الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

الفَصْلُ السّادس: آثار الزّواج وفيه مباحث ثلاثة: في المهر، والخلوة، والمتعة.
المبحث الأول ـ المهر وأحكامه:
تمهيد: الزواج ككل عقد ينشأ عنه حقوق وواجبات متبادلة يلزم بها كل من الزوج والزوجة، وقد نص القرآن الكريم على هذا المبدأ، فقال تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} [البقرة:228/ 2] أي أن للنساء من الحقوق على الرجال مثل ما للرجال عليهن من واجبات، وأن أساس تقرير هذه الحقوق والواجبات هو العرف المستند إلى فطرة كل من الرجل والمرأة.
ونص قانون الأحوال الشخصية السوري على جميع الحقوق المالية التي تستحقها الزوجة على زوجها: وهي المهر والنفقة والسكن. أما الحقوق غير المالية أو الأدبية كالعدل والإحسان في المعاملة، والمعاشرة بالمعروف، وطاعة الزوجة لزوجها بالمعروف، وحماية الزوجة من ألوان الأذى والمهانة، فلم يتعرض لها هذا القانون؛ لأنها مبادئ أخلاقية، وإنما نص القرآن الكريم على بعضها، ونصت السنة النبوية على بعضها الآخر.
وأتكلم هنا عن المهر: تعريفه وحكمه وحكمته وسبب إلزام الرجل به،

(9/6757)


ومقداره، وشروطه أو ما يصلح أن يكون مهراً وما لا يصلح، أنواعه وحالات وجوب كل نوع، صاحب الحق في المهر، وقبضه وما يترتب على القبض، تعجيله وتأجيله، الزيادة والحط من المهر، متى يجب المهر ومتى يتأكد وجوبه، ومتى يتنصف، ومتى يسقط، تبعة ضمان المهر وحكم هلاكه واستهلاكه وتعييبه وزيادته، الاختلاف في المهر، الملزم بالجهاز والاختلاف فيه، ميراث الصداق وهبته.

أولاً ـ تعريف المهر وحكمه وحكمته وسبب إلزام الرجل به: المهر: هو المال الذي تستحقه الزوجة على زوجها بالعقد عليها أو بالدخول بها حقيقة. وعرفه صاحب العناية على هامش الفتح: هو المال الذي يجب في عقد النكاح على الزوج في مقابلة البُضْع إما بالتسمية أو بالعقد. وعرفه بعض الحنفية: بأنه ما تستحقه المرأة بعقد النكاح أو الوطء.
وعرفه المالكية: بأنه ما يجعل للزوجة في نظير الاستمتاع بها.
وعرفه الشافعية: بأنه ما وجب بنكاح أو وطء أو تفويت بُضْع قهراً، كرضاع ورجوع شهود. وعرفه الحنابلة: بأنه العوض في النكاح، سواء سمي في العقد أو فرض بعده بتراضي الطرفين أو الحاكم، أو العوض في نحو النكاح كوطء الشبهة ووطء المكرهة (1).

وله أسماء عشرة: مهر، وصداق أو صدقة، ونِحْلة، وأجر، وفريضة، وحِبَاء، وعُقْر، وعلائق، وطَوْل، ونكاح، لقوله تعالى: {ومن لم يستطع منكم
_________
(1) العناية بهامش فتح القدير: 434/ 2، الدر المختار ورد المحتار: 452/ 2، الشرح الصغير: 428/ 2، مغني المحتاج: 220/ 3، كشاف القناع: 142/ 5.

(9/6758)


طَوْلاً} [النساء:225/ 4] وقوله سبحانه: {وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً} [النور:33/ 24] نظم بعضهم ثمانية منها في بيت:
صداق، ومهر، نحلة، وفريضة

وحكمه: أنه واجب على الرجل دون المرأة، ويجب كما دلت التعاريف بأحد أمرين؛ إذ الوطء في دار الإسلام لا يخلو عن عَقْر (حد) أو عُقْر (مهر)، احتراماً لإنسانية المرأة:
الأول ـ مجرد العقد الصحيح: وقد يسقط كله أو نصفه ما لم يتأكد بالدخول أو بالموت، أو بالخلوة عند الحنفية والحنابلة.
الثاني ـ الدخول الحقيقي: كما في حالة الوطء بشبهة، أو في الزواج الفاسد. ولا يسقط حينئذ إلا بالأداء أو بالإبراء.
ونص القانون السوري (م 53) على أنه: يجب للزوجة المهر بمجرد العقد الصحيح، سواء أسمي عند العقد أم لم يسم أم نفي أصلاً.

وأدلة وجوب المهر: ما يأتي (1):
1 ً - القرآن: قال تعالى: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} [النساء:4/ 4] أي عطية من الله مبتدأة أو هدية. والمخاطب به الأزواج عند الأكثرين، وقيل: الأولىاء؛ لأنهم كانوا في الجاهلية يأخذونه، ويسمونه نحلة، وهو دليل على أن المهر رمز لإكرام المرأة، والرغبة في الاقتران.
وقال سبحانه: {فما استمتعتم به منهن، فآتوهن أجورهن فريضة} [النساء:
_________
(1) المغني: 679/ 6، المهذب: 55/ 2.

(9/6759)


24/ 4] وقال تعالى: {وآتوهن أجورهن} [النساء:25/ 4] {وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين} [النساء:24/ 4].
2 ً - السنة: قال صلّى الله عليه وسلم لمريد التزوج: «التمس ولو خاتماً من حديد» (1)، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه لم يخل زواجاً من مهر.
وتسن تسمية المهر في العقد؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم لم يخل نكاحاً عنه، ولأنه أدفع للخصومة، ولئلا يشبه نكاح الواهبة نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلم.
3 ً - وأجمع المسلمون على مشروعية الصداق في النكاح:
والحكمة من وجوب المهر: هو إظهار خطر هذا العقد ومكانته، وإعزاز المرأة وإكرامها، وتقديم الدليل على بناء حياة زوجية كريمة معها، وتوفير حسن النية على قصد معاشرتها بالمعروف، ودوام الزواج. وفيه تمكين المرأة من التهيؤ للزواج بما يلزم لها من لباس ونفقة.

وكون المهر واجباً على الرجل دون المرأة: ينسجم مع المبدأ التشريعي في أن المرأة لا تكلف بشيء من واجبات النفقة، سواء أكانت أماً أم بنتاً أم زوجة، وإنما يكلف الرجل بالإنفاق، سواء المهر أم نفقة المعيشة وغيرها؛ لأن الرجل أقدر على الكسب والسعي للرزق، وأما المرأة فوظيفتها إعداد المنزل وتربية الأولاد وإنجاب الذرية، وهو عبء ليس بالهيِّن ولا باليسير، فإذا كلفت بتقديم المهر، وألزمت السعي في تحصيله اضطرت إلى تحمل أعباء جديدة، وقد تمتهن كرامتها في هذا السبيل.
ووضع القرآن مبدأ توزيع المسؤوليات المالية بين الرجل والمرأة، فقال
_________
(1) متفق عليه بين أحمد والشيخين عن سهل بن سعد (نيل الأوطار: 170/ 6).

(9/6760)


سبحانه: {الرجال قوَّامون على النساء، بما فضل الله بعضهم على بعض، وبما أنفقوا من أموالهم} [النساء:34/ 4].

المهر ليس ركناً ولا شرطاً في الزواج: أوضحت في شروط الزواج أن المهر ـ وإن كان واجباً في العقد ـ إلا أنه ليس ركناً ولا شرطاً من شروط الزواج (1)، وإنما هو أثر من آثاره المترتبة عليه، لذا اغتفر فيه الجهل اليسير والغرر الذي يرجى زواله؛ لأن القصد من النكاح الوصلة والاستمتاع، فإذا تم العقد بدون مهر صح، ووجب للزوجة المهر اتفاقاً.
والدليل قوله تعالى: {لاجناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة} [البقرة:236/ 2] فإنه أباح الطلاق قبل الدخول وقبل فرض المهر، مما يدل على أن المهر ليس ركناً ولا شرطاً.
وثبت في السنة عن علقمة قال: «أتي عبد الله ـ أي ابن مسعود ـ في امرأة تزوجها رجل، ثم مات عنها، ولم يفرض لها صداقاً ولم يكن دخل بها، قال: فاختلفوا إليه، فقال: أرى لها مثل مهر نسائها، ولها الميراث، وعليها العِدّة، فشهد مَعْقِل بن سنان الأشجعي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قضى في بَرْدَع بنة واشق بمثل ما قضى» (2).
ويؤكده حديث عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لرجل: «إني أزوجك فلانة؟ قال: نعم، قال للمرأة: أترضين أن أزوجك فلاناً؟ قالت: نعم،
_________
(1) البدائع: 274/ 2، كشاف القناع: 144/ 5، 174، المهذب: 55/ 2، 60، مغني المحتاج: 229/ 3، بداية المجتهد: 25/ 2، الشرح الصغير: 449/ 2.
(2) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) وصححه الترمذي، وأخرجه أيضاً الحاكم والبيهقي وابن حبان وصححه أيضاً ابن مهدي (نيل الأوطار: 172/ 6).

(9/6761)


فزوج أحدهما من صاحبه، فدخل عليها ولم يُفرض لها به صداق؛ فلما حضرته الوفاة قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم زوجني فلانة، ولم أفرض لها صداقاً، ولم أعطها شيئاً، وإني قد أعطيتها عن صداقي سهمي بخيبر، فأخذت سهمه، فباعته بمائة ألف» (1).
وبناء عليه: لو اتفق الزوجان بدون مهر، أو سميا ما لا يملك شرعاً كالخمر والخنزير والنجس كروث دواب، صح العقد عند الجمهور غير المالكية، ووجب للمرأة مهر المثل، بالدخول أو الموت. وقال المالكية: إن اتفق الزوجان على إسقاط المهر فهو نكاح فاسد.

نكاح التفويض: قال ابن رشد وغيره (2): أجمع الفقهاء على أن نكاح التفويض جائز: وهو أن يعقد النكاح دون صداق، لقوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن، أو تفرضوا لهن فريضة} [البقرة:236/ 2]. لكن نكاح التفويض يشمل عند الجمهور حالة الاتفاق على عدم المهر، وعدم تسمية المهر، وأما عند المالكية فيقتصر على الحالة الثانية، وأما الاتفاق على إسقاط المهر فيفسد الزواج.
ثانياً ـ مقدار المهر ـ التغالي في المهور: ليس للمهر حد أقصى بالاتفاق (3)؛ لأنه لم يرد في الشرع ما يدل على
_________
(1) أخرجه أبو داود والحاكم.
(2) بداية المجتهد: 25/ 2، القوانين الفقهية: ص 203، البدائع: 274/ 2، الدر المختار: 460/ 2، مغني المحتاج: 228/ 3.
(3) البدائع: 286/ 2، الدر المختار: 452/ 2 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 202، المهذب: 55/ 2، كشاف القناع: 142/ 5.

(9/6762)


تحديده بحد أعلى، لقوله تعالى: { ... وآتيتم إحداهن قنطاراً، فلا تأخذوا منه شيئاً} [النساء:20/ 4].
تنبهت امرأة إلى هذه الآية، حينما أراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه تحديد المهور، فنهى أن يزاد في الصداق على أربع مئة درهم، وخطب الناس فيه، فقال (1): لا تُغْلوا في صداق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى في الآخرة، كان أولاكم بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا بناته فوق اثنتي عشر أوقية ـ أي من الفضة (2) ـ فمن زاد على أربعمائة شيئاً، جعلت الزيادة في بيت المال، فقالت له امرأة من قريش بعد نزوله من على المنبر: ليس ذلك إليك يا عمر، فقال: ولم؟ قالت: لأن الله تعالى يقول: {وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً، أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً} [النساء:20/ 4] فقال عمر: امرأة أصابت، ورجل أخطأ. ورواه أبو يعلى في الكبير: فقال: اللهم غفراً، كل الناس أفقه من عمر، ثم رجع فركب المنبر فقال: أيها الناس، إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب (3).
ولكن يسن تخفيف الصداق وعدم المغالاة في المهور، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤونة» (4) وفي رواية «إن أعظم النساء بركة أيسرهن صداقاً» وروى أبو داود وصححه الحاكم عن عقبة بن عامر حديث: «خير الصداق أيسره».
_________
(1) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وصححه وأحمد وابن ماجه (الخمسة) عن أبي العجفاء (نيل الأوطار: 168/ 6).
(2) الأوقية: أربعون درهماً.
(3) مجمع الزوائد: 283/ 4 وما بعدها، سيرة عمر بن الخطاب للطنطاويين نقلاً عن سيرة عمر لابن الجوزي: 321/ 1، تكملة المجموع: 482/ 15.
(4) رواه أحمد عن عائشة، وفيه ضعيف (نيل الأوطار: 168/ 6).

(9/6763)


والحكمة من منع المغالاة في المهور واضحة وهي تيسير الزواج للشباب، حتى لا ينصرفوا عنه، فتقع مفاسد خلقية واجتماعية متعددة، وقد ورد في خطاب عمر السابق: «وإن الرجل ليغلي بصدقة امرأته حتى يكون لها عداوة في قلبه».

أقل المهر: أما الحد الأدنى للمهر فمختلف فيه على آراء ثلاثة: قال الحنفية (1): أقل المهر عشرة دراهم، لحديث: «لا مهر أقل من عشرة دراهم» (2) وقياساً على نصاب السرقة: وهو ما تقطع به يد السارق فإنه عندهم دينار أو عشرة دراهم، إظهاراً لمكانة المرأة، فيقدر المهر بما له أهمية. وأما حديث «التمس ولو خاتماً من حديد» فحملوه على المهر المعجل؛ لأن العادة عندهم تعجيل بعض المهر قبل الدخول، وقد منع صلّى الله عليه وسلم علياً أن يدخل بفاطمة رضي الله عنها حتى يعطيها شيئاً، فقال: يا رسول الله، ليس لي شيء، فقال: أعطها درعك، فأعطاها درعه (3).
وقال المالكية (4): أقل المهر ربع دينار، أو ثلاثة دراهم فضة خالصة من الغش، أو ما يساويها مما يقوم بها من عروض أو من كل طاهر لا نجس، متمول شرعاً من عرض أو حيوان أو عقار، منتفع به شرعاً، أي يحل الانتفاع به لا كآلة لهو، مقدور على تسليمه للزوجة، معلوم قدراً وصنفاً وأجلاً، ودليلهم أن المهر وجب في الزواج إظهاراً لكرامة المرأة ومكانتها، فلا يقل عن هذا المقدار الذي هو نصاب السرقة عندهم، مما يدل على خطره، فلو تزوج رجل امرأة بأقل من هذا المقدار، وجب لها إن دخل بها، وإن لم يدخل بها قيل له: إما أن تتم المهر أو تفسخ العقد.
_________
(1) الدر المختار: 452/ 2، البدائع: 275/ 2.
(2) رواه البيهقي بسند ضعيف، ورواه ابن أبي حاتم، وقال الحافظ ابن حجر: إنه بهذا الإسناد حسن.
(3) رواه أبو داود والنسائي.
(4) الشرح الصغير: 428/ 2.

(9/6764)


وقال الشافعية والحنابلة (1): لا حد لأقل المهر، ولا تتقدر صحة الصداق بشيء، فصح كون المهر مالاً قليلاً أو كثيراً، وضابطه: كل ما صح كونه مبيعاً أي له قيمة صح كونه صداقاً، وما لا فلا، ما لم ينته إلى حد لا يتمول، فإن عقد بما لا يتمول ولا يقابل بما يتمول كالنواة والحصاة، فسدت التسمية ووجب مهر المثل. ودليلهم:
أـ قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم} [النساء:24/ 4] فلم يقدره الشرع بشيء، فيعمل به على إطلاقه.
ب ـ الحديث المتقدم: «التمس ولو خاتماً من حديد» فيدل على أن المهر يصح بكل ما يطلق عليه اسم المال.
جـ ـ روى عامر بن ربيعة أن امرأة من فزارة تزوجت على نعلين، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «رضيتِ من مالك ونفسك بنعلين؟ قالت: نعم، فأجازه» (2) وأخرج أبو داود عن جابر موقوفاً: «لو أن رجلاً أعطى امرأة صداقاً ملء يده طعاماً، كانت له حلالاً».
د ـ إن المهر حق المرأة، شرعه الله إظهاراً لمكانتها، فيكون تقديره برضا الطرفين، ولأن المهر بدل الاستمتاع بالمرأة، فكان تقدير العوض إليها كأجرة منافعها.
وهذا هو الرأي الراجح لقوة دليله من القرآن والسنة، وقال أصحاب هذا الرأي: يسن أن يكون المهر من أربع مئة درهم إلى خمس مئة درهم، وألا يزيد على
_________
(1) المهذب: 55/ 2، مغني المحتاج: 220/ 3، كشاف القناع: 142/ 5 وما بعدها، المغني: 680/ 6 وما بعدها، و 739.
(2) رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه.

(9/6765)


ذلك، لما روت أم حبيبة «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم تزوجها وهي بأرض الحبشة ... ولم يبعث لها رسول الله صلّى الله عليه وسلم بشيء، وكان مهر نسائه أربعمائة درهم» (1)، وروت عائشة: «أن صداق النبي صلّى الله عليه وسلم على أزواجه خمسمائة درهم» (2) والمستحب الاقتداء به عليه السلام، والتبرك بمتابعته.
وإن زاد الصداق على خمسمائة درهم فلا بأس، لما روت أم حبيبة في الحديث المتقدم: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم تزوجها، وهي بأرض الحبشة، زوَّجها النجاشي، وأمهرها أربعة آلاف وجهزها من عنده، وبعث بها مع شرحبيل بن حَسَنة، فلم يبعث لها رسول الله صلّى الله عليه وسلم بشيء» ولو كره ذلك لأنكره.
ويكره ترك تسمية المهر في العقد؛ لأنه قد يؤدي إلى التنازع في فرضه.
ويستحب ألا ينقص عن عشرة دراهم، خروجاً من خلاف من قدر أقله بذلك.

مهر السر ومهر العلانية: إن تزوجها على صداقين: صداق في السر، وصداق في العلانية، فالواجب عند الشافعية والمالكية والحنفية، ما عقد به العقد؛ لأن الصداق يجب بالعقد، فوجب ما عقد به؛ ولأن إظهار العلانية ليس بعقد، ولا يتعلق به وجوب شيء.
ويؤخذ بالعلانية عند الحنابلة، وإن كان صداق السر قد انعقد به النكاح؛ لأنه إذا عقد في الظاهر عقد بعد عقد السر، فقد وجد منه بذل الزائد، على مهر السر، فيجب الزائد عليه، كما لو زادها على صداقها.
_________
(1) رواه أحمد والنسائي (نيل الأوطار: 169/ 6).
(2) رواه مسلم.

(9/6766)


اختلاف القبول عن الإيجاب: إن قال الولي: زوجتك ابنتي بألف، وقال الزوج: قبلت نكاحها بخمسمائة، وجب مهر المثل عند الشافعية؛ لأن الزوج لم يقبل بألف، والولي لم يوجب بخمسمائة، فسقط الجميع، ووجب مهر المثل.
وأخذ القانون السوري (م 54) برأي الشافعية والحنابلة.
ونص المادة: 1 - لا حد لأقل المهر ولا لأكثره. 2 - كل ما صلح التزامه شرعاً صلح أن يكون مهراً.

ثالثاً ـ شروط المهر أو ما يصلح أن يكون مهراً وما لا يصلح: يشترط في الصداق شروط ثلاثة (1):
الأول ـ أن يكون مما يجوز تملكه وبيعه من العين (الذهب) والعروض ونحوها، فلا يجوز بخمر وخنزير وغيرهما مما لا يتملك.

الثاني ـ أن يكون معلوماً: لأن الصداق عوض في حق معاوضة، فأشبه الثمن، فلايجوز بمجهول إلا في نكاح التفويض: وهو أن يسكت العاقدان عن تعيين الصداق حين العقد، ويفوض التعيين إلى أحدهما أو إلى غيرهما. ولا يجب عند المالكية والحنفية خلافاً للشافعي وأحمد وصف العروض. وإن وقع على غير وصف فلها الوسط.
الثالث ـ أن يسلم من الغرر: فلا يجوز فيه عبد آبق ولا بعير شارد وشبههما.
وزاد الحنفية شرطاً رابعاً: وهو أن يكون النكاح صحيحاً، فلا تصح التسمية
_________
(1) البدائع: 277/ 2 - 287، الشرح الكبير: 294/ 2، القوانين الفقهية: ص 201، كشاف القناع: 147/ 5، مغني المحتاج: 220/ 3 وما بعدها.

(9/6767)


في النكاح الفاسد، فلا يلزم المسمى؛ لأن الفاسد ليس بنكاح، ويجب مهر المثل بالوطء.

