الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي الفَصْلُ الرّابع: الأهليَّة والولاية
والوكالة في الزّواج فيه مباحث ثلاثة:
المبحث الأول ـ أهلية الزوجين:
يرى ابن شبرمة وأبو بكر الأصم وعثمان البتي رحمهم الله أنه لا يزوج الصغير
والصغيرة حتى يبلغا، لقوله تعالى: {حتى إذا بلغوا النكاح} [النساء:6/ 4]
فلو جاز التزويج قبل البلوغ، لم يكن لهذا فائدة، ولأنه لا حاجة بهما إلى
النكاح. ورأى ابن حزم أنه يجوز تزويج الصغيرة عملاً بالآثار المروية في
ذلك. أما تزويج الصغير فباطل حتى يبلغ، وإذا وقع فهو مفسوخ (1).
ولم يشترط جمهور الفقهاء لانعقاد الزواج: البلوغ والعقل، وقالوا بصحة زواج
الصغير والمجنون.
الصغر: أما الصغر فقال الجمهور منهم
أئمة المذاهب الأربعة، بل ادعى ابن المنذر الإجماع على جواز تزويج الصغيرة
من كفء، واستدلوا عليه بما يأتي (2):
_________
(1) المحلى: 560/ 9، 565.
(2) المغني: 487/ 6، المبسوط للسرخسي: 212/ 4، البدائع: 240/ 2، 246،
القوانين الفقهية: ص198، مغني المحتاج: 168/ 3 ومابعدها.
(9/6682)
1 - بيان عدة الصغيرة ـ وهي ثلاثة أشهر ـ
في قوله تعالى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم، فعدتهن ثلاثة
أشهر واللائي لم يحضن} [الطلاق:4/ 65] فإنه تعالى حدد عدة الصغيرة التي لم
تحض بثلاثة أشهر كاليائسة، ولا تكون العدة إلا بعد زواج وفراق، فدل النص
على أنها تزوج وتطلق ولا إذن لها.
2 - الأمر بنكاح الإناث في قوله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم} [النور:32/
24] والأيم: الأنثى التي لا زوج لها، صغيرة كانت أو كبيرة.
3 - زواج النبي بعائشة وهي صغيرة، فإنها قالت: «تزوجني النبي وأنا ابنة
ستٍ، وبنى بي وأنا ابنة تسع» (1) وقد زوجها أبوها أبو بكر رضي الله عنهما.
وزوج النبي صلّى الله عليه وسلم أيضاً ابنة عمه حمزة من ابن أبي سلمة، وهما
صغيران.
4 - آثار عن الصحابة: زوَّج (أي عقد) علي ابنته أم كلثوم، وهي صغيرة من
عروة بن الزبير، وزوج عروة بن الزبير بنت أخيه من ابن أخيه وهما صغيران.
ووهب رجل بنته الصغيرة لعبد الله بن الحسن بن علي، فأجاز ذلك علي رضي الله
عنهما، وزوجت امرأة بنتاً لها صغيرة لابن المسيب بن نخبة، فأجاز ذلك زوجها
عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه.
5 - قد تكون هناك مصلحة بتزويج الصغار، ويجد الأبُ الكفءَ، فلا يفوت إلى
وقت البلوغ.
_________
(1) متفق عليه بين البخاري ومسلم وأحمد (نيل الأوطار: 120/ 6) وفي رواية
عند البخاري ومسلم: تزوجها وهي بنت سبع سنين، وزفت إليه وهي بنت تسع سنين.
(9/6683)
وهناك رواية: معقولة: وهي بنت ثلاث عشرة.
من الذي يزوج الصغار؟ اختلف الجمهور
القائلون بجواز تزويج الصغار فيمن يزوجهم.
فقال المالكية والحنابلة (1): ليس لغير
الأب أو وصيه أو الحاكم تزويج الصغار، لتوافر شقفة الأب وصدق رغبته في
تحقيق مصلحة ولده، والحاكم ووصي الأب كالأب، لأنه لا نظر لغير هؤلاء في مال
الصغار ومصالحهم المتعلقة بهم، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «تستأمر
اليتيمة في نفسها، وإن سكتت فهو إذنها، وإن أبت فلا جواز عليها» (2) وفي
رواية أحمد: « .. لم تكره» وروي عن ابن عمر أن قدامة ابن مظعون زوج ابن عمر
ابنة أخيه عثمان، فرفع ذلك إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: «إنها
يتيمة ولا تُنكح إلا بإذنها» (3) واليتيمة: هي الصغيرة التي مات أبوها،
لحديث: «لا يُتْم بعد احتلام» (4) دل الحديث على أن الأب وحده هو الذي يملك
تزويج الصغار.
وقال الحنفية (5): يجوز للأب والجد
ولغيرهما من العصبات تزويج الصغير والصغيرة، لقوله تعالى: {وإن خفتم ألا
تقسطوا في اليتامى} [النساء:4/ 3] أي في نكاح اليتامى، بإلحاق الظلم بهم،
فالآية تأمر الأولياء بتزويج اليتامى، وأجاز أبو حنيفة في رواية عنه خلافاً
للصاحبين لغير العصبات من قرابة الرحم كالأم والأخت والخالة تزويج الصغار
إن لم يكن ثمة عصبة، ودليله عموم قوله
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 199، الشرح الصغير: 353/ 2، 356 وما بعدها،
المغني: 489/ 6 وما بعدها، كشاف القناع: 43/ 5 - 47.
(2) رواه الخمسة إلا ابن ماجه عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 121/ 6).
(3) رواه أحمد والدارقطني عن ابن عمر (نيل الأوطار: 121/ 6 وما بعدها).
(4) رواه أبو داود وحسنه النووي.
(5) البدائع: 240/ 2، المبسوط: 213/ 4 وما بعدها.
(9/6684)
تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين}
[النور:32/ 24] من غير تفرقة بين العصبات وغيرهم.
وقال الشافعية (1): ليس لغير الأب والجد
تزويج الصغير والصغيرة، لخبر الدارقطني: «الثيب أحق بنفسها من وليها،
والبكر يزوجها أبوها» ورواية مسلم: «والبكر يستأمرها أبوها» والجد كالأب
عند عدمه؛ لأن له ولاية وعصوبة كالأب.
والخلاصة:
المالكية قالوا: القياس ألا يجوز تزويج الصغار إلا أنا تركنا ذلك في حق
الأب للآثار المروية فيه، فبقي ما سواه على أصل القياس. والحنابلة رأوا أن
الأحاديث مقصورة على الأب. والشافعية استدلوا بالأحاديث، لكنهم قاسوا الجد
على الأب، والحنفية أخذوا بعموم الآيات القرآنية التي تأمر الأولياء بتزوج
اليتامى أو بتزويجهن من غيرهم.
واشترط أبو يوسف ومحمد في تزويج الصغار الكفاءة ومهر المثل؛ لأن الولاية
للمصلحة، ولا مصلحة في التزويج من غير كفء ولا مهر مثل.
وكذلك اشترط الشافعية في تزويج الصغير وجود المصلحة، وفي تزويج الأب
الصغيرة أو الكبيرة بغير إذنها شروطاً سبعة هي:
الأول ـ ألا يكون بينه وبينها عداوة ظاهرة.
الثاني - أن يزوجها من كفء.
الثالث ـ أن يزوجها بمهر مثلها.
_________
(1) مغني المحتاج: 149/ 3، 169.
(9/6685)
الرابع ـ أن يكون من نقد البلد.
الخامس ـ ألا يكون الزوج معسراً بالمهر.
السادس ـ ألا يزوجها بمن تتضرر بمعاشرته كأعمى وشيخ هرم.
السابع ـ ألا يكون قد وجب عليها الحج، فإن الزوج قد يمنعها لكون الحج على
التراخي، ولها غرض في تعجيل براءتها، ويجوز أن يزوج الصغير أكثر من واحدة.
وأجاز المالكية للأب تزويج البكر الصغيرة، ولو بدون صداق المثل، ولو لأقل
حال منها، أو لقبيح منظر، وتزوج البالغ (أو البالغة) بإذنها، إلا اليتيمة
الصغيرة التي بلغت عشر سنين، فتزوج بعد استشارة القاضي على أن يكون الزواج
بكفء وبمهر المثل.
ورأى الحنابلة: أن يزوج الأب ابنه الصغير والمجنون بمهر المثل وغيره، ولو
كرهاً؛ لأن للأب تزويج ابنته البكر بدون صداق مثلها، وهذا مثله، فإنه قد
يرى المصلحة في تزويجه، فجاز له بذل المال فيه كمداواته فهذا أولى. وإذا
زوج الأب ابنه الصغير، فيزوجه بامرأة واحدة لحصول الغرض بها، وله تزويجه
بأكثر من واحدة إن رأى فيه مصلحة، وضعَّف بعض الحنابلة هذا، إذ ليس فيه
مصلحة، بل مفسدة، وصوِّب أنه لا يزوجه أكثر من واحدة. أما الوصي فلا يزوجه
أكثر بلا خلاف؛ لأنه تزويج لحاجة، والكفاية تحصل به، إلا أن تكون غائبة أو
صغيرة أو طفلة، وبه حاجة، فيجوز أن يزوجه ثانية. ولسائر الأولياء تزويج بنت
تسع سنين فأكثر بإذنها، لما روى أحمد عن عائشة: «إذا بلغت الجارية تسع سنين
فهي امرأة» أي في حكم المرأة.
(9/6686)
العقل: وأما
العقل فليس شرطاً بالاتفاق، فيجوز للولي أباً أو غيره عند الحنفية
(1) أن يزوج المجنون أوالمجنونة أو المعتوه أو المعتوهة (2) صغيراً أم
كبيراً، بكراً أم ثيباً.
وللأب عند المالكية (3) تزويج المجنون أو المجنونة ونحوهما، في حال الصغر
أو الكبر، ولو ثيباً، لعدم التمييز، ولا كلام لولدهما معه إن كان لهما ولد
رشيد، إلا من يفيق أو تفيق من جنونها أحياناً، فتنتظر إفاقتها لتستأذن ولا
تجبر، وذلك إذا لم يلزم على تزويج المجنونة ضرر عادة، كتزويجها من خصي أو
ذي عاهة، كجنون وبرص وجذام، مما يردّ الزوج به شرعاً.
ورأى الشافعية (4): أنه لا يزوَّج مجنون صغير أو كبير، إلا لحاجة للزواج،
ويزوجه امرأة واحدة فقط الأب، ثم الجد، ثم السلطان، دون سائر العصبات
كولاية المال. ويزوج الأب أو الجد لوفور شفقتهما المجنونة الصغيرة أو
الكبيرة إن ظهرت مصلحة في تزويجها، ولا تشترط الحاجة قطعاً، فإن لم يكن أب
أو جد لم تزوج في صغرها، فإن بلغت زوجها السلطان في الأصح للحاجة للزواج،
لا لمصلحة في الأصح، كتوفر المؤن.
وقال الحنابلة (5): لسائر الأولياء تزويج المجنونة إذا ظهر منها الميل إلى
الرجال؛ لأن لها حاجة إلى الزواج لدفع ضرر الشهوة عنها، وصيانتها عن
_________
(1) البدائع: 241/ 2.
(2) العته: ضعف في العقل ينشأ عنه ضعف في الوعي والإدراك. أما الجنون فهو
اختلال في العقل ينشأ عنه اضطراب أو هيجان.
(3) الشرح الصغير: 355/ 2.
(4) مغني المحتاج: 168/ 3 ومابعدها.
(5) كشاف القناع: 46/ 5 وما بعدها.
(9/6687)
الفجور. ويعرف ميلها إلى الرجال من كلامها
وتتبعها الرجال وميلها إليهم ونحوه من قرائن الأحوال، وكذا إن قال الأطباء
(ثقة أو اثنان): إن علتها تزول بتزويجها. فإن لم يكن لها ولي إلا الحاكم
زوَّجها.
وإن احتاج المجنون البالغ أو الصغير العاقل إلى الزواج أو لغيره كالخدمة،
زوجهما الحاكم عند عدم الأب والوصي، وليس لغير الأب ووصيه والحاكم التزويج،
ولا يجوز التزويج إن لم يحتج المجنون والصغير إليه؛ لأنه إضرار بهما بلا
منفعة.
موقف القانون السوري من زواج الصغير والمجنون:
أخذ القانون السوري بما يخالف رأي الجمهور في زواج الصغار والمجانين
بالاعتماد على مبدأ الاستصلاح، فأخذ برأي ابن شبرمة ومن وافقه في عدم صحة
زواج الصغار، مراعاة لأوضاع المجتمع، وتقديراً لمخاطر مسؤوليات الزواج. ولم
يصحح القانون زواج المجنون أو المعتوه مطلقاً، إلا إذا ثبت طبياً أن زواجه
يفيد في شفائه، فللقاضي الإذن بالزواج.
وهذا ما نصت عليه المادة (15):
1 - يشترط في أهلية الزواج العقل والبلوغ.
2 - للقاضي الإذن بزواج المجنون والمعتوه إذا ثبت بتقرير هيئة من أطباء
الأمراض العقلية أن زواجه يفيد في شفائه.
سن البلوغ: كذلك أخذ القانون السوري بما يخالف رأي جمهور الفقهاء في تحديد
سن البلوغ، ففي الأحوال المدنية أو الشؤون المالية نص القانون المدني
(9/6688)
(م 2/ 46) على أهلية الشخص الطبيعي، وهي
بلوغ سن الثامنة عشرة، للذكر والأنثى على السواء عملاً بمبدأ الاستصلاح.
