الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

الفَصْلُ الثَّالث: التَّفريق القضائيّ ويشتمل على عشرة مباحث:
الأول ـ التفريق لعدم الإنفاق.
الثاني ـ للعيب أو العلل الجنسية.
الثالث ـ للضرر وسوء العشرة أو للشقاق بين الزوجين.
الرابع ـ طلاق التعسف.
الخامس ـ للغيبة.
السادس ـ للحبس.
السابع ـ التفريق بسبب الإيلاء.
الثامن ـ التفريق بسبب اللعان.
التاسع ـ التفريق بسبب الظهار.
العاشر ـ التفريق بسب الردة أو إسلام أحد الزوجين.

(9/7040)


ويلاحظ أن التفريق يختلف عن الطلاق بأن الطلاق يقع باختيار الزوج وإرادته، أما التفريق فيقع بحكم القاضي، لتمكين المرأة من إنهاء الرابطة الزوجية جبراً عن الزوج، إذا لم تفلح الوسائل الاختيارية من طلاق أو خلع. وأخذ القانون في مصر وسورية أحكام أربع حالات للتفريق في الأكثر من مذهبي المالكية والحنابلة.
والتفريق القضائي قد يكون طلاقاً: وهو التفريق بسبب عدم الإنفاق أو الإيلاء أو للعلل أو للشقاق بين الزوجين أو للغيبة أو للحبس أو للتعسف، وقد يكون فسخاً للعقد من أصله كما هو حال التفريق في العقد الفاسد، كالتفريق بسبب الردة وإسلام أحد الزوجين.
والفرق بين الطلاق والفسخ في رأي الحنفية:
أن الطلاق: هو إنهاء الزواج وتقرير الحقوق السابقة من المهر ونحوه، ويحتسب من الطلقات الثلاث التي يملكها الرجل على امرأته، وهو لا يكون إلا في العقد الصحيح.
وأما الفسخ: فهو نقض العقد من أصله أو منع استمراره، ولا يحتسب من عدد الطلاق، ويكون غالباً في العقد الفاسد أو غير اللازم.
وللإمام مالك (1) قولان في الفرق بين الفسخ والطلاق:
القول الأول ـ الفرقة طلاق لا فسخ في النكاح المختلف فيه بين المذاهب والخلاف مشهور، مثل الحكم بتزويج المرأة نفسها، ونكاح المحرم بحج أو عمرة.
_________
(1) بداية المجتهد: 70/ 2.

(9/7041)


القول الثاني ـ الاعتبار في ذلك بالسبب الموجب للتفريق، فإن كان من الشرع، لا برغبة الزوجين، كان فسخاً، مثل نكاح المحرمة بالرضاع أو النكاح في العدة. وإن كان السبب هورغبة الزوجين، مثل الرد بالعيب، كان طلاقاً.

المبحث الأول ـ التفريق لعدم الإنفاق:
أخذ القانون في مصر وسورية بجواز التفريق القضائي بين الزوجين، عملاً بمذهب الجمهور غير الحنفية، فنصت المادة الرابعة من القانون المصري رقم (25) لسنة (1920) على حق التفريق بين الزوجة وزوجها، لعدم إنفاقه عليها، إذا طلبت الزوجة التفريق بالضرورة، سواء أكان عدم الإنفاق عليها بسبب إعساره، أم كان تعنتاً منه وظلماً. ويطلقها القاضي عليه وهو حاضر في البلد غير غائب، متى امتنع من تطليقها بنفسه، ولم يكن له مال ظاهر يمكن أن تفرض فيه نفقتها.
ونص القانون السوري على أحكام التفريق لعدم الإنفاق فيما يلي:
(م 110) - «1 - يجوز للزوجة طلب التفريق إذا امتنع الزوج الحاضر عن الإنفاق على زوجته، ولم يكن له مال ظاهر، ولم يثبت عجزه عن النفقة.
2 - إن ثبت عجزه أو كان غائباً، أمهله القاضي مدة مناسبة لا تتجاوز ثلاثة أشهر، فإن لم ينفق، فرق القاضي بينهما».
(م 111): تفريق القاضي لعدم الإنفاق يقع رجعياً، وللزوج أن يراجع زوجته في العدة بشرط أن يثبت يساره، ويستعد للإنفاق.
التفريق لعدم الإنفاق في هذين القانونين طلاق رجعي إذا كان بعد الدخول، فللزوج أن يراجع زوجته إذا أثبت يساره وقدرته على الإنفاق.
وخلاصة الأحكام الواردة في القانونين بالنسبة لعدم الإنفاق ما يلي:

(9/7042)


أـ إن كان للزوج مال ظاهر، نفذ الحكم عليه بالنفقة في ماله، من غير حاجة إلى التفريق.
ب ـ وإن لم يكن له مال ظاهر: فإن كان حاضراً ولم يثبت عجزه عن الإنفاق وأصر على الامتناع، فرق القاضي بينهما في الحال.
وإن أثبت عجزه عن الإنفاق، أمهله القاضي مدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر في القانون السوري، وشهراً في القانون المصري، فإن مضت المدة ولم ينفق، فرق القاضي بينهما.
وأما إن كان غائباً وليس له مال ظاهر، فيجب إعذاره وإمهاله إلى مدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر، فإن مضت المدة ولم ينفق على الزوجة فرق القاضي بينهما.
وهذه الأحكام مأخوذة من الفقه المالكي.

أراء الفقهاء في التفريق لعدم الإنفاق:
للفقهاء رأيان: رأي الحنفية، ورأي الجمهور (1):
أولاً ـ رأي الحنفية: لا يجوز في مذهب الحنفية والإمامية التفريق لعدم الإنفاق؛ لأن الزوج إما معسر أو موسر. فإن كان معسراً فلا ظلم منه بعدم الإنفاق، والله تعالى يقول: {لينفق ذو سعة من سعته، ومَنْ قُدر عليه رزقه، فلينفق مما آتاه الله، لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها، سيجعل الله بعد عسر يسراً} [الطلاق:7/ 65] وإذا لم يكن ظالماً فلا نظلمه بإيقاع الطلاق عليه.
_________
(1) الدر المختار: 903/ 2، الشرح الصغير: 745/ 2 وما بعدها، مغني المحتاج: 442/ 3 - 446، المغني: 573/ 7 - 577، بداية المجتهد: 51/ 2، القوانين الفقهية: ص 215، مختصر فقه الإمامية: ص 204، الدسوقي مع الشرح الكبير: 418/ 2.

(9/7043)


وإن كان موسراً فهو ظالم بعدم الإنفاق، ولكن دفع ظلمه لا يتعين بالتفريق، بل بوسائل أخرى كبيع ماله جبراً عنه للإنفاق على زوجته، وحبسه لإرغامه على الإنفاق. ويجاب بأنه قد يتعين التفريق لعدم الإنفاق لدفع الضرر عن الزوجة.
ويؤكده أنه لم يؤثر عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه مكن امرأة قط من الفسخ بسبب إعسار زوجها، ولا أعلمها بأن الفسخ حق لها. ويجاب بأن التفريق بسبب الإعسار مرهون بطلب المرأة، ولم تطلب الصحابيات التفريق.
ثانياً ـ رأي الجمهور: أجاز الأئمة الثلاثة التفريق لعدم الإنفاق لما يأتي:
1ً - قوله تعالى: {ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا} [البقرة:231/ 2] وإمساك المرأة بدون إنفاق عليها إضرار بها. وقوله تعالى: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة:229/ 2] وليس من الإمساك بالمعروف أن يمتنع عن الإنفاق عليها.
2 - قال أبو الزناد: سألت سعيد بن المسيب عن الرجل لا يجد ماينفق على امرأته، أيفرق بينهما؟ قال: نعم، قلت له: سنَّة؟ قال: سنَّة. وقول سعيد: سنَّة، يعني سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
3 - كتب عمر رضي الله عنه إلى أمراء الأجناد، في رجال غابوا عن نسائهم، يأمرهم أن يأخذوهم أن ينفقوا أو يطلقوا، فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما مضى.
4 - إن عدم الإنفاق أشد ضرراً على المرأة من سبب العجز عن الاتصال الجنسي، فيكون لها الحق في طلب التفريق بسبب الإعسار أو العجز عن الإنفاق من باب أولى.

(9/7044)


والراجح لدي رأي الجمهور لقوة أدلتهم، ودفعاً للضرر عن المرأة، ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام.

نوع الفرقة بسبب العجز عن النفقة:
الفرقة عند المالكية: طلاق رجعي، وللزوج رجعة المرأة إن أيسر في عدتها؛ لأنه تفريق لامتناعه عن الواجب عليه لها، فأشبه تفريقه بين المولي في الإيلاء وامرأته إذا امتنع من الفيئة والطلاق.
وذكر الشافعية والحنابلة أن الفرقة لأجل النفقة لا تجوز إلا بحكم الحاكم؛ لأنه فسخ مختلف فيه، فافتقر إلى الحاكم كالفسخ بالعُنَّة، ولا يجوز له التفريق إلا بطلب المرأة ذلك؛ لأنه لحقِّها، فلم يجز من غير طلبها كالفسخ للعنة، فإذا فرق الحاكم بينهما فهو فسخ لا رجعة للزوج فيه.

المبحث الثاني - التفريق بالعيوب أو بالعلل:
أولاً ـ أنواع العيوب:
تنقسم العيوب من حيث المنع من الدخول وعدمه إلى قسمين:
1 - عيوب جنسية تمنع من الدخول كالجَبّ والعُنَّة والخصاء في الرجل، والرتَق والقَرَن في المرأة.
2 - عيوب لا تمنع من الدخول، ولكنها أمراض منفرة بحيث لا يمكن المقام معها إلا بضرر كالجذام والجنون والبرص والسل والزهري.
وتنقسم العيوب بين الزوجين إلى أقسام ثلاثة:

(9/7045)


1 - ما يختص بالرجل من داء الفرج: وهو الجب (قطع الذكر) والعنة (العجز عن الجماع بسبب صغر الذكر ونحوه) والخصاء (استئصال أو قطع الخصيتين) والاعتراض: وهو حالة الرجل الذي لا يقدر على الوطء لعارض كمرض أو كبر.
2 - ما يختص بالمرأة من داء الفرج: وهو الرَّتَق (كون الفرج مسدوداً ملتصقاً بلحم من أصل الخلقة لا مسلك للذكر فيه)، والقَرَن (عظم أو غدة تمنع ولوج الذكر) والعفَل (رغوة تمنع لذة الوطء) وبخر الفرج (رائحة منتنة تثور في الوطء) والإفضاء أو انخراق ما بين السبيلين (أي القبل والدبر) من المرأة، وانخراق ما بين مخرج بول ومني وهو الفتق؛ لأنه يمنع لذة الوطء وفائدته، ونحوها.
3 - ما يشترك فيه الرجال والنساء: وهو الجنون والجذام والبرص، واستطلاق بول، واستطلاق غائط، وباسور (نتوء ظاهر في المقعدة كالعدس أو الحمص) وناسور (نتوء داخل المقعدة أو قروح غائرة في المقعدة يسيل منها صديد) ومن هذه العيوب كون أحد الزوجين خنثى غير مشكل، أما الخنثى المشكل فلا يصح نكاحه حتى يتضح، ونحوها.
فهذه العيوب: منها ما يخشى تعدي أذاه، ومنها ما فيه تنفير ونقص، ومنها ما تتعدى نجاسته.

ثانياً ـ التفريق بسبب العيوب في القانون:
نص القانون المصري رقم (25 لسنة 1920) في المواد (9، 10، 11) على جواز التفريق بسبب عيوب الزوج: وهي الجب والعنة والخصاء، وهي العيوب الثلاثة المتفق على التفريق بها، والجنون والجذام والبرص، ونحوها من كل (عيب

(9/7046)


مستحكم لا يمكن البرء منه، أو يمكن بعد زمن طويل) سواء أكان ذلك العيب بالزوج قبل العقد ولم تعلم به، أم حدث بعد العقد ولم ترض به.
والفرقة بالعيب طلاق بائن، ويستعان بأهل الخبرة في العيوب التي يطلب الفسخ من أجلها.
ونص القانون السوري على التفريق للعلل الجنسية فقط دون العلل المنفرة أو الضارة أخذاً برأي أبي حنيفة وأبي يوسف، مع إضافة عيب الجنون، خلافاً لجمهور العلماء، وذلك فيما يأتي:
(م 105) ـ للزوجة طلب التفريق بينهما وبين زوجها في الحالتين التاليتين:
1ً - إذا كان فيه إحدى العلل المانعة من الدخول، بشرط سلامتها هي منها.
2ً - إذا جن الزوج بعد العقد.
(م 106) -1 - يسقط حق المرأة في طلب التفريق بسبب العلل المبينة في المادة السابقة إذا علمت بها قبل العقد أو رضيت بها بعده.
2 - على أن حق التفريق بسبب العنة لا يسقط بحال.
(م 107) - إذا كانت العلل المذكورة في المادة 105 غير قابلة للزوال يفرق القاضي بين الزوجين في الحال، وإن كان زوالها ممكناً يؤجل الدعوى مدة مناسبة لا تتجاوز السنة، فإذا لم تزل العلة فرق بينهما.
(م 108) - التفريق للعلة طلاق بائن.

ثالثاً ـ آراء الفقهاء في التفريق للعيب: للفقهاء رأيان في جواز التفريق للعيب: رأي الظاهرية، ورأي أكثر العلماء:

(9/7047)


أما الظاهرية (1): فقالوا: لا يجوز التفريق بأي عيب كان، سواء أكان في الزوج أم في الزوجة، ولا مانع من تطليق الزوج للزوجة إن شاء، إذ لم يصح في الفسخ للعيب دليل في القرآن أو السنة أو الأثر عن الصحابة أو القياس والمعقول.
وأما أكثر الفقهاء (2) فأجازوا التفريق بسبب العيب، لكنهم اختلفوا في موضعين: هل يثبت الحق لكل من الزوجين أو للزوجة فقط، وما هي العيوب التي يثبت بها حق طلب التفريق.

الأول ـ ثبوت حق التفريق بالعيب للزوجين أو للزوجة فقط:
يثبت حق التفريق بالعيب عند الحنفية للزوجة فقط، لا للزوج؛ لأن الزوج يمكنه دفع الضرر عن نفسه بالطلاق، أما الزوجة فلا يمكنها دفع الضرر عن نفسها إلا بإعطائها الحق في طلب التفريق؛ لأنها لا تملك الطلاق.
وأجاز الأئمة الثلاثة طلب التفريق بالعيب لكل من الزوجين؛ لأن كلاً منهما يتضرر بهذه العيوب، أما اللجوء إلى الطلاق فيؤدي إلى الإلزام بكل المهر بعد الدخول وبنصفه قبل الدخول. وفي التفريق بسبب العيب يعفى الرجل من نصف المهر قبل الدخول، وبعد الدخول لها المسمى بالاتفاق، لكن يرجع الزوج عند المالكية والحنابلة والشافعية بالمهر بعد الدخول على ولي الزوجة كالأب والأخ لتدليسه بكتمان العيب، ولا سكنى لها ولا نفقة.
_________
(1) المحلى: 72/ 10، مسألة 1899.
(2) فتح القدير: 262/ 3 - 268، مختصر الطحاوي: ص 182، البحر الرائق: 135/ 3،اللباب: 24/ 3 - 26، القوانين الفقهية: ص 214 وما بعدها، بداية المجتهد: 50/ 2، الشرح الصغير: 467/ 2 - 478، مغني المحتاج: 202/ 3 - 209، كشاف القناع: 115/ 5 - 124، المغني: 650/ 6 - 657، 667 - 678، المختصر النافع في فقه الإمامية: ص 210.

(9/7048)


الثاني ـ العيوب التي تجيز التفريق:
اتفق أئمة المذاهب الأربعة والإمامية على التفريق بعيبين: وهما الجب والعنة، واختلفوا في عيوب أخرى على آراء أربعة:

الأول ـ رأي أبي حنيفة وأبي يوسف: لا فسخ إلا بالعيوب الثلاثة التناسيلة وهي (الجب والعنة والخصاء) إن كانت في الرجل؛ لأنها عيوب غير قابلة للزوال، فالضرر فيها دائم، ولا يتحقق معها المقصود الأصلي من الزواج وهو التوالد والتناسل والإعفاف عن المعاصي، فكان لابد من التفريق.
أما العيوب الأخرى من جنون أو جذام أو برص أو رتق أو قرن، فلا فسخ للزواج بسببها إن كان بالزوجة، ولا إن كانت بالزوج، ولا خيار للآخر بها. وهذا هو الصحيح عند الحنفية.
وقال محمد: للزوجة الخيار أو الفسخ إن كانت هذه العيوب بالزوج، ولاخيار للزوج إن كانت بالزوجة، وبه يتفق الحنفية على أنه لا خيار للزوج في فسخ الزواج بسبب عيوب الزوجة مطلقاً، واختلفوا في الخيار بعيوب الزوج.

الثاني ـ رأي مالك والشافعي: يفسخ النكاح من أي واحد من الزوجين إذا وجد في الآخر عيباً من العيوب التناسلية (الجنسية) أو العيوب المنفرة من جنون أو جذام أو برص.
والعيوب عند الشافعية سبعة وهي: الجب والعنة، والجنون والجذام والبرص، والرتَق والقَرَن، ويمكن أن يكون في كل من الزوجين خمسة، الأولان في الرجل والأخيران في المرأة، والثلاثة الوسطى مشتركة بينهما. ولا فسخ

(9/7049)


بالبخر، والصنان، والاستحاضة (1)، والقروح السيالة، والعمى، والزمانة، والبله، والخصاء، والإفضاء، ولا بكونه يتغوط عند الجماع؛ لأن هذه الأمور لا تفوِّت مقصود النكاح.
والعيوب عند المالكية ثلاثة عشر عيباً:
أربعة مشتركة بين الرجل والمرأة: الجنون والجذام والبرص والعَذيْطَة (خروج الغائط أو البول عند الجماع) ويقال للمرأة عِذيوطة، وللرجل عِذْيوط.
وأربعة تختص بالرجل: وهي الخصاء، والجَبّ، والعُنَّة، والاعتراض (عدم القدرة على الاتصال الجنسي لمرض أو نحوه).
وخمسة تختص بالمرأة: وهي الرتق، والقرن، والبخر (نتن الفرج) والعَفَل (غدة تمنع ولوج الذكر أو رغوة تمنع لذة الوطء) والإفضاء (اختلاط القُبُل أي مسلك الذكر بمجرى البول أو الغائط).
وليس من العيوب: القرع ولا السواد، ولا إن وجدها مفتضة من الزنا على المشهور، وليس منها العمى، والعور، والعرج، والزمانة، ولا نحوها من العاهات، إلا إن اشترط السلامة منها.
والعيوب عند الإمامية أحد عشر: أربعة في الرجل: وهي الجنون والخصاء والعنة والجب، وسبعة في المرأة: وهي الجنون والجذام والبرص والقرن والإفضاء والعمى والإقعاد.

الثالث ـ رأي أحمد: يفسخ النكاح بالعيوب التناسلية (أو الجنسية) أو العيوب المنفرة، أو العيوب المستعصية كالسل والسيلان أو الزهري ونحوها مما يعرف عن طريق أهل الخبرة.
_________
(1) الاستحاضة: استمرار نزول الدم على المرأة بدون انقطاع، ويسمى بالنزيف الدموي.

(9/7050)


والعيوب عندهم ثمانية:
ثلاثة يشترك فيها الزوجان: وهي الجنون والجذام والبرص.
واثنان يختص بهما الرجل: وهما الجب والعنة.
وثلاثة تختص بالمرأة: وهي الفتق (اختلاط مجرى البول والمني) والقرن والعفل.
والقاضي أبو يعلى جعل القرن والعفل شيئاً واحداً فتكون العيوب سبعة.
قال أبو الخطاب: ويتخرج على ذلك من به الباسور والناسور والقروح السيالة في الفرج؛ لأنها تثير نفرة، وتتعدى نجاستها. ورجح الحنابلة أنه يثبت الخيار للرجل بقروح سيالة في فرج المرأة وبباسور وناسور ونحوهما.
وليس من العيوب المجوزة للفسخ: القرع والعمى والعرج وقطع اليدين والرجلين؛ لأنه لا يمنع الاستمتاع، ولا يخشى تعديه.

الرابع ـ رأي الزهري وشريح وأبي ثور، واختاره ابن القيم (1): يجوز طلب التفريق من كل عيب منفر بأحد الزوجين، سواء أكان مستحكماً، أم لم يكن كالعقم والخرس والعرج والطرش وقطع اليدين أو الرجلين أوإحداهما؛ لأن العقد قد تم على أساس السلامة من العيوب، فإذا انتفت السلامة فقد ثبت الخيار. ولما روى أبو عبيد عن سليمان بن يسار: «أن ابن سندر تزوج امرأة وهو خصي، فقال له عمر: أعلمتها؟ قال: لا، قال: أعلمها، ثم خيرها».
والراجح لدي رأي الحنابلة؛ لعدم تحديد العيوب، ولأنهم قصروا جواز
_________
(1) زاد المعاد: 30/ 4 وما بعدها.

(9/7051)


الفسخ على العيب الذي لا تتم معه مقاصد الزواج على وجه الكمال، وهذا هو المتفق مع مقتضى عقد الزواج.

قيود الفرقة بالعيب:
اتفق الفقهاء على أن الفرقة بالعيب تحتاج إلى حكم القاضي وادعاء صاحب المصلحة؛ لأن التفريق بالعيب أمر مجتهد فيه ومختلف فيه بين الفقهاء، فيحتاج إلى قضاء القاضي لرفع الخلاف، ولأن الزوجين يختلفان في ادعاء وجود العيب وعدم وجوده، وفي أنه يجوز التفريق به أو لا يجوز، وقضاء الحاكم يقطع دابر الخلاف. والقول قول منكر العلم بالعيب مع يمينه في عدم علمه بالعيب؛ لأنه الأصل.
وإذا تبين أن الزوج مجبوب، فرَّق القاضي بين الزوجين في الحال ولم يؤجله؛ لعدم الفائدة في التأجيل. أما العنِّين والخصي فيؤجله الحاكم سنة من تاريخ الخصومة، أي الدعوى والترافع عند الحنفية والحنابلة، لاحتمال أن تثبت قدرته على الجماع في أثناء السنة على مرور الفصول، والتأجيل سنة مروي عن عمر وعلي وابن مسعود. وتبدأ السنة عند الشافعية والمالكية من وقت القضاء بالتأجيل، عملاً بقضاء عمر الذي رواه الشافعي والبيهقي.
فإذا ادعى الزوج أثناء السنة حدوث الجماع:
ففي رأي الحنفية والحنابلة: إن كانت المرأة ثيباً، فالقول قول الزوج بيمينه؛ لأن الظاهر يشهد له؛ لأن الأصل السلامة من العيوب، والقول لمن يشهد له الظاهر بيمينه. فإن حلف رفضت دعوى الزوجة، وإن امتنع عن الحلف، خيرها القاضي بين البقاء معه على هذه الحال وبين الفرقة، فإن اختارت الفرقة فرق بينهما.

(9/7052)


وإن كانت بكراً عذراء نظر إليها النساء، ويقبل قول امرأة واحدة والأولى عندالحنفية إراءتها لامرأتين، فإذا قالتا: هي بكر، بقي التأجيل لنهاية السنة لظهور كذبه، وإن قالتا: هي ثيب، حلّف الزوج فإن حلف لاحق لها، وإن نكل بقي التأجيل سنة، فإن شهدت النساء، وإلا فالقول قولها.
وقال المالكية: إن ادعى الوطء في مدة السنة، صدق الزوج بيمينه، وإن نكل عن اليمين حَلَفت الزوجة: إنه لم يطأ، وفرق بينهما قبل تمام السنة إن شاءت.
أما إن كان العيب غير الجب أو العنة أو الخصاء، ففي رأي المالكية: إن كان العي لا يرجى زواله بالعلاج، فرق القاضي بين الزوجين في الحال. وإن كان يرجى زواله بالعلاج، أجل القاضي التفريق لمدة سنة إن كان العيب من العيوب المشتركة بين الرجل والمرأة كالجنون والجذام والبرص.
وإن كان من العيوب الخاصة بالمرأة فيؤجل التفريق بالاجتهاد حسبما تقتضي حالة العلاج من العيب. وإن ادعت المرأة أنها برئت من عيبها صدقت بيمينها.
وتثبت العُنَّة عند الشافعية بإقرار الزوج عند الحاكم، أو ببينة تقام عند الحاكم على إقراره، أو بيمين المرأة المردودة عليها بعد إنكار الزوج العنة ونكوله عن اليمين في الأصح. وإذا ثبتت العنة ضرب القاضي له سنة كما فعل عمر رضي الله عنه، بطلب الزوجة؛ لأن الحق لها، فإذا مضت السنة رفعته إلى القاضي، فإن قال: وطِئت حُلِّف، فإن نكل عن اليمين حُلِّفت، فإن حَلَفت أو أقر هو بذلك، استقلت بالفسخ، كما يستقل بالفسخ من وجد بالمبيع عيباً.

شروط التفريق بالعيب:
اشترط الفقهاء شرطين لثبوت الحق في طلب التفريق بالعيب وهما:

(9/7053)


1ً - ألا يكون طالب التفريق عالماً بالعيب وقت العقد أو قبله: فإن علم به في العقد، وعقد الزواج، لم يحق له طلب التفريق؛ لأن قبوله التعاقد مع علمه بالعيب رضا منه بالعيب.
2ً - ألا يرضى بالعيب بعد العقد حال اطلاعه عليه: فإن كان طالب التفريق جاهلاً بالعيب، ثم علم به بعد إبرام العقد ورضي به، سقط حقه في طلب التفريق.
وإن لم يرض بالعيب، فخيار العيب ثابت عند الشافعية على الفور، وعند الحنابلة على التراخي، فلا يسقط ما لم يوجد منه ما يدل على الرضا به إما صراحة، كأن يقول: رضيت، أو دلالة كالاستمتاع من الزوج والتمكين من المرأة؛ لأنه خيار لطالب التفريق لدفع ضرر متحقق، فكان على التراخي كخيار القصاص، وخيار العيب في المبيع. ومتى زال العيب قبل التفريق فلا فرقة، لزوال سببها، كالمبيع يزول عيبه.
واشترط القانون السوري كما لاحظنا في المواد السابقة شروطاً ثلاثة أخرى من مذهب الحنفية:
1 - أن تطلب الزوجة التفريق فيما يحق لها، وإلا لم يفرق بينهما.
2 - أن تكون الزوجة خالية من العلل الجنسية كالرتق والقرن.
3 - أن يكون الزوج صحيحاً: فإن كان مريضاً ينتظر شفاؤه، ثم يمهل سنة في العنين والخصي.

العيب الحادث بعد الزواج:
إذا كان العيب قديماً موجوداً قبل الزواج، فلا خلاف بين أئمة المذاهب الأربعة في جواز التفريق به، بالشروط السابقة.

(9/7054)


أما إذا حدث العيب بأحد الزوجين، فاختلف الفقهاء في جواز التفريق:
قال الحنفية: إذا جُنَّ الرجل أو أصبح عنيناً بعد الزواج، وكان قد دخل بالمرأة، ولو مرة واحدة، لا يحق لها طلب الفسخ، لسقوط حقها بالمرة الواحدة قضاء، وما زاد عليه فهو مستحق ديانة لا قضاء.
وفرق المالكية بين عيب الزوج وبين عيب الزوجة، فقالوا: إن كان العيب بالزوجة فليس للزوج الخيار أو طلب التفريق بهذا العيب، لأنه مصيبة نزلت به، وعيب حدث بالمعقود عليه بعد لزوم العقد، فأشبه العيب الحادثة بالمبيع. وإن كان العيب الحادث بالزوج، فللزوجة الحق في طلب التفريق إن كان العيب جنوناً أو جذاماً أو برصاً، لشدة التأذي بها، وعدم الصبر عليها، وليس لها الحق في طلب التفريق بالعيوب التناسلية الأخرى من جب أو عنة أو خصاء.
وأطلق الشافعية والحنابلة القول بجواز التفريق بالعيب الحادث بعد الزواج كالعيب القائم قبله، لحصول الضرر به كالعيب المقارن للعقد، ولأنه لا خلاص للمرأة إلا بطلب التفريق بخلاف الرجل.
لكن استثنى الشافعية طروء العنة بعد الدخول، فإنها لا تجيز طلب الفسخ، لحصول مقصود النكاح، واستيفائها حقها منه بمرة واحدة.

نوع الفرقة بسبب العيب:
للفقهاء رأيان: قال الحنفية والمالكية: هذه الفرقة طلاق بائن ينقص عدد الطلاق؛ لأن فعل القاضي يضاف إلى الزوج، فكأنه طلقها بنفسه، ولأنها فرقة بعد زواج صحيح، والفرقة بعد الزواج الصحيح عند المالكية تكون طلاقاً لا فسخاً.

(9/7055)


وإنما جعل الطلاق بائناً فلرفع الضرر عن المرأة، إذ لو جاز للزوج مراجعتها قبل انقضاء العدة، عاد الضرر ثانياً.
وقال الشافعية والحنابلة: الفرقة بالعيب فسخ لا طلاق، والفسخ لا ينقص عدد الطلاق، وللزوج إعادة الزوجة بنكاح جديد بولي وشاهدي عدل ومهر؛ لأنها فرقة من جهة الزوجة إما بطلبها التفريق أو بسبب عيب فيها، والفرقة إذا كانت من جهة الزوجة تكون فسخاً لا طلاقاً.