وبناء عليه وضع الفقهاء ضوابط لما يصلح أن يكون مهراً وما لا يصلح: فقال الحنفية (1): المهر: هو كل مال متقوم معلوم مقدور على تسليمه. فيصح كون المهر ذهباً أو فضاً، مضروبة أو سبيكة، أي نقداً أو حلياً ونحوه، ديناً أوعيناً، ويصح كونه فلوساً أو أوراقاً نقدية، مكيلاً أو موزوناً، حيواناً أوعقاراً، أو عروضاً تجارية كالثياب وغيرها.
ـ ويصح أيضاً كونه منفعة شخص أو عين يستحق في مقابلها المال، كسكنى الدار، وزراعة الأرض، وركوب السيارة ونحوها.
ـ أما الزواج على أن يعلمها القرآن أو بعضه أو بعض أحكام الدين من حلال وحرام، فلا يصح عند متقدمي الحنفية، لقوله تعالى: {أن تبتغوا بأموالكم} [النساء:24/ 4] ولأن المسمى ليس بمال؛ لأن تعليم القرآن ونحوه من الطاعات قربة إلى الله تعالى، لا يصح الاستئجار عليها عند أئمة الحنفية الثلاثة، ولايصح أن يقابل التعليم بالمال، وحينئذ لا تصح التسمية، ويجب مهر المثل؛ لأنها منفعة لا تقابل بمال.
وأفتى متأخرو الحنفية بجواز أخذ الأجرة على تعليم القران وأحكام الدين، للحاجة إليه بسبب تغير الأحوال واشتغال الناس بشؤون المعيشة، فلا يتفرغ المعلم من غير أجر. وعليه يجوز جعل المهر تعليم القرآن أو أحكام الدين، ويدل له حديث سهل بن سعد، الذي جاء فيه أن النبي صلّى الله عليه وسلم زوج رجلاً بما معه من القرآن،
_________
(1) البدائع، المكان السابق، الدر المختار: 253/ 2، 458 - 461، أحكام القرآن للجصاص: 143/ 2.

(9/6768)


فقال: «قد زوجتُكها بما معك من القرآن» (1) وفي رواية متفق عليها: «قد ملكتكها بما معك من القرآن».
ـ ولا يصح كون المهر ما ليس مالاً متقوماً كأن يتزوج مسلم مسلمة على التراب أو الدم أو الخمر أو الخنزير؛ لأن الميتة والدم ليسا بمال في حق أحد، والخمر والخنزير ليسا بمال متقوم في حق المسلم، ولا يصح زواج امرأة على طلاق امرأة أخرى أو على العفو عن القصاص؛ لأن الطلاق ليس بمال، وكذا القصاص.
ـ ولا يصح نكاح الشغار: وهو أن يزوج الرجل أخته لآخر، على أن يزوجه الآخر أخته، أو يزوجه ابنته، هذه التسمية فاسدة؛ لأن كل واحد منهما جعل بُضْع كل واحدة منهما مهر الأخرى، والبضع ليس بمال، ففسدت التسمية، ووجب لكل واحدة منهما مهر المثل، والنكاح صحيح عندهم. وعند الجمهور: فاسد أو باطل؛ لما روي أنه صلّى الله عليه وسلم نهى عن نكاح الشغار. والنهي يوجب فساد المنهي عنه. ووجهة الحنفية: أن هذا الزواج مؤبد، أدخل فيه شرط فاسد، حيث شرط فيه أن يكون بُضْع كل واحدة منهما مهر الأخرى، والبضع لا يصلح مهراً، والنكاح لا تبطله الشروط الفاسدة، كما إذا تزوج امرأة على أن يطلقها، وعلى أن ينقلها من منزلها ونحوه. أما النهي عن نكاح الشغار فهو الخالي عن العوض، وعندهم هو نكاح بعوض وهو مهر المثل، فلا يكون شغاراً.
ـ ولو تزوج حر امرأة على أن يخدمها سنة، كرعي غنمها سنة، فالتسمية فاسدة، ولها مهر مثلها في قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن المنافع ليست بأموال متقومة عندهما، فلم تكن عندهما مضمونة بالغصب والإتلاف، وإنما يثبت لها التقوم إذا ورد العقد عليها، للضرورة، دفعاً للحاجة بها.
_________
(1) متفق عليه بين أحمد والشيخين (نيل الأوطار: 170/ 6).

(9/6769)


وعند الشافعي وباقي الأئمة: التسمية صحيحة، وللمرأة خدمة سنة؛ لأن المبدأ عندهم: كل ما يجوز أخذ العوض عنه، يصح تسميته مهراً، ومنافع الحر يجوز أخذ العوض عنها؛ لأن إجارة الحر جائزة بلا خلاف فصح تسميتها، والمنافع عندهم أموال متقومة.
ـ ويصح أن يتزوج الرجل امرأة على منافع الأعيان مدة معلومة، كما تقدم، مثل سكنى داره، وركوب دابته والحمل عليها، وزراعة أرضه ونحوها؛ لأن هذه المنافع أموال، أو التحقت بالأموال شرعاً في سائر العقود للحاجة.
ـ ويصح الزواج على متقوم مجهول جهالة يسيرة؛ لأن المال غير مقصود في الزواج، فيتسامح فيه بما لا يتسامح في المعاوضات المالية، ولا يصح الزواج على ما هو مجهول جهالة فاحشة؛ لأنه يفضي إلى النزاع، وكل ما يفضي إلى المنازعة يفسد العقد.
والفرق بين نوعي الجهالتين: أن الجهالة الفاحشة: ما كان الجنس أو النوع أو المقدار فيها مجهولاً، كأن يتزوج امرأة على حيوان أو دابة أو ثوب؛ لأن كل واحد منها جنس يدخل تحته أنواع مختلفة. أو يتزوج على قطن دون بيان نوعه، أو على دار دون بيان حجمها؛ لأن للقطن أنواعاً مختلفة، وتختلف الدارفي الصغر والكبر، والبلد والموقع، والهيئة والطريق.
وأما الجهالة اليسيرة: ما كان المسمى معلوم الجنس والنوع، مجهول الصفة كطن حنطة أو قنطار قطن، دون بيان الوصف، فجهالة الوصف عند الحنفية والمالكية لا تضر؛ لأنها يسيرة، ويجب الوسط من النوع المعين أو قيمته من غير إجحاف بالزوجة أو الزوج؛ لأنه هو العدل لما فيه من مراعاة الجانبين. وقال الشافعية والحنابلة: جهالة الوصف تضر؛ لأنها تفضي إلى المنازعة كجهالة الجنس.

(9/6770)


ضابط ما يصلح مهراً عند المالكية: قال المالكية (1): المهر: هو كل متموَّل شرعاً من عَرَض أو حيوان أو عقار، طاهر لا نجس إذ لا يقع به تقويم شرعاً، منتفع به شرعاً، إذ غير المنتفع به كآلة اللهو لا يقع به تقويم، مقدور على تسليمه للزوجة، معلوم قدراً وصنفاً وأجلاً.
فلا يصح كون المهر غير متمول: كقصاص وجب للزوج على زوجته، فتزوجها على تركه، فيفسخ قبل الدخول، فإن دخل وجب صداق المثل، ويرجع للدية. ومثل سمسرة كأن يتزوجها سمساراً في بيع سلعة لها.
ولا يصح على ما لا يملك شرعاً كخمر وخنزير ونجس كروث دابة.
ولا على غير مقدور على تسليمه كآبق، وما فيه غرر كجنين وثمرة لم يبد صلاحها على أن تبقى حتى تطيب. فإن شرط أخذها من هذا الوقت بالجداد (صِرَام النخل) جاز.
ولا على مجهول كشيء أو ثوب لم يعين نوعه، أو دنانير لم يبين قدرها، أو شيء لم يبين أجل تسليمه، أو فرس من أفراسه يختاره هو لا هي؛ لاحتمال اختياره الأدنى أوالأعلى. أما إذا كان الاختيار لها، على أنها لا تختار إلا الأحسن فيجوز، إذ لا غرر.
وجاز المهر الذي فيه جهالة يسيرة أو غرر يسير، لبناء الزواج على المكارمة والتسامح، كأن يتزوجها على مهر مثلها، أو على جهاز البيت المعلوم بينهم وهو ما يسمى: شَوْرة: أي متاع البيت، ويقع على الوسط، أي وسط ما يتناكح به الناس.
_________
(1) الشرح الصغير: 429/ 2 - 432، وانظر أيضاً ص 385، القوانين الفقهية: ص 201، بداية المجتهد: 20/ 2، 27.

(9/6771)


وجاز المهر على عدد معلوم كعشرة من إبل وغنم، ويقع على الوسط، ويعتبر الوسط في السن وفي الجودة والرداءة.
ولا يجوز المهر على منفعة لا يستحق في مقابلها المال، فلا تصح مهراً، كأن يتزوجها ويجعل مهرها طلاق ضَرتها، أوألا يتزوج عليها، أو ألا يخرجها من بلدها، فإن كل منفعة من هذه المنافع لا تصلح أن تكون مهراً؛ لأنها لا تقابل بمال، ولا يجوز في المشهور عندهم كالحنفية النكاح على الإجارة كالخدمة وتعليم القرآن، وقيل: يجوز وفاقاً للشافعي وابن حنبل.

ضابط ما يصلح مهراً عند الشافعية والحنابلة (1):
قالوا: كل ما صح مبيعاً صح صداقاً، أو كل ما صح ثمناً أو أجرة، صح مهراً وإن قل، وهو كل متمول سواء أكان عيناً أم ديناً، معجلاً ومؤجلاً، عملاً ومنفعة معلومة، كرعاية غنمها مدة معلومة، وخياطة ثوبها، ورد آبقها من موضع معين، وخدمة مدة معينة، وتعليم القرآن أو شيء من الشعر المباح أو الأدب، أو تعليم كتابة أو صنعة وغيرها من المنافع المباحة، لقوله تعالى حكاية عن شعيب مع موسى عليهما السلام: {إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين، على أن تأجرني ثماني حِجَج} [القصص:27/ 28] ولأن الزواج عقد على المنفعة فجاز بما ذكر كالإجارة، ولأن منفعة الحر يجوز أخذ العوض عنها في الإجارة، فجازت صداقاً، وللحديث المتقدم: «قد زوجتكها بما معك من القرآن».
فإن طلقها قبل الدخول وقبل استيفاء المنفعة، فعليه نصف أجرة النفع الذي جعله صداقاً لها.
_________
(1) مغني المحتاج: 220/ 3، 225، المهذب: 56/ 2، كشاف القناع: 143/ 5 - 147، المغني: 687/ 6، 694 - 698.

(9/6772)


والحاصل: أن المهر على أن يخدم الرجل المرأة بنفسه في البيت أو غيره لا يجوز عند الحنفية، ويجوز عند الشافعية، ويجوز عند الحنابلة لمدة معينة. ويصح أن يتزوج الرجل امرأة على عمل معلوم، كخياطة ثوب معين منه ومن غيره، فإن تلف الثوب قبل خياطته، فعليه أجرة المثل.
ولا يجوز أن يكون المهر شيئاً محرَّماً والزوجان مسلمان أو المرأة كتابية، مثل الخمر والخنزير والمغصوب، وتعليم التوراة أو الإنجيل أو شيء منهما، فإن تزوج الرجل بمحرَّم، صح النكاح ووجب مهر المثل لفساد التسمية، بانتفاء كون الخمر والخنزير مالاً، وانتفاء كون المغصوب ملكاً للزوج، ولأن المذكور من التوراة أو الإنجيل منسوخ مبدل محرم، فهو كما لو أصدقها محرماً.
ولا يصح كون المهر فيه غرر كالمعدوم والمجهول، ولا ما لا يتم تملكه له كالمبيع قبل القبض، ولا ما لا يقدر على تسليمه كالعبد الآبق والبعير الشارد والطير الطائر؛ لأنه عوض في عقد، فلا يجوز به كالعوض في البيع والإجارة. فإن تزوج على شيء منه لم يبطل النكاح؛ لأن فساده ليس بأكثر من عدمه أي عدم المهر، فإذا صح النكاح مع عدمه صح مع فساده، ويجب مهر المثل؛ لأنها لم ترض من غير بدل، ولم يسلم لها البدل، وتعذر رد المعوض، فوجب رد بدله، كما لو باع سلعة بمحرم وتلفت في يد المشتري.
وتضر الجهالة الفاحشة بأن كانت هناك جهالة في الجنس أو النوع أو المقدار أو الصفة، فإن أصدقها داراً غير معينة، أو دابة مبهمة، أو شيئاً لم يعينه ولم يصفه، أو أصدقها مجهولاً كمتاع بيته، وما يحكم به أحد الزوجين أو ما يحكم به زيد، أو ما يثمر شجره ونحوه، لم يصح. وإن أصدقها ما لا منفعة فيه كالحشرات، أو أصدقها ما لا يقدر على تسليمه كالطير في الهواء والسمك في الماء، أو ما لا يتمول

(9/6773)


عادة كقشرة جوزة وحبة حنطة، لم يصح الإصداق للجهالة أو الغرر أو عدم التمول.

وجوب مهر المثل عند فساد المهر: يتبين مما سبق أن المهر إذا فسدت تسميته يجب مهر المثل باتفاق الفقهاء، ويفسد العقد أيضاً عند المالكية ويجب فسخ الزواج إلا إذا دخل الرجل بالمرأة، فإن دخل بها وجب مهر المثل. وقال الجمهور: إذا فسد المهر لا يفسد العقد، بل يكون صحيحاً، فإن حصلت الفرقة قبل الدخول، كان لها المتعة، وإن حصلت الفرقة بعد الدخول كان لها مهر المثل؛ لأن فساد المهر ـ كما تقدم ـ لا يزيد على عدم تسميته عند العقد، فإذا صح العقد مع عدم المهر، صح بفساد المهر؛ لأن ذكره كالعدم.
رابعاً ـ أنواع المهر وحالات وجوب كل نوع: المهر عند الفقهاء نوعان: مهر مسمى ومهر المثل (1):
أما المهر المسمى: فهو ما سمي في العقد أو بعده بالتراضي، بأن اتفق عليه صراحة في العقد، أو فرض للزوجة بعده بالتراضي، أو فرضه الحاكم، لعموم قوله تعالى: {وقد فرضتم لهن فريضة، فنصف ما فرضتم} [البقرة:237/ 2].
ويعد من المهر المسمى في العقد: ما يقدمه الزوج عرفاً لزوجته قبل الزفاف أو بعده، كثياب الزفاف أو هدية الدخول أو بعده؛ لأن المعروف بين الناس كالمشروط في العقد لفظاً، ويجب إلحاقه بالعقد، ويلزم الزوج به إلا إذا شرط نفيه وقت العقد.
_________
(1) البدائع: 274/ 2، 277، 280، 287، الدر المختار: 460/ 2، 487 وما بعدها، الكتاب مع اللباب: 22/ 3 وما بعدها، الشرح الكبير: 300/ 2، 313، الشرح الصغير: 449/ 2، 452 وما بعدها، مغني المحتاج: 227/ 3 - 239 وما بعدها، كشاف القناع: 174/ 5، 178، المغني: 712/ 6 - 716، المهذب: 60/ 2.

(9/6774)


ونص المالكية (1) على أن ما يهدى للمرأة قبل العقد أو حال العقد، يعد من المهر، ولو لم يشترط، وكذا ما أهدي إلى وليها قبل العقد، فلو طلقت قبل الدخول، كان للزوج أن يرجع بنصف ما أهداه، أما ما أهدي إلى الولي بعد العقد فيختص به، وليس للزوجة ولا للزوج أخذه منه.

وأما مهر المثل:
فقد حدده الحنفية: بأنه مهر امرأة تماثل الزوجة وقت العقد من جهة أبيها، لا أمها إن لم تكن من قوم أبيها، كأختها وعمتها وبنت عمها، في بلدها وعصرها. وتكون المماثلة في الصفات المرغوبة عادة: وهي المال والجمال والسن والعقل والدين؛ لأن الصداق يختلف باختلاف البلدان، وباختلاف المال والجمال والسن والعقل والدين، فيزداد مهر المرأة لزيادة مالها وجمالها وعقلها ودينها وحداثة سنها، فلا بد من المماثلة بين المرأتين في هذه الصفات، ليكون الواجب لها مهر مثل نسائها. فإن لم يوجد من تماثلها من جهة أبيها، اعتبر مهر المثل لامرأة تماثل أسرة أبيها في المنزلة الاجتماعية. فإن لم يوجد فالقول للزوج بيمينه؛ لأنه منكر للزيادة التي تدعيها المرأة.
ويشترط لثبوت مهر المثل: إخبار رجلين، وامرأتين، ولفظ الشهادة، فإن لم يوجد شهود عدول، فالقول للزوج بيمينه، لما ذكر.

وحدد الحنابلة مهر المثل: بأنه معتبر بمن يساويها من جميع أقاربها، من جهة أبيها وأمها، كأختها وعمتها، وبنت عمتها، وأمها، وخالتها وغيرهن القربى
_________
(1) الشرح الصغير: 255/ 2 وما بعدها.

(9/6775)


فالقربى، لحديث ابن مسعود السابق في المرأة المفوضة (1): «لها مهر نسائها» ولأن مطلق القرابة له أثر في الجملة، فإن لم يكن أقارب اعتبر شبهها بنساء بلدها، فإن عدمن اعتبر أقرب النساء شبهاً بهاً من أقرب البلاد إليها.

وحدد المالكية والشافعية مهر المثل: بأنه ما يرغب به مثله ـ أي الزوج ـ في مثلها ـ أي الزوجة ـ عادة.
ويعتبر مهر المثل عند الشافعية بمهر نساء العصبات، لحديث علقمة: قال: «أتي عبد الله ـ أي ابن مسعود ـ في امرأة تزوجها رجل، ثم مات عنها، ولم يفرض لها صداقاً، ولم يكن دخل بها، قال: فاختلفوا إليه، فقال: أرى لها مثل مهر نسائها، ولها الميراث، وعليها العدة، فشهد مَعْقِل بن سنان الأشجعي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قضى في بردع بنة واشق بمثلما قضى» (2)، وتعتبر بالأقرب فالأقرب منهن، وأقربهن الأخوات وبنات الإخوة والعمات وبنات الأعمام، فإن لم يكن لها نساء عصبات، اعتبر بأقرب النساء إليها من الأمهات والخالات؛ لأنهن أقرب إليها، فإن لم يكن لها أقارب، اعتبر بنساء بلدها، ثم بأقرب النساء شبهاً بها.
ويعتبر مهر المثل عند المالكية (3) بأقارب الزوجة وحالها في حسبها ومالها وجمالها، مثل مهر الأخت الشقيقة أو لأب، لا الأم ولا العمة لأم أي أخت أبيها من أمه، فلا يعتبر صداق المثل بالنسبة إليهما؛ لأنهما قد يكونان من قوم آخرين.
_________
(1) المفوضة بكسر الواو وفتحها، من التفويض وهو الرد أو التصيير إليه، وهو نوعان عند الحنابلة: تفويض البضع: وهو أن يزوج الأب ابنته المجبرة بغير صداق، أو تأذن المرأة لوليها أن يزوجها بغير صداق. وتفويض المهر: وهو أن يتزوجها الرجل على ماشاءت أو على ما شاء الزوج أو الولي أو على ما شاء أجنبي غير الزوجين (كشاف القناع: 174/ 5 وما بعدها).
(2) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) وصححه الترمذي، وأخرجه أيضاً الحاكم والبيهقي وابن حبان، وصححه أيضاً ابن مهدي (نيل الأوطار: 172/ 6).
(3) الشرح الكبير: 316/ 2 - 317، القوانين الفقهية: ص 204.

(9/6776)


وتعتبر المساواة باتفاق المذاهب كما ذكر عند الحنفية: في التدين والمال والجمال والعقل والأدب والسن والبكارة والثيوبة والبلد والنسب والحسب: وهو ما يعد من مفاخر الآباء من كرم وعلم وحلم ونجدة وصلاح وإمارة ونحوها من كل ما يختلف لأجله الصداق.
وتلاحظ هذه الأوصاف في النكاح الصحيح يوم العقد، وفي النكاح الفاسد يوم الوطء؛ لأنه الوقت الذي يتقرر به صداق المثل، كوطء الشبهة، فإنه يجب صداق المثل فيه بحسب الأوصاف يوم الوطء.
قال الحنابلة: وإن كانت عادة أقاربها تخفيف المهر، لوحظ التخفيف، وإن كانت عادتهم تسمية مهر كثير لا يستوفونه قط، فوجوده كعدمه. وإن كانت عادتهم التأجيل فرض مؤجلاً؛ لأنه مهر نسائها، وإن لم يكن عادتهم التأجيل فرض حالاً؛ لأنه بدل متلف، فوجب أن يكون حالاً كقيم المتلفات. فإن اختلفت عادتهن في الحلول والتأجيل، أو اختلفت مهورهن قلة وكثرة، أخذ بالوسط منها؛ لأنه العدل، وأخذ بنقد البلد الحالي، فإن تعدد فمن غالبه؛ لأنه بدل متلف، فأشبه قيمة المتلفات.

حالات وجوب مهر المثل: يجب مهر المثل للزوجة في الأحوال التالية:
1 - نكاح التفويض: أن يكون العقد صحيحاً، ولكن بدون تسمية المهر، وتسمى المرأة مفوَّضة بكسر الواو أو فتحها، ففي حالة الكسر: ينسب التفويض إلى المرأة، أي فهي التي فوضت تقدير المهر إلى الزوج، وفي حالة الفتح: ينسب الفعل إلى الولي، فتكون المرأة قد فوض أمرها إلى الزوج، ويسمى العقد عقد تفويض.