ونص المادة هو
:1 - كل شخص بلغ سن الرشد متمتعاً بقواه العقلية، ولم يحجر عليه، يكون كامل
الأهلية لمباشرة حقوقه المدنية.
2 - وسن الرشد: هي ثماني عشرة سنة ميلادية كاملة. أما في الأحوال الشخصية
أو الزواج: فقد نص قانون الأحوال الشخصية على أن أهلية الفتى ثمانية عشر
عاماً، والفتاة سبعة عشر عاماً. وذلك في المادة (16) وهي:
تكمل أهلية الزوج في الفتى بتمام الثامنة عشرة، وفي الفتاة بتمام السابعة
عشرة من العمر.
لكن أجاز هذا القانون أيضاً للقاضي: أن يأذن بزواج الفتى بعد إكماله سن
الخامسة عشرة، والفتاة بعد إكمالها سن الثالثة عشرة، إذا طلبا الزواج،
وادعيا البلوغ، وتبين له صدقهما في ادعاء البلوغ. وهذا مراعاة لمصلحة
الشباب في التبكير بالزواج، صوناً لهم عن الانحراف.
ونص القانون (م 18) ما يأتي:
1 - إذا ادعى المراهق البلوغ بعد إكماله الخامسة عشرة، أو المراهقة بعد
إكمالها الثالثة عشرة، وطلبا الزواج، يأذن به القاضي إذا تبين له صدق
دعواهما واحتمال جسميهما.
2 - إذا كان الولي هو الأب أو الجد، اشترطت موافقته.
أما رأي فقهائنا في سن الزواج: فإنهم اتفقوا على عدم انعقاد زواج الصغير
غير المميز، أما الصبي المميز فينعقد زواجه موقوفاً عند الحنفية على إجازة
وليه،
(9/6689)
ويبطل زواجه كسائر عقوده عند الجمهور،
وإنما يزوجه وليه، فإذا بلغ خمسة عشر عاماً تزوج بنفسه، وعند أبي حنيفة إذا
بلغ سن الثامنة عشرة.
المبحث الثاني ـ الولاية في الزواج:
اتفق الفقهاء على أنه يشترط لصحة الزواج أن يكون لمن يتولاه ولاية إنشائه،
إما بالنفس وإما بالغير، فإذا وجدت هذه الولاية، صح العقد ونفذ، وإن فقدت
بطل العقد عند الجمهور، وكان موقوفاً عند الحنفية.
فإن تم العقد من الرجل بالأصالة عن النفس صح العقد بالاتفاق، وإن تم بإنابة
من الشارع، صح أيضاً بصفة الولاية، وإن وجد الزواج بالنيابة عن الشخص، صح
بصفة الوكالة.
ونبحث في الولاية: معناها، أنواعها، اشتراطها في زواج المرأة، شروط الولي،
من له الولاية، المولى عليه، ترتيب الأولياء، كيفية إذن المرأة بالزواج،
عضل الولي، غيبة الولي وأسره أو فقده.
أولاً ـ معنى الولاية وسببها:
الولاية لغة إما بمعنى المحبة والنصرة، كما في قوله تعالى: {ومن يتول الله
ورسوله، والذين آمنوا، فإن حزب الله هم الغالبون} [المائدة:5/ 56] وقول
سبحانه: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} [التوبة:71/ 9].
وإما بمعنى السلطة والقدرة، يقال: (الولي) أي صاحب السلطة.
وفي اصطلاح الفقهاء: القدرة على مباشرة التصرف من غير توقف على
(9/6690)
إجازة أحد. ويسمى متولي العقد (الولي) ومنه
قوله تعالى: {فليملل وليه بالعدل} [البقرة:282/ 2].
وسبب مشروعية ولاية تزويج القصر والمجانين (ولاية الإجبار): هو رعاية مصالح
هؤلاء، وحفظ حقوقهم بسبب عجزهم وضعفهم حتى لا تضيع وتهدر.
ثانياً ـ أقسام الولاية: قسم الحنفية
الولاية ثلاثة أقسام: ولاية على النفس، وولاية على المال، وولاية على النفس
والمال معاً.
والولاية على النفس: هي الإشراف على شؤون القاصر الشخصية، كالتزويج
والتعليم والتطبيب والتشغيل، وهي تثبت للأب والجد وسائر الأولياء.
والولاية على المال: هي تدبيرشؤون القاصر المالية من استثمار وتصرف وحفظ
وإنفاق. وتثبت للأب والجد ووصيهما، ووصي القاضي.
والولاية على النفس والمال: تشمل الشؤون الشخصية والمالية، ولا تكون إلا
للأب والجد فقط.
ومحل البحث في الزواج هو الولاية على النفس.
نوعا ولاية النفس: تنقسم ولاية النفس إلى نوعين: ولاية إجبار، وولاية
اختيار، أو ولاية حتم وإيجاب، وولاية ندب واستحباب (1).
1 - ولاية الإجبار: هي تنفيذ القول على الغير. وهي بهذا المعنى العام تثبت
بأربعة أسباب: القرابة والملك، والولاء، والإمامة.
_________
(1) البدائع: 241/ 2 - 247، الدر المختار: 406/ 2 وما بعدها.
(9/6691)
ولاية القرابة: تثبت لصاحبها بسبب قرابته
من المولى عليه، إما بقرابة قريبة كالأب والجد والابن، أو بقرابة بعيدة
كابن الخال وابن العم.
وولاية المِلْك: هي الولاية التي تثبت للسيد على مملوكه، فله تزويج عبده أو
أمته جبراً عنهما، ويتوقف نفاذ زواجهما على إذنه.
وشرط ثبوت هذه الولاية للسيد: أن يكون عاقلاً بالغاً، فلا ولاية للمجنون
والمعتوه ولا للصبي قبل البلوغ على تزويج العبد أو الأمة.
وولاية الولاء نوعان: ولاء عتاقة، وولاء موالاة.
وولاء العتاقة: هو الحق الشرعي الذي يثبت للمعتق على عتيقه، حتى إنه يرثه
به، وله أن يزوجه إذا كان العتيق صغيراً أو كبيراً مجنوناً أو معتوهاً.
وشرط ثبوت هذه الولاية أن يكون المعتق عاقلاً بالغاً.
وولاء الموالاة: هو الذي يثبت بناء على عقد بين اثنين على أن يناصره، ويغرم
عنه إذا جنى، ويرثه إذا مات. وتثبت بهذا العقد ولاية تزويجه. ويشترط لثبوت
هذه الولاية أن يكون الولي عاقلاً بالغاً حراً، وألا يكون للمولى عليه أحد
يرثه من النسب أو العصبة السببية.
وولاية الإمامة: هي ولاية الإمام العادل ونائبه، كالسلطان والقاضي، فلكل
منهما تزويج عديم الأهلية أو ناقصها بشرط ألا يكون له ولي قريب، للحديث
السابق: «السلطان ولي من لا ولي له» (1). وولاية الإجبار بالمعنى الخاص: هي
حق الولي في أن يزوج غيره بمن شاء.
_________
(1) أخرجه الأربعة إلا النسائي عن عائشة، وصححه أبو عوانة وابن حبان
والحاكم (سبل السلام: 118/ 3).
(9/6692)
وتثبت ولاية الإجبار بهذا المعنى عند
الحنفية: على الصغيرة ولو كانت ثيباً، وعلى المعتوه والمجنونة والأمة
المرقوقة. ويقال لصاحبها: ولي مُجْبر.
2 - وأما ولاية الاختيار: فهي حق الولي في تزويج المولى عليه بناء على
اختياره ورضاه، ويقال لصاحبها: ولي مُخَيِّر. وهي مستحبة عند أبي حنيفة
وزفر في تزويج المرأة الحرة البالغة العاقلة، سواء أكانت بكراً أم ثيباً،
رعاية لمحاسن العادات والآداب التي يراعيها الإسلام، إذ للمرأة عندهم أن
تتولى تزويج نفسها باختيارها وإرادتها، لكن يستحب لها أن تولي أمر العقد
لوليها. وشرط ثبوت هذه الولاية هو رضا المولى عليه لا غير.
والخلاصة: أنه لا ولي عند الحنفية إلا الولي المجبر، فليس عندهم ولي غير
مجبر يتوقف عليه العقد، وكل ولي: مجبر.
أنواع الولاية عند المالكية:
الولاية عند المالكية قسمان: خاصة وعامة
(1):
1 - الولاية الخاصة: هي التي تثبت لأناس معينين، وهم ستة أصناف: الأب،
ووصيه، والقريب العصبة، والمولى، والكافل، والسلطان. وأسباب هذه الولاية
ستة هي:
الأبوة، والإيصاء، والعصوبة، والملك، والكفالة، والسلطنة. أما الولاية
بالكفالة: فهي أن يكفل رجل امرأة فقدت والدها. وغاب عنها أهلها، فقام
بتربيتها مدة خاصة، فيكون له عليها حق الولاية في تزويجها، ويشترط لثبوت
هذه الولاية شرطان.
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 198 وما بعدها، الشرح الصغير: 351/ 2 - 363، الشرح
الكبير: 221/ 2 - 232، 241 وما بعدها.
(9/6693)
أحدهما: أن تمكث عنده زمناً يوجب حنانه
وشفقته عليها عادة وبالفعل، فلا حاجة لتقدير زمن معين كأربع سنوات أو عشر
على الأظهر.
والثاني: ألا تكون شريفة، والشريفة: هي ذات الجمال أو المال، فإن كانت ذات
جمال فقط أو ذات مال فقط، زوجها الحاكم. ورجح بعض المالكية أن ولاية الكفيل
عامة تشمل الشريفة والدنيئة.
2 - والولاية العامة: تثبت بسبب واحد هو الإسلام، فهي تكون لكل مسلم، على
أن يقوم بها واحد منهم، بأن توكل امرأة أحد المسلمين ليباشر عقد زواجها،
بشرط ألا يكون لها أب أو وصيه، وبشرط أن تكون دنيئة لا شريفة. والدنيئة: هي
الخالية من الجمال والمال والحسب والنسب. والخالية من النسب: بنت الزنا أو
الشبهة أو المعتوقة من الجواري. والحسب: هو الأخلاق الكريمة كالعلم
والتدبير والكرم ونحوها من محاسن الأخلاق.
يصح الزواج بالولاية العامة في امرأة دنيئة، مع وجود ولي خاص غير مجبر، كأب
وابن عم، كما يصح زواج شريفة بالولاية العامة مع وجود ولي خاص غير مجبر إن
دخل الزوج بها، وطال الدخول مدة هي أن يمضي زمن تلد فيه الأولاد كثلاث
سنين، كطول مدة زواج الصغيرة التي لا أب لها إذا زوجت مع فقد الشروط أو
بعضها. وتجوز الولاية العامةإذا تعذرت الولاية الخاصة.
وتثبت ولاية الإجبار عند المالكية بأحد سببين: البكارة، والصغر فيقع،
الإجبار للبكر وإن كانت بالغاً، وللصغيرة وإن كانت ثيباً، ويستحب
استئمارها.
والولي المجبر عندهم أحد ثلاثة: مالك الأمة أو العبد، فالأب، فوصي الأب عند
عدم الأب.
(9/6694)
والولي غير المجبر: يشمل العصبة، ثم المولى
(من أعتق المرأة ثم عصبته) ثم الكافل، ثم الحاكم.
وقرابة العصبة كالابن والأخ والجد وابن العم، لا يزوجون إلا البالغة
بإذنها، وتأذن الثيب بالكلام، والبكر بالصمت.
والولي غير المجبر يزوج البالغ لا الصغيرة بإذنها ورضاها، سواء أكانت
البالغ بكراً أم ثيباً.
أنواع الولاية عند الشافعية:
الولي عن المرأة مطلقاً شرط عند الشافعية
(1) لصحة أي عقد من عقود الزواج، فلا تزوِّج امرأة نفسها بإذن وليها، ولا
غيرها بوكالة، ولا تقبل زواجاً لأحد.
والولاية نوعان: ولاية إجبارية وولاية اختيارية:
أما ولاية الإجبار: فتثبت للأب، وللجد عند عدمه، فللأب تزويج البكر صغيرة
أو كبيرة بغير إذنها، ويستحب استئذانها، ويكفي في البكر البالغة العاقلة
إذا استؤذنت في تزويجها سكوتها في الأصح. ودليلهم خبر الدارقطني: «الثيب
أحق بنفسها من وليها، والبكر يزوجها أبوها» ورواية مسلم: «والبكر يستأمرها
أبوها، وإذنها سكوتها» وقد حملت رواية مسلم على الندب، ولأن البكر شديدة
الحياء إذ لم تمارس الرجال بالوطء.
وأما ولاية الاختيار: فتثبت لكل الأولىاء العصبات في تزويج المرأة الثيب،
_________
(1) مغني المحتاج: 147/ 3 - 150، المهذب: 35/ 2.
(9/6695)
فليس للولي تزويج الثيب إلا بإذنها، فإن
كانت الثيب صغيرة لم تزوَّج حتى تبلغ؛ لأن إذن الصغيرة غير معتبر، فامتنع
تزويجها إلى البلوغ، وتزوج الثيب البالغة بصريح الإذن، ولا يكفي سكوتها.
بدليل خبر الدارقطني السابق، وخبر «لا تنكحوا الأيامى حتى تستأمروهن» (1)
ولأنها عرفت مقصود الزواج، فلا تجبر بخلاف البكر. ودليل صراحة الإذن: حديث:
«ليس للولي مع الثيب أمر» (2) ولو أذنت بلفظ التوكيل جاز؛ لأن المعنى فيهما
واحد.