أثر التفريق بالعيب على المهر:
عرفنا أن الحنفية لا يجيزون التفريق إلا بالعيوب التناسلية في الرجل، فإن كان التفريق قبل الدخول والخلوة، فللزوجة نصف المهر؛ لأن الفرقة بسبب الزوج، وإن كان التفريق بعد الدخول أو بعد الخلوة، فتجب العدة على المرأة إذا أقر الزوج أنه لم يصل إليها، ويجب لها المهر كله إن دخل بها أو خلا بها خلوة صحيحة؛ لأن خلوة العنين صحيحة تجب بها
العدة (1). وإن تزوجها بعدئذ أو تزوجته وهي تعلم أنه عنين فلا خيار لها. وإن كان عنيناً، وهي رتقاء لم يكن لها خيار كما تقدم في شروط التفريق.
وقال المالكية: إن كانت التفريق قبل الدخول ولو وقع بلفظ طلاق، فلا شيء للمرأة من المهر؛ لأن العيب إن كان بالرجل، فقد اختارت فراقه قبل قضاء مأربها، وكانت راضية بسقوط حقها في المهر، وإن كان العيب بالمرأة فتكون غارّة للرجل مدلسة عليه.
وإن كان التفريق بعد الدخول، استحقت المهر المسمى كله، إن كان العيب في
_________
(1) وقال الصاحبان: لها نصف المهر في حال الخلوة كأنه لم يخل بها.

(9/7056)


الزوج؛ لأنه يكون غارّاً للزوجة ومدلساً عليها، ثم إنه قد دخل بها، والدخول بالمرأة يوجب المهر كله. وإن كان العيب في الزوجة استحقت المهر كله بسبب الدخول، لكن يرجع الزوج بالمهر على وليها كأب وأخ وابن لتدليسه بالكتمان إن كان قريباً لا يخفى عليه حالها، وكان العيب ظاهراً كالجذام والبرص. أما إن كان الولي بعيداً كالعم والقاضي، أو كان العيب خفياً، فيرجع الزوج على الزوجة لا على الولي؛ لأن التغرير والتدليس منها وحدها.
وقال الشافعية: الفسخ بالعيب قبل الدخول يسقط المهر، وإن كان بعد الدخول، وكان العيب مقارناً للعقد أو حادثاً بين العقد والوطء، وجهله الواطئ، فلها في الأصح مهر المثل. وإن حدث العيب بعد العقد والوطء، فلها في الأصح المهر المسمى كله.
ولا يرجع الزوج بالمهر الذي غرمه على من غره من ولي أو زوجة بالعيب المقارن في المذهب الجديد (1)، لاستيفائه منفعة البضع المتقوم عليه بالعقد. أما العيب الحادث بعد العقد إذا فسخ به، فلا يرجع بالمهر جزماً لانتفاء التدليس.
وقال الحنابلة: إن حدث الفسخ قبل الدخول فلا مهر للمرأة على الرجل، سواء أكان من جهة الزوج أم من جهة الزوجة، كما قال الشافعية وغيرهم.
وإن حدث الفسخ بعد الدخول وجهل العيب، فلها المهر المسمى، لوجوبه بالعقد واستقراره بالدخول، ثم يرجع بالمهر على من غرَّه من امرأة عاقلة وولي ووكيل. لقول عمر رضي الله عنه: «أيما رجل تزوج بامرأة بها جنون أو جذام أو برص، فلها صداقها، وذلك لزوجها غرم على وليها» ولأنه غرَّه في النكاح بما يثبت به الخيار فكان المهر عليه، كما لو غره بحرية أمة.
_________
(1) وهو رأي أبي حنيفة رحمه الله أيضاً.

(9/7057)


ملحق بهذا البحث ـ خيار الغرور أو خيار فوات الوصف المرغوب:
إذا غرر الزوج بصفة في زوجته، مثل كونها بكراً أو مسلمة أو حرة أو ذات نسب ونحو ذلك، فبان خلافه، فهل له فسخ الزواج؟! وهذا ما يعرف بخيار الغرور أو خيار فوات الوصف المرغوب.
اختلف الفقهاء فيه على آراء (1)، الغالب فيها ثبوت الخيار وهو رأي الجمهور غير الحنفية:
ذهب الحنفية والجعفرية والزيدية إلى أنه إذا اشترط أحد الزوجين في صاحبه صفة مرغوباً فيها، فبان على خلافه، لم يكن له الخيار في الفرقة، فإذا كان قد سمى لها مهراً أكثر من مهر مثلها بسبب هذا الشرط، كأن يشترط بكارتها أو تحصيلها شهادة معينة، فلم يتحقق ذلك، لم يلزم الزوج بأكثر من مهر مثلها. قال ابن الهمام في فتح القدير: «وفي النكاح لو شرط وصفاً مرغوباً فيه كالعُذْرة والجمال والرشاقة وصغر السن، فظهرت ثيباً عجوزاً شمطاء ذات شق مائل، ولعاب سائل، وأنف هائل، وعقل زائل، لا خيار له في فسخ النكاح به».
وخالفهم المالكية فقرروا أن العاقد إذا قال للرجل: زوجتك هذه مسلمة فإذا هي كتابية، أو هذه حرة فإذا هي أمة، أو هذه بكر فإذا هي ثيب، أو اشترط أحد الزوجين وصفاً مرغوباً في الآخر كصغر السن والجمال، فبان خلافه، انعقد الزواج، وله الخيار بين الرضا والرد.
وفصل الشافعية فقالوا: لو تزوج رجل امرأة وشُرط في العقد إسلام
_________
(1) المهذب: 70/ 2، غاية المنتهى: 99/ 3 - 100.

(9/7058)


الزوجة، أو شرط في أحد الزوجين نسب أو حرية أوغيرهما مما لا يمنع عدم توافره صحة الزواج من صفات الكمال، كبكارة وشباب، أو من صفات النقص كضد ذلك، أو ما يتوسط بين صفتي الكمال كطول وبياض وسمرة، فبان خلافه، فالأظهر صحة النكاح؛ لأن الخُلْف في الشرط لا يوجب فساد البيع مع تأثره بالشروط الفاسدة، فالنكاح أولى بعدم الفساد.
ثم إن بان الموصوف بالشرط خيراً مما شُرط فيه فلا خيار، وإن بان دونه، فلمن شرط له: الخيار، للخُلْف.
أما لو ظن الرجل، بلا شرط، أن المرأة مسلمة، فبانت كتابية، أو حرة فبانت أمة، وهي تحل له، فلا خيار له فيهما في الأظهر؛ لأن الظن لا يثبت الخيار لتقصيره بترك البحث أو الاشتراط. وكذا لو أذنت المرأة لوليها في تزويجها بمن ظنته كفئاً لها، فبان فسقه أو دناءة نسبه أو حرفته، فلا خيار لها ولا لوليها؛ لأن التقصير منها ومنه، حيث لم يبحثا ولم يشرطا، لكن لو بان الزوج معيباً أو عبداً وهي حرة فلها الخيار.
وفصل الحنابلة تفصيلاً آخر فقالوا: إن غرَّ الرجل المرأة بما يخل بأمر الكفاءة كالحرية أو النسب الأدنى، فلها الخيار بين الفسخ والإمضاء، فإن اختارت الإمضاء فلأوليائها الاعتراض لعدم الكفاءة. وإن لم يعتبر الوصف في الكفاءة كالفقه والجمال ونحوهما، فلا خيار لها؛ لأن ذلك مما لا يعتبر في الكفاءة، فلا يؤثر اشتراطه.
أما إن شرط الرجل كون المرأة مسلمة فبانت كافرة، فله الخيار، لأنه نقص وضرر يتعدى إلى الولد. وإن شرط الرجل كونها بكراً فبانت ثيباً فعن أحمد كلام يحتمل أمرين: أحدهما ـ لا خيار له، والثاني ـ له الخيار، لأنه شرط صفة مقصودة.

(9/7059)


وإذا تزوج امرأة يظنها حرة أو مسلمة، فبان خلافه، ثبت له الخيار.

المبحث الثالث ـ التفريق للشقاق أو للضرر وسوء العشرة:
المقصود بالشقاق والضرر: الشقاق هو النزاع الشديد بسبب الطعن في الكرامة. والضرر: هو إيذاء الزوج لزوجته بالقول أو بالفعل، كالشتم المقذع والتقبيح المخل بالكرامة، والضرب المبرِّح، والحمل على فعل ما حرم الله، والإعراض والهجر من غير سبب يبيحه، ونحوه.
رأي الفقهاء في التفريق للشقاق:
لم يجز الحنفية والشافعية والحنابلة (1) التفريق للشقاق أو للضرر مهما كان شديداً؛ لأن دفع الضرر عن الزوجة يمكن بغير الطلاق، عن طريق رفع الأمر إلى القاضي، والحكم على الرجل بالتأديب حتى يرجع عن الإضرار بها.
وأجاز المالكية (2) التفريق للشقاق أو للضرر، منعاً للنزاع، وحتى لا تصبح الحياة الزوجية جحيماً وبلاء، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «لا ضرر ولا ضرار». وبناء عليه ترفع المرأة أمرها للقاضي، فإن أثبتت الضرر أو صحة دعواها، طلقها منه، وإن عجزت عن إثبات الضرر رفضت دعواها، فإن كررت الادعاء بعث القاضي حكمين: حكماً من أهلها وحكماً من أهل الزوج، لفعل الأصلح من جمع وصلح أو تفريق بعوض أو دونه، لقوله تعالى: {وإن خفتم شقاق بينهما، فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها} [النساء:35/ 4].
_________
(1) بداية المجتهد: 97/ 2 وما بعدها.
(2) الشرح الكبير والدسوقي: 281/ 2، 285، القوانين الفقهية: ص 215، مغني المحتاج: 207/ 2 - 209، المغني: 524/ 6 - 527، بداية المجتهد: 50/ 2.

(9/7060)


واتفق الفقهاء على أن الحكمين إذا اختلفا لم ينفذ قولهما، واتفقوا على أن قولهما في الجمع بين الزوجين نافذ بغير توكيل من الزوجين.
واختلف الفقهاء في تفريق الحكمين بين الزوجين إذا اتفقا عليه، هل يحتاج إلى إذن من الزوج أو لا يحتاج إليه؟ فقال الجمهور؛ يعمل الحكم بتوكيل من الزوج، فليس للحكمين أن يفرقا بين الزوجين إلا أن يجعل الزوج إليهما التفريق؛ لأن الأصل أن الطلاق ليس بيد أحد سوى الزوج أو من يوكله الزوج. لأن الطلاق إلى الزوج شرعاً، وبذل المال إلى الزوجة، فلا يجوز إلا بإذنهما.
وقال المالكية: ينفذ قول الحكمين في الفرقة والاجتماع بغير توكيل الزوجين ولا إذن منهما فيهما، بدليل ما رواه مالك عن علي بن أبي طالب أنه قا ل في الحكمين: «إليهما التفرقة بين الزوجين والجمع» فالإمام مالك يشبّه الحكمين بالسلطان، والسلطان يُطلِّق في رأيه بالضرر إذا تبين، وقد سماهما الله حكمين في قوله تعالى: {فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها} [النساء:35/ 4] ولم يعتبر رضا الزوجين.

شروط الحكمين:
يشترط في الحكمين: أن يكونا رجلين عدلين خبيرين بما يطلب منهما في هذه المهمة، ويستحب أن يكونا من أهل الزوجين، حكماً من أهله وحكماً من أهلها بنص الآية السابقة، فإن لم يكونا من أهلهما بعث القاضي رجلين أجنبيين، ويستحسن أن يكونا من جيران الزوجين ممن لهما خبرة بحال الزوجين، وقدرة على الإصلاح بينهما.

(9/7061)


نوع الفرقة للشقاق:
الطلاق الذي يوقعه القاضي للشقاق طلاق بائن؛ لأن الضرر لا يزول إلا به؛ لأنه إذا كان الطلاق رجعياً تمكن الزوج من مراجعة المرأة في العدة، والعودة إلى الضرر.

موقف القانون: أخذ القانونان في مصر وسورية بمذهب المالكية فأجاز كلاهما التفريق للشقاق والضرر.
ونص القانون المصري رقم (25) لسنة (1929) في المواد (6 - 11) والقانون السوري في المواد (112 - 115) على أحكام التفريق للشقاق، وهي أحكام متفق عليها في القانونين، إلا أن القانون المصري لم يذهب إلى التفريق بسبب إساءة الزوجة، وأخذ القانون السوري بمذهب المالكية في أن التفريق يكون بسبب الضرر من أحد الزوجين. وعدَّل القانون السوري سنة (1975) المادة (3/ 112)، فلم يحكم بالتفريق في الحال، وإنما يؤجل القاضي المحاكمة مدة لا تقل عن شهر إذا لم يثبُت الضرر أملاً بالمصالحة.
وأذكر بإيجاز مضمون مواد القانون السوري:
إذا ادعى أحد الزوجين إضرار الآخر به، جاز له طلب التفريق من القاضي (1/ 112)، وإذا ثبت الإضرار، وعجز القاضي عن الإصلاح فرق بينهما، وذلك بطلقة بائنة (م 2/ 112) وإذا لم يثبت الضرر يؤجل القاضي المحاكمة مدة لا تقل عن شهر. فإن أصر المدعي على الشكوى بعث القاضي حكمين من أهل الزوجين، وإلا ممن يرى القاضي فيه قدرة على الإصلاح بينهما، وحلفهما يميناً على أن يقوما بمهمتهما بعدل وأمانة (م 3/ 112).

(9/7062)


وعلى الحكمين أن يتعرفا أسباب الشقاق بين الزوجين، ثم يجمعانهما في مجلس تحت إشراف القاضي (م 1/ 113)، ولا يؤثر في التحكيم تخلف أحد الزوجين عن الحضور بعد تبليغه (م 2/ 113).وعمل الحكمين أولاً هو محاولة الإصلاح بين الزوجين، فإذا عجزا عنه وكانت الإساءة أو أكثرها من الزوج قررا التفريق بطلقة بائنة (م 1/ 114). وإذا كانت الإساءة من الزوجة أو مشتركة بين الزوجين قررا التفريق على تمام المهر أو على جزء منه بحسب مدى الإساءة (م 2/ 114).
وللحكمين تقرير التفريق مع عدم الإساءة من أحد الزوجين على براءة ذمة الزوج من بعض حقوق الزوجة إذا رضيت بذلك، واستحكم الشقاق بينهما (م 3/ 114).
وإذا اختلف الحكمان حكَّم القاضي غيرهما، أو ضم إليهما ثالثاً مرجحاً، وحلفه اليمين، كمايحلف الحكمان على أداء مهمتهما بعدل وأمانة (م 4/ 114).
ولا يملك الحكمان التفريق، وإنما يرفعان تقريرهما إلى القاضي ولو كان غير معلل، ويفوض الأمر إلى القاضي بالحكم بمقتضاه أو رفض التقرير، وتعيين حكمين آخرين للمرة الأخيرة (م 115).
ويلاحظ أن مهمة الحكمين هي الإصلاح أولاً، ثم رفع تقرير إلى القاضي بالتفريق، احتياطاً في أمر الطلاق. لكن المقرر في المذهب المالكي كما تقدم أن الحكمين يوقعان الطلاق بناء على التفويض الكامل من القاضي. فإذا قيد القاضي صلاحية الحكمين برفع تقرير كما ذهب القانون، لم يكن في الأمر مخالفة للمالكية.

(9/7063)


المبحث الرابع ـ طلاق التعسف:
التعسف: هو إساءة استعمال الحق بحيث يؤدي إلى ضرر بالغير، وذكر القانون السوري (م 116، 117) حالتين للتعسف في استعمال الطلاق وهما: الطلاق في مرض الموت أي طلاق الفارّ، والطلاق بغير سبب معقول (1).

أولاً ـ الطلاق في مرض الموت أو طلاق الفرار: تبين سابقاً أنه إذا طلق الزوج زوجته طلاقاً بائناً في مرض موته، أو ما في حكمه كإشراف سفينة على الغرق، فينفذ الطلاق باتفاق الفقهاء، ولا ترث المرأة عند الشافعية، ولو أراد الفرار من توريثها ومات الزوج في أثناء العدة؛ لأن الطلاق البائن يقطع الزوجية.
وأخذ القانون السوري والمصري برأي الجمهور (غير الشافعية) في توريث المرأة في طلاق الفارّ إذا مات الزوج وهي في العدة. وترث أيضاً عند الحنابلة ولو مات بعد انقضاء العدة ما لم تتزوج، وترث عند المالكية ولو تزوجت بآخر.
ونص القانون السوري على ما سبق في المادة (116) الآتية:
من باشر سبباً من أسباب البينونة في مرض موته أو في حالة يغلب في مثلها الهلاك طائعاً، بلا رضا زوجته، ومات في ذلك المرض أو في تلك الحالة، والمرأة في العدة، فإنها ترث منه بشرط أن تستمر أهليتها للإرث من وقت الإبانة إلى الموت.
_________
(1) طلاق التعسف وإن وقع بإرادة الزوج، لا بالتفريق القضائي، فللقاضي دور الإشراف والرقابة والتحقق من كونه تعسفاً.

(9/7064)


والسبب في تقرير الإرث على الرغم من الطلاق: هو معاملة الزوج بنقيض مقصوده، فإنه أراد إبطال حق الزوجة في الميراث، فيرد عليه قصده، ما دامت العدة باقية، لبقاء آثار الزوجية.
فإن دلت القرائن على أنه لم يرد حرمانها من الإرث، كأن يكون الطلاق بطلبها أو عن طريق المخالعة، فلا ترث في عدة الطلاق البائن، وترث في عدة الطلاق الرجعي.
ويشترط لإرث المرأة في طلاق الفارّ: أن تكون مستحقة للإرث منذ الطلاق حتى وفاة الزوج، فإن كانت غير مستحقة للإرث وقت الطلاق كأن كانت كتابية، أو غير مستحقة للإرث وقت وفاة الزوج، كأن كانت مسلمة عند الطلاق، ثم ارتدت عند الوفاة، فلا ترث.

ثانياً ـ الطلاق بغير سبب معقول:
نص القانون السوري (م 117 معدلة) على ما يلي:
إذا طلق الرجل زوجته، وتبين للقاضي أن الزوج متعسف في طلاقها دون ما سبب معقول، وأن الزوجة سيصيبها بذلك بؤس وفاقة، جاز للقاضي أن يحكم لها على مطلقها بحسب حاله ودرجة تعسفه بتعويض لا يتجاوز مبلغ نفقة ثلاث سنوات لأمثالها فوق نفقة العدة، وللقاضي أن يجعل دفع هذا التعويض جملة أو شهرياً بحسب مقتضى الحال.
وقد تضمن هذا التعديل عام (1975) أمرين: الأول ـ عدم تقييد الزوجة بكونها فقيرة. والثاني ـ جعل التعويض مقدراً بنفقة ثلاث سنوات، بدلاً من سنة في الماضي.

(9/7065)


ومستند هذا الحكم الجديد: هو العمل بمبدأ السياسة الشرعية العادلة التي تمنع ظلم المرأة وتعريضها للفاقة والحرمان بسبب تعنت الزوج.
وربما يستند هذا الحكم إلى المتعة المعطاة للمطلقة والتي أوجبها بعض الفقهاء، واستحبها بعضهم، ورغب فيها القرآن وجعلها بالمعروف، فيترك تقديرها للقاضي بحسب العرف.

المبحث الخامس ـ التفريق للغيبة:
أولاً ـ آراء الفقهاء: للفقهاء رأيان في التفريق بين الزوجين إذا غاب الزوج عن زوجته، وتضررت من غيبته، وخشيت على نفسها الفتنة:
قال الحنفية والشافعية (1): ليس للزوجة الحق في طلب التفريق بسبب غيبة الزوج عنها، وإن طالت غيبته، لعدم قيام الدليل الشرعي على حق التفريق، ولأن سبب التفريق لم يتحقق. فإن كان موضعه معلوماً بعث الحاكم لحاكم بلده، فيلزم بدفع النفقة.
ورأى المالكية والحنابلة (2) جواز التفريق للغيبة إذا طالت، وتضررت الزوجة بها، ولو ترك لها الزوج مالاً تنفق منه أثناء الغياب؛ لأن الزوجة تتضرر من الغيبة ضرراً بالغاً، والضرر يدفع بقدر الإمكان، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار» ولأن عمر رضي الله عنه كتب في رجال غابوا عن نسائهم، فأمرهم أن ينفقوا أو يطلقوا.
_________
(1) الدر المختار: 903/ 2، مغني المحتاج: 442/ 3.
(2) القوانين الفقهية: ص 216، الشرح الصغير وحاشية الصاوي عليه: 746/ 2، كشاف القناع: 124/ 5، المغني: 588/ 7 وما بعدها، 576 وما بعدها

(9/7066)


لكن اختلف هؤلاء في نوع الغيبة ومدتها وفي التفريق حالاً، وفي نوع الفرقة:
ففي رأي المالكية: لا فرق في نوع الغيبة بين أن تكون بعذر كطلب العلم والتجارة أم بغير عذر. وجعلوا حد الغيبة الطويلة سنة فأكثر على المعتمد، وفي قول: ثلاث سنوات. ويفرق القاضي في الحال بمجرد طلب الزوجة إن كان مكان الزوج مجهولاً، وينذره إما بالحضور أو الطلاق أو إرسال النفقة، ويحدد له مدة بحسب ما يرى إن كان مكان الزوج معلوماً. ويكون الطلاق بائناً؛ لأن كل فرقة يوقعها القاضي تكون طلاقاً بائناً إلا الفرقة بسبب الإيلاء وعدم الإنفاق.
وفي رأي الحنابلة: تجوز الفرقة للغيبة إلاإذا كانت لعذر، وحد الغيبة ستة أشهر فأكثر، عملاً بتوقيت عمر رضي الله عنه للناس في مغازيهم، ويفرق القاضي في الحال متى أثبتت الزوجة ما تدعيه. والفرقة تكون فسخاً لا طلاقاً، فلا تنقص عدد الطلقات؛ لأنها فرقة من جهة الزوجة، والفرقة من جهة الزوجة تكون عندهم فسخاً.
ولا تكون هذه الفرقة إلا بحكم القاضي، ولا يجوز له التفريق إلا بطلب المرأة؛ لأنه لحقها، فلم يجز من غير طلبها كالفسخ للعنة.

ثانياً ـ موقف القانون من التفريق للغيبة:
نص القانون المصري لعام 1929 (م 12، 13) على جواز التفريق للغيبة لمدة سنة فأكثر بلا عذر مقبول، بعد إنذار الزوجة بتطليقها عليه إن لم يحضر أو ينقلها إليه، أو يطلقها، وتكون الفرقة طلاقاً بائناً، أخذاً برأي المالكية.
ونص القانون السوري على التفريق للغيبة في المادة (109) التالية:

(9/7067)


1 - إذا غاب الزوج بلا عذر مقبول، أو حكم بعقوبة السجن أكثر من ثلاث سنوات جاز لزوجته بعد سنة من الغياب أو السجن أن تطلب إلى القاضي التفريق ولو كان له مال تستطيع الإنفاق منه.
2 - هذا التفريق طلاق رجعي، فإذا رجع الغائب، أو أطلق السجين، والمرأة في العدة، حق له مراجعتها.
دل النص على أنه يشترط للتفريق ما يلي:
1ً - أن تمضي سنة فأكثر على الغياب.
2ً - أن يكون الغياب لغير عذر مقبول. فإن كان لعذر مقبول لم يحق لها طلب التفريق، كالغياب في الجهاد أو الجندية الإجبارية أو لطلب العلم.
والتفريق للغيبة بطلب الزوجة يكون في الحال إن كان مكان الزوج غير معلوم. أما إن كان مكانه معلوماً، فيطلب القاضي منه أن يحضر لأخذ زوجته إليه، ويحدد له أجلاً معيناً، فإن لم يفعل فرق القاضي بينهما. والتفريق طلاق رجعي، وهذا مخالف لمذهب المالكية في أنه طلاق بائن، ولمذهب الحنابلة في أنه فسخ.

المبحث السادس ـ التفريق للحبس:
لم يجز جمهور الفقهاء غيرالمالكية التفريق لحبس الزوج أو أسره أو اعتقاله، لعدم وجود دليل شرعي بذلك. ولاتعد غيبة المسجون ونحوه عند الحنابلة غيبة بعذر.

(9/7068)


أما المالكية (1) فأجازوا طلب التفريق للغيبة سنة فأكثر، سواء أكانت بعذر أم بدون عذر، كما تقدم. فإذا كانت مدةا لحبس سنة فأكثر جاز لزوجته طلب التفريق، ويفرق القاضي بينهما، بدون كتابة إلى الزوج أو إنظار. وتكون الفرقة طلاقاً بائناً.
ونص القانون المصري لسنة 1929 (م 14) على حق المرأة في طلب التفريق بعد مضي سنة من حبس زوجها الذي صدر في حقه عقوبة حبس مدة ثلاث سنين فأكثر، والطلاق بائن، كما هو رأي المالكية.
أما القانون السوري فذكر في المادة (109) السابقة هذا الحق كالتفريق للغيبة على السواء.

المبحث السابع ـ التفريق بالإيلاء:
لم يتعرض قانون الأحوال الشخصية السوري لحالتين من حالات انحلال الزواج وهما الإيلاء والظهار، كما لم يتعرض للعان.

أولاً ـ تاريخ الإيلاء ومعناه وألفاظه: الإيلاء لغة: الحلف، وهو يمين، وكان هو والظهار طلاقاً في الجاهلية، وكان يستخدمه العرب بقصد الإضرار بالزوجة، عن طريق الحلف بترك قربانها السنة فأكثر، ثم يكرر الحلف بانتهاءالمدة، ثم جاء الشرع فغيَّر حكمه، وجعله يميناً ينتهي بمدة أقصاها أربعة أشهر، فإن عاد حنث في يمينه، ولزمته كفارة اليمين إن حلف بالله تعالى أو بصفة من صفاته التي يحلف بها. قال ابن عباس (2) «كان إيلاء أهل
_________
(1) الشرح الكبير للدردير: 519/ 2.
(2) البدائع: 171/ 2 وما بعدها.

(9/7069)


الجاهلية السنة والسنتين وأكثر من ذلك، فوقَّته الله أربعة أشهر» فمن كان إيلاؤه أقل من أربعة أشهر، فليس بإيلاء، أي أن الشرع أقره طلاقاً وزاد فيه الأجل.
والأصل في تنظيم يمين الإيلاء وحكمه قوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر، فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق، فإن الله سميع عليم} [البقرة:226/ 2 - 227].
وعدِّي الإيلاء في الآية بمن، والأصل أن يعدى بعلى، لأن كلمة (يؤلون) ضُمِّنت معنى: يعتزلون أو معنى البعد، كأنه قال: يؤلون مبعدين أنفسهم من نسائهم. والفيء: الرجوع لغة، والمراد به فقهاً: الجماع، بالاتفاق.
والإيلاء: حرام عند الجمهور للإيذاء، ولأنه يمين على ترك واجب، مكروه تحريماً عند الحنفية.
والإيلاء شرعاً: الحلف ـ بالله تعالى أو بصفة من صفاته أو بنذر أو تعليق طلاق ـ على ترك قربان زوجته مدة مخصوصة. وهذا تعريف الحنفية (1) فلا يصح إيلاء الصبي والمجنون، ويصح عندهم إيلاء الكافر؛ لأنه من أهل الطلاق. وعرفه المالكية (2) بأنه حلف زوج مسلم مكلف ممكن الوطء بما يدل على ترك وطء زوجته غير المرضع أكثر من أربعة أشهر، سواء أكان الحلف بالله أم بصفة من صفاته، أم بالطلاق، أم بمشي إلى مكة، أم بالتزام قربة.
يتبين من التعريف أن الإيلاء يختص عند المالكية بالزوج المسلم لا الكافر، وبالمكلف (البالغ العاقل) لا الصبي والمجنون، وبالممكن وطؤه ولو سكراناً، لا
_________
(1) الدر المختار: 749/ 2، اللباب: 59/ 3، البدائع: 161/ 3.
(2) الشرح الصغير: 619/ 2 وما بعدها، الشرح الكبير: 426/ 2 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص241.

(9/7070)


المجبوب والخصي، والشيخ الفاني، فلا ينعقد لهم إيلاء، كما لا إيلاء من المرضع، لما في ترك وطئها من إصلاح الولد، ولا إيلاء فيما دون الأربعة أشهر.
وعرفه الشافعية (1): بأنه حلف زوج يصح طلاقه على الامتناع من وطء زوجته مطلقاً، أو فوق أربعة أشهر، سواء في المذهب الجديد أكان حلفاً بالله أم بصفة من صفاته، أم باليمين بالطلاق مثل: إن وطئتك فأنت أو ضَرتك طالق؛ لأنه يمين يلزمه بالحنث فيها حق، فصح به الإيلاء، كاليمين بالله عز وجل، أم بنذر مثل: إن وطئتك فلله علي صلاة أو صوم أو حج. وذلك وفاقاً للمالكية. فلا يصح إيلاء من الصبي والمجنون والمكره لعدم صحة طلاقهم، ولا يصح أيضاً إيلاء عنِّين ومجبوب؛ لأنه وإن صح طلاقهما لا يصح إيلاؤهما؛ لأنه لا يتحقق منها قصد الإيذاء بالامتناع عن الجماع.
وعرفه الحنابلة (2): بأنه حلف زوج يمكنه الجماع، بالله تعالى أو بصفة من صفاته، على ترك وطء امرأته الممكن جماعها، ولو كان الحلف قبل الدخول، مطلقاً أو أكثر من أربعة أشهر أو ينويها. فلا يصح إيلاء عنين ومجبوب لعدم إمكان الجماع، ولا الحلف بالطلاق ونحوه ولا بنذر، ولا إيلاء من رتقاء ونحوها.
وعلى هذا يصح الإيلاء من الكافر في مذهبي الشافعية والحنابلة كالحنفية.

ألفاظ الإيلاء:
الإيلاء إما بلفظ صريح وإما بلفظ كناية يدل على الامتناع من الجماع (3).
_________
(1) مغني المحتاج: 343/ 3 - 344، المهذب: 105/ 2.
(2) كشاف القناع: 406/ 5.
(3) الدر المختار: 752/ 2 - 760، البدائع: 162/ 3، اللباب: 62/ 3، 63، الشرح الصغير: 620/ 2 - 623، الشرح الكبير: 428/ 2 وما بعدها، مغني المحتاج: 345/ 3 وما بعدها، المغني: 315/ 7 ومابعدها، كشاف القناع: 408/ 5 وما بعدها.