(9/6777)


والتفويض عند الحنفية (1): أن يتزوج رجل امرأة دون أن يسمي لها مهراً، فالمفوضة: هي من فوضت أمرها لوليها وزوجها بلا مهر، أو هي من فوضها وليها إلى الزوج بلا مهر، كأن يقول الرجل لولي المرأة: زوجني فلانة، فيقول: قبلت، ولا يذكران مهراً، فإن دخل بها أو مات قبل تسمية المهر وجب لها مهر المثل، وإن طلقت قبل الدخول فلا شيء لها من المهر، وإنما يجب لها المتعة اتفاقاً.
والتفويض عند المالكية (2): عقد بلا تسمية مهر، ولا دخول على إسقاطه، ولا تفويض الصداق لحكم أحد، فإن دخل الزوجان مع الاتفاق على إسقاطه، فليس من التفويض، بل نكاح فاسد. أو هو بعبارة أخرى: أن يسكت الطرفان عن تعيين الصداق حين العقد، ويفوض التعيين إلى أحدهما، أو إلى غيرهما، ثم لا يدخل بها حتى يتعين. فإن فرضه أحدهما بعد تفويض الآخر، لزمه، ويلزم المرأة إن فرض لها صداق المثل أو أكثر، أما إن فرض لها الأقل فلا تلزم به إلا برضاها.
وإن لم يرض الزوج، كان مخيراً بين أمور ثلاثة: إما أن يبذل صداق المثل، أو يرضى بفرضها، أو يطلق. فإن مات قبل الدخول وقبل الفرض، فلا صداق لها، ولها الميراث اتفاقاً. وإن طلقها قبل الدخول فلا نصف لها إلا إن كان قد فرض لها، فإن فرض لها صداق المثل أو ما رضيت به قبل الدخول تشطر المهر أي تنصف. وإن فوض الصداق لحكم أحد جاز أيضاً ويسمى نكاح تحكيم، وهو كنكاح التفويض: عقد زواج بلا تسمية مهر ولا دخول على إسقاطه.

والتفويض عند الشافعية (3): هو كما عند الحنفية تفويض البُضْع، وهو الذي ينصرف الإطلاق إليه، وهو أن يزوج الأب ابنته المجبرة بغير صداق، أو تأذن
_________
(1) البدائع: 274/ 2، الدر المختار ورد المحتار: 460/ 2 وما بعدها.
(2) القوانين الفقهية: ص 203، الشرح الكبير: 313/ 2 - 317، الشرح الصغير: 449/ 2.
(3) المهذب: 60/ 2، مغني المحتاج: 228/ 3 - 231.

(9/6778)


المرأة لوليها أن يزوجها بغير صداق، سواء سكت عن المهر أوشرط نفيه، ولايصح تفويض غير رشيدة، وحكمه على الصحيح عنده أنه لا يجب لها المهر بالعقد؛ لأنه لو وجب لها المهر بالعقد، لتنصف بالطلاق، ويفرض لها ما يتفقان عليه، ومتى فرض لها المهر، صار المفروض كالمسمى في الاستقرار بالدخول والموت، والتنصف بالطلاق؛ لأنه مهر مفروض، فصار كالمفروض في العقد. وللمرأة قبل الدخول مطالبة الزوج بأن يفرض لها مهر، ويشترط رضاها بما يفرضه الزوج، ويجوز فرض مؤجل في الأصح، وفوق مهر المثل، ولو امتنع من الفرض أوتنازعا فيه فرض القاضي مهر المثل. فإن لم يفرض لها مهر حتى طلقها، لم يجب لها شيء من المهر، كما قال المالكية، لقوله عز وجل: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، وقد فرضتم لهن فريضة، فنصف ما فرضتم} [البقرة:237/ 2] فدل على أنه إذا لم يفرض المهر لم يجب النصف.
وإن لم يفرض لها حتى وطئها استقر لها مهر المثل.
وإن مات الزوجان أو أحدهما قبل الفرض، وجب مهر المثل في الأظهر كما رجح النووي؛ لأن الموت كالوطء في تقرير المسمى، ولأن بَرْوَع بنت واشق نكحت بلا مهر، فمات زوجها قبل أن يفرض لها، فقضى لها رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمهر نسائها وبالميراث (1).
والحاصل: أنه بالتفويض لا يجب شيء بنفس العقد، وإنما يجب مهر المثل بالوطء، ويتقرر مهر المثل بحال العقد في الأصح، ويشترط رضاها بما يفرضه الزوج، ولا يصح فرض أجنبي من ماله في الأصح؛ لأنه خلاف ما يقتضيه العقد، وإن طلق قبل فرض ووطء فلا شطر، أي لا تأخذ نصف المهر، لمفهوم الآية، والأظهر وجوب مهر المثل بالموت قبل فرض مهر.
_________
(1) رواه أبو داود وغيره، وقال الترمذي: حسن صحيح.

(9/6779)


والتفويض عند الحنابلة نوعان (1) كما يقول المالكية:
1 - تفويض البضع (2): وهو الذي ينصرف الإطلاق إليه، وهو أن يزوج الأب ابنته المجبرة بغير صداق، أو تأذن المرأة لوليها أن يزوجها بغير صداق، سواء سكت عند الصداق أم شرط نفيه، فيصح العقد، ويجب لها مهر المثل، لقوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة} [البقرة:237/ 2] ولقضائه صلّى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق، كما تقدم.
2 - تفويض المهر: وهو أن يتزوجها على ما شاءت، أو على ماشاء الزوج أو الولي، أو على ما شاء أجنبي غير الزوجين، أو يقول الولي: زوجتكها على ما شئنا أو على حكمنا ونحوه، فالنكاح صحيح في جميع هذه الصور، ويجب مهر المثل؛ لأنها لم تأذن في تزويجها إلا على صداق، لكنه مجهول فقط.
ووجب مهر المثل في النوعين بالعقد؛ لأنها تملك المطالبة به، فكان واجباً كالمسمى، ولأنه لو لم يجب بالعقد لما استقر بالموت أو يجب بعد دخوله بها، فإن دخل الزوج بالمفوضة قبل الفرض استقر به مهر المثل.
فإن تراضى الزوجان المكلفان الرشيدان على فرض المهر، لزم ما اتفق عليه، وصار حكمه حكم المسمى في العقد، قليلاً كان أو كثيراً. وإن لم يتراضيا على شيء، فرض الحاكم بقدر مهر المثل، كما قال الشافعية.
وصار المفروض بالاتفاق أو بالقضاء كالمسمى في العقد، يتنصف بالطلاق قبل الدخول، ولا تجب المتعة معه، لعموم آية {وقد فرضتم لهن فريضة، فنصف ما فرضتم} [البقرة:237/ 2].
_________
(1) كشاف القناع: 174/ 5 - 177، المغني: 712/ 6 وما بعدها.
(2) سمي بذلك لأن المرأة فوضت بضع (أي زواج) نفسها، بأن أذنت لوليها أن يزوجها بلا مهر.

(9/6780)


وإن مات أحد الزوجين قبل الدخول وقبل الفرض، ورثه صاحبه، وكان للمفوضة مهر المثل. وإن فارق الزوج المفوضة قبل الدخول بطلاق أو غيره لم يكن لها إلا المتعة، لعموم قوله تعالى: {ومتعوهن على الموسع قَدَره، وعلى المقتر قَدره} [البقرة:236/ 2] والأمر يقتضي الوجوب.
والخلاصة: إن نكاح التفويض يوجب مهر المثل بالاتفاق، والمتعة فقط، قبل الدخول ما لم يفرض مهر، ويستقر مهر المثل بالدخول، ويجب مهر المثل بالموت قبل الدخول وقبل فرض المهر في رأي الجمهور، وخالف المالكية فيه، فقالوا: لا يجب لها مهر بالموت.

2 - الاتفاق على عدم المهر: كأن يتزوج رجل امرأة على ألا مهر لها، فتقبل، فيجب لها مهر المثل بالدخول أو بالموت عند الجمهور غير المالكية كما تقدم؛ لأن هذا الاتفاق باطل، واشتراط نفي المهر فاسد، والشرط الفاسد لا يفسد الزواج عند الحنفية، ونفي المهر لا يفسده أيضاً عند الشافعية والحنابلة.
وقال المالكية: إذا اتفق الزوجان على إسقاط المهر، فسد العقد، لكن يجب لها بالدخول مهر المثل. ولا يجب لها شيء بالطلاق أو موت أحدهما قبل الدخول.

3 - التسمية غير الصحيحة للمهر: بأن يكون المسمى غير مال أصلاً كالميتة وحبة القمح وقطرة الماء ونحوها مما لا ينتفع به أصلاً، أو ينتفع به على نحو لا يعتد به. أو يكون المسمى مالاً غير متقوم أو مشتملاً على غرر كالخمر والخنزير بالنسبة للمسلم ولو كانت الزوجة كتابية، أو على شيء معجوز التسليم، كالطير في الهواء والمعادن في باطن الأرض. أو يكون المسمى مجهولاً جهالة فاحشة: وهي التي تفضي إلى النزاع، وهي عند الحنفية كما تقدم: جهالة الجنس أو النوع.

(9/6781)


يجب في هذه الحالات عند الجمهور مهر بالدخول أو بالموت قبل الدخول.
وقال المالكية (1): إذا سمي ما لا يصح مهراً، فسد العقد، ولا تستحق المرأة مهر المثل إلا بالدخول، أما إن فارقها قبل الدخول بالموت أو الطلاق، فلا يجب لها شيء كما ذكرت.

حالة وجوب المهر المسمى، وماذا يجب في الزواج الفاسد:
يجب المهر المسمى إذا كانت التسمية صحيحة، وكان العقد صحيحاً أيضاً، سواء أتمت التسمية في العقد أم بعده بالتراضي.
فإن كان الزواج فاسداً بسبب آخر غير فساد تسمية المهر كالزواج بلا شهود وكزواج المحلل والزواج المؤقت، وجب المهر بالدخول الحقيقي، لقوله صلّى الله عليه وسلم عن عائشة: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها، فلها المهر بما استحل من فرجها .. » (2).
لكن ما هذا المهر الواجب؟ اختلفت الآراء الفقهية في تحديده (3):
قال أبو حنيفة: للمرأة مهر المثل بالغاً ما بلغ؛ لأنه لا تلاحظ التسمية في حقها، فالتحقت التسمية بالعدم.
وقال الصاحبان (أبو يوسف ومحمد): لها مهر مثلها لا يجاوز حصتها من المسمى، لرضاها بالمسمى.
_________
(1) الشرح الصغير: 440/ 2 - 441.
(2) رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي عن عائشة (نيل الأوطار: 118/ 6).
(3) البدائع: 286/ 2، الدر المختار: 457/ 2، اللباب: 22/ 3، الشرح الصغير وحاشية الصاوي: 413/ 2، 446 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 204، مغني المحتاج: 228/ 3، كشاف القناع: 179/ 5، المغني: 750/ 6.

(9/6782)


واتفق الحنفية على أن الواجب للمرأة في الوطء بشبهة أو في نكاح المتعة هو مهر المثل على ألا يزاد على المسمى، وكذا في نكاح الشغار: الواجب هو مهر المثل؛ لأن الزواج صحيح، فحكمه حكم أي زواج فسدت تسمية المهر فيه كما تقدم. والخلوة عندهم في الزواج الفاسد لا توجب الصداق.
وقال المالكية: الواجب في نكاح الشغار لمن دخل بها الأكثر من المسمى وصداق المثل، ويجب صداق المثل في كل زواج فسدت تسمية المهر فيه. أما إذا فسد العقد بسب آخر غير تسمية الصداق كزواج المحلل مثلاً، فيجب للمرأة المهر المسمى بالدخول، أما الوطء بشبهة فيوجب مهر المثل. ويجب الصداق المسمى لكل واحدة من الأختين إذا دخل بهما حال الجمع بينهما.
وقال الشافعية: المهر الواجب بالوطء هو مهر المثل، مهما بلغ؛ لأن الشرع جعل المهر للمرأة في الزواج الباطل بسبب الوطء، لا بسبب العقد، والوطء يوجب مهر المثل، ولأنه إذا فسدت التسمية لا يلتفت إليها، ويرجع إلى مهر المثل.
وقال الحنابلة: المهر الواجب في النكاح الفاسد بالدخول أو بالخلوة: هو المهر المسمى، لما وقع في بعض ألفاظ حديث عائشة المتقدم: «ولها الذي أعطاها بما أصاب منها» (1)، ولأن النكاح مع فساده ينعقد ويترتب عليه أكثر أحكام الصحيح، من وقوع الطلاق ولزوم عدة الوفاة بعد الموت ونحوهما، فلزم المسمى فيه كالصحيح. أما الوطء بشبهة فيوجب مهر المثل.
والخلاصة: يجب المهر للمنكوحة نكاحاً صحيحاً والموطوءة في نكاح فاسد، والموطوءة بشبهة، بغير خلاف، ويجب للمكرهة على الزنا، إلا أن الواجب في فساد الزواج عند المالكية والحنابلة: هو المسمى، وعند أبي حنيفة والشافعية هو مهر
_________
(1) رواه أبو بكر البرقاني وأبو محمد الخلال بإسنادهما.

(9/6783)


المثل، وعند الصاحبين: الأقل من المسمى ومهر المثل، واتفق الفقهاء على أن الوطء بشبهة يوجب مهر المثل؛ لأن الوطء في دار الإسلام لا يخلو عن حد أو مهر.
وقال الحنفية (1): الوطء في دار الإسلام لا يخلو عن حد أو مهر إلا في مسألتين:
الأولى ـ الصبي المراهق إذا تزوج امرأة بلا إذن وليه، ودخل بها، فرد أبوه نكاحها، فلا يجب على الصبي حد ولا عُقْر (مهر)، أما الحد فلأنه في حال الصبا، وأما المهر (العُقْر) فلأنها إنما زوجت نفسها منه مع علمها أن نكاحه لا ينفذ، فقد رضيت ببطلان حقها.
الثانية: من باع أمته، ووطئها قبل التسليم إلى المشتري، فلا حد عليه ولا مهر؛ لأنه من شبهة المحل، لكونها في ضمانه ويده، إذ لو هلكت عادت إلى ملكه، والخراج بالضمان (الغنم بالغرم) فلو وجب عليه المهر استحقه.

خامساً ـ صاحب الحق في المهر: هناك حقوق ثلاثة في حالة الابتداء تتعلق بالمهر، وحق واحد يتعلق بالمهر حالة البقاء. والمقصود بالابتداء: ابتداء عقد الزواج، وبالبقاء: بقاء أو استمرار الزواج.
أما الحقوق المتعلقة بالمهر حالة الابتداء: فهي حق الله وحق الزوجة وحق الأولياء.
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 507/ 2 وما بعدها، اللباب: 22/ 3.

(9/6784)


أما حق الله تعالى: فهو وجوب المهر أثراً للعقد، بحيث لا يخلو عنه، ولا يقل عن عشرة دراهم عند الحنفية، وربع دينار أو ثلاثة دراهم عند المالكية، ولا حد لأقله عند الشافعية والحنابلة، فلو انعقد الزواج بدون مهر وجب مهر المثل بحكم الشرع بالدخول. وإن لم يدخل بها، كان مخيراً عند المالكية بين إتمام المهر وبين الفسخ، فإن فسخ وجب للمرأة نصف المسمى.
وأما حق الزوجة: فهو ثبوت ملكها للمهر بالقبض، وألا يقل عن مهر مثلها، فلو زوجها بأقل من مهر مثلها وكانت رشيدة عند الحنفية، وغير مجبرة عند المالكية، فلها حق الاعتراض على هذا الزواج ويبطل تزويج الأب البنت البكر بدون مهر المثل. أما المجبرة أو عديمة الأهلية أو ناقصتها كالصغيرة والمجنونة: فإن كان المزوج لها الأب فليس لها الاعتراض عند المالكية والحنابلة؛ لأن للأب تزويج ابنته البكر بدون صداق مثلها وإن كان المزوج لها غير الأب من الأولياء، فلا يزوجها إلا بمهر المثل. وأثبت الشافعية للمرأة مطلقاً حق الاعتراض إن زوجها وليها بأقل من مهر المثل (1).
وأما حق الأولياء: فهو عند أبي حنيفة ألا يقل المهر عن مهر المثل، فلو زوجت البكر البالغة العاقلة نفسها بأقل من مهر مثلها، كان لوليها العاصب عنده أن يعترض على هذا العقد ويطلب فسخه؛ لأن الأولياء يعيرون بأقل من مهر المثل، ورضا المرأة بإسقاط حقها لا يسقط حق وليها، فإن أتم الزوج مهر مثلها، لزم العقد وسقط حق الفسخ.

وأما ما يتعلق بالمهر حالة البقاء: فهو حق المرأة، فيكون ملكاً خالصاً لها لا
_________
(1) الدر المختار: 419/ 2 وما بعدها، الشرح الصغير: 353/ 2، مغني المحتاج: 149/ 3، 227، كشاف القناع: 43/ 5، القوانين الفقهية: ص 203.

(9/6785)


يشاركها فيه أحد، فلها أن تتصرف فيه، كما تتصرف في سائر أموالها متى كانت أهلاً للتصرف، فلها حق إبراء الزوج منه أو هبته له.

اشتراط الولي شيئاً من المهر لنفسه: بناء عليه، قال الشافعية (1): لو نكح رجل امرأة بألف، على أن لأبيها ألفاً أو أن يعطيه الزوج ألفاً، فالمذهب فساد الصداق في الصورتين؛ لأنه جعل بعض ما التزمه في مقابل البضع لغير الزوجة، ووجوب مهر المثل فيهما لفساد المسمى.
ولكن الحنابلة (2) قالوا: يجوز لأبي المرأة الذي يصح تملكه دون سواه أن يشترط شيئاً من صداق ابنته لنفسه؛ لأن شعيباً زوَّج موسى على نبينا وعليهما الصلاة والسلام ابنته على رعاية غنمه، واشتراط ذلك لنفسه، ولأن للوالد الأخذ من مال ولده، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أنت ومالك لأبيك» ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن أطيب ماأكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم» (3). ويكون الأخذ أخذاً من مالها، فإذا تزوجها على ألف لها وألف لأبيها صح الاتفاق، وكان الكل مهرها، ولا يملكه الأب إلا بالقبض مع النية لتملكه، كسائر مالها، وشرطه ألا يجحف بمال البنت. فإن طلقها قبل الدخول رجع عليها بنصف الألفين، ولم يكن على الأب شيء مما أخذه من مال إن قبضه بنية التملك؛ لأنه أخذه من مال ابنته، فلا رجوع عليه بشيء منه كسائر مالها. وإن طلقها الزوج قبل قبض الصداق المسمى، سقط عن الزوج نصف المسمى، ويبقى النصف للزوجة، يأخذ الأب من النصف الباقي لها ما شاء بشرط ألا يجحف بمال البنت.
_________
(1) مغني المحتاج: 226/ 3.
(2) كشاف القناع: 151/ 5 وما بعدها، المغني: 696/ 6 وما بعدها.
(3) هذا الحديث واحد، الكلام الثاني منه معطوف على الأول، رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حديث حسن (نيل الأوطار: 12/ 6).

(9/6786)


وإن فعل ذلك أي اشتراط الصداق أو بعضه غير الأب كالجد والأخ والأب الذي لا يصح تملكه، صحت التسمية ولغا الشرط، والكل لها؛ لأن جميع ما اشترطه عوض في تزويجها، فيكون صداقاً لها، كما لو جعله لها.

سادساً ـ تعجيل المهر وتأجيله: أجاز الفقهاء تأجيل المهر، فقال الحنفية (1): يصح كون المهر معجلاً أو مؤجلاً كله أو بعضه إلى أجل قريب أو بعيد أو أقرب الأجلين: الطلاق أو الوفاة، عملاً بالعرف والعادة في كل البلدان الإسلامية، ولكن بشرط ألا يشتمل التأجيل على جهالة فاحشة، بأن قال: تزوجتك على ألف إلى وقت الميسرة، أو هبوب الرياح، أوإلى أن تمطر السماء، فلا يصح التأجيل، لتفاحش الجهالة.
وإذا اتفق صراحة على تقسيط المهر، عمل به؛ لأن الاتفاق من قبيل الصريح، والعرف من قبيل الدلالة، والصريح أقوى من الدلالة.
وإذا لم يتفق على تعجيل المهر أو تأجيله، عمل بعرف البلد؛ لأن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً.
وإذا لم يكن هناك عرف بالتعجيل أو التأجيل، استحق المهر حالاً؛ لأن حكم المسكوت حكم المعجل؛ لأن الأصل أن المهر يجب بتمام العقد، لأنه أثر من آثاره، فإذا لم يؤجل صراحة أو عرفاً عمل بالأصل؛ لأن هذا عقد معاوضة، فيقتضي المساواة من الجانبين.
وأجاز الشافعية والحنابلة (2) تأجيل المهر كله أو بعضه لأجل معلوم؛ لأنه
_________
(1) البدائع: 288/ 2، الدر المختار: 493/ 2.
(2) مغني المحتاج: 222/ 3، كشاف القناع: 178/ 5، المغني: 693/ 6.

