثيرة أهمها: تهيئة سبل الكسب
المشروع، ووسائل العمل الشريف مع تكافؤ الفرص، وتحقيق الحاجات الأساسية من
مسكن ومأكل وملبس أولاً. ومن عجز عن العمل فنفقته على أقاربه الموسرين، فإن
لم يوجدوا فعلى بيت المال، كما هو معروف عند الفقهاء.
قال الماوردي: (القاعدة الثالثة مما يصلح به حال الإنسان في الدنيا: المادة
الكافية؛ لأن حاجة الإنسان لازمة لا يعرى منها بشر، قال الله تعالى في
الأنبياء:
_________
(1) سبق تخريجه.
(2) رواه البخاري ومسلم ورواه أبو داود عن المقدام بن معد يكرب بلفظ «من
ترك كلا فإلي» ورواه أحمد والبيهقي بلفظ «ومن ترك كلاً فإلى الله ورسوله»
(صحيح البخاري: 273/ 8 جامع الأصول 384/ 10، شرح مسلم 61/ 11، الفتح
الكبير).
كلاً: أي ثقلاً فيشمل الدين والعيال. والضياع: اسم ما هو في معرض أن يضيع
إن لم يتعهد كالذرية الصغار والزمنى الذين لا يقومون بحاجة أنفسهم.
(3) رواه البيهقي عن ابن عباس وكذا رواه الطبراني وأبو يعلى عنه ورجاله
ثقات (مجمع الزوائد: 167/ 8).
(4) رواه الطبراني في الأوسط والصغير، وروي على علي بن أبي طالب رضي الله
عنه وهو أشبه (الترغيب والترهيب: 538/ 1، مجمع الزوائد: 62/ 3).
(5) رواه أحمد والحاكم وفي إسناده أصبغ بن زيد وكثير بن مرة، والأول مختلف
فيه، والثاني قال عنه ابن حزم: إنه مجهول، وقال غيره: معروف ووثقه ابن سعد
وروى عنه جماعة واحتج به النسائي (نيل الأوطار: 221/ 5).
(8/6392)
{وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام
وماكانوا خالدين} [الأنبياء:8/ 21]. فإذا عدم المادة التي هي قوام نفسه لم
تدم له حياة، ولم تستقم له دنيا، وإذا تعذر شيء منها عليه لحقه من الوهن في
نفسه والاختلال في دنياه بقدر ما تعذر من المادة عليه؛ لأن الشيء القائم
بغيره يكمل بكماله، ويختل باختلاله) (1).
وقد أطلق القرآن للإنسان حرية الاستمتاع بالطيبات المباحة، قال تعالى:
{كلوا من طيبات ما رزقناكم} [طه:81/ 20] {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا
طيبات ما أحل الله لكم} [المائدة:87/ 5].
ويعبر الفقهاء عن واجب الدولة بتأمين العاجزين عن العمل بدفع ضرر المسلمين
إلى حد الكفاية، قال النووي: (من فروض الكفاية: دفع ضرر المسلمين ككسوة
عار، وإطعام جائع إذا لم يندفع بزكاة وبيت مال) وتساءل شارح المنهاج (هل
يكفي سد الضروة، أم يجب تمام الكفاية التي يقوم بها من تلزمه النفقة؟ قال:
فيه وجهان: قيل: ما يسد الرمق، والأوجه ما يحقق الكفاية) (2). وقال ابن
حزم: (فرض على الأغنياء من كل بلد أن يقوموا بفقرائها، ويجبرهم السلطان على
ذلك إن لم تقم الزكوات بهم، ولا في سائر أموال المسلمين، فيقام لهم بما
يأكلون من القوت الذي لا بد منه، ومن اللباس في الشتاء والصيف بمثل ذلك،
وبمسكن يكنّهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة) (3).
فعلى الحاكم إذن تحقيق العدالة الاجتماعية بين الفقراء والأغنياء رعاية
للمصلحة العامة، وله أن يتوصل لهذه الغاية بما يفرضه من تكاليف وضرائب على
_________
(1) أدب الدنيا والدين مع شرحه: ص 363.
(2) المنهاج مع مغني المحتاج: 212/ 4.
(3) المحلى: 452/ 6، م 725.
(8/6393)
الأغنياء بحسب الحاجة بالإضافة إلى فريضة
الزكاة (1). لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن في المال حقاً سوى الزكاة» (2)
وليس هنا مجال التفصيل (3).
وهذا المبدأ في الإسلام شامل لكل المواطنين، سواء أكانوا مسلمين أم ذميين
كما أوضح الفقهاء (4) بدليل أن سيدنا عمر بن الخطاب أسقط الجزية عن شيخ من
أهل الذمة، وفرض له من بيت المال ما يكفيه، وقال للخازن: (انظر هذا
وضرباءه، فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته، ثم نخذله عند الهرم) (5).
وجاء في كتاب خالد بن الوليد لأهل الحيرة: (وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن
العمل، أو أصابته آفة من الآفات أو كان غنياً فافتقر، وصار أهل دينه
يتصدقون عليه، طُرحت جزيته، وعيل من بيت مال المسلمين وعياله، ما أقام بدار
الهجرة ودار الإسلام) (6).
6 - تحقيق الحياة الطيبة للأفراد بالنظر
الإسلامي:
65 ـ إن من أهم أصول النظام الاجتماعي الإسلامي هو تحقيق الحياة الطيبة
الكريمة للناس، الجامعة بين خيري الدنيا والآخرة، والقائمة على أساس العمل
_________
(1) الاعتصام للشاطبي: 121/ 2، المستصفى للغزالي: 140/ 1 - 142 ط التجارية،
تفسير القرطبي: 232/ 2.
(2) رواه الترمذي عن فاطمة بنت قيس، وقال: إسناده ليس بذاك، وروى ابن حزم
عن ابن عمر أنه قال: (في مالك حق سوى الزكاة) ثم قال: وصح عن الشعبي ومجاهد
وطاوس وغيرهم كلهم يقول: في المال حق سوى الزكاة، ثم ذكر أنه لا خلاف في
هذا إلا عن الضحاك بن مزاحم وهو ليس بحجة (التلخيص الحبير: ص 177، أحكام
القرآن للجصاص: 153/ 1، سنن الترمذي باب الزكاة: 21/ 3 ط حمص).
(3) ر: زكاة، ضريبة.
(4) مغني المحتاج، المكان السابق، نهاية المحتاج: 194/ 7.
(5) منتخب كنز العمال من مسند أحمد: 309/ 2، الخراج لأبي يوسف: ص 126.
(6) الخراج: ص 144.
(8/6394)
الصالح مادياً ومعنوياً؛ إذ أن صلاح العمل
يرتد أثره بالخير الكامل والسعادة والنعيم على الفرد والمجتمع، بدليل قوله
تعالى: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن، فلنحيينه حياة طيبة،
ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل:97/ 16]. والمقصود بالحياة
الطيبة: توفر السعادة والرخاء والقناعة والغنى عن الغير والاتجاه إلى الله
سبحانه، والبعد عن الضنك والتعب، قال عبد الله التستري: (الحياة الطيبة: هي
أن ينزع عن العبد تدبيره، ويرد تدبيره إلى الحق) وقيل: هي الاستغناء عن
الخلق والافتقار إلى الحق.
قال ابن كثير في تفسير الآية السابقة: (هذا وعد من الله تعالى لمن عمل
صالحاً وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى، وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلم
من ذكر أو أنثى من بني آدم، وقلبه مؤمن بالله ورسوله، وأن هذا العمل
المأمور به مشروع من عند الله بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا وأن
يجزيه بأحسن ما عمله في الدار الآخرة، والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من
أي جهة كانت (1).
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله لا يظلم
المؤمن حسنة يعطى بها في الدنيا، ويثاب عليها في الآخرة. وأما الكافر فيطعم
بحسناته في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يعطى بها
خيراً» (2) وقال صلّى الله عليه وسلم: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً»
(3).
66 - وطريق تحقيق الحياة الطيبة في الدنيا يتجلى من خلال النظرة إلي المال
والعمل. أما نظرة الإسلام إلى المال فهو أنه مال الله. وأما نظرته إلى
العمل فهو
_________
(1) تفسير القرآن العظيم: 585/ 2.
(2) رواه مسلم وأحمد (فيض القدير والفتح الكبير).
(3) رواه مسلم وأحمد وابن عدي والترمذي عن أبي هريرة (كشف الخفا للعجلوني).
(8/6395)
وسيلة القادر عليه لتحصيل الرزق، وقد حث
القرآن عليه في قوله تعالى: {فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه
النشور} [الملك:15/ 67] وطالبت السنة بإتقان الأعمال: «إن الله تعالى يحب
إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه» (1) وبضرورة الحفاظ على الكرامة الشخصية
وعزة النفس، جاء في الأحاديث: «لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يغدو إلى الجبل
فيحتطب، فيبيع، فيأكل، ويتصدق خير له من أن يسأل الناس» (2) «اطلبوا
الحوائج بعزة الأنفس، فإن الأمور تجري بالمقادير» (3) «اليد العليا خير من
اليد السفلى» (4) «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس» (5) «لا
تحل الصدقة لغني ولا لذي مِرّة سوي» (6).
وأما المقصود من الزهد المرغب فيه في الإسلام، فمعناه العمل الإيجابي لنفع
الآخرين ولو بترك السعادة الشخصية أو هو الاقتصار على السبل المشروعة
المتميزة بالقناعة عند اصطدام المساعي وتنازع المصالح، قال شراح حديث:
«ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس» (7): الزهد:
هو الإعراض عن الشيء لاستصغاره وارتفاع الهمة عنه لاحتقاره، لقوله تعالى:
{قل متاع
_________
(1) رواه البيهقي في شعب الإيمان عن عائشة، قال السيوطي: حديث ضعيف (فيض
القدير شرح الجامع الصغير).
(2) رواه مالك والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة (الترغيب
والترهيب: 592/ 1).
(3) ذكره تمام في فوائده وابن عساكر في تاريخه عن عبد الله بن بسر (فيض
القدير شرح الجامع الصغير والفتح الكبير).
(4) رواه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عمر: (شرح مسلم:
124/ 7، الترغيب والترهيب: 585/ 1).
(5) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة (الترغيب
المرجع السابق: 589/ 1).
(6) رواه الطبراني في الكبير والبزار وفيه ابن لهيعة وفيه كلام (مجمع
الزوائد: 91/ 3).
(7) حديث حسن رواه ابن ماجه وغيره بأسانيد حسنة عن أبي العباس سهل بن سعد
الساعدي (الأربعين النووية).
(8/6396)
الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى}
[النساء:77/ 4] قيل للزهري: ما الزهد؟ قال أما إنه ليس تشعيث اللِّمة ولا
قشف الهيئة، ولكنه صرف النفس عن الشهوة. وقال ابن السَّماك: الزاهد: هو
الذي إذا أصاب الدنيا لم يفرح، وإذا أصابته لم يحزن، يضحك في الملا، ويبكي
في الخلا، أي عند ذكر الله في الخلوة (1).
67 - ودور الدولة في تحقيق الحياة الطيبة يظهر في محاولتها توفير الرفاه
والرخاء الاقتصادي بتشجيع وسائل الإنتاج من صناعة وتجارة وزراعة التي هي
أفضل المكاسب في الإسلام، كما أنها تفتح مجالات الأمل والعمل لاستنزاف
البطالة، وتوسع دائرة التعليم والتثقيف الديني ـ الأخلاقي، وتوفر للمواطنين
الثقة والأمن والطمأنينة بردع العدو وتأديب العصاة، وتحد من سلطان الأطماع
الطاغية وتحارب الوسائل غير المشروعة، وتزيل كل منافذ الفتنة والإغراء
والانحراف، وتقمع كل طرق الشر والفساد، كما يتجلى ذلك في سيرة الخلفاء
الراشدين وعهود القوة والازدهار في الدول الإسلامية المتتابعة.
7 - تحقيق المجتمع الخير (
Welfare state)
:
68 - إن من أهم وظائف الدولة الخيرة الدعوة إلى الخير، والعمل الإيجابي على
تحقيق مقتضيات الخير للمجتمع، وتحقيق الفلاح له في كل آفاق الحياة. وهذا ما
يحاول الفقه السياسي في الغرب أن يصل إليه بما يسميه (دولة الفاهية) قال
تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير} [آل عمران:104/ 3] {فاستبقوا
الخيرات} [البقرة:148/ 2] {ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في
الخيرات} [آل عمران:114/ 3] {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات
_________
(1) تذكرة الدعاة للبهي الخولي: ص 145.
(8/6397)
ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا
خاشعين} [الأنبياء:90/ 21]. ونطاق العمل الإيجابي في سبيل خير الرعية لا
حدود له، فهو يشمل مثلاً حماية الرعية من كل عدوان في الداخل والخارج،
والعمل على بث العمران في أرجاء الدولة بكل ما يتطلبه من مرافق، وتنمية
عناصر الثروة القومية في سبيل القضاء على الفقر الذي يبغضه الإسلام، وتأهيل
الناس كافة للعمل والنتاج، تحقيقاً لتكافؤ الفرص في الكسب، ثم بعد ذلك
كفالة كل عاجز عن الكسب صوناً لآدميته وكرامته الإنسانية، والعمل على بث
مصادر الثروة في ثنايا المجتمع حتى لا تنحصر في أيدي فئة قليلة تتداولها
فيما بينها، كما جاء في التوجيه القرآني: {كيلا يكون دولة بين الأغنياء
منكم} [الحشر:7/ 59]، وغير ذلك من كل ما دعا إليه القرآن من وجوه الخير
التي تتناسب مع الاحتياجات المتطورة للبشرية (1).
8 - العمل المستمر على تحقيق الأفضل في جميع
نواحي الحياة البشرية:
69 - لا يقتصر دور الدولة المسلمة على إصلاح النواحي الاقتصادية أو
الاهتمام بمطالب الحياة المادية فحسب كما تقول الشيوعية، وإنما مهمتها
شاملة لكل جوانب الحياة الإنسانية الفكرية والنفسية والسياسية والخلقية،
لأن الإسلام دين الفطرة (2) والفطرة البشرية تتطلب العناية بجميع هذه
النواحي متضامنة مع بعضها كي تزدهر الحضارة، وتحفظ الحياة الكريمة ويزداد
العمران وترتاح النفوس بتقوية العنصر الأخلاقي الذي يحمي القيم الاقتصادية
وغيرها، لأن الحقائق والقيم الذاتية في تقدير الإسلام ليست أشياء منفصلة عن
المظاهر المادية للحياة الإنسانية،
_________
(1) انظر في ذلك نظام الحكم في الإسلام للدكتور محمد عبد الله العربي: ص
60.
(2) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«ما من مولود إلا يولد على الفطرة، ثم يقول: اقرؤوا {فطرة الله التي فطر
الناس عليها لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم} رواه مسلم والموطأ
والترمذي وأبو داود (جامع الأصول: 178/ 1).