(9/7071)


من الألفاظ الصريحة عند الحنفية والمالكية: قول الزوج لزوجته: والله لا أقربك أو لا أجامعك أو لا أطؤك أو لا أغتسل منك من جنابة، ونحوه من كل ما ينعقد به اليمين، أو قوله: (والله لا أقربك أربعة أشهر) حتى ولو كان الكلام موجهاً لحائض، لتعيين المدة. أو قوله عند الجمهور غير الحنابلة: إن قربتك فعلي حج أو نحوه مما يشق فعله، أما ما لا يشق فعله مثل: (فعلي صلاة ركعتين) فليس بمولٍ عند الحنفية لعدم مشقتهما، بخلاف قوله: فعلي مئة ركعة، فإنه يكون مولياً. أو قوله عند غير الحنابلة: إن قربتك فأنت طالق. وعلى هذا فالصريح عند الحنفية لفظان: الجماع وما في معناه من التعبير بالنون والكاف (1)، وما يجري مجرى الصريح ألفاظ ثلاثة: القربان والمباضعة والوطء.
وصريح الإيلاء عند الشافعية: الحلف على ترك الوطء أو الجماع أو افتضاض البكر ونحو ذلك، والصريح عند الحنابلة: ثلاثة ألفاظ وهي قوله: والله لا آتيك، ولا أدخل ولا أغيب أو أولج ذكري في فرجك، ولا افتضضتك للبكر خاصة. وعندهم ألفاظ عشرة صريحة في الحكم أو القضاء، ويدين فيها ما نواه عندهم فيما بينه وبين الله تعالى: وهي لا وطئتك، ولا جامعتك، ولا أصبتك، ولا باشرتك، ولا مسستك، ولا قربتك، ولا أتيتك، ولا باضعتك، ولا باعلتك، ولا اغتسلت منك، فهذه صريحة قضاء لأنها تستعمل عرفاً في الوطء.
والجديد عند الشافعية: أن الحلف بألفاظ الملامسة والمباضعة والمباشرة والإتيان والغشيان والقِرْبان والإفضاء والمس والدخول ونحوها كنايات تفتقر لنية الوطء؛ لأن لها حقائق غيرالوطء، ولم تشتهر اشتهار ألفاظ الوطء والجماع والإيلاج وافتضاض البكر.
_________
(1) لا حياء في الدين أي في بيان أحكامه للناس فيما يصدر عنهم عادة.

(9/7072)


وأصل حكم الإيلاء: قوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم. وإن عزموا الطلاق، فإن الله سميع عليم} [البقرة:226/ 2 - 227].
ومن ألفاظ الكناية التي تحتاج إلى نية عند الحنفية: أن يحلف بقوله: لا أمسك، لا آتيك، لا أغشاك؛ لا أقرب فراشك، لا أدخل عليك. ولو قال: «أنت علي حرام» فهو إيلاء إن نوى التحريم، أو لم ينو شيئاً، وظهار إن نواه، فإن نوى الكذب فهو إيلاء قضاء؛ لأن تحريم الحلال يمين، وهدر باطل ديانة.
وألفاظ الكناية التي لا تكون إيلاء إلا بالنية عند الحنابلة هي ما عدا الألفاظ السابقة الصريحة في حكم الصريح، كقول الزوج: والله لا يجمع رأسي ورأسك شيء، لا قربت فراشك، لا آويت معك، لا نمت عندك، لأسوأنك، لأغيظنك، لتطولن غيبتي عنك، لا مسّ جلدي جلدك ونحوها، فإن أراد بها الجماع واعترف بذلك، كان مولياً، وإلا فلا؛ لأن هذه الألفاظ ليست ظاهرة في الجماع كظهور التي قبلها، ولم يرد النص باستعمالها فيه، إلا أن هذه الألفاظ نوعان: نوع منها يفتقر إلى نية الجماع والمدة معاً: وهي لأسوأنك، ولأغيظنك، ولتطولن غيبتي عنك، فلا يكون مولياً حتى ينوي ترك الجماع في مدة تزيد على أربعة أشهر. وباقي الألفاظ يكون مولياً بنية ترك الجماع فقط.

لغة الإيلاء: يصح الإيلاء بكل لغة عربية وعجمية (1)، سواء أكان المولي ممن يحسن العربية أم ممن لا يحسنها، فيصح من عجمي بالعربية، ومن عربي بالعجمية إن عرف المعنى كما في الطلاق وغيره؛ لأن اليمين تنعقد بغير العربية، وتجب بها الكفارة، والمولي: هو الحالف بالله على ترك وطء زوجته، الممتنع من ذلك بيمينه.
_________
(1) المغني: 317/ 7، مغني المحتاج: 343/ 3.

(9/7073)


ثانياً ـ أركان الإيلاء وشروطه: ركن الإيلاء عند الحنفية: هو الحلف على ترك قربان امرأته مدة، ولو ذمياً، أو هو الصيغة التي ينعقد بها، من الألفاظ الصريحة أو الكناية المتقدمة، وما عداها فهو من شروط الإيلاء، وينعقد الإيلاء ككل الأيمان سواء في حالة الرضا أو الغضب.
وأما عند الجمهور فللإيلاء أركان أربعة: هي الحالف، والمحلوف به، والمحلوف عليه، والمدة (1).
1 - الحالف: هو المولي وهو عند المالكية: كل زوج مسلم عاقل بالغ يتصور منه الوقاع، حراً كان أو عبداً، صحيحاً كان أو مريضاً، فلا يصح إيلاء الذمي.
وهو عند الحنفية: كل زوج له أهلية الطلاق، وهو كل عاقل بالغ، مالك النكاح، وأضافه إلى الملك، أو هو الذي لا يمكنه قربان امرأته إلا بشيء شاق يلزمه. فلا يصح إيلاء الصبي والمجنون؛ لأنهما ليسا من أهل الطلاق، ويصح إيلاء الذمي الكافر؛ لأن الكافر من أهل الطلاق، ويصح إيلاء العبد بما لا يتعلق بالمال، مثل إن قربتك فعلي صوم أو حج أو عمرة، أو امرأتي طالق، أو والله لا أقربك، فإن حنث لزمه الكفارة بالصوم. أما ما يتعلق بالمال مثل إن قربتك فعلي عتق رقبة، أو أن أتصدق بكذا، فلا يصح؛ لأنه ليس من أهل ملك المال. ولا يصح الإيلاء لو قال لامرأة أجنبية، أو لمن أبانها بثلاث أو بطلاق بائن: «والله لا أقربك» لأنه غير مالك النكاح، لكن إن أضاف ذلك إلى الملك بأن قال للأجنبية أو المبانة منه: إن تزوجتك فوالله لا أقربك، كان مولياً.
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 241، مغني المحتاج: 343/ 3، المهذب: 105/ 2، الشرح الكبير: 426/ 2، المغني: 298/ 7، 314، كشاف القناع: 406/ 5 ومابعدها، غاية المنتهى: 188/ 3، الدر المختار: 750/ 2 - 752، البدائع: 171/ 3 - 175.

(9/7074)


والمولي عند الشافعية: كل زوج يصح طلاقه أو هو كل زوج بالغ عاقل قادر على الوطء. فلا يصح إيلاء الصبي والمجنون والمكره، والمجبوب والأشل، ولا يصح الإيلاء على المذهب من رتقاء أو قرناء؛ لأنه لا يتحقق منه قصد الإيذاء والإضرار، لامتناع الأمر في نفسه.
ويصح إيلاء المريض والمحبوس والحر والعبد، والمسلم والكافر والخصي والسكران المتعدي بسكره؛ لأنه يصح طلاقه في الجملة.
والحالف المولي عند الحنابلة: هو كل زوج يمكنه الجماع، يحلف بالله تعالى أو بصفة من صفاته على ترك وطء امرأته الممكن جماعها أكثر من أربعة أشهر. فلا يصح إيلاء عاجز عن وطء مثل عنِّين ومجبوب وأشل، ولا بنذر أو طلاق ونحوه، ولا من امرأة رتقاء ونحوها، ولا يصح من صبي مميز أو مجنون أو مغمى عليه، ويصح الإيلاء من كافر وعبد وغضبان وسكران ومريض مرجو برؤه، ومن لم يدخل بزوجته.
وبه يتبين أن الجمهور يجيزون إيلاء الكافر، والمالكية لا يجيزونه.

2 - المحلوف به: هو الله تعالى وصفاته بالاتفاق، وكذا عند الجمهور غير الحنابلة: كل يمين يلزم عنها حكم كالطلاق والعتق والنذر لصيام أو صلاة أو حج وغير ذلك. وخص الحنابلة المحلوف به بالله تعالى أو صفة من صفاته، لا بطلاق أو نذر ونحوهما.
ورأى المالكية والحنابلة: أن من ترك الوطء بغير يمين، لزمه حكم الإيلاء إذا قصد الإضرار، فيحدد له مدة أربعة أشهر، ثم يحكم له بحكم الإيلاء؛ لأنه تارك لوطئها ضرراً بها، فأشبه المولي.

(9/7075)


وكذلك من ظاهر من زوجته، ولم يكفِّر كفارة الظهار، تضرب له مدة الإيلاء ضرراً بها، فأشبه المولي، ويثبت له حكمه، لقصده الإضرار بها أيضاً.

3 - المحلوف عليه: هو الجماع، بكل لفظ يقتضي ذلك، مثل: لا جامعتك ولا اغتسلت منك، ولا دنوت منك، وشبه ذلك من الألفاظ الصريحة والكناية المتقدمة.
4 - المدة: وهي في رأي الجمهور غير الحنفية أن يحلف الزوج ألا يطأ زوجته أكثر من أربعة أشهر. وفي رأي الحنفية: أقل المدة أربعة أشهر فأكثر. فلو حلف على ثلاثة أشهر أوأربعة لم يكن مولياً عند الجمهور، ويكون مولياً عند الحنفية في أربعة أشهر، وليس مولياً في أقل من أربعة أشهر.
وسبب اختلافهم يرجع إلى اختلافهم في الفيء: وهو الرجوع إلى قربان الزوجة، هل يكون قبل مضي الأربعة أشهر أو يكون بعد مضيها؟ فالحنفية قالوا: يكون الفيء قبل مضيها، فتكون مدة الإيلاء أربعة أشهر، والجمهور قالوا: الفيء بعد مضيها، فتكون مدة الإيلاء أزيد من أربعة أشهر.

شروط الإيلاء:
شروط الإيلاء عند الحنفية (1) ستة وهي ما يأتي:
1ً - محلية المرأة بكونها زوجة، ولو حكماً كالمعتدة من طلاق رجعي، وقت تنجيز الإيلاء، فإن كانت المرأة بائنة من زوجها بثلاث أو بلفظ بائن لم يصح الإيلاء منها.
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 750/ 2 وما بعدها، البدائع: 170/ 3 - 173.

(9/7076)


2ً - وأهلية الزوج للطلاق: فصح إيلاء الذمي بغير ما هو قربة محضة من نحو حج وصوم. وفائدة تصحيح إيلاء الذمي، وإن لم تلزمه الكفارة بالحنث: هي وقوع الطلاق بترك قربان المرأة في مدة الإيلاء.
3ً - ألا يقيد بمكان: لأنه يمكن قربان المرأة في غيره.
4ً - ألا يجمع بين الزوجة وغيرها كأجنبية؛ لأنه يمكنه قربان امرأته وحدها بلا لزوم شيء.
5ً - أن يكون المنع من القربان فقط.
6ً - ترك الفيء أي الجماع في المدة المقررة وهي أربعة أشهر؛ لأن الله تعالى جعل عزم الطلاق شرطاً لوقوعه بقوله: {فإن عزموا الطلاق، فإن الله سميع عليم} [البقرة:227/ 2] وكلمة (إن) للشرط، وعزم الطلاق: ترك الفيء في المدة. ودليلهم على أن المدة هي أربعة أشهر: أن الفيئة تكون في مدة الأربعة أشهر، لا بعدها.

وذكر الحنابلة وبقية المذاهب أربعة شروط للإيلاء هي ما يأتي (1):
1ً - أن يحلف الزوج بالله عز وجل أو بصفة من صفاته كالرحمن ورب العالمين ألا يطأ زوجته أكثر من أربعة أشهر أو يحلف عند المالكية والشافعية والحنفية على ترك الوطء بطلاق أو عتاق أو نذر صدقة المال أو الحج أو الظهار، لما قال ابن عباس: «كل يمين منعت جماعها فهي إيلاء» ولأنها يمين منعت جماعها فكانت
_________
(1) الشرح الصغير: 619/ 2 - 625، القوانين الفقهية: ص 241، المهذب: 105/ 2 ومابعدها، المغني: 298/ 7، 300، 311 - 315، كشاف القناع: 407/ 5 - 410، 416، بداية المجتهد: 100/ 2، اللباب: 61/ 3، الدر المختار: 757/ 2، البدائع: 171/ 3، مغني المحتاج: 344/ 3.

(9/7077)


إيلاء كالحلف بالله، ولأن تعليق الطلاق والعتاق على وطئها حلف، فيكون مولياً لتحقق المنع باليمين، وهو ذكر الشرط والجزاء.
ولا يكون الحلف بالطلاق والعتاق إيلاء على الرواية المشهورة عند الحنابلة؛ لأن الإيلاء المطلق إنما هو القسم، بدليل قراءة أبيّ وابن عباس: «للذين يقسمون» مكان (يؤلون) وفسر ابن عباس: (يؤلون) بقوله: (يحلفون بالله) والتعليق بشرط ليس بقسم، فلا يكون إيلاء، وإنما يسمى حلفاً تجوزاً لمشاركته القسم في المعنى المشهور في القسم: وهو الحث على الفعل أو المنع منه أو توكيد الخبر، ويحمل الكلام عند إطلاقه على الحقيقة لا على المجاز.
وإن قال: (إن وطئتك فلله علي صوم أو حج أو عمرة) يكون إيلاء عند الجمهور، وقيده الحنفية بفعل فيه مشقة، لا بصلاة نحو ركعتين، فليس بمولٍ لعدم مشقتهما. والتزام صلاة مئة ركعة يجعله مولياً.
ولا إيلاء أيضاً عند الحنابلة إن حلف على ترك الوطء بنذر أو صدقة مال أو حج أو ظهار أو تحريم مباح ونحوه، فلا يكون الزوج مولياً؛ لأنه لم يحلف بالله تعالى، فأشبه ما لو حلف بالكعبة.
2ً - أن يحلف على ترك الوطء أكثر من أربعة أشهر؛ لأن الله تعالى جعل للحالف تربص أو انتظار أربعة أشهر، فإذا حلف على أربعة أشهر أو ما دونها فلا معنى للتربص؛ لأن مدة الإيلاء تنقضي قبل ذلك أو مع انقضائه، فدل على أنه لايصير بما دون تلك المدة مولياً، ولأن الضرر لا يتحقق بترك الوطء فيما دون أربعة أشهر، بدليل ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه سأل: «كم تصبر المرأة عن الزوج؟ فقيل: شهرين وفي الثالث: يقل الصبر، وفي الرابع: ينفذ الصبر» فإذا نفذ صبرها طالبت، فلا بد من الزيادة على ذلك، ويكفي زيادة لحظة.

(9/7078)


3ً - أن يحلف الزوج على ترك الوطء في القُبُل (أو الفرج): فإن ترك الوطء بغير يمين ولا قصد إضرار، لم يكن مولياً لظاهر الآية: {للذين يؤلون ... } [البقرة:226/ 2] وإن قال: لا وطئتك في الدبر، لم يكن مولياً؛ لأنه لم يترك الوطء الواجب عليه، ولا تتضرر المرأة بتركه، وإنما هو وطء محرم، وقد أكد منع نفسه منه بيمينه.
وكذا إن قال: (والله، لا وطئتك دون الفرج) لم يكن مولياً؛ لأنه لم يحلف على الوطء الذي يطالب في الفيئة، ولا ضرر على المرأة في تركه.
4ً - أن يكون المحلوف عليها امرأته، لقوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر} [البقرة:226/ 2] ولأن غير الزوجة لا حق لها في وطئه، فلا يكون مولياً منها، كالأجنبية. وإن حلف على ترك وطء أجنبية ثم نكحها، لم يكن مولياً؛ لأنه إذا كانت اليمين قبل النكاح لم يكن قاصداً الإضرار، فأشبه الممتنع بغير يمين.
ويصح الإيلاء بالاتفاق من المطلقة الرجعية في العدة؛ لأنها في حكم الزوجة يلحقها الطلاق، فيلحقها الإيلاء.
ولا يصح من المطلقة البائنة، لانقطاع الزوجية.
ويصح الإيلاء من كل زوجة، مسلمة كانت أو ذمية، حرة كانت أو أمة، لعموم قوله سبحانه: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر} [البقرة:226/ 2] ولأن كل واحدة منهن زوجة، فصح الإيلاء منها كالحرة المسلمة.

(9/7079)


ويصح الإيلاء قبل الدخول وبعده، لعموم الآية، ولتوافر المعنى؛ لأنه ممتنع من جماع زوجته بيمينه، فأشبه ما بعد الدخول. ويصح الإيلاء من المجنونة والصغيرة، إلا أنه لا يطالب بالفيئة في الصغر والجنون؛ لأنهما ليسا من أهل المطالبة.
ولا يصح الإيلاء من الرتقاء والقرناء؛ لأن الوطء متعذر دائماً، فلم تنعقد اليمين على تركه، كما لو حلف عى ألا يصعد السماء.
أما الحالف فقد عرفنا شرطه: فهو أن يكون زوجاً عاقلاً بالغاً قادراً على الوطء، ومسلماً عند المالكية. فلا يصح إيلاء غير الزوج، ولا إيلاء الصبي والمجنون؛ لأن القلم مرفوع عنهما وليسا مكلفين، ولا إيلاء المجبوب والأشل، للعجز عن الوطء وتعذره منه قبل اليمين، ولا تتضرر المرأة بيمينه، ويصح عند الحنفية والشافعية والحنابلة إيلاء المسلم والكافر والحر والعبد، والسليم والخصي، والمريض الذي يرجى برؤه، والمحبوس والسكران، لقدرتهم على الوطء، فصح من كل منهم الامتناع عنه ولعموم آية الإيلاء، ولا يصح الإيلاء عند المالكية من الكافر؛ لأنه ليس أهلاً للكفارة عن اليمين، ولأنه ليس أهلاً للمغفرة والرحمة بالفيئة المصرح عنها في الآية: {فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم} [البقرة:226/ 2] فإن الكافر لا تحصل له مغفرة ولا رحمة بالفيئة.
ويصح الإيلاء في حال الرضا والغضب، فلا يشترط في الإيلاء كونه في حال الغضب، ولا قصد الإضرار، لعموم آية الإيلاء، ولأن الإيلاء كالطلاق والظهار وسائر الأيمان، سواء في الغضب والرضا، ولأن حكم اليمين في الكفارة وغيرها سواء في الغضب والرضا، فكذلك في الإيلاء.

(9/7080)


ثالثاً ـ حكم الإيلاء: ليمين الإيلاء عند الحنفية حكم أخروي، وحكم دنيوي (1):
أما الحكم الأخروي: فهو الإثم إن لم يفئ إليها، لقوله تعالى: {فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم} [البقرة:226/ 2] لأن الإيلاء مكروه تحريماً عندهم.
وأما الحكم الدنيوي: فيتعلق بالإيلاء حكمان: حكم الحنث، وحكم البر.
أما حكم الحنث: فهو لزوم الكفارة أو الجزاء المعلق إن حنث في يمينه، فإن وطئها في مدة الأربعة الأشهر، حنث في يمينه، لفعله المحلوف عليه، ويختلف حكم الحنث باختلاف المحلوف به: فإن كان الحلف بالله تعالى أو بصفة من صفاته مثل: (والله لا أقربك)، فتجب عليه كفارة اليمين كسائر الأيمان، وهي إطعام عشرة مساكين يوماً واحداً، أو كسوتهم أو تحرير رقبة، بالنسبة للموسر، فإن لم يجد شيئاً من ذلك، بأن كان معسراً، وجب عليه صيام ثلاثة أيام متتابعات. وإذا لزمته الكفارة سقط الإيلاء.
وإن كان الحلف بالشرط والجزاء مثل: (إن قربتك فعلي حج، أو أنت طالق) فيلزمه الجزاء المعلَّق إن حنث، أي يلزمه المحلوف به كسائر الأيمان المعلقة بالشرط والجزاء.
وأما حكم البر: بأن لم يطأ الزوجة المحلوف عليها أو لم يقربها، فهو وقوع طلقة بائنة، بدون حاجة لرفع الأمر إلى القاضي، بمجرد مضي المدة من غير فيء، أي لم يرجع إلى ما حلف عليه، جزاء على ظلمه، ورحمة على المرأة ونظراً لمصلحتها بتخليصها منه، لتتوصل إلى إيفاء حقها من زوج آخر.
_________
(1) البدائع: 175/ 3 - 177، الدر المختار ورد المحتار: 749/ 2 - 750، اللباب: 60/ 3.

(9/7081)


ودليلهم على كونه طلاقاً بائناً: هو العمل برأي جماعة من الصحابة وهم عثمان وعلي والعبادلة الثلاثة (ابن مسعود وابن عباس وابن عمر) وزيد بن ثابت فإنهم قالوا: إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة، ولأن دفع الظلم عن المرأة لا يكون إلا بالبائن، لتتخلص منه، فتتمكن من الزواج بآخر.
وقدر هذا الطلاق عند الحنفية ما عدا زفر (1): أن الطلاق يتبع المدة، لا اليمين فيكون واحداً باتحاد المدة، ويتعدد بتعددها. وعلى هذا: إذا قال الرجل لامرأته: «والله لا أقربك، أو لا أقربك أربعة أشهر» فإن كان حلف على مدة الإيلاء فقط أربعة أشهر، فقد سقطت اليمين؛ لأنها كانت مؤقتة بوقت، فترتفع بمضيه.
وإن كان حلف على الأبد، فاليمين باقية بعد البينونة لعدم الحنث، فإن عاد إليها فتزوجها ثانياً، عاد الإيلاء؛ لأن زوال الملك بعد اليمين لا يبطلها، فإن وطئها حنث في يمينه ولزمته الكفارة، وسقط الإيلاء؛ لأنه يرتفع بالحنث، وإن لم يطأها وقعت بمضي أربعة أشهر أخرى تطليقة أخرى؛ لأن بالتزوج ثبت حقها، فيتحقق الظلم، فيعتبر ابتداء هذا الإيلاء من وقت التزوج. فإن عاد إليها وتزوجها ثالثاً عاد الإيلاء ووقع بمضي أربعة أشهر أخرى تطليقة أخرى لبقاء طلاق ذلك الملك ببقاء المحلية. فإن عاد إليها وتزوجها رابعاً بعد حلها بتزوج زوج آخر، لم يقع بالإيلاء طلاق، لزوال طلاق ذلك الملك بزوال المحلية، ولكن اليمين باقية لعدم الحنث، فإن وطئها كفَّر عن يمينه لوجود الحنث.
ودليل جمهور الحنفية: أن سبب اعتبار الإيلاء يميناً هو منع حق المرأة في
_________
(1) رأي زفر: أن الطلاق يتبع اليمين، فيتعدد بتعدد اليمين، ويتحد باتحادها؛ لأن وقوع الطلاق ولزوم الكفارة حكم الإيلاء، والإيلاء يمين، فيدور الحكم مع اليمين، فيتحد باتحادها، ويتعدد بتعددها؛ لأن الحكم يدور مع سببه.

(9/7082)


الجماع في المدة، والمنع يتحد باتحاد المدة فيتحد الظلم فيتحد الطلاق، ويتعدد بتعدد المدة فيتعدد الظلم، فيتعدد الطلاق، وأما الكفارة فتجب لهتك حرمة اسم الله عز وجل، والهتك يتحد ويتعدد بحسب اتحاد الاسم وتعدده.

والفيء عند الحنفية (1): نوعان: فعل وقول:
أما الفعل: فهو الجماع في الفرج، فلو جامعها فيما دون الفرج، أو قبَّلها بشهوة، أو لمسها بشهوة، أو نظر إلى فرجها بشهوة، لم يكن ذلك فيئاً؛ لأن حقها في الجماع في الفرج، فصار ظالماً بمنعه، فلا يندفع الظلم إلا به.
وأما القول: فصورته أن يقول لها: فئت إليك، أو راجعتك، أو ما أشبه ذلك.
ويشترط لصحته شروط ثلاثة:
أحدها ـ العجز عن الجماع: فلا يصح الفيء بالقول مع القدرة على الجماع؛ لأن القول بدل عن الجماع، كالتيمم مع الوضوء.
والعجز نوعان: حقيقي وحكمي، أما الحقيقي: فنحو أن يكون أحد الزوجين مريضاً مرضاً يتعذر معه الجماع، أو كانت المرأة صغيرة لا يجامع مثلها، أو رتقاء، أو يكون الزوج مجبوباً، أو يكون بينهما مسافة لا يقدر على قطعها مدة الإيلاء، أو تكون ناشزة محتجبة في مكان لا يعرفه، أو يكون محبوساً لا يقدر أن يدخل بها.
وأما الحكمي أو الشرعي: فمثل أن يكون محرماً وقت الإيلاء، وبينه وبين الحج أربعة أشهر.
_________
(1) البدائع: 173/ 3 وما بعدها.

(9/7083)


والثاني ـ دوام العجز عن الجماع إلى أن تمضي مدة الإيلاء: فلو قدر على الجماع في أثناء المدة، بطل الفيء بالقول، وانتقل إلى الفيء بالجماع. وكذا إن صح من مرضه في المدة بطل الفيء باللسان وصار فيئه بالجماع؛ لأنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود، فيبطل الخلف، كالمتيمم إذا قدر على الماء في الصلاة.
الثالث ـ قيام ملك النكاح وقت الفيء بالقول: وهو أن تكون المرأة في حال الفي إليها زوجته غير بائنة منه، فإن كانت بائنة منه، ففاء بلسانه، لم يكن ذلك فيئاً، ويبقى الإيلاء. وهذا بخلاف الفيء بالجماع، فإنه يصح بعد زوال الملك وثبوت البينونة، فلا يبقى الإيلاء ويبطل؛ لأنه حنث بالوطء، فانحلت اليمين وبطلت.

شرط الفيء بنوعيه: يشترط أن يكون الفيء قبل مضي الأربعة الأشهر، فإن فاء في المدة حنث بيمينه، ولزمته الكفارة، وسقط الإيلاء، وإن لم يفيء حتى مضت أربعة أشهر، بانت منه بتطليقة (1).
الاختلاف في الفيء: إذا اختلف الزوج والمرأة في الفيء مع بقاء المدة، بأن ادعى الزوج الفيء، وأنكرت المرأة، فالقول قول الزوج؛ لأن المدة إذا كانت باقية، فالزوج يملك الفيء فيها، وقد ادعى الفيء في وقت يملك إنشاءه فيه، فكان الظاهر شاهداً له، فكان القول قوله.
وإن اختلفا بعد مضي المدة، فالقول قول المرأة؛ لأن الزوج يدعي الفيء في وقت لا يملك إنشاء الفيء فيه، فكان الظاهر شاهداً عليه للمرأة، فكان القول قولها (2).
_________
(1) الكتاب مع اللباب: 60/ 3.
(2) البدائع: 173/ 3.

(9/7084)


حكم الفيء عند الجمهور غير الحنفية (1):
الكلام فيه يشمل أمرين:

الأول ـ مدة الإمهال بلا قاض: إذا آلى الزوج من زوجته، لم يطالب بشيء من وطء وغيره قبل أربعة أشهر، لقوله عز وجل: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر} [البقرة:226/ 2].
وابتداء المدة من حين اليمين؛ لأنها ثبتت بالنص والإجماع، فلم تفتقر إلى تحديد كمدة العنة التي يحددها القاضي.
فإن وطئها فقد أوفاها حقها قبل انتهاء المدة، وخرج من الإيلاء، وإن وطئها بعد المدة قبل مطالبة المرأة أو بعدها، خرج من الإيلاء أيضاً؛ لأنه فعل ما حلف عليه.
وإن لم يطأ، رفعت الزوجة الأمر إلى القاضي إن شاءت، وحينئذ يأمره القاضي بالفيئة إلى الوطء، فإن أبى، طلق القاضي عليه، ويقع الطلاق رجعياً.
أي أن الطلاق الواجب على المولي عند الجمهور رجعي، سواء أوقعه بنفسه أو طلق الحاكم عليه؛ لأنه طلاق لامرأة مدخول بها من غير عوض، ولا استيفاء عدد، فكان رجعياً كالطلاق في غير الإيلاء، بخلاف فرقة العنة فإنها فسخ لعيب، ولأن الأصل أن كل طلاق وقع بالشرع فيحمل على أنه رجعي إلى أن يدل الدليل على أنه بائن.
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 241 وما بعدها، بداية المجتهد: 99/ 2 - 103، الشرح الصغير: 629/ 2 - 631، مغني المحتاج: 348/ 3 - 351، المهذب: 108/ 2 - 111، المغني: 318/ 7 - 337.

(9/7085)


وأما عند الحنفية فقد تقدم أنه طلاق بائن؛ لأنها فرقة لرفع الضرر، فكان بائناً كفرقة العنة.
والفيئة: الجماع المعروف أو الوطء باتفاق العلماء، وأدنى الوطء تغييب الحشفة في الفرج إن كانت ثيباً، وافتضاض البكارة إن كانت بكراً.
فلو وطئ دون الفرج لم يكن فيئة؛ لأنه ليس بمحلوف على تركه، ولا يزول الضرر على المرأة بفعله. ولا بد من أن يكون الواطئ عالماً عامداً عاقلاً مختاراً، فإن وطئ ناسياً أو مكرهاً أو مجنوناً لم يحنث وبقي الإيلاء، وإن وطئها وطئاً حراماً مثل إن وطئها حائضاً أو نفساء أو محرمة أو صائمة صوم فرض أو كان محرماً أو صائماً أو مظاهراً، حنث وخرج من الإيلاء عند الشافعية والحنابلة، بل حتى لو كان الوطء في الدبر عند الشافعية لحصول المقصود. وقال المالكية والحنفية: إن شرط الوطء الكافي أن يكون حلالاً، فلا يكفي الحرام كما في الحيض والإحرام، ويطالب بالفيئة بعد زوال المانع، وإن حنث بالحرام فيلزمه الكفارة ولا تنحل يمين الإيلاء.
وإذا فاء لزمته الكفارة ـ كفارة اليمين ـ لقوله تعالى: {ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم الأيمان، فكفارته إطعام عشَرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ... } [المائدة:89/ 5] وإن كان الإيلاء بتعليق طلاق، وقع بنفس الوطء؛ لأنه معلق بصفة وقد وجدت. وإن كان على نذر صدقة أو صوم أو صلاة أو حج أو غير ذلك من الطاعات أو المباحات، فيلزمه الوفاء به بالوطء، ويخير عند الشافعية والحنابلة بين الوفاء به وبين كفارة يمين؛ لأنه نذر لجاج وغضب.