(9/6787)


عوض في معاوضة. فإن أطلق ذكره اقتضى الحلول، وإن أجل لأجل مجهول كقدوم زيد ومجيء المطر ونحوه لم يصح؛ لأنه مجهول، وإن أجل ولم يذكر الأجل، فالمهر عند الحنابلة صحيح ومحله الفرقة أو الموت، وعند الشافعية: المهر فاسد ولها مهر المثل.
وفصّل المالكية (1) في حكم التأجيل فقالوا: إن كان المهر معينا حاضراً في البلد كالدار والثوب والحيوان، وجب تسليمه للمرأة أو وليها يوم العقد، ولا يجوز تأخيره في العقد، ولو رضيت بالتأخير، فإن اشترط التأجيل في العقد، فسد العقد، إلا إذا كان الأجل قريباً كاليومين والخمسة. ويجوز للمرأة التأجيل من غير شرط، ويكون تعجيله من حقها.
وإن كان المهر العين غائباً عن بلد العقد، صح النكاح إن أجل قبضه بأجل قريب بحيث لا يتغير فيه غالباً، وإلا فسد النكاح.
وإن كان المهر غير معين كالنقود والمكيل والموزون غير المعين، فيجوز تأجيله كله أو بعضه، ويجوز التأجيل إلى الدخول إن علم وقته كالحصاد أو الصيف أو قطاف الثمر، والتأجيل إلى الميسرة إذا كان الزوج غنياً، بأن كان له سلعة ينتظر قبض ثمنها، أو له أجر في وظيفة، فإن كان فقيراً لم يصح العقد، ويجوز التأجيل إلى أن تطلبه المرأة منه، فهو كتأجيله للميسرة.

وعليه يشترط لجوزا التأجيل شرطان:
الأول - أن يكون الأجل معلوما ً: فإن كان مجهولاً كالتأجيل للموت أو الفراق فسد العقد، ووجب فسخه، إلا إذا دخل الرجل بالمرأة، فيجب حينئذٍ مهر المثل.
الثاني - ألا يكون الأجل بعيداً جداً كخمسين سنة فأكثر، لأنه مظنة إسقاط الصداق، والدخول على إسقاط الصداق مفسد للزواج.
وأخذ القانون السوري بمذهب الحنفية، فنص على ما يلي:
(م 55): يجوز تعجيل المهر أو تأجيله كلاً أو بعضاً، وعند عدم النص يتبع العرف.
(م 56): التأجيل في المهر ينصرف إلى حين البينونة أو الوفاة، ما لم ينص في العقد على أجل آخر.

حكم إعسار الزوج بالمهر:
إذا عجز الزوج عن دفع معجل المهر، لم يكن للزوجة عند الحنفية وفي الأصح عند الحنابلة (2) الحق في طلب فسخ الزواج بأي حال، سواء أكان ذلك قبل الدخول أم بعده، وإنما لها الحق في منع نفسها من الزوج، وعدم التقيد بإذنه في الخروج لزيارة أهلها، والسفر معه، ونحوهما.
وقال المالكية والشافعية (3): للزوجة الحق في طلب الفسخ حينئذ، والصحيح عند الشافعية أن لها فسخ الزواج قبل الدخول وبعده، وعند المالكية قبل الدخول لا بعده.
وذكر الحنفية (4) أنه إن اشترط تأجيل المهر كله مدة معينة كسنة، فإن اشترط الزوج الدخول
قبل حلول الأجل، فليس للزوجة الحق في الامتناع، وإن لم
_________
(1) الدسوقي مع الشرح الكبير: 2/ 297، الشرح الصغير: 2/ 432 - 433.
(2) الدر المختار: 492/ 2 وما بعدها، كشاف القناع: 183/ 5.
(3) الشرح الصغير: 434/ 2، المهذب: 61/ 2، بداية المجتهد: 51/ 2.
(4) الدر المختار: 493/ 2، فتح القدير: 472/ 2.

(9/6788)


يشترط الدخول، فليس لها الامتناع أيضاً عند أبي حنيفة؛ لأنها لما رضيت بتأجيل المهر كله، كان ذلك رضا منها بإسقاط حقها في تعجيل المهر.
وقال أيو بوسف: للزوجة أن تمنع نفسها حتى يحل أجل تسليم المهر؛ لأن الزوج رضي بإسقاط حقه بالاستمتاع. والفتوى استحساناً على هذا القول.

ضمان الولي المهر:
يرى الحنفية (1) أنه إذا ضمن ولي الزوجة أو وكيلها المهر لها، صح ضمانه؛ لأنه من أهل الالتزام، والولي والوكيل في النكاح سفير ومعبر، ولذا ترجع حقوق العقد إلى الأصيل، وللمرأة الخيار في مطالبة زوجها أو وليها، كسائر الكفالات. ويرج الولي إذا أدى على الزوج إن كان الضمان بأمره، كما هو المقرر في الكفالة.

سابعاً ـ قبض المهر وما يترتب عليه: قبض المهر حق خالص للزوجة كما بينا، فلها أن تمنع نفسها حتى تقبض مهرها المعجل كله، على الخلاف والتفصل الآتي:
قال الحنفية (2): للمرأة قبل دخول الزوج بها أن تمنع الزوج عن الدخول أو عن الانتقال إلى بيته حتى يعطيها جميع المهر المعجل بأن تزوجها على صداق عاجل، أو كان مسكوتاً عن التعجيل والتأجيل؛ لأن حكم المسكوت حكم المعجل، ثم تسلم نفسها إلى زوجها، وإن كانت قد انتقلت إلى بيت زوجها؛ لأن المهر عوض عن بُضْعها، كالثمن عوض عن المبيع، وللبائع حق حبس المبيع
لاستيفاء الثمن، فكان للمرأة حق حبس نفسها لاستيفاء المهر. وإن استوفت معجل المهر بتمامه سقط حقها في منع نفسها منه.
أما إذا دخل الزوج بها أو خلا بها، برضاها، وهي مكلفة (بالغة عاقلة) فلها أيضاً في رأي أبي حنيفة أن تمنع نفسها من الاستمتاع بها حتى تأخذ المهر، ولها أن تمنعه أن يخرجها من بلدها؛ لأن المهر مقابل بجميع ما يستوفى من منافع البُضْع في جميع أنواع الاستمتاع التي توجد في هذا الملك.
ويكون رضاها بالدخول أو بالخلوة قبل قبض معجل مهرها إسقاطاً لحقها في منع نفسها في الماضي، وليس لحقها في المستقبل. وهذا هو الراجح عند الحنفية، فللمرأة منع نفسها من الوطء ودواعيه، ومن السفر بها، ولو بعد وطء وخلوة رضيتهما؛ لأن كل وطأة معقود عليها، فتسليم البعض لا يوجب تسليم الباقي.
وفي رأي الصاحبين: ليس لها أن تمنع نفسها، لأنها بالوطء مرة واحدة أو بالخلوة الصحيحة، سلمت جميع المعقود عليه برضاها، وهي من أهل التسليم، فبطل حقها في المنع، كالبائع إذا سلم المبيع، فرضاها بالوطء إسقاط لحقها في طلب المهر قبل الدخول، فيسقط حقها في الامتناع، فإذا امتنعت كانت ناشزة، فيسقط حقها في النفقة.
ووافق المالكية (3) الصاحبين، فقالوا: للمرأة ولو كانت معيبة بعيب رضي به منع نفسها من الدخول ومن الاختلاء بها ومن السفر مع زوجها قبل الدخول حتى يسلم لها زوجها المهر المعين أو الصداق المعجل، أو المؤجل الذي حل أجل تسليمه. أما إن سلمت نفسها له قبل القبض بعد الوطء أو التمكين منه، فليس لها منع نفسها بعدئذ من وطء ولا سفر معه، سواء أكان موسراً أم معسراً، وإنما لها المطالبة به فقط ورفعه للحاكم كالمدين.
_________
(1) الكتاب مع اللباب: 22/ 3، الدر المختار: 490/ 2، فتح القدير: 471/ 2 وما بعدها.
(2) البدائع: 2 288/-289.
(3) الشرح الصغير: 434/ 2، القوانين الفقهية: ص 434، الشرح الكبير: 297/ 2 وما بعدها.

(9/6791)


ووافق الحنابلة والشافعية (1) أيضاً رأي الصاحبين، أما الحنابلة فوافقوا في الدخول والخلوة، وأما الشافعية فوافقوا في الدخول.
قال الشافعية: للمرأة ولو كانت مفوضة حبس نفسها لتقبض المهر المعين والحالّ، لا المؤجل (2)، فلو حل الأجل قبل تسليم نفسها للزوج، فلا حبس في الأصح، لوجوب تسليمها نفسها قبل الحلول، فلا يرتفع الوجوب لحلول الحق. ولو بادرت الزوجة فمكنت الزوج من نفسها، طالبته بالمهر؛ لأنها بذلت ما في وسعها، فإن لم يطأ، أي ولو خلا بها، جاز لها الامتناع من تمكينه حتى يسلم المهر؛ لأن القبض في النكاح بالوطء دون التسليم. وإن وطئها بتمكينها منه مختارة مكلفة، ولو في الدبر، فلا يحق لها الامتناع، كما لو تبرع البائع بتسليم المبيع، ليس له استرداده ليحبسه. أما إذا وطئت مكرهة أو غير مكلفة لصغر أو جنون فلها الامتناع، لعدم الاعتداد بتسليمها.
وإن بادر الزوج، فسلَّم المهر، وجب على الزوجة تسليم نفسها، فإن امتنعت الزوجة من تمكين زوجها بلا عذر منها، لم يسترد المهر منها على الراجح؛ لأنه تبرع بالمبادرة، فكان كتعجيل الدين المؤجل، لا يسترد.
وعبارة الحنابلة: للمرأة منع نفسها قبل الدخول حتى تقبض مهرها الحالّ كله أو الحالّ منه، ولها المطالبة بحالّ مهرها ولو لم تصلح للاستمتاع لصغر أو نحوه.
فإن وطئها الزوج مكرهة قبل دفع الحالّ من صداقها، لم يسقط به حقها من الامتناع، كما قال الشافعية؛ لأن وطأها مكرهة كعدمه.
_________
(1) مغني المحتاج: 222/ 3 وما بعدها، كشاف القناع: 181/ 5 - 183.
(2) واستدلوا بحديث: «أول ما يسأل عنه المؤمن من ديونه صداق زوجته» وحديث «من ظلم زوجته في صداقها، لقي الله تعالى يوم القيامة، وهو زانٍ».

(9/6792)


وإذا جاز لها منع نفسها فلها السفر بغير إذنه، ولها النفقة زمن المنع إن صلحت للاستمتاع، ولو كان معسراً بالصداق؛ لأن الحبس من قبله.
وإن كان الصداق مؤجلاً، لم تملك منع نفسها حتى تقبضه؛ لأنها لا تملك الطلب به. ولو حلّ المهر قبل الدخول، فليس لها منع نفسها، كما قال الشافعية؛ لأن التسليم قد وجب عليها، فاستقر قبل قبضه، فلم يكن لها أن تمتنع منه.
وإن تبرعت الزوجة بتسليم نفسها، ثم أرادت الامتناع بعد دخول أو خلوة، لم تملكه؛ لأن التسليم استقر به العوض برضا المسلِّم. فإن امتنعت بعد أن سلمت نفسها، فلا نفقة لها؛ لأنها ناشز.
وبحث الشافعية والحنابلة مسألة مهمة: هي أنه لو أبى كل من الزوجين التسليم الواجب عليه، فقال كل منهما: لا أسلم حتى تسلِّم، فالأظهر عند الشافعية أنهما يجبران، فيؤمر الزوج بوضع المهر عند عدل ـ شخص ثالث محايد ـ وتؤمر الزوجة بالتمكين، فإذا سلمت أعطاها العدل المهر، لمافيه من فصل الخصومة. وقال الحنابلة: يجبر الزوج على تسليم الصداق، ثم تجبر الزوجة على تسليم نفسها؛ لأن في إجبارها على تسليم نفسها أولاً خطر إتلاف البضع (محل المتعة).
والخلاصة: اتفق الفقهاء على أحقية المرأة بمنع نفسها قبل الدخول حتى تقبض مهرها المعجل، وليس لها الحق بالنسبة للمؤجل. واختلفوا على رأيين في منع نفسها بعد الدخول، فقال أبو حنيفة: لها الحق بالمنع، وقال الجمهور: ليس لها الحق. والخلوة أو التمكين من الوطء كالوطء عند غير الشافعية.

قابض المهر: المرأة الرشيدة هي التي تقبض المهر وتتصرف فيه، لكن أقرت

(9/6793)


الشريعة عملاً بالعرف والعادة للولي إذا كان أباً أو جداً قبل المهر، ويكون قبضه نافذاً عليها، إلا إذا منعته من القبض. ونص القانون السوري (م 60) عليه:
ينفذ على البكر ولو كانت كاملة الأهلية قبض وليها لمهرها إن كان أباً أو جداً عصبياً، ما لم تنه الزوج عن الدفع إليه. ثم عدلت هذه المادة سنة (1975) على النحو التالي: المهر حق للزوجة ولا تبرأ ذمة الزوج منه إلا بدفعه إليها بالذات، إن كانت كاملة الأهلية، ما لم توكل في وثيقة العقد وكيلاً خاصاً بقبضه.
فإن كانت المرأة غير رشيدة كالصغيرة والمحجور عليها لسفه أو جنون أو غفلة، فولي مالها يتولى قبض المهر، وولي المال عند الحنفية أحد الستة: الأب ثم وصيه، ثم الجد ثم وصيه، ثم القاضي ثم وصيه.
وقال المالكية (1): ولي الزوجة المجبر (وهو الأب ووصيه): هو الذي يتولى قبض المهر، فإن لم يكن لها ولي مجبر وكانت رشيدة، فهي التي تتولى قبض مهرها، أو يقبضه لها بتوكيل منها. وإن كانت سفيهة تولى ولي مالها قبض مهرها، فإن لم يكن لها ولي فالقاضي أو نائبه يقبض مهرها.
والظاهر عند الشافعية والحنابلة: أن المرأة الرشيدة هي التي تقبض مهرها؛ فإن كانت غير رشيدة قبض وليها المهر بالنيابة عنها.

التصرف في المهر: اتفق الفقهاء على أن للمرأة الرشيدة أن تتصرف في مهرها بما تشاء بيعاً أو هبة ونحوهما، وتصرفها نافذ؛ لأن المهر ملكها فتتصرف فيه كما تتصرف في سائر أملاكها.
_________
(1) الشرح الصغير: 463/ 2.

(9/6794)


ثامناً ـ الزيادة أو الحط من المهر: قد تحدث زيادة في المهر أو حط منه بعد العقد، والمقصود ب الزيادة في المهر: أن يضاف إليه شيء بعد تمام العقد. وأما النقص أوالحط من المهر: فهو إنقاص جزء من المهر أو إسقاط كله بعد تمام العقد.
أما الزيادة في المهر:
فقال الحنفية (1): إذا زاد الزوج الرشيد أو ولي الصغير (الأب أو الجد) على المهر المسمى شيئاً بعد تمام العقد وتراضي الطرفين على المهر، لزمت الزيادة بالوطء أو بالموت عن الزوجة، وتصبح جزءاً من أصل المهر، وتتأكد بالدخول أو الموت، وتتنصف عند الجمهور غير الحنفية بالطلاق قبل الدخول كأصل المهر، وتبطل بموت الزوج أو تفليسه قبل قبضها عند المالكية؛ لأنها كالهبة، والهبة تبطل بالموت والإفلاس قبل القبض.
ولا تلزم هذه الزيادة إلا بالشروط الآتية التي أبانها الحنفية وهي أربعة:
1ً - أن يكون الزوج رشيداً: لأن الزيادة على المسمى تبرع، فلا تصح إلا من أهل التبرع.
2ً - أن تكون الزيادة معلومة: فلو كانت مجهولة بأن قال: زدت، في مهرك، ولم يعين شيئاً، لم تصح الزيادة للجهالة.
3ً - أن تأتي الزيادة في حال بقاء الزوجية حقيقة أي أثناء الزواج، أوحكماً أي أثناء العدة من الطلاق الرجعي. وتصح الزيادة أيضاً في رواية عن أبي حنيفة
_________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 463/ 2 وما بعدها.

(9/6795)


بعد موت الزوجة، أو بعد الطلاق البائن وانقضاء العدة في الطلاق الرجعي، والظاهر عدم صحة هذه الزيادة.
4ً - قبول الزوجة أو قبول ولي الصغيرة أو المجنونة في المجلس الذي حدثت فيه؛ لأن هذه الزيادة هبة، فلا بد لها من القبول في مجلس الإيجاب.
ويتفق رأي الحنابلة مع رأي الحنفية في أن الزيادة في الصداق بعد العقد تلحق به. وقال الشافعي: لا تلحق الزيادة بالعقد، فإن زادها فهي هبة تفتقر إلى شروط الهبة، وإن طلقها بعد هبتها لم يرجع بشيء من الزيادة؛ لأن الزوج ملك البضع بالمسمى في العقد، فلم يحصل بالزيادة شيء من المعقود عليه، فلا تكون عوضاً في النكاح، كما لو وهبها شيئاً (1).
واستدل الحنابلة بقوله تعالى: {ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة} [النساء:24/ 4] ولأن ما بعد العقد زمن لفرض المهر، فكان حالة الزيادة كحالة العقد، وبهذا فارق الزواج البيع والإجارة.

وأما الحط من المهر والإبراء عنه:
فرأي الحنفية (2): أنه يصح للزوجة الرشيدة غير المريضة مرض الموت دون أبيها الحط من المهر كله أوبعضه عن الزوج بعد تمام العقد، سواء قبل أم لا، لكنه يرتد بالرد. أما أبوها فلا يصح الحط منه إذا كانت صغيرة، ويتوقف الحط على إجازتها إن كانت كبيرة، ولا بد من رضاها.
لكن فرق الحنفية بين الإبراء والهبة في الحط من المهر، فقالوا: الإبراء لا
_________
(1) المغني: 744/ 6.
(2) الدر المختار وابن عابدين: 464/ 2 وما بعدها، 474.

(9/6796)


يكون إلا في دين ثابت في الذمة كالنقود، والمكيلات والموزونات غير المتعينة؛ لأن الديون تتعلق بالذمة، والتنازل عنها يكون بالإبراء. ولا يشترط لصحته قبول الزواج، وإنما يكفي عدم الرد كهبة الدين ممن عليه الدين، فقد يردُّ الإبراء دفعاً للمنة؛ لأن الحط من المهر ليس تمليكاً على وجه الهبة الصريحة، وإنما هو إسقاط وإبراء للزوج. أما إذا ورد الإبراء على عين، فلا يسقط شيء من المهر، بل يصير أمانة في يد الزوج، ويسقط عنه الضمان إذا هلك؛ لأن الإبراء ليس من الألفاظ الصريحة في تمليك الأعيان، فيحمل على نفي الضمان.
لكن إذا قصدت الزوجة بالإبراء إعفاء الزوج مما عليه كله أو بعضه، ففي الوقت الحاضر الذي لا يميز فيه الناس بين المصطلحات الفقهية يمكن جعل الإبراء تمليكاً، ويكون حكمه حكم الهبة.
وأما الهبة: فتصح سواء أكان المهر ديناً، أم عيناً كالدار المعينة والحيوان أو الثوب المعين، وسواء قبل القبض أم بعده. ولا بد حينئذ من قبول الزوج في المجلس، ولا يكتفى بسكوته عن القبول أو الرد.
ورأى المالكية (1): أنه إذا وهبت المرأة لزوجها جميع صداقها قبل الدخول لم يرجع عليها بشيء.
وذهب الشافعية (2) إلى أنه ليس للولي عفو عن صداق موليته، على الجديد، كسائر ديونها، إذ لم يبق للولي بعد العقد عُقدة، أي كلام. وإذا أبرأت المرأة زوجها من المهر، ثم طلقها قبل الدخول، لم يرجع عليها بشيء على المذهب، كما قال الشافعية في الهبة؛ لأنها لم تأخذ منه مالاً، ولم تتحصل منه على شيء، وهو
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 203، بداية المجتهد: 25/ 2.
(2) مغني المحتاج: 240/ 3.