(8/6398)
ولأن المقصد من رسالة الإسلام هوإيجاد
المجتمع الصالح الذي لا يكتفي بتوفير وسائل العيش أورفع مستوى المعيشة فقط،
وإنما لا بد للدولة من العمل على ترقية الوجدان والحياة الخلقية لتقويم
سلوك الأفراد، وتسديد نشاطهم العملي الذي يبوئهم خيري الدنيا والآخرة مع
الشعور بالارتياح والطمأنينة لا بالقهر والقسر.
وعلى الدولة ـ باعتبارها حكومة القرآن ـ أن تسعى دائماً لتحقيق الأفضل
والأصلح لمواطنيها في مختلف جوانب الحياة الإنسانية المادية والأدبية،
فتقيم أركان الإسلام وتنشر الأمن وتدفع خطر الأعداء، وتسارع إلى إحراز
التفوق في كل مجالات التقدم والمدنية والسبق العلمي وإشاعة الرخاء
الاقتصادي، وتطوير الإنتاج والصناعة وأساليب الحياة الحديثة حتى يتحقق
المجتمع الفاضل الذي يريد الإسلام إقامته من الناحيتين الدينية والدنيوية،
قال الله عز وجل {وابتغ فيماآتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من
الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك، ولا تبغ الفساد في الأرض، إن الله لا
يحب المفسدين} [القصص:77/ 28].
وجاء في الأثر: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت
غداً» (1).
9 - إعداد الدعاة لنشر الدعوة في الداخل
والخارج:
70 - إن الغاية السامية التي تعمل من أجلها الدولة الفاضلة: هي توحيد الله
عز وجل وجمع الناس على الإيمان به، وتطهير الأرض من كل رجس وشرك، حتى تكون
كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله. ويجب على الدولة تحقيق ذلك بكل
الوسائل وإقامة النظم السياسية والتشريعية والعملية التي تكفل استقرار
_________
(1) فيض القدير: 12/ 2.
(8/6399)
الناس في ظلال هذه الغاية (1). والوصول إلى
تلك الغاية بتنظيم الدولة طرق الدعوة إلى الإسلام، وإعداد الدعاة الأكفياء
المزودين بالعلم والأخلاق قياماً بمهمة الأنبياء، واقتداء برسول الله صلّى
الله عليه وسلم المبلغ عن ربه رسالة السماء، قال تعالى مبيناً تلك المهمة:
{إنما أنت منذر، ولكل قوم هاد} [الرعد:7/ 13] {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة
والموعظة الحسنة وجاد لهم بالتي هي أحسن} [النحل:125/ 16] {يا أيها الرسول
بلِّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلَّغت رسالته، والله يعصمك من
الناس} [المائدة:67/ 5].
والسبب في إيجاب القيام بالدعوة هوأن الإسلام رسالة اجتماعية إصلاحية ودعوة
عالمية كبرى بعث بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم لتكون نظام الإنسانية
الكامل في حياتها الروحية والمادية، في كل زمان ومكان (2). فالناس جميعاً
مخاطبون بتعاليمها والاستجابة لنظامها (3)، بدليل قوله تعالى: {وما أرسلناك
إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً} [سبأ:28/ 34] {وما أرسلناك إلارحمة
للعالمين} [الأنبياء:107/ 21] {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم
جميعاً} [الأعراف:158/ 7].
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلّى الله عليه وسلم بعث كتبه يدعو
بها إلى الله ملوك الآفاق وطوائف بني آدم من عربهم وعجمهم كتابيهم وأميهم،
وكان بعد تفقيه أصحابه وتعليمهم يرسل الدعاة والمعلمين لشرع الله إلى مختلف
القبائل التي تُسلم لإرشادها إلى قواعد الإسلام ولتفقيهها في أمور الدين.
هذا .. بالإضافة إلى القضاة والفقهاء لتولي الولايات والبلدان الكبرى (4).
_________
(1) تذكرة الدعاة للبهي الخولي: ص 42، ط دار الكتاب العربي: 1951.
(2) تذكرة الدعاة للخولي: ص 14.
(3) أعلام الموقعين: 211/ 2، تحقيق محي الدين عبد الحميد، تفسير المنار:
467/ 6.
(4) تفسير ابن كثير: 254/ 2 وما بعدها، ط الحلبي، سيرة ابن هشام: المجلد:
590/ 2، ط الحلبي، التراتيب الإدارية للكتاني: 194/ 1 وما بعدها.
(8/6400)
وفي آخر مراحل حياته عليه الصلاة والسلام
أشهد ربه في حجة الوداع وغيرها على قيامه بواجب التبليغ، وأمر أن يبلِّغ
الشاهد الغائب.
وبما أن الرسول صلّى الله عليه وسلم هو الأسوة الحسنة، فكان لزاماً على
المسلمين حكاماً ورعية القيام بتبليغ الدعوة الإسلامية وإعداد الدعاة لها
سواء في داخل إقليم الدولة أم في خارجه، وذلك بتخصيص فئة متعلمة تدرس
الشريعة، وتتمثلها، وتصبح القدوة الصالحة ثم تتعلم اللغات الأجنبية، ثم
ترسل إلى سائر البلاد للدعوة في سبيل الله (1) مع دعمها بكتب ومنشورات
مبسطة عن الإسلام في عقائده وعباداته، وأحواله المدنية والشخصية، وقانونه
الجزائي والدولي، وهذا من فروض الكفاية على الأمة الإسلامية، كما أرشد
القرآن إليه في قوله عز شأنه: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير، ويأمرون
بالمعروف وينهون عن المنكر} [آل عمران:104/ 3] والخير: هو الإسلام وشرائعه
التي شرعها الله لعباده، {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في
الدين، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} [التوبة:122/ 9].
قال النووي: (ومن فروض الكفاية: القيام بإقامة الحجج وحل المشكلات في
الدين، وبعلوم الشرع كتفسير وحديث، والفروع ـ الفقهية ـ بحيث يصلح للقضاء)
(2). فإذا لم تقم جماعة بهذا الواجب الكفائي أثم كل المسلمين كما هو معروف،
لأن المخاطب بالآيات القرآنية السابقة هم كل المسلمين، فهم المكلفون أن
يختاروا منهم طائفة تقوم بهذه الفريضة، فهنا فريضتان: إحداهما على جميع
_________
(1) سأتكلم عن واجب نشر الدعوة خارج الدولة في المبحث الثاني.
(2) المنهاج مع مغني المحتاج: 210/ 4 وانظر مثل ذلك في غاية المنتهى عند
الحنابلة: 441/ 1 والشرح الكبير للدردير عند المالكية: 174/ 2، تفسير
القرطبي: 165/ 4، نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب، تفسير الطبري: 38/ 4، ط
الثانية الحلبي.
(8/6401)
المسلمين الذين تمثلهم دولتهم، والثانية
على الجماعة التي يختارونها للدعوة. وقال الماوردي ـ فيما سبق ذكره ـ: إن
أول واجبات الخليفة حفظ الدين والدعوة إليه (1). وقال الحنفية: (إن الجهاد
الذي هو فرض كفاية هو الدعاء إلى الدين الحق والقتال مع من امتنع عن
القبول) (2).
71 - والمقصود من الدعوة في العرف: هو
حث الناس على الخير والهدى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليفوز بسعادة
الدنيا والآخرة، وهي ثلاثة أنواع:
النوع الأول: دعوة الأمة المحمدية جميع الأمم
إلى الإسلام وأن يشاركوهم فيما هم عليه من الهدى ودين الحق. وهذا
واجب هذه الأمة بمقتضى جعلها خير أمة أخرجت للناس، وبحكم وصف المؤمنين
الذين أذن لهم في القتال في قوله تعالى: {الذين إن مكَّناهم في الأرض
أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر} [الحج:41/
22].
النوع الثاني: دعوة المسلمين بعضهم بعضا إلى
الخير، لقوله سبحانه: {فلولا نفَر من كل فرقة منهم طائفة .. }
[التوبة:122/ 9] الآية.
النوع الثالث: ما يكون بين الأفراد بعضهم مع
بعض بالدلالة على الخير والترغيب فيه والنهي عن الشر والتحذير منه
(3)، لقوله عز وجل: {والعصر إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا
الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} [العصر:1/ 103 - 3] {ومن أحسن
قولاً ممن دعا إلى الله} [فصلت:33/ 41] أي إلى دين الله.
_________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 14 ولأبي يعلى ص 11.
(2) العناية بهامش شرح فتح القدير: 279/ 4 وانظر أحكام القرآن للجصاص: 35/
2، 592 ط البهية المصرية.
(3) راجع تفسير المنار: 27/ 4 وما بعدها، هداية المرشدين للشيخ علي محفوظ:
ص 17 ط العثمانية المصرية.
(8/6402)
72 - وكيفية إعداد الدولة الدعاة تعرف مما
ذكره العلماء عن أوصاف وآداب ووظائف المرشد
المعلم والمحتسب الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، وهي خمس عشرة
صفة (1).
1 - العلم بالقرآن والسنة وسيرة الخلفاء الراشدين والسلف الصالح. وبالقدر
الكافي من الأحكام الشرعية، وأسرار التشريع مع الصدق في نشرها.
2 - العمل بعلمه، فلا يكذب فعله قوله، ولا يخالف ظاهره باطنه، بل لا يأمر
بالشيء ما لم يكن هو أول عامل به.
3 - الحلم وسعة الصدر، فكمال العلم بالحلم، ولين الكلام مفتاح القلوب.
4 - الشجاعة، حتى لا يهاب أحد في الجهر بالحق، ولا تأخذه في نصرة الله لومة
لائم.
5 - العفة واليأس مما في أيدي الناس.
6 - القناعة في الدنيا والرضا منها باليسير (2).
7 - قوة البيان وفصاحة اللسان وإلا كان النفع بعيداً.
8 - الإلمام بالآتي:
_________
(1) تفسير الكشاف: 340/ 1، تفسير المنار: 26/ 4 - 48، الإحياء للغزالي: 49/
1 وما بعدها و274/ 2 وما بعدها، أدب الدنيا والدين ص 108 - 119، منهاج
القاصدين: ص15 وما بعدها و130 وما بعدها، هداية المرشدين للشيخ علي محفوظ:
ص 12 - 104، تذكرة الدعاة للخولي: ص 35 وما بعدها و 249.
(2) من الصعب في وقتنا تحقيق الزهد بالدنيا بالمعنى الشائع لأننا محاطون
بزينة الدنيا ومغرياتها من المال والنساء والجاه والأبناء وغير ذلك، وقد
قرر الرسول صلّى الله عليه وسلم هذه الحقيقة الواقعية فقال: «إن الدنيا
حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون فيها» (تذكرة الدعاة:
ص 148).
(8/6403)
العلم بحال من توجه إليهم الدعوة في شؤونهم
واستعدادهم وطبائع بلادهم وأخلاقهم أو ما يعبر عنه في العرف بحالتهم
الاجتماعية، ومعرفة التاريخ العام، وعلم النفس، وعلم تقويم البلدان، وعلم
الأخلاق، ومعرفة الملل والنحل ومذاهب الأمم، والعلم بلغات الأمم التي تراد
دعوتها وعلى الاجتماع الذي يبحث فيه عن أحوال الأمم في بداوتها وحضارتها
وأسباب ضعفها وقوتها على نحو ما في مقدمة ابن خلدون.
9 - قوة الثقة بالله في وعده وكمال الرجاء في حصول الفائدة، مهما طال به
العلاج وعظمت المصاعب.
10 - التواضع ومجانبة العجب.
11 - أن لا يبخل بتعليم، ولا يمتنع من إفادة ما يعلم، فإن البخل به ظلم
ولؤم، والمنع منه حسد وإثم.
12 - الوقار والرزانة بالإمساك عن فضول الكلام، وعن كثرة الإشارة والحركة
فيما يستغنى عن الحركة فيه، والإصغاء عند الاستفهام، والتوقف عند الجواب،
وعدم التسرع والمبادرة في جميع الأمور.
13 - أن يكون كبير الهمة عالي النفس يستصغر ما دون النهاية من معالي
الأمور.
14 - الصبر في مقام الدعوة إلى الله تعالى، فهو وصف الأنبياء والمرسلين
صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
15 - التقوى والأمانة والتحرز بطاعة الله تعالى عن مساخطه، ويعبر عن ذلك في
العرف: العدالة والقدوة الحسنة.
(8/6404)
الوظيفة الثانية ـ
وظيفة الدولة الخارجية:
تمهيد:
73 - إن اختصاص الدولة الإسلامية في نطاق العلاقات الخارجية يشبه في كثير
من الوجوه اختصاص الدولة الحديثة، لأنها دولة ذات فكرة إنسانية سامية تنشد
تحقيقها على صعيد مفتوح وفي ظل من الأمن والسلم، وعلى أساس من الاستقلال
الداخلي والخارجي ضمن إطار التعاون الواجب مع الدول الأخرى في سبيل خير
البشرية (1).
ومنهج الإسلام في علاقاته الدولية يقوم على مبدأ التوفيق بين ضرورات الواقع
وبين مثالية المبدأ والمسعى الذي يحقق الغاية المنشودة من رسالته، فهو لا
يستطيع تجاهل ظروف وضرورات الحياة الدولية لما لها من ثقل تفرض به نفسها
على الأحداث والمتطلبات الداخلية، ولا يمكنه أصلاً التخلي عن واجب التبليغ
ونشر المبادئ والتضحية في سبيل المبدأ وإثبات الخصائص الذاتية التي يتمتع
بها، وإعلام الناس بمحتواها، ومحاولة تنفيذها وتحقيق الأهداف المطلوبة
بالسياسة والحكمة والأناة، ومواتاة الفرصة المناسبة.
والبحث هنا يتناول وظيفتين أساسيتين للدولة الإسلامية وهما الوظيفة
المتجاوبة مع ضرورات الحياة الدولية، والوظيفة الأصلية التي تحقق أهداف
الدولة وخصائصها الذاتية، وذلك في مطلبين:
المطلب الأول ـ وظيفة تقوم على اعتبار ضرورات
الحياة الدولية:
74 ـ لا تصادم بين الفكرة الإسلامية المتطلعة إلى الامتداد أو الانتشار
وبين
_________
(1) ر: جهاد.
(8/6405)
المبادئ الدولية القائمة الآن على أساس
الاعتراف بحرية الدولة في تصرفاتها المشروعة، ومساواتها بين الدول في
المبادئ الأخلاقية أو السلمية، وعدم خضوعها للقضاء الأجنبي والدفاع عن
نفسها للحفاظ على وجودها وحماية أراضيها وشعبها من أي خطر يتهددها.
وتتجلى وظائف الدولة المسلمة في هذا المضمار في النواحي الآتية:
1 - الدفاع عن أراضي الإسلام وتحرير شعوبه
وحماية أقلياته:
75 - هذا حق طبيعي ومنطقي لكل دولة من أجل الحفاظ على وجودها وكيانها، لما
لها من حق الحياة والبقاء كالأشخاص العاديين تماماً، ولما يفرضه الواجب من
حماية الأتباع والرعايا ولو في خارج إقليم الدولة.
ووسيلة الإسلام في حماية وجوده وأهله هو الجهاد الذي يستخدم من أجل أغراض
ضرورية تفرضها الأحداث وأهمها: (1).