(9/7086)


الثاني ـ الفيئة حالة العجز عن الجماع:
أـ إن كان المانع من جهة المرأة يمنع الوطء منعاً شرعياً كحيض ونفاس، أو حسياً كمرض لا يمكن معه الوطء، فلا يطالب الزوج بالفيئة؛ لأن الوطء متعذر من جهتها، فكيف تطلبه أو تطلب ما يقوم مقامه وهو الطلاق، ولأن المطالبة تكون بالمستحق، وهي لاتستحق الوطء حينئذ.
ب ـ وإن كان المانع من الوطء من جهة الزوج مانعاً طبيعياً وهو حبس أو مرض يمنع الوطء، أو يخاف منه زيادة العلة أو بطء البرء، أو مانعاً شرعياً كإحرام بحج أو عمرة، أو كان مغلوباً على عقله بجنون أو إغماء، لم يطالب بالوطء، لأن المجنون والمغمى عليه لا يصلح للخطاب ولا يصح منه الجواب، وتتأخر المطالبة إلى حال القدرة وزوال العذر، ثم يطالب حينئذ. وكذا لا يطالب المحبوس والمريض والمحرم بالوطء بالفعل لتعذره، إنما يطالب بالفيء بالقول، أي بالوعد بالوطء إذا زال مانع المرض أو السجن أو الإحرام أو نحوها، أو بالطلاق إن لم يفئ، بأن يقول: إذا قدرت فئت، أو طلقت؛ لأن بهذا القول يندفع الأذى الموجه للمرأة الذي حصل باللسان.
لكن المذهب عند الشافعية أنه إذا كان في الزوج مانع شرعي كإحرام وظهار قبل التفكير، وصوم واجب، فيطالب بالطلاق؛ لأنه هو الذي يمكنه، ولا يطالب بالفيئة لحرمة الوطء، ويحرم عليها تمكينه.
وإذا انقضت مدة الأربعة أشهر، فادعى أنه عاجز عن الوطء: فإن كان قد وطئها مرة، لم تسمع دعواه العنة، كما لا تسمع دعواها عليه، ويطالب بالفيئة أو بالطلاق كغيره. وإن لم يكن وطئها ولم تكن حاله معروفة، تسمع دعواه ويقبل قوله؛ لأن التعيين من العيوب التي لا يقف عليها غيره، فيقبل قوله مع اليمين.

(9/7087)


وللمرأة أن تطالب الحاكم بأن يضرب له مدة العنة وهي سنة، بشرط أن يفيء فيئة أهل الأعذار وهو الوعد بالوطءعند القدرة على الجماع، فيقول: متى قدرت جامعتها. يتبين من هذا أن الجمهور يتفقون مع الحنفية في أن الفيء يكون بالجماع أو بالقول عند العجز عن الجماع.

اختلاف الزوجين في الإيلاء أو في انقضاء مدته أو في حدوث الفيئة:
إذا اختلف الزوجان في الإيلاء أو في انقضاء مدته: بأنه ادعته عليه، فأنكر فالقول قول الزوج؛ لأن الأصل عدمه، والأصل عدم انقضاء المدة.
وإن اختلفا في الفيئة، فقال الزوج: قد أصبتها، وأنكرت الزوجة:
فإن كانت ثيباً، كان القول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء النكاح، والمرأة تدعي رفعه بما يلزم به الزوج، وهو يدعي ما يوافق الأصل ويبقيه، فكان القول قوله، كما لو ادعى الوطء في العنة كما سبق.
فإن نكل عن اليمين، حلفت الزوجة أنه لم يفء، وبقيت على حقها من الطلب بأن يفيء أو يطلق، فإن لم تحلف بقيت زوجة كما لو حلف.
وأما إن كانت بكراً، واختلفا في الإصابة، أريت النساء الثقات، فإن شهدن بثيوبتها، فالقول قول الزوج بيمينه، وإن شهدن ببكارتها فالقول قولها بيمينها؛ لأنه لو وطئها زالت بكارتها.
وهذا متفق عليه بين الجمهور والحنفية.

الطلاق في مدة الإيلاء: إن طلق المولي، فقد سقط حكم الإيلاء، وبقيت اليمين. فإن عاد فتزوجها عاد عند الجمهور غير الحنفية حكم الإيلاء من حين

(9/7088)


تزوجها، واستؤنفت المدة حينئذ، أي تحسب مدة الإيلاء من وقت الرجعة، فإن كان الباقي من مدة يمينه أربعة أشهر فما دون، عمل بها، وإن كان أكثر من أربعة أشهر، تربص أربعة أشهر، ثم قيل له عند انقضائها: إما أن يفيء أو يطلِّق، فإن لم يطلق طلّق الحاكم عليه تطليقة، وتكون رجعية.
وقد بينت أن الإيلاء يعود عند الحنفية إن كان الطلاق أقل من ثلاث، وإن استوفى عدد الطلاق لم يعد الإيلاء.
ولا يطلق الحاكم عليه سوى تطليقة عند المالكية والشافعية؛ لأن إيفاء الحق يحصل بها، فلم يملك زيادة عليها، كما لم يملك الزيادة على وفاء الدين في حق الممتنع عن إيفائه.
وأجاز الحنابلة للقاضي أن يطلق على الزوج ثلاثاً؛ لأن المولي إذا امتنع من الفيئة والطلاق معاً، قام القاضي مقامه، فإنه يملك من الطلاق ما يملكه المولي، ويكون الأمروالخبرة إليه، إن شاء طلق واحدة، وإن شاء اثنتين، وإن شاء ثلاثاً، وإن شاء فسخ؛ لأن القاضي قام مقام المولي، فملك من الطلاق ما يملكه المولي، كما لو وكله في الطلاق، وليس ذلك زيادة على حقها، فإن حقها الفرقة، غير أنها تتنوع.
والراجح هو الرأي الأول؛ لأن الحاجة كالضرورة تقدر بقدرها، وتتحقق حاجة المرأة بالطلقة الواحدة.

العدة بعد الإيلاء: اتفقت المذاهب الأربعة على أن الزوجة المولى منها تلزمها العدة بعد الفرقة؛ لأنها مطلقة، فوجب أن تعتد كسائر المطلَّقات. وقال جابر بن زيد وهو مروي عن ابن عباس: لا تلزمها عدة إذا كانت قد حاضت في مدة الأربعة الأشهر ثلاث حيضات؛ لأن العدة إنما وضعت لبراءة الرحم، وهذه قد حصلت لها البراءة.

(9/7089)


وسبب الخلاف: أن العدة اشتملت على مصلحة وجانب تعبدي، فمن لحظ المصلحة لم ير عليها عدة،، ومن لحظ جانب التعبد، أوجب عليها العدة.

خلاصة الخلاف بين الحنفية والجمهور في حكم الإيلاء:
اختلف الجمهور مع الحنفية في أمرين:
الأول ـ أن الفيء عند الجمهور يكون قبل مضي المدة، ويكون بعدها. وعند الحنفية: الفيء يكون قبل مضي المدة. وعليه إن حصل الفيء قبل مضي المدة، زال الإيلاء ولزم الحانث كفارة اليمين بالاتفاق. وإن لم يحصل الفيء بعد مضي المدة، رفعت الزوجة الأمر للقاضي، والقاضي يخير الزوج بين أمرين: الفيء أو الطلاق، فإن فعل، وإلا طلق عليه القاضي، ويكون الطلاق رجعياً لا بائناً، وعند الحنفية: الطلاق بائن.
ويجري العمل في مصر وسورية على رأي الجمهور.
الثاني ـ أن الطلاق عند الجمهور لا يقع بمجرد مضي المدة، وإنما يقع بتطليق الزوج، أو القاضي إذا رفعت الزوجة الأمر إليه.
ويرى الحنفية: أنه بمجردمضي مدة الأربعة الأشهر، تطلق الزوجة طلقة بائنة.
وسبب الخلاف: تفسير المقصود من قوله تعالى: {فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} [البقرة:226/ 2 - 227] المعنى عند الحنفية: فإن فاؤوا في هذه الأشهر، فإن الله غفور رحيم لما أقدموا عليه من الحلف على الإضرار بالزوجة، وإن لم يفيئوا في هذه الأشهر، واستمروا في

(9/7090)


أيمانهم، كان ذلك عزماً منهم على الطلاق، ويقع الطلاق بحكم الشرع. فتكون النتيجة: إذا مضت الأربعة أشهر بدون فيئة، وقع الطلاق.
والمعنى عند الجمهور: للذين يحلفون يمين الإيلاء انتظار أربعة أشهر، فإن فاؤوا بعد مضي المدة، فإن الله غفور رحيم لما حدث منهم من اليمين وعزم الظلم للمرأة، وإن عزموا الطلاق بعد انقضاء المدة، فإن الله سميع لطلاقهم، عليم بما يصدر عنهم من خير أو شر، فيجازيهم عليه. والنتيجة: أن مضي الأجل لا يقع به طلاق، وإنما يعرض الأمر على الحاكم، فإما فاء وإما طلق.
الحنفية نظروا لقوله تعالى: {وإن عزموا الطلاق} [البقرة:227/ 2] بترك الفيئة، والجمهور نظروا لقوله تعالى: {فإن فاؤوا} [البقرة:226/ 2] بعد انقضاء المدة، والراجح لدي رأي الجمهور إذ لو وقع الطلاق بانقضاء المدة، لما كان هناك حاجة إلى العزم عليه بعد وقوعه، ولأن في إعطاء المهلة للرجل لمراجعة نفسه، وإدراك خطئه، خيراً من إيقاع الطلاق وإنهاء الزواج.

المبحث الثامن ـ التفريق باللعان:
فيه ثمانية مطالب هي ما يأتي:

تعريف اللعان وسببه، ومشروعيته، أركانه وشروطه، وشروط المتلاعنين، كيفيته ودور القاضي في اللعان، ما يجب عند نكول أحد الزوجين أو رجوعه، هل اللعان شهادات أو أيمان؟، آثار اللعان، ما يسقط اللعان بعد وجوبه وما يبطل به، حكم اللعان قبل التفريق.

(9/7091)


المطلب الأول ـ تعريف اللعان وسببه:
تعريف اللعان: اللعان لغة: مصدر لاعن كقاتل، من اللعن: وهو الطرد والإبعاد من رحمة الله تعالى، وسمي به ما يحصل بين الزوجين؛ لأن كل واحد من الزوجين يلعن نفسه في الخامسة إن كان كاذباً، أو لأن الرجل هو الذي يلعن نفسه، وأطلق في جانب المرأة من مجاز التغليب، فسمي لعاناً لأنه قول الرجل وهو الذي بدئ به في الآية.
وعرفه الحنفية والحنابلة (1) بأنه: شهادات مؤكدات بالأيمان مقرونة باللعن من جهة الزوج وبالغضب من جهة الزوجة، قائمة مقام حد القذف في حق الزوج، ومقام حد الزنا في حق الزوجة. لكن يصح اللعان في النكاح الفاسد في رأي الحنابلة، ولا يصح في رأي الحنفية، كما سيأتي.
وعرفه المالكية (2) بأنه: حلف زوج مسلم مكلف على رؤية زنا زوجته، أو على نفي حملها منه، وحلف زوجة على تكذيبه أربعة أيمان، بصيغة: «أشهد بالله لرأيتها تزني ونحوه» وبحضور حاكم، سواء صح النكاح أو فسد. فلا يصح حلف غير زوج كأجنبي، ولا كافر، ولا صبي أو مجنون، ويكون الحلف بإشراف حاكم يشهد التلاعن، ويحكم بالتفريق، أو يحد من نكل، سواء صح الزواج بين الزوجين، أوفسد لثبوت النسب بالزواج الفاسد.
وعرفه الشافعية (3) بأنه: كلمات معلومة، جعلت حجة للمضطر إلى قذف من لطخ فراشه وألحق العار به، أو إلى نفي ولد.
_________
(1) الدر المختار: 805/ 2، اللباب: 74/ 3، كشاف القناع: 450/ 5.
(2) الشرح الصغير: 657/ 2 وما بعدها، المقدمات الممهدات: 633/ 1.
(3) مغني المحتاج: 367/ 3.

(9/7092)


وسبب اللعان أمران (1):
أحدهما ـ قذف الرجل زوجته قذفاً يوجب حد الزنا لو قذف أجنبية. وهو عند المالكية: ادعاء رؤية الزنى بشرط ألا يطأها بعد الرؤية، فإن ادعى الزنى دون الرؤية، حد للقذف، ولم يجز اللعان على المشهور عندهم خلافاً لغيرهم.
والثاني ـ نفي الحمل أو الولد، ولو من وطء شبهة أو نكاح فاسد.
واشترط المالكية لنفي الحمل: أن يدعي الزوج أنه لم يطأ زوجته لأمد يلحق به الولد، وأن يدعي الاستبراء (2) بحيضة واحدة، وأن ينفيه قبل وضعه، فإن سكت حتى وضعته حد، ولم يلاعن.
أما القذف: فعلى النحو الذي بان في حد القذف يكون إما باللفظ الصريح بالزنا، كقول الشخص: يا زاني أو يا زانية، أو بما يجري مجرى الصريح وهو نفي النسب عن إنسان من أبيه المعروف، كأن يقول: (لست بابن فلان).
أو بلفظ كناية عند الشافعية، كأن يقول: (زنأت في الجبل أو السلَّم أو نحوه)؛ لأن الزنأ في الجبل ونحوه هو الصعود فيه، فإن نوى به القذف كان قذفاً. وهذا من الألفاظ الصريحة عند الحنفية.
أو بالتعريض، مثل: يا حلال ابن الحلال، وأما أنا فلست بزانٍ، وهو قذف إن نوى به القذف عند الشافعية، وإن أفهم تعريضه القذف بالزنا عند المالكية، وليس بقذف عند الحنفية وفي الظاهر عند الحنابلة.
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 244، البدائع: 239/ 3، مغني المحتاج: 367/ 3، 382، المغني: 392/ 7، 423.
(2) الاستبراء: طلب براءة الرحم، وله أسباب، منها الزنا أو سوء الظن، ففي الزنا تستبرأ المرأة بثلاث حيضات، وفي سوء الظن إن كانت المستبرأة في سن الحيض: فاستبراؤها بحيضة، وإن كانت حاملاً فبوضع الحمل، وإن كانت صغيرة أو يائسة فتستبرأ عند الشافعي بشهر، وعند المالكية بثلاثة أشهر.

(9/7093)


ويثبت القذف كما هو مبين في حد القذف إما بالبينة، أو الإقرار.
وأما نفي الولد: فهو أن يحضر الرجل عند الحاكم، ويذكر أن هذا الولد أو الحمل الموجود ليس مني. واختلف الفقهاء في وقت النفي وفي نفي الحمل:
قال أبو حنيفة (1): إذا نفى الرجل ولد امرأته عقيب الولادة، أو في المدة التي تقبل فيها التهنئة وهي سبعة أيام عادة، أو التي تشترى فيها آلة الولادة، صح نفيه، ولاعن به؛ لأنه بالنفي صار قاذفاً. أما إن نفاه بعدئذ فلا ينتفي ويثبت نسب الولد، لوجود الاعتراف منه دلالة: وهو السكوت وقبول التهنئة، والسكوت يعتبر هنا رضا. وهذا هو الصحيح عند الحنفية.
وقال الصاحبان: يصح نفي الولد في مدةالنفاس؛ لأنه أثر الولادة.
واشترط المالكية (2) شرطين لصحة اللعان ولنفي الولد، وهما كما تقدم:
1ً - أن يدعي الزوج أنه لم يطأ زوجته لأمد يلتحق به الولد، أو أنه وطئها واستبرأها بحيضة واحدة بعد الوطء.
2ً - أن ينفي الولد قبل وضعه؛ فإن سكت ولو يوماً بلا عذر حتى وضعته، حد ولم يلاعن، أي أنه يشترط لصحة اللعان التعجيل بعد العلم بالحمل أو الولد، فلو أخر بلا عذر لم يصح.
وأجاز الشافعية (3) نفي حمل، وانتظار وضعه، أما نفي الحمل: فلما ثبت في الصحيحين: «أن هلال بن أمية لاعن عن الحمل»، وأما انتظار الوضع فلكي يلاعن
_________
(1) فتح القدير: 260/ 3 وما بعدها، الكتاب مع اللباب: 79/ 3.
(2) القوانين الفقهية: ص 244، الشرح الصغير: 660/ 2 - 663.
(3) مغني المحتاج: 380/ 3، المهذب: 122/ 2.

(9/7094)


عن يقين.
والنفي لنسب ولد يكون على الفور في الأظهر الجديد؛ لأنه شرع لدفع ضرر محقق، فكان على الفور مثل الرد بالعيب وخيار الشفعة، لكن إن سكت عن النفي لعذر كأن بلغه الخبر ليلاً فأخر حتى يصبح أو كان جائعاًً فأكل، أو عارياً فلبس، صح تأخيره النفي للعذر.
ولم يجز الحنابلة (1) كالحنفية نفي الحمل قبل الوضع، ولا ينتفي حتى يلاعنها بعد الوضع وينتفي الولد فيه؛ لأن الحمل غير متيقن، يجوز أن يكون انتفاخاً أو ريحاً. واشترطوا كالشافعية أن يكون النفي عقب الولادة، فإذا ولدت المرأة ولداً فسكت عن نفيه مع إمكانه، لزمه نسبه، ولم يكن له نفيه بعدئذ.
والحاصل أن للفقهاء رأيين في نفي الحمل: رأي الحنفية والحنابلة بعدم الجواز لاحتمال كونه غير حمل، ورأي المالكية والشافعية بالجواز، محتجين بحديث هلال بن أمية وأنه نفى حملها، فنفاه عنه النبي صلّى الله عليه وسلم، وألحقه بالأول، ولا خفاء بأنه كان حملاً، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «انظروها، فإن جاءت به كذا وكذا» ولأن الحمل مظنون بأمارات تدل عليه، ولأنه يصح استلحاق الحمل، فكان نفيه كنفي الولد بعد وضعه. قال ابن قدامة: وهذا القول هو الصحيح لموافقته ظواهر الأحاديث، وما خالف الحديث لا يعبأ به كائناً ما كان.
وشرط اللعان: التعجيل عند الجمهور بعد علم الزوج بالحمل أو الولد، وأجاز أبو حنيفة اللعان عقب الولادة أو بعدها بسبعة أيام.

المطلب الثاني ـ مشروعية اللعان:
شرع اللعان بين الزوجين بقوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم، ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسُهم، فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله، إنه لمن الصادقين،
_________
(1) المغني: 423/ 7 - 424.

(9/7095)


والخامسةُ أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله، إنه لمن الكاذبين، والخامسةَ أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين} [النور:6/ 24 - 8].
وسبب نزولها: ما أخرجه الجماعة إلا مسلماً والنسائي عن ابن عباس: «أن هلال بن أمية (1) قذف زوجته عند النبي صلّى الله عليه وسلم بشَرِيك بن سَحْماء، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: البينة أو حد في ظهرك! فقال: يا نبي الله، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق، يلتمس البينة، فجعل النبي صلّى الله عليه وسلم يكرّر ذلك، فقال هلال: والذي بعثك بالحق نبياً، إني لصادق، ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد، فنزلت الآيات» (2).
فكان أول لعان في الإسلام: ما حدث بين هلال بين أمية وزوجته، وهذا رأي الجمهور، وقد حكى الماوردي عن أكثر العلماء أن قصة هلال أسبق من قصة عويمر. وروى الجماعة إلا الترمذي عن سهل بن سعد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لعويمر العجلاني: «قد نزل فيك وفي صاحبتك، فاذهب فأت بها، فتلاعنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم» (3). وهذا رأي النووي في شرح مسلم أن السبب في نزول آية اللعان: قصة عويمر العجلاني.
يختلف بهذا حكم الزوجين عن الأجانب في حال القذف، فإن قذف إنسان غيره، أو اتهم رجل امرأة ليست زوجة له بالزنا، وكانت عفيفة، ولم يأت بأربعة يشهدون بصحة اتهامه، فإنه يحد حد القذف وهو ثمانون جلدة، زجراً له ولأمثاله عن ارتكاب هذه المعصية، ودفعاً للعار عن المقذوف.
_________
(1) هو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم، كما جاء في رواية ابن عباس عند أبي داود.
(2) رواه الجماعة إلا مسلماً والنسائي عن ابن عباس (نيل الأوطار: 272/ 6).
(3) نيل الأوطار: 268/ 6.

(9/7096)


أما إن اتهم الزوج زوجته بالزنا أو نفى نسب ولدها منه، ولم يأت بأربعة يشهدون على ادعائه، فلا يحد حد القذف، وإنما يشرع في حقه اللعان. هذا .. وقد اتفقت الروايات في بيان أسباب نزول آيات اللعان على أمور ثلاثة (1):
أولها ـ أن آيات اللعان نزلت بعد آية قذف المحصنات بتراخ عنها وأنها منفصلة عنها.
والثاني ـ أنهم كانوا قبل نزول آيات اللعان يفهمون من قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات .. } [النور:4/ 24] وهي آية القذف: أن حكم من رمى المرأة الأجنبية وحكم من رمى زوجته سواء.
والثالث ـ أن آيات اللعان نزلت تخفيفاً على الزوج وبياناً للمخرج مما وقع فيه مضطراً.
ومقتضى مشروعية اللعان: جواز الدعاء باللعن على كاذب معين، كجواز الدعاء باللعن على الظالم لقوله تعالى: {ألا لعنة الله على الظالمين} [هود:18/ 11].

المطلب الثالث ـ أركان اللعان وشروطه وشروط المتلاعنين:
ركن اللعان عند الحنفية (2) واحد وهو اللفظ، وهو: شهادات مؤكدات باليمين واللعن من كلا الزوجين.
_________
(1) مذكرة آيات الأحكام بالأزهر الشريف: 135/ 3.
(2) الدر المختار: 806/ 2.

(9/7097)


وقال الجمهور (1): أركان اللعان أربعة: وهي الملاعن، والملاعنة، وسببه، ولفظه.

شروط اللعان: وأما شروطه فنوعان: شروط وجوب اللعان، وشروط صحة إجراء اللعان.
أولاً ـ شروط وجوب اللعان: هي عند الحنفية ثلاثة (2):
1ً - قيام الزوجية مع امرأة ولو غير مدخول بها، وكذا ولوفي أثناء العدة من طلاق رجعي، لقوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم} [النور:6/ 24] فلا لعان بين غير الزوجين أو بقذف امرأة أجنبية، فإن قذفها ثم تزوجها فعليه حد القذف ولا يلاعن؛ لأنه وجب في حال كونها أجنبية، ولا لعان بقذف زوجة صارت ميتة؛ لأن الميتة لم تبق زوجة، ولأنه لا يتأتى اللعان منها، ولا لعان بقذف المرأة المبانة، ويحد زوجها الأصلي كالأجنبي. وهذا شرط متفق عليه فإنه عند الجمهور يصح اللعان منها، وبه يصح اللعان عند الجمهور من غير زوج في حالتين: البائن لنفي الولد، والموطوءة بنكاح فاسد أو شبهة. ولو ارتد زوج بعد وطء فقذف وأسلم في العدة، لاعن. ولو لاعن ثم أسلم في العدة صح لعانه، لتبين وقوعه في صلب النكاح.
2ً - كون النكاح صحيحاً لافاسداً: فلا لعان بقذف المنكوحة بنكاح فاسد؛ لأنها أجنبية. وخالفهم بقية الأئمة (3)، أجازوا اللعان من امرأة نكحها نكاحاً
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 243 وما بعدها.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 805/ 2 وما بعدها، البدائع: 241/ 3، فتح القدير: 259/ 3، اللباب: 75/ 3، 78.
(3) الشرح الصغير: 658/ 2، مغني المحتاج: 378/ 3 وما بعدها، غاية المنتهى: 201/ 3، المغني: 398/ 7، 400 ....

(9/7098)


فاسداً لثبوت النسب به، كالزواج بلا ولي أو بدون شهود، ثم قذفها، لكن جواز اللعان في هذه الحالة مقيد بما إذا وجد بينهما ولد يريد الزوج نفيه، فإن لم يكن بينهما ولد، حد الزوج ولا لعان بينهما.
3ً - كون الزوج أهلاً للشهادة على المسلم، بأن يكون طرفا اللعان زوجين حرين عاقلين بالغين مسلمين ناطقين غير محدودين في قذف، فلا لعان بين كافرين ولا من أحدهما عبد أو صبي أو مجنون أو محدود في قذف أو كافر، أو أخرس للشبهة. ويصح بين الأعميين والفاسقين؛ لأنهما أهل لأداء الشهادة، لكن لا تقبل شهادتهما للفسق ولعدم قدرة الأعمى على التمييز، والحاصل أن الحنفية اشترطوا أهلية الشهادة في الزوج؛ لأن كلمات اللعان شهادات، واشترطوا أيضاً أن تكون الزوجة ممن يحد قاذفها؛ لأن اللعان بدل عن حد القذف في الأجنبية. ولم يشترط الجمهور هذين الشرطين.
لكن اشترط المالكية (1) الإسلام في الزوج فقط لا في الزوجة، فإن الذمية تلاعن لرفع العار عنها، وقالوا: يشترط في المتلاعنين كونهما بالغين عاقلين، سواء أكانا حرين أم مملوكين، عدلين أم فاسقين. ويقع اللعان في حال العصمة اتفاقاً، وفي العدة من الطلاق الرجعي والبائن خلافاً للحنفية، وبعد العدة في نفي الحمل إلى أقصى مدة الحمل. ويقع اللعان من الزوجين في النكاح الصحيح والفاسد.
ولم يشترط الشافعية والحنابلة (2) الإسلام في المتلاعنين، وقالوا: يصح اللعان من كل زوج يصح طلاقه، بأن يكون الزوجان مكلفين أي بالغين عاقلين، سواء أكانا مسلمين أم كافرين أم عدلين أم فاسقين أم محدودين في قذف أم كان
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 243، بداية المجتهد: 117/ 2.
(2) مغني المحتاج: 378/ 3 ومابعدها، المهذب: 124/ 2، المغني: 394/ 7 - 402

(9/7099)


أحدهما كذلك. ويصح اللعان أيضاً من الحر والعبد والرشيد والسفيه والسكران ومن الناطق والأخرس والخرساء المعلومي الإشارة عند الشافعية، ومن المطلّق رجعياً، ويصح من الزوج للمطلقة بائناً لنفي الولد، وكذا عند الحنابلة إذا لم يكن هناك ولد.
ويصح عندهم لعان الموطوءة بنكاح فاسد أو شبهة كأن ظنها زوجته ثم قذفها، ولاعن لنفي النسب، كما تقدم.
ولا يصح اللعان بالاتفاق من صبي ومجنون، فإن كان أحد الزوجين غير مكلف فلا لعان بينهما؛ لأن اللعان قول تحصل به الفرقة، ولا يصح من غير مكلف كالطلاق أو اليمين. ولا لعان بين غير الزوجين، فإذا قذف الشخص أجنبية محصنة (عفيفة) حُدّ حد القذف ولم يلاعن.
ولا فرق بين كون الزوجة مدخولاً بها أو غير مدخول بها في أنه يلاعنها بالاتفاق، لقوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم} [النور:6/ 24] فإن كانت غير مدخول بها، فلها نصف الصداق؛ لأنها فرقة من جهة الزوج. ويلاعن الأخرس أو معتقل اللسان عند الحنابلة، ولا تلاعن الخرساء عند الحنابلة؛ لأنه لا تعلم مطالبتها، واتفقوا على أنه لا يصح اللعان من الأخرس والخرساء غير معلومي الإشارة والكتابة.
والخلاصة: أن الحنفية اشترطوا في المتلاعنين الإسلام والنطق والحرية والعدالة، وكون اللعان في حال قيام الزوجية حقيقة أو حكماً كالرجعية لا البائنة، وخالفهم الجمهور فيما شرطوه، إلا أن المالكية شرطوا إسلام الزوج فقط، واتفقوا على اشتراط التكليف: البلوغ والعقل. ويصح اللعان من الأخرس عند الجمهور غير الحنفية.

(9/7100)


وذكر الحنابلة والشافعية شروطاً ثلاثة للعان هي (1):
1ً - كونه بين زوجين، ولو قبل دخول، كما تقدم.
2ً - سبق قذف الزوجة بزنا، ولو في دبر: مثل قوله: زنيت أو يا زانية أو رأيتك تزنين. وهذا متفق عليه كما تقدم في سبب اللعان. وللرجل قذف زوجته إن علم زناها، أو ظنه ظناً مؤكداً كشيوع زناها بفلان مع قرينة بأن رآهما في خلوة.
3ً - أن تكذبه ويستمر التكذيب إلى انقضاء اللعان، فإن صدقته ولو مرة، أو عفت الزوجة عن الحد أو التعزير، أو سكتت، أو ثبت زناها بأربعة سواه، فلا لعان ويلحقه النسب. وكذا لا لعان عند الحنابلة من الخرساء

لغة اللعان: يصح اللعان عند الجمهور غير الحنابلة بالعربية وبالعجمية (هي ما عدا العربية من اللغات)؛ لأن اللعان يمين أو شهادة، وهما في اللغات سواء، ويراعي الأعجمي الملاعن ترجمة الشهادة واللعن والغضب (2).
وقال الحنابلة (3) إذا كان الزوجان يعرفان العربية، لم يجز أن يلتعنا بغيرها؛ لأن اللعان ورد في القرآن بلفظ العربية.