والحاصل: أن الفرق بين البكر والثيب هوفي حكم الإذن ونوعه، فالبكر يستحب
استئذانها، وإذنها صماتها، والثيب يجب استئذانها، بصريح الإذن.
وأما المجنونة فيزوجها الأب، والجد عند عدمه قبل بلوغها للمصلحة.
أنواع الولاية عند الحنابلة:
لا يصح نكاح المرأة إلا بولي عند الحنابلة
(3) كالشافعية والمالكية، فلو زوَّجت امرأة نفسها، أو زوَّجت غيرَها كبنتها
وأختها، أو وكلت امرأة غير وليها في تزويجها ولو بإذن وليها في الصور
الثلاث، لم يصح النكاح لعدم وجود شرطه، ولأنها غير مأمونة على البُضْع لنقص
عقلها، وسرعة انخداعها، فلم يجز تفويضه إليها، كالمبذر في المال، فلا يصح
أن توكل فيه، ولا أن تتوكل فيه، فإن حكم بصحته حاكم أو كان المتولي العقد
حاكماً يراه، لم ينقض كسائر الأنكحة الفاسدة، إذا حكم بها من يراها، لم
ينقض؛ لأنه يسوغ فيها الاجتهاد، فلم يجز نقض الحكم بها.
_________
(1) رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح.
(2) رواه أبو داود والنسائي (نيل الأوطار: 120/ 6).
(3) المغني: 456/ 6، كشاف القناع: 46/ 5 وما بعدها.
(9/6696)
وولاية الإجبار: تثبت لأب، ووصيه، ثم
الحاكم، كما قال المالكية، ولا تثبت للجد وسائر الأولىاء، وذلك عند تزويج
الصغيرة فقط.
وولاية الاختيار: تثبت لسائر الأولياء عند تزويج امرأة حرة مكلفة (كبيرة
بالغة) ثيباً كانت أو بكراً بإذنها، وإذن البكر: الصمت، وإذن الثيب:
الكلام، بدليل حديث أبي هريرة مرفوعاً: «لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا
تنكح البكر حتى تستأذن، قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال:
أن تسكت» (1) وحديث «الثيب تعرب عن نفسها، والبكر رضاها صمتها» (2).
ولسائر الأولياء تزويج بنت تسع سنين فأكثر بإذنها، ولهاإذن صحيح معتبر،
لحديث عائشة: «إذا بلغت الجارية تسع سنين، فهي امرأة» (3) وروي مرفوعاً عن
ابن عمر. ومعناه: في حكم المرأة، ولأنها تصلح بذلك للنكاح وتحتاج إليه،
فأشبهت البالغة.
والخلاصة: يزوج الرجل البالغ العاقل نفسه بالاتفاق بالأصالة عن نفسه، ويزوج
الولي الصغار والمجانين والمعتوهين بالاتفاق بالولاية عن الشارع.
واختلف الفقهاء في زواج المرأة البالغة العاقلة، فقال الحنفية: لها أن
تتزوج بنفسها، وقال الجمهور: يزوجها وليها، لكن عند الحنابلة بإذنها سواء
أكانت بكراً أم ثيباً، وعند المالكية والشافعية: بإذنها إذا كانت ثيباً،
وبغير إذنها إذا كانت بكراً صغيرة أم كبيرة.
وكل ولي مجبر عند الحنفية، والمجبر عند المالكية والحنابلة: الأب ووصيه
والحاكم، والمجبر عند الشافعية: الأب، والجد فقط عند عدم الأب.
_________
(1) متفق عليه.
(2) رواه الأثرم وابن ماجه.
(3) رواه أحمد بسنده.
(9/6697)
ويستحب استئذان البنت البكر عند المالكية
والشافعية، ولا إذن للصغيرة بحال عند الحنابلة، وليس عندهم للحاكم ولسائر
الأولياء تزويج بنت دون تسع سنين.
ثالثاً ـ اشتراط الولاية في زواج المرأة: للفقهاء كما عرفنا رأيان في
انعقاد الزواج بعبارة النساء، رأي الحنفية: أنه يصحح العقد بعبارتها، بدون
ولي، ورأي الجمهور: أنه يبطل العقد بدون ولي (1).
أما الرأي الأول ـ فقال أبو حنيفة وأبو يوسف في
ظاهر الرواية: ينفذ نكاح حرة مكلفة (بالغة عاقلة) بلا رضا ولي،
فللمرأة البالغة العاقلة أن تتولى عقد زواجها، وزواج غيرها، لكن إذا تولت
عقد زواجها، وكان لها ولي عاصب، اشترط لصحة زواجها ولزومه أن يكون الزوج
كفئاً، وألا يقل المهر عن مهر المثل. فإذا تزوجت بغير كفء، فلوليها حق
الاعتراض على الزواج ويفسخه القاضي، إلا أنه إذا سكت حتى ولدت أو حملت
حملاً ظاهراً، سقط حق الولي في الاعتراض على الزواج ويفسخه القاضي، إلا أنه
إذا سكت حتى ولدت أو حملت حملاً ظاهراً، سقط حق الولي في الاعتراض وطلب
التفريق، حفاظاً على تربية الولد، ولئلا يضيع بالتفريق بين أبويه، فإن
بقاءهما مجتمعين على تربيته أحفظ له بلا شبهة.
والمفتى به أن المرأة إذا تزوجت بغير كفء، وقع العقد فاسداً، فلو رضي الولي
بعد العقد لا ينقلب صحيحاً.
_________
(1) فتح القدير: 391/ 2 وما بعدها، تبيين الحقائق: 98/ 2 وما بعدها، الدر
المختار: 407/ 2 وما بعدها، الشرح الصغير: 353/ 2، القوانين الفقهية: ص
198، المهذب: 35/ 2، مغني المحتاج: 147/ 3 وما بعدها، كشاف القناع: 49/ 5
وما بعدها، المغني: 449/ 6.
(9/6698)
ودليله كما سبق: أولاً ـ حديث «الأيم أحق
بنفسها من وليها، والبكر تستأمر في نفسها، وإذنها صماتها» والأيم: التي لا
زوج لها، بكراً كانت أو ثيباً، فدل على أن للمرأة الحق في تولي العقد.
ثانياً ـ للمرأة أهلية كاملة في ممارسة جميع التصرفات المالية من بيع
وإيجار ورهن وغيرها، فتكون أهلاً لمباشرة زواجها بنفسها؛ لأن التصرف حق
خالص لها.
وأما الرأي الثاني ـ رأي الجمهور: فهو
أن النكاح لا يصح إلا بولي، ولا تملك المرأة تزويج نفسها ولا غيرها، ولا
توكيل غير وليها في تزويجها، فإن فعلت ولو كانت بالغة عاقلة رشيدة، لم يصح
النكاح، وهو رأي كثير من الصحابة كابن عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وأبي
هريرة وعائشة رضي الله عنهم. وإليه ذهب سعيد بن المسيب والحسن وعمر بن عبد
العزيز وجابر بن زيد والثوري وابن أبي ليلى وابن شبرمة وابن المبارك، وعبيد
الله العنبري وإسحاق وأبو عبيدة رحمهم الله تعالى.
وأدلتهم: أولاً ـ حديث عائشة وأبي موسى وابن عباس: «لا نكاح إلا بولي» (1)
وحديث عائشة: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل باطل باطل،
فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من
لا ولي له» (2). وحديث أبي هريرة: «لا تزوج المرأة نفسها، فإن الزانية هي
التي تزوج نفسها» (3).
_________
(1) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة (نصب الراية: 183/ 3، سبل السلام: 117/
3).
(2) أخرجه أحمد والأربعة إلا النسائي، وصححه أبو عوانة وابن حبان والحاكم
وابن معين وغيره من الحفاظ (نصب الراية: 184/ 3، سبل السلام: 118/ 3).
(3) أخرجه الدارقطني، وفي إسناده كلام (نصب الراية: 188/ 3).
(9/6699)
ثانياً ـ إن الزواج عقد خطير دائم ذو مقاصد
متعددة من تكوين أسرة، وتحقيق طمأنينة واستقرار وغيرها، والرجل بما لديه من
خبرة واسعة في شؤون الحياة أقدر على مراعاة هذه المقاصد، أما المرأة
فخبرتها محدودة، وتتأثر بظروف وقتية، فمن المصلحة لها تفويض العقد لوليها
دونها.
رابعاً ـ شروط الولي: يشترط في الولي شروط متفق عليها بين الفقهاء وهي (1):
1ً - كمال الأهلية: بالبلوغ
والعقل والحرية، فلا ولاية للصبي والمجنون والمعتوه (ضعيف العقل) والسكران،
وكذا مختل النظر بهرَم، (وهو كبر السن) أو خبَل (وهو فساد في العقل)،
والرقيق؛ لأنه لا ولاية لأحد من هؤلاء على نفسه، لقصور إدراكه وعجزه في غير
الرقيق فلا تكون له ولاية على غيره؛ لأن الولاية تتطلب كمال الحال. وأما
الرقيق فلأنه مشغول بخدمة مولاه، فلا يتفرغ للنظر في شؤون غيره.
2ً - اتفاق دين الولي
والمولى عليه: فلا ولاية لغيرا لمسلم على المسلم، ولا للمسلم على غير
المسلم، أي لا يزوج عند الحنابلة والحنفية كافر مسلمة ولا عكسه، وقال
الشافعية وغيرهم: يزوج الكافر الكافرة، سواء أكان زوج الكافرة كافراً أم
مسلماً، وقال المالكية: يزوج الكافرة الكتابية مسلم. ولا ولاية للمرتد على
أحد مسلم أو كافر، لقوله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض}
[التوبة:71/ 9] وقوله سبحانه: {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض}
[الأنفال:73/ 8] وقوله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين
سبيلاً}
_________
(1) البدائع: 239/ 2، الشرح الصغير: 369/ 2 وما بعدها، مغني المحتاج: 154/
3 وما بعدها، كشاف القناع: 55/ 5 وما بعدها، المهذب: 2/ 36.
(9/6700)
[النساء:141/ 4] ولحديث «الإسلام يعلو ولا
يعلى» (1)، والسبب في اشتراط اتحاد الدين: هو اتحاد وجهة النظر في تحقيق
المصلحة، ولأن إثبات الولاية للكافر على المسلم تشعر بإذلال المسلم من جهة
الكافر.
ويستثنى من ذلك الإمام أو نائبه؛ لأن له الولاية العامة على جميع المسلمين.
وقد اقتصر القانون السوري (م 22) على شرط كمال الأهلية: «يشترط أن يكون
الولي عاقلاً بالغاً» ولم يشترط اتحاد الدين بين الولي والمولى عليه.
وهناك شروط أخرى في الولي مختلف في اشتراطها
وهي:
3 - الذكورة: شرط عند الجمهور غير الحنفية، فلا تثبت ولاية الزواج للأنثى؛
لأن المرأة لا يثبت لها ولاية على نفسها، فعلى غيرها أولى.
وقال الحنفية: ليست الذكورة شرطاً في ثبوت الولاية، فللمرأة البالغة
العاقلة ولاية التزويج عنده بالنيابة عن الغير، بطريق الولاية أو الوكالة.
وهذا الخلاف مفرع على اختلافهم في مسألة انعقاد الزواج بعبارة النساء.
4 - العدالة: وهي استقامة الدين، بأداء الواجبات الدينية، والامتناع عن
الكبائر كالزنا والخمر وعقوق الوالدين ونحوها، وعدم الإصرار على الصغائر.
وهي شرط عند الشافعية على المذهب وعند الحنابلة، فلا ولاية لغير العدل وهو
الفاسق، لما روي عن ابن عباس: «لا نكاح إلا بشاهدي عدل، وولي مرشد» (2)
لأنها ولاية تحتاج إلى النظر وتقدير المصلحة، فلا يستبد بها الفاسق كولاية
المال.
_________
(1) رواه الدارقطني في سننه والروياني في مسنده عن عايذ بن عمرو المزني
مرفوعاً، ورواه الطبراني في الأوسط والبيهقي في الدلائل عن عمر وأسلم به
سهل في تاريخ واسط عن معاذ مرفوعاً، وعلقه البخاري في صحيحه (المقاصد
الحسنة: ص 58).
(2) قال الإمام أحمد: أصح شيء في هذا قول ابن عباس مرفوعاً: «لا نكاح إلا
بولي وشاهدي عدل، وأيما امرأة نكحها ولي مسخوط عليه، فنكاحها باطل» وروى
البرقاني بإسناده عن جابر مرفوعاً: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل».
(9/6701)
ويكفي العدالة الظاهرة، فيكفي مستور الحال؛
لأن اشتراط العدالة ظاهراً وباطناً حرج ومشقة، ويفضي إلى بطلان غالب
الأنكحة.
ويستثنى من هذا الشرط: السلطان، يزوج من لا ولي لها، فلا تشترط عدالته
للحاجة، والسيد يزوج أمته، فلا تشترط عدالته؛ لأنه تصرف في أمته، كإيجارها
ونحوه.
وذهب الحنفية والمالكية إلى أن العدالة
ليست شرطاً في ثبوت الولاية، فللولي عدلاً كان أو فاسقاً تزويج ابنته أو
ابنة أخيه مثلاً؛ لأن فسقه لا يمنع وجود الشفقة لديه ورعاية المصلحة
لقريبه، ولأن حق الولاية عام، ولم ينقل أن ولياً في عهد الرسول صلّى الله
عليه وسلم ومن بعده منع من التزويج بسبب فسقه. وهذا الرأي هو الراجح؛ لأن
حديث ابن عباس ضعيف، ولأن (المرشد) ليس معناه العدل، بل الذي يرشد غيره إلى
وجوه المصلحة، والفاسق أهل لذاك.