أـ دفع العدوان عن الدين والنفس والعرض والمال أو الدولة وأراضي الوطن أي
دار الإسلام، قال تعالى {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم}
[البقرة:190/ 2]، {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، فإن
انتهوا فإن الله بما يعملون بصير} [الأنفال:39/ 8] {وقاتلوهم حتى لا تكون
فتنة، ويكون الدين لله، فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين}
[البقرة:193/ 2]، {أذن للذين يقاتَلون بأنهم ظُلموا، وإن الله على نصرهم
لقدير} [الحج:39/ 22].
الجهاد حق وعدل وواجب مقدس، ومن تركه أو تخلف عن واجبه في الدفاع عن بلاده
وأهله وإعلاء كلمة الله (أي كلمة الإسلام والمسلمين) فهو منافق
_________
(1) ر: للتفصيل والمقارنة في الموسوعة الفقهية: جهاد.
(8/6406)
في شرعة القرآن، قال تعالى {وليعلم الذين
نافقوا، وقيل لهم: تعالوا قاتلوا في سبيل الله، أو ادفعوا (1)، قالوا: لو
نعلم قتالاً لاتبعناكم، هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان، يقولون بأفواههم
ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون} [آل عمران:167/ 3].
ومن واجبات الدولة كما أبنت سابقاً الإعداد دائماً للجهاد وعدم التقاعس عنه
إذا وجدت مقتضياته، وتهيأت إمكاناته، وقد ذكرت سابقاً عبارة الماوردي وغيره
في هذا الشأن حيث جعل من واجبات الإمام تحصين الثغور وحماية البلاد، وجهاد
الأعداء بعد الدعوة إلى الإسلام.
ب ـ نصرة المظلوم فردا أو جماعة من المؤمنين، أو إغاثة المستضعفين
المسلمين، أو حماية الأقليات في بلاد أخرى من العسف وانتقاص الحقوق، وذلك
عند القدرة والإمكان، قال الله عز وجل: {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله،
والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه
القرية الظالم أهلها} [النساء:75/ 4] {وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر
إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق} [الأنفال:8/ 72].
2 - دعم التعاون بين أقاليم الدولة الإسلامية:
76 - يتطلب الواجب السابق بالدفاع عن الإسلام والمسلمين ضرورة التعاون
البنَّاء بين جميع بلاد الإسلام، كما كان عليه حال الأمة الإسلامية في عهد
الرسول صلّى الله عليه وسلم وما تلاه من عهود موحدة، وذلك في مختلف
المجالات السياسية والعسكريةوالاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إذ إن
روابط الإخاء والوحدة في عقيدة الإيمان يتمخض عنها الحب والمساواة والتعاون
على الخير في السراء والضراء.
_________
(1) أي دافعو اعن النفس والأهل والوطن (ر: التفاسير).
(8/6407)
وبهذا وحده يتحقق للمسلمين العزة والمنعة
والتفوق والسيادة، وترتد آثاره الحميدة على البلاد بالخير والسعادة وتحقيق
الأماني والآمال المرجوة وتوفير سبل الحياة الحرة الكريمة لكل بلد. وبغير
ذلك تسوء الأحوال وتؤول الأوضاع إلى الضياع والوهن والتخلف الذي نعاني الآن
من ويلاته بسبب التقاطع والتدابر والتمزق والتفرق.
ومن المعروف أن الإسلام يدعو المسلمين إلى أن يكونوا كالبنيان المرصوص يشد
بعضه بعضاً، وأن الأواصر القائمة بينهم أعظم حافز على التضامن والتكاتف،
قال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}
[المائدة:2/ 5] {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} [آل عمران:103/ 3]
{ولاتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} [الأنفال:46/ 8].
فبالتعاون يتمكن المسلمون في العالم من تجاوز الحدود والقيود الضيقة
والعصبيات المغلقة المورثة للمنازعات والخلافات الجزئية؛ لأن رابطة الأخوة
القائمة بينهم أقوى وأصلب من العلاقات الجنسية (التجنس) ومضايقات العنصرية،
ولأن مصيرهم وأهدافهم في الحقيقة واحد.
77 - وهذا في الدرجة الأولى من وظائف الدولة، لأن الأوامر السابقة في
القرآن الموجبة للتعاون تخاطب ولاة الأمر والأفراد على حد سواء (1)، وما
يتحقق عن طريق الدولة أهم وألزم لتحصيل المقاصد وتأمين المصالح.
_________
(1) هذا هو المفهوم من عموم الخطاب فيها، فآية المائدة مثلاً صدرت بقوله
سبحانه: {ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدّوكم عن المسجد الحرام} [المائدة:2/ 5]
وذلك موجه لرسول الله صلّى الله عليه وسلم القائد وللمؤمنين، ثم قال
سبحانه: {وتعاونوا على البر ... } [المائدة:2/ 5] أي أن الله يأمر المؤمنين
ولاسيما أصحاب السلطة بالمعاونة على فعل الخيرات وهو البر، وترك المنكرات
وهو التقوى، وينهاهم عن التناصر على الباطل والتعاون على المآثم والمحارم
(تفسير ابن كثير: 6/ 2).
(8/6408)
ومن صور التعاون في المجالات التي ذكرناها
قيام أجزاء البلاد بتوحيد الجهد لإنشاء المشاريع الصناعية والإنتاجية
والزراعية والمساهمة في تثقيف الجيل ومحو الجهل والأمية، وتنسيق الخطط
الفنية والعلمية والسياسية إزاء مشكلة من المشكلات التي تمس مصالح
المسلمين.
وفي أوقات الشدة والمحن تتعاون البلاد في رد العدوان ودفع الأخطار، وتسوية
المنازعات وترميم الأحداث والتغلب على الكوارث الطبيعية والاقتصادية ونحو
ذلك، ففي ماضي المسلمين كان تجهيز الجيوش وإمداد المقاتلة، يتم بالتعاون
بين أقطار الإسلام، كما كان توزيع الغنائم شاملاً للمسلمين.
3 - دعم السلام العالمي:
78 ـ استأصل الإسلام جذور الأحقاد والعداوات البشرية، فقضى على الفوارق
الجنسية (التجنس) والعصبية وتناحر الطبقات، وأحل محلها روح المحبة
والإنسانية والتعاون والتسامح، كما أنه انتزع من فكرة القومية تلك
(الأنانية) الطاغية التي من شأنها أن تخلق منافسة بين القوميات المتباينة
(1)، وبالتالي نشوب حروب طاحنة بسبب التنازع على الاستئثار بخيرات الأرض.
ثم دعا الإسلام بعدئذ، ليس إلى إقامة سلام عالمي فحسب، بل إلى تعايش ودي
يدعم السلام، ويتجاوز حدود المسالمة إلى المودة والمصاهرة، والاشتراك في
القرابات واختلاط الدماء، وإيجاد زمالة عالمية في ظل المبدأ الإنساني
الرفيع: وهو اعتبار الجنس البشري من أب وأم واحدة، وأنهم أبناء أسرة واحدة
ينبغي التراحم بين أفرادها، وشيوع الألفة والعدالة في أوساطها للعمل من أجل
خير المجموع.
_________
(1) نظام الحكم في الإسلام للدكتور عبد الله العربي: ص 56.
(8/6409)
79 - وهذا ما قرره القرآن الكريم بأجلى
بيان في قوله سبحانه: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم
شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير}
[الحجرات:13/ 49].
وتتوارد الآيات القرآنية في الدعوة إلى السلم ونبذ العدوان كما في قوله عز
وجل: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها، وتوكل على الله} [الأنفال:61/ 8] {يا
أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة، ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم
عدوٌ مبين} [البقرة:208/ 2]. {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام: لست
مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا} [النساء:94/ 4]. {فإن اعتزلوكم فلم
يقاتلوكم وألقوا إليكم السَّلَم، فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً}
[النساء:4/ 90] {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم
يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين}
[الممتحنة:8/ 60].
ويؤكد القرآن أن هذه الحقائق في حال النزاع، فينهى عن العدوان في قوله
تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، ولاتعتدوا إن الله لا يحب
المعتدين} [البقرة:190/ 2] وفي هذا إشارة إلى تحريم العدوان والاقتصار على
حدود الضرورة بالدفاع عن النفس (1).
وفي السنة النبوية تحديد واضح لغاية القتال، ومطالبة بالحرص على السلام،
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «أيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا
الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف»
(2). «تألفوا الناس، وتأنوا بهم ولا تغيروا عليهم حتى تدعوهم، فما على
الأرض من أهل بيت من مدر
_________
(1) ر: للتفصيل في الموسوعة الفقهية جهاد.
(2) رواه البخاري ومسلم وأحمد (شرح مسلم: 46/ 12، جامع الأصول: 185/ 3،
منتخب كنز العمال من مسند أحمد: 323/ 2).
(8/6410)
ولا وبر إلا أن تأتوني بهم مسلمين أحب إلي
من أن تأتوني بأبنائهم ونسائهم، وتقتلوا رجالهم» (1) «الخلق كلهم عيال
الله، فأحب خلقه إليه أنفعهم لعياله» (2).
80 - وعلى الدولة المسلمة التقيد بهذه التعاليم لحماية ودعم مبدأ السلام
العالمي، سواء أكان التهديد قريباً من حدودها أم بعيداً عن أراضيها، لأن
انفجار الحرب ـ لا سيما في عصرنا الحاضر ـ يعرِّض العالم كله إلى هزات
عنيفة، ويبعد أن تكون دولة فيه بمأمن من لظاها وآثامها، ولأن الإسلام يكره
إراقة الدماء في أي مكان وبالنسبة لكل إنسان إلا للضرورة كما يبين من كلام
فقهائنا في الواجب الآتي عند بحث حماية الكرامة الإنسانية.
4 - دعم مبادئ كرامة الإنسان والعدالة والحرية
والمساواة في العالم أجمع:
81 - الإسلام ـ كما هو معروف ـ نظام عام للبشرية في أصل رسالته السماوية
حتى تتحقق به الحياة الطيبة، وتتوافر للناس سعادة الدنيا والآخرة، لذا فإنه
يقيم نظامه الاجتماعي على أسس ثابتة أهمها ما يأتي:
أـ حماية الكرامة الإنسانية: أعلن
الإسلام مبدأ كرامة الإنسان، فهو أكرم مخلوق على الأرض، والكرامة حق طبيعي
لكل إنسان، فلا يجوز إهدار كرامته، أو إباحة دمه وشرفه سواء أكان محسناً أم
مسيئاً، مسلماً أم غيرمسلم، لأن العقاب إصلاح وزجر، لا تنكيل وإهانة، ولا
يحل شرعاً السب والشتم والاستهزاء
_________
(1) شرح السير الكبير: 59/ 1.
(2) رواه البزار والطبراني في الكبير والأوسط من حديث ابن مسعود (مجمع
الزوائد 191/ 8) وقد سبق تخريجه وفيه عمير، وهو أبو هارون القرشي متروك.
(8/6411)
وقذف الأعراض، كما لا يجوز التمثيل (1)
بأحد ولو من الأعداء أثناء الحرب أو بعد انتهائها، ويحرم التجويع والإظماء
والنهب والسلب، لقوله تعالى: {ولقد كرَّمنا بني آدم، وحملناهم في البر
والبحر، ورزقناهم من الطيبات وفضَّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً}
[الإسراء:70/ 17].
وقال الرسول صلّى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام
عليكم» (2) «المؤمن أعظم حرمة من الكعبة» (3) «ما شيء أكرم على الله يوم
القيامة من ابن آدم» (4).
ولقد قرر فقهاؤنا أن الأصل في الناس حقن الدماء، فقال الحنفية: (الآدمي
معصوم ليتمكن من حمل أعباء التكاليف وإباحة القتل عارض سمح به لدفع شره)
وقال مالك: (لا ينبغي لمسلم أن يهريق دمه إلا في حق، ولا يهريق دماً إلا
بحق) (5). وقال الحنابلة: (إن الأصل في الدماء الحظر إلا بيقين الإباحة)
(6) وقال الشافعية (7): (قتل الآدمي عمداً بغير حق أكبر الكبائر بعد الكفر،
وأما قتل الكفار فليس بمقصود حتى لو أمكن الهداية بإقامة الدليل بغير جهاد
كان أولى من الجهاد).
_________
(1) قال عليه الصلاة والسلام «ولاتمثلوا» رواه مسلم وأبو داود والترمذي من
حديث بريدة (جامع الأصول: 201/ 3).
(2) سبق تخريجه (مجمع الزوائد: 284/ 6).
(3) رواه ابن ماجه بسند لين عن ابن عمر، ولابن أبي شيبة عن ابن عباس أن
النبي صلّى الله عليه وسلم نظر إلى الكعبة فقال: «ما أعظمك وأعظم حرمتك،
والمسلم أعظم حرمة منك، قد حرم الله دمه وماله وعرضه، وأن يظن به ظن السوء»
(كشف الخفا للعجلوني).
(4) رواه الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو، وهو حديث غريب جداً (تفسير
ابن كثير: 52/ 3).
(5) اختلاف الفقهاء للطبري ـ تحقيق شخت: ص 195.
(6) القواعد لابن رجب: ص 338.
(7) مغني المحتاج: 2/ 4 و 210 قال صلّى الله عليه وسلم: «لقتل مؤمن أعظم
عند الله من زوال الدنيا وما فيها» رواه أبو داود بإسناد صحيح.
(8/6412)
ب ـ مبدأ العدالة:
82 - إن العدالة المطلقة في الإسلام مبدأ من مبادئ نظام الحكم الإسلامي،
وأساس كل علاقة إنسانية سواء بين الأصدقاء أم الأعداء؛ لأن العدل قوام
العالمين في الدنيا والآخرة، وبالعدل قامت السموات والأرض، والعدل أساس
الملك، وأما الظلم فهو طريق خراب المدنيات وزوال السلطان، قال تعالى: {إن
الله يأمر بالعدل والإحسان} [النحل:90/ 16] وقال صلّى الله عليه وسلم في
الحديث القدسي عن رب العزة: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته
بينكم محرماً، فلا تظالموا» (1).
ومن أخص الحالات التي ينبغي فيها العدل: حالة الحكم والشهادة والقضاء بين
الناس، وفي ميدان الحكم والإدارة وفرض الضرائب وجباية المال وصرفه في مصالح
الناس (أي في الميدان الدستوري والإداري والمالي) وفي نطاق الأسرة والتربية
والتعليم، وقال تعالى: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}
[النساء:58/ 4] {ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب
للتقوى} [المائدة:8/ 5] {ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله
ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين} [النساء:135/ 4].
جـ ـ الحرية:
83 - الحرية: هي أعلى ما يشعر به المرء في هذا الوجود، فهي ملازمة لكرامته
الإنسانية، وقد أقر الإسلام مبدأ الحرية في أعدل مظاهرها، قال عمر بن
الخطاب لواليه عمرو بن العاص: (متى تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم
أحراراً) (2) وأعلن القرآن حرية العقيدة وحرية الفكر وحرية القول.