ثانياً ـ شروط صحة إجراء اللعان في ذاته: ذكر الحنابلة شروطاً ستة في إجراء اللعان، بعضها متفق عليه وبعضها مختلف فيه، وهي ما يأتي (4):
_________
(1) غاية المنتهى: 201/ 3 - 202، مغني المحتاج: 367/ 3، 373، المهذب: 119/ 2، كشاف القناع: 456/ 5 - 463.
(2) مغني المحتاج: 376/ 3، المهذب: 124/ 2.
(3) المغني: 438/ 7.
(4) المغني: 434/ 7 - 438، المهذب: 125/ 2 - 126، مغني المحتاج: 376/ 3 - 378، الشرح الصغير: 658/ 2، 663 - 665، الدر المختار: 807/ 2 وما بعدها، البدائع: 237/ 3.

(9/7101)


1ً - أن يكون بحضور القاضي أو نائبه، وهذا متفق عليه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «أمر هلال بن أمية أن يستدعي زوجته إليه ولاعن بينهما» ولأنه يمين في دعوى، فلم يصح إلا بأمر الحاكم كاليمين في سائر الدعاوى. وهذا يتطلب رفع الأمر إلى الحاكم من أحد الزوجين، فإن تراضى الزوجان بغير الحاكم بإجراء اللعان بينهما لم يصح ذلك؛ لأن اللعان مبني على التغليظ والتأكيد، فلم يجز بغير الحاكم كالحد.
2ً - أن يكون بعد طلب القاضي: بأن يأتي كل واحد منهما باللعان بعد إلقائه عليه، فإن بادر به قبل أن يلقيه القاضي عليه، لم يصح، كما لو حلف قبل أن يحلفه القاضي. وهذا متفق عليه أيضاً.
3ً - استكمال لفظات اللعان الخمسة: فإن نقص منها لفظة، لم يصح. وهذا متفق عليه.
4ً - أن يأتي كل من الزوجين بصورة اللعان، كما حددها القرآن. واختلف الفقهاء في إبدال لفظة بمعناها، كأن يبدل بقوله: إني لمن الصادقين قوله: (لقد زنت)، أو يقول بدل {إنه لمن الكاذبين} [النور:8/ 24]: (لقد كذب)، والظاهر عند الحنابلة أنه يجوز هذا الإبدال؛ لأن معناهما واحد.
أما إن أبدل بلفظة (أشهد) لفظا من ألفاظ اليمين، فقال: أحلف أو أقسم أو أولي، فلا يعتد به عند الشافعية والحنابلة على الصحيح؛ لأن ما اعتبر فيه لفظ الشهادة، لم يقم غيره مقامه، كالشهادات في الحقوق، ولأن اللعان يقصد فيه التغليظ، واعتبار لفظ الشهادات أبلغ في التغليظ، فلم يجز تركه، ولهذا لم يجز أن يقسم بالله من غير كلمة تقوم مقام: أشهد. والظاهر أن هذا رأي المالكية والحنفية أيضاً.

(9/7102)


5ً - الترتيب بين ألفاظ اللعان، وأن يبدأ الرجل بالحلف على المرأة، ثم تحلف المرأة، فإن قدم لفظة اللعنة على شيء من الألفاظ الأربعة، أو قدمت المرأة لعانها على لعان الرجل، لم يعتد به. وهذا متفق عليه؛ لأن اللعان على رأي الحنفية شهادة، والمرأة بشهادتها تقدح في شهادة الزوج، فلا يصح قبل وجود شهادته.
6ً - الإشارة من كل واحد منهما إلى صاحبه إن كان حاضراً، وتسميته ونسبته إن كان غائباً. وهذا متفق عليه بين الفقهاء، ولا يشترط عند الشافعية والحنابلة: حضور الزوجين معاً، بل لو كان أحدهما غائباً عن صاحبه جاز، كأن يلاعن الرجل في المسجد، والمرأة على باب المسجد، لعدم إمكان دخولها.
هذا وقد اشترط المالكية حضور جماعة للعان، أقلها أربعة عدول. وقال الشافعية والحنابلة: يستحب أن يكون اللعان بمحضر جماعة من المسلمين؛ لأن ابن عباس وابن عمر وسهل بن سعد حضروه على حداثة منهم، فدل على أنه حضره جمع كثير من الناس؛ لأن الصبيان إنما يحضرون المجالس تبعاً للرجال، ولأن اللعان بني على التغليظ، مبالغة في الردع به والزجر، وفعله في الجماعة أبلغ في الردع. ويستحب ألا ينقصوا عن أربعة؛ لأن بينة الزنا الذي شرع اللعان من أجل الرمي به أربعة.
واشترط المالكية أيضاً لصحة اللعان: عدم وطء الزوجة مطلقاً بعد رؤيتها تزني، أو بعد علمه بحمل من غيره، أو وضع، فإن وطئ المرأة الملاعنة بعد علمه بحمل من غيره أو وضع، أو رؤية لها تزني، امتنع اللعان لها ولا يمكَّن منه.
واشترطوا أيضاً تعجيل اللعان بعد علمه بالحمل أو الولد: فإن أخر لعانها ولو يوماً بلا عذر بعد علمه بالحمل أو الوضع أو رؤية الزنا، امتنع لعانه لها ولا يمكَّن منه أيضاً.

(9/7103)


واشترطوا أيضاً لفظ (أشهد) في الأربع مرات منه أو منها، واللعن منه في الخامسة، والغضب منها في الخامسة، كما ورد في النص القرآني في أيمان اللعان.
ويلاعن الزوج إن رأى زوجته يقيناً تزني، والرؤية من البصير كرؤية المِرْوَد في المُكحلة، وأما الأعمى فيعتمد على حِس أو جَسّ أو إخبار يفيده المطلوب ولو من امرأة.

شروط نفي الولد:
اشترط الحنفية (1) ستة شروط لنفي الولد وعدم لحوق النسب وهي ما يأتي:
1ً - حكم القاضي بالتفريق بين الزوجين: لأن الزواج قبل التفريق قائم، فلا يجب النفي.
2ً - أن يكون نفي الولد في رأي أبي حنيفة بعد الولادة مباشرة أو بعدها بيوم أو يومين أو نحوهما إلى سبعة أيام مدة التهنئة بالمولود عادة، فإن نفاه بعدئذ لا ينتفي.
وقال الصاحبان: يتقدر نفي الولد بأكثر مدة النفاس وهي أربعون يوماً.
وشرط الجمهور الفور في النفي، فإن أخر بلا عذر، لم يصح النفي، كما تقدم.
3ً - ألا يتقدم منه إقرار بالولد ولو دلالة أو ضمناً، كقبوله التهنئة بالمولود مع عدم الرد.
_________
(1) البدائع: 246/ 3 - 248، حاشية ابن عابدين: 811/ 2، اللباب: 79/ 3.

(9/7104)


4ً - توافر حياة الولد وقت التفريق القضائي، أي أن يكون الولد حياً وقت التفريق.
5ً - ألا تلد بعد التفريق ولداً آخر من بطن واحد: فلو ولدت المرأة ولداً، فنفاه عنه، ولاعن الحاكم بينهما، وفرق، وألزم الولد أمه، أو لزمها بنفس التفريق، ثم ولدت ولداً آخر من الغد، لزمه الولدان جميعاً، لثبوت نسب الولد الثاني الذي لم يشمله اللعان؛ لأن حكم اللعان قد بطل بالفرقة، فيثبت نسب الولد الثاني، ثم يثبت نسب الولد الأول.
6ً - ألا يكون محكوماً بثبوت نسب الولد شرعاً: كأن ولدت المرأة ولداً، فانقلب على رضيع، فمات الرضيع، وقضي بديته على عاقلة (عصبة) الأب، ثم نفى الأب نسبه، فيلاعن القاضي بينهما، ولا يقطع نسب الولد؛ لأن القضاء بالدية على عاقلة قضاء بكون الولد منه، ولا ينقطع النسب بعده.

وقد سبق إيراد شرطين لنفي الحمل عند المالكية (1) وهما تفصيلاً مايأتي:
1ً - أن يدعي أنه لم يطأ الزوجة أصلاً بعد العقد، أو لأمد يلحق به، أو أنه وطئها ولكنه استبرأها بحيضة واحدة؛ فإن لم يطأها أصلاً بعد العقد، أو وطئها وأتت بالولد بعد الوطء في مدة لا يلتحق الولد فيها بالزوج، إما لقصر المدة كأن تلد ولداً كاملاً بعد شهر أو شهرين أو خمسة بعد الدخول أو الوطء؛ لأن أقل الحمل شرعاً ستة أشهر، وإما لطول المدة كخمس سنين؛ لأن أقصى مدة الحمل أربع سنين بعد الوطء، ففي هاتين الحالتين يعتمد على ذلك، ويعلم أن الولد ليس من الزوج قطعاً ويلاعن لنفيه.
_________
(1) الشرح الصغير: 660/ 2 - 664، القوانين الفقهية: ص 244.

(9/7105)


وكذلك يلاعن لنفي الولد لو وطئها واستبرأها بحيضة واحدة بعد الوطء، ثم أتت بولد بعد ستة أشهر من يوم الاستبراء بالحيضة، إذ هو ليس منه قطعاً.
2ً - أن ينفي الولد قبل وضعه: فإن سكت ولو يوماً بلا عذر حتى وضعته، حدّ الزوج ولم يلاعن.

أما الشافعية (1) فأجازوا نفي الولد أثناء الحمل أو بعد الولادة مباشرة، فإن أخر بلا عذر أو قبل التهنئة بالمولود، سقط حقه في النفي؛ لأن التأخر يتضمن الإقرار به. فإن ادعى أنه لم يعلم بالولادة، فإن كان في موضع قريب منها كدار أو محلة لم يقبل قوله؛ لأنه يدعي خلاف الظاهر، وإن كان في موضع يجوز أن يخفي عليه كالبلد الكبير، فالقول قوله مع يمينه؛ لأن ما يدعيه ظاهر.
وقالوا: لا يصح نفي أحد توأمين، فإن أتت المرأة بولدين توأمين، فنفى أحدهما وأقر بالآخر، أو ترك نفيه من غير عذر، لحقه الولدان؛ لأنهما حمل واحد؛ لأن الله تعالى لم يجر العادة بأن يجتمع في الرحم ولدان من ماء رجلين، فإذا اشتمل الرحم على المني، انسد فمه، فلا يتأتى منه قبول مني آخر، فلا يجوز أن يلحق أحد الولدين دون الآخر.
ويلزم الزوج نفي ولد أتت به زوجته وعلم أنه ليس منه، بأن وطئها وولدته لدون ستة أشهر من الدخول، أو فوق أربع سنين، فلو ولدته فيما بين ستة أشهر من الدخول وأربع سنين منه، ولم يستبرئها بعد الدخول بحيضة، حرم نفي الولد باللعان رعاية للزوجية (2)، وإن ولدته بعد ستة أشهر من الاستبراء بحيضة، ولستة
_________
(1) مغني المحتاج: 373/ 3، 381، 383، المهذب: 122/ 2 - 123.
(2) لما رواه أبو داود والنسائي وغيرهما عن أبي هريرة أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «أيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه، احتجب الله منه يوم القيامة، وفضحه على رؤوس الخلائق».

(9/7106)


أشهر فأكثر من الزنا، حل نفي الولد باللعان في الأصح، ولكن الأولى ألا ينفيه؛ لأن الحامل قد ترى الدم.

وقال الحنابلة (1): يشترط لنفي الولد باللعان ما يأتي:
1ً - ألا يتقدمه إقرار به، أو بتوأمه، أو ما يدل عليه، كما لو نفى أحد التوأمين وسكت عن الآخر. وهذا موافق للشافعية.
2ً - أن يعجل نفي الولد بعد الولادة: فإن هنئ به فسكت أو أمَّن على الدعاء، أو أخر نفيه مع إمكانه، رجاء موته، بلا عذر، نحو جوع وعطش ونوم، سقط حقه في النفي.
فإن قال: لم أعلم بالولد، أو أخر النفي لعذر كحبس ومرض وغيبة وحفظ مال، لم يسقط نفيه. وهذا موافق للشافعية أيضاً.
3ً - أن يذكر نفي الولد في لعان كل من الزوجين؛ لأنهما متحالفان على شيء فاشترط ذكره في تحالفهما كالمختلفين في اليمين، فإن لم يذكر الولد في اللعان لم ينتف عن الزوج.
ويكفي عند الشافعية ذكر الولد في لعان الرجل، ولا تحتاج المرأة إلى ذكره؛ لأنها لا تنفيه.
وذكْر الولد في ظاهر كلام الخرقي وهو الراجح لدى الحنابلة: أن يقول الزوج في لعانه: (وما هذا الولد ولدي) وتقول المرأة: (وهذا الولد ولده). وقال القاضي أبو يعلى والشافعية: يشترط أن يقول الزوج: (هذا الولد من زنا، وليس هو مني)؛ لأنه قد يريد بقوله: (ليس هو مني) يعني خُلقاً وخَلْقاً، فكان لا بد من ذكره للتأكيد.
_________
(1) المغني: 416/ 7 - 417، 439، غاية المنتهى: 304/ 3.

(9/7107)


4ً - أن يوجد اللعان من كلا الزوجين. وهذا قول أكثر العلماء. وقال الشافعي: ينتفي الولد بلعان الزوج وحده؛ لأن نفي الولد إنما كان بيمينه والتعانه، لا بيمين المرأة على تكذيبه، ولا معنى ليمين المرأة في نفي النسب وهي تثبته وتكذب قول من ينفيه، وإنما لعانها لدرء الحد عنها. ورد الجمهور بأن النبي صلّى الله عليه وسلم إنما نفى الولد عنه بعد تلاعنهما.
5ً - أن تكمل ألفاظ اللعان منهما جميعاً.
6ً - أن يبدأ بلعان الزوج قبل لعان المرأة، وقال المالكية والحنفية: إن فعل العكس أخطأ السنة، والفرقة جائزة، وينتفي الولد عنه.

المطلب الرابع ـ كيفية اللعان ودور القاضي فيه:
كيفية اللعان أو صفته أو ألفاظه: اتفق الفقهاء (1) على كيفية اللعان أو صفته (أي ماهيته) على النحو التالي:
إذا قذف الزوج زوجته بالزنا أو نفى نسب ولدها منه، ولم تكن له بينة، ولم تصدقه الزوجة، وطلبت إقامة حد القذف عليه، أمره القاضي باللعان، بأن يبتدئ القاضي بالزوج، فيقول أمامه أربع مرات: (أشهد بالله، إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا أو نفي الولد) بأن يحدد المقصود بالإشارة إليها إن كانت حاضرة، أو بالتسمية بأن يقول: (فيما رميت به فلانة زوجتي من الزنا)، ثم يقول في الخامسة: (لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به من الزنا أو نفي الولد) ويشير الزوج إليها في جميع ما ذكر.
_________
(1) اللباب: 76/ 3، رد المحتار: 810/ 2، الشرح الصغير: 664/ 2، القوانين الفقهية: ص 244، بداية المجتهد: 118/ 2، مغني المحتاج: 374/ 3 وما بعدها، المهذب: 126/ 2، غاية المنتهى: 199/ 3، المغني: 436/ 7.

(9/7108)


ثم تقول المرأة أربع مرات أيضاً: (أشهد بالله، إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا أو نفي الولد) وتقول في الخامسة: (أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني به من الزنا أو نفي الولد) وإنما خص الغضب وهو أشد من اللعن (1) في جانب المرأة؛ لأن النساء يتجاسرن باللعن، فإنهن يستعملن اللعن في كلامهن كثيراً، كما ورد في الحديث، فاختير الغضب لتتقي ولا تقدم عليه، ولأن جريمتها وهي الزنا أعظم من جريمة الرجل وهي القذف. وإنما وجب البدء بالرجل في اللعان؛ لأنه المدعي، وفي الدعاوى يبدأ بالمدعي.
ودليل هذه الكيفية قوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم، ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم، فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله، إنه لمن الصادقين، والخامسة ُ أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسةَ أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين} [النور:6/ 24 - 9].
وثبت في السنة النبوية الصحيحة تأكيد هذه الكيفية بأحاديث، منها حديث ابن عمر: قال: يا رسول الله، أرأيت لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة، كيف يصنع؟ إن تكلم، تكلم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثل ذلك، قال: فسكت النبي صلّى الله عليه وسلم فلم يُجبْه، فلما كان بعد ذلك، أتاه، فقال: إن الذي سألتك عنه ابتليتُ به، فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات في سورة النور: {والذين يرمون أزواجهم} [النور:6/ 24] فتلاهن عليه، ووعظه وذكره، وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فقال: لا والذي بعثك بالحق، ما كذبتُ عليها، ثم دعاها فوعظها وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فقالت: لا والذي بعثك بالحق إنه لكاذب.
_________
(1) الغضب: هو السخط وإنزال العذاب بالمغضوب عليه.

(9/7109)


وأما اللعن فهو الطرد من الرحمة، ولا يلزم منه التعذيب. بدأ الرجل، فشهد أربع شهادات بالله، إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم ثنى بالمرأة، فشهدت أربع شهادات بالله، إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ثم فرق بينهما (1).
وبداءة الزوج باللعان هو رأي الجمهور، وقال أبو حنيفة: يجزئ أن تبدأ المرأة باللعان، وقال الكاساني في البدائع: ينبغي أن تعيد، لأن اللعان شهادة المرأة، وشهادتها تقدح في شهادة الزوج، فلا تصح إلا بعد وجود شهادته.

مندوبات اللعان ودور القاضي فيه: يسن للقاضي ما يأتي (2):
1ً - أن يعظ المتلاعنين قبل اللعان، ويخوفهما بعذاب الله في الآخرة، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم مع ابن عمر وزوجته في الحديث السابق، وقال عليه الصلاة والسلام لهلال: «اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة» ويقرأ عليهما: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً} الآية [آل عمران:3/ 77] ويقول لهما: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم للمتلاعنين: «حسابكما على الله، يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما من تاب».
2ً - لا يحكم القاضي في اللعان حتى يثبت عنده نكاح الزوجين.
3ً - أن يتلاعن الزوجان قائمين، ليراهما الناس، ويشتهر أمرهما، فيقوم الرجل عند لعانه، والمرأة جالسة، ثم تقوم عند لعانها، ويقعد الرجل، ويتكلم المتلاعنان بألفاظ اللعان، وهي أربع شهادات.
_________
(1) حديث متفق عليه بين أحمد والبخاري ومسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عمر (نيل الأوطار: 267/ 6).
(2) القوانين الفقهية: ص 244 وما بعدها، الشرح الصغير: 665/ 2 - 667، مغني المحتاج: 376/ 3 - 378، المغني: 434/ 7 - 437، غاية المنتهى: 300/ 3، كشاف القناع: 454/ 5 - 455.

(9/7110)


4ً - أن يحضر جماعة من المسلمين اللعان، وأقلها أربعة عدول، وأوجبه المالكية.
5ً - أن يغلظ اللعان في الزمان والمكان في رأي المالكية والشافعية، والحنابلة على الراجح، بأن يكون بعد صلاة، لما فيه من الردع والرهبة، أو بعد صلاة العصر؛ لأنها الصلاة الوسطى على الراجح، أو بعد صلاة عصر الجمعة؛ لأن ساعة الإجابة فيه، كما رواه أبو داود والنسائي
وصححه (1)، ولأن اليمين الفاجرة بعد العصر أغلظ عقوبة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكّيهم، ولهم عذاب أليم، وعدَّ منهم رجلاً حلف يميناً كاذبة بعد العصر، يقتطع بها مال امرئ مسلم» (2).
ويكون لعان المسلم في المسجد؛ لأنه أشرف الأماكن، وأوجبه المالكية فيه؛ لأن فيه تأثيراً في الزجر عن اليمين الفاجرة.
وأشرف الأماكن هو في مكة: بين الركن الذي فيه الحجر الأسود وبين مقام إبراهيم صلّى الله عليه وسلم، ويسمى ما بينهما بالحطيم، وفي المدينة: عند المنبر مما يلي القبر الشريف، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من حلف على منبري هذا يميناً آثمة، تبوأ مقعده من النار» (3) وقوله: «لا يحلف عند هذا المنبر عبد ولا أمة يميناً آثمة ولو على سواك رطب إلا وجبت له النار» (4).
واللعان في بيت المقدس في المسجد عند الصخرة المشرفة؛ لأنها أشرف
_________
(1) وروى مسلم: أنها من مجلس الإمام على المنبر إلى أن تنقضي الصلاة، وصوبه النووي.
(2) متفق عليه بين البخاري ومسلم عن أبي هريرة.
(3) رواه النسائي، وصححه ابن حبان.
(4) رواه ابن ماجه، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين.

(9/7111)


بِقاعه؛ لأنها قبلة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وعند ابن حبان: «أنها من الجنة».
واللعان في غير المساجد الثلاثة يكون عند منبر الجامع؛ لأنه المعظم منه.
وتلاعن امرأة حائض أو نفساء أو متحيرة مسلمة عند باب المسجد الجامع.
ويلاعن ذمي أو كتابي في بِيعة (وهي معبد النصارى) وفي كنيسة (وهي معبد اليهود) (1)؛ لأن معابدهم كالمساجد عندنا، ويلاعن مجوسي في بيت نار، لأنهم يعظمونه، والمقصود الزجر عن الكذب، فيحضره القاضي رعاية لاعتقادهم لشبهة الكتاب التي يدعونها. ولا يلاعن في بيت أصنام وثني؛ لأنه لا حرمة له، واعتقادهم فيه غير شرعي.
ولا يغلظ اللعان في رأي القاضي أبي يعلى من الحنابلة، والحنفية بمكان ولا زمان؛ لأن الله تعالى أطلق الأمر به، ولم يقيده بزمن ولا مكان، فلا يجوز تقييده إلا بدليل، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر الرجل بإحضار امرأته، ولم يخصه بزمن، ولو خصه به لنقل ولم يهمل.

المطلب الخامس ـ ما يجب عند نكول أحد الزوجين عن اللعان أو رجوعه عنه:
قد يمتنع أحد الزوجين عن اللعان بعد طلبه من القاضي، وقد يرجع عنه ويُكذب نفسه، فماذا يفعل القاضي؟
_________
(1) وتسمى البيعة أيضاَ كنيسة، بل هو العرف اليوم.

(9/7112)


أما في حال نكول أحد الزوجين عن اللعان بعد طلبه منه، فقد اختلف الفقهاء في حكمه على رأيين (1):
أـ ذهب الحنفية: إلى أنه إن امتنع الزوج عن اللعان حبس حتى يلاعن أو يكذب نفسه، فيحد حد القذف. وإن امتنعت الزوجة عن اللعان حبست حتى تلاعن أو تصدق الزوج فيما ادعاه عليها، فإن صدقته خلي سبيلها من غير حد؛ لأن قوله: {ويدرأ عنها العذاب} [النور:8/ 24] أي الحبس عندهم وعند الحنابلة.
ب ـ وذهب الجمهور غير الحنفية: إلى أنه إن امتنع الزوج عن اللعان أو امتنعت الزوجة حُدّ حد القذف؛ لأن اللعان بدل عن حد الزنا، لقوله تعالى: {ويدرأ عنها العذاب} [النور:8/ 24] أي العذاب الدنيوي وهو الحد عندهم، فلا يندرئ الحد عن الزوجة مثلاً إلا بلعانها.
إلا أن الحنابلة وافقوا الحنفية فيما إذا امتنعت الزوجة عن اللعان أخذاً بمدلول الآية السابقة: {ويدرأ عنها العذاب} [النور:8/ 24] فإن لم تلاعن وجب ألا يدرأ عنها العذاب، فتحبس حتى تقر بالزنا أربع مرات أو تلاعن.
ومنشأ الخلاف بين الحنفية والجمهور في حال امتناع الزوج عن اللعان: هو اختلافهم في الموجَب الأصلي لقذف الزوجة، أهو اللعان أم الحد؟ قرر الحنفية بأن الموجب الأصلي هو اللعان، واللعان واجب، لقوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم، ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم، فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله}
_________
(1) الدر المختار: 808/ 2، اللباب: 75/ 3، البدائع: 238/ 3، بداية المجتهد: 119/ 2، القوانين الفقهية: ص 245، مغني المحتاج: 371/ 3، 382، المهذب: 119/ 2، المغني: 392/ 7، 397، 404، غاية المنتهى: 202/ 3، كشاف القناع: 463/ 5.

(9/7113)


[النور:6/ 24] أي فليشهد أحدهم أربع شهادات بالله، فإنه تعالى جعل موجب قذف الزوجات هو اللعان، فمن أوجب الحد فقد خالف النص، فصارت آية حد القذف بالنسبة للزوجات منسوخة في حق الأزواج، وأصبح الواجب بقذف الزوجة هو اللعان، فإذا امتنع عنه حبس حتى يلاعن، كالمدين إذا امتنع عن إيفاء دينه، فإنه يحبس حتى يوفي ما عليه.
وقرر الجمهور: أن الموجب الأصلي هو حد القذف، واللعان مسقط له، لعموم قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء، فاجلدوهم ثمانين جلدة} [النور:4/ 24] فإنه عام في الأجنبي والزوج، ويجب الحد على كل قاذف، سواء أكان زوجاً أم غيره، ثم جعل الالتعان للزوج مقام الشهود الأربعة الذين يثبت بشهادتهم الزنا، فوجب عليه إذا امتنع عن اللعان الموجب الأصلي وهو حد القذف.
ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لهلال بن أمية لما قذف زوجته بالزنا: «البينة أو حد في ظهرك».
ورأي الجمهور أرجح لقوة أدلتهم من القرآن والسنة. وبناء عليه إذا قذف الزوج زوجته المحصنة (العفيفة) وجب عليه حد القذف، وحكم بفسقه، ورد شهادته، إلا أن يأتي ببينة أو يلاعن، فإن لم يأت بأربعة شهداء، أو امتنع عن اللعان، لزمه ذلك كله.
وقد يجب على الزوج في حال امتناعه عن اللعان التعزير فقط، كما في حال قذف غير المحصنة كالمرأة الكتابية، والأمَة، والمجنونة، والطفلة، فإنه يجب عليه التعزير به، لإلحاقه العار بها بالقذف، ولا يحد لهن حداً كاملاً لنقصانهن بما ذكر، ولا يتعلق به فسق، ولا رد شهادة؛ لأن القذف لهؤلاء لا يوجب الحد. وله أن يلاعن لدرء التعزير عنه؛ لأنه تعزير قذف.

(9/7114)


وبه تكون القاعدة: كل موضع لا لعان فيه، فالنسب لاحق بالزوج، ويجب بالقذف موجبه من الحد أو التعزير، إلا أن يكون القاذف صغيراً أو مجنوناً، فلا تعزير أو ضرب فيه، ولا لعان بالاتفاق.

رجوع الزوج عن اللعان: إذا أكذب الزوج نفسه بعد اللعان، فاتفق أئمة المذاهب الأربعة (1) على أنه يحد حد القذف، ويكون للزوجة الحق في مطالبة القاضي بالحد، سواء كذَّب نفسه قبل لعانها أو بعده؛ لأن اللعان أقيم مقام البينة في حق الزوج، فإذا أكذب نفسه، بأن قال: كذبتُ عليها، فقد زاد في هتك حرمتها، وكرر قذفها، فلا أقل من أن يجب عليه الحد الذي كان واجباً بالقذف المجرد.
فإن عاد عن إكذاب نفسه، وقال: لي بينة أقيمها بزناها أو أراد إسقاط الحد عنه باللعان، لم يسمع منه؛ لأن البينة واللعان لتحقيق ما قاله، وقد أقر بكذب نفسه، فلا يسمع منه خلافه.
وهذا كله فيما إذا كانت المقذوفة محصنة (عفيفة) فإن كانت غير محصنة، فعليه التعزير.
وإن أكذب الملاعن نفسه قبل لعان المرأة، حد حد القذف، وبقيت الزوجية، فتبقى له زوجة، لكن لا تبقى زوجة بعد لعانها.
ومتى أكذب نافي الولد نفسه بعد نفيه الولد، وبعد اللعان، لحقه نسب الولد، حياً كان الولد، أو ميتاً، غنياً كان الولد أو فقيراً؛ لأن اللعان يمين أو شهادة (بيّنة) فإذا أقر بما يخالفها أخذ بإقراره، وسقط حكم اللعان، ثم إن النسب يحتاط لثبوته قدر الإمكان، ويتم التوارث بين الأب والولد؛ لأن الإرث تابع للنسب، وقد ثبت فتبعه الإرث.
_________
(1) الدر المختار: 812/ 2، الكتاب مع اللباب: 75/ 3، بداية المجتهد: 120/ 2، القوانين الفقهية: ص245، مغني المحتاج: 380/ 3، غاية المنتهى: 202/ 3، 204، كشاف القناع: 468/ 5.

(9/7115)


المطلب السادس ـ هل ألفاظ اللعان شهادات أو أيمان؟ تبين في بحث شروط المتلاعنين أن الحنفية قالوا: إنما يجوز اللعان لمن كان من أهل الشهادة، فلا لعان إلا بين مسلمين حرين عدلين، وتشترط في المتلاعنين: الحرية والعقل والبلوغ والإسلام والنطق وعدم الحد في القذف.
وقال الجمهور: يصح اللعان من كل زوجين مكلفين، سواء أكانا مسلمين أم كافرين أم عدلين أم فاسقين أم محدودين في قذف أم كان أحدهما بتلك الصفة، أم كان من الأخرس.
ومنشأ الخلاف في محدود القذف والأخرس والكافر هو: هل ألفاظ اللعان شهادات أو أيمان؟
رأى الحنفية (1): أن اللعان شهادات مؤكدة بالأيمان مقرونة باللعن وبالغضب، وإنه في جانب الزوج قائم مقام حد القذف، وفي جانب الزوجة قائم مقام حد الزنا. ودليلهم آية اللعان: {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم، فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله} [النور:6/ 24] سمى الأزواج شهداء، وسمى اللعان شهادة في النص: {فشهادة أحدهم} [النور:6/ 24] وجعل عددها كعدد شهادات الزنا. وإذا كان اللعان شهادة، فيشترط فيها ما يشترط في الشهادة على المسلم.
وقال الجمهور (2): سميت ألفاظ اللعان شهادات، وهي في الحقيقة أيمان، واللعان يمين، وإن كان يسمى شهادة، لقوله صلّى الله عليه وسلم في قصة لعان هلال بن أمية:
_________
(1) البدائع: 241/ 3 وما بعدها، اللباب: 75/ 3، 78.
(2) بداية المجتهد: 118/ 2، مغني المحتاج: 374/ 3، المغني: 392/ 7 وما بعدها.