5 - الرشد: ومعناه هنا عند الحنابلة: معرفة الكفء ومصالح النكاح، لا حفظ
المال؛ لأن رشد كل مقام بحسبه. ومعناه عند الشافعية: هو عدم تبذير المال.
والرشد شرط عند الشافعية على المذهب والحنابلة في ثبوت الولاية؛ لأن
المحجور عليه بسفه لا يلي أمر نفسه في الزواج، فلا يلي أمر غيره، فإن لم
يكن السفيه محجوراً عليه جاز له تزويج غيره على المعتمد عند الشافعية.
وقال الحنفية والمالكية: ليس الرشد بمعنى حسن التصرف في المال شرطاً في
ثبوت الولاية، فيصح للسفيه ولو محجوراً عليه أن يتولى تزويج غيره. لكن
يستحب عند المالكية أن يكون التزويج من السفيه ذي الرأي بإذن موليته، وبإذن
وليه، فإن زوج ابنته مثلاً بغير إذن وليه، ندب أن ينظر الولي لما فيه
المصلحة، فإن كان صواباً أبقاه وإلا رده، فإن لم ينظر فهو ماض.
(9/6702)
وأضاف المالكية شرطين آخرين هما:
خلو الولي من الإحرام بحج أو عمرة، فالمحرم بأحدهما لا يصح منه تولي عقد
النكاح. وعدم الإكراه: فلا يصح الزواج من مكره، لكن هذا الشرط لا يختص بولي
عقد النكاح، بل هو عام في جميع العقود الشرعية. وبه تصبح شروط الولي عندهم
سبعة: هي الذكورة والحرية والبلوغ والعقل، والإسلام في المرأة المسلمة
والخلو من الإحرام وعدم الإكراه. وليست العدالة والرشد شرطين.
وهي أيضاً عند الحنابلة والشافعية سبعة: الحرية والذكورة واتحاد الدين بين
الولي والمولى عليها، والبلوغ، والعقل، والعدالة، والرشد: وهو عند الحنابلة
معرفة الكفء ومصالح النكاح، وليس حفظ المال؛ لأن رشد كل مقام بحسبه. وعند
الشافعية: عدم تبذير المال.
وعند الحنفية أربعة هي: العقل والبلوغ والحرية واتحاد الدين، وليست العدالة
والرشد شرطين.
خامساً ـ من له الولاية وترتيب الأولياء: قال الحنفية (1): الولاية هي
ولاية الإجبار فقط، وتثبت للأقارب العصبات (2)، الأقرب فالأقرب؛ لأن
«النكاح إلى العصبات» كما روي عن علي رضي الله عنه، وذلك على الترتيب
الآتي: البنوة، ثم الأبوة، ثم الأخوة، ثم العمومة، ثم المعتق، ثم الإمام
والحاكم، أي بالترتيب التالي:
1 - الابن وابنه وإن نزل.
_________
(1) البدائع: 240/ 2 وما بعدها، فتح القدير: 405/ 2، 413 - 416، الدر
المختار: 429/ 2 - 431.
(2) وهم الذكور الذين لا ينتسبون لقريبهم بواسطة الأنثى وحدها.
(9/6703)
2 - الأب والجد العصبي (الصحيح) وإن علا.
3 - الأخ الشقيق والأخ لأب وأبناؤهما وإن نزلوا.
4 - العم الشقيق والعم لأب وأبناؤهما وإن نزلوا.
ثم يأتي بعد هؤلاء المعتق ثم عصبته النسبية.
ثم السلطان أو نائبه وهو القاضي؛ لأنه نائب عن جماعة المسلمين، للحديث
المتقدم: «السلطان ولي من لا ولي له» وبهذا نطقت المادة (24) من القانون
السوري: «القاضي ولي من لا ولي له».
وليس للوصي تزويج الصغير أو الصغيرة، ولو كان الأب قد أوصى إليه بذلك، على
المعتمد.
وليس للقاضي تزويج الصغيرة من نفسه، ولا ممن لا تقبل شهادته له، وهذا ما
نصت عليه المادة (25) من القانون السوري.
وإذا زوج الولي من مرتبة مع وجود من هو أقرب منه، كان العقد موقوفاً على
إجازة الأقرب، إلا أن يكون هذا الأقرب صغيراً أو مجنوناً، فينفذ عقد الولي
الأبعد. وقد نص القانون السوري (م 1/ 22) على أنه: «إذا استوى وليان في
القرب، فأيهما تولى الزواج بشرائطه، جاز».
وترتيب الأولياء على هذا النحو هو رأي الصاحبين، وقال أبو حنيفة: لغير
العصبات من الأقارب ولاية التزويج عند عدم العصبات، أي تثبت الولاية لذوي
الأرحام، الأقرب فالأقرب، فإن لم يكن عصبة فالولاية للأم، ثم أم الأب، ثم
أم الأم، فإن لم يوجد أحد من الأصول انتقلت الولاية للفروع، على أن تقدم
البنت على بنت الابن لقربها، وتقدم بنت الابن على بنت البنت لقوة قرابتها.
(9/6704)
ثم الجد الرحمي (غير الصحيح): وهو أبو
الأم، وأبو أم الأب. ثم الأخوال ثم الخالات وأولادهم.
فإن لم يوجد أحد من ذوي الأرحام، انتقلت الولاية إلى الحاكم: وهو القاضي
الآن.
وإذا اجتمع في المجنونة أبوها وابنها، فالولي في نكاحها ابنها في قول أبي
حنيفة وأبي يوسف؛ لأن الابن هو المقدم في العصوبة ولا عبرة بزيادة الشفقة.
وقال محمد: الولي أبوها؛ لأنه أوفر شفقة من الابن.
وبه يظهر أن الحنفية يخالفون غيرهم في ثبوت الولاية للأقارب غير الأب
والجد، لإثبات الولاية لابن العم في القرآن في قوله تعالى: {ويستفتونك في
النساء، قل: الله يفتيكم فيهن، وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء
اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن، وترغبون أن تنكحوهن} [النساء:127/ 4] فإن
هذه الآية نزلت ـ كما قالت السيدة عائشة ـ في اليتيمة تكون في حجر وليها،
فيرغب في زواجها، ولا يقسط في صداقها. وهذا الولي المتصور هو ابن العم،
فتثبت لمن هو أقرب منه كالأخ والعم بالأولى. ولعموم قول علي رضي الله عنه:
«النكاح إلى العصبات» والعصبات لفظ عام يشمل الأب وغيره.
ويخالف الحنفية غيرهم أيضاً في عدم ثبوت ولاية التزويج للوصي، لقول علي
السابق: «النكاح إلى العصبات» والوصي ليس من الأقارب العصبة، فلا تثبت له
الولاية.
وأخذ القانون السوري (م21) برأي الجمهور في قصر الولاية على العصبات، ونص
المادة: «الولي في الزواج: هو العصبة بنفسه على ترتيب
(9/6705)
الإرث، بشرط أن يكون محرماً» ويلاحظ أنه
قصر الولاية على العصبات المحارم ليمنع ابن العم من التحكم في زواج بنت
عمه.
مذهب المالكية في ترتيب الأولياء:
قال المالكية (1): هنا ك ولي مجبر، وولي غير مجبر. فولاية الإجبار تثبت
لأحد ثلاثة بالترتيب الآتي:
1ً - السيد المالك ولو
أنثى: فله أن يجبر أمته أو عبده على الزواج بشرط عدم الإضرار بهما،
كالتزويج من ذي عاهة كالجذام أو البرص، فلا جبر للمالك، ويفسخ وإن طال،
والسيد مقدم على الأب.
2ً - الأب: رشيداً كان أو
سفيهاً ذا رأي، فله تزويج البكر ولو عانساً: بلغت من العمر ستين سنة فأكثر،
فله تزويج البنت البكر جبراً عنها، ولو بدون مهر المثل، أو من غير كفء، كأن
يكون أقل حالاً منها، أو قبيح منظر.
وليس للأب جبر ابنته إذا رشَّدها، أي جعلها رشيدة، أو أطلق الحجر عنها،
لصيرورتها حسنة التصرف، أو أقامت سنة فأكثر في بيت زوج بعد أن دخل بها، ثم
تأيمت وهي بكر، فلا جبر للأب عليها؛ تنزيلاً لإقامتها ببيت الزوج سنة منزلة
الثيوبة.
وكذلك ليس للأب الجبر إن زالت بكارة البنت بنكاح فاسد يدرأ (يمنع) الحد
عنها لشبهة، فإن لم يدرأ الحد عنها فله جبرها.
_________
(1) الشرح الصغير: 353/ 2 - 364، القوانين الفقهية: ص 199 - 200، الشرح
الكبير: 221/ 2 - 227، شرح الرسالة: 31/ 2 - 32.
(9/6706)
وللأب جبر البنت الثيب الصغيرة، بأن تأيمت
بعد أن أزال الزوج بكارتها، إذ لا عبرة لثيوبتها في هذه الحالة مع صغرها.
وله جبرها إن زالت بكارتها بزنا ولو تكرر، أو ولدت من الزنا، أوزالت
بكارتها بعارض كوثبة أو ضربة أو بعود ونحوها.
وللأب جبر المجنونة جنوناً مطبقاً ولو كانت ثيباً أو ولدت أولاداً، أما
التي تفيق فتنتظر إفاقتها إن كانت ثيباً، فتزوج برضاها، وأما البكر فيجبرها
ولا تنتظر إفاقتها.
3ً - وصي الأب عند عدم الأب
بشروط ثلاثة هي:
أـ أن يعين الأب للوصي الزوج، بأن يقول له: زوجها من فلان، أو يأمره بجبرها
صراحة، مثل: اجبرها على الزواج، أو ضمناً، مثل: زوجها قبل البلوغ وبعده، أو
على أي حالة شئت.
أو أن يأمره بالزواج دون أن يعين له الزوج ولا الإجبار، كأن يقول له: زوجها
أو أنكحها، أوزوجها ممن أحببت، أو لمن ترضاه.
أو أن يقول له: أنت وصيي على بنتي، أو بناتي، أو على بعضها أو بعضهن، فله
الجبر على الأرجح. أما لو قال: أنت وصيي على مالي فلا جبر بالاتفاق.
ب ـ ألا يقل المهر عن مهرا لمثل.
جـ ـ ألا يكون الزوج فاسقاً.
والخلاصة: إن الذي يجبر في عصرنا: هو الأب ووصيه، ولا جبر لغير السيد والأب
ووصيه من الأولياء في تزويج البكر والصغيرة والمجنونة، أو أي أنثى صغيرة أو
كبيرة، إلا في مسألة واحدة هي البكر الصغيرة اليتيمة، للولي غيرا لمجبر
(9/6707)
تزويجها بمشورة القاضي إذا خيف عليها
الفساد في دينها، بأن يتردد عليها أهل الشر والفسق، أو لعدم وجود من ينفق
عليها، أو لخوف ضياع ما لها، بشرط بلوغها عشر سنوات؛ لأنها صارت في سن من
توطأ، وبشرط خلوها من الموانع الشرعية، ككونها زوجة أو في عدة من زوج آخر،
وبشرط رضاها بالزوج، وكونه كفئاً لها في الدين والحرية والمال، وأن المهر
مهر مثلها.
فإذا فقد شرط من هذه الشروط المذكورة، بأن لم يخف عليها فساداً ولا ضياعاً
أو لم تبلغ عشر سنوات، فسخ زواجها إلا إذا دخل الزوج بها، وطال الزمن بعد
الدخول والبلوغ. وطول الزمن: بمضي ثلاث سنين بعد الدخول والبلوغ، أو بولادة
أولاد كاثنين في بطنين.
ودليل المالكية على إثبات ولاية الإجبار للأب دون غيره من الأولياء: هو
الإجماع على أن للأب أن يزوج ابنته البكر الصغيرة، بدليل تزويج أبي بكر
ابنته عائشة، وهي بنت ست أو سبع، للنبي صلّى الله عليه وسلم، وقوله صلّى
الله عليه وسلم «والبكر يستأمرها أبوها» فقصر الاستئمار على الأب.
ودليلهم على أن وصي الأب كالأب: هو أنه نائب عن الأب، فكما يجوز للأب توكيل
غيره في حال الحياة، يجوز له أن يوصي عنه لنائبه عنه بعد الوفاة.
وأما الولي غير المجبر أو ولاية الاختيار:
فتثبت للبنوة ثم الأبوة المباشرة، ثم الأخوة ثم الجدودة ثم العمومة على
النحو التالي:
ـ الابن فابنه وإن نزل.
ـ ثم الأب.
(9/6708)
ـ ثم الأخ الشقيق ثم الأخ لأب، ثم ابن الأخ
الشقيق، ثم ابن الأخ لأب.
ـ ثم الجد (أبو الأب). ويلاحظ أنه جعل في المرتبة الرابعة، أما عند الحنفية
فهو في المرتبة الثانية بعد الأب.
ـ ثم العم ثم ابن العم، على أن يقدم الشقيق على غيره.
ـ ثم أب الجد، ثم العم لأب فابنه، ثم عم الجد فابنه.
ـ ويقدم الأفضل عند التساوي في الرتبة، فإن تساوى اثنان في الرتبة والفضل
كإخوة كلهم علماء، قدم الحاكم إن وجد من يراه، فإن لم يكن حاكم أقرع بينهم.
ـ ثم المولى الأعلى: وهو من أعتق المرأة، ثم عصبته.
ـ ثم الكافل للمرأة غير العاصب: وهو من قام بتربية الفتاة وهي صغيرة حتى
بلغت عنده، أو بلغت عشراً، بشرطين:
أولهما ـ أن يكفلها مدة توجب الحنان والشفقة عليها عادة، دون تحديد زمن
معين على الأظهر.