_________
(1) رواه مسلم والترمذي وابن ماجه عن أبي ذر الغفاري (الأربعين النووية).
(2) سيرة عمر بن الخطاب للأستاذ الطنطاوي وأخيه: 240/ 1.
(8/6413)
فمن أجل تقرير حرية الاعتقاد منع الإكراه
على الدين: {لا إكره في الدين، قد تبين الرشد من الغي} [البقرة:256/ 2]
وجعل قبول اعتناق الإسلام منوطاً بالاختيار الحر والاقتناع الذاتي بعد
استخدام الفكر والعقل السليم وتجنب التقليد ومحاكاة الآخرين بدون حجة،
عملاً بقوله تعالى: {أولم يتفكروا في أنفسهم} [الروم:8/ 30] {قل: انظروا
ماذا في السموات والأرض} [يونس:101/ 10] {وما يذكّرُ إلا أولو الألباب} [آل
عمران:3/ 7].
وتحريضاً على التفكير والنظر الطليق ندد الله سبحانه بالتقليد في العقائد
وتعطيل العقول فقال: {وإذا قيل لهم: اتبعوا ما أنزل الله، قالوا: بل نتبع
ما ألفينا عليه آباءنا، أولو كان أباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون}
[البقرة:170/ 2] {أفلم يسيروا في الأرض، فتكون لهم قلوب يعقلون بها، أو
آذان يسمعون بها، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}
[الحج:46/ 22].
والنقد البناء ليس حقاً فقط، وإنما هو واجب ديني أحياناً لا سيما عند
المساس بالمصالح العامة والأخلاق، قال صلّى الله عليه وسلم: «الدين
النصيحة. قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»
(1) واعتبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصول الإسلام كما تقدم، وأن
الشورى أساس الحكم والإدارة السياسية والحربية، وأن الاجتهاد في أمور
الدنيا حق مطلق، وأما في القضايا الدينية فهو مقيد في حدود القرآن والسنة
الصحيحة، يعني أن للفرد الحرية في الأمور الدنيوية بإبداء ما شاء من الآراء
فيها، وأما الأمور ذات الصبغة الدينية (أو الشرعية) فلكل مجتهد ـ في غير
موضع النص ـ أن يجتهد برأيه في حدود أصول الدين الكلية.
_________
(1) رواه مسلم عن أبي رقية تميم بن أوس الداري (الأربعين النووية).
(8/6414)
د ـ المساواة
الكاملة بين الناس:
84 - إن مبدأ المساواة في الإسلام عام شامل دون قيود ولا استثناءات، وأساس
في نظام الحكم الإسلامي، وكان ذلك المبدأ جديداً بالنسبة للعرب، بل وكان
يتعارض مع الشعور القبلي السائد (1)، فقررت الشريعة المساواة التامة في
الحقوق والواجبات وأمام القانون والقضاء وفي المسؤوليات العامة والحقوق
السياسية بين الأفراد، والجماعات، والأجناس، وبين الحاكمين والمحكومين، لا
فضل لرجل على آخر إلا بالتقوى والعمل الصالح، ودون تفرقة بسبب الجنس أو
اللون أو الطبقة (أي في الغنى والفقر) أو القوة والضعف، أو الحسب والنسب.
الناس جميعاً في الشريعة متساوون على اختلاف شعوبهم وقبائلهم، كما هم
متساوون في وحدة الأصل البشري (2) وبدليل قوله تعالى: {يا أيها الناس إنا
خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند
الله أتقاكم} [الحجرات:13/ 49] وهذا المفهوم أكده الرسول صلّى الله عليه
وسلم في قوله: «الناس سواء كأسنان المُشط» (3). «أيها الناس، إن ربكم واحد،
وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم،
وليس لعربي على أعجمي فضل إلا بالتقوى» (4) «كرم الرجل: دينه، ومروءته،
وعقله وحسبه وخلقه» (5).
_________
(1) مبادئ نظام الحكم في الإسلام للدكتور عبد الحميد متولي: ص 822.
(2) تفسير ابن كثير: 218/ 4، تفسير الخازن: 190/ 6، التشريع الجنائي
الإسلامي: 316/ 1، الديمقراطية الإسلامية للدكتور عثمان خليل ص 35، مبادئ
نظام الحكم، المرجع السابق: ص 827.
(3) أخرجه ابن لال والديلمي عن سهل بن سعد، والحسن بن سفيان وأبو بشر
الدولابي والعسكري في الأمثال عن أنس (كشف الخفا للعجلوني وغيره).
(4) رواه البيهقي عن جابر بن عبد الله وقال: في إسناده بعض من يجهل، ولأحمد
عن أبي نضرة في معناه (الترغيب والترهيب: 612/ 3، مجمع الزوائد: 266/ 3 -
273).
(5) رواه أحمد والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة (مجمع الزوائد: 251/ 10).
(8/6415)
وطبق الرسول عليه الصلاة والسلام المبدأ
أولاً على نفسه، فأعد نفسه للقوَد (القصاص) ممن جلده أو شتمه أو أخذ منه
ماله بغير حق (1)، وكذلك فعل أبو بكر وعمر وبقية الخلفاء الراشدين، وكان
الخليفة الراشدي يعلن مبدأ المساواة بصراحة في أول خطبة سياسية يلقيها بعد
توليه الخلافة. وكان هذا المبدأ أهم المبادئ التي جذبت قديماً نحو الإسلام
الكثير من الشعوب الأخرى، كما لاحظ بعض المستشرقين (2).
ولا شك أن تحقيق المساواة منوط باختصاص الحكومات لا باختصاص الأفراد،
لاحتياج المبدأ إلى سلطان يقرره وقوة تحميه وتنفذ محتواه دون تحيز، ومع
تجرد عن الأهواء والغايات الشخصية، قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: (ما
يزع السلطان أكثر مما يزعهم القرآن) (3).
85 - والخلاصة: أن الإسلام يحرص على حماية حقوق الإنسان سواء في دار
الإسلام أم في دارالحرب، ويحترم في الواقع مفاهيم الكرامة الإنسانية
والحرية والعدالة والإخاء والتعاون والمساواة بين كل الناس، فتتعاون الدولة
الإسلامية مع غيرها عند الدخول في علاقات تجارية ونحوها مع البلدان الأخرى،
أو أثناء الإقامة بدار الحرب، أو وقت الاحتكاك بالشعوب أثناء الفتوح، أو
عند اجتياز الحربيين لبلادنا وتمتعهم بالأمان فيها.
وهذا على عكس ما عليه الوضع الدولي الحاضر عند النظر إلى الواقع الملموس،
فقد فقدت المبادئ المذكورة كثيراً من معانيها، وأصبحت معاييرها
_________
(1) هذا معنى حديث رواه الفضل بن عباس (الكامل لابن الأثير: 154/ 2).
(2) الدكتور عبد الحميد متولي، المرجع السابق: ص 823.
(3) أخرجه رزين عن يحيى بن سعيد رحمه الله (جامع الأصول: 469/ 4) ويزع:
يردع.
(8/6416)
مضطربة، وصار وجودها في المواثيق والأذهان
مقصوراً على الناحية النظرية والمزايدات الإعلامية أو الدعائية في هيئة
الأمم وتوابعها. أما في الواقع فإن مصالح الدول الكبرى أو الطرف الأقوى
دائماً هي القائمة فعلاً، بل إن بعض تلك الدول تمارس أبشع ألوان التمييز
العنصري في داخل بلادها أو في مستعمراتها في إفريقية.
المطلب الثاني: وظيفة تقوم على اعتبار خصائص
الدولة الإسلامية وأهدافها:
تمهيد:
86 - إن حفاظ الإسلام على السلم العالمي ودعمه، وحرصه على نشر دعوته
السلمية، وفكرته عن وحدة البشرية تجعل منه نظاماً عالمياً صالحاً للاهتداء
بتعاليمه في المجتمع، إذ إن نظرته الإنسانية للناس تتخطى حدود القوميات
الضيقة، وعصبيات الجنس واللون والوطن، ولأن اعتقاده بوحدة الدين في أصل
الرسالات السماوية يشيع جواً ودياً من التسامح.
وأما تشريع الجهاد فيه فهو في حدود الضرورة أو الحاجة كالدفاع عن حرية
العقيدة والدعوة والعبادة، أو دفع الظلم عن المستضعفين، أو إزالة الفتنة
والفساد في الأرض، لذا فإن الإسلام يقاوم حروب العدوان أو حروب الاستعمار
من أجل فتح مناطق النفوذ أو السيطرة على أسواق العالم.
وعلى الدولة المسلمة أن تتعاون مع غيرها من الدول المخلصة في كل مجال يخدم
سعادة الإنسان ويحقق الخير للبشرية.
ويتجلى ذلك من كلامنا عن وظائف الدولة الآتية في النطاق الخارجي:
(8/6417)
1 - التعاون مع
المخلصين من غير المسلمين:
87 - لا حرج في الإسلام من قيام الدولة المسلمة بالتعاون مع المخلصين من
غير المسلمين، سواء أكانوا من أهل الكتاب أم من غيرهم أتباع الديانات
الأخرى، وذلك من أجل تحقيق الخير المشترك والدفاع عن المصالح العامة،
والتعاون على إقامة العدل، ونشر الأمن وصيانة الدماء أن تسفك، وحماية
الحرمات أن تنتهك، ولو على شروط يبدوفيها بعض الإجحاف، عملاً بالمثل الرائع
الذ ي وضعه لنا الرسول صلّى الله عليه وسلم في صلح الحديبية: «والله لا
تدعوني قريش إلى خُطة يسألوني فيها صلة الرحم ويعظمون فيها حرمات الله إلا
أعطيتهم إياها» (1).
والدليل أن القرآن حدد لنا أسلوب الدعوة ومنهاجها، فجعلها دعوة بالحجة
والبرهان في قوله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة}
[النحل:125/ 16] وطالبنا بحماية المشركين عبدة الأوثان ورعايتهم حين
إقامتهم بدار الإسلام، وانتقالهم إلى مأمنهم في قوله سبحانه: {وإن أحد من
المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} [التوبة:6/ 9].
وكذلك حدد القرآن علاقة المسلمين بغيرهم فجعلها مبادلة سلم بسلم قي قوله
تعالى: {وإن جنحوا للسَّلْم فاجنح لها وتوكل على الله} [الأنفال:61/ 8].
{فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلَم فما جعل الله لكم عليهم
سبيلاً} [النساء:90/ 4].
بل ندب القرآن المسلمين إلى أن يكون موقفهم من غير المسلمين موقف بر ورحمة
وعدل وقسط قي قوله عز وجل: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم
_________
(1) نيل الأوطار: 34/ 8، سنن أبي داود: 113/ 3.
(8/6418)
في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم
وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} [الممتحنة:8/ 60].
88 - ومما يلقي الضوء على أنه لا مانع شرعاً من التعاون مع غير المسلمين
تحديد موقف الإسلام من الديانات الأخرى. وخلاصة القول: إن علاقته بالديانات
السماوية إما علاقة تصديق وإقرار كلي في صورتها الأولى، أو علاقة تصديق في
بعض أجزائها وتصحيح لما طرأ عليها في صورتها الحالية. وهذا هو شأنه أمام كل
رأي وعقيدة، وكل شريعة وملة، حتى الديانات الوثنية تتحدد علاقة الإسلام بها
بطابع الإنصاف والتبصر والمحاجة والإقناع والتحليل كما هو شأن القرآن معها
(1).
إن أهل الكتاب (اليهود والنصارى) يلتقون مع المسلمين في وحدة المصدر الديني
وأصول العقيدة كما جاء في قوله تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً،
والذي أوحينا إليك، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا
تتفرقوا فيه ... } [الشورى:13/ 42] قال الدهلوي: (اعلم أن أصل الدين واحد
اتفق عليه الأنبياء عليهم السلام، وإنما الاختلاف في الشرائع والمناهج ...
الخ) (2).
وقال صلّى الله عليه وسلم: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً
فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون:
هلا وضعت هذه اللبنة. فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين» (3).
_________
(1) انظر بحث الدكتور محمد عبد الله دراز (موقف الإسلام من الأديان الأخرى
وعلاقته بها) الذي قدمه إلى الندوة العالمية للإسلاميات في لاهور ـ باكستان
في يناير (كانون الثاني) عام 1958 وهو منشور في مجلة (لواء الإسلام) العدد
الحادي عشر. السنة الحادية عشرة.
(2) حجة الله البالغة: 68/ 1.
(3) رواه البخاري عن أبي هريرة (صحيح البخاري: 25/ 5).
(8/6419)
وانطلاقاً من وحدة الأصل الديني سارع بعض
أهل الكتاب إلى الإيمان كما حكى القرآن: {بلى من أسلم وجهه لله، وهو محسن،
فله أجره عند ربه، ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون} [البقرة:112/ 2]. {إن الذين
آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل
صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون} (1).
وبالرغم من أن الإسلام أو القرآن جاء {مصدقاً لما بين يديه من الكتاب
ومهيمناً عليه} [المائدة:48/ 5] فإنه لا يكرَه أحد من أهل الكتاب وغيرهم
على الإسلام لقوله تعالى: {قل: يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا
وبينكم: ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً
أرباباً من دون الله، فإن تولوا فقولوا، اشهدوا بأنا مسلمون} (2).
89 - وأما غير أهل الكتاب فتحدد علاقة الإسلام بدياناتهم باستبقاء ما فيها
من عناصر الحق والخير والسنة الصالحة. وتنحية ما فيها من عناصر الباطل
والشر والبدعة.
ويمكن التعاون معهم سلمياً بدليل أن الرسول صلّى الله عليه وسلم قبل
المعاهدة معهم وعاملهم معاملة أهل الكتاب، فقال عن المجوس: «سنوا بهم سنة
أهل الكتاب» (3) واستعان الرسول صلّى الله عليه وسلم أثناء هجرته إلى
المدينة بعبد الله بن أرقط (أو أريقط) وهو من المشركين، بأن استأجره ليرشده
مع صاحبه أبي بكر على الطرق الخفية إلى المدينة بعد أن اطمأن إليه (4).
وكذلك طلب الرسول عليه الصلاة والسلام من سراقة بن
_________
(1) البقرة: 62 ـ ومثلها في في آل عمرن: 113 - 114.
(2) [آل عمران:64/ 3] وآيات أخرى مثل: {لا إكراه في الدين} [البقرة:256/
2].
(3) رواه الشافعي عن عمر رضي الله عنه (نيل الأوطار: 56/ 8).
(4) سيرة ابن هشام: المجلد الأول: 488.
(8/6420)
مالك بن جُعْشم أن يعمي الخبر عنه وعن
صاحبه لقاء الأمان الذي أمنه عليه، والاستغفار الذي سأله منه (1).
واستعار الرسول صلّى الله عليه وسلم أيضاً يوم حنين أدرعاً من من صفوان بن
أمية وهو يومئذ مشرك (2) واستعان كذلك في هذه المعركة للاشتراك في الجهاد
بجماعة من المشركين تألَّفهم من الغنائم (3).