(9/6797)


بخلاف هبة العين، فإنها لو وهبت زوجها المهر المعين كدار معينة أو حيوان معين، رجع عليها بنصف الصداق إذا طلقها قبل الدخول.
وقرر الحنابلة (1): أنه لا عفو لأب وغيره عن مهر محجورة؛ لأن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج. وإذا عفت المرأة لصاحبها عن مهرها، وهي جائزة التصرف، برئ منه، سواء بلفظ عفو أو بلفظ إسقاط، وصدقة، وترك، وإبراء لمن العين في يده.
ولو أبرأت مفوضة زوجها، ثم طلقت قبل الدخول، رجع بنصف مهر المثل.
وأخذ القانون السوري بمذهب الحنفية في جواز الزيادة والنقصان من المهر، إذا حدثت الزيادة من الزوج والحط من الزوجة إذا كان كل منهما كامل الأهلية، ويعد ذلك برضا الطرفين ملحقاً بأصل العقد. نصت المادة (57) على ما ذكر بقولها: «للزوج الزيادة في المهر بعد العقد، وللمرأة الحط منه إذا كانا كاملي أهلية التصرف، ويلحق ذلك بأصل العقد إذا قبل الآخر».
ثم عدلت هذه المادة سنة (1975) على النحو التالي:
«لا يعتد بأي زيادة أو إنقاص من المهر، أو إبراء منه إذا وقعت أثناء قيام الزوجية، أوفي عدة الطلاق، وتعتبر باطلة ما لم تجر أمام القاضي، ويلتحق أي من هذه التصرفات الجارية أمام القاضي بأصل العقد إذا قبل به الزوج الآخر».

تاسعاً ـ أحوال وجوب المهر وتأكده وتنصيفه وسقوطه:
وجوب المهر: اتفق الفقهاء (2) على أن المهر يجب بنفس العقد إن كان الزواج
_________
(1) غاية المنتهى: 67/ 3.
(2) البدائع: 287/ 2 وما بعدها، الشرح الكبير: 300/ 2 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 202، المهذب: 57/ 2، كشاف القناع: 156/ 5، الشرح الصغير: 440/ 2 وما بعدها.

(9/6798)


صحيحاً، والواجب هو المسمى إن كانت التسمية صحيحة، ومهر المثل إن لم تكن هناك تسمية، أو كانت التسمية فاسدة، أو كان هناك اتفاق على نفي المهر.
وعبر الجمهور غير الحنفية عنه بقولهم: تملك المرأة المسمى بالعقد إن كان صحيحاً، إلا أن المالكية رأوا أنه على المذهب تملك النصف بالعقد.
وإذا كان عقد الزواج فاسداً، أو الوطء بشبهة كالمزفوفة إليه امرأة غير زوجته، وقال له النساء: إنها زوجتك، وجب المهر أي مهر المثل بالدخول الحقيقي أي الوطء، وجوباً مؤكداً لا يسقط إلا بالأداء أو الإبراء.

تأكد المهر:
اتفق الفقهاء على أنه يتأكد وجوب المهر في العقد الصحيح بالدخول أو الموت، سواء أكان المهر مسمى أم مهر المثل، حتى لا يسقط شيء بعدئذ إلا بالإبراء من صاحب الحق.
واختلفوا في تأكده بأمرين: الخلوة الصحيحة، وإقامة الزوجة سنة بعد الزفاف بلا وطء.
قال الحنفية والحنابلة: يتأكد المهر أيضاً بالخلوة الصحيحة، وخالفهم المالكية والشافعية فيه.
وقال المالكية خلافاً لغيرهم وهم الجمهور: يتقرر أي يثبت ويتحقق المهر بإقامة الزوجة سنة بعد الزفاف بلا وطء.
وأضاف الحنابلة أن المهر يتأكد أيضاً بطلاق الفرار قبل الدخول في مرض الموت (1).
_________
(1) البدائع: 291/ 2 - 295، الدسوقي مع الشرح الكبير: 300/ 2 ومابعدها، الشرح الصغير: 437/ 2، المهذب: 57/ 2 - 60، كشاف القناع: 161/ 5، 168 ومابعدها، 174، مغني المحتاج: 224/ 3 ومابعدها: 229 - 231، المغني: 716/ 6، الشرح الصغير: 449/ 2.

(9/6799)


وتوضيح الكلام في كل واحد من هذه الأسباب فيما يأتي:

1ً - الدخول الحقيقي: هو الوطء أو الاتصال الجنسي ولو كان حراماً في القبل أو في الدبر بتغييب حشفة أو قدرها من مقطوعها، أو في حالة الحيض أو النفاس أو الإحرام أو الصوم أو الاعتكاف. يتأكد به وجوب المهر أو يستقر على الزوج، لاستيفاء مقابله، فإن الزوج استوفى حقه بالدخول، فيتقرر حق الزوجة في المهر جميعه، سواء أكان مسمى في العقد، أم فرض بعده بالتراضي أو بقضاء القاضي، ولقوله عز وجل: {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض} [النساء:21/ 4] وفسر الإفضاء بالجماع.
ويترتب على استقرار المهر بالدخول: أنه لا يسقط شيء منه بعدئذ إلا بالأداء لصاحبه، أو بالإبراء من صاحب الحق.

2ً - موت أحد الزوجين قبل الدخول في نكاح صحيح بالاتفاق، وقبل الخلوة الصحيحة عند الحنفية والحنابلة. فإذا مات أحد الزوجين قبل الوطء في نكاح صحيح، استحقت المرأة المهر كله باتفاق الفقهاء إذا كان النكاح نكاح تسمية، أي كان المهر مسمى في العقد؛ لأن العقد لا ينفسخ بالموت، وإنما ينتهي به، لانتهاء أمده وهو العمر، فتتقرر جميع أحكامه بانتهائه، ومنها المهر. ولإجماع الصحابة على استقرار المهر بالموت.
أما في نكاح التفويض، أي النكاح الذي لم يسم فيه المهر، ومات بعده أحد الزوجين فلا شيء فيه عند المالكية، قياساً للموت على الطلاق، والطلاق قبل الدخول والخلوة وقبل تسمية المهر، لا شيء فيه، فمثله الموت.
وقال الجمهور في الأظهر عند الشافعية: يجب فيه مهر المثل، للحديث السابق وهو أن ابن مسعود قضى في امرأة لم يفرض لها زوجها صداقاً، ولم

(9/6800)


يدخل بها حتى مات، فقال: لها صداق مثلها، ولا وَكْس ولا شطط، وعليها العدة ولها الميراث، فقال مَعْقِل بن سنان: «قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بَرْوع بنت واشق مثل ماقضيت» (1)، ولأنه عقد مدته العمر، فبموت أحدهما ينتهي، فيستقر به العوض، كانتهاء الإجارة، ومتى استقر لم يسقط منه شيء بانفساخ النكاح ولا غيره. ولأن الموت يكمل به المهر المسمى، فيكمل به مهر المثل للمفوضة كالدخول.
وهذا الرأي هو الراجح، لقوة أدلته، وعلق الشافعي في الأم القول به على صحة الحديث. وفرق بين الموت والطلاق؛ لأن الموت ينتهي به عقد الزواج، أما الطلاق فيقطع الزواج قبل إتمامه، لذا وجبت العدة بالموت قبل الدخول، ولم تجب بالطلاق، وكمل المسمى بالموت، ولم يكمل بالطلاق.

وهل القتل مثل الموت؟ إذا حدث القتل من أجنبي لأحد الزوجين، أو قتل أحد الزوجين الآخر، أو قتل أحدهما نفسه، فهو كالموت، يستقر به المهر؛ لأن النكاح قد بلغ غايته، فقام الموت مقام استيفاء المنفعة.
وخالف الشافعي وزفر من الحنفية فيما إذا قتلت الزوجة نفسها عمداً، فقالا: لا تستحق شيئاً من المهر؛ لأن قتلها نفسها يشبه ارتدادها عن الإسلام، وبالردة يسقط حقها من المهر.
وأجيب عنه من قبل الجمهور بأن قياس الانتحار على الردة غير صحيح؛ لأن المهر في حال الردة لا يتعلق به حق لغير الزوجة، فيجوز أن يسقط بفعلها، أما في حالة القتل، فإن المهر يتعلق به حق الورثة، فلا يجوز أن يسقط بفعل من جانبها.
_________
(1) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

(9/6801)


وهل تستحق الزوجة المهر بقتل زوجها عمداً قبل الدخول والخلوة أو يسقط؟ للفقهاء رأيان: قال الحنابلة والحنفية ما عدا زفر: لا يسقط حقها في المهر، بل يتأكد بالقتل كل المهر؛ لأن جزاء القتل العمد شرعاً هو القصاص، ولم يرد دليل بسقوط المهر بهذا القتل.
وقال المالكية والشافعية وزفر: يسقط مهرها بالقتل؛ لأن قتل زوجها جناية، والجنايات لا تؤكد الحقوق، ولأنها بهذه الجناية أنهت الزواج بمعصية، وإنهاء الزواج بمعصية من الزوجة قبل الدخول يسقط المهر كله، كإسقاطه بالردة، ولم يتعلق بالمهر حق لأحد، وهذا هو الراجح لقوة دليله.

3ً - الخلوة الصحيحة: احتراز عن الخلوة الفاسدة، والصحيحة هي: أن يجتمع الزوجان بعد العقد الصحيح في مكان يتمكنان فيه من التمتع الكامل، بحيث يأمنان دخول أحد عليهما، وليس بأحدهما مانع طبيعي أو حسي أو شرعي يمنع من الاستمتاع (1) عملاً بما روي عن الخلفاء الراشدين وزيد وابن عمر، روى أحمد والأثرم بإسنادهما عن زرارة بن أوفى قال: «قضى الخلفاء الراشدون المهديون أن من أغلق باباً أو أرخى ستراً، فقد أوجب المهر، ووجبت العدة».
والمانع الطبيعي: وجود شخص ثالث عاقل صغير أو كبير، والمانع الحسي: وجود مرض بأحدهما يمنع الوطء، ومنه الرتق (التلاحم)، والقَرَن (العظم) والعَفَل (غدة).
والمانع الشرعي: كأن يكون أحدهما صائماً في رمضان، أو محرماً بحج أو عمرة فرض أو نفل.
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 465/ 2، كشاف القناع: 168/ 5.

(9/6802)


ويتأكد المهر كله للزوجة عند الحنفية والحنابلة: بالخلوة الصحيحة بشروطها المذكورة، فلو طلق الرجل زوجته، وجب لها بالخلوة ولو لم يحصل وطء المسمى كاملاً إن كانت التسمية صحيحة، ومهر المثل كاملاً إن لم تكن هناك تسمية أو كانت التسمية فاسدة.
وقال المالكية، والشافعية في الجديد: لا يتأكد وجوب المهر بالخلوة وحدها، بدون وطء، فلو خلا الزوج بزوجته خلوة صحيحة، ثم طلقها قبل الدخول بها، وجب نصف المسمى، والمتعة إن لم يكن المهر مسمى.
وسأذكر في المطلب التالي أدلة الرأيين بمشيئة الله تعالى.

4ً - إقامة الزوجة سنة في بيت الزوج بعد الزفاف بلا وطء: يتقرر المهر أيضاً عند المالكية إذا تزوج رجل امرأة، وزفت إليه، وأقامت عنده سنة، بلا وطء، بشرط إطاقتها، وبلوغه، واتفاقهما على عدم الوطء؛ لأن الإقامة المذكورة تقوم مقام الوقاع أو الوطء.
ولا يتأكد المهر بها عند الشافعية. ويتقرر المهر بمجرد الخلوة الصحيحة كما تقدم عند الحنفية والحنابلة.

5ً - طلاق الفرار في مرض الموت قبل الدخول: يتقرر المهر كاملاً أيضاً عند الحنابلة بطلاق المرأة في مرض موت الزوج المخوف قبل دخوله بها إذا طلقها فراراً من ميراثها، ثم مات، فيتقرر عليه الصداق كاملاً بالموت، لوجوب عدة الوفاة عليها في هذه الحالة، ما لم تتزوج أو ترتد.
والخلاصة: يتأكد المهر عند الحنفية بأحد أسباب ثلاثة: الدخول والخلوة الصحيحة، وموت أحد الزوجين. وعند المالكية بأحد أسباب ثلاثة: هي

(9/6803)


الدخول، أي الوطء لمطيقة من بالغ وإن حرم، وموت أحد الزوجين، وإقامة سنة بعد الدخول بلا وطء بشرط بلوغه وإطاقتها. وعند الشافعية: يستقر المهر بأحد أمرين: الوطء وإن حرم، وموت أحد الزوجين،، لا بخلوة في الجديد. وعند الحنابلة: يتقرر المهر بأحد أمور أربعة: الدخول، والخلوة والموت أو القتل، والطلاق في مرض موت الزوج قبل الدخول بالزوجة.

تنصيف المهر:
اتفق الفقهاء (1) على وجوب نصف المهر للزوجة بالفرقة قبل الدخول، سواء عند الشافعية والحنابلة أكانت الفرقة طلاقاً أم فسخاً، إذا كان المهر مسمى حين العقد، وكانت التسمية صحيحة والفرقة جاءت من قبل الزوج. من أمثلة الفسخ: الفرقة بسبب الإيلاء أو اللعان، أو بسبب ردة الزوج، أو إباء الزوج اعتناق الإسلام بعد إسلام زوجته.
ودليلهم قوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، وقد فرضتم لهن فريضة، فنصف ما فرضتم} [البقرة:237/ 2] وهذا في الطلاق، وباقي أنواع الفرق مقيس عليه؛ لأنه في معناه.
فإن لم يسم المهر في العقد أصلاً كالمفوضة، أو اتفق الزوجان على الزواج بدون مهر، أو كانت التسمية غير صحيحة، وحصلت الفرقة بتراضي الزوجين أو بحكم القاضي وكانت الفرقة قبل الدخول، وقبل الخلوة عند الحنفية والحنابلة، لم يجب للزوجة شيء من المهر، وإنما تجب لها المتعة؛ لأن النص القرآني السابق إنما
_________
(1) البدائع: 296/ 2، الدر المختار: 463/ 2 - 464، الشرح الصغير: 454/ 2 وما بعدها، بداية المجتهد: 23/ 2، القوانين الفقهية: ص 202 وما بعدها، مغني المحتاج: 231/ 3، 234، المهذب: 59/ 2، كشاف القناع: 165/ 5، 171، 176.

(9/6804)


ورد بتنصيف أو تشطير المسمى، ووجوب المتعة لقوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء، ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة، ومتعوهن} [البقرة:236/ 2] وباقي الفرق مقيس على الطلاق؛ لأنه في معناه.
وقال المالكية: إن فسخ النكاح أو رده الزوج بعيب في الزوجة قبل الدخول، لم يجب لها شيء. واختلف هل يجب إذا ردته هي بعيب في الزوج. وقال الحنفية: الفرقة بغير طلاق قبل الدخول والخلوة تسقط المهر كما سأبين.

واختلف الفقهاء في مسألتين حول التنصيف قبل الدخول: مسألة تنصيف المفروض بعد العقد، ومسألة الزيادة في المهر بعد العقد.
أما المسألة الأولى ـ وهي إذا لم يذكر المهر حين العقد، وإنما فرض بعده بالتراضي أو بقضاء القاضي.
فقال الحنفية: لا يتنصف المفروض من المهر بعد العقد، لاختصاص التنصيف بالمفروض في العقد بالنص القرآني المتقدم، بل تجب المتعة فقط للمرأة، فلو حدثت الفرقة قبل الدخول والخلوة، وجب لها المتعة فقط.
وقال الجمهور: يتنصف المفروض بعد العقد كالمسمى في العقد، فلو حصلت الفرقة قبل الدخول. وقبل الخلوة عند الحنابلة، كان للمرأة نصف المفروض لا المتعة.

وأما المسألة الثانية ـ وهي الزيادة الحادثة من الزوج بعد العقد على المهر المسمى.
فقال الحنفية: تسقط هذه الزيادة عن الزوج، ولا تتنصف قبل الدخول والخلوة.

(9/6805)


وقال الجمهور: لا تسقط هذه الزيادة عن الزوج وتتنصف كالمسمى في العقد. والحاصل: أن الذي يتنصف عند الحنفية هوالمسمى في العقد، لا المفروض بعده ولا مازيد على المفروض بعد العقد، والجمهور على خلافهم في المسألتين. ومنشأ الاختلاف: تفسير المراد من قوله تعالى: {فنصف ما فرضتم} [البقرة:237/ 2]: فرأى الحنفية: أن المقصود منه المفروض وقت العقد، لا غير، عملاً بالمتعارف بين الناس: وهو إطلاق المفروض على المسمى وقت العقد. ورأى الجمهور: أن المقصود منه المفروض مطلقاً، عملاً بمقتضى اللغة؛ لأن الفرض هو التقدير، وهو يشمل كل ما قدر، سواء أكان وقت العقد أم بعده. وهذا هو الراجح؛ لأن كلاً من المفروض وقت العقد أو بعده يسمى مفروضاً في العرف، كما هو مقتضى اللغة.

سقوط المهر كله:
ذكر الحنفية أنه يسقط المهر كله عن الزوج بأحد أربعة أسباب (1):
1ً - الفرقة بغير طلاق قبل الدخول بالمرأة وقبل الخلوة بها: كل فرقة حصلت بغير طلاق قبل الدخول وقبل الخلوة: تسقط جميع المهر، سواء أكان من قبل المرأة أم من قبل الزوج، كأن ارتدت المرأة عن الإسلام، أو أبت الإسلام وأسلم زوجها، أو اختارت فسخ الزواج لعيب في الزوج. ومثله إذا فسخ ولي المرأة الزواج لعدم كفاءة الزوج، ففي هذه الأحوال التي يتم بها فسخ الزواج قبل الدخول يسقط جميع المهر؛ لأن الفرقة بغير طلاق تكون فسخاً للعقد، وفسخ
_________
(1) البدائع: 295/ 2 - 296.

(9/6806)


العقد قبل الدخول يوجب سقوط كل المهر؛ لأن فسخ العقد رفعه من الأصل، وجعله كأنه يكن.
وقال المالكية (1): إن فسخ الزوج النكاح أو رده بعيب في الزوجة قبل الدخول، لم يجب لها شيء، فهم يوافقون الحنفية به، ولا شيء لها أيضاً في نكاح التفويض عنده إذا مات الزوج أو طلق قبل الدخول.
وفصَّل الشافعية والحنابلة (2) بين ما إذا كانت الفرقة بسبب من الزوجة، وبين ما إذا كانت بسبب من غيرها، فقالوا: الفرقة الحاصلة من جهة الزوجة قبل الدخول بها تسقط المهر المسمى والمفروض ومهر المثل، كإسلامها بنفسها، أو بالتبعية كإسلام أحد أبويها، أو فسخ الزوج بعيب في الزوجة، أوردتها أوإرضاعها زوجة للزوج صغيرة.
وأما الفرقة الحاصلة قبل الدخول لا بسبب الزوجة كطلاق وخلع ولو باختيارها كأن فوض الطلاق إليها فطلقت نفسها، أو علق الطلاق بفعلها ففعلت، أو أسلم الزوج أو ارتد أو لاعن أو أرضعت أمه زوجته أو أرضعت أمها له وهو صغير، فلا تسقط المهر، وإنما تشطره، فيثبت لها نصف المهر. أما في حالة الطلاق فلآية: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} [البقرة:237/ 2] وأما الباقي فبالقياس عليه.
2ً - الخلع على المهر قبل الدخول أو بعده: إذا خالع الرجل امرأته على مهرها، سقط المهر كله، فإن كان المهر غير مقبوض، سقط عن الزوج، وإن كان مقبوضاً ردته على الزوج. وإن خالعها على مال سوى المهر يلزمها المال، ويبرأ
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 203، الشرح الصغير: 437/ 2.
(2) مغني المحتاج: 234/ 3، كشاف القناع: 165/ 5 - 167.

(9/6807)


الزوج عن كل حق وجب لها عليه بالعقد كالمهر والنفقة الماضية في قول أبي حنيفة؛ لأن في الخلع ـ وإن كان طلاقاً بعوض ـ معنى البراءة.
3ً - الإبراء عن كل المهر قبل الدخول أو بعده: يسقط به المهر إذا كانت المرأة من أهل التبرع، وكان المهر ديناً في الذمة: وهو النقود وجميع المكيلات والموزونات إذا لم تكن متعينة مقصودة لذاتها؛ لأن الإبراء إسقاط، والإسقاط ممن هو أهل له في محل قابل له يوجب السقوط.
4ً - هبة الزوجة كل المهر للزوج: متى كانت أهلاً للتبرع، وقبل الزوج الهبة في المجلس، سواء أكانت الهبة قبل القبض أم بعده.
وتختلف الهبة عن الإبراء: في أنها ترد على الدين والعين، أي الثابت في الذمة كالنقود، أو الذي يتعين بالتعيين كثوب أو حيوان معين. أما الإبراء فلا يرد إلا على الدين.
وكذلك يسقط المهر بالهبة عند المالكية، لكنهم قالوا: إذا وهبت المرأة لزوجها جميع صداقها، ثم طلقها قبل الدخول، لم يرجع عليها بشيء. فإن أراد الدخول بها، وجب لها أقل المهر وهو ربع دينار أو قيمته، أما إن وهبته بعد الدخول فلا يلزمه شيء؛ لأن حقها في المهر قد تقرر بالدخول ثم أسقطته بالهبة (1).
وقال الشافعية على الصحيح: إن كان المهر عيناً كفرس معينة، ثم وهبته من الزوج، ثم طلقها قبل الدخول، فيرجع عليها بالنصف؛ لأنه عاد إليه بغير الطلاق، فلم يسقط حقه من النصف بالطلاق، كما لو وهبته لأجنبي، ثم وهبه الأجنبي منه (2).
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 203.
(2) المهذب: 59/ 2.