ثانيهما ـ أن تكون الفتاة وضيعة (دنيئة) لا شريفة: وهي التي لا مال لها ولا
جمال ولا نسب ولا حسب (الأخلاق الكريمة كالعلم والحلم والتدبير والكرم
ونحوها)،كما تقدم. فإن كانت شريفة زوجها القاضي.
ـ ثم الحاكم أو القاضي الشرعي اليوم.
ـ ثم كل مسلم بالولاية العامة إن لم يوجد أحد من الأولياء السابقين، ومنهم
الخال، والجد من جهة الأم، والأخ لأم، فلكل مسلم تزويج المرأة الشريفة أو
الوضيعة بإذنها ورضاها. لقوله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء
بعض} [التوبة:71/ 9].
(9/6709)
وإذا زوج الأبعد مع وجود الأقرب (1) نفذ
الزواج.
ويجوز لابن العم، والمولى، ووكيل الولي، والحاكم أن يزوج المرأة من نفسه،
ويتولى طرفي العقد. وليشهد كل واحد منهم على رضاها خوفاً من منازعتها
وإنكارها.
والحاصل: أن المالكية يخالفون غيرهم في جعل الجد في المرتبة الرابعة بعد
الإخوة، وليس بعد الأب، وأن الولي المجبر هو الأب فقط لا الجد، ويخالفونهم
أيضاً في ثبوت الولاية بالإيصاء والكفالة، وبالولاية العامة بسبب الإسلام.
ويتفق الفقهاء في إثبات الولاية بسبب الملك، والأبوة والعصوبة غير الأبناء،
والسلطنة.
ترتيب الأولياء عند الشافعية:
الولي عند الشافعية: إما مجبرأو غير مجبر (2):
فالولي المجبر أحد ثلاثة: الأب، والجد وإن علا، والسيد.
فللأب تزويج البكر صغيرة أو كبيرة بغير إذنها، ويستحب استئذانها، وليس له
تزويج ثيب إلا بإذنها، فإن كانت الثيب صغيرة لم تزوَّج حتى تبلغ.
والجد كالأب عند عدمه.
وللسيد تزويج أمته، سواء أكانت بكراً أم ثيباً، صغيرة أم كبيرة، عاقلة كانت
أم مجنونة؛ لأن الزواج عقد يملكه عليها بحكم الملك، فكان إلى المولى،
كالإجارة.
_________
(1) المراد بالأبعد: المؤخر في الرتبة، وبالأقرب: المتقدم فيها، ولو كانت
جهتهما متحدة، فيشمل ذلك تزويج الأخ لأب مع وجود الشقيق.
(2) مغني المحتاج: 149/ 3 - 152، المهذب: 37/ 2 وما بعدها.
(9/6710)
والولي غير المجبر: هو الأب والجد وباقي
العصبات.
وترتيب الأولياء على النحو التالي: الأبوة، الأخوة، العمومة، ثم المعتق ثم
السلطان، أي الأب، ثم الجد أبو الأب، ثم أبوه وإن علا، ثم الأخ الشقيق ثم
الأخ لأب، ثم ابن الأخ الشقيق ثم ابن الأخ لأب وإن سفل، ثم العم، ثم سائر
العصبة من القرابة كالإرث.
ثم المعتق، ثم عصبته بترتيب الإرث. ويزوج عتيقة المرأة من يزوج المعتقة
مادامت حية، ولا يعتبر إذن المعتقة في الأصح، فإن ماتت فلمن له الولاء.
ثم السلطان، لخبر: «السلطان ولي من لا ولي له» (1).
ولا تثبت الولاية للأبناء، فلا يزوج ابن أمه وإن علت ببنوة محضة، خلافاً
للأئمة الثلاثة والمزني تلميذ الشافعي؛ لأنه لا مشاركة بينه وبينها في
النسب، إذ انتسابها إلى أبيها، وانتساب الابن إلى أبيه.
واستدل الجمهور بقوله صلّى الله عليه وسلم: «لما أراد أن يتزوج أم سلمة،
قال لابنها عمر: قم فزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلم» (2) ورد الشافعية
بأجوبة: أحدها أن نكاحه صلّى الله عليه وسلم لا يحتاج إلى ولي، وإنما قال
له ذلك استطابة لخاطره.
ثانيها ـ أن عمر بن أبي سلمة ولد في أرض الحبشة في السنة الثانية من
الهجرة، وزواجه صلّى الله عليه وسلم بأم سلمة كان في السنة الرابعة.
_________
(1) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن الأربعة) عن عائشة (نيل الأوطار: 118/
6).
(2) رواه أحمد والنسائي عن أم سلمة، وأعل بأن عمر المذكور كان عند تزوجه
صلّى الله عليه وسلم بأمه صغيراً، له من العمر سنتان؛ لأنه ولد في الحبشة
في السنة الثانية من الهجرة، وتزوجه عليه الصلاة والسلام بأمه كان في السنة
الرابعة (نيل الأوطار: 124/ 6).
(9/6711)
ثالثها ـ بتقدير صحة أنه زوج وهو بالغ،
فيكون ببنوة العم. فإن كان الابن ابن عم أو معتقاً أوقاضياً، زوَّج
بالبنوة، لأنها غير مقتضية لا مانعة، فإذا وجد معها سبب آخر يقتضي الولاية
لم تمنعه.
والحاصل: أن الابن ليس ولياً عند الشافعية، خلافاً للجمهور.
ترتيب الأولياء عند الحنابلة:
الولي عند الحنابلة إما مجبر أوغير مجبر (1).
والولي المجبر: هو الأب، ثم وصي الأب بعد موته، ثم الحاكم عند الحاجة.
والولي غير المجبر: بقية الأقارب العصبات، الأقرب فالأقرب كالإرث.
وترتيب الأولياء: الأبوة، ثم البنوة، ثم الأخوة، ثم العمومة، ثم المعتق، ثم
عصبته، ثم السلطان، على النحو التالي:
1 - الأب: فهو أحق الناس بتزويج المرأة الحرة؛ لأنه أكمل نظراً وأشد شفقة.
2 - ثم الجد أبو الأب وإن علا، فهو أحق بالولاية من الابن وسائر الأولياء؛
لأن الجد له إيلاد وتعصيب، فيقدم على الابن كالأب.
3 - ثم الابن وابنه وإن سفل: فهو أولى بتزويج أمه، لحديث أم سلمة السابق.
4 - ثم الأخ الشقيق: لكونه أقرب العصبات بعد الأب والابن.
_________
(1) كشاف القناع: 52/ 5 وما بعدها، المغني: 456/ 6 - 460.
(9/6712)
5 - ثم الأخ لأب مثل الشقيق.
6 - ثم أولاد الإخوة وإن سفلوا.
7 - ثم العمومة ثم أولادهم وإن سفلوا، ثم عمومة الأب.
8 - ثم المعتق، ثم أقرب عصبته منه.
9 - ثم السلطان، فلا خلاف بين أهل العلم في أن للسلطان ولاية تزويج المرأة
عند عدم أوليائها، أو عضلهم، لحديث عائشة المتقدم: «السلطان ولي من لا ولي
له» والسلطان هنا: هو الإمام أو الحاكم أو من فوض إليه الولاية.
والخلاصة: إن البنوة تقدم على الأبوة عند الحنفية والمالكية، وتقدم الأبوة
على البنوة عند الحنابلة، وليس للأبناء ولاية عند الشافعية.
سادساً ـ المولى عليه أو من تثبت عليه الولاية: الولاية عند الجمهور
غيرالحنفية تنقسم إلى ولاية إجبار وولاية اختيار كما تقدم، ولكل منهما
أصناف تثبت عليها.
من تثبت عليه ولاية الإجبار: تثبت ولاية
الإجبار على من يأتي (1):
1ً - عديم الأهلية أو
ناقصها بسبب الصغر أو الجنون أو العته: تثبت ولاية الإجبار عند الجمهور غير
الحنفية على الصغار والمجانين والمعتوهين من غير فرق بين ذكر وأنثى، وبين
بكر وثيب، إلا أن المالكية استثنوا صاحبة الجنون المتقطع، فتنتظر إفاقتها
لتستأذن، فإن أفاقت زوَّجها الولي برضاها، فعلِّة ولاية الإجبار عند
المالكية: إما البكارة أو الصغر.
_________
(1) البدائع: 241/ 2، الشرح الصغير: 351/ 2 - 357، مغني المحتاج: 149/ 3
وما بعدها، كشاف القناع: 43/ 5 - 49، الشرح الكبير: 221/ 2 - 224، الدر
المختار: 407/ 2 - 415.
(9/6713)
واستثنى الشافعية الثيب الصغيرة، فلا إجبار
عليها؛ لأن علة ثبوت ولاية الإجبار عندهم هي البكارة فقط، وهذه العلة لا
تتحقق في الثيب الصغيرة، وحكمها: أنها لا تزوج حتى تبلغ، وتأذن لوليها في
زواجها، للحديث السابق: «الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في
نفسها، وإذنها سكوتها» ورد عليهم بأن المراد من الثيب هنا البالغة فقط.
وقال الحنابلة مثل المالكية: علة ولاية الإجبار إما البكارة أو الصغر،
فللأب تزويج بناته الأبكار ولو بعد البلوغ، بغير إذنهم؛ لحديث ابن عباس
مرفوعاً عند أبي داود: «الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر، وإذنها
صماتها» فلما قسم النساء قسمين، وأثبت الحق لأحدهما، دل على نفيه عن الآخر
وهي البكر، فيكون وليها أحق منها بالولاية.
وللأب أيضاً تزويج ثيب دون تسع سنين؛ لأنه لا إذن لها.
وليس ذلك للجد ولا لسائر الأولياء، كما أنه ليس لسائر الأولياء غير الأب
تزويج حرة كبيرة بالغة ثيباً كانت أوبكراً إلا بإذنها، لحديث أبي هريرة
مرفوعاً: «لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن ... » إلا
المجنونة فلسائر الأولياء تزويجها إذا ظهر منها الميل إلى الرجال، بسبب
الحاجة ودفع ضرر الشهوة عنها وصيانتها عن الفجور.
ويتفق الحنفية مع المالكية والحنابلة في ثبوت الولاية على الصغير والصغيرة،
والمجنون الكبير والمجنونة الكبيرة، سواء أكانت الصغيرة بكراً أم ثيباً،
فلا تثبت هذه الولاية على البالغ العاقل، ولا على العاقلة البالغة؛ لأن علة
ولاية الإجبار عندهم هي الصغر وما في معناه، وهذه العلة متحققة في الصغار
والمجانين دون غيرهم.
(9/6714)
2ً - البكر البالغة
العاقلة: تثبت عليها عند الجمهور غير الحنفية ولاية الإجبار: لأن العلة هي
البكارة، للمفهوم من حديث: «الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر في
نفسها» فقد جعلت الثيب أحق بنفسها من وليها، ولم يجعل البكر أحق بنفسها من
وليها كالثيب، وهذا هو الإجبار بعينه.
ولا تثبت عليها هذه الولاية عند الحنفية، لحديث: «والبكر تستأمر في نفسها»
وفي رواية: «والبكر يستأمرها أبوها» والاستئمار: معناه طلب الأمر منها وهو
الإذن، فيكون استئذانها أمراً ضرورياً، ولا يصح أن تزوج إلا برضاها. وقد
أخرج النسائي وغيره عن عائشة: «أن فتاة دخلت عليها فقالت: إن أبي زوجني من
ابن أخيه، يرفع بي خسيسته، وأنا كارهة، قال: اجلسي حتى يأتي رسول الله صلّى
الله عليه وسلم، فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأخبرته، فأرسل إلى
أبيها، فدعاه، فجعل الأمر إليها، فقالت: يا رسول الله، قد أجزت ما صنع أبي،
ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء» (1) والظاهر أنها
بكر (2). وهو يدل على أن البكر البالغة العاقلة لا تزوج إلا برضاها.
3ً - الثيب البالغة العاقلة
التي زالت بكارتها بأمر عارض كالضرب والوثب والعود ونحوها، أو زالت بكارتها
بالزنا أوالغصب على المشهور عند المالكية: يزوجها الولي المجبر (الأب
ووصيه) ولو عانساً بلغت ستين سنة أو أكثر؛ لأن ثبوت الولاية إنما هو للجهل
بأمور الزواج ومصالحه، ومن زالت بكارتها بغير الزواج الصحيح، أو الفاسد
الذي يدرأ الحد لشبهة لاتزال جاهلة بهذه الأمور، فتبقى الولاية عليها
كالبكر البالغة.
_________
(1) سبل السلام: 122/ 3 وما بعدها، نيل الأوطار: 127/ 6.
(2) ولعلها البكر التي في حديث ابن عباس، وقد زوجها أبوها كفؤاً ابن أخيه،
ونصه: «أن جارية بكراً أتت النبي صلّى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها
وهي كارهة، فخيرها رسول الله صلّى الله عليه وسلم» رواه أحمد وأبو داود
وابن ماجه، وأعل بالإرسال.
(9/6715)
والجمهور لا يقولون بثبوت ولاية الإجبار
على الثيب البالغة، مهما كان سبب الثيوبة غير السقطة ونحوها. قال الحنفية:
من زالت بكارتها بوثبة أي نطة أو درور حيض أو حصول جراحة أوتعنيس أي كبر:
بكر حقيقة، وتعد بكراً بالتفريق بجب أو عُنة أو طلاق أو موت بعد خلوة قبل
وطء. وتعد الموطوءة بشبهة أو نكاح فاسد ثيباً. ومن زنت مرة فقط ولم تحد
بالزنا بكر حكماً فيكتفى بسكوتها.