وبناء عليه أجاز فقهاء الحنفية والشافعية والزيدية والهادوية الاستعانة
بالكفار والمشركين في القتال (4) مستدلين باستعانته صلّى الله عليه وسلم
بيهود بني قينقاع وأنه رضخ لهم (5)، وباستعانته صلّى الله عليه وسلم بصفوان
بن أمية يوم حنين، وبإخباره صلّى الله عليه وسلم أنه ستقع من المسلمين
مصالحة الروم، ويغزون جميعاً عدواً وراء المسلمين.
وأجمع الفقهاء على جواز الاستعانة بالمنافقين والفساق، لاستعانته صلّى الله
عليه وسلم بعبد الله بن أبي وأصحابه (6).
والخلاصة: إن الإسلام لا يتوانى لحظة واحدة عن سعيه لإقامة علاقات طيبة مع
غير المسلمين لتحقيق التعاون البنَّآء في سبيل الخير والعدل والبر والأمن
وحماية الحرمات ونحو ذلك.
_________
(1) المرجع السابق: ص 489.
(2) المرجع السابق: 440/ 2.
(3) سبل السلام: 50/ 4.
(4) ر: للتفصيل / جهاد، علماً بأن السيادة والراية تكون للمسلمين لا
لغيرهم.
(5) أخرجه أبو داود في المراسيل وأخرجه الترمذي عن الزهري مرسلاً (نيل
الأوطار: 223/ 7) والرضخ: العطية القليلة بشيء من الغنيمة.
(6) نيل الأوطار: 223/ 7 وما بعدها، سبل السلام: 49/ 4، البدائع: 101/ 7،
مغني المحتاج: 222/ 4، البحر الزخار: 389/ 5، الميزان للشعراني: 181/ 2،
الإفصاح لابن هبيرة: ص 438.
(8/6421)
2 - الدعوة إلى
الإسلام:
90 - ليس الإسلام فاتراً ولا منطوياً على نفسه، كما زعم بعض الكتاب
الغربيين، وإنما الدعوة إلى الحق والخير وعقيدة التوحيد ركن أصيل من أركان
الإسلام، والنشاط في هذه الدعوة فريضة مستمرة في كل زمان ومكان، فيأمر الله
نبيه بتبليغ رسالته، كما تبين في وظيفة إعداد الدعاة (1)، وبأن يبذل جهده
في هذا التبليغ، فقال سبحانه: {وجاهدهم به جهاداً كبيراً} [الفرقان:52/ 25]
وكان برسل الدعاة إلى الآفاق كما أوضحت، والقرآن يحرِّض المؤمنين على هذه
الدعوة: {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله} [فصلت:33/ 41] بل يجعل الفلاح
في الدار الآخرة وقفاً على هؤلاء الدعاة: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير
ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون} [آل عمران:104/ 3]
{والعصر إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا
بالحق وتواصوا بالصبر} [العصر:1/ 103 - 3].
91 - وواجب الدولة الإسلامية أصيل أيضاً في هذا المجال، باعتبار أن ولي
الأمر يمثل جانب الخلافة عن الرسول عليه السلام في هذا الشأن، كما كان يفعل
الخلفاء الراشدون ومن بعدهم. خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال في
خطبته: (إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن
أبعثهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنة نبيكم، فمن فعل به ذلك فليرفعه إلي، أقصه
منه، فقال عمرو بن العاص: لو أن رجلاً أدَّب بعض رعيته، أتقصه منه؟ قال: إي
والذي نفسي بيده إلا أقُصُّه، وقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم أقص
من نفسه) (2).
_________
(1) ر: ف/70.
(2) جامع الأصول: 467/ 4، سيرة عمر بن الخطاب: 226/ 1.
(8/6422)
وقال ابن قيم: الدعوة إلى الله والتبليغ عن
رسوله شعار حزبه المفلحين وأتباعه من العالمين، كما قال تعالى: {قل هذه
سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني، وسبحان الله وما أنا من
المشركين} [يوسف:12/ 108] (1).
وهناك آية أخرى توضح واجب الدعوة على أتباع الرسول صلّى الله عليه وسلم من
الحكام والأفراد لعموم الخطاب فيها، وهي قوله عز شأنه: {وأوحي إلي هذا
القرآن لأنذركم به ومن بلغ} [الأنعام:19/ 6]. أي لأنذركم وأنذر كل من بلغه
القرآن من العرب والعجم، فالإنذار مباشرة للسامع ولمن بلغه السامع، ويؤكده
قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي، فوعاها،
فأداها إلى من لم يسمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو
أفقه منه» (2) فمهمة الفقيه الخطيرة تتمثل في الدعوة والتبليغ عن وعي
وإدراك، لذا قال عليه الصلاة والسلام: «ما عُبد الله بشيء أفضل من الفقه في
الدين، ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد، ولكل شيء عماد، وعماد
الدين الفقه) (3).
3 - دفع شبهات أعداء الإسلام:
92 - إن من أهم واجبات ولاة الأمور هو المحافظة على الدين وعقائده، وإيضاح
الشبهات وحل المشكلات ورد المفتريات وتزييف البدع، كما ذكر الماوردي في
واجبات الإمام التي بينتها سابقاً.
وطريق ذلك إعداد العلماء المختصين وبث الدعاة في بلاد الإسلام قياماً
_________
(1) أعلام الموقعين: 8/ 1، ط السعادة.
(2) حديث متواتر رواه الترمذي وغيره من أصحاب السنن عن ابن مسعود رضي الله
عنه وغيره (النظم المتناثر من الحديث المتواتر للعلامة جعفر الحسني
الكتاني).
(3) رواه الطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة (الفتح
الكبير).
(8/6423)
بالواجب الكفائي. قال النووي في منهاجه:
(ومن فروض الكفاية: القيام بإقامة الحجج
العلمية (1) وحل المشكلات في الدين ودفع الشبهة) (2) وأضاف الشارح: وأما
الآن وقد ثارت البدعة ولا سبيل إلى تركها تلتطم، فلا بد من إعداد مايدعى به
إلى الملك الحق، وتحل به الشبهة، فصار الاشتغال بأدلة المعقول وحل الشبهة
من فروض الكفايات.
المبحث الرابع ـ حصانات الدولة وإعفاءاتها في
الخارج:
93 - المراد بالحصانة: احترام شخصية
الدولة وتوابعها وعدم الاعتداء على أحد ممثليها أوإخضاعها لولاية المحاكم
في الدول الأخرى وإعفاؤها من الضرائب الشخصية المباشرة.
ومبنى الحصانة احترام سيادة الدول، وقد وجدت الحصانات من قديم قبل ظهور
الدولة الحديثة، وكانت تستند إلى قواعد المجاملة، ثم أضحت اليوم تستند إلى
قواعد القانون الدولي والأعراف الدولية.
والكلام عن هذا الفصل في مطلبين:
المطلب الأول - ما تشمله الحصانات والإعفاءات:
94 - تشمل الحصانات والإعفاءات المقررة للدولة بحسب قواعد العرف والمجاملة
والمبادئ والأخلاق الإسلامية ما يأتي:
_________
(1) وهي البراهين القاطعة الدالة على إثبات الصانع سبحانه وتعالى وما يجب
له من الصفات وما يستحيل عليه منها وعلى إثبات النبوات وصدق الرسل، وما ورد
به الشرع من الحساب والمعاد والميزان وغير ذلك.
(2) مغني المحتاج: 210/ 4.
(8/6424)
أـ شخصية الدولة:
لا يتعرض لشؤون دولة أخرى غير مسلمة ما لم يوجد منها عدوان على المسلمين أو
بلادهم ومصالحهم، إذ القتال لمن قاتلنا ولا عدوان إلا على الظالمين (1)،
قال تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا
يحب المعتدين} [البقرة:190/ 2] والأصل في علاقات المسلمين بغيرهم هو السلم
لا الحرب (2).
ولا تخضع شخصية الدولة غير المسلمة في بلادها أو أحد ممثليها لقضاء إسلامي
أو نظام ضريبي؛ إذ لا سلطان للدولة الإسلامية على دار الحرب.
أما إذا كان رئيس الدولة الأجنبية (3) أو رجال حاشيته في بلاد الإسلام، فإن
الشريعة الإسلامية تطبق عليه ويخضعون للقضاء الإسلامي، خلافاً لما يقضي به
العرف الدولي الحاضر؛ لأن الشريعة لا تفرق بين الحاكم والمحكومين،
والمستأمن في بلادنا قد التزم بدخوله دارنا أحكام الإسلام، ولا حرج من
محاكمة غير المسلم الذي ارتكب جريمة في دار الإسلام؛ لأن العدل أساس الحكم
في الشريعة حتى مع الأعداء، وأما الخوف من اتخاذ الاتهام ذريعة للضغط فهو
خوف في غير محله، لوجود وسائل ضغط أخرى أسرع وأجدى من الاتهام (4) إلا أن
أبا حنيفة لا يرى معاقبة المستأمن في دار الإسلام على جريمة تمس حقوق
الجماعة، أما الجريمة التي تمس حق الأفراد فيعاقب عليها (5)، فإن لم تقع
جريمة في دار الإسلام من رئيس
_________
(1) رسالة القتال لابن تيمية: 1 ص 118، زاد المعاد لابن قيم: 58/ 2.
(2) ر: جهاد.
(3) الدولة الأجنبية: هي الدولة المحاربة التي تقوم في دار الحرب، أما
الدول الإسلامية فلا تعتبر إحداها أجنبية بالنسبة للأخرى.
(4) التشريع الجنائي الإسلامي: 323/ 1 - 325.
(5) ر: للتفصيل في هذا المبحث: دار الإسلام ودار الحرب والتمثيل السياسي في
الإسلام للمؤلف.
(8/6425)
الدولة الأجنبية فهو في أمان لا يجوز
التعرض لشخصه وماله وأسرته وأتباعه أو حاشيته.
ب ـ السفن والطائرات: تتمتع السفن
والطائرات الأجنبية بالأمان في دار الإسلام ما لم تقع حوادث مخالفة منها،
فعندئذ تخضع للقضاء الإسلامي.
جـ ـ الوكالات والمؤسسات: يطبق الحكم
السابق على الوكالات والمؤسسات الأجنبية مثل مكاتب الطيران والمدارس
والمشافي والبعثات التعليمية ومراكز البحوث العلمية وشركات الاستثمار
ونحوها من المؤسسات ذات النفع العام بسبب الصفة الدينية أو العلمية أو
الإنسانية أو الرياضية المقامة في بلد إسلامي.
د ـ الوحدات السياسية: كالمكاتب
والبعثات السياسية ووزير الخارجية والوفود التجارية وممثلي الإدارات
والمصالح الأجنبية يعتبر لها من الحصانة الشخصية والمالية في حدود ما يقضي
به الأمان على النحو السابق (1).
هـ ـ السفارات: إن مقر السفارة الأجنبية
له نفس حصانة الرسل والسفراء بحكم الأمان (2). أما السفارات الإسلامية
وممثلوها فلا تعتبر في بلاد الإسلام مستأمنة بحال، وإنما يطبق عليها سائر
الأحكام المطبقة على المسلمين المقيمين في دار الإسلام.
المطلب الثاني - أنواع الحصانات والإعفاءات:
95 - تتمتع الدولة الأجنبية وممثلوها وتوابعها بالحصانات المقررة للرسل
والسفراء وهي الحصانة الشخصية والمالية، فالأولى تقضي بحرمة التعرض للنفوس
_________
(1) ر: أمان والموضوعين السابقين.
(2) ر: التمثيل السياسي.
(8/6426)
والأسرة والحواشي والأتباع عملاً بالأمان.
والثانية تقضي بعدم إخضاع الأموال المملوكة للدول الأجنبية والمخصصة لأغراض
عامة والموجودة في دار الإسلام للنظام الضريبي؛ لأن فرض الضريبة خاضع
لتقدير ولي الأمر فله أن يقرر شمول الضريبة أو حصرها في نطاق معين.
أما الحصانة القضائية فهذه مما يختلف فيها الإسلام عن العرف الدولي القائم،
فلا يعفى الأجانب المستأمنون من تطبيق الشريعة أو من الخضوع للقضاء المحلي
(1).
ثالثاً ـ الاستثناءات: 96 - قد لا تطبق الحصانة المذكورة استثناء في بعض
الأحوال وهي ما يأتي:
أ - النشاط التجاري والملكية الخاصة:
إذا قامت الدولة الأجنبية بنشاط خاص في مجال التجارة أو الصناعة، أو كان
لها ملكيات خاصة في أراضي دار الإسلام، فيمكن إخضاع ذلك النشاط أو الملكية
للنظام الضريبي المطبق على جميع المواطنين باعتبار أن الدولة غير ممثلة
بشخصها المعنوي الذي يتطلب إعفاءات خاصة بقصد التعاون في الحقل الدولي،
ولأن طرح الضريبة في الإسلام مرجعه تقدير ولي الأمر كما ذكرت، وأن الأصل هو
عموم الحكم في التطبيق.
ب ـ حالة رضا الدولة: كذلك ترتفع
الحصانة بداهة في حالة موافقة الدولة أو قبولها إخضاع أموالها وممتلكاتها
وتصرفاتها للنظام الضريبي الإقليمي، باعتبار أن مبدأ الرضا الذي هو في
الأصل شرط في كل التزام أمر قائم، وحيث وجد الرضا لم يبق نزاع.
_________
(1) ر: للتفصيل التمثيل السياسي.
[التعليق]
ثالثاً - الاستثناءات:
الظاهر أنّ هذا مطلباً ثالثاً للمبحث فليتنبه لذلك.
*أبو أكرم الحلبيّ.
(8/6427)
المبحث الخامس ـ
تغير حالة الدولة الإسلامية وزوالها وآثار ذلك:
97 - قد تطرأ تغيرات على الدولة الإسلامية كغيرها من الدول في العادة،
فتؤثر في تكوينها السياسي أو الإقليمي، مع بقاء كيانها الأصلي في سلطة
المسلمين، وقد تزول الدولة من بعض أقاليمها زوالاً جزئياً أو كلياً باغتصاب
العدو لقطعة من الأرض أو احتلالها عنوة.
وهذا من ما يبحث في المطلبين التاليين:
المطلب الأول- تغير حالة الدولة الإسلامية:
تغير حالة الدولة له نوعان:
98 - النوع الأول ـ التغيير الكياني في التنظيم
السياسي الداخلي:
قد يحدث تغير في نظام الحكم الداخلي أو التكوين الدستوري للدولة الإسلامية
مع بقاء شخصية الدولة واستمرار التزاماتها بالنسبة للدول الأخرى. ويتم ذلك
بإحدى حالات ثلاث:
1 - الانقلاب: هو استيلاء جماعة مسلحة
ذات قوة ومنعة على سلطة الحكم وإبعاد الحكام السابقين. وقد أشرت في بحث
الاعتراف بالدولة إلى أن الإمامة قد يتوصل لها استثناء بالقهر والغلبة،
ومعناه ـ كما قال الدهلوي (1): استيلاء رجل جامع لشروط الإمامة على الناس،
وتسلطه عليهم كسائر الخلفاء بعد خلافة النبوة. ثم إن استولى من لم يجمع
الشروط لا ينبغي أن يبادر إلى المخالعة؛ لأن خلعه لا يتصور غالباً إلا
بحروب ومضايقات، وفيها من المفسدة أشد مما يجري
_________
(1) حجة الله البالغة: 111/ 2.