(9/7116)


«
لولا الأيمان لكان لي ولها شأن» (1) ولأنه لا بد في اللعان من ذكر اسم الله تعالى وذكر جواب القسم، ولو كان شهادة لما احتاج إليه، ولأنه يستوي فيه الرجل والمرأة، ولو كان شهادة لكانت المرأة على النصف من الرجل فيه، ولأنه يجب تكراره أربعاً، والمعهود في الشهادة عدم التكرار، أما اليمين فتتكرر كما في أيمان القسامة، ولأن اللعان يكون من الطرفين، والشهادة لا تكون إلا من طرف واحد وهو المدعي.
أما تسمية اللعان شهادة، فلقول الملاعن في يمينه: (أشهد بالله) فسمي اللعان شهادة وإن كان يميناً، فقد يعبر عن الشهادة باليمين كما في قوله تعالى: {إذا جاءك المنافقون قالوا: نشهد} [المنافقون:1/ 63] ثم قال: {اتخذوا أيمانهم جُنَّة} [المنافقون:2/ 63] وأجمعوا على جواز لعان الأعمى، ولو كان شهادة لما جاز لعانه.
وإذا كان اللعان يميناً، فلا يشترط فيه ما يشترط في الشهادة، وتفرع عن الخلاف اختلافهم في الأخرس، فقال الجمهور: يلاعن الأخرس إذا فهم عنه. وقال الحنفية: لا يلاعن؛ لأنه ليس من أهل الشهادة.
والراجح لدي رأي الجمهور لقوة أدلتهم من السنة والمعقول، ولأن اللعان شرع للحاجة، والحاجة تتسع لأناس ولو لم يكونوا أهلاً للشهادة. وهذا هو أيضاً رأي العترة (آل البيت).
_________
(1) رواه الجماعة إلا مسلماً والنسائي عن ابن عباس (نيل الأوطار: 274/ 6).

(9/7117)


المطلب السابع ـ أحكام أوآثار اللعان:
يترتب على اللعان بين الزوجين أمام القاضي الآثار التالية (1):
1ً - سقوط حد القذف أو التعزير عن الزوج، وسقوط حد الزنا عن الزوجة. فإن لم يلاعن الرجل وجب عليه عند غيرالحنفية حد القذف إن كانت الزوجة الملاعنة محصنة، والتعزير إن كانت غير محصنة، وإن لم تلاعن المرأة وجب عليها عند الشافعية والمالكية حد الزنا من جلد البكر ورجم المحصنة (المتزوجة).
2ً - تحريم الوطء والاستمتاع بعد التلاعن من كلا الزوجين، ولو قبل تفريق القاضي، لحديث: «المتلاعنان لا يجتمعان أبداً» (2).
3ً - وجوب التفريق بينهما: لا تتم الفرقة عند الحنفية إلا بتفريق القاضي، لقول ابن عباس في قصة هلال بن أمية: «ففرَّق النبي صلّى الله عليه وسلم بينهما» (3) وهذا يقتضي أن الفرقة لم تحصل قبله، فلو مات أحدهما قبل التفريق ورثه الآخر، ولو طلقها الزوج وقع طلاقه.
وقال المالكية، والحنابلة في الراجح من الروايتين عن أحمد: تقع الفرقة باللعان دون حكم حاكم؛ لأن سبب الفرقة وهو اللعان قد وجد، فتقع الفرقة به من غير حاجة إلى تفريق القاضي، ولقول عمر رضي الله عنه: «المتلاعنان يفرق بينهما، ولا يجتمعان أبداً».
_________
(1) البدائع: 244/ 3 - 248، فتح القدير: 253/ 3 وما بعدها، الدر المختار: 806/ 2 ومابعدها، اللباب: 77/ 3 - 78، القوانين الفقهية: ص 244 وما بعدها، بداية المجتهد: 120/ 2 وما بعدها، الشرح الصغير: 668/ 2 وما بعدها، المقدمات الممهدات: 637/ 1 وما بعدها، مغني المحتاج: 376/ 3، 380، المهذب: 127/ 2، المغني: 410/ 7 - 416، غاية المنتهى: 203/ 3.
(2) رواه الدارقطني عن ابن عباس، ورواه أبو داود عن سهل بن سعد (نيل الأوطار: 271/ 6).
(3) رواه أحمد وأبو داود (نيل الأوطار: 274/ 6).

(9/7118)


وقال الشافعي رحمه الله: تحصل الفرقة بلعان الزوج وحده، وإن لم تلاعن المرأة؛ لأنها فرقة حاصلة بالقول، فتحصل بقول الزوج وحده كالطلاق. قال ابن قدامة في المغني: ولا نعلم أحداً وافق الشافعي على هذا القول.
4ً - هذه الفرقة طلاق بائن عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأنها بتفريق القاضي كما في التفريق بسبب العنة، وكل فرقة من القاضي تكون طلاقاً بائناً، لكن لا تعود المرأة إلى الزوجية إلا في حالتين:
أـ أن يكذِّب الرجل نفسه، ولو دلالة كأن مات الولد المنفي، فادعى الزوج نسبه؛ لأن هذا يعتبر رجوعاً عن الشهادة، والشهادة لا حكم لها بعد الرجوع عنها، ويحد حينئذ حد القذف، ويثبت نسب الولد منه إن كان. وكذلك تعود المرأة إلى الزوجية إن صدقته، أي المرأة.
ب ـ أن يخرج أحد الزوجين عن أهلية الشهادة؛ إذ به ينتفي سبب التفريق، فلو زنت المرأة أو قذفت غيرها، فحدت، جاز لزوجها أن يتزوجها، لانتفاء أهلية اللعان من جانبها.
وإذا كان الطلاق بائناً وجب للمرأة النفقة والسكنى في عدتها، ويثبت نسب ولدها إلى سنتين إن كانت معتدة، وإن لم تكن معتدة فإلى ستة أشهر.
وقال الجمهور وأبو يوسف: فرقة اللعان فسخ كفرقة الرضاع، وتوجب تحريماً مؤبداً، فلا يعود المتلاعنان إلى الزوجية بعدها أبداً؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم: «المتلاعنان لا يجتمعان أبداً»، ولأن اللعان ليس طلاقاً، فكان فسخاً كسائر ما ينفسخ به الزواج، ولأن اللعان قد وجب وهو سبب التفريق، وأما تكذيب الرجل نفسه أو خروج أحد المتلاعنين عن أهلية الشهادة، فلا ينفي وجود سبب التفريق، بل هو باق، فيبقى حكمه.

(9/7119)


ورأى الشافعي: أن الفرقة تحصل بلعان الزوج، وإن لم تلاعن الزوجة. فإن كان كاذباً، أو أكذب نفسه، فلا يفيده ذلك عود النكاح، ولا رفع تأبيد الحرمة؛ لأنهما حق له وقد بطلا باللعان، فلا يتمكن من عودهما، بخلاف الحد ولحوق النسب، فإنهما يعودان لأنهما حق عليه.
5ً - انتفاء نسب الولد عن الرجل، وإلحاقه بأمه إذا كان اللعان لنفي النسب. ويترتب على نفي النسب عدم التوارث، وعدم إلزام النفقة، سواء نفقة الآباء على الأبناء أو نفقة الأبناء على الآباء.
وتظل بعض الأحكام بالنسبة للولد: وهي عدم جواز شهادة الولد لأصله الملاعن أو الأصل لفرعه، وعدم القصاص من الرجل بقتل الولد المنفي، وعدم صحة إلحاق نسب الولد المنفي بالغير، لاحتمال أن يكذب الرجل نفسه فيعود نسبه منه، وبقاء المحرمية، فلا يجوز أن يزوج الرجل بنته لمن نفى نسبه منه؛ لأنه يحتمل كونه ابناً له.

المطلب الثامن ـ ما يسقط اللعان بعد وجوبه وما يبطل به حكم اللعان قبل التفريق:
أولاً ـ ما يسقط اللعان بعد وجوبه: قرر الحنفية (1): أن اللعان يسقط بما يأتي:
1ً - طروء عدم أهلية اللعان أو ما يمنع وجوب اللعان من أصله: كل ما يمنع وجوب اللعان إذا طرأ بعد وجوبه يسقط، مثل الجنون أو الردة، أو الخرس،
_________
(1) البدائع: 243/ 3 وما بعدها، الدر المختار: 809/ 2.

(9/7120)


أوقذف إنسان آخر فحد حد القذف، أو وطء المرأة وطئاً حراماً كالزنا والوطء بشبهة. ففي هذه الحالات لا يجب الحد، وإذا وجب سقط بهذه العوارض لانتفاء أهلية اللعان؛ لأن اللعان شهادة، ولا بد من بقاء صفة الشهادة إلى إصدار الحكم.
2ً - البينونة بالطلاق أو الفسخ أو الموت: إذا طلق الزوج امرأته بعد القذف، أو فسخ الزواج بسبب فاسخ، أو مات أحد الزوجين، سقط اللعان والحد، أما سقوط اللعان فلزوال الزوجية، وقيام الزوجية شرط إ جراء اللعان كما تقدم، وأما عدم وجوب الحد، فلأن القذف أوجب اللعان، فلم يوجب الحد.
أما لو طلَّق الرجل امرأته طلاقاً رجعياً، فلا يسقط اللعان؛ لأن الطلاق الرجعي لا يبطل الزوجية.
3ً - موت شاهد القذف أو غيبته: يسقط اللعان بموت شاهد القذف وغيبته، إذ لو مات أو غاب لا يقضى بشهادته.
4ً - تكذيب الزوج نفسه أو تصديقها الزوج في القذف: لو أكذب الزوج نفسه سقط اللعان، لتعذر الإتيان به، إذ من المحال أن يؤمر أن يشهد بالله إنه لمن الصادقين، وهو يقول: إنه كاذب، ويجب عليه حد القذف، لأن القذف صحيح.
ولو صدقت المرأة الزوج في القذف يسقط اللعان أيضاً لتعذر الإتيان به؛ لأنها أكذبت نفسها في الإنكار، لكن لا حد عليها؛ لأن اللعان لو وجب لا يثبت الزنا عليها، فلا تزول عفتها باللعان، فلا تحد حد الزنا هنا بالأولى لسقوط اللعان.
وذكر الحنابلة (1) ثلاث حالات لسقوط اللعان:
1ً - طروء عارض من عوارض الأهلية: كالجنون، والزنا، وخرس المرأة.
_________
(1) غاية المنتهى: 202/ 3، كشاف القناع: 451/ 5، المغني: 406/ 7.

(9/7121)


2ً - تصديق المرأة زوجها في القذف أو عفوها، أو سكوتها. وسبب هاتين الحالتين اشتراطهم: أن تكذبه ويستمر التكذيب إلى انقضاء اللعان.
3ً - موت الزوج قبل اللعان أو قبل إتمام اللعان، فإذا قذف الزوج امرأته ثم مات قبل لعانهما أو قبل إتمام لعانه، سقط اللعان، ولحقه الولد، وورثته المرأة بالاتفاق؛ لأن اللعان لم يوجد فلم يثبت حكمه. وكذلك يسقط اللعان عندهم إن مات الزوج بعد أن أكمل لعانه وقبل لعانها.
وقال الشافعي: تبين المرأة بلعان الزوج، وإن لم تلاعن الزوجة أو كان كاذباً، ويسقط التوارث، وينتفي الولد، ويلزم المرأة الحد إلا أن تلاعن.

ثانياً ـ ما يبطل به حكم اللعان بعد وجوده قبل التفريق: رأى الحنفية (1): أن كل ما يسقط اللعان بعد وجوبه، يبطل به حكم اللعان (أي أثره) بعد وجوده، قبل التفريق مثل جنون أحد الزوجين أو كليهما بعد اللعان قبل التفريق، أو خرسه أو خرسهما، أو ردته أو ردتهما، أو صيرورة أحدهما محدوداً في قذف، أو صيرورة المرأة موطوءة وطئاً حراماً، وإكذاب أحدهما نفسه حتى لا يفرق الحاكم بينهما ويبقيان على زواجهما.
وذلك لأن الأصل عندهم أن بقاء الزوجين على حال اللعان من الأهلية، شرط بقاء حكم اللعان؛ لأن اللعان عندهم شهادة، ولا بد من بقاء الشاهد على صفة الشهادة إلى وقت إصدار الحكم القضائي، فإذا زالت صفة الشهادة بهذه العوارض، فلا يجوز للقاضي التفريق.
_________
(1) البدائع: 248/ 3 وما بعدها، الدر المختار: 812/ 2.

(9/7122)


المبحث التاسع ـ التفريق بسبب الظهار:
فيه خمسة مطالب:
الأول ـ تعريف الظهار وحكمه الشرعي وأحواله تنجيزاً وإضافة وتعليقاً وتأقيتاً.
الثاني ـ ركن الظهار وشروطه.
الثالث ـ أثر الظهار أو ما يحرم على المظاهر.
الرابع ـ كفارة الظهار.
الخامس ـ انتهاء حكم الظهار.

المطلب الأول ـ تعريف الظهار وحكمه الشرعي وأحواله تنجيزاً وإضافة وتعليقاً وتأقيتاً:
الظهار شبيه بالإيلاء في أن كلاً منها يمين تمنع الوطء، ويرفع منعه الكفارة، وهو شبيه أيضاً باللعان على رأي الجمهور في أنه يمين لا شهادة. وكان الأولى ذكر الظهار عقب الإيلاء كما فعل فقهاؤنا، لكني أخرته إلى ما بعد اللعان لتوقف اللعان على التفريق القضائي الذي هو عنوان الفصل، وأما الظهار فيأتي التفريق فيه فقط إذا امتنع الزوج عن التكفير.
والظهار لغة: مصدر مأخوذ من الظهر، مشتق من قول الرجل إذا ظاهر امرأته: (أنت علي كظهر أمي)، وكان طلاقاً في الجاهلية، ويقال: كانوا في الجاهلية إذا كره أحدهم امرأته، ولم يرد أن تتزوج بغيره، آلى منها أو ظاهر، فتبقى لا ذات زوج ولا خلية عن الأزواج تستطيع أن تنكح غير زوجها الأول، فغيَّر الشارع حكمه إلى تحريم الزوجة بعد العود (العزم على الوطء) ولزوم الكفارة.

(9/7123)


والظهار شرعاً: هو أن يشبه الرجل زوجته بامرأة محرمة عليه على التأبيد، أو بجزء منها يحرم عليه النظر إلىه كالظهر والبطن والفخذ، كأن يقول لها: أنت علي كظهر أمي أو أختي، أو بحذف كلمة (علي).
وتعريفات فقهاء المذاهب متقاربة، وهي ما يأتي، عرفه الحنفية بقولهم (1): تشبيه المسلم زوجته، أو ما يعبر به عنها من أعضائها، أو جزءاً شائعاً منها، بمحرَّمة عليه تأبيداً. فلا ظهار لذمي عندهم، ويشمل الظهار الزوجة الكتابية والصغيرة والمجنونة، ويمكن تشبيه الزوجة، أو ما يعبر به عنها كالرأس والرقبة، أو تشبيهه جزءاً شائعاً من الزوجة كقوله: نصفك ونحوه، والمشبه به إما جملة القريبة المحرم مثل: أنت علي كأمي، أو عضو يحرم النظر إليه من أعضاء محرمة عليه نسباً أو مصاهرة أو رضاعاً كالظهر وغيره. وإنما خص هذا اليمين باسم الظهار تغليباً للظهر؛ لأنه كان الأصل في استعمالهم.
فلو شبه زوجته بمن تحرم عليه مؤقتاً، لم يكن ظهاراً، مثل: أنت علي كظهر أختك أو عمتك، فإن الأخت والعمة تحرمان حرمة مؤقتة، أو قال: كمطلقتي ثلاثاً، فإنها تحرم حتى تنكح زوجاً غيره، أو كالمجوسية لجواز إسلامها، وكذا لو شبهها بجزء لا يحرم النظر إليه كالوجه والرأس، لا يكون ظهاراً.
ولو شبهها بشيء يحرم عليه من غير النساء كالخمر والخنزير، لم يكن ظهاراً، ويرجع فيه إلى نيته، فإن قصد به طلاقاً، كان طلاقاً بائناً، وإن قصد التحريم أو لم يقصد شيئاً كان إيلاء.
ولو شبهها بفرج أبيه أو قريبه كان مظاهراً. لكن لو قالت: أنت علي كظهر أبي أو ابني، لا يصح؛ لأن المظاهر به ليس من جنس النساء.
_________
(1) الدر المختار: 790/ 2، فتح القدير: 225/ 3، اللباب: 67/ 3، البدائع: 233/ 3.

(9/7124)


وعرفه المالكية (1) بقولهم: الظهار: تشبيه المسلم المكلف من تحل من زوجة أو أمة أو جزأها بمحرَّمة عليه أو بظهر أجنبية، وإن تعليقاً أو مقيداً بوقت. فلا ظهار لكافر، ولا لصبي ومجنون ومكره، ويتحقق الظهار بتشبيه الزوجة، مثل أنت أمي، أو جزء منها كيدها ورجلها، ولا ظهار في قوله: أنت علي كظهر زوجتي النفساء أوالمُحْرِمة بحج؛ لأن التحريم لها عليه ليس أصالة، فالظهار: تشبيه الزوجة بالمحرمة عليه أصالة، أو المحرمة عليه وقت اليمين مثل ظهر أجنبية. وبه يتفق الحنفية والمالكية في عدم صحة ظهار الكافر، ويختلفون في تشبيه الزوجة بظهر امرأة أجنبية. فلا ينعقد عند الحنفية؛ لأن التحريم مؤقت، وينعقد بنية الظهار عند المالكية، لأن التحريم الحالي أصيل.
والظهار المعلق بشرط عندهم مثل: إن دخلت الدار فأنت علي كظهر أمي، وإن تزوجتك فأنت علي كظهر أمي. أما إن علقه بأمر محقق نحو: إن جاء رمضان فأنت علي كظهر أمي أو فلانة الأجنبية، أو إن طلعت الشمس في غد فأنت علي كظهر أمي، تنجز من الآن، ومنع منها حتى يكفِّر.
وإن قيد الظهار بوقت، مثل: أنت علي كظهر أمي في هذا اليوم أوالشهر، انعقد مؤبداً، ولا ينحل إلا بالكفارة.
وعرفه الشافعية (2) بأنه: تشبيه الزوجة غير البائن بأنثى لم تكن حلالاً على التأبيد. فلا يصح من صبي ومجنون ومغمى عليه ولا من مكره، ويصح من ذمي لعموم آية الظهار، ولا يصح تشبيه الزوجة بغير محرَّمة على التأبيد، ولو شبهها بأجنبية ومطلقة، وأخت زوجة، وأب للمظاهر، وملاعنة له ومجوسية ومرتدة،
_________
(1) الشرح الصغير: 634/ 2 وما بعدها، المقدمات الممهدات: 599/ 1.
(2) مغني المحتاج: 352/ 3 - 354.

(9/7125)


فكلامه لغو؛ لأن الثلاثة الأولى لا يشبهن الأم في التحريم المؤبد، ولأن الأب أو غيره من الرجال كالابن والغلام ليس محلاً للاستمتاع، وأما الملاعنة أو المجوسية أو المرتدة وإن كان تحريمها مؤبداً، فليس التحريم بسبب القرابة المحرمية، فهم كالحنفية في التشبيه بالمحرمة تأبيداً. والأظهر أن قوله: كيدها أو بطنها أو صدرها ظهار، وكذا كعينها إن قصد ظهاراً، وإن قصد كرامة فلا يعد ظهاراً، وكذلك قوله: رأسك أو ظهرك أو يد ك علي كظهر أمي: ظهار في الأظهر. ومثله الرجل أو الجلد أو البدن أو الشعر ونحو ذلك.
وعرفه الحنابلة (1) بقولهم: أن يشبه الزوج امرأته أو عضواً منها بظهر من تحرم عليه على التأبيد، كأمه وأخته من نسب أو رضاع، أو حماته، أو يشبهها بظهر من تحرم عليه تحريماً مؤقتاً كأخت امرأ ته وعمتها وخالتها، أو يشبهها برجل كأبيه أو زيد، أو بعضو منه كظهره أو رأسه، ولو بغير عربية، أو اعتقد الحل، أي حل المشبه بها من أم وأخت كمجوسي قال لزوجته: أنت علي كظهر أختي، وهو يعتقد حل أخته، فلا أثر لاعتقاده ذلك، ويكون مظاهر.
فهم كالشافعية يجيزون ظهار الكافر، ولكن يخالفونهم في جواز تشبيه الزوجة بالمحرمة تحريماً مؤقتاً، أو بمن لا يحل الاستمتاع به، وأجازوا كالمالكية الظهار من الأجنبية.

حكمه الشرعي: الظهار محرَّم (2)، لقول الله تعالى: {وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً} [المجادلة:2/ 58] ومعناه أن الزوجة ليست كالأم في التحريم، قال تعالى: {ما هن أمهاتهم} [المجادلة:2/ 58] وقال تعالى: {وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم} [الأحزاب:4/ 33].
_________
(1) كشاف القناع: 425/ 5، غاية المنتهى: 190/ 3.
(2) المقدمات الممهدات: 600/ 1، المهذب: 111/ 2 وما بعدها، المغني: 337/ 7، البدائع: 229/ 3.

(9/7126)


أحوال الظهار في العادة: يصح الظهار بالاتفاق منجزاً، كقوله: أنت علي كظهر أمي، ويكون الظهار عند أكثر الفقهاء من الزوج لا من الزوجة (1)، فلو ظاهرت المرأة من زوجها كان ظهارها عند الحنفية لغواً، فلا حرمة عليها ولا كفارة. وكذلك قال بقية المذاهب: ليس ذلك بظهار، لقوله تعالى: {والذين يظاهرون منكم من نسائهم} [المجادلة:2/ 58] فخص الأزواج بالظهار، ولأنه قول يوجب تحريماً على الزوجة يملك الزوج رفعه، فاختص به الرجل كالطلاق، ولأن حل الاستمتاع بالمرأة حق للرجل، فلم تملك المرأة إزالته كسائر حقوقه.
لكن أوجب عليها الإمام أحمد في رواية راجحة عنه كفارة الظهار؛ لأنها قد أتت بالمنكر من القول والزور، وفي رواية عنه: عليها كفارة اليمين، قال ابن قدامة: وهذا أقيس على مذهب أحمد وأشبه بأصوله؛ لأنه ليس بظهار، ومجرد القول من المنكر والزور لا يوجب كفارة الظهار بدليل سائر الكذب. وفي رواية ثالثة: ليس عليها كفارة، وهو قول بقية الأئمة، لأنه قول منكر وزور، وليس بظهار، فلم يوجب كفارة كالسب والقذف.

الظهار المعلق: أجاز الحنفية (2) إضافة الظهار إلى ملك أو سبب الملك، مثال الأول: أن يقول لأجنبية: إن صرت زوجة لي فأنت علي كظهر أمي.
ومثال الثاني: إن تزوجتك فأنت علي كظهر أمي، وأجازوا إضافته إلى وقت مثل: أنت علي كظهر أمي في رأس شهر كذا، لقيام الملك، وتعليقه أثناء الزواج مثل: إن دخلت الدار أو إن كلمت فلاناً، فأنت علي كظهر أمي لوجود الملك وقت اليمين. لكن تعليق الظهار بمشيئة الله تبطله.
_________
(1) الدر المختار: 791/ 2، المغني: 384/ 7 وما بعدها، بداية المجتهد: 108/ 2.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 791/ 2، البدائع: 232/ 3.

(9/7127)


وكذلك أجاز الحنابلة (1) تعليق الظهار على الزواج أو الظهار من الأجنبية، سواء قال ذلك لامرأة بعينها أو قال: كل النساء علي كظهر أمي، وسواء أوقعه مطلقاً أم علقه على التزويج، فقال: كل امرأة أتزوجها، فهي علي كظهر أمي، ومتى تزوج التي ظاهر منها، لم يطأها حتى يكفِّر. وأجازوا أيضاً تعليق الظهار بشرط، مثل إن دخلت الدار، فأنت علي كظهر أمي، أو إن شاء زيدّ فأنت علي كظهر أمي، فمتى دخلت الدار أو متى شاء زيد، صار مظاهراً، وإلا فلا.
ودليلهم ما روى الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب: أنه قال في رجل قال: إن تزوجت فلانة، فهي علي كظهر أمي، فتزوجها، قال: «عليه كفارة الظهار» ولأنها يمين مكفرة، فصح انعقادها قبل النكاح، كاليمين بالله تعالى.
وقد بان سابقاً أن المالكية (2) أجازوا تعليق الظهار، نحو: إن دخلت الدار فأنت علي كظهر أمي، وإن تزوجتك فأنت علي كظهر أمي، أو قال: كل امرأة أتزوجها فهي مني كظهر أمي.
وأجاز الشافعية (3) أيضاً تعليق الظهار بشرط وبمشيئة زيد مثلاً؛ لأنه يتعلق به التحريم كالطلاق والكفارة، وكل منهما يجوز تعليقه. وتعليق الظهار مثل: إذا جاء زيد، أو إذا طلعت الشمس فأنت علي كظهر أمي. فإذا وجد الشرط صار مظاهراً لوجود المعلق عليه. ومن أمثلته أن يقول: «إن ظاهرت من زوجتي الأخرى، فأنت علي كظهر أمي» وهما في عصمته، فظاهر من الأخرى، صار مظاهراً منهما، عملاً بموجب التنجيز والتعليق.
_________
(1) المغني: 350/ 7، 354.
(2) الشرح الصغير: 635/ 2، بداية المجتهد: 107/ 2.
(3) مغني المحتاج: 354/ 3.

(9/7128)


والخلاصة: اتفق فقهاء المذاهب الأربعة على جواز تعليق الظهار على شرط، وقرر الجمهور غير الشافعية أنه يجوز تعليق الظهار على التزوج بامرأة معينة، وكذا عند الحنفية والمالكية والحنابلة: لو قال: «كل النساء علي كظهر أمي» لأنه عقد على شرط الملك، فأشبه ذا ملك، والمؤمنون عند شروطهم. ولا يجوز عند الشافعية تعليق الظهار على ملك الزواج، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فيما يرويه أبو داود والترمذي: «لا طلاق إلا فيما يملك، ولا عتق إلا فيما يملك، ولا بيع إلا فيما يملك، ولا وفاء بنذر إلا فيما يملك» والظهار شبيه بالطلاق.

الظهار المؤقت: ذكر فقهاء المذاهب الأربعة (1): أنه يصح الظهار مؤقتاً، مثل أن يقول: أنت علي كظهر أمي شهراً أو يوماً، أو حتى ينسلخ شهر رمضان، لكن يصح مؤبداً عند المالكية وفي قول عند الشافعية، فلا ينحل إلا بالكفارة، أي فيسقط التأقيت ويكون ظهاراً؛ لأن هذا لفظ يوجب تحريم الزوجة، فإذا وقَّته لم يتوقت كالطلاق. وقال الحنفية والشافعية والحنابلة: إذا مضى الوقت، زال الظهار، وحلت المرأة بلا كفارة، فإن وطئها في المدة لزمته الكفارة، لحديث سَلَمة ابن صَخْر، وقوله: «تظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ شهر ر مضان، وأخبر النبي صلّى الله عليه وسلم أنه أصابها في الشهر، فأمره بالكفارة» (2) ولأنه منع نفسه منها بيمين لها كفارة، فصح مؤقتاً بالإيلاء. ويختلف الظهار عن الطلاق في أن الظهار يزيل الملك، ويوقع تحريماً يرفعه التكفير، فجاز تأقيته.
وعبارة الحنفية: لو قيد الظهار بوقت سقط بمضيه، لكن لو أراد قربانها داخل الوقت لايجوز بلا كفارة.
_________
(1) الدر المختار: 793/ 2، البدائع: 235/ 3، الشرح الصغير: 636/ 2، المهذب: 113/ 2 - 114، المغني: 349/ 7، مغني المحتاج: 357/ 3.
(2) رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن، عن سلمة بن صخر (نيل الأوطار: 258/ 6).

(9/7129)


المطلب الثاني ـ ركن الظهر وشروطه:
ركن الظهار عند الحنفية (1): هو اللفظ الدال على الظهار، والأصل فيه قول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، ويلحق به قوله: أنت علي كبطن أمي، أو فخذ أمي، أو فرج أمي.
وقال الجمهور غير الحنفية (2): للظهار أركان أربعة: وهي المظاهر، والمظاهر منها، واللفظ أو الصيغة، والمشبه به.
والمظاهر: هو الزوج.
والمظاهر منه: هو الزوجة، مسلمة كانت أو كتابية.
واللفظ أو الصيغة: ما يصدر عن الزوج من ألفاظ صريحة أو كناية. والصريح: ما تضمن ذكر الظهر، كقوله: أنت علي كظهر أمي، والكناية: ما لم تتضمن ذكر الظهر، كقوله: أنت علي كأمي أو كفخذها أو بعض أعضائها، ويصدق في الكناية ديانة أنه أراد به الطلاق، دون الصريح. وينوي في الكناية ما يريد.
والمشبه به: هو من حرم وطؤه وهو الأم ويلحق بها كل محرمة على التأبيد بنسب أو رضاع أو مصاهرة.