وقال الحنابلة: الثيب: من وطئت في القبل لا في الدبر، بآلة الرجال، لا بآلة
غيرها، ولو كانت وطئت بزنا. وقال الشافعية: الثيب: من زالت بكارتها، سواء
زالت البكارة بوطء حلال كالنكاح، أو حرام كالزنا، أو بشبهة في نوم أو يقظة،
ولا أثر لزوالها بلا وطء في القبل كسقطة وحدة طمث، وطول تعنيس وهو الكبر،
أو بأصبع ونحوه في الأصح، فحكمها حينئذ حكم الأبكار.
من تثبت عليه ولاية الاختيار:
تثبت ولاية الاختيار عند المالكية على أصناف أربعة، هي ما يأتي بمقارنتها
مع المذاهب الأخرى (1):
1ً - الثيب البالغة التي
زالت بكارتها بزواج صحيح، أو فاسد ولو مجمع على فساده إن درأ الحد لشبهة:
فهذه لا تزوج بالاتفاق إلا برضاها وإذنها، لصريح الحديث المتقدم: «الثيب
أحق بنفسها من وليها» وفي رواية «والثيب تشاور» فإنه يدل على أن الثيب
البالغة لا تزوج إلا برضاها.
2ً - البكر البالغة التي
رشَّدها أبوها أو وصيه: بأن جعلها رشيدة، أو رفع الحجر عنها، لما قام بها
من حسن التصرف. ويتفق الحنفية مع المالكية في الولاية
_________
(1) الشرح الصغير: 353/ 2 - 357، الشرح الكبير: /223 وما بعدها، القوانين
الفقهية: ص 198 وما بعدها، البدائع: 247/ 2، مغني المحتاج: 149/ 3، كشاف
القناع: 46/ 5 وما بعدها.
(9/6716)
عليها؛ لأن البالغة العاقلة عند أبي حنيفة
وزفر لا تزوج إلا برضاها، بكراً كانت أو ثيباً، لكن الولاية عليها في رأي
الحنفية هي ولاية ندب واستحباب.
ويخالف الشافعية والحنابلة في صفة الولاية فيجعلون الولاية عليها ولاية
جبر.
3ً - البكر البالغة التي
أقامت مع الزوج سنة، ثم تأيمت وهي بكر: لأن إقامة المرأة في بيت الزوج سنة
تنزل منزلة الثيوبة في تكميل المهر، فتنزل كذلك في الرضا بالزواج. والحنفية
مع المالكية في هذا كالحالة السابقة، ويخالفهم الشافعية والحنابلة، فيجعلون
الولاية عليها ولاية جبر.
4ً - اليتيمة (1) الصغيرة
التي خيف عليها، إما لفساد يلحقها في دينها، بأن كان يتردد عليها أهل
الفسوق، أو كانت تتردد هي عليهم، أو لفساد في دنياها كضياع مالها، أو فقرها
وقلة الإنفاق عليها، فللولي غير الأب ووصيه أن يزوجها إذا بلغت عشر سنين،
بعد مشاورة القاضي، ليثبت عنده سنها، ويتأكد أنها خلية من زوج وعدة وغيرهما
من الموانع الشرعية، ورضاها بالزوج، وأنه كفئها في الدين والحرية والحال،
وأن المهر مهر مثلها، فيأذن لوليها في العقد، ولا يتولى العقد بنفسه مع
وجود غيره من الأولياء.
سابعاً ـ كيفية إذن المرأة بالزواج: اتفق الفقهاء على كيفية صدور الإذن
والرضا من المرأة بالزواج بحسب حالها بكراً أو ثيباً (2)، عملاً بالأحاديث
الكثيرة، منها: «الثيب تعرب عن نفسها، والبكر
_________
(1) غير المجبرة متى كانت صغيرة كانت يتيمة، إذ لو كان لها أب، لكان مجبراً
لها.
(2) البدائع: 242/ 2، الدر المختار: 411/ 2 - 414، الشرح الصغير: 366/ 2
وما بعدها، مغني المحتاج: 150/ 3، كشاف القناع: 47/ 5 - 48.
(9/6717)
رضاها صمتها» (1)، ومنها «الثيب أحق بنفسها
من وليها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها» (2) وفي رواية لهذا
الحديث لأبي داود والنسائي: «ليس للولي مع الثيب أمر، واليتيمة تستأمر،
وصمتها إقرارها» سواء أكان الإذن واجباً بالنسبة للولي غير المجبر أم
مستحباً بالنسبة للولي المجبر.
وبناء عليه، إذا كانت المرأة بكراً: فرضاها يكون بالسكوت (3)؛ لأن البكر
تستحي عادة من إظهار الرضا بالزواج صراحة، فيكتفى منها بالسكوت، محافظة على
حيائها. ويندب عند المالكية إعلامها بأن سكوتها رضا وإذن منها، فلا تزوج إن
منعت، بأن قالت: لا أرضى أو لا أتزوج، أو ما في معناه.
ومثل السكوت: كل مايدل على الرضا كالضحك بغير استهزاء، والتبسم، والبكاء
بلا صوت أو صياح أو ضرب خد، فإن كان التبسم أو الضحك للاستهزاء، وكان
البكاء بصياح أو ضرب خد، لم يكف ولم يعد إذناً ولا رداً؛ لأنه يشعر بعدم
الرضا، فلو رضيت صراحة بعده، انعقد العقد.
أما إن كانت المرأة ثيباً: فرضاها لا يكون إلا بالقول الصريح، للحديث
السابق: «الثيب تعرب عن نفسها» أي تفصح عن رأيها وعما في ضميرها من رضا أو
منع، ولا يكتفى منها بالصمت؛ لأن الأصل ألا ينسب إلى ساكت قول، وألا يكون
السكوت رضا، لكونه محتملاً في نفسه، وإنما اكتفي به في البكر للضرورة؛
لأنها تستحي عادة من التصريح عن رغبتها في الزواج، والثابت بالضرورة يتقدر
_________
(1) رواه الأثرم وابن ماجه.
(2) رواه الجماعة إلا البخاري عن ابن عباس (نيل الأوطار: 120/ 6).
(3) قال الحنفية: إن زنت المرأة مرة ولم يتكرر زناها، ولم تحد به، فهي بكر
حكماً أي يكتفى بسكوتها كيلا تتعطل مصالحها عليها، وقد ندب الشارع إلى ستر
الزنا، فكانت بكراً شرعاً. بخلاف ما إذا اشتهر زناها.
(9/6718)
بقدرها، ولاضرورة في حق الثيب؛ لاعتيادها
معاشرة الرجال، فلا تستحي عادة من إعلان رضاها أو رفضها، فلا يكتفى بسكوتها
عند الاستئذان.
وقال المالكية: يشارك الثيب أبكار ستة، لا يكتفى منهن بالصمت، بل لا بد من
الإذن بالقول الصريح كالثيب وهن:
1ً - البكر التي رشدها
أبوها أو وصيه: بأن أطلق الحجر عنها في التصرف المالي، وهي بالغ، فلا بد من
إذنها بالقول، وقد تقدم أنه لا جبر لأبيها عليها.
2ً - البكر التي عُضِلت: أي
منعها وليها من الزواج بدون مسوغ، ورفعت أمرها إلى القاضي، فتولى تزويجها،
فلا بد من إذنها بالقول.
3ً - البكر المُهْمَلة التي
لا أب لها ولا وصي: إذا زوجت بشيء من العروض (الأمتعة)، وهي من قوم لا
يزوجون بالعروض، سواء أكان كل الصداق أم بعضه، أو يتزوج قومها بعَرَض معين،
فزوجها وليها بغيره، فلا بد من نطقها بأن تقول: رضيت بذلك المهر العرض.
4ً - البكر ولو كانت
مُجْبَرة إذا زوجت برقيق، فلا بد من إذنها بالقول؛ لأن العبد ليس بكفء
للحرة.
5ً - البكر، ولو كانت
مجبَرة إذا زوجت برجل فيه عيب يوجب لها الخيار كجذام وبرص وجنون وخصاء، فلا
بد من نطقها بأن تقول: رضيت به.
6ً - البكر غيرالمجبرة التي
افتات (1) (تعدى) عليها وليها غير المجبر، فعقد
_________
(1) يصح الافتيات (عدم الاستئذان) على المرأة مطلقاً بكراً أو ثيباً، وعلى
الزوج أيضاً بشروط ستة:
الأول ـ أن يقرب الرضا من العقد: كأن يكون العقد بالمسجد أو بالسوق مثلاً،
ويبلغها الخبر من وقته، قبل مضي اليوم.
الثالث ـ ألا يرد الزواج قبل الرضا ممن افتيت عليه منهما، فإن رده الزوج
فلا يصح منه الرضا بعدئذ. وإذا وقع من المرأة رد قبل الرضا، فلا عبرة
برضاها بعده.
الرابع ـ أن يكون من افتيت عليها بالبلد حال الافتيات والرضا، فإن كان في
بلد آخر، لم يصح.
الخامس ـ ألا يقر الولي بالافتيات حال العقد: بأن سكت أو ادعى أنه مأذون،
فإن أقرّ به لم يصح.
السادس ـ ألا يكون الافتيات على الزوجين معاً: فإن كان عليهما معاً لم يصح،
ولا بد من فسخه (الشرح الصغير: 368/ 2 وما بعدها، الدسوقي: 228/ 2).
(9/6719)
الثاني ـ أن يكون الرضا بالقول، أي بالنطق:
فلا يكفي الصمت. = عليها بغير إذنها، ثم بلغها خبر زواجها، فرضيت، ويصح
الزواج، ولا بد من رضاها بالقول صراحة، حتى ولو كانت قد رضيت به بالخطبة،
فلا بد على كل حال من استئذانها في العقد؛ لأن الخطبة غير لازمة، فلا تغني
عن استئذانها في العقد وتعيين الصداق.
ويتفق الحنابلة مع المالكية في هذا فإنهم قالوا: إذا زوجت التي يعتبر إذنها
بغير إذنها، وقلنا: يقف على إجازتها، فإجازتها بالنطق أو ما يدل على الرضا
من التمكين من الوطء أو المطالبة بالمهر والنفقة (1).
ثامناً ـ عضل الولي وحكمه: العضل: هو منع الولي المرأة العاقلة البالغة من
الزواج بكفئها إذا طلبت ذلك، ورغب كل واحد منهما في صاحبه. وهو ممنوع شرعاً
ويحتاج لبيان حكمه عند الفقهاء (2).
أما المنع الشرعي عنه: فقد نهى الله
تعالى جميع الأولياء عن العضل بقوله:
{وإذا طلقتم النساء، فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن}
[البقرة:232/ 2] قال معقل بن يسار: «زوجت أختاً لي من رجل فطلّقها، حتى إذا
_________
(1) المغني: 476/ 6.
(2) البدائع: 248/ 2، الشرح الكبير مع الدسوقي: 232/ 2، مغني المحتاج: 153/
3 وما بعدها، كشاف القناع: 50/ 5، 57.
(9/6720)
انقضت عدتها، جاء يخطبها، فقلت له: زوجتك
وأفرشتك وأكرمتك، فطلقتها، ثم جئت تخطبها، لا والله لا تعود إليك أبداً،
وكان رجلاً لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فأنزل الله تعالى
هذه الآية: {ولا تعضلوهن} [البقرة:232/ 2] فقلت: الآن أفعل يا رسول الله،
قال: فزوجها إياه» (1). ولكن النهي في رأي الفقهاء ليس مطلقاً.
وليس للولي العضل عند الشافعية والحنابلةوأبي يوسف ومحمد، لنقصان المهر، أو
لكونه من غير نقد البلد إذا رضيت به، فسواء طلبت التزويج بمهر مثلها أم
دونه، لم يجز العضل؛ لأن المهر محض حقها، وعوض يختص بها، فلم يكن للأولياء
الاعتراض عليها فيه؛ ولأنها لو أسقطته بعد وجوبه سقط كله، فبعضه أولى.
وقال أبو حنيفة: للأولياء منع المرأة من التزويج بدون مهر مثلها؛ لأن عليهم
فيه عاراً، وفيه ضرراً على نسائها لنقص مهر مثلهن.
ويرى المالكية أن العضل يتحقق في مسألتين: الأولى: إذاطلبها كفء ورضيت به،
طلبت التزويج به أو لا، والثانية: إذا دعت لكفء، ودعا وليها لكفء آخر.
وحصر الشافعية في الأصح والحنابلة العضل في المسألة الأولى، فقالوا: لو
عينت المرأة كفئاً، وأراد الأب غيره، فله ذلك.
وأضاف الحنابلة صورة أخرى للعضل وهي: إذا امتنع الخُطاب لشدة الولي، لكن
الظاهرأنه لا حرمة على الولي هنا؛ لأنه ليس له فعل ذلك المنع.
_________
(1) رواه البخاري.
(9/6721)
ممن يكون العضل؟
أـ إن كان الولي أباً مجبراً وامتنع من تزويج ابنته المجبرة، فلا يعد
عاضلاً إلا إذا تحقق منه الإضرار بها، وظهر الضرر بالفعل، كأن يمنعها من
الزواج لتقوم بخدمته، أو ليستثمرها بأن يستولي على مرتبها الوظيفي، ويخشى
أن تقطعه عنه لو تزوجت.