(8/6428)
من المصلحة، «سئل رسول الله صلّى الله عليه
وسلم عنهم: فقيل: أفلا ننابذهم؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة وقال: إلا
أن تروا كفراً بواحاً (1) عندكم من الله فيه برهان (2).
2 - الحرب الأهلية: قد تتقاتل فئتان من
المسلمين، فتتغلب إحداهما على الحكم، فينعقد لها بالقهر والغلبة أمر السلطة
العليا، كما في حالة الانقلاب السابقة.
3 - الثورة: الثورة تختلف عن الانقلاب،
إذ الانقلاب وثبة من داخل القوة المسلحة أو الجيش غالباً، أما الثورة
فنطاقها أوسع، إذ هي شعبية نابعة من سخط الجماعة على الحكام. وقد أجاز
فقهاء الإسلام الخروج على الحكام في بعض الحالات (3). قال الدهلوي مضيفاً
إلى عبارته السابقة: (وبالجملة فإذا كفر الخليفة بإنكار ضروري من ضروريات
الدين حل قتاله بل وجب، وإلا لا، وذلك لأنه حينئذ (4) فاتت مصلحة نصبه (5)،
بل يخاف مفسدته على القوم، فصار قتاله من الجهاد في سبيل الله، قال صلّى
الله عليه وسلم: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره مالم يؤمر
بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» (6) أي أن مبدأ الثورة هو
_________
(1) أي ظاهراً.
(2) أي دليل من القرآن والسنة (ر: شرح مسلم: 243/ 12).
(3) ويرى الإمام زيد الخروج على أئمة الجور للدعوة إلى نفس الإمام الخارج،
كما فعل هو بالكوفة حيث خرج في أيام هشام بن عبد الملك (تاريخ الفقه
الإسلامي للدكتور علي حسن عبد القادر: ص183).
(4) أي عند كفره.
(5) أي إقامته حاكماً.
(6) حجة الله البالغة: 112/ 2.
(8/6429)
ويلاحظ أنه قدم وأخر في عبارة الحديث الذي
رواه البخاري والترمذي وأبو داود والنسائي عن عبد الله بن عمر بلفظ «على
المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره، إلا أن يؤمر بمعصية فإن أمر
بمعصية فلا سمع ولا طاعة» (جامع الأصول: 454/ 4، شرح مسلم: 226/ 12). قاعدة
أو حديث «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (1).
النوع الثاني ـ التغيير في النطاق الإقليمي:
99 - إن التغييرات التي تطرأ على إقليم الدولة، فتؤدي إلى اتساعه أو نقصه
تحدث إما من أراض مباحة لا صلة لها بدولة أخرى، أو مما يمس إقليم دولة أخرى
بالحرب ونحوها.
أولاً ـ التغيير بما لا يمس إقليم دولة أخرى: قد يحدث التغيير في إقليم
الدولة إما بالإضافة أو بالاستيلاء:
1 - التغيير بالإضافة (2): قد تكون
طبيعية بظهور جزر جديدة في وسط البحر الإقليمي، أو النهر الكبير الإقليمي،
أو بسبب تراكم الطمي في مصب نهر من الأنهار الكبرى عند شواطئ الدولة أو
الدلتا التي تتكون عند مصب الأنهار، وقد تكون صناعية بردم الماء في منطقة
نهرية أو بحرية إقليمية، كما لو بنت الدولة حاجزاً للأمواج في بحرها
الإقليمي أو أقامت فيه منشآت لموانيها.
إذا حدث مثل هذا في دار الإسلام كان جزءاً منها بالالتحاق، إذ أن له حكم
المباح، وقد قرر ذلك أبو يوسف في كتابه (الخراج) حينما تكلم عن الجزائر
التي تتكون في دجلة والفرات ينضب عنها الماء، وقال: هذا مثل الأرض الموات،
ولمن
_________
(1) رواه أحمد والحاكم عن عمران بن حصين، ورواه أبو داود والنسائي عن علي
بلفظ «طاعة لأحد في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف» ورواه أحمد عن أنس
بلفظ «لا طاعة لمن لم يطع الله» (شرح مسلم: 227/ 12، فيض القدير، الفتح
الكبير).
(2) الإضافة في القانون الدولي: معناها اكتساب الدولة للملحقات الطبيعية
لإقليمها دون حاجة إلى أن تقوم بعمل أو إجراء خاص لإدخالها في اختصاصها (ر:
مبادئ القانون الدولي للدكتور حافظ غانم: ص 330).
(8/6430)
جاورها أن يحصنها ويزرع فيها إذا كان ذلك
لا يضر بأحد، وإن كان يضر أحداً منع من ذلك، ولم يترك يحصنها ولا يزرع
فيها، ويحدث فيها حدثاً إلا بإذن الإمام (1). ويرشد إليه قوله صلّى الله
عليه وسلم: «من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو له» (2).
وحكم ابن نجيم بإباحة النهر إذا لم يعرف حاله: هل هو مباح أو مملوك تطبيقاً
لقاعدة (الأصل في الأشياء الإباحة) (3).
2 - التغيير الاستيلاء (4): للدولة
الإسلامية الاستيلاء الفعلي بواسطة عمالها وولاتها على أرض مباحة غير خاضعة
لدولة أخرى، لأن من استولى على مال مباح غير مملوك لأحد يملكه كمن استولى
على الحطب والحشيش والصيد (5).
ثانياً ـ التغيير بما يمس إقليم دولة أخرى: 100 - لهذا التغيير أحوال ثلاث
هي:
1 - بطريق المعاهدة: إن الصلح أو
الاتفاق الصريح أو الضمني مبدأ مقرر في الإسلام سواء في وقت السلم أم في
وقت الحرب، وهو من خصائص الخليفة أو الإمام الأعظم، الذي ينوب عن الرسول
صلّى الله عليه وسلم، ويعتبر تصرف الرسول فيه بطريق الإمامة والسياسة لا
بطريق التبليغ والفتوى (6).
_________
(1) الخراج: ص 91 وما بعدها.
(2) رواه أبو داود والضياء عن أم جنوب، وقد سبق تخريجه.
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم: 97/ 1.
(4) الاستيلاء في القانون الدولي: إدخال الدولة لبعض الأقاليم غير التابعة
لدولة ما في حيازتها بغرض مباشرة اختصاصاتها الإقليمية عليها (حافظ غانم،
المرجع السابق: ص323).
(5) البدائع: 128/ 7.
(6) الفروق للقرافي: 207/ 1.
(8/6431)
وبالصلح يمكن تغيير وصف البلاد، فتنتقل من
كونها بلاداً للحربيين إلى أن تصبح جزءاً من دار الإسلام إما بسبب اعتناق
أهلها الإسلام أو بقبولهم عقد الذمة. ومن ذلك الأراضي التي يستولي عليها
المسلمون صلحاً، وتتم المصالحة على أن ملك الأرض لنا فتصير بهذا الصلح
وقفاً من دار الإسلام (1). ويشمل هذا القسم أيضاً حالات التنازل (2)
ومبادلة أرض بأخرى مقايضة، أو عن طريق صفقة بيع لقاء عوض معين، والاستفتاء
الشعبي الناجم من حق الشعب في تقرير مصيره بنفسه أو بإرادته الحرة، إلا أن
الاستفتاء نادر الوقوع لأن الشعب المسلم قد فوض الحاكم بانتخابه أن يفعل ما
يراه محققاً للعدالة وللمصلحة العامة (3).
2 - بطريق التقادم (4): لا يعتبر
التقادم سبباً صحيحاً من أسباب كسب الملكية أو الحقوق عموماً، (إذ لا يجوز
لأحد أن يأخذ مال أحد بلا سبب شرعي) وإنما هو فقط مانع للقاضي من سماع
الدعوى بالحق، حماية لمبدأ الاستقرار في الأوضاع الحقوقية وتجنباً لإثارة
المشكلات في الإثبات ونحوه، ومدة التقادم في الأموال العامة المانعة من
سماع الدعوى به هي 36 سنة (5) ويمكن الأخذ بهذا المبدأ في العلاقات
الدولية.
_________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي: ص123 ولأبي يعلى: ص 132 وانظر أموال
الحربيين للمؤلف.
(2) التنازل أي تخلي الدولة عن جزء من إقليمها نتيجة لمعاهدة أو اتفاق دولي
أو تصريح صادر من الدولة صاحبة الشأن.
(3) قال الماوردي في الأحكام السلطانية: ص 45 (وأما ما يلزم الرعية في حق
الأمير عليهم فأربعة أشياء، أحدها: التزام طاعته والدخول في ولايته، لأن
ولايته عليهم انعقدت وطاعته بالولاية وجبت، والثاني: أن يفوضوا الأمر إلى
رأيه ويكلوه إلى تدبيره حتى لاتختلف آراؤهم، فتختلف كلمتهم ويفترق جمعهم
... ).
(4) التقادم في اصطلاح القانونيين: اكتساب الإقليم عن طريق مباشرة الاختصاص
عليه على نحو مستمر وغير متنازع فيه خلال فترة من الزمن تكفي لتولد الشعور
بأن الوضع القائم يتفق مع حكم القانون (حافظ غانم، المرجع السابق ص 332).
(5) ر: الدر المختار ورد المحتار: 356/ 4 وما بعدها، مذكرة عن المعاملات
للأستاذ زيد الأبياني: ص 17 وما بعدها، المدخل الفقهي العام للأستاذ
الزرقاء: ف 102، المدخل إلى نظرية الالتزام العامة في الفقه الإسلامي
للأستاذ الزرقاء: ف / 156.
(8/6432)
3 - بالفتح عند قيام
موجباته (الجهاد): الفتح هو الاستيلاء عنوة على
إقليم تابع لدولة أخرى، والفتح مشروع في الإسلام عند قيام المسوغ الشرعي
له، وهو دفع الاعتداء، لا من أجل الغلب والسيطرة أو للمخالفة في الدين، أو
لاستغلال الشعوب واستعمارها بالمعنى الحاضر، أو لفرض أي شكل من أشكاله، أو
بسبب التميز العنصري الممقوت القائم في بعض الدول الحديثة.
المطلب الثاني ـ زوال الدولة الإسلامية:
101 - تفنى الدولة أو تزول بزوال أحد عناصرها الثلاثة السابق ذكرها وهي:
السكان والإقليم والسلطة أو السيادة، إلا أن زوال السكان بالهجرة وبالكوارث
الطبيعية، وزوال الإقليم بحادث طبيعي كزلزال أو طوفان شيء نادر الوقوع،
والغالب هو زوال السيادة والاستقلال بالضم إلى دولة أخرى أو الحماية أو
بالانتداب أو بالوصاية عليها. ويقابل هذا المعنى إجمالاً في الفقه الإسلامي
بحث تحول أو تغير وصف الدار من دار إسلام إلى دار حرب، وفيه اختلف الفقهاء:
فقال أبو حنيفة والزيدية، لا يتحقق اختلاف الدارين إلا بتوافر شروط ثلاثة
هي:
1 - ظهور أحكام الكفر ونفاذه فيها وحدها.
2 - أن تكون متاخمة لدار الكفر أو الحرب.
3 - ألا يبقى مسلم ولا ذمي آمناً بالأمان السابق قبل استيلاء الكفار، وإنما
يصير تحقق الأمان والاستقرار منوطاً بسلطة غير إسلامية.
(8/6433)
وقال الصاحبان وجمهور الفقهاء: ينقلب وصف
الدار أويتحول من دار إسلام إلى دار حرب بإجراء أحكام الشرك فقط (1).
وهذا يدل على أن زوال الدولة الإسلامية يحدث بزوال سيادة الأحكام والسلطة
الإسلامية وهو الأمر الغالب كما أشرت.
وللزوال أو التوارث أو الفناء حالتان:
أولاً ـ الزوال الكلي: 102 - قد تزول الدولة زوالاً تاماً أو كلياً بزوال
أحد أركانها المشار إليها سابقاً، وذلك إما بالاختيار كاتفاق الدول
الإسلامية المتجزئة على إقامة وحدة سياسية فيما بينها (بالاندماج أو
الالتحاق أو الاتحاد) وإما بالإجبار كالانقسام أو الانفصال، كانفصال الدولة
الأموية في الأندلس عن الخلافة العباسية في بغداد، أو الفتح أو الاستيلاء
أو الاتحاد الجبري، ويترتب على هذا الزوال القضاء على شخصية الدولة.
ويلاحظ أنه بالرغم من زوال الدولة الإسلامية في قطر ما، فإنه قد يبقى
الإقليم داراً إسلامية إذا كانت أحكام الإسلام ما زالت مطبقة فيها، كما حدث
في بعض أجزاء الهند، وفلسطين لنفاذ أحكام الشريعة فيها، ولأن القاضي فيها
مسلم بالرغم من تعيينه من قبل سلطة غير إسلامية.
ثانياً ـ الزوال الجزئي: 103 - قد يحدث زوال جزئي يطرأ على بعض أنحاء
الدولة نتيجة تجزئة السلطة وانفصال بعض أجزاء إقليم الدولة الأصلية
وانضمامه إلى سلطة دولة
_________
(1) البدائع: 130/ 7، وانظر التفصيل في دار الإسلام ودار الحرب للمؤلف:
ف/34 وما بعدها.
(8/6434)
أخرى، وذلك يصادم الأصل المقرر في الإسلام:
وهو وحدة السلطة أو السيادة في جميع أقاليم دار الإسلام، كما بينت سابقاً
في بحث ركن أو صفة السيادة. ولا يترتب على هذا الزوال القضاء على شخصية
الدولة بعكس حالة الزوال الكلي، وإنما يقتصر الأمر على انتقال جزء من
الإقليم لدولة أخرى.
ويتحدد موقف السلطة الأصلية (الإمامة أو الخلافة وما في معناهما) من الجزء
المنفصل في ضوء الحالتين الآتيتين:
أـ حالة إمكان إخضاع الجزء المنفصل.
104 ـ إذا انفصل جزء من دار الإسلام وأراد جماعة فيه تكوين حكومة خاصة بهم،
دعاهم الخليفة إلى التزام الطاعة والانضمام إلى دار العدل أو الرجوع إلى
رأي الجماعة، فإن أبوا ذلك قاتلهم أهل العدل حتى يهزموهم أو يقتلوهم أو
يردوهم قهراً إلى الطاعة، قال صلّى الله عليه وسلم: «إذا بويع لخليفتين
فاقتلوا الآخر منهما» (1) وقال أيضاً: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد
يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه» (2).
فإن تم إخضاع الجزء المنفصل، كان هو المراد، وتحقق الحفاظ على مبدأ الوحدة
الإسلامية.
ب ـ حالة العجز عن إخضاع الجزء المنفصل.