شروط المظاهر: المظاهر عند الحنفية والمالكية: هو كل زوج مسلم عاقل بالغ، فلا يلزم ظهار الذمي.
_________
(1) البدائع: 229/ 3.
(2) القوانين الفقهية: ص 242، الشرح الكبير: 440/ 2، المقدمات الممهدات: 599/ 1 وما بعدها، الشرح الصغير: 637/ 2، مغني المحتاج: 352/ 3. المغني: 338/ 7 ومابعدها.

(9/7130)


وعند الشافعية والحنابلة: هو كل زوج صح طلاقه، وهو البالغ العاقل سواء أكان مسلماً أم كافراً، حراً أم عبداً.
وظهار السكران صحيح كطلاقه بالاتفاق. ولا يصح ظهار المكره عند الجمهور غير الحنفية. وبه تكون شروط المظاهر (1):
1ً - أن يكون عاقلاً: فلا يصح ظهار المجنون والصبي غير المميز، والمعتوه والمدهوش والمغمى عليه والنائم، كما لا يصح طلاقهم؛ لأنه يترتب عليه التحريم، وهؤلاء ليسوا أهلاً لخطاب التحريم.
2ً - أن يكون بالغاً: فلا يصح ظهار الصبي وإن كان عاقلاً مميزاً؛ لأن الظهار من التصرفات الضارة المحضة، فلا يملكه الصبي، كما لا يملك الطلاق وغيره مما يضر بمصلحته.
3ً - أن يكون مسلماً في رأي الحنفية والمالكية: فلا يصح ظهار الذمي عندهم؛ لأن حكم الظهار تحريم مؤقت يزول بالكفارة، والكافر ليس أهلاً للكفارة التي هي قربة إلى الله تعالى، فلا يكون من أهل الظهار.
ولا يشترط كونه مسلماً في رأي الشافعية والحنابلة، لعموم آية الظهار: {والذين يظاهرون من نسائهم} [المجادلة:3/ 58] من غير تفريق بين مسلم وكافر، ولأن الكافر مخاطب بفروع الشريعة، وأّهل للكفارة بغير الصوم من إطعام وإعتاق رقبة، ولأنه أهل للطلاق، فيكون أهلاً للظهار، فإن كان المظاهر كافراً، كفر بالعتق أو الطعام؛ لأنه يصح منه ما ذكر في غير الكفارة، فصح منه في الكفارة، ولا يكفر بالصوم، لعدم صحته منه.
_________
(1) البدائع: 230/ 3 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 242، الشرح الصغير: 637/ 2، مغني المحتاج: 352/ 3 وما بعدها، المغني: 338/ 7 وما بعدها، 382، كشاف القناع: 429/ 5، المهذب: 118/ 2.

(9/7131)


والخلاصة: يشترط عند الفريق الأول شرطان في المظاهر وهما الإسلام والتكليف، وشرط واحد عند الفريق الثاني وهو التكليف.
وأما الاختيار أو الطواعية فهو شرط عند الجمهور غير الحنفية، ويدخل عندهم شرط التكليف، فلا يصح ظهار المكره، وليس شرطاً عند الحنفية، فيصح ظهار المكره والمخطئ، كما يصح طلاقهما.

شروط المظاهر منها: المظاهر منها: هي امرأة المظاهر، مسلمة أو كتابية، كبيرة أو صغيرة، وشروطها ما يلي (1):
1ً - أن تكون زوجته: وهي أن تكون مملوكة له بملك النكاح، فلا يصح الظهار من الأجنبية، لعدم الملك، لقوله تعالى: {من نسائهم} [المجادلة:3/ 58].
لكن يصح الظهار عند الجمهور غير الشافعية معلقاً بالملك، كأن يقول لامرأة: إن تزوجتك فأنت علي كظهر أمي، أو يقول: كل امرأة أتزوجها، فهي علي كظهر أمي.

ظهار المرأة: لم يجز أكثر العلماء ظهار المرأة من الرجل تشبيهاً للظهار بالطلاق، ويكون لغواً لا كفارة فيه، ولكن أوجب عليها الإمام أحمد في رواية راجحة عنه كفارة الظهار؛ لأنها أتت بالمنكر من القول والزور، وفي رواية: كفارة اليمين، وهذا أقيس على مذهبه، كما تقدم.
_________
(1) البدائع: 232/ 3 - 234، فتح القدير: 232/ 3، اللباب: 69/ 3، الدر المختار: 791/ 2، 795، بداية المجتهد: 107/ 2 وما بعدها، 112، القوانين الفقهية: ص 242، الشرح الصغير: 637/ 2، المهذب: 113/ 2 وما بعدها، مغنى المحتاج: 354/ 3، 358، المغني: 339/ 7، 354، 357، 384.

(9/7132)


الظهار من الجماعة: لو قال الزوج بلفظ واحد لأربع من نسائه: (أنتن علي كظهر أمي) كان مظاهراً من جماعتهن، وعليه عند الحنفية والشافعية في الجديد لكل امرأة كفارة؛ لأنه وجد الظهار والعود (العزم على الوطء) في حق كل امرأة منهن، فوجب عليه عن كل واحدة كفارة، كما لو أفردها به.
وقال المالكية والحنابلة: ليس عليه إلا كفارة واحدة، عملاً بقول عمر وعلي رضي الله عنهما، ولأن الظهاركلمة تجب بمخالفتها الكفارة، فإذا وجدت في جماعة أوجبت كفارة واحدة كاليمين بالله تعالى.
2ً - قيام ملك النكاح من كل وجه: فيصح الظهار من الزوجة ولو كانت في أثناء العدة من طلاق رجعي، ولا يصح الظهار من المطلقة ثلاثاً، ولا المبانة ولا المختلعة وإن كانت في العدة، بخلاف الطلاق؛ لأن المختلعة والمبانة يلحقها عند الحنفية صريح الطلاق؛ لأن الظهار تحريم، وقد ثبتت الحرمة بالإبانة والخلع، وتحريم المحرَّم محال، ولأنه لا يفيد إلا ما أفاده سابقه، فيكون عبثاً.
3ً - أن يكون الظهار عند الحنفية مضافاً إلى بدن الزوجة، أو عضو منها يعبر به عن جميع البدن، أو جزء شائع منها، فلو أضافه إليها مثل: أنت علي كظهر أمي، أو إلى عضو يعبر به عن الجميع مثل: رأسك أو وجهك أو رقبتك أو فرجك علي كظهر أمي، أو إلى جزء شائع مثل: ثلثك أو ربعك أو نصفك ونحو ذلك كظهر أمي، كان مظاهراً.
أما لو قال: يدك أو رجلك أو أصبعك، لا يصير مظاهراً عندهم. ويصير مظاهراً عند بقية المذاهب؛ لأنه عضو يحرم التلذذ به، فكان كالظهر.

شروط المشبه به: المشبه به: هي الأم، ويلحق به كل محرمة على التأبيد بنسب أو رضاع أو مصاهرة. وقد اختلفت الآراء الفقهية سعة وضيقاً في تحديد المشبه به.

(9/7133)


فقال الحنفية (1): يشترط في المظاهر به أو المشبه به ما يأتي:
1ً - أن يكون امرأة يحرم نكاحها عليه على التأبيد، سواء أكان التحريم بالنسب كالأم والبنت والأخت والعمة والخالة، أم بالرضاع، أم بالمصاهرة كامرأة أبيه، أو زوجة ابنه، وأم امرأته (حماته).
2ً - أن يكون عضواً لا يحل له النظر إليه، كالظهر والبطن والفخذ والفرج، فلو شبهها برأس أمه أو بوجهها أو يدها أو رِجْلها، لا يصير مظاهراً؛ لأن هذه الأعضاء من أمه يحل له النظر إليها.
3ً - أن يكون من جنس النساء: فلو قال الزوج لامرأته: أنت علي كظهر أبي أو ابني، لا يصح؛ لأن الشرع إنما ورد فيما إذا كان المظاهر به امرأة. وعليه، لا يصح الظهار إذا شبه الرجل امرأته بامرأة محرمة عليه في الحال، وتحل له في حال أخرى، كأخت امرأته أو امرأة لها زوج، أو مجوسية، أو مرتدة؛ لأنها غير محرمة عليه أو على التأبيد.
وذهب المالكية (2) إلى أن المشبه به: هو من حرم وطؤه أصالة من آدمي (ذكر أو أنثى) أو غيره أي كالبهيمة.
فيصح الظهار بتشبيه الزوجة أو جزئها ولو حكماً كالشعر والريق بالأم، وما يلحق بها من كل محرم على التأبيد بنسب أو رضاع أو مصاهرة. وخرج بقوله (أصالة) من يحرم وطؤها لعارض كالحيض أو النفاس، فلا ينعقد الظهار بقوله لإحدى زوجتيه: (أنت علي كظهر زوجتي النفساء أو الحائض أو المُحْرِمة بحج أوالمطلقة طلاقاً رجعياً).
_________
(1) البدائع: 233/ 3 - 234.
(2) الدسوقي مع الشرح الكبير: 439/ 2 وما بعدها، حاشية الصاوي على الشرح الصغير: 637/ 2، بداية المجتهد: 104/ 2، القوانين الفقهية: ص 244.

(9/7134)


ويصح الظهار أيضاً بتشبيه الزوجة أيضاً بتشبيه الزوجة بجزء المحرَّمة على التأبيد، مثل: أنت علي كيد أمي أو يد خالتي.
وكذا يصح الظهار عندهم إذا شبه زوجته بأجنبية لا تحرم عليه على التأبيد.
ورأى الشافعية (1) أن المشبه به فقط: كل من حرم وطؤه على التأبيد بنسب أو رضاع أو مصاهرة إلا مرضعة المظاهر وزوجة الابن؛ لأنهما كانتا حلالاً له في وقت، فيحتمل إرادته.
وأوسع المذاهب في صحة الظهار بالمشبه به هم الحنابلة (2)، فإنه يشمل ما يأتي من الأصناف، سواء أكان التشبيه بكل المشبه به أم بعضو منه كاليد والوجه والأذن.
1ً - كل محرَّم من النساء على التأبيد بنسب أو رضاع أو مصاهرة، كالأمهات والجدات والعمات والخالات والأخوات، وهذا متفق عليه، والأمهات المرضعات والأخوات من الرضاعة، وحلائل الأبناء والآباء وأمهات النساء، والربائب اللاتي دخل بأمهن.
2ً - كل محرَّم من النساء تحريماً مؤقتاً كأخت امرأته وعمتها، أو الأجنبية، لأنه شبه زوجته بمحرمة، فأشبه ما لو شبهها بالأم.
3ً - كل محرَّم من الرجال، أو البهائم، أو الأموات ونحوهم، فيصح الظهار لو شبه زوجته بظهر أبيه، أو بظهر غيره من الرجال، أو قال: أنت علي كظهر البهيمة، أو أنت علي كالميتة والدم، عملاً بما روي عن جابر بن زيد.
_________
(1) مغني المحتاج: /3 353 - 354.
(2) المغني: 340/ 7 ومابعدها، كشاف القناع: 425/ 5 - 428، غاية المنتهى: 190/ 3 ومابعدها.

(9/7135)


وخالفهم فيما ذكر أكثر العلماء، فلا يكون التشبيه بمن ذكر ظهاراً؛ لأنه تشبيه بما ليس بمحل للاستمتاع، كما لو قال: أنتِ علي مثل مال زيد.
هذا ويكره أن يدعو الزوج زوجته بذي رحم، مثل يا أخت أو يا أم ونحوهما، لنهي النبي صلّى الله عليه وسلم عنه فيما رواه أبو داود.

شروط الصيغة: الصيغة التي ينعقد الظهار بها إما لفظ صريح لا يحتاج إلى نية، أو كناية يحتاج إلى نية. واختلف الفقهاء في بيان الألفاظ الصريحة والكناية.
قال الحنفية (1): الصريح: هو ما كان بلفظ لا يحتمل معنى آخر غير الظهار، بأن يقول الرجل لزوجته، (أنت علي كظهر أمي) أو (بطنك أو فخذك أو فرجك ... إلخ) أو (نصفك ونحوه من الجزء الشائع كظهر أمي) يكون مظاهراً ولو بلا نية، لأنه صريح. ومثله: (أنت علي حرام كظهر أمي) ثبت الظهار لا غير لأنه صريح.
والكناية: ما كان بلفظ يحتمل الظهار وغيره، ويكون ظهاراً بالنية، مثل (أنت علي مثل أمي) يرجع إلى نيته، فإن قال: أردت الكرامة، فهو كما قال، وإن قال: أردت الظهار، فهو ظهار، وإن قال: أردت الطلاق، فهو طلاق بائن، وإن لم يكن له نية فليس بشيء عند أبي حنيفة وأبي يوسف، لاحتمال إرادة الكرامة.
ومثل: (أنت علي حرام كأمي) يعتبر ما نواه من ظهر أو طلاق. ولا يقبل منه إرادة الكرامة، لوجود لفظ التحريم، وإن لم ينو شيئاً ثبت الأدنى وهو الظهار في الأصح، لعدم إزالته ملك النكاح وإن طال.
_________
(1) فتح القدير: 228/ 3 - 231، البدائع: 231/ 3 - 232، الدر المختار: 792/ 2 - 794، اللباب: 68/ 3 وما بعدها.

(9/7136)


وصريح الظهار عند المالكية (1): هو ما تضمن ذكر الظهر في مؤبد التحريم، أو هو اللفظ الدال على الظهار بالوضع الشرعي بلا احتمال غيره بلفظ (ظهر) امرأة مؤبدة التحريم بنسب أو رضاع أو مصاهرة، فلا بد في الصريح من الأمرين: ذِكْر الظهر، وذِكْر مؤبدة التحريم، مثل: (أنت علي كظهر أمي أو أختي من الرضاع، أو كظهر أمك).
ولا ينصرف صريح الظهار للطلاق إن نواه به؛ لأن صريح كل نوع لا ينصرف لغيره، ولا يعتبر منه الطلاق إن نوى بالظهار طلاقاً، لا في الفتوى ولا القضاء على المشهور من المذهب.
والكناية عندهم: هي ما سقط منه أحد اللفظين: لفظ الظهر: ولفظ مؤبد التحريم، مثال الأول: (أنت كأمي) أو (أنت أمي) بحذف أداة التشبيه، ومثال الثاني: (أنت كظهر رجل: خالد أو بكر أو كظهر أبي أو ابني، أو أجنبية (2) يحل وطؤها في المستقبل بزواج) مثل: أنت علي كظهر فلانة، وليست محرماً ولا زوجة له.
ومن الكناية: أن يعبر بجزء من الزوجة أو من المشبه به، مثل: يدك أو رأسك أو شعرك كأمي، أو كيد أمي أو رأسها أو شعرها. وينوي الظهار في النوعين.
فإن نوى الظهار في نوعي الكناية الظاهرة، وهما إسقاط لفظ الظهر، أو إسقاط مؤبدة التحريم، انعقد ظهاراً. وإن نوى الطلاق وقع به البينونة الكبرى: وهي الطلاق الثلاث، سواء في الزوجة المدخول بها وغيرها، لكن إن نوى الأقل
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 242، الشرح الصغير: 637/ 2 - 640، الشرح الكبير: 442/ 2، بداية المجتهد: 104/ 2، المقدمات الممهدات: 599/ 1.
(2) المراد بالأجنبية: غير القريبة المحرم، وغير الزوجة.

(9/7137)


من الثلاث في غير المدخول بها، لزمه فيها ما نواه، بخلاف المدخول بها، فإنه يلزمه فيها البينونة الكبرى، ولا يقبل منه نية الأقل.

ومذهب الشافعية (1): أن الصريح: ما تضمن ذكر الظهر أو عضو لا يذكر في معرض التكريم، كأن يقول الرجل لزوجته: (أنت علي أو مني أو معي أو عندي كظهر أمي) وكذا إن قال: (أنت كظهر أمي) بحذف الصلة أي (علي) ونحوه، يكون صريحاً على الصحيح، ومن الصريح قوله: (جسمك أو بدنك أو نفسك كبدن أمي أو جسمها أو جملتها) لتضمنه الظهر. ومنه: (أنت علي كيد أمي أو بطنها أو صدرها، ونحوها) من الأعضاء التي لا تذكر في معرض الكرامة والإعزاز مما سوى الظهر؛ لأنه عضو يحرم التلذذ به، فكان كالظهر.
ومن الصريح: ذكر جزء شائع مثل نصفك أو ربعك، ومنه ذكر أحد الأعضاء مثل: رأسك أو ظهرك أو يدك أو رجلك، أو بدنك أو جلدك أو شعرك أو نحو ذلك.
والكناية: أن يذكر عضواً يحتمل الكرامة، مثل أنت علي كعين أو رأس أمي ونحوه. أو أنت كأمي أو روحها أو وجهها، فإن قصد ظهاراً، أي نوى أنها كظهر أمه في التحريم فهو ظهار، وإن قصد كرامة ولم يقصد شيئاً، فلا يكون ظهاراً؛ لأن هذه الألفاظ تستعمل في الكرامة والإعزاز.
ولا يكون الظهار بلفظ الطلاق، ولا الطلاق بلفظ الظهار، فإن قال الرجل لامرأته: (أنت طالق) ونوى به الظهار، لم يكن ظهاراً. وإن قال: أنت علي كظهر أمي» ونوى به الطلاق، لم يكن طلاقاً؛ لأن كل واحد منهما صريح في موجبه في الزوجية، فلا ينصرف عن موجبه بالنية، كما تقدم عند المالكية.
_________
(1) مغني المحتاج: 353/ 3، المهذب: 112/ 2.

(9/7138)


ولو قال: (أنت طالق كظهر أمي) ولم ينو شيئاً، وقع الطلاق، بقوله: (أنت طالق) ويلغى قوله: (كظهر أمي).
وإن قال: (أنت علي حرام كظهر أمي) ولم ينو شيئاً، فهو ظهار؛ لأنه أتى بصريحه، وأكده بلفظ التحريم. فإن نوى به الطلاق كان طلاقاً في الصحيح.

والصريح عند الحنابلة (1): ما تضمن ذكر الظهر أو الحرمة، فإذا قال الزوج لزوجته: أنت علي كظهر أمي أو كظهر امرأة أجنبية، أو أنت علي حرام، أو حرم عضواً من أعضائها، كان مظاهراً.
فإن شبَّه زوجته بمن تحرم عليه على التأبيد، فقال: أنت علي كظهر أمي أو أختي أوغيرهما، فهذا ظهار إجماعاً.
وكذا إن شبهها بمن تحرم عليه من ذوي رحمه كجدته وعمته وخالته وأخته، كان ظهاراً في المذاهب الأربعة وأكثر العلماء.
أو شبهها بالأقارب المحرمات من جهة الرضاع أو من جهة المصاهرة كالأمهات المرضعات وحلائل الآباء والأبناء، كان ظهاراً في رأي الأكثرين.
وأما الكناية عند الحنابلة فهو استعمال ألفاظ الكرامة والتوقير، كما قال الشافعية، فإن قال: أنت علي كأمي أو مثل أمي، فإن نوى به الظهار فهو ظهار، وهو رأي الأكثرين، وإن نوى به الكرامة والتوقير أو أنها مثله في الكبر أو الصفة، فليس بظهار، والقول قوله في تحديد نيته. وإن لم ينو شيئاً وأطلق فالأظهر عندهم أنه ليس بظهار حتى ينويه، وهو موافق لقول أبي حنيفة والشافعي؛ لأن هذا اللفظ يستعمل في الكرامة أكثر مما يستعمل في التحريم، فلم ينصرف إليه بغير نية ككنايات الطلاق.
_________
(1) المغني: 340/ 7 - 346، كشاف القناع: 426/ 5 - 428.

(9/7139)


وإن قال: (أنت علي حرام) فإن نوى به الظهار، فهو ظهار، وهذا موافق لقول أبي حنيفة والشافعي. ولو قال: (أنت حرام إن شاء الله) فلا ظهار.
وإن قال: (أنت علي كظهر أمي حرام) فهو صريح في الظهار لا ينصرف إلى غيره، سواء نوى الطلاق أو لم ينوه، وهذا متفق عليه؛ لأنه صرّح بالظهار، وبينه بقوله: (حرام).
ولو قال: (أنت طالق كظهر أمي) طلقت كما قال الشافعية، وسقط قوله: (كظهر أمي) لأنه أتى بصريح الطلاق أولاً، وجعل قوله «كظهر أمي» صفة له. فإن نوى بقوله (كظهر أمي) تأكيد الطلاق لم يكن ظهاراً، كما لو أطلق. وإن نوى به الظهار، وكان الطلاق بائناً، فهو كالظهار من الأجنبية؛ لأنه أتى به بعد بينونتها بالطلاق، وإن كان رجعياً كان ظهاراً صحيحاً، كما قال الشافعية.
وإن قال: (أنت علي حرام) ونوى الطلاق والظهار معاً، كان ظهاراً ولم يكن طلاقاً؛ لأن اللفظ الواحد لا يكون ظهاراً وطلاقاً، والظهار أولى بهذا اللفظ، فينصرف إليه.
وإن قال: (الحل علي حرام) أو (ما أحل الله علي حرام) أو (ما انقلب إليه حرام) وله امرأة، فهو مظاهر في الصور الثلاث، لأن لفظه يقتضي العموم، فيتناول المرأة بعمومه. وإن صرح بتحريم المرأة أو نواها، فهو آكد.
ولا يكون مظاهراً إن قال: كشعر أمي أو سنها أوظفرها؛ لأنها ليست من أعضاء الأم الثابتة. أو قال: (أنا مظاهر، أو علي الظهار، أو علي الحرام، أو الحرام لازم لي) ولا نية له؛ لأنه ليس بصريح في الظهار ولا نوى به الظهار. وإن نوى به الظهار، أو اقترنت به قرينة تدل على إرادته الظهار، مثل أن يعلقه على شرط، فيقول: (علي الحرام إن كلمتك) احتمل أن يكون ظهاراً، كما يصح

(9/7140)


طلاق الكناية بالنية، ويحتمل ألا يثبت به الظهار؛ لأن الشرع إنما ورد به بصريح لفظه وهو المظاهرة، وهذا ليس بصريح فيه، ولأنه يمين موجبة للكفارة، فلم يثبت حكمه بغير الصريح كاليمين بالله تعالى.

المطلب الثالث ـ أثر الظهار أو أحكامه، أو ما يحرم على المظاهر:
يترتب على الظهار الأحكام التالية (1):
1ً - تحريم الوطء بالاتفاق قبل التكفير، وكذا عند الجمهور غير الشافعية: تحريم جميع أنواع الاستمتاع غير الجماع كاللمس والتقبيل والنظر بلذة ما عدا وجهها وكفيها ويديها لسائر بدنها ومحاسنها، والمباشرة فيما دون الفرج، لقوله تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا، فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} [المجادلة:3/ 58] أي فليحرروا رقبة، كما في آية {والوالدات يرضعن أولادهن} [البقرة:233/ 2] أي ليرضعن، وآية {والمطلقات يتربصن بأنفسهن} [البقرة:228/ 2] أي ليتربصن، ولأن القول الذي حرم الوطء، حرم مقدماته ودواعيه كيلا يقع فيه كالطلاق والإحرام. ويستمر التحريم إلى أن يكفر كفارة الظهار؛ لأن ظهاره جناية؛ لأنه منكر من القول وزور، فيناسب مجازاة الجناية بالحرمة، وارتفاعها بالكفارة.
فإن وطئ الرجل المظاهر امرأ ته قبل أن يكفر، استغفر الله تعالى من ارتكاب هذا المأثم، ولا شيء عليه غيرالكفارة الأولى، ولا يعود إلى الاستمتاع بالمظاهر
_________
(1) البدائع: 234/ 3 وما بعدها، فتح القدير: 226/ 3 وما بعدها، الدر المختار: 792/ 2 وما بعدها، اللباب: 67/ 3 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 242، بداية المجتهد: 108/ 2، الشرح الصغير: 641/ 2، المهذب: 114/ 2، المغني: 347/ 7 وما بعدها، 383، كشاف القناع: 431/ 5 وما بعدها.

(9/7141)


منها حتى يكفر، لقوله صلّى الله عليه وسلم للذي واقع في ظهاره قبل الكفارة: «فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله» وفي رواية «فاعتزلها حتى تكفر» (1) وعن سَلَمة بن صخر عن النبي صلّى الله عليه وسلم في المظاهريُواقع قبل أن يكفِّر، قال: «كفارة واحدة» (2).
والعَوْد الذي تجب به الكفارة في قوله تعالى: {ثم يعودون لما قالوا} [المجادلة:3/ 58]: أن يعزم المظاهر على وطئها، أي المظاهر منها، أي أن الكفارة تجب عليه إذا قصد وطأها بعد الظهار. فإن رضي أن تكون محرَّمة عليه، ولم يعزم على وطئها لا تجب الكفارة عليه، ويجبر على التكفير دفعاً للضرر عنها.
ومذهب الشافعية: يحرم بالظهار الوطء فقط دون مقدماته ودواعيه حتى يكفِّر المظاهر؛ لأنه وطء يتعلق بتحريم مال، فلم يتجاوزه التحريم كوطء الحائض.
2ً - للمرأة أن تطالب المظاهر بالوطء، لتعلق حقها به، وعليها أن تمنعه من الاستمتاع حتى يكفّر عن الظهار، وعلى القاضي إلزامه بالتكفير، دفعاً للضرر عنها، والإلزام يكون بحبس أو ضرب إلى أن يكفر أو يطلّق.
فإن ادعى أنه كفَّر عن ظهاره، صدِّق في دعواه ما لم يكون معروفاً بالكذب.

هل يعود الظهار بعد الطلاق بالعودة إلى الزوجية؟ إذا طلَّق الرجل امرأته بعد الظهار قبل أن يكفِّر عن ظهاره، ثم راجعها هل يعود عليها الظهار، فلا يحل له المسيس (الوطء وتوابعه) حتى يكفِّر؟
ذكر ابن رشد (3) خلافاً في المسألة، فعند مالك: إن طلقها دون الثلاث ثم راجعها في العدة أو بعدها، فعليه الكفارة.
_________
(1) أخرجه أصحاب السنن الأربعة عن ابن عباس (نصب الراية: 246/ 3، نيل الأوطار: 271/ 6).
(2) رواه ابن ماجه والترمذي عن سلمة (نيل الأوطار: 261/ 6).
(3) بداية المجتهد: 109/ 2، المغني: 351/ 7 وما بعدها، مغني المحتاج: 357/ 3، البدائع: 235/ 3.

(9/7142)


وقال أبو حنيفة وصاحباه والشافعي وأحمد: الظهار راجع عليها، سواء نكحها بعد الثلاث أو بعد طلقة واحدة.
وهذه المسألة شبيهة بمن يحلف بالطلاق، ثم يطلق، ثم يراجع، هل تبقى تلك اليمين عليه أم لا؟
وسبب الخلاف: هل الطلاق يرفع جميع أحكام الزوجية ويهدمها أو لا يهدمها؟ فمنهم من رأى أن الطلاق البائن الذي هو الثلاث يهدم، وأن ما دون الثلاث لا يهدم. ومنهم من رأى أن الطلاق كله غير هادم.

هل يدخل الإيلاء على الظهار؟ ذكر ابن رشد (1) أيضاً خلافاً في هذه المسألة على ثلاثة آراء: فقال الجمهور غير مالك: لا يتداخل حكم الإيلاء مع حكم الظهار، سواء أكان الزوج مضاراً أم لم يكن، أي لا يدخل عليه.
وقال مالك: يدخل الإيلاء على الظهار بشرط أن يكون مضاراً.
وقال سفيان الثوري: يدخل الإيلاء على الظهار مطلقاً، وتبين منه بانقضاء الأربعة الأشهر، ولو من غير مضارة.
وسبب الخلاف: مراعاة المعنى أو اعتبار الظاهر، فمن اعتبر الظاهر قال: لا يتداخلان. ومن اعتبر المعنى قال: يتداخلان إذا كان القصد الضرر.

المطلب الرابع ـ كفارة الظهار:
يتناول الكلام عن كفارة الظهار المسائل الآتية:
_________
(1) بداية المجتهد: 109/ 2.

(9/7143)


أولاً ـ مشروعية الكفارة: شرعت كفارة الظهار بالكتاب والسنة (1):
أما الكتاب: فقول تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم، ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا، ذلكم توعظون به، والله بما تعملون خبير. فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً ... } [المجادلة:3/ 58 - 4].
وأما السنة: فروى أبو داود بإسناده عن خولة بنت مالك بن ثعلبة قالت: ظاهر مني أوس بن الصامت، فجئت رسول الله صلّى الله عليه وسلم أشكو إليه، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يجادلني فيه، ويقول: اتقي الله، فإنه ابنُ عمك، فما برح حتى نزل القرآن: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} [المجادلة:1/ 58] إلى الفرض (2)، فقال: يعتق رقبة، قالت: لا يجد، قال: فيصوم شهرين متتابعين، قالت يا رسول الله، إنه شيخ كبير، ما به من صيام، قال: فليطعم ستين مسكيناً، قالت: ما عنده من شيء يتصدَّق به، قال: فأُتي بعَرَق من تمر، قالت: يا رسول الله، فإني سأعينه بعَرَق آخر، قال: قد أحسَنت، اذهبي فأطعمي بهما عنه ستين مسكيناً، وارجعي إلى ابن عمك. والعَرَق: ستون صاعاً (3).

ثانياً ـ متى تجب كفارة الظهار؟ يرى أكثر الفقهاء أن كفارة الظهار لا تجب قبل العود، فلو مات أحد المظاهرين أو فارق المظاهر زوجته قبل العود، فلا كفارة عليه، لقوله تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم، ثم يعودون لما قالوا، فتحرير رقبة من قبل أن
_________
(1) بداية المجتهد: 103/ 2، المغني: 109/ 7.
(2) الفرض: يقصد به آيتي الظهار 3 و 4 من سورة المجادلة.
(3) رواه أبو داود، ولأحمد معناه، لكنه لم يذكر قدر العَرَق (نيل الأوطار: 262/ 6).