أما مجرد رد خاطب كفء رضيت به ابنته المجبرة، فلا يعد عضلاً، بل لا يعد
عاضلاً لمجبرته برده لكفئها رداً متكرراً، سواء أكان الخاطب واحداً أم
أكثر؛ لأن ما جبل عليه الأب من الحنان والشفقة على بنته، مع جهل البنت
بمصالح نفسها، يجعله لا يرد الخاطب إلا إذا علم من حالها أو من حاله ما لا
يوافق، أو ما يدعو إلى الرد، وقد روي أن الإمام مالك منع بناته من الزواج،
وقد رغب فيهن خيار الرجال، وفعل مثله العلماء قبله كابن المسيب وبعده، ولم
يكن قصدهم الضرر ببناتهم، فلم يعد واحداً منهم عاضلاً.
ويعد كالأب عند المالكية: وصي الأب المجبر، لا يكون عاضلاً بمجرد رد الخاطب
الكفء الذي رضيت به المرأة، إلا إذا تحقق منه الإضرار بالمرأة. وقيل: إن
الوصي المجبر يعد عاضلاً برد أول كفء.
ب ـ أما إن كان الولي غير مجبر، سواء أكان أباً أم غيره، فإنه يعد عاضلاً
في المسألتين السابقتين اللتين ذكرهما المالكية، وفي المسألة الأولى عند
الشافعية والحنابلة.
حكم العضل:
يفسق الولي بالعضل إن تكرر منه؛ لأنه معصية صغيرة.
(9/6722)
وإذا عضل الولي تنتقل الولاية عند الإمام
أحمد إلى الأبعد؛ لأنه تعذر التزويج من جهة الأقرب، فملكه الأبعد، كما لو
جن، ولأنه يفسق بالعضل ـ كما سبق ـ فتنتقل الولاية عنه، كما لو شرب الخمر.
فإن عضل الأولياء كلهم، زوج الحاكم. وقال الحنفية والمالكية والشافعية، وفي
رواية عن أحمد: إذا عضل الولي ولو كان مجبراً، تنتقل الولاية للسلطان، أي
القاضي الآن، ولا تنتقل للأبعد، للحديث السابق: «فإذا اشتجروا، فالسلطان
ولي من لا ولي له»، ولأنه بالعضل خرج من أن يكون ولياً، ويصبح ظالماً، ورفع
الظلم موكول للقاضي.
تاسعاً ـ غيبة الولي وأسره أو فقده: للفقهاء آراء ثلاثة في غيبة الولي: رأي
الحنفية والحنابلة، ورأي المالكية، ورأي الشافعية (1): أما رأي الحنفية
والحنابلة: فهو إن غاب الولي غيبة منقطعة، ولم يوكل من يزوج، تنتقل الولاية
لمن هو أبعد منه من العصبات، فلوغاب الأب فللجد تزويج المرأة، دون الحاكم،
للحديث المتقدم: «السلطان ولي من لا ولي له» وهذه المرأة لها ولي، ولأن هذه
ولاية تحتاج إلى نظر وتقدير مصلحة، وليس من النظر التفويض إلى من لا ينتفع
برأيه، ففوض النظر إلى الأبعد، وهو مقدم على السلطان، كما إذا مات الأقرب.
وأخذ القانون السوري (م 23) بهذا الرأي، فنص على أنه: إذا غاب الولي
الأقرب، ورأى القاضي أن في انتظار رأيه فوات مصلحة في الزواج، انتقلت
الولاية إلى من يليه.
_________
(1) فتح القدير: 415/ 2 ومابعدها، الشرح الكبير: 229/ 2 وما بعدها، مغني
المحتاج: 157/ 3، المغني: 478/ 6 وما بعدها، كشاف القناع: 57/ 5، القوانين
الفقهية: ص200.
(9/6723)
والغيبة المنقطعة في رأي الحنفية: أن يكون
في بلد لا تصل إليها القوافل في السنة، إلا مرة واحدة، وهو اختيار القدوري،
وقيل: أدنى مدة السفر، أي مسافة القصر (89 كم)؛ لأنه لا نهاية لأقصاه، وهو
اختيار بعض المتأخرين.
ويتفق الحنابلة مع الرأي الثاني، فتكون الغيبة المنقطعة فوق مسافة القصر؛
لأن من دونها في حكم الحاضر.
وأما رأي الشافعية: فهو إن غاب الولي الأقرب نسباً، إلى مرحلتين، أي مسافة
القصر، ولا وكيل له حاضر في البلد، زوج السلطان أونائبه أي سلطان بلدها لا
سلطان غير بلدها، ولا الأبعد على الأصح؛ لأن الغائب ولي، والتزويج حق له،
فإذا تعذر استيفاؤه منه ناب عنه الحاكم. فإن غاب دون مسافة القصر لا يزوج
إلا بإذنه في الأصح، لقصر المسافة، فيراجع فيحضر، أو يوكل كما لو كان
مقيماً.
وأما رأي المالكية ففيه تفصيل: بحسب غيبة الولي المجبر، وغيبة الولي غير
المجبر.
أـ فإن كان الغائب هو الولي المجبر وهو الأب ووصيه: فإما أن تكون الغيبة
قريبة أو بعيدة. فإن كانت الغيبة قريبة كعشرة أيام ذهاباً، فلا تزوج المرأة
التي في ولايته حتى يعود، إذا كانت النفقة جارية عليها أي تجد النفقة
الكافية، ولم يخش عليها الفساد، وكانت الطريق مأمونة، وإلا زوجها القاضي.
وإن كانت الغيبة بعيدة كثلاثة أشهر فأكثر، كالسفر في الماضي إلى أفريقية:
فإن كان يرجى قدومه، كمن خرج لتجارة أو حاجة، فلا تزوج المرأة حتى يعود.
وإن كان لا يرجى قدومه، فللقاضي دون غيره من الأولياء أن يتولى تزويجها إذا
كانت بالغاً، ولو دامت نفقتها على الراجح، وإذنها صمتها على الصواب. فإن لم
(9/6724)
تكن بالغاً، لا يزوجها ما لم يخف عليها
الفساد، فإن خيف فسادها، زوجها ولو جبراً على المعتمد، سواء أكانت بالغة أم
غير بالغة، ولو كانت غيبة الولي قريبة.
ب ـ وإن كان الغائب هو الولي غير المجبر كالأخ والجد:
فإن كانت الغيبة قريبة كثلاثة أيام من بلد المرأة ونحوها، ودعت إلى الزواج
بكفء، وأثبتت ما تدعيه من الغيبة والمسافة والكفاءة، زوجها الحاكم دون
الولي الأبعد؛ لأن الحاكم وكيل الغائب.
وإن كانت الغيبة دون الثلاث، أرسل إليه الحاكم، فإن حضر أو وكل أحداً عنه،
تم المطلوب، وإلا زوجها الولي الأبعد دون القاضي.
وإن كانت الغيبة بعيدة كأكثر من ثلاثة أيام، فللقاضي أن يزوجها؛ لأنه وكيل
الغائب، ولو زوجها الولي الأبعد صح مع الكراهة. وهذا إذا لم يكن للغائب
وكيل مفوض، فإن كان له وكيل مفوض تولى الزواج؛ لأنه مقدم على غيره إذ هو
بمثابة الأصيل.
الغيبة بسبب الأسر أو الفقد:
المشهور من مذهب المالكية: أنه إذا كانت الغيبة بسبب أسر الولي الأقرب أو
فقده، ولم يعلم مكانه، ولم يعرف خبره، زوج الولي الأبعد، ولا تنتقل إلى
القاضي، من غير فرق بين الولي المجبر وغير المجبر؛ لأن الأسر أو الفقد
بمنزلة الموت.
وكذلك قال الحنابلة: إن كان الولي القريب محبوساً أو أسيراً في مسافة قريبة
لا تمكن مراجعته، فهو كالبعيد، فتنتقل الولاية للأبعد.
(9/6725)
المبحث الثالث ـ
الوكالة في الزواج:
يستمد الوكيل سلطته من الموكل، فينفذ تصرفه عليه، فتكون الوكالة نوعاً من
الولاية، لنفاذ تصرف الوكيل على الموكل كنفاذ تصرف الولي على المولى عليه.
وأبحث هنا الأمور التالية: حكم التوكيل بالزواج، مدى صلاحية الوكيل، حقوق
العقد في الوكالة بالزواج، انعقاد الزواج بعاقد واحد (1).
أولاً ـ حكم التوكيل بالزواج: يرى الحنفية: أنه يصح التوكيل بعقد الزواج من
الرجل والمرأة إذا كان كل منهما كامل الأهلية أي بالغاً عاقلاً حراً؛ لأن
للمرأة عندهم أن تزوج نفسها، فلها أن توكل غيرها في العقد؛ عملاً بالقاعدة
الفقهية القائلة: كل ما جاز للإنسان أن يباشره من التصرفات بنفسه، جاز له
أن يوكل غيره فيه، إذا كان التصرف يقبل النيابة.
ويصح التوكيل بالعبارة أو الكتابة، ولا يشترط بالاتفاق الإشهاد عند صدور
التوكيل، وإن كان يستحسن للوكيل أن يشهد على التوكيل، للاحتياط خوفاً من
الإنكار عند النزاع.
ويرى الجمهور غيرالحنفية: أنه لا يصح للمرأة توكيل غير وليها في الزواج؛
لأنها لا تملك إبرام العقد بنفسها، فلا تملك توكيل غيرها فيه. لكن يجوز
لولي المرأة المجبر التوكيل في التزويج بغير إذنها، كما يزوجها بغير إذنها.
ولا يشترط
_________
(1) فتح القدير: 427/ 2 - 433، تبيين الحقائق: 132/ 2 - 135، الشرح الصغير:
372/ 2، الشرح الكبير: 231/ 2 - 232، مغني المحتاج: 157/ 3 وما بعدها،
المغني: 462/ 6 وما بعدها، المهذب: 38/ 2.
(9/6726)
تعيين الزوج، فيجوز التوكيل مطلقاً
ومقيداً، فالمقيد: التوكيل في تزويج رجل بعينه. والمطلق: التوكيل في تزويج
من يرضاه أو من يشاء.
ويوكل الولي مثله في الذكورة والبلوغ والحرية والإسلام وعدم الإحرام بحج أو
عمرة، وعدم العَتَه (ضعف العقل).
وأباح المالكية للزوج أن يوكل من قام به مانع من موانع الولاية غير مانع
الإحرام بحج أو عمرة، والعَتَه (ضعف العقل) فيجوز له أن يوكل نصرانياً أو
عبداً أو امرأة أوصبياً مميزاً على عقد نكاحه.
وأما الولي غير المجبر: فلا يجوز له التوكيل عند الشافعية إلا بإذن المرأة،
فإن قالت له: وكِّلُ وكَّلَ، وإن نهته فلا يوكل. وإن قالت له: زوجني، فله
التوكيل في الأصح؛ لأنه بالإذن متصرف بالولاية، فأشبه الوصي والقيم، وهما
يتمكنان من التوكيل بغير إذن. ولو وكل الولي غير المجبر قبل استئذان المرأة
في النكاح، لم يصح في الصحيح، لأنه لا يملك التزويج بنفسه حينئذ، فكيف يوكل
غيره؟
وقال الحنابلة: لا يعتبر في صحة الوكالة إذن المرأة في التوكيل، ولا حضور
شاهدين، سواء أكان الموكل أباً أم غيره؛ لأنه إذن من الولي في التزويج، فلم
يفتقر إلى إذن المرأة، ولا إلى إشهاد، كإذن الحاكم، لكن يثبت للوكيل ما
يثبت للموكل، فإن كان الولي مجبراً لم يحتج لاستئذان المرأة، وإن كان غير
مجبر احتاج إلى إذنها ومراجعتها؛ لأنه نائب.
وعبارة وكيل الولي في عقد الزواج كما أوضح الشافعية: هي أن يقول: زوجتُك
بنت فلان. ويقول الولي لوكيل الزوج: زوجت بنتي فلاناً، فيقول وكيله: قبلت
نكاحها له.
(9/6727)
ثانياً ـ مدى صلاحية الوكيل:
الوكيل في الزواج كالوكيل في سائر العقود، فلا يجوز له عند الحنفية أن يوكل
غيره؛ لأن الموكل رضي برأيه لا برأي غيره، إلا إن أذن له الموكل، بأن يوكل
عنه من شاء، أو فوض إليه أمر زواجه، فله حينئذ أن يوكل عنه.
وتتحدد صلاحيات الوكيل عند الحنفية بحسب نوع الوكالة مطلقة أو مقيدة؛ لأن
الوكيل يستمد سلطته من الموكل، فلا يملك إلا ما وكله، وينفذ عليه تصرفه
فيما وكله فيه، ويكون فضولياً فيما عداه، فيتوقف نفاذ التصرف على إجازة
الموكل، والإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة.
1 - الوكالة المقيدة: بأن يقيد الموكل
الوكيل في التزويج بأوصاف معينة. فيتقيد فيها الوكيل بما قيده به الموكل،
وليس له أن يخالفه فيما قيده به، إلا إذا كانت المخالفة لخير الموكل،
فحينئذ ينفذ العقد على الموكل. وإن تقيد بالقيد نفذ العقد أيضاً، وإن خالف
القيد توقف عند الحنفية والمالكية نفاذ العقد على إجازة الموكل، حتى ولو
حصل دخول بالمرأة دون أن يعلم الموكل بالمخالفة.
وعلى هذا إن قيده بامرأة معينة بالاسم، أو من الأسرة الفلانية، فإن زوجه
بها نفذ العقد عليه، وإن خالف فزوجه غيرها كان مخالفاً، وتوقف نفاذ العقد
على إجازة الموكل، فإن أجازه نفذ، وإن لم يجزه بطل؛ لأن الوكيل يصبح
بالمخالفة فضولياً، وعقد الفضولي عند الحنفية والمالكية موقوف على إجازة
صاحب الشأن فيه.