105 - إذا تعذر على الحاكم الأصلي إخضاع الجزء المنفصل، كما حدث بين
الخلافة في بغداد وبين إمارة الأمويين في الأندلس، أصبح الواقع القائم في
علاقات المسلمين ببعضهم هو الذي يفرض وجوده في ضوء الاحتمالات التالية:
_________
(1) أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري (شرح مسلم: 242/ 12).
(2) أخرجه مسلم عن عرفجة بن شريح (شرح مسلم: 242/ 12).
(8/6435)
1 - إذا كان الجزء المنفصل معترفاً بالسلطة
الأصلية ولو اسماً، ولكنه انفصل إدارياً، كما حدث في العصر العباسي الثاني
ـ عصر نفوذ الأتراك، حيث ظهرت بعض الدويلات الصغيرة المتنافسة، كالسامانية
والبويهية والحمدانية والغزنوية والسلجوقية (1)، فإنه يظل معتبراً من دار
الإسلام، ولا يعترف بالزوال الجزئي؛ إذ لا مانع فقهاً - كما ذكرت في بحث
السيادة - من تعدد السلطات الإدارية لمصلحة أخذاً برأي بعض العلماء، وكانت
الولايات الإسلامية في الغالب تشبه هذا الوضع تقريباً، ولكن مع الحفاظ على
مبدأ تولية وعزل الوالي من قبل الخليفة، والإبقاء على روابط أوثق من ناحيتي
الدفاع والوضع المالي.
2 - إذا كان الجزء المنفصل غير معترف بالسلطة العليا، بل يدعي أنه هو
صاحبها، فإن كان الجزء المنفصل أصغر من غيره في مقابل بقية البلاد
الإسلامية الباقية تحت سلطة الحاكم الأصلي، فهوزوال جزئي لبعض أجزاء
الدولة، وينتظر الوقت المناسب لإعادة إخضاعه إلى الأصل. وهذا كان حال بلاد
فارس وما جاورها في العصر العباسي الثالث ـ عصر إمرة الأمراء ـ حيث قامت
فيها عدة دول كالطاهرية والصفارية والسامانية والديالمة، ولكن لم يترتب على
الانشقاق زوال الدولة العباسية إلا بعد سقوط بغداد بيد التتر والمغول سنة
(656 هـ) (2).
وكذلك كان حال دور ملوك الطوائف (422 - 897 هـ) الذين توزعوا أجزاء الخلافة
الأموية في الأندلس، فانقسمت الدولة الإسلامية إلى دويلات عديدة، حتى كان
لكل مدينة تقريباً أميرها المستقل، مما أدى إلى فقدان البلاد نهائياً
وسقوطها بيد الإسبان.
_________
(1) تاريخ الإسلامي السياسي لحسن إبراهيم: 1/ 3.
(2) المرجع السابق: 26/ 3.
(8/6436)
وإن كان الجزء المنفصل أكبر من الأصل أو
مساوياً له، فيمكن اعتباره (دولة إسلامية) (1) إذا توافرت جميع عناصر
الدولة من شعب وإقليم وسلطة أو سيادة، ولكنها لا تمثل (الدولة الإسلامية)
بمفهومها العام، لعدم وجود وحدة السيادة على جميع أنحاء البلاد، كما تقضي
بذلك مبادئ الإسلام.
وفي الماضي شهدت البلاد تجزئة سياسية من هذا النوع، لا سيما عند إحياء
الخلافة الأموية في الأندلس سنة (300 هـ)، بعد أن كان أمراء بني أمية فيها
يلقبون أنفسهم بلقب (الأمير) أو نحوه. وحينئذ أصبح في العالم الإسلامي في
ذلك الوقت ثلاث خلافات: الخلافة العباسية في بغداد، والخلافة الفاطمية في
المهدية بتونس، والخلافة الأموية في قرطبة.
106 - والفقهاء وإن كانوا متبرمين بهذا الانقسام ويعتبرون الأمويين في
الأندلس والأدارسة في المغرب الأقصى بغاة يحاربون، فإنهم في الواقع لم
يحكموا بزوال الصفة الإسلامية عن الأجزاء المنفصلة، وإنما هي بلاد إسلام،
لأن البغاة ليسوا كفاراً، وإنما يطبقون الأحكام الشرعية مع تأويل بعضها.
وحينئذ يمكن وصف كل حكومة من الحكومات القائمة فيها بأنها (دولة إسلامية)
ينقصها الانضمام مع بعضها وتكوين الوحدة المنشودة التي كانت قائمة في
القرون الثلاثة الهجرية الأولى التي وصفها الرسول صلّى الله عليه وسلم
بأنها (خير القرون).
ولكن الذي لا شك فيه أنه نجم عن هذا الانقسام السياسي ضعف الدولة الإسلامية
وزوالها التدريجي لفقدانها قوة الوحدة وتعاون الجماعة.
_________
(1) بالتنكير الذي يدل على وحدات جزئية.
(8/6437)
المطلب الثالث ـ أثر
تغير حالة الدولة أو زوالها في خلفها (التعاقب) 107
- لم يتعرض الفقهاء المسلمون عموماً لتفصيل الأحكام الناجمة عن زوال الدولة
الإسلامية زوالاً كلياً أو جزئياً (1) أو بسب التعاقب بين سيادتين: سيادة
الدولة القديمة وسيادة الدولة الجديدة التي حلت محل السيادة القديمة.
وفي حال زوال الدولة غير الإسلامية لتحل محلها دولة إسلامية قرر الفقهاء أن
بلاد تلك الدولة تصبح غنيمة تؤول ملكيتها للدولة المسلمة، وحينئذ إما أن
توزع على المسلمين كالغنائم الحربية، أو تترك الأراضي بيد أهلها مقابل خراج
يؤدونه عنها كما فعل عمر بن الخطاب في سواد العراق (2).
وعلى كل فيمكن بحث الآثار المترتبة على تحول الدولة وزوالها في النواحي
التالية بالاهتداء بالأحكام العامة في الفقه الإسلامي على الوجه الآتي:
أولاً - بالنسبة للمعاهدات: 108 - أـ إذا كان زوال الدولة الإسلامية كلياً
بضمها إلى دولة أخرى، فإن المعاهدات التي كانت قد أبرمتها تصبح منتهية ما
لم تكن محققة لمصلحة أو لأغراض إنسانية وتحترمها الدولة الوارثة، كما أقر
الرسول صلّى الله عليه وسلم حلف الفضول الإنساني الذي عقد في الجاهلية
بحضوره لحماية الفضيلة ورعاية الجار وإكرام الضيف وعدم سفك الدماء ونصرة
المظلوم (3).
_________
(1) حسن إبراهيم، المرجع السابق: 253/ 3 وما بعدها.
(2) كل ما ذكروه كما عرفنا هو بحث كيفية التحول أو التغير من دار إسلام إلى
دار حرب وبحث إمكان تملك العدو بلاد الإسلام بالقهر والاستيلاء أو عدم
إمكانه (ر: أموال الحربيين للمؤلف).
(3) سيرة ابن هشام: مجلد 33/ 1 وما بعدها.
(8/6438)
والسبب في انتهاء تلك المعاهدات هو انتهاء
الشخصية المعنوية للدولة الزائلة عملاً بالحكم الفقهي المقرر في نطاق
العقود المدنية الخاصة، وهوأن الوكالة مثلاً تنتهي بموت الموكل (1). وبما
أن عاقد المعاهدة نائب أو ممثل عن الدولة، فإن المعاهدة التي كان أبرمها
تنتهي بزوال شخصيتها التي عقدت المعاهدة من أجلها.
ب ـ وأما في حال الزوال الجزئي، فإن المعاهدة تظل قائمة مع دولة الأصل
لبقاء شخصيتها الدولية. وهذا شبيه بما قرره فقهاؤنا من بقاء عقد الصلح أو
الموادعة بالرغم من موت العاقد أو عزله (2).
ثانياً ـ بالنسبة للديون: 109 - في حالة الزوال الكلي تتحمل مبدئياً الدولة
الجديدة التزامات وديون الدولة القديمة تطبيقاً للقاعدة الإسلامية المعروفة
وهي (الغرم بالغنم) ويستثنى من ذلك ما إذا كانت الديون السابقة مثلاً ثقيلة
العبء، وموارد الدولة القديمة لا تكفي لتسديدها، فلا يمكن مطالبة الدولة
الجديدة بتحمل كل تلك الديون دفعاً للضرر عنها إذ لا ضرر ولا ضرار، ويستحسن
تسوية الأمر باتفاقات مع الدائنين كما يحدث في حالة تصفية أموال المفلس
مثلاً.
ب ـ وأما في حالة الزوال الجزئي، فإن الدولة الأصلية هي المسؤولة عن الديون
لبقاء شخصيتها الدولية، ولأن ذمتها المالية ضمان عام لجميع الديون بغض
النظر عن أوضاع جزء معين من أجزاء الدولة أو مواردها المالية من أية جهة
كانت.
لكن تقضي العدالة ـ في تقديري ـ أن تتحمل الدولة الوارثة جزءاً من هذه
_________
(1) البدائع: 38/ 6.
(2) المغني: 462/ 8، مغني المحتاج: 261/ 4، البحر الزخار: 450/ 5 و 455.
الديون إذا كان الجزء المنضم إليها كبيراً، أو كانت الديون من أجل هذا
الجزء المضموم.
(8/6439)
ثالثاً ـ بالنسبة لأملاك الدولة العامة:
110 - أـ إذا زالت الدولة كلياً، انتقلت كل حقوقها المالية وأملاكها العامة
والخاصة إلى الدولة الوارثة، لأن الذمة المالية الخاصة بالدولة تلازم
شخصيتها، وتتبع المسؤول عنها.
ب ـ وأما إذا كان زوال الدولة جزئياً بانتقال جزء من اقليمها لدولة أخرى،
فتنتقل الأملاك العامة والخاصة بذلك الجزء المنضم المملوكة له إلى الدولة
الوارثة.
رابعاً ـ بالنسبة للتشريع:
111 - يسري تشريع الدولة الوارثة وأنظمتها السياسية والإدارية والقضائية
والمالية لزوال سلطة الدولة المورثة؛ لأن القوانين النافذة فرع عن وجود
السلطة، والسلطة تتبع الإقليم، وإذا زال الإقليم لم يبق مجال للسلطة، لكن
يستثنى من ذلك عادة الأحكام الخاصة بالعقائدوالأوضاع الدينية والأحوال
الشخصية، فهذه تظل القوانين السابقة فيها هي المطبقة منعاً من المشكلات
ورعاية لمبدأ الحرية الدينية ما لم يتصادم ذلك مع النظام العام.
خامساً ـ بالنسبة للأحكام القضائية:
112 - إن إصدار وتنفيذ الأحكام القضائية مدنية أو جزائية مرهون بإرادة
السلطة الضامة أو الوارثة، لعدم وجود سلطة للدولة المورثة، وقد قرر فقهاؤنا
أن العقاب والجزاء والفصل في الخصومات منوط بولي الأمر الحاكم.
(8/6440)
هذا مع احترام المبادئ المسلم بها قانوناً
كحماية الحقوق المكتسبة ورعاية مبادئ الحق والعدالة، وعدم الإخلال بالأمن
والنظام واحترام الأعراف الدولية في القضاء والتنفيذ.
سادساً ـ بالنسبة لجنسية الأفراد:
113 - يفقد أفراد الدولة الزائلة جنسيتهم القديمة بداهة بزوال دولتهم
ويكتسبون جنسية الدولةالضامة باستثناء العناصر الخطرة، لأن الجنسية علاقة
قانونية تنشئها الدولة بالتشريع، إلا أن التشريع لا يهمل إرادة الفرد
دائماً، لذا فإنه قد يمكن تخيير الأفراد بين الاحتفاظ بجنسيتهم القديمة أو
قبول الجنسية الجديدة.
أهم المراجع لهذا الفصل
أـ تفسير القرآن الكريم، والحديث الشريف:
1 - تفسير الكشاف للزمخشري، طبع البابي الحلبي.
2 - أحكام القرآن لابن العربي، طبع البابي الحلبي.
3 - تفسير ابن كثير، ط الحلبي.
4 - تفسير المنار لرشيد رضا، الطبعة الرابعة.
5 - جامع الأصول لابن الأثير، مطبعة السنة المحمدية بمصر.
6 - مجمع الزوائد لأبي بكر الهيثمي، مكتبة القدسي بالقاهرة.
7 - نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية للزيلعي، ط الأولى.
(8/6441)
8 - تلخيص الحبير لابن حجر، شركة الطباعة
الفنية المتحدة بالقاهرة وأحياناً التلخيص الحبير، طبع الهند.
9 - نيل الأوطار للشوكاني، المطبعة العثمانية المصرية.
10 - سبل السلام للصنعاني، ط البابي الحلبي.
ب - الفقه الإسلامي:
1 - الخراج لأبي يوسف، المطبعة السلفية بالقاهرة.
2 - شرح السير الكبير للسرخسي، ط الأولى.
3 - البدائع للكاساني، ط الأولى.
4 - فتح القدير مع الهداية، ط مصطفى محمد بالقاهرة.
5 - رد المحتار مع الدر المختار، ط البابي الحلبي.
6 - حجة الله البالغة للدهلوي، ط الأولى.
7 - الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي، ط البابي الحلبي.
8 - القوانين الفقهية لابن جُزَيْ، ط فاس.
9 - مغني المحتاج للخطيب الشربيني، ط البابي الحلبي.
10 - الأحكام السلطانية للماوردي، ط صبيح بمصر.
11 - الأحكام السلطانية لأبي يعلى، ط البابي الحلبي.
12 - القواعد لابن رجب، ط الصدق الخيرية بمصر.
(8/6442)
13 - المغني لابن قدامة الحنبلي، ط الثالثة
بمصر.
14 - الحسبة في الإسلام لابن تيمية، المكتبة العلمية بالمدينة.
15 - السياسة الشرعية لابن تيمية، ط الثالثة بدار الكتاب العربي بمصر.
16 - المحلى لابن حزم، ط الإمام بمصر.
17 - البحر الزخار لابن المرتضى، ط الأولى.
18 - الخلاف في الفقه للطوسي، ط الثانية.
جـ ـ المؤلفات الحديثة:
1 - السياسة الشرعية للشيخ عبد الوهاب خلاف، ط السلفية بمصر.
2 - النظريات السياسية الإسلامية د: ضياء الدين الريس، ط ثانية.
3 - مبادئ القانون الدولي العام د: حافظ غانم، ط ثانية.
4 - الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام، ونظم الحكم والإدارة في
الإسلام والقوانين الوضعية للأستاذ علي منصور، طبع القاهرة.
5 - أحكام القانون الدولي في الشريعة الإسلامية د: حامد سلطان، طبع النهضة
العربية.
6 - النظم السياسية د: ثروت بدوي، طبع دار النهضة العربية.
7 - الخلافة والإمامة د: عبد الكريم الخطيب، دار الفكر العربي بمصر.
8 - نظام الحكم في الإسلام د: محمد يوسف موسى، الطبعة الثانية.
(8/6443)
9 - السلطات الثلاث، د سليمان محمد
الطماوي، طبع معهد الدراسات العربية العالية بمصر.
10 - نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم، للشيخ محمد الخضر حسين، المطبعة
السفلية بمصر.