(9/6808)


وقال الحنابلة (1): إذا أبرأت المرأة الزوج من صداقها، أو وهبته له، ثم طلقها قبل الدخول، رجع الزوج عليها بنصفه؛ لأن عود نصف الصداق إلى الزوج بالطلاق، وهو غير الجهة المستحق بها الصداق أولاً، فهو كما لو أبرأ إنساناً من دين عليه، ثم استحق عليه مثل ما أبرأه منه بوجه آخر، فلا يتساقطان بذلك.
وإن أبرأته من نصف الصداق، أو وهبته نصف الصداق، ثم طلقها الزوج قبل الدخول، رجع في النصف الباقي؛ لأنه وجد نصف ما أصدقها بعينه، فأشبه ما لو لم تهبه له.
وإن قبضت المرأة صداقها، ثم طلقها الزوج قبل الدخول، رجع بنصف عينه إن كان باقياً بحاله، لقوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، وقد فرضتم لهن فريضة، فنصف ما فرضتم} [البقرة:237/ 2].
ولو جعل الزوج الخيار لامرأته منه، فاختارت نفسها قبل الدخول، فلا مهر لها؛ لأن الفرقة تمت بفعلها، وإن جعل لها بغير سؤالها وطلبها، لم يسقط الصداق باختيارها نفسها قبل الدخول، بل يتنصف؛ لأنها نائبة عنه، ففعلها كفعله.

سقوط نصف المهر:
قال الحنفية (2): ما يسقط به نصف المهر نوعان:
النوع الأول ـ الطلاق قبل الدخول في نكاح فيه تسمية المهر، والمهر دين لم يقبض بعد، للآية المتقدمة: {فنصف ما فرضتم} [البقرة:237/ 2] أوجب سبحانه وتعالى نصف المفروض.
_________
(1) كشاف القناع: 157/ 5، 163، 167.
(2) البدائع: 296/ 2 - 303.

(9/6809)


النوع الثاني ـ ما يسقط به نصف المهر معنى، والكل صورة: وهو كل طلاق تجب فيه المتعة: وهو كل فرقة جاءت من جهة الزوج قبل الدخول في نكاح لا تسمية فيه. كما سأبين في بحث المتعة.

عاشراً ـ تبعة ضمان المهر وحكم هلاكه واستهلاكه واستحقاقه وتعييبه وزيادته: اتفق الفقهاء على أن تبعة ضمان المهر إذا هلك تكون على من بيده المهر، فإذا هلك قبل القبض ضمنه الزوج، وإذا هلك بعد القبض أو استهلكته المرأة، ضمنته هي:
فإن هلك المهر في يد الزوج، بآفة سماوية، ضمن الزوج عند الحنفية والمالكية مثله أو قيمته.
وإن هلك بفعل الزوجة وهو في يد زوجها، أو بآفة سماوية بعد القبض، أصبحت مستوفية له بهذا الهلاك.
وإذا هلك بفعل أجنبي، فالمرأة بالخيار بين تضمين الأجنبي وبين تضمين الزوج، ثم يرجع الزوج على الأجنبي بما ضمن.
وإن استحق المهر بأن تبين أنه ليس ملكاً للزوج، فالزوج ضامن له؛ لأنه بالاستحقاق تبين أنه ملك غيره، فترجع بمثله إن كان مثلياً، وبقيمته إن كان قيمياً يوم عقد النكاح.
وإن اطلعت الزوجة على عيب قديم فيه، كان لها الخيار بين إمساكه أو رده والرجوع بمثله في المثلي، وبقيمته في القيمي يوم الزواج.

(9/6810)


وذكر الحنفية (1): أن المرأة إذا قبضت المهر، فإن كان دراهم أو دنانير معينة أو غير معينة، أو كان مكيلاً أو موزوناً في الذمة، ثم طلقها قبل الدخول بها، فعليها رد نصف المقبوض، وليس عليها رد عين ما قبضت؛ لأن عين المقبوض لم يكن واجباً بالعقد، فلا يكون واجباً بالفسخ.
وإن حدث تعيب أو نقصان فاحش في المهر:
أـ فإن كان بفعل أجنبي قبل القبض، فالمرأة بالخيار إن شاءت أخذت الشيء الناقص، واتبعت الجاني بالأرش (التعويض عنه) وإن شاءت تركت وأخذت من الزوج قيمة الشيء يوم العقد، ثم يرجع الزوج على الأجنبي بضمان النقصان وهو الأرش.
ب ـ وإن كان النقصان بآفة سماوية: فالمرأة بالخيار إن شاءت أخذته ناقصاً ولا شيء لها غيره، وإن شاءت تركته وأخذت قيمته يوم العقد؛ لأن المهر مضمون على الزوج بالعقد، والأوصاف لا تضمن بالعقد لعدم ورود العقد عليها موصوفاً، فلا تضمن في حقها، وإنما يضمن الأصل لورود العقد عليه.
وإنما ثبت لها الخيار لتغير المعقود عليه وهو المهر عما كان عليه.
جـ ـ وإن كان النقصان بفعل الزوج: ففي ظاهر الرواية إن شاءت أخذته ناقصاً، وأخذت معه أرش النقصان، وإن شاءت أخذت قيمته يوم العقد.
د ـ وإن كان النقصان بفعل المرأة: فقد صارت قابضة بالجناية على الشيء، فجعل كأن النقصان حصل في يدها، كالمشتري إذا جنى على المبيع في يد البائع، إنه يصير قابضاً له.
_________
(1) البدائع: 298/ 2، 301.

(9/6811)


هذا في النقصان الفاحش، وأما في النقصان اليسير فلا خيار لها.

وذكر المالكية (1): أنه إن تلف الصداق، وكان مما يُغَاب عليه (أي يمكن إخفاؤه ويتطلب الحراسة) ولم تقم على هلاكه بينة، فيضمنه الذي بيده، فيغرم نصفه لصاحبه إن حدث طلاق قبل الدخول.
وإن لم تقم بينة على هلاكه، فتلف وكان مما لا يُغاب عليه (لا يمكن إخفاؤه) كالبساتين والزرع والحيوان، وطلق الرجل قبل الدخول، فلا رجوع لكل منهما على الآخر، ويحلف من هو بيده أنه ما فرط إن اتهم.
وكذا إن هلك الصداق بعد العقد، كأن مات أو حرق أو سرق أو تلف من غير تفريط أحد من الزوجين، وثبت هلاكه ببينة أو بإقرارهما عليه، سواء أكان مما يغاب عليه أم لا، وسواء أكان بيد الزوج أم الزوجة أم غيرهما، لا رجوع لأحدهما على الآخر.
والحاصل: أن الصداق إن تلف في يد أحد الزوجين: فإن كان مما لا يغاب عليه فخسارته على الزوجين، وأما ما يغاب عليه فخسارته على من هو في يده إن لم تقم بينة على هلاكه. فإن قامت بينة على هلاكه، فخسارته عليهما.
وإن استحق المهر من يد الزوجة: فترجع بمثل المثلي، وقيمة القيمي، يوم عقد النكاح.
وإن اطلعت على عيب قديم في المهر، فلها الخيار بين إمساكه أو رده والرجوع بمثله أو قيمته.
_________
(1) الشرح الكبير مع الدسوقي: 295/ 2، الشرح الصغير: 457/ 2، القوانين الفقهية: ص203.

(9/6812)


وإن استحق بعض المهر أو تعيب بعضه: فإن كان فيه ضرر بأن كان أزيد من الثلث، كان لها أن ترد الباقي وتأخذ من الزوج قيمته، أو تحسب ما بقي، وترجع بقيمة ما استحق. وأما إن كان المستحق منه الثلث أو الشيء التافه الذي لا ضرر فهي، فترجع بقيمة ما استحق فقط.

وفصّل الشافعية القول (1): إن كان الصداق عيناً كدار معينة أو ثوب أو حيوان معين فتلف في يد الزوج قبل القبض، ضمنه ضمان عقد لا ضمان يد؛ لأنه مملوك بعقد معاوضة، فأشبه المبيع في يد البائع، والفرق بين ضماني العقد واليد في الصداق: أنه على الأول يضمن بمهر المثل، وعلى الثاني يضمن بالبدل الشرعي: وهو المثل إن كان مثلياً، والقيمة إن كان قيمياً.
وعلى الأول: ليس للمرأة بيعه قبل قبضه كالمبيع، وعلى الثاني يجوز بيعه. وتصح الإقالة على الأول دون الثاني.
لهذا .. لو تلف الشيء المعين في يد الزوج بآفة سماوية، وجب مهر المثل على الأول لانفساخ عقد الصداق، ولا ينفسخ على الثاني.
وإن أتلفت الزوجة المهر، فتعد قابضة إذا كانت أهلاً؛ لأنه أتلفت حقها، وإن كانت غير رشيدة فلا تعد قابضة؛ لأن قبضها غير معتدّ به.
وإن أتلفه أجنبي، تخيرت الزوجة على المذهب بين فسخ الصداق وإبقائه، فإن فسخت الصداق أخذت من الزوج مهر المثل، وإن لم تفسخه غَرَّمت المتلف المثل أوا لقيمة.
وإن أتلفه الزوج فهو كتلفه بآفة سماوية، يوجب مهر المثل.
_________
(1) مغني المحتاج: 221/ 3 وما بعدها، 235 وما بعدها، المهذب: 57/ 2.

(9/6813)


وإن تعيَّب الصداق المعين قبل قبضه بآفة سماوية كالعمى أو قطع يد، تخيرت الزوجة على المذهب بين فسخ الصداق وإبقائه، كما تقدم.
وإن قبضت المرأة الصداق، فوجدت به عيباً، فردته، أو خرج مستحقاً، رجعت على الزوج في المذهب الجديد بمهر المثل.
وإن كان الصداق تعليم الزوج لها سورة من القرآن، فتعلمت من غيره، أو لم تتعلم لسوء حفظها، فهو كالصداق المعين إذا تلف، فترجع إلى مهر المثل على الجديد.
والمنافع الفائتة في يد الزوج لا يضمنها، وكذا المنافع التي استوفاها بركوب الدابة التي أصدقها، ولبس الثوب الذي أصدقه، لا يضمنها على المذهب.
وإن طلبت الزوجة من الزوج تسليم المهر، فامتنع منه، ضمن ضمان العقد.
وإن طلق الرجل والمهر تالف بعد قبضه، فعليها نصف بدله له من مثل أو قيمة. وإن تعيب في يدها، فإن قنِع بالنصف معيباً، فلا أرش له، كما لو تعيب المبيع في يد البائع، وإن لم يقنع به: فإن كان قيمياً فعليها نصف قيمته، وإن كان مثلياً فعليها مثل نصفه؛ لأنه لا يلزمه الرضا بالمعيب، فله العدول إلى بدله. وإن تعيب بآفة سماوية قبل قبضها له، وقنعت به، فله نصفه ناقصاً بلا أرش ولا خيار. وإن تعيب بفعل أجنبي ضمنت جنايته وأخذت أرشها، والأصح أن له نصف الأرش مع نصف عين المهر.

وقرر الحنابلة (1): أنه إن أخذت المرأة الصداق، فوجدته معيباً، فلها منع نفسها من الزفاف حتى يبدله، أو يعطيها أرشه؛ لأن صداقها صحيح.
_________
(1) البدائع: 299/ 2 وما بعدها.

(9/6814)


وإن سلمت نفسه ثم بان الصداق معيباً، كان لها أيضاً منع نفسها عن الاستمتاع حتى تقبض بدله أو أرشه؛ لأنها إنما سلمت نفسها ظناً منها أنها قبضت صداقها، فتبين عدمه.
وإن كان الصداق مكيلاً أو موزوناً، فنقص في يد الزوج قبل تسليمه إليها، أو كان غير المكيل والموزون، فمنعها أن تتسلمه فالنقص عليه؛ لأنه من ضمانه.

وأما زيادة المهر:
ففيها تفصيل عند الفقهاء، أما رأي الحنفية (1) فهو ما يأتي:
1ً - إن كانت الزيادة متولدة من الأصل كالولد والصوف والثمر والزرع، أو في حكم المتولد كالأرش (عوض الجراحة) فهي مهر، سواء أكانت متصلة بالأصل كالسمن والكبر والجمال، أم منفصلة عنه كالولد ونحوه.
فلو طلقها قبل الدخول بها يتنصف الأصل والزيادة جميعاً بالاتفاق؛ لأن الزيادة تابعة للأصل، لكونها نماء الأصل، والأرش بدل جزء هو مهر، فيقوم مقامه.
2ً - وأما إن كانت الزيادة غير متولدة من الأصل: فإن كانت متصلة بالأصل كالثوب إذا صبغ، والأرض إذا بني فيها بناء، فإنها تمنع التنصيف، وعليها نصف قيمة الأصل؛ لأن هذه الزيادة ليست بمهر؛ لأنها لم تتولد من المهر، فلا تكون مهراً، فلا تتنصف، ولا يمكن تنصيف الأصل بدون تنصيف الزيادة.
وإن كانت منفصلة عن الأصل كالهبة والكسب، فالزيادة ليست بمهر وهي
_________
(1) البدائع: 299/ 2 وما بعدها.

(9/6815)


كلها للمرأة في قول أبي حنيفة ولا تتنصف، ويتنصف الأصل؛ لأن هذه الزيادة ليست بمهر، وإنما هي مال المرأة، فأشبهت سائر أموالها.
وعند الصاحبين: هي مهر، فتتنصف مع الأصل؛ لأن هذه الزيادة تملك بملك الأصل، فكانت تابعة للأصل، فتتنصف مع الأصل، كالزيادة المتولدة من الأصل كالسمن والولد.
هذا إذا كان المهر في يد الزوج، فحدثت فيه الزيادة.
أما إذا كان المهر في يد المرأة قبل الفرقة: فإن كانت الزيادة متصلة متولدة من الأصل، فإنها تمنع التنصيف في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وللزوج عليها نصف القيمة يوم سلمه إليها؛ لأن هذه الزيادة لم تكن موجودة عند العقد، ولا عند القبض؛ فلا يكون لها حكم المهر، فلا يمكن فسخ العقد عليها بالطلاق قبل الدخول؛ لأن الفسخ إنما يرد على ما ورد عليه العقد. وقال محمد: لا تمنع التنصيف، ويتنصف الأصل مع الزيادة، لظاهر آية {فنصف ما فرضتم} [البقرة:237/ 2] وليس نصف قيمة المفروض.
وإن كانت الزيادة منفصلة متولدة من الأصل، فإنها تمنع التنصيف باتفاق أئمة الحنفية الثلاثة، وعليها نصف قيمة الأصل إلى الزوج.
وإن كانت الزيادة منفصلة غير متولدة من الأصل، فهي للمرأة خاصة، والأصل بينهما نصفان اتفاقاً.
وإن حدثت الزيادة بعد الطلاق قبل القبض: فالأصل والزيادة بينهما نصفان.

(9/6816)


وإن حدثت بعد القبض وبعد القضاء بالنصف للزوج: فكالحالة السابقة هما بينهما نصفان. وإن كانت الزيادة قبل القضاء بالنصف للزوج: فالمهر في يدها كالمقبوض بعقد فاسد، تكون الزيادة لها؛ لأن الملك كان لها، وقد فسخ ملكها في النصف بالطلاق.

وقال المالكية (1): ما حدث في الصداق من زيادة ونقصان قبل الدخول: فالزيادة للزوجين، والنقصان عليهما، وهما شريكان في ذلك. ومعنى هذا أن الزيادة بعد الدخول للمرأة.
ورأى الشافعية (2): أن للمرأة زيادة منفصلة حدثت بعد الإصداق، كثمرة وولد وأجرة؛ لأنها حدثت في ملكها.
ولها الخيار في زيادة متصلة، كسِمَن وتعلم حرفة، فإن لم تسمح بها، فعليها نصف قيمة المهر، بأن يقوَّم بغير زيادة، ويعطى الزوج نصفه، وإن سمحت بها لزمه قبول الزيادة، وليس له طلب بدل النصف؛ لأن حقه مع زيادة لا تتميز، ولا تفرد بالتصرف، بل هي تابعة، فلا تعظم فيها المنة.
وإن زاد المهر ونقص: كطول نخلة بحيث يؤدّي إلى هرمها وقلة ثمرها: فإن اتفق الزوجان على الرجوع بنصف العين، فذاك؛ لأن الحق لا يعدوهما، وإلا فنصف قيمة العين خالية عن الزيادة والنقص؛ لأنه العدل، ولا تجبر هي على دفع نصف العين، للزيادة، ولا هو على قبوله للنقص.

وذهب الحنابلة (3): إلى أنه يدخل المهر في ملك المرأة بمجرد العقد، فإن زاد فالزيادة لها، وإن نقص فعليها. وإذا كان المهر غنماً فولدت، فالأولاد زيادة
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 203.
(2) مغني المحتاج: 236/ 3.
(3) المغني: 746/ 6 - 749.

(9/6817)


منفصلة، تكون لها؛ لأنه نماء ملكها، ويرجع قبل الدخول في نصف الأمهات، إن لم تكن نقصت ولا زادت زيادة متصلة؛ لأنه نصف ما فرض لها، وقد قال تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، وقد فرضتم لهن فريضة، فنصف ما فرضتم} [البقرة:237/ 2].
وإن نقصت الأغنام بالولادة أوبغيرها، فله الخيار بين أخذ نصفها ناقصاً؛ لأنه راض بدون حقه، وبين أخذ نصف قيمتها وقت ما أصدقها؛ لأن ضمان النقص عليها. وهذا موافق للشافعي.
وقال أبو حنيفة كما تقدم: لا يرجع في نصف الأصل، وإنما يرجع في نصف القيمة؛ لأنه لا يجوز فسخ العقد في الأصل دون النماء؛ لأنه موجب العقد، فلم يجز رجوعه في الأصل بدونه.
واستدل الحنابلة: بأن هذا نماء منفصل عن الصداق، فلم يمنع رجوع الزوج، كما لو انفصل قبل القبض. وردوا على دليل أبي حنيفة بأن الطلاق ليس برفع للعقد، ولا النماء من موجبات العقد، إنما هو من موجبات الملك، فلا فرق بين كون الولادة قبل تسليم المهر إلى الزوجة أو بعده، إلا أن يكون قد منعها قبضه، فيكون النقص من ضمانه، والزيادة لها، فتنفرد بالأولاد.
وإن نقصت الأمهات خيِّرت المرأة بين أخذ نصفها ناقصة، وبين أخذ نصف قيمتها أكثر ما كانت من يوم أصدقها إلى يوم طلقها. وإن أراد الزوج أخذ نصف قيمة الأمهات من المرأة، لم يكن له الأخذ.
وإن كان الصداق بهيمة غير حامل (حائلاً)، فحملت، فالحمل فيها زيادة متصلة، إن بذلتها له بزيادتها لزمه قبولها، وليس الحمل معدوداً نقصاً، فلا يرد به المبيع. وإن اتفقا على تنصيفها جاز.

(9/6818)


وإن أصدقها حاملاً، فولدت فقد أصدقها شيئين: الأم وولدها، وزاد الولد في ملكها، فإن طلقها فرضيت ببذل النصف من الأم والولد جميعاً، أجبر على قبولهما؛ لأنها زيادة غير متميزة، وإن لم تبذله، لم يجز له الرجوع في نصف الولد لزيادته، ولا في نصف الأم لما فيه من التفرقة بين الأم وبين ولدها، ويرجع بنصف قيمة الأم. وفي نصف الولد وجهان: أحدهما ـ لا يستحق نصف قيمته، والثاني ـ له نصف قيمته.
وإذا أصدقها أرضاً، فبنتها داراً، أو ثوباً فصبغته، ثم طلقها قبل الدخول، رجع بنصف قيمته وقت ما أصدقها إلا أن يشاء أن يعطيها نصف قيمة البناء أو الصبغ، فيكون له النصف، أو تشاء هي أن تعطيه زائداً فلا يكون له غيره.
وإذا أصدقها نخلاً غير مثمر، فأثمرت في يده، فالثمرة لها؛ لأنها نماء ملكها.

حادي عشر ـ الاختلاف في المهر:
الاختلاف في المهر له أحوال ثلاثة: اختلاف في تسمية المهر، واختلاف في مقدار المهر أو جنسه أو نوعه أو صفته، واختلاف في قبض المهر (1).

الحالة الأولى ـ الاختلاف في تسمية المهر وعدم تسميته:
اختلفت آراء الفقهاء في كيفية فصل النزاع في هذا الموضوع، بأن ادعى أحد
_________
(1) البدائع: 304/ 2 - 308، فتح القدير: 475/ 2 - 479، الدر المختار: 496/ 2 - 499، الشرح الصغير: 491/ 2 - 496، القوانين الفقهية: ص 204، بداية المجتهد: 29/ 2 - 31، المهذب: 61/ 2 - 62، مغني المحتاج: 242/ 3 - 244، كشاف القناع: 171/ 5 - 173، المغني: 707/ 6 - 711.