وإن قيده بمهر معين، فزوجه به، كان العقد نافذا على الموكل، وإن خالف كان
العقد موقوفاً على إجازة الموكل، إلا إذا كانت المخالفة إلى خير الموكل،
فيصح العقد وينفذ، كأن قال: زوجني بألف فزوجه بأقل من ألف، نفذ العقد من
غير إجازة الموكل.
(9/6728)
ومن أمر رجلاً أن يزوجه امرأة، فزوجه
اثنتين في عقد واحد، لم تلزمه واحدة منهما؛ لأنه لا وجه إلى تنفيذهما
للمخالفة، ولا إلى التنفيذ في إحداهما لا على التعيين، للجهالة، ولا إلى
تعيين واحدة منهما، لعدم الأولوية، فتعين التفريق.
2 - الوكالة المطلقة: بأن لم يعين
الموكل امرأة معينة ولا وصفاً معيناً ولا مهراً. اختلف أئمة الحنفية فيها:
رأى أبو حنيفة: أن للوكيل أن يزوجه بأية امرأة ولو غير كفء له، وبأي مهر،
إلا إذا كان التصرف موضع تهمة؛ لأن القاعدة فيه عنده أن المطلق يجري على
إطلاقه، فيرجع إلى إطلاق اللفظ وعدم التهمة، فله أن يزوجه بمقدار مهر المثل
أو أكثر، أو يزوجه عمياء أو شلاء أو شوهاء، وإذا كان الموكل هو المرأة
فينفذ العقد عليها متى كان الزوج كفئاً (1) سواء أكان الزواج بمهر المثل أم
أقل، وسواء أكان الزوج صحيحاً أم مشوهاً، عملاً بالإطلاق، فأبو حنيفة يراعي
عبارة الموكل ولفظه.
ورأى الصاحبان وباقي المذاهب: أنه يتقيد الوكيل بالمتعارف استحساناً؛ لأن
الإطلاق مقيد عرفاً وعادة بالكفء وبالمهر المألوف، والمعروف عرفاً كالمشروط
شرطاً، فإذا زوجه امرأة كفئاً ملائمة له، وهي السليمة من العيوب وبمهر لا
غبن فيه، كان الزواج نافذاً على الموكل، وإن زوجه بعمياء أو مقطوعة اليدين
أو مفلوجة أو مجنونة أو رتقاء، أو بمهر مصحوب بغبن فاحش، توقف العقد عند
الصاحبين والمالكية على إجازة الموكل، لمخالفته المعروف بين الناس في
الوكالات. ولم يصح العقد عند الشافعية والحنابلة.
_________
(1) الفرق بين الرجل والمرأة: أن المرأة تعير بغير الكفء، فيتقيد إطلاقها
به، بخلاف الرجل فإنه لا يعيره أحد بعدم كفاءتها له: لأنه مستفرش واطئ لا
يغيظه دناءة الفراش.
(9/6729)
وهذا هو الرأي الراجح، وينبغي أن تكون عليه
الفتوى عند الحنفية، وهو المعمول به في محاكم مصر. وبه يتبين أن الصاحبين
يحكمان العرف والعادة.
ولكن هناك مسائل اتفق عليها أبو حنيفة مع صاحبيه وهي:
أـ إذا كانت المرأة هي الموكلة فعلى الوكيل أن يزوجها بكفء؛ لأن المرأة لا
ترغب عادة إلا في الكفء، لمصلحة نفسها، ولئلا يعترض عليها أولياؤها.
ب ـ إذا وكل رجل غيره أن يزوجه امرأة عمياء، فزوجه مبصرة، فإن العقد ينفذ
عليه؛ لأنها مخالفة إلى خير مما عين الموكل.
جـ ـ إذا وكل الرجل آخر أن يزوجه، فزوجه صغيرة لا يجامع مثلها، جاز
اتفاقاً. فإن كانت الصغيرة بنتاً له أو بنت أخيه التي في ولايته، لم ينفذ
العقد على الموكل لتحقق التهمة المانعة من نفاذ العقد، وهي العمل لمصلحته.
وإن كانت بنتاً له كبيرة برضاها لم ينفذ العقد عند أبي حنيفة لتحقق التهمة،
وينفذ عند الصاحبين؛ لأنه ليس له عليها ولاية إجبار.
أما إن زوجه الوكيل أختاً له كبيرة برضاها، نفذ العقد بالاتفاق، لانتفاء
التهمة.
د ـ إذا وكله أن يزوجه فلانة أو فلانة، فزوجه إحداهما، نفذ العقد؛ لوجود
التخيير في التوكيل.
هـ ـ إذا وكلت امرأة رجلاً في تزويجها، فزوجها من نفسه، لم ينفذ العقد
عليها إلا بالإجازة. وكذا إذا وكل الرجل امرأة أن تزوجه فزوجته من نفسها،
لم ينفذ العقد عليه إلا بإجازته، لتحقق التهمة في الحالتين. وكذا لا ينفذ
العقد عند أبي حنيفة إن زوج الوكيل موكلته من أبيه أو ابنه لتحقق التهمة
بسبب البنوة. وينفذ العقد عند الصاحبين؛ لأن البنوة ليست من التهمة عندهما.
(9/6730)
وتلافى المالكية بعض هذه الخلافات فقالوا:
إذا وكلت وليها غير المجبر أن يزوجها ممن أحب، وجب عليه أن يعين لها الزوج
قبل العقد، لاختلاف أغراض النساء في أعيان الرجال. فإن لم يعين الزوج لها،
كان العقد موقوفاً على إجازتها، سواء زوجها من نفسه كابن العم والكافل
والحاكم، أو زوجها من غيره، لاختلاف أغراض النساء من الرجال.
ثالثاً ـ حقوق العقد في الوكالة بالزواج:
حقوق العقد: هي الأعمال التي لا بد منها لتنفيذ مقتضى العقد، كالتسليم
والتسلم والإيفاء والاستيفاء. ومن المتفق عليه أن حقوق عقد الزواج ترجع إلى
الأصيل، وأما الوكيل فهو مجرد سفير ومعبر عن الموكل، فلا ترجع إليه حقوق
العقد، فلا يطالب بإزفاف المرأة إلى زوجها، ولا بأداء المهر ولا غيره من
الواجبات كالنفقة إلا أن يكون كفيلاً بما ذكر، وهذا بخلاف البيع أو الشراء،
فإن حقوق العقد ترجع عند الجمهور غير الحنابلة إلى الوكيل لا إلى الموكل.
وحكم الرسول في الزواج كالوكيل.
وبناء عليه، تطالب الزوجة بزفافها إلى زوجها، ويطالب الزوج نفسه بأداء
المهر إلى زوجته، وتقبض المرأة مهرها، وليس لوكيلها قبضه إلا بإذن منها
صراحة أو دلالة، وإذا قبضه الأب أو الجد ولم تطالب به المرأة، كان سكوتها
عند الحنفية إذناً دلالة للأب أوالجد بالقبض، فيصح قبضه وتبرأ ذمة الزوج من
المهر، عملاً بما هو المعتاد بين الناس أن يقبض الآباء مهور بناتهم. وإذا
كانت الزوجة ثيباً، فلا بد من الإذن الصريح بالقبض إذا كان الوكيل غيرا لأب
أو الجد، ولا يعد سكوتها رضا بالقبض.
(9/6731)
وفصل المالكية بين المرأة المجبرة وغير
المجبرة، فإذا كانت مجبرة، فلوليها المجبر قبض مهرها بدون توكيل منها، وإذا
كانت رشيدة غير مجبرة، فليس لوليها قبض المهر إلا بتوكيل صريح منها بالقبض.
رابعاً ـ انعقاد الزواج أحياناً بعاقد واحد: الأصل في العقود تعدد
العاقدين، لكن أجاز جمهور الحنفية غير زفر انعقاد الزواج أحياناً بعاقد
واحد، وهو كما بان سابقاً في أحوال خمسة هي (1):
الأولى ـ أن يكون متولي العقد أصيلاً عن نفسه وولياً من الجانب الآخر:
فيجوز لابن العم أن يزوج بنت عمه من نفسه؛ لأن الوكيل في النكاح سفير ومعبر
عن الأصيل، ولا يرجع إلىه شيء من حقوق العقد.
الثانية ـ أن يكون العاقد أصيلاً عن نفسه ووكيلاً عن الطرف الآخر: كما لو
وكلته امرأة أن يزوجها من نفسه، فقال أمام الشهود: قد وكلتني فلانة بنت
فلان أن أزوجها من نفسي، فاشهدوا أني تزوجتها.
وهذا بخلاف ما لو وكلته بتزويجها من رجل، فزوجها من نفسه، أو من أبيه أو
ابنه عند أبي حنيفة، لم يصح زواجها؛ لأنها نصبته مزوجاً لا متزوجاً. وكذا
لو وكلته في أن يتصرف في أمرها أو قالت له: زوج نفسي ممن شئت، لم يصح
تزويجها من نفسه.
الثالثة ـ أن يكون ولياً للجانبين: كأن يزوج الجد بنت ابنه ابن ابنه الآخر،
وكأن يزوج بنته الصغيرة لابن أخيه الصغير الذي هو في ولايته.
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 446/ 2 - 452.
(9/6732)
الرابعة ـ أن يكون وكيلاً للجانبين: كأن
يوكله رجل وامرأة في زواجهما، فيقول: زوجت فلانة من فلان.
الخامسة ـ أن يكون ولياً من جانب ووكيلاً من الجانب الآخر: كأن يوكله رجل
أن يزوجه بنته الصغيرة، فيزوجه إياها.
أما الفضولي فلا يصح عند أبي حنيفة
ومحمد أن يتولى العقد من الجانبين ولو تكلم بكلامين، أي بإيجاب وقبول، في
أحوال أربعة: هي أن يكون فضولياً من الجانبين، أو فضولياً من جانب وأصيلاً
من جانب آخر، أو فضولياً من جانب وولياً من جانب آخر، أو فضولياً من جانب
ووكيلاً من جانب آخر، فمن قال مثلاً: اشهدوا أني تزوجت فلانة، فبلغها الخبر
فأجازت، فهو باطل. وإن قال آخر: اشهدوا أني قد زوجتها منه فبلغها الخبر
جاز.
إذ أنه ليس في مسائل الفضولي الأربع قرينة تدل على أنه قام مقام الأصيل،
وأنه يملك التعبير عنه، فعبارته لا تقوم مقام عبارتين، ولم يحدث بعبارته
إلا الإيجاب وحده، وهو شطر العقد، وشطر العقد لا يتوقف على ما وراء المجلس،
فيحدث القبول من الغائب دون أن يجد إيجاباً يلتقي معه؛ لأنه أصبح هدراً.
أما في المسائل الأولى في حال الولاية أو الوكالة، فقد دلت مقارنة على أن
العاقد قام مقام الأصيل، وأنه معبر عنه، فتقوم عبارته مقام عبارة الأصيل،
وتصبح عبارته مفيدة معنى الإيجاب والقبول.
وأجاز أبو يوسف انعقاد الزواج بعاقد واحد في هذه المسائل كلها، فإذا زوجت
المرأة نفسها غائباً فبلغه الخبر، فأجاز، جاز عنده؛ لأنه لا مانع أن تقوم
عبارة العاقد الواحد مقام عبارتين، كالمقرر بحكم الوكالة أو الولاية
الثابتتين حال العقد، ويكون العقد فيما وراء المجلس موقوفاً على إجازة صاحب
الشأن، ولا محذور؛ لأن حقوق عقد الزواج ترجع إلى الأصيل.
(9/6733)
وإذا جرى العقد بين فضوليين أو بين فضولي
وأصيل، جاز باتفاق الحنفية، ويكون موقوفاً على إجازة الغائب؛ لأن عبارة كل
واحد منهما تقوم مقام عبارة الأصيل، لتعدد العاقد حقيقة، فيكون ما جرى بين
الفضوليين عقداً تاماً لوجود الإىجاب والقبول، والعقد الكامل يتوقف على ما
وراء مجلس العقد. هذا والفضولي قبل الإجازة لا يملك نقض النكاح، بخلاف
البيع؛ لأنه في البيع ترجع إليه حقوق العقد، أما في النكاح فترجع الحقوق
إلى المعقود له.
وقرر زفر والشافعي والجمهور: أنه لا يجوز الزواج بعاقد واحد؛ لأن الشخص
الواحد لا يتصور أن يكون مُملِّكاً ومتملكاً، لكن استثنى الشافعي مسألة
الولي كالجد يزوج بنت ابنه من ابن ابنه الآخر، فيجوز للضرورة، ولا ضرورة في
حق الوكيل وغيره من الأحوال الأخرى.
وأجاز المالكية لابن العم والمولى ووكيل الولي والحاكم أن يزوج المرأة من
نفسه، ويتولى طرفي العقد، وليشهد كل واحد منهم على رضاها خوفاً من
منازعتها، بشرط أن يعين لها أنه الزوج، فرضيت بالقول إن كانت ثيباً ومن في
حكمها من الأبكار الستة المتقدمة، أو بالصمت إن كانت بكراً ليست من الستة
المتقدمة، ويتم الزواج بقوله: تزوجتك بكذا من المهر، وترضى به، ولا بد من
الإشهاد على رضاها بالعقد ولو بعد عقده لنفسه بعد أن كانت مقرة بالعقد، ولا
يحتاج لقوله: قبلت نكاحك بنفسي بعدئذ؛ لأن قوله «تزوجتك» فيه قبول.
(9/6734)
|