11 - نظام الحكم في الإسلام، د: محمد عبد الله العربي، دار الفكر بلبنان.
12 - المدخل إلى القانون الدولي العام وقت السلم، د: محمد عزيز شكري، دار
الكتاب بدمشق.
13 - منهاج الإسلام في الحكم، محمد أسد، دار العلم للملايين.
14 - الإسلام وأوضاعنا القانونية، الإسلام وأوضاعنا السياسية، عبد القادر
عودة، الطبعة الثانية.
15 - نظرية الإسلام وهديه في السياسةوالقانون والدستور لأبي الأعلى
المودودي دار الفكر بدمشق.
16 - نحو مجتمع إسلامي، سيد قطب، الطبعة الأولى.
17 - موجز القانون الدستوري د: عثمان خليل وسليمان الطماوي، دار الفكر
العربي، ط الرابعة.
18 - عبقرية الإسلام في أصول الحكم، د: منير العجلاني، دار الكتاب الجديد.
19 - النظم الإسلامية، د: صبحي الصالح، دار العلم للملايين.
(8/6444)
20 - الشرع الدولي في الإسلام د: نجيب
الأرمنازي، مطبعة ابن زيدون بدمشق.
21 - المجتمع الإنساني في ظل الإسلام، للشيخ محمد أبو زهرة، دار الفكر
بلبنان.
22 - مجموعة الوثائق السياسية د: محمد حميد الله، ط الثانية.
23 - مبادئ القانون الدولي العام في الإسلام، د: محمد عبد الله دراز، مطبعة
الأزهر.
24 - التشريع الجنائي الإسلامي، عبد القادر عودة، الطبعة الثانية بدار
العروبة في مصر.
25 - الإسلام وأصول الحكم ـ بحث الخلافة والحكومة في الإسلا م ـ للأستاذ
علي عبد الرازق، الطبعة الأولى.
26 - مبادئ نظام الحكم في الإسلام، د: عبد الحميد متولي، طبع دار المعارف
بمصر سنة 1966.
(8/6445)
........... بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ
الرَّحيمِ ................................
........................... شرعة حقوق الإنسان
في الإسلام (1) .........................
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد، فإن الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي إيماناً منها بالله رب
العالمين، الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وكرمه فجعله في الأرض خليفة
ووكل إليه عمارتها وإصلاحها، وحمّله أمانة التكاليف الإلهية لخيره وتكريماً
لإنسانيته، وسخر له ما في السموات وما في الأرض جميعاً.
وتصديقاً برسالة محمد صلّى الله عليه وسلم الذي أرسله الله بالهدى والرحمة
ودين الحق لتحرير الإنسان من الاستبداد والاستغلال والطغيان، وتحقيق
المساواة بين البشر كافة فلا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، وإلغاء الفوارق
العنصرية واللونية والطبقية واستئصال كل ما يزرع الفرقة والحقد والكراهية
بين الناس الذين خلقهم الله من نفس واحدة.
وانطلاقاً من عقيدة التوحيد الخالص التي قام عليها بناء الإسلام والتي دعت
البشر كافة ألا يعبدوا إلاّ الله ولا يشركوا به شيئاً، ولا يتخذ بعضهم
بعضاً أرباباً
_________
(1) أقر مؤتمر القمة الإسلامي هذا المشروع بعد إجراء تعديلات طفيفة عليه،
وكنت المشارك في إعداده من الناحية الشرعية، مع أساتذة دكاترة آخرين؛ وهم
عدنان الخطيب، وشكري فيصل ورفيق جويجاتي، بتكليف من وزارة الأوقاف السورية
بدمشق عام 1401هـ / 1980م.
(8/6446)
من دون الله، مما أدى إلى انتفاء عبودية
الإنسان للإنسان وتعزيز حريّة البشر وضمان كرامتهم.
وتأكيداً للدور الحضاري للأمة الإسلامية وتجديداً لتاريخها وتعزيزاً لكونها
أمة وسطاً تدعو إلى عالم متوازن يصل الأرض بالسماء والدنيا بالآخرة والعلم
بالإيمان.
وإسهاماً بالتصدي لمشكلات الحضارة بتقديم أنجح الحلول لها مستمدة من مبادئ
الشريعة الإسلامية.
واستكمالاً للجهود البشرية المتعددة في رعاية حقوق الإنسان في العصور
الحديثة وبخاصةما صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة من إعلان واتفاقيات
هدفت إلى حماية الإنسان وتوفير حريته وضمان حقوقه.
ويقيناً منا بأنّ البشرية على ما بلغت من شأوٍ بعيد في مدارج العلم المادي
لاتزال في حاجة ماسة إلى سند إيماني لحضارتها ينمّي الوازع الذاتي ويقظة
الضمير.
نعلن ما يلي:
1 - الحقوق الأساسية المادة الأولى
أـ البشر في كل أقطارهم أسرة واحدة، مخلوقون من نفس واحدة، متساوون في
الكرامة الإنسانية وفي أصل التكليف والمسؤولية، وأكرمهم عند الله أتقاهم
وأنفعهم لعباده.
(8/6447)
ب ـ لا تمييز بين الناس بسبب اختلاف العرق
أو اللغة أو الديار أو الجنس أو العقيدة (1) أو الانتماء السياسي أو الوضع
الإجتماعي.
المادة الثانية
يولد الإنسان حراً، ولا عبودية لغير الله تعالى، وليس لمخلوق أن يستعبده،
أو يذله أو يستغله.
المادة الثالثة
أـ حق الحياة مكفول بالشريعة لكل إنسان، وعلى الأفراد والمجتمعات والدولة
حماية هذا الحق من كل اعتداء.
ب ـ يُحرّم اللجوء إلى أية وسيلة تفضي لإفناء النوع البشري كلياً أو
جزئياً.
جـ ـ استمرار الحياة البشرية أحد أصول الإسلام لا يجوز تعطيله بمناهضة
الزواج ولا الانتقاص منه بمنع الإنجاب، ولا إباحة الإجهاض لغير ضرورة
شرعية.
د ـ لكل إنسان الحق في أن يعيش آمناً على نفسه وأهله وسمعته الاجتماعية
وماله متحرراً من كل أنواع الخوف.
المادة الرابعة
أـ التدين حق لكل إنسان، ولا إكراه في الدين. فلا يجوز حرمانه منه، ولا
ممارسة أي ضغط عليه للتخلي عنه.
_________
(1) أي في الحقوق الإنسانية، وأكرمهم عند الله أتقاهم.
(8/6448)
ب ـ يتعين على المسلم ـ وقد اهتدى إلى
الإسلام بالإيمان بوجود الله والاعتراف بوحدانيته ـ الثبات عليه.
2 - الحقوق السياسية المادة الخامسة
أـ حرية الرأي والتعبير عنه بالوسائل المشروعة مصونة، ولكل إنسان حق
ممارستها في حدود مبادئ الشريعة وقيم الأخلاق.
ب ـ لكل إنسان الحق في الدعوة بالحكمة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، وله أن يشترك مع غيره من الأفراد والجماعات في ممارسة هذا الحق
والدفاع عنه لصالح المجتمع وخيره.
المادة السادسة
لكل إنسان الحق في:
أـ أن يشارك في اختيار حكامه ومراقبتهم ومحاسبتهم وتقويمهم وفقاً للأنظمة
المقررة بمقتضى الشريعة.
ب ـ أن يشارك في إدارة الشؤون العامة لبلاده، بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
جـ ـ أن يتقلد الوظائف العامة وفق الضوابط المشروعة.
(8/6449)
3 - حقوق الأسرة
المادة السابعة
أـ الأسرة عماد المجتمع المسلم، والزواج أساس وجودها، وهو واجب (1) على
الرجال والنساء، يرغّب الإسلام في ممارسته ولا يحول دون التمتع به أي قيد
منشؤه العرق أو اللون أو الجنسية إلا لضرورة تقتضيها أحكام الشريعة.
ب ـ على الدولة والمجتمع إزالة العوائق أمام الزواج، وتيسير وسائله.
جـ ـ التراضي أساس في عقد الزواج، وإنهاؤه لا يكون إلا وفق أحكام الشريعة.
المادة الثامنة
أـ المرأة شقيقة الرجل ومساوية له في الإنسانية، ولها من الحقوق مثل الذي
عليها من الواجبات.
ب ـ الرجل قيِّم على الأسرة ومسؤول عنها، وللمرأة شخصيتها المدنية وذمتها
المالية المستقلة وتحتفظ باسمها ونسبها.
المادة التاسعة
أـ لكل طفل، منذ ولادته، حق على والديه ومجتمعه ودولته في الحضانة والتربية
والرعاية المادية والأدبية.
ب ـ على المجتمع والدولة حماية الأمومة وتعهدها برعاية خاصة.
_________
(1) أي وجوباً اجتماعياً عاماً في الجملة، وإن كان هو تفصيلاً مباحاً أو
مندوباً أو واجباً بحسب الأحوال المبينة فقهاً.
(8/6450)
جـ ـ من حق الأب أن يختار لطفله التربية
الملائمة في ضوء القيم الأخلاقية والإسلامية.
4 - حق الانتماء والجنسية
المادة العاشرة
حق الإنسان في الانتماء لأبيه وقومه غير قابل للإنكار أو الإسقاط.
المادة الحادية عشرة
حق الإنسان في التمتع بجنسية بلده مصون، ولا يجوز حرمانه منه تعسفاً. وله
حق تغيير الجنسية.
5 - حقوق التعليم والتربية
المادة الثانية عشرة
أـ طلب العلم فريضة على كل إنسان.
ب ـ التعليم واجب على المجتمع والدولة، وعليهما تأمين سبله ووسائله وضمان
تنوعه بما يحقق مصلحة الجماعة، ويتيح للإنسان معرفة دين الله تعالى، وحقائق
الكون وتسخير الطبيعة لصالح البشرية وغيرها. وهو إلزامي في مراحله الأولى
على الأقل.
المادة الثالثة عشرة
على مؤسسات التربية والتوجيه المختلفة، من أسرة ومدرسة وجامعة وأجهزة
(8/6451)
إعلام وغيرها، أن تعمل على تربية الإنسان
دينياً ودنيوياً تربية كاملة ومتوازنة بحيث تقوّي إيمانه بالله تعالى
وتنمّي شخصيته، وتعزز احترامه للحقوق وقيامه بالواجبات.
6 - حقوق العمل والضمان الاجتماعي
المادة الرابعة عشرة
أـ العمل حق تكفله الدولة والمجتمع لكل قادر عليه، وللإنسان حرية اختيار
العمل المشروع الذي يلائمه.
ب ـ على العامل إتقان عمله والإخلاص فيه، وله حقه في الأجر العادل الكافي
مقابل عمله، وله الحق في كل الضمانات المتعلقة بالسلامة والأمن.
جـ ـ إذا اختلف العمال وأرباب العمل فمن حقهم على الدولة والقضاء التدخل
دون تمييز، لرفع الظلم وإقرار الحق.
المادة الخامسة عشرة
لكل إنسان على مجتمعه ودولته حق الضمان الاجتماعي بأنواعه المختلفة، بما
يمكن له من العيش الكريم في الغذاء والكساء والعلاج والتعليم.
7 - حقوق الكسب والانتفاع والملكية الأدبية
المادة السادسة عشرة
لكل إنسان الحق في الكسب المشروع، على ألا يحتكر ولا يغشّ ولا يضرّ بفرد أو
جماعة.
(8/6452)
المادة السابعة عشرة
أـ لكل إنسان الحق في الانتفاع من ثمرات الإنتاج الإنساني في ميادين العلم
النظرية والتطبيقية.
ب ـ ولكل إنسان الحق في الانتفاع بثمرات إنتاجه العلمي أو الأدبي أو الفني
على ألا ينافي هذا الإنتاج مبادئ الشريعة وقيم الأخلاق.
جـ ـ على الدولة حماية هذه الحقوق.
8 - حقوق التقاضي
المادة الثامنة عشرة
أـ حق اللجوء إلى القضاء مكفول للجميع.
ب ـ الناس سواسية أمام الشرع، يستوي في ذلك الحاكم والمحكوم.
المادة التاسعة عشرة
الأصل في الإنسان البراءة، والمتهم بريء حتى تثبت إدانته بمحاكمة عادلة
تتوافر له فيها كل ضمانات الدفاع، والشبهة تُفسّر لصالحه.
المادة العشرون
ـ مسؤولية الإنسان عن أفعاله في أساسها شخصية، ولا جريمة ولا عقوبة إلاّ
بنص.
ب ـ لا يجوز، بغير موجب شرعي، القبض على إنسان أو تقييد حريته أو
(8/6453)
نفيه أو تعريضه للتعذيب البدني أو النفسي،
أو لأي معاملة منافية للكرامة الإنسانية. وكل تدبير أو نص يجيز ذلك يُعد
هدراً للحق الإنساني ومنافياً للشرع الإلهي.
المادة الحادية والعشرون
أـ لكل إنسان الحق في الاعتراف له بشخصيته الشرعية من حيث أهليته للإلزام
والتزام.
ب ـ لكل إنسان حقه في الاستقلال بحياته الخاصة وأسرته وماله واتصالاته
الاجتماعية، ولا يجوز التجسس عليه أو الإساءة إلى سمعته. ويجب على الدولة
حمايته من كل تدخل تعسفي.
9 - حق التنقل واللجوء
المادة الثانية والعشرون
أـ لكل إنسان حرية التنقل واختيار محل إقامته داخل بلاده أو خارجها مع
مراعاة الضوابط المشروعة لذلك.
ب ـ للمضطهد حق اللجوء إلى دولة أخرى، وعلى الدولة التي لجأ إليها أن تجيره
حتى يبلغ مأمنه.
10 - حقوق وواجبات أثناء الحروب
المادة الثالثة والعشرون
في حالة الحرب لا يجوز قتل الأطفال والنساء والشيوخ والمنقطعين للعبادة
(8/6454)
وغيرهم ممن لا مشاركة لهم في القتال، ولا
يقطع الشجر ولا تُنهب الأموال ولا تُخرب المنشآت المدنية ولا يُمثّل
بالقتيل. وللجريح الحق في أن يداوى وللأسير أن يُطعم ويؤوى.
11 - حرمة الميت
المادة الرابعة والعشرون
حرمة الموت واجبة شرعاً، وعلى الدولة والمجتمع حماية جثمان الميت ودفنه
وتنفيذ وصاياه وفقاً لأحكام دينه، ومنع التشهير به.
12 - حدود هذه الوثيقة الشرعية وتفسيرها
المادة الخامسة والعشرون.
أـ كل الحقوق والحريات والواجبات المقررة في هذه الوثيقة مقيدة بأحكام
الشريعة الإسلامية ومقاصدها.
ب - الشريعة الإسلامية بمصادرها الأساسية المعتمدة هي المرجع الوحيد لتفسير
أو توضيح أي مادة من مواد هذه الوثيقة. ويرجع عند الاختلاف إلى أهل العلم
المتخصصين. انتهى الجزء الثامن
ويليه الجزء التاسع
وأوله الأحوال الشخصية
(8/6455)
|