(9/6819)


الزوجين أو الورثة تسمية المهر، وأنكر الآخر، فقال الأول: سُمي المهر، وقال الآخر: لم نسم مهراً.
قال الحنفية: إذا كان الاختلاف في حال حياة الزوجين، حلف منكر التسمية، عملاً بالقاعدة المقررة: (البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر). فإن نكل عن اليمين ثبتت التسمية، وإن حلف يجب مهر المثل باتفاق أئمة الحنفية، فإن كان الاختلاف بعد الطلاق قبل الدخول تجب المتعة باتفاقهم أيضاً.
وكذلك إن وقع الاختلاف بعد موت أحد الزوجين، فهو كالاختلاف في حال حياة الزوجين، فمن كان القول له لو كان حياً يكون القول لورثته، فيحكم بالمسمى إن ثبت، وبمهر المثل إن لم يثبت.
وقال المالكية: إن أقام المدعي البينة على ما يدعيه قضي له بما ادعى، وإن لم يقم البينة، كان القول قول من يشهد له العرف في التسمية وعدمها مع يمينه، فإن ادعى الزوج أنه تزوج المرأة تفويضاً بدون تسمية عند معتادي التفويض، وادعت هي التسمية، فالقول له بيمينه، ولو بعد الدخول أو الموت أو الطلاق، فيلزمه أن يفرض لها صداق المثل بعد الدخول، ولا شيء عليه في الطلاق أو الموت قبل الدخول. فإن كان المعتاد هو التسمية فالقول قول المرأة بيمينها، وثبت النكاح.
وقال الحنابلة: إن اختلف الزوجان أو ورثتهما أو أحدهما وولي الآخر أو وارثه في تسمية المهر فقال: لم نسم مهراً، وقالت: سمي لي مهر المثل، فالقول قول الزوج بيمينه في أصوب الروايتين؛ لأنه يدعي ما يوافق الأصل، ولها مهر المثل بالدخول أوالموت، فإن طلق ولم يدخل بها، فلها المتعة؛ لأن القول قوله في عدم التسمية، فهي مفوضة.
أما الشافعية فقالوا: لو ادعت المرأة تسميته، فأنكر زوجها قائلاً: لم تقع

(9/6820)


تسمية، ولم يدّع تفويضاً، تحالفا في الأصح؛ لأن حاصله الاختلاف في قدر المهر؛ لأن الزوج يقول: الواجب مهر المثل، وهي تدعي زيادة عليه. وبالتحالف: ينتفي بيمين كل واحد منهما دعوى صاحبه، فيبقى العقد بلا تسمية، فيجب حينئذ مهر المثل.

الحالة الثانية ـ الاختلاف في مقدار المهر المسمى:
إذا اختلف الزوجان في مقدار المهر المسمى، فقال الزوج: ألف، وقالت الزوجة: ألفان، والخلاف في حال قيام النكاح:

ف قال أبو حنيفة ومحمد: القول لمن شهد له مهر المثل بيمينه، وأيهما أقام البينة تقبل، فإن أقام الاثنان البينة، قدمت بينتها إن كان مهر المثل شاهداً للزوج؛ لأنها تثبت الزيادة، وتقدم بينته إن كان مهر المثل شاهداً للمرأة؛ لأنها تثبت الحط، والأصل في هذا أن البينة تثبت خلاف الظاهر أي ما ليس بثابت ظاهر. وإن كان مهر المثل بينهما تحالفا، فإن حلفا أو برهنا قضي به، وإن برهن أحدهما قبل برهانه، لأنه أوضح دعواه بإقامة برهانه. والحاصل: أن أبا حنيفة ومحمداً يحكّمان مهر المثل. لكن إذا كان الاختلاف في جنس المهر أو نوعه أو صفته من الجودة والرداءة، فيقضى بقدر قيمته.
وقال أبو يوسف ـ والعمل جار على رأيه في مصر ـ: تعتبر الزوجة مدعية؛ لأنها تدعي الزيادة على الزوج، والزوج منكر، فتطبق القاعدة: «البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر» فتطالب الزوجة بإقامة البينة على ما تدعيه، فإن أقامت البينة على ما ادعت قضي لها به، وإن عجزت عن إقامة البينة وطلبت تحليف الزوج اليمين، وجهت إليه اليمين. فإن امتنع عن الحلف قضي لها بما ادعت، وإن حلف قضي بقدر ما ذكره، إلا أن يأتي بشيء قليل أي ما لا يتعارف

(9/6821)


مهراً لها، فيقضى حينئذ بمهر المثل. والحاصل: أن أبا يوسف لا يحكِّم مهر المثل، بل يجعل القول قول الزوج مع يمينه إلا أن يأتي بشيء مستنكر، أي غير متعارف.

وقال المالكية: إذا تنازع الزوجان في مقدار الصداق: فإن كان قبل الدخول تحالفا وتفاسخا، وبدئت هي باليمين، ويقضى لمن كان قوله أشبه بالمتعارف المعتاد بين أهل بلديهما، ومن نكل منهما عن اليمين قضي عليه مع يمين صاحبه أي حلف الآخر، وقضي له بما ادعاه، ولا يفرق بينهما. وإن لم يكن قول أحدهما يشبه المتعارف تحالفا، فيحلف كل منهما على ما ادعى، ونفي ما ادعاه الآخر؛ لأن كلاً منهما يعتبر مدعى ومدعى عليه، فإن حلفا أو امتنعا عن اليمين، فرّق القاضي بينهما بطلقة.
وإن كان الخلاف بعد الدخول، فالقول قول الزوج مع يمينه.

وقرر الشافعية: أنه إن اختلف الزوجان في قدرالمهر أو صفته أو أجله، تحالفا، ويتحالف وارثاهما، أو وارث أحدهما والآخر، ثم يفسخ المهر، ويجب مهر المثل، ولم ينفسخ النكاح.
ورأى الحنابلة: أنه إن اختلف الزوجان في قدر المهر بعد العقد، ولا بيِّنة لأحدهما على مقداره، فالقول قول من يدعي مهر المثل منهما، فإن ادعت المرأة مهر مثلها أو أقل، فالقول قولها، وإن ادعى الزوج مهر المثل أو أكثر، فالقول قوله. وهذا موافق لرأي أبي حنيفة ومحمد.
الحالة الثالثة ـ الاختلاف في قبض المهر المعجل:
إذا اختلف الزوجان في قبض المعجل من المهر، بأن ادعى الزوج أنه وافاها كل المعجل، وقالت الزوجة: لم تقبض شيئاً منه، أو قبضت بعضه.

(9/6822)


فقال الحنفية: إن كان الخلاف بينهما قبل الدخول، كان القول للزوجة بيمينها، وعلى الزوج أن يثبت ما يدعيه بالبينة. وإن كان الخلاف بينهما بعد الدخول؛ فإن لم يكن هناك عرف بتقديم شيء، فالقول قول الزوجة بيمينها، وإن كان هناك عرف فيحكم العرف في النزاع على أصل القبض، بأن قالت الزوجة: لم تقبض شيئاً، فإن جرى العرف بتقديم النصف أو الثلثين، قضي عليها به، ويكون العرف مكذباً للزوجة في ادعائها عدم قبض شيء من المهر قبل الزفاف. وقد أفتى متأخرو الحنفية (1) بعدم تصديق المرأة بعد الدخول بها بأنها لم تقبض المشروط تعجيله من المهر، مع أنها منكرة للقبض؛ لأن العرف جرى بأن المرأة تقبض المعجل قبل الزفاف. وإن كان النزاع في قبض بعض المعجل، بأن قالت الزوجة: إنها قبضت بعض مهرها، وادعى الزوج أنه سلمها كامل المهر، فالقول قول الزوجة بيمينها؛ لأن الناس يتساهلون عادة في المطالبة بتسليم كل المهر بعد قبض بعضه، ويتم الزفاف قبل قبضه.
ووافق المالكية الحنفية في حالة الخلاف في قبض المعجل قبل الدخول أي القول قولها، وأما بعد الدخول: فالقول قوله بعد الدخول بيمينه، إلا إذا كان هناك عرف فيرجع إليه.
ووافق الشافعية والحنابلة الحنفية بدون تفرقة بين ما قبل الدخول وبعده، فقالوا: إن اختلف الزوجان في قبض المهر، فادعاه الزوج، وأنكرت المرأة، فالقول قولها؛ لأن الأصل عدم القبض، وبقاء المهر.
_________
(1) رسائل ابن عابدين: 126/ 2.

(9/6823)


وإن كان الصداق تعليم سورة، فادعاه الزوج، وأنكرت المرأة، فإن كانت لا تحفظ السورة، فالقول قولها؛ لأن الأصل عدم التعليم. وإن كانت تحفظها ففيه وجهان: أحدهما ـ أن القول قولها؛ لأن الأصل أنه لم يعلمها. والثاني ـ أن القول قوله؛ لأن الظاهر أنه لم يعلمها غيره.
والخلاصة: إن اختلف الزوجان في القبض، فقالت الزوجة: لم أقبض، وقال الزوج: قد قبضت، فقال الجمهور (الشافعي وأحمد والثوري وأبو ثور) القول قول المرأة. وقال مالك: القول قولها قبل الدخول، والقول قوله بعد الدخول. وقال بعض أصحابه: إنما قال ذلك مالك؛ لأن العرف بالمدينة كان عندهم ألا يدخل الزوج حتى يدفع الصداق. فإن كان بلد ليس فيه هذا العرف، كان القول قولها أبداً، والقول بأن القول قولها أبداً أحسن؛ لأنها مدعى عليها. ولكن مالك راعى قوة الشبهة التي له إذا دخل بها الزوج.
وإن اختلف الزوجان فيما يرسله الرجل إلى زوجته، فادعى أنه المهر، وادعت المرأة أنه هدية، فالقول قوله بيمينه، والبينة لها عند الحنفية والشافعية.

ثاني عشر ـ الملزم ب الجهاز والاختلاف فيه:
الجهاز: هو أثاث المنزل وفراشه وأدوات بيت الزوجية، وهناك رأيان للفقهاء في الملزم بالجهاز:

قال المالكية (1): الجهاز واجب على الزوجة بمقدار ما تقبضه من المهر، فإن لم تقبض شيئاً فلا تلزم بشيء إلا إذا اشترط الزوج التجهيز عليها، أو كان العرف يلزمها به. ودليلهم أن العرف جرى على أن الزوجة هي التي تعد بيت الزوجية
_________
(1) الشرح الصغير وحاشية الصاوي: 458/ 2 وما بعدها.

(9/6824)


وتجهزه بما يحتاج إليه، وإن الزوج إنما يدفع المهر لهذا الغرض. ويلزمها أن تتجهز بالمهر على العادة من حضر أو بدو، ولا يلزمها أن تتجهز بأزيد منه إلا لشرط أو عرف.

وخالفهم الحنفية (1): فرأوا أن الجهاز واجب على الزوج، كما يجب عليه النفقة وكسوة المرأة، والمهر المدفوع ليس في مقابلة الجهاز، وإنما هو عطاء ونحلة كما سماه الله في كتابه، أو هو في مقابلة حل التمتع بها، فهو حق على الزوج لزوجته.
لكن إن دفع الزوج مقداراً من المال في مقابلة الجهاز:
فإن كان المال زائداً على المهر مستقلاً عنه، فتلزم الزوجة بإعداد الجهاز لأنه كالهبة بشرط العوض.
وأما إن كان المال غير مستقل عن المهر، بأن سمى مهراً زائداً على مهر المثل، فالصحيح كما قال ابن عابدين أن الزوجة لا يلزمها شيء من الجهاز؛ لأن الزيادة متى جعلت من ضمن المهر، التحقت به، وصار كله حقاً خالصاً للزوجة، فلا تطالب بإنفاق شيء منه في الجهاز جبراً عنها.
وأما الاختلاف في الجهاز أو متاع البيت: وهو المفروشات والأواني وغيرها، فالمقرر فيه لدى المالكية (2):
إذا اختلف الزوجان في متاع البيت، فادعى كل واحد منهما أنه له، ولا بينة لهما ولا لأحدهما، فما كان من متاع النساء كالحلي والغزل وثياب النساء
_________
(1) حاشية ابن عابدين: 505/ 2 ومابعدها، و 889.
(2) القوانين الفقهية: ص 213، الشرح الصغير: 496/ 2 - 498.

(9/6825)


وخمرهن، حكم به للمرأة مع يمينها. وما كان من متاع الرجال كالسلاح والكتب وثياب الرجال، حكم به للرجل مع يمينه، وما كان يصلح لهما جميعاً كالدنانير والدراهم، فهو للرجل مع يمينه. وقال سحنون: مايعرف لأحدهما فهوله بغير يمين.
ووافق أبو حنيفة ومحمد (1) المالكية فقالا: ما كان يصلح للرجال كالعمامة والقلنسوة والسلاح وغيرها، فالقول فيه قول الزوج مع يمينه؛ لأن الظاهر شاهد له؛ وما يصلح للنساء مثل الخمار والملحفة والمغزل ونحوها، فالقول فيه قول الزوجة مع يمينها؛ لأن الظاهر شاهد لها. وما يصلح لهما جميعاً كالدراهم والدنانير والعروض والبسط والحبوب ونحوها، فالقول فيه قول الزوج مع يمينه؛ لأن يد الزوج على ما في البيت أقوى من يد المرأة؛ لأن يده يد تصرف في المتاع، وأما يد المرأة فهي للحفظ فقط، ويد التصرف أقوى من يد الحفظ.
وقال أبو يوسف: يكون القول قول الزوجة مع يمينها في مقدار ما يجهز به مثلها عادة، والقول قول الزوج في الباقي؛ لأن الغالب ألا تزف الزوجة إلى زوجها إلا بجهاز يليق بمثلها، فيكون الظاهر شاهداً للمرأة في مقدار جهاز مثلها، فيكون القول قولها في هذا المقدار، وما زاد عنه، يكون القول فيه للزوج مع يمينه؛ لأن الظاهر يشهد له فيه.
وهذا الرأي يتفق مع عرف البلاد التي تجهز فيه الزوجة بيت الزوجية.
ونقل الكاساني عن مالك والشافعي: أن كل المتاع بين الزوجين نصفان.
وإذا مات الزوجان، فاختلف ورثتهما، فالحكم حينئذ كالحكم عند اختلاف الزوجين، ففي قول أبي حنيفة ومحمد: القول قول ورثة الزوج. وفي قول
_________
(1) البدائع: 308/ 2 وما بعدها، الدر المختار ورد المحتار: 504/ 2.

(9/6826)


أبي يوسف: القول قول ورثة المرأة في مقدار جهاز مثلها، وقول ورثة الزوج في الباقي؛ لأن الوارث يقوم مقام المورث، فصار كأن المورثين اختلفا بأنفسهما وهم حيان.
وإن مات أحد الزوجين، واختلف الآخر الحي وورثة الميت، فالحكم لا يختلف في رأي أبي يوسف ومحمد ومالك، ففي رأي أبي يوسف: القول للزوجة إن كانت موجودة، ولورثتها إن كانت ميتة، بقدر جهاز مثلها، والزائد عنه يكون القول فيه للزوج أو لورثته. وفي رأي مالك ومحمد: يكون القول للزوج بيمينه إن كان موجوداً، ولورثته بعد موته.
وأما رأي أبي حنيفة: فهو أن القول يكون للحي من الزوجين مع يمينه، فإن كان الزوج كان القول قوله مع يمينه؛ لأن يده على ما في البيت أقوى من يد المرأة. وإن كانت الزوجة فالقول لها مع يمينها؛ لأن يدها كانت ضعيفة حال حياة الزوج، وصارت قوية بعد موت الزوج، فكان الظاهر شاهداً لها.

ثالث عشر ـ ميراث الصداق وهبته:
قال المالكية (1): المهر حق خالص للمرأة، فلها أن تهبه لزوجها أو لأجنبي، ويرثه عنها ورثتها. وتفصيله ما يأتي:
إن طلقت المرأة قبل الدخول بها حسب ما أنفقته على نفسها من المهر مما يخصها من النصف.
ولو ادعى الأب أو غيره أن بعض الجهاز له، وخالفته البنت أو الزوج، قُبلت
_________
(1) الشرح الصغير: 459/ 2 - 463.

(9/6827)


دعوى الأب أو وصيه فقط في إعارته لها إن كانت دعواه في السنة التي حدث فيها الدخول من يوم الدخول، وكانت البنت بكراً، أو ثيباً هي في ولايته، أما الثيب التي ليست في ولايته، فلا تقبل دعواه في إعارته بعض الجهاز لها.
وأما إن ادعى الأب ذلك بعد مضي سنة من الدخول، فلا تقبل دعواه إلا أن يشهد على أن الشيء عارية عند ابنته عند الدخول أو في وقت قريب منه.
ولو جهز رجل ابنته بشيء زائد عن صداقها، ومات قبل الدخول أو بعده، اختصت به البنت عن بقية الورثة إن نقل الجهاز لبيتها أو أشهد لها الأب بذلك قبل موته، أو اشتراه الأب لها ووضعه عند غيره كأمها أو عندها هي.
وإن وهبت امرأة رشيدة صداقها للزوج قبل قبضه منه، جبر الزوج على دفع أقل المهر لها وهو ربع دينار أو ثلاثة دراهم أو بقدر قيمتها، لئلا يخلو النكاح من صداق.
ويجوز للمرأة الرشيدة أن تهب للزوج جميع الصداق الذي تقرر به النكاح؛ لأنها ملكته، وتقرر بالوطء، سواء قبضته منه أم لم تقبضه، لقوله تعالى: {فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً، فكلوه هنيئاً مريئاً} [النساء:4/ 4].
وإن وهبت المرأة الرشيدة الصداق لزوجها، أو أعطته مالاً من عندها بقصد دوام العِشْرة واستمرارها معه، ففسخ النكاح لفساده، أو طلقها قبل تمام سنتين، رجعت عليه بما وهبته من الصداق، وبما أعطته من مالها، لعدم تمام غرضها.
وإن أعطت سفيهة غير رشيدة مالاً لرجل ليتزوجها به، صح الزواج ولم يفسخ، وعليه أن يعطيها من ماله مثل ما أعطته، إن كان مثل مهرها فأكثر، فإن كان أقل من مهر مثلها، أعطاها من ماله قدر مهر مثلها.

(9/6828)


المبحث الثاني ـ المتعة:
معناها، حكمها، مقدارها (1).

معنى المتعة: المتعة مشتقة من المتاع: وهو ما يستمتع به، وتطلق على أربعة معان:
أحدهما ـ متعة الحج، وقد ذكرت في الحج.
الثاني ـ النكاح إلى أجل.
الثالث ـ متعة المطلقات، وهي محل البحث هنا.
الرابع ـ إمتاع المرأة زوجها في مالها على ما جرت به العادة في بعض البلاد، قال المالكية: فإن كان شرطاً في العقد لم يجز، وإن كان تطوعاً بعد تمام العقد جاز.
والمتعة المرادة هنا: هي الكسوة أو المال الذي يعطيه الزوج للمطلقة زيادة على الصداق أو بدلاً عنه كما في المفوضة، لتطيب نفسها، ويعوضها عن ألم الفراق. وعرفها الشافعية: بأنها مال يجب على الزوج دفعه لامرأته المفارقة في الحياة بطلاق وما في معناه، بشروط تأتي.
وعرفها المالكية: بأنها الإحسان إلى المطلقات حين الطلاق بما يقدر عليه المطلق بحسب ماله في القلة والكثرة.
_________
(1) البدائع: 302/ 2 - 304، الدر المختار: 461/ 2 - 462، اللباب: 17/ 3، فتح القدير: 448/ 2، الشرح الصغير: 616/ 2، القوانين الفقهية: ص 210، 239، 240، مغني المحتاج: 241/ 3 وما بعدها، المهذب: 63/ 2، كشاف القناع: 176/ 5 وما بعدها، المغني: 712/ 6 - 717، غاية المنتهى: 73/ 3.

(9/6829)


حكم المتعة:
للفقهاء آراء في حكم المتعة.

أما الحنفية فقالوا: قد تكون المتعة واجبة، وقد تكون مستحبة. فتجب المتعة في نوعين من الطلاق.
1ً - طلاق المفوضة قبل الدخول، أو المسمى لها مهراً تسمية فاسدة: أي الطلاق الذي يكون قبل الدخول والخلوة في نكاح لا تسمية فيه، ولا فرض بعده، أو كانت التسمية فيه فاسدة، وهذا متفق عليه عند الجمهور غيرا لمالكية، لقوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن، أو تفرضوا لهن فريضة، ومتعوهن} [البقرة:236/ 2] أمر بالمتعة، والأمر يقتضي الوجوب، وتأكد في آخر الآية بقوله: {حقاً على المحسنين} [البقرة:236/ 2] ولأن المتعة في هذه الحالة بدلاً عن نصف المهر، ونصف المهر واجب، وبدل الواجب واجب؛ لأنه يقوم مقامه، كالتيمم بدلاً عن الوضوء.
2ً - الطلاق الذي يكون قبل الدخول في نكاح لم يسم فيه المهر، وإنما فرض بعده، في رأي أبي حنيفة ومحمد، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات، ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، فما لكم عليهن من عدة تعتدونها، فمتعوهن} [الأحزاب:49/ 33] والآية السابقة {ومتعوهن} [البقرة:236/ 2] فالآية الأولى أوجبت المتعة في كل المطلقات قبل الدخول، ثم خص منها من سمي لها مهر، فبقيت المطلقة التي لم يسم لها مهر، والآية الثانية أوجبت المتعة لمن لم يفرض لها فريضة، وهو منصرف إلى الفرض في العقد.

ورأى أبو يوسف والشافعي وأحمد: أنه يجب للمطلقة قبل الدخول التي

(9/6830)


فرض لهامهر نصف مهر، سواء أكان الفرض في العقد أم بعده؛ لأن الفرض بعد العقد كالفرض في العقد، وبما أن المفروض في العقد يتنصف فكذا المفروض بعده.
وتستحب المتعة عند الحنفية في حالة الطلاق بعد الدخول، والطلاق قبل الدخول في نكاح فيه تسمية؛ لأن المتعة إنما وجبت بدلاً عن نصف المهر، فإذا استحقت المسمى أو مهر المثل بعد الدخول، فلا داعي للمتعة.

وأوجب الشافعية المتعة في الطلاق بعد الدخول، لقوله تعالى: {وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين} [البقرة:2/ 241].
والخلاصة: تستحب المتعة عند الحنفية لكل مطلقة إلا لمفوضة فتجب: وهي من زوجت بلا مهر، وطلقت قبل الدخول، أو من سمي لها مهر تسمية فاسدة أو سمي بعد العقد.

ومذهب المالكية: أن المتعة مستحبة لكل مطلقة، لقوله تعالى: {حقاً على المتقين} [البقرة:2/ 241] وقوله: {حقاً على المحسنين} [البقرة:2/ 236] فإنه سبحانه قيد الأمر بها بالتقوى والإحسان، والواجبات لا تتقيد بهما.
وقالوا: المطلقات ثلاثة أقسام: مطلقة قبل الدخول وقبل التسمية (المفوضة) فلها المتعة وليس لها شيء من الصداق. ومطلقة قبل الدخول وبعد التسمية، فلا متعة لها. ومطلَّقة بعد الدخول، سواء أكانت قبل التسمية أم بعدها، فلها المتعة. ولا متعة في كل فراق تختاره المرأة، كامرأة المجنون والمجذوم والعنين. ولا في الفراق بالفسخ، ولا المختلعة، ولا الملاعنة.
ومذهب الشافعية عكس المالكية تماماً: المتعة واجبة لكل مطلقة، سواء أكان الطلاق قبل الدخول أم بعده، إلا لمطلقة قبل الدخول سمي لها مهر فإنه يكتفى لها

(9/6831)


بنصف المهر، فتجب لمطلقة قبل دخول إن لم يجب شطر مهر، وتجب أيضاً في الأظهر لمدخول بها، ولكل فُرْقة لا بسبب الزوجة كطلاق، بأن كانت الفرقة بسبب الزوج كردته ولعانه وإسلامه. أما من وجب لها شطر مهر فلها ذلك، وأما المفوضة ولم يفرض لها شيء فلها المتعة. وعبارتهم
بإيجاز (1): لكل مفارقة متعة إلا التي فرض لها مهر، وفورقت قبل الدخول، أو كانت الفرقة بسببها، أو بملكه لها، أو بموت، وفرقة اللعان بسببه، والعنة بسببها.
ودليلهم قوله تعالى: {ومتعوهن} [البقرة:236/ 2] وقوله {وللمطلقات متاع بالمعروف} [البقرة:241/ 2] فإنه أوجب المتعة لكل مطلقة، سواء أكانت مدخولاً بها أم لا، سمي لها مهر أم لا. ويؤكده تمتيع زوجات النبي صلّى الله عليه وسلم وكن مدخولاً بهن، في قوله تعالى: {قل لأزواجك: إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها، فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً} [الأحزاب:28/ 33]. أما إذا فرض للمرأة في التفويض شيء فلا متعة لها؛ لأن الزوج لم يستوف منفعة بُضعها، فيكفي شطر مهرها لما لحقها بالطلاق من الاستيحاش والابتذال.

ومذهب الحنابلة موافق لمذهب الحنفية في الجملة: المتعة تجب على كل زوج حر وعبد، مسلم وذمي، لكل زوجة مفوضة، طلقت قبل الدخول، وقبل أن يفرض لها مهر، للآية المتقدمة {ومتعوهن} [البقرة:236/ 2] ولا يعارضه قوله {حقاً على المحسنين} [البقرة:236/ 2] لأن أداء الواجب من الإحسان، فليس للمفوضة إلا المتعة.
وتستحب المتعة عندهم لكل مطلقة غير المفوضة التي لم يفرض لها مهر، لقوله تعالى: {وللمطلقات متاع بالمعروف} [البقرة:241/ 2] ولم تجب؛ لأنه
_________
(1) تحفة الطلاب للأنصاري: ص 231.

(9/6832)


تعالى قسم المطلقات قسمين، وأوجب المتعة لغير المفروض لهن، ونصف المسمى للمفروض لهن، وهو يدل على اختصاص كل قسم بحكمه.
ولا متعة للمتوفى عنها؛ لأن النص لم يتناولها، وإنما تناول المطلقات.

وتسقط المتعة في كل موضع يسقط فيه كل المهر، كردتها وإرضاعها من ينفسخ به نكاحها ونحوه؛ لأنها أقيمت مقام نصف المسمى، فسقطت في كل موضع يسقط فيه.
وتجب المتعة للمفوضة في كل موضع يتنصف فيه المسمى، كردته قياساً على الطلاق، ولا تجب المتعة فيما يسقط به المسمى من الفرق كاختلاف الدين والفسخ بالرضاع ونحوه إذا جاء من قبل المرأة؛ لأن المتعة أقيمت مقام نصف المسمى، فسقطت في موضع يسقط.
ومن وجب لها نصف المهر، لم تجب لها متعة، سواء أكانت ممن سمي لها صداق، أم لم يسم لها، لكن فرض بعد العقد. وهذا موافق للجمهور غير أبي حنيفة ومحمد، كما تقدم.
ولا متعة للمسمى لها مهراً بعد الدخول أو المفوضة أو المفوض لها بعد الدخول، لكن يستحب لها المتعة، وتستحب أيضاً لمن سمي لها صداق فاسد كالخمر والمجهول وطلقت قبل الدخول.
والخلاصة: أوجب الشافعية المتعة إلا للمطلقة قبل الدخول، التي سُمي لها المهر، والجمهور استحبوا المتعة، لكن المالكية استحبوها لكل مطلقة، والحنفية والحنابلة استحبوها لكل مطلقة إلا المفوضة التي زوجت بلا مهر فتجب لها المتعة. والظاهر رجحان مذهب الشافعية لقوة أدلتهم، ولتطييب خاطر المرأة، وتخفيف ألم الفراق، ولإيجاد باعث على العودة إلى الزوجية إن لم تكن البينونة كبرى.

(9/6833)


مقدار المتعة ونوعها:
لم يرد نص في تقدير المتعة ونوعها، فاجتهد الفقهاء في مقدارها.
قرر الحنفية: أنها ثلاثة أثواب: دِرْع (ما تلسبه المرأة فوق القميص) وخمار (ما تغطي به المرأة رأسها) ومِلْحفة (ما تلتحف به المرأة من رأسها إلى قدمها) لقوله تعالى: {متاعاًبالمعروف حقاً على المحسنين} [البقرة:236/ 2] والمتاع: اسم للعروض في العرف، ولأن لإيجاب الأثواب نظيراً في أصول الشرع وهو الكسوة التي تجب لها حال قيام الزوجية وأثناء العدة، وأدنى ما تكتسي به المرأة وتستتر به عند الخروج: ثلاثة أثواب.
ولا تزيد هذه الأثواب عن نصف مهر المثل لو كان الزوج غنياً، لأنها بدل عنه، ولا تنقص عن خمسة دراهم لو كان الزوج فقيراً. والمفتى به أن المتعة تعتبر بحال الزوجين كالنفقة، فإن كانا غنيين فلها الأعلى من الثياب، وإن كانا فقيرين فالأدنى، وإن كانا مختلفين فالوسط.
وقال الشافعية: يستحب ألا تنقص المتعة عن ثلاثين درهماً أو ما قيمته ذلك، وهذا أدنى المستحب، وأعلاه خادم، وأوسطه ثوب. ويسن ألا تبلغ نصف مهر المثل، فإن بلغته أو جاوزته جاز لإطلاق الآية: {ومتعوهن} [البقرة:236/ 2].
فإن تنازع الزوجان في قدرها، قدَّرها القاضي باجتهاده بحسب ما يليق بالحال، معتبراً حال الزوجين كما قال الحنفية، من يسار وإعسار ونسب وصفات، لقوله تعالى: {ومتعوهن، على الموسع قدره، وعلى المقتر قدره} [البقرة:236/ 2] {وللمطلقات متاع بالمعروف} [البقرة:241/ 2].
وذهب المالكية والحنابلة: إلى أن المتعة معتبرة بحال الزوج يساراً أوإعساراً،

(9/6834)


على الموسع قدره، وعلى المقتر قدره، للآية السابقة المصرحة بكون المتعة على حسب حال الزوج، فأعلاها خادم أي قيمة خادم في زمنهم إذا كان موسراً، وأدناها إذا كان فقيراً: كسوة كاملة تجزيها في صلاتها أي أقل الكسوة، وهي درع وخمار، أو نحو ذلك، أقلها ثلاثة أثواب عند الحنفية: درع (قميص) وخمار يستر رأسها، وملاءة. لقول ابن عباس: «أعلى المتعة خادم، ثم دون ذلك النفقة، ثم دون ذلك الكسوة». والظاهر رجحان هذا القول.
ونص القانون السوري على بعض أحكام المتعة في المادة (2/ 61): «إذا وقع الطلاق قبل الدخول والخلوة الصحيحة، فعندئذ تجب المتعة» وفي المادة (62): «المتعة: هي كسوة مثل كسوة المرأة عند الخروج من بيتها، ويعتبر فيها حال الزوج على ألا تزيد على نصف مهر المثل».

المبحث الثالث ـ الخلوة الصحيحة وأحكامها:
معناها، آراء الفقهاء فيها، أحكامها (1):

معنى الخلوة: الخلوة الصحيحة: هي أن يجتمع الزوجان بعد عقد الزواج الصحيح في مكان يأمنان فيه من اطلاع الناس عليهما كدار أو بيت مغلق الباب. فإن كان الاجتماع في شارع أو طريق أو مسجد أو حمام عام أو سطح لا ساتر له أو في بيت مفتوح الباب والنوافذ أو في بستان لا باب له، فلا تتحقق الخلوة الصحيحة. ويشترط فيها ألا يكون بأحد الزوجين مانع طبعي أو حسي أو شرعي يمنع من الوطء أو الاتصال الجنسي.
_________
(1) البدائع: 291/ 2 - 294، الدر المختار: 454/ 2، 465 - 473، الشرح الكبير: 301/ 2، القوانين الفقهية: ص 202، مغني المحتاج: 225/ 3، كشاف القناع: 155/ 5، 179، المغني: 455/ 6 وما بعدها، غاية المنتهى: 69/ 3.

(9/6835)


والمانع الحسي: مثل مرض بأحد الزوجين يمنع الوطء من رتَق (تلاحم)، وقرَن (عظم)، وعفَل (غدة)، أما خلوة الخصي (مسلوب الخصية) والعنين (العاجز عن الجماع) فهي صحيحة، وأما خلوة المجبوب فهي صحيحة عند أبي حنيفة خلافاً للصاحبين.
والمانع الطبيعي: ما يمنع النفس بطبيعتها عن الجماع، مثل وجود شخص ثالث عاقل، ولو كان أعمى أو نائماً أو صبياً مميزاً أو زوجة أخرى. فإن كان هناك غير مميز أو مجنون أو مغمى عليه، فالخلوة صحيحة.
والمانع الشرعي: أن يكون هناك ما يحرم الوطء شرعاً كالصوم في رمضان، والإحرام بحج أو عمرة، والاعتكاف، والحيض والنفاس، والدخول في صلاة الفريضة، والخلوة في المسجد؛ لأن الجماع في المسجد حرام.
وأما عدم معرفة الرجل للمرأة فقال فيه ابن عابدين: إن هذا المانع بيده إزالته، بأن يخبرها أنه زوجها، فلما جاء التقصير من جهته، يحكم بصحة الخلوة، فيلزم المهر.
فإن لم تتوافر هذه الشروط فالخلوة فاسدة، بأن يكون الزواج فاسداً، أو الخلوة في مكان يمكن لأحد الناس الدخول عليهما (عدم صلاحية المكان) أو وجود مانع من الجماع. وبه يكون معنى الخلوة الفاسدة: هي كل خلوة وجد فيها مانع من الموانع الثلاثة السابقة، أو وجود شخص ثالث عاقل مع الزوجين، أو عدم صلاحية المكان، أو فساد الزواج.

آراء الفقهاء في أحكام الخلوة:
للفقهاء رأيان في الخلوة، ف مذهب المالكية والشافعية في الجديد: الخلوة

(9/6836)


وحدها بدون جماع وإرخاء الستور لا تؤكد المهر للزوجة، فلو خلا الزوج بزوجته خلوة صحيحة، ثم طلقها قبل الدخول بها، وجب فقط نصف المهر المسمى، أوالمتعة إن لم يكن المهر مسمى، علماً بأن المتعة عند المالكية مستحبة لا واجبة.
ودليلهم قوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، وقد فرضتم لهن فريضة، فنصف ما فرضتم} [البقرة:237/ 2] والمس: كناية عن الاتصال الجنسي، وفسروا آية {وقد أفضى بعضكم إلى بعض} [النساء:21/ 4] بأن الإفضاء معناه الجماع.
ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم جعل المهر للمرأة بما استحل من فرجها أي أصابها.
لكن قال المالكية: للخلوة الصحيحة حكمان:
الأول ـ وجوب العدة على المرأة، حتى ولو اتفق الزوجان على عدم وقوع الوطء فيها؛ لأن العدة حق الله تعالى، فلا تسقط باتفاق الزوجين على نفي الوطء، مع اعترافهما بالخلوة.
الثاني ـ صيرورتها قرينة على الوطء عند اختلاف الزوجين في حدوثه: فإذا اختلى الرجل بزوجته خلوة اهتداء، وهي المعروفة عندهم بإرخاء الستور: وهي أن يسكن كل واحد من الزوجين للآخر، ويطمئن إليه. ثم يطلقها، ويختلفان في حصول الوطء، صدقت الزوجة بيمينها فيما تدعيه. فإن امتنعت عن اليمين حلف الزوج، ولزمه نصف الصداق. وإن نكل عن اليمين، لزمه جميع الصداق؛ لأن الخلوة بمنزلة شاهد، والنكول عن اليمين بمنزلة شاهد آخر.

ومذهب الحنفية والحنابلة: الخلوة كالوطء في تكميل مهر، ولزوم عدة، وثبوت نسب، وتحريم أخت، وأربع سواها حتى تنقضي عدتها. ويعد اللمس

(9/6837)


والتقبيل بشهوة عند الحنابلة كالدخول أيضاً. وعليه يكون الطلاق بعد الخلوة الصحيحة طلاقاً بائناً، تترتب عليه الأحكام التالية:
1 - ثبوت كامل المهر: فلو طلقها بعد الخلوة الصحيحة، استحقت كل المهر المسمى، ومهر المثل إن لم تكن التسمية صحيحة.
2 - ثبوت النسب: فلو طلقها بعد الخلوة الصحيحة، وجاءت بولد ثبت نسبه منه إن جاءت به لأكثر من ستة أشهر بعد الخلوة.
3 - وجوب العدة: فإن طلقها بعد الخلوة ولو كانت فاسدة عند الحنفية، وجب عليهاالعدة المقررة بعد الدخول والفرقة.
4 - لزوم نفقة العدة على الزوج المطلق: وهي الطعام والسكنى والكسوة.
5 - حرمة التزوج بامرأة محرم لها أو بأربع سواها ما دامت في العدة، أو التزوج بخامسة في عدتها إذا كانت رابعة، كما يحرم الزواج خلال العدة من طلاق بعد الدخول.
6 - تطليقها في الطهر: إذا أراد الزوج طلاق الزوجة بعد الخلوة الصحيحة، لزمه مراعاة وقت الطلاق، وهو كونه في طهر، كالمقرر في الطلاق السني بعد الدخول.
والخلاصة: أن ثبوت المهر والعدة من أحكام الخلوة المحضة، وأما ثبوت النسب فهو عند الحنفية من أحكام العقد مطلقاً، وأما بقية الأحكام فهي من آثار العدة.
ولا تكون الخلوة كالوطء أو الدخول فيما يأتي:

(9/6838)


1 - الإحصان: فالخلوة الصحيحة لا تجعل الزوجين محصنين لإقامة حد الرجم، وإنما لا بد من الدخول.
2 - الغسل: لا يجب الغسل على أحد الزوجين بمجرد الخلوة، بخلاف الوطء.
3 - حرمة البنت: الخلوة لا تحرم البنت على الزوج، وله أن يتزوجها بعد طلاق أمها، وإنما لا بد من الدخول الحقيقي بالأم لتحريم ابنتها على الزوج.
4 - التحليل: الخلوة الصحيحة مع الزوج الثاني لا تحل المرأة لزوجها الأول، وإنما لا بد من الدخول الحقيقي (ذوق العسيلة) ثم طلاقها.
5 - حصول الرجعة: الخلوة بالمطلقة لا تكون رجعة، فمن طلق امرأته طلاقاً رجعياً ثم اختلى بها من غير أن يرجع بالقول، أو بالفعل كوطء وتقبيل، لا يكون بالخلوة مراجعاً لها، أما الدخول فإنه يحقق المراجعة.
6 - العودة للزوجية بدون عقد جديد: الطلاق بعد الخلوة يكون بائناً، فلا تعاد إلى المطلق إلا بعقد ومهر جديدين. أما الطلاق بعد الدخول فيقع رجعياً إذا لم يكمل الثلاث، فيمكن للرجل مراجعة امرأته من غير عقد جديد.
7 - الميراث: يقع الطلاق بائناً بعد الخلوة، فإذا مات أحد الزوجين في أثناء العدة من هذا الطلاق فلا يرثه الآخر، إذ لا ميراث في الموت في عدة الطلاق البائن. إذا طلق الرجل امرأته طلاقاً غير مكمل للثلاث، ومات أحدهما في عدة هذا الطلاق، فإن الآخر يرثه؛ لأن الطلاق حينئذ رجعي، والموت في عدة الطلاق الرجعي كالموت حال قيام الزوجية.

(9/6839)


8 - تزوجها كالأبكار على المختار عند الحنفية: فمن طلق امرأته بعد الخلوة، فحكمها في الزواج كحكم الأبكار؛ لأنها بكر في الحقيقة. أما المدخول بها حقيقة فيكون تزوجها بغير الزوج الأول بعد الفراق كتزوج الثيبات. ويلاحظ ما يأتي:
أـ إن أحكام الخلوة المذكورة لا تثبت إلا إذا كان عقد الزواج صحيحاً، فإن كان فاسداً فلا يثبت للخلوة بعده شيء من تلك الأحكام.
ب ـ والعدة في المعتمد في المذهب الحنفي قد تجب في بعض حالات الخلوة الفاسدة: وهي التي يكون فسادها لمانع طبيعي أو شرعي؛ لأن الوطء ممكن في ذاته، بخلاف حالة المانع الحسي.
جـ ـ تجب العدة في الخلوة في القضاء فقط، لا في الديانة، أما العدة بعد الدخول الحقيقي فتجب قضاء وديانة.
أدلة الحنفية والحنابلة:
استدل هؤلاء على جعل الخلوة بمثابة الدخول بما يأتي:
1ً - قوله تعالى: {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج، وآتيتم إحداهن قنطاراً، فلا تأخذوا منه شيئاً، أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً * وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض، وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً} [النساء:20/ 4 - 21] نهى الشرع عن أخذ شيء من المهر بعد الإفضاء، والإفضاء ـ كما قال الفراء ـ هو الخلوة، سواء دخل بها أم لم يدخل.

(9/6840)


2ً - الحديث النبوي: «من كشف خمار امرأته، ونظر إليها فقد وجب الصداق، دخل بها أو لم يدخل» (1) وهو ظاهر الدلالة على المطلوب.
3ً - الآثار: قال زرارة بن أبي أوفى: قضى الخلفاء الراشدون المهديون أنه إذا أرخى الستور، وأغلق الباب، فلها الصداق كاملاً، وعليها العدة، دخل بها أو لم يدخل بها (2).
4ً - المعقول: أن الزوجة بتمكينها من الخلوة مع عدم المانع من الجماع، قد سلمت المبدل وهو مقابل المهر، فيجب على زوجها تسليمها البدل وهو المهر، كما في البيع والإجارة، وتقصير الزوج في استيفاء حقه لا تؤاخذ هي به، كما أن تقصير المستأجر والمشتري في الاستلام بعد التخلية ورفع الموانع، لا يمنع من حصول التسليم.
_________
(1) رواه الدارقطني.
(2) رواه أحمد والأثرم بإسنادهما.

(9/6841)