(9/7144)


يتماسا} [المجادلة:3/ 58] وهو نص في وجوب تعلق الكفارة بالعود. ومن طريق القياس: إن الظهار يشبه كفارة اليمين، فكما أن الكفارة إنما تلزم بالمخالفة أو بإرادة المخالفة، كذلك الأمر في الظهار، والكفارة في الظهار كفارة يمين، فلا يحنث بغير الحنث
كسائر الأيمان، والحنث فيها هو العود.
واختلفوا في تفسير العود على آراء ثلاثة (1):
قال الحنفية: والمالكية على المشهور: العود: العزم على الوطء أو إرادة الوطء.
ورأى الحنابلة أن العود: هو الوطء في الفرج، لقوله تعالى: {ثم يعودون لما قالوا، فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} [المجادلة:3/ 58] أوجب الكفارة عقب العود، وهو يقتضي تعلقها به، ولا تجب قبله، إلا أن الكفارة شرط لحل الوطء، فيؤمر بها من أراده ليستحله بها، كما يؤمر بعقد النكاح من أراد حلها، ولأن العود في القول هو فعل ضد ما قال، كما أن العود في الهبة: هو استرجاع ما وهب. والعود هنا هو فعل ما حلف على تركه وهو الجماع.
وذهب الشافعية إلى أن العود في الظهار: هو إمساكها بعد ظهاره زمناً يمكنه طلاقها فيه؛ لأن ظهاره منها يقتضي إبانتها، فإمساكها عود فيما قال، ولأن تشبيهها بالأم يقتضي ألا يمسكها زوجة، فإذا أمسكها زوجة فقد عاد فيما قال؛ لأن العود للقول مخالفته، يقال: قال فلان قولاً ثم عاد له، وعاد فيه: أي خالفه ونقضه، وهو قريب من قولهم: عاد في هبته.
_________
(1) البدائع: 235/ 3، اللباب: 68/ 3، بداية المجتهد: 104/ 2 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص243، الشرح الصغير: 643/ 2، مغني المحتاج: 355/ 3 - 357، المهذب: 113/ 2، المغني: 351/ 7 وما بعدها، كشاف القناع: 432/ 5 وما بعدها.

(9/7145)


وهذا في الظهار المؤبد أو المطلق، وفي غير الرجعية؛ لأنه في الظهار المؤقت إنما يصير عائداً بالوطء في المدة، لا بالإمساك. والعود في الرجعية: إنما هو بالرجعة. ومحل العود بالإمساك بعد ظهاره زمن إمكان فرقة: هو إذا لم يتصل بالظهار فرقة بسبب من الأسباب، فلو اتصل بالظهار فُرْقة بموت منهما أو من أحدهما، أو فسخ للنكاح، أو فُرْقة بسب طلاق بائن، أو رجعي ولم يراجع، أو جُن الزوج عقب ظهاره، فلا عود ولا كفارة في جميع ذلك، لتعذر الفراق في حالتي الطلاق والجنون، وفوات الإمساك في الموت، وانتفائه في الفسخ.

ثالثاً ـ تعدد الكفارة بتعدد المظاهر منهن أو بتعدد الظهار: إذا ظاهر الرجل من أربع نسوة له، فعليه عند الحنفية والشافعية في الجديد (1) كما تقدم أربع كفارات، سواء ظاهر منهن بأقوال مختلفة، أو بقول واحد؛ لأن الظهار وإن كان بكلمة واحدة، فإنه يتناول كل واحدة من النساء وحدها، فصار مظاهراً من كل واحدة منهن، وبما أن الظهار تحريم لا يرتفع إلا بالكفارة، فإذا تعدد التحريم تتعدد الكفارة.
وليس عليه أكثر من كفارة واحدة، أو يجزئ واحدة إذا كان مظاهراً بكلمة واحدة عند المالكية والحنابلة (2)؛ لأن الظهار كالإيلاء في التحريم، وفي الإيلاء لا يجب إلا كفارة واحدة، ولأنه كاليمين بالله تعالى، والحنث باليمين على أمر متعدد لا يوجب إلا كفارة واحدة، ولأن الكفارة تمحو إثم الحنث، والكفارة الواحدة تحقق المراد. أما إن ظاهر من نسائه بكلمات فقال لكل واحدة: أنت علي كظهر
_________
(1) البدائع: 234/ 3، مغني المحتاج: 358/ 3.
(2) بداية المجتهد: 112/ 2 وما بعدها، المغني: 357/ 7.

(9/7146)


أمي، فإن كل كلمة تقضي كفارة ترفعها وتكفر إثمها، فتتعدد الكفارة بتعدد الظهار من كل امرأة؛ لأنها أيمان متكررة على أعيان متفرقة، فكان لكل واحدة كفارة، كما لو كفر ثم ظاهر.
والراجح لدي هو الرأي الأول؛ لأن محل الظهار تعدد، فتتعدد الكفارة.
وأما تعدد الكفارة بتعدد الظهار، كأن ظاهر من زوجته مراراً، فاختلف فيه الفقهاء أيضاً (1):
فرأى الحنفية: إن كرر الظهار في مجلس واحد، فكفارته واحدة، وإن كان في مجالس فكفارات، كبقية الأيمان، ولأنه قول يوجب تحريم الزوجة، فإذا نوى الاستئناف، تعلق بكل مرة حكم حالها كالطلاق.
ورأى المالكية والحنابلة في ظاهر المذهب والأوزاعي: إذا ظاهرالرجل من زوجته مراراً فلم يكفر، فكفارة واحدة؛ لأن المرأة قد حرمت بالقول الأول، فلم يزد القول الثاني في تحريمها، ولأن الظهار لفظ يتعلق به كفارة، فإذا كرره كفاه كفارة واحدة كاليمين بالله تعالى.
وذهب الشافعي في الجديد: إلى أن من حلف أيماناً كثيرة، فإن أراد تأكيد اليمين، فكفارة واحدة، وإن نوى الاستئناف فكفارتان في الأظهر.

رابعاً ـ أنواع الكفارة وترتيبها: الكفارة كما دل القرآن والسنة النبوية فيما سبق أنواع ثلاثة:
1ً - عتق رقبة سالمة من العيوب، صغيرة أم كبيرة، ذكر أم أنثى.
_________
(1) بداية المجتهد:113/ 2، المغني: 386/ 7، مغني المحتاج: 358/ 3.

(9/7147)


2ً - صيام شهرين متتابعين.
3ً - إطعام ستين مسكيناً، يوماً واحداً، غداء وعشاء عند الحنفية.
وهي واجبة على الترتيب، فالإعتاق أولاً، فإن لم يكن بأن عجز عنه فالصيام، فإن لم يكن بسبب العجز عنه فالإطعام، والمعتبر في العجز عند الجمهور: وقت الأداء. وعند الحنابلة وقت الحنث.

أما إعتاق الرقبة (1): فهي الواجب الأول على المظاهر القادر على الإعتاق لا يجزئه غيره بالاتفاق، لقوله تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا: فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} [المجادلة:3/ 58] ولقول النبي صلّى الله عليه وسلم لأوس بن الصامت حين ظاهر من امرأته في الحديث المتقدم: «يعتق رقبة، قلت: لا يجد، قال: فيصوم» وقوله لسلمة بن صخر مثل ذلك. فمن وجد رقبة يستغني عنها، أو وجد ثمنها فاضلاً عن حاجته، ووجدها به، لم يجزئه إلا الإعتاق.
واتفق الفقهاء أيضاً على أنه لا يجزئه رقبة سالمة من العيوب الضارة بالعمل ضرراً بيِّناً؛ لأن المقصود تمليك العبد منافع نفسه، وتمكينه من التصرف لنفسه، ولا يحصل هذا مع ما يضر بالعمل ضرراً واضحاً، فلا يجزئ الأعمى، ولا المقعد، ولا المقطوع اليدين أو الرجلين، لفوات جنس المنفعة، فيكون المعتق هالكاً حكماً، إذ لا يتهيأ له كثير من العمل مع تلف هذه الأعضاء. ولا يجزئ المجنون جنوناً مطبقاً؛ لأنه وجد فيه المعنيان: ذهاب منفعة الجنس، وحصول الضرر بالعمل.
_________
(1) الدر المختار: 796/ 2 وما بعدها، فتح القدير: 233/ 3 - 236، اللباب: 70/ 3، الشرح الصغير: 645/ 2 - 649، بداية المجتهد: 110/ 2 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 243، مغني المحتاج: 360/ 3 وما بعدها، المهذب: 114/ 2 وما بعدها، المغني: 359/ 7 - 362، كشاف القناع: 438/ 5 - 442.

(9/7148)


ويجزئ عند الحنفية: المقطوع إحدى اليدين والرجلين، والمقطوع الأذنين والأنف، والأصم إن سمع الصياح، والأعور والأعمش والخصي والمجبوب، لأنه ليس بفائت جنس المنفعة، وإنما يخل بكمالها وهو لا يمنع الانتفاع به. ولا يجوز مقطوع إبهام اليدين؛ لأن قوة البطش بهما، ولايجزئ عندهم الأخرس، والأصم الذي لا يسمع الصياح؛ لزوال جنس المنفعة، فأشبه زائل العقل.
ولا يجزئ عند الجمهور غير الحنفية المقطوع إحدى اليدين أو الرجلين، إلا أن الشافعية أجازوا فاقد إحدى اليدين، لا فاقد رِجْل.
ولا يجزئ عند المالكية مقطوع أصبع فأكثر، أو أذن، ولا الأعمى، ويجزئ الأعور، ولا يجزئ الأبكم (الأخرس) ولا الأصم، ولا المجنون، ولا المريض المشرف على الهلاك بسبب جذام وبرص وعرج وهرم شديدين.
ولا يجزئ عند الشافعية المريض الزمِن، وفاقد رجل، أو خِنصر وبِنصر من يد، أو أنملتين من غيرهما؛ لأن فقدهما مضر، وأنملة إبهام، لأن فقدهما يضر، لتعطل منفعتها فأشبه قطعها، ولا يجزئ هَرِم عاجز، ومن أكثر وقته مجنون ومريض لا يرجى برء علته. ويجزئ عندهم صغير، وأقرع، وأعرج يمكنه متابعة المشي، وأعور، وأصم، وأخرس، وأخشم (فاقد الشم) وفاقد أنفه وأذنيه وأصابع رجليه، ولا يجزئ عتق عبد مغصوب؛ لأنه ممنوع من التصرف في نفسه، فهو كالمريض الزمِن.
ولا يجزئ عند الحنابلة مقطوع اليد أو الرجل، ولا أشلها، ولا مقطوع إبهام اليد أو سبابتها أو الوسطى؛ لأن نفع اليد يذهب بذهاب هؤلاء. ولا يجزئ مقطوع الخنصر والبنصر من يد واحدة؛ لأن نفع اليدين يزول أكثره بقطعهما. وإن قطعت كل واحدة من يد، جاز؛ لأن نفع الكفين باق. وقطع أنملة الإبهام كقطع جميعها، فهم كالشافعية فيما عدا مقطوع اليد.

(9/7149)


ويجزئ عندهم الأعور اتفاقاً مع غيرهم، ويجزئ مقطوع الأنف والأصم إذا فهم الإشارة، ويجزئ الأخرس إذا فهمت إشارته وفهم بالإشارة. ويجزئ المريض بمرض يرجى برؤه، ولا يجزئ غير مرجو البرء، ولا يجزئ عتق المغصوب؛ لأنه لا يقدر على تمكينه من منافعه، ولا يجزئ غائب غيبة منقطعة لا يعلم خبره؛ لأنه لا يعلم حياته، فلا يعلم صحة عتقه.

واختلف الفقهاء في اشتراط الإيمان في الرقبة على قولين:
يرى الحنفية: أنه لا يشترط إيمان الرقبة في كفارة الظهار وكذا في كفارة اليمين، فيصح إعتاق الكافر أو مباح الدم، عملاً بإطلاق النص القرآني: {فتحرير رقبة} [المجادلة:3/ 58].
ويرى الجمهور: أنه يشترط إيمان الرقبة في هذه الكفارة وفي كفارة اليمين، فيجب أن تكون مسلمة، ولا يجزئ الكافر؛ لأنه تكفير بعتق، فلم يجز إلا مؤمنة مثل كفارة القتل، والمطلق يحمل على المقيد قياساً إذا وجد المعنى فيه، ولأنه إذا كان لا يجوز إلا رقبة سليمة من العيوب المضرة بالعمل ضرراً بيناً، وقيدنا النص القرآني بهذا القيد،، فالتقييد بالسلامة من الكفر أولى.
وسبب الخلاف: قضية حمل المطلق على المقيد، فإن القرآن قيد الرقبة بالإيمان في كفارة القتل، وأطلقها في كفارة الظهار، فيجب عند الجمهور صرف المطلق إلى المقيد. ولا يجب عند الحنفية، ويعمل بكل نص على حدة، حتى لا يزاد على النص ما ليس منه.

(9/7150)


وأما صيام شهرين متتابعين:
فقد أجمع أهل العلم (1) على أن المظاهر إذا لم يجد رقبة بأن عجز عن ثمنها، أو وجدها بأكثر من ثمن المثل، وقدر على الصوم: أن فرضه صيام شهرين متتابعين، ولو ثمانية وخمسين يوماً بالهلال، وإلا فستين يوماً، لقول الله تعالى: {فمن لم يجد، فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا} [المجادلة:4/ 58].
ولحديث أوس بن الصامت وسلمة بن صخر، قال فيه النبي صلّى الله عليه وسلم لمن واقع امرأته بعد الظهار وعجز عن الإعتاق: «فصم شهرين متتابعين».
ورأى الحنفية والمالكية: أنه متى وجد رقبة، لزمه إعتاقها، ولم يجز له الانتقال إلى الصيام، وإن كان محتاجاً إليها لخدمة، أو محتاجاً إلى ثمنها لقضاء دين؛ لأنه واجد حقيقة.
وخالفهم الشافعية والحنابلة: فأجازوا له الانتقال إلى الصيام إن كان محتاجاً للرقبة لخدمة أو قضاء دين أو نفقة أو أثاث لا بد منه، أو لم يجد رقبة يشتريها؛ لأن ما استغرقته حاجة الإنسان فهو كالمعدوم في جواز الانتقال إلى البدل، كمن وجد ماء يحتاج إليه للعطش يجوز له الانتقال إلى التيمم. ويعتبر اليسار الذي يلزم به الإعتاق في أظهر الأقوال عند الشافعيةوالمالكية: هو وقت الأداء والإخراج، لأنها عبادة لها بدل من غير جنسها، فاعتبر حال أدائها كالصوم والتيمم والقيام والقعود في الصلاة. والمعتبر عند الحنابلة: وقت وجوب الكفارة.

التتابع في الصوم: أجمع أهل العلم أيضاً على وجوب التتابع في صيام
_________
(1) الدر المختار: 801/ 2 - 804، اللباب: 73/ 3 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 243، الشرح الصغير:654/ 2وما بعدها، بداية المجتهد: 112/ 2، مغني المحتاج: 366/ 3، المهذب: 117/ 2، المغني: 362/ 7 - 368 - 377، غاية المنتهى: 197/ 3 وما بعدها، كشاف القناع: 445/ 5 - 448.

(9/7151)


كفارة الظهار، للنص القرآني، وأجمعوا على أن من صام بعض الشهر، ثم قطعه لغير عذر وأفطر: أن عليه استئناف الشهرين، لورود لفظ الكتاب والسنة به.
ومعنى التتابع: الموالاة بين صيام أيام الشهرين، فلا يفطر فيها، ولا يصوم عن غير الكفارة، ولا يحتاج التتابع عند الجمهور إلى نية، ويكفي فعله؛ لأنه شرط، وشرائط العبادات لا تحتاج إلى نية، وإنما تجب النية لأفعال العبادة. وقال المالكية: لابد من نية التتابع ونية الكفارة.
فإن بدأ الصيام في أثناء شهر، حسب الشهر الذي بعده عند الشافعية والمالكية والحنابلة بالأهلّة. وأما عند الحنفية: إن لم يكن صومه في أول الشهر برؤية الهلال بأن غم أو صام في أثناء شهر، فإنه يصوم ستين يوماً.
ولتحقيق التتابع قال الحنفية: ويختار صوم شهرين متتابعين ليس فيهما شهر رمضان، ولا يوم الفطر، ولا يوم النحر، ولا أيام التشريق.
فإن جامع الرجل المرأة التي ظاهر منها في خلال الشهرين ليلاً عامداً، أو نهاراً ناسياً، استأنف الصوم عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأن الشرط في الصوم أن يكون قبل التماسّ، وهذا الشرط يزول بالجماع، في خلال الصوم، فيستأنف. ولا يستأنف في الإطعام إن وطئها في خلاله، لإطلاق النص في الإطعام، وتقييده بكونه {من قبل أن يتماسا} [المجادلة:3/ 58] في تحرير الرقبة والصيام.
واتفق الحنفية على أن المظاهر إن أفطر يوماً من الشهرين بعذر إلا الحيض، كسفر ومرض ونفاس، بخلاف الحيض لتعذر الخلو عنه، أو بغير عذر، استأنف فبدأ الصوم من جديد أيضاً، لفوات التتابع وهو قادر عليه.
ومذهب المالكية قريب من رأي الحنفية: إن قطع التتابع ولو في اليوم الأخير

(9/7152)


من الشهر، وجب الاستئناف. وينقطع تتابع الصوم بوطء المظاهر امرأته المظاهر منها ليلاً أو نهاراً، ناسياً أو عامداً، كما يبطل الإطعام بوطء المظاهر منها في أثنائه، ولو لم يبق عليه إلا مدّ واحد، فإنه يبطل ويبتدئه، وهذا بخلاف رأي الحنفية.
وينقطع التتابع بالفطرفي السفر من غير ضرورة، وبمجيء العيد في أثناء الشهرين إن علم أنه يأتي في أثناء صومه، أما إن جهل إتيان العيد في أثناء صومه، فلا يبطل التتابع، وصام بعد العيد بيومين، بناء على المعتمد عندهم: أن المسلم لا يصوم يوم العيد وما بعده فقط، وكذا لا ينقطع التتابع إذا جهل وقت مجيء رمضان.
ولا ينقطع التتابع بالمرض، وبالفطر سهواً، وبالإكراه على الفطر، وبظن غروب شمس أو ببقاء ليل فأكل أو شرب، وبحيض أو نفاس.
وينقطع التتابع لدى الشافعيةمثل المالكية بإفطار يوم بلا عذر، أوبعذر كمرض مسوغ للفطر في المذهب الجديد، ولا ينقطع التتابع في الصوم بحيض، أو نفاس على الصحيح، أو جنون على المذهب. ويلاحظ أن طروّ الحيض والنفاس إنما يتصور في كفارة قتل لا ظهار، إذ لا يجب على النساء. وإن جامع المظاهر بالليل قبل أن يكفر أثم؛ لأنه جامع قبل التكفير، ولا يبطل التتابع بالجماع؛ لأن جماعه لم يؤثر في صوم رمضان، فلم يقطع التتابع كالأكل بالليل.
وأيسر المذاهب وأولاها مذهب الحنابلة القائلين: إن أفطر في الشهرين بعذر بنى على ما مضى، وإن أفطر من غير عذر ابتدأ من جديد.
فينقطع التتابع بفطر بلا عذر، أو لجهل، أو لأنه نسي وجوب التتابع، أو ظن أنه أتم الشهر، فبان بخلافه، أو صام أثناء الشهرين تطوعاً، أو قضاء عن رمضان، أو صام عن نذر أو كفارة أخرى؛ لأنه قطعه بشيء يمكنه التحرز منه، فأشبه ما لو

(9/7153)


أفطر من غير عذر. وينقطع التتابع أيضاً إذا وطئ المظاهر منها ليلاً أو نهاراً عامداً أو ناسياً، فيفسد ما مضى من صيامه، وابتدأ صوم الشهرين، لكن لو وطئ في أثناء الإطعام لم تلزمه إعادة ما مضى منه، كما قال الحنفية والشافعية.
ولا ينقطع التتابع بصوم رمضان، أو فطر واجب كعيد وحيض ونفاس وجنون، ومرض مخوف، وحامل ومرضع أفطرتا خوفاً على أنفسهما، أو فطر لعذر يبيحه كمرض وسفر غير مخوف، وحامل ومرضع لضرر ولدها، ومكره ومخطئ، كمن ظن أن الفجر لم يطلع أو الشمس لم تغرب، فبان بخلافه.
والخلاصة: أنه ينقطع التتابع بوطء المظاهر امرأته قبل إتمام الصيام ناسياً في النهار أو متعمداً في الليل في رأي الحنفية والمالكية؛ لأن الشرط في الصوم أن يكون قبل المسيس، وأن يكون خالياً عنه بالضرورة بالنص القرآني؛ ولا ينقطع التتابع بالوطء نهاراً ناسياً، أو عمداً في الليل في رأي الشافعية والحنابلة، فلا يوجب الاستئناف، بسبب العذر.

وإما إطعام ستين مسكينا ً:
فقد أجمع أهل العلم (1) على أن المظاهر إذا لم يجد الرقبة، ولم يستطع الصيام: أن فرضه إطعام ستين مسكيناً، على ما أمر الله تعالى في كتابه، وجاء في سنة نبيه صلّى الله عليه وسلم، سواء عجز عن الصيام لهرم أو مرض يخاف بالصوم تباطؤه أو الزيادة فيه أو لحوق مشقة شديدة، أو لشبق فلا يصبر فيه عن الجماع، فإن أوس بن الصامت لما أمره رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالصيام قالت امرأته: «يا رسول الله، إنه شيخ كبير،
_________
(1) الدر المختار: 801/ 2 - 804،اللباب: 73/ 3 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 243، الشرح الصغير:654/ 2ومابعدها، بداية المجتهد: 112/ 2، مغني المحتاج: 366/ 3، المهذب: 117/ 2، المغني: 368/ 7 - 376، غاية المنتهى: 197/ 3 ومابعدها، كشاف القناع: 445/ 5 - 448.

(9/7154)


ما به من صيام، قال: فليطعم ستين مسكيناً» ولما أمَر سلمة بن صخر بالصيام قال: «وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام؟ قال: فأطعم» فنقله إلى الإطعام لما أخبر أن به من الشبق والشهوة ما يمنعه من الصيام، وقيس على هذين ما يشبههما في معناهما. ولا يجوز أن ينتقل عن الصوم لأجل السفر؛ لأن السفر لا يعجزه عن الصيام، وله نهاية ينتهي إليها، وهو من أفعاله الاختيارية.
والمرض الذي يبيح الانتقال عن الصيام إلى الإطعام: هو عند الجمهور الذي لا يرجى برؤه. وعند الحنابلة: هو الذي لا يرجى برؤه أو مرجو الزوال، لدخوله في قوله تعالى: {فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً} [المجادة:4/ 58] ولأنه لا يعلم أن له نهاية، فأشبه الشبق.

ما يتعلق بالإطعام: قدر الطعام، وكيفيته، وجنس الطعام، ومستحقه:
قدر الطعام:
للفقهاء آراء ثلاثة في مقدار الطعام في الكفارات كلها وهي ما يأتي:
1 ً - رأي الحنفية: يعطى لكل مسكين مدان، أي نصف صاع من القمح، وصاع من تمر أو شعير، كالفطرة قدراً ومصرفاً، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم في حديث سَلَمَة ابن صخر: «فأطعم وَسْقاً من تمر» (1) وفي رواية «فأطعم عَرَقاً من تمر ستين مسكيناً} والعَرَق والوسق: ستون صاعاً، كما في رواية أبي داود: «والعَرَق: ستون صاعاً» والصاع (2751 غم).
2 ً - رأي المالكية: يملِّك المكفِّر ستين مسكيناً، لكل واحد مد وثلثان بمده صلّى الله عليه وسلم، من القمح إن اقتاتوه، فلا يجزئ غيره من شعير أو ذرة أو غيرهما، فإن
_________
(1) رواه أحمد وأبو داود وغيرهما.

(9/7155)


اقتاتوا غير القمح فما يعدله شبعاً لا كيلاً، ولا يجزئ الغداء والعشاء إلا أن يتحقق بلوغهما مداً وثلثين.
3 ً - رأي الشافعية والحنابلة: إن قدر الطعام في الكفارات كلها وفي فدية الصوم والفطرة مُدّ من قمح لكل مسكين، أو نصف صاع من تمر أو شعير، لما روى أبو داود بإسناده عن أوس بن الصامت: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أعطاه ـ يعني المظاهر ـ خمسة عشر صاعاً من شعير: إطعامَ ستين مسكيناً» لكنه حديث مرسل عن عطاء عن أوس. أما المد: فهو (675) غم.

كيفية الإطعام:
للفقهاء رأيان:
1 ً - مذهب الحنفية: الضابط عندهم أن ما شرع بلفظ (إطعام وطعام) جاز فيه الإباحة، وما شرع بلفظ (إيتاء وأداء) شرع فيه التمليك. وبناء عليه يكون الإطعام في الكفارات إما بالتمليك، أو بالإباحة غداء وعشاء، أو غداء وقيمة عشاء أو بالعكس بشرط إدام مع خبز شعير وذرة، لا مع خبز قمح، فيجوز الجمع بين الإباحة والتمليك؛ لأنه جمع بين شيئين جائزين على الانفراد، سواء أكلوا قليلاً أو كثيراً. فإن أعطى مسكيناً واحداً ستين يوماً أجزاه، وإن أعطاه في يوم واحد، لم يُجْزه إلا عن يومه.
ويجوز عندهم (1) دفع القيمة في الزكاة، والعُشْر، والخَراج، والفِطْرة، والنَّذْر، والكفارة غير الإعتاق. وتعتبر القيمة يوم الوجوب عند الإمام أبي حنيفة، وقال الصاحبان: يوم الأداء. وفي السوائم: يوم الأداء باتفاقهم، ويقوَّم في البلد الذي فيه المال، أما في المفازة فيقومَّ في أقرب الأمصار إليه.
_________
(1) الكتاب مع اللباب: 147/ 1، 73/ 3.

(9/7156)


وسبب جواز دفع القيمة: أن المقصود سد الخلَّة ودفع الحاجة، ويوجد ذلك في القيمة.
2 ً - مذهب الجمهور: الواجب تمليك كل إنسان من المساكين القدر الواجب له من الكفارة، ولا يجزئ الغداء والعشاء بالقدر الواجب أو أقل أو أكثر، إلا أن المالكية قالوا: يجزئ الغداء والعشاء إن تحقق بلوغهما مداً وثلثين، كما تقدم.
ودليلهم أن المنقول عن الصحابة إعطاء المساكين، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم لكعب في فدية الأذى بالحج: (أطعم ثلاثة آصع من تمر ستة مساكين) ولأنه مال وجب للفقراء شرعاً، فوجب تمليكهم إياه كالزكاة.
ويشترط العدد عند الفقهاء لآية الظهار، فلو أطعم ثلاثين مسكيناً طعام ستين لم يجزه. وقال الشافعية والحنابلة: لو أعطى مسكيناً مدين من كفارتين في يوم واحد أجزأه؛ لأنه دفع القدر الواجب إلى العدد الواجب، فأجزأ، كما لو دفع إليه المدّين في يومين. واشترط الحنفية أن يكون الإعطاء متكرراً، فلو أطعم ستين مسكيناً كل واحد صاعاً من قمح بدفعة واحدة عن ظهارين، صح عن ظهار واحد، فإن كان بدفعات جاز عن الظهارين؛ لأنه في المرة الثانية كمسكين آخر.
ولا تجزئ القيمة عندهم (أي الجمهور) في الكفارة، عملاً بالنصوص الآمرة بالإطعام.
وقد عرفنا أنه لا يجب التتابع في الإطعام عند الحنفية والشافعية والحنابلة، فلو وطئ في أثناء الإطعام، لم تلزمه إعادة ما مضى منه؛ لأنه وطئ في أثناء مالا يشترط التتابع فيه، فلم يوجب الاستئناف كوطء غير المظاهر منها، أو كالوطء في كفارة اليمين، فيختلف الإطعام عن الصيام.

(9/7157)


وسوَّى المالكية بين الإطعام والصيام، فاشترطوا التتابع فيهما، فلو وطئ في أثناء كفارة الظهار بهما، وجب الاستئناف فيهما.

جنس الطعام:
المجزئ في الإطعام عند الجمهور غير المالكية: ما يجزئ في الفطرة: وهو البُرّ والشعير ودقيقهما والتمر والزبيب، سواء أكان قوت المظاهر أم لم يكن، ولا يجزئ عند الحنابلة في الراجح غير ما ذكر، ولو كان قوت بلده، إلا إذا عدمت تلك الأقوات فيجوز إخراج نحو ذرة ودخن، ولا يجزئ أن يغدي المساكين ويعيشهم أو يدفع لهم القيمة؛ لأن الخبر ورد بإخراج هذه الأصناف على ما جاء في الأحاديث السابقة، فلم يجز غيرها، كما لو لم يكن قوت بلده.
ويجب عند الشافعية على المذهب الإطعام من الحبوب والثمار التي تجب فيها الزكاة؛ لأن الأبدان بها تقوم، ويجب من غالب قوت بلد المظاهر، لأن المعتبر في الزكاة بماله، ولقوله تعالى: {فكفارته إطعام عشَرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم} [المائدة:89/ 5] والأوسط: الأعدل، وأعدل ما يطعم أهله: قوت البلد.
وأوجب المالكية الإطعام من القمح إن اقتاتوه، فلا يجزئ غيره من شعير أوذرة أو غيرهما. فإن اقتاتوا غير البُرّ (القمح) فما يعدله شبعاً لا كيلاً. ولا يجزئ الغداء والعشاء إلا أن يتحقق بلوغهما مداً وثلثين.
والواجب عند الحنفية ما يجب في الفطرة: وهو البر أو التمر أو الشعير، ودقيق كل واحد كأصله كيلاً، أي نصف صاع في دقيق الحنطة، وصاع في دقيق الشعير، وقيل: المعتبر في الدقيق القيمة لا الكيل. ويجوز إخراج القيمة من غير هذه الأصناف، كما تقدم.

(9/7158)


مستحق الإطعام:
مستحق الكفارة: هو مستحق الزكاة عند الجمهور من المساكين والفقراء، لقوله تعالى: {فإطعام ستين مسكيناً} [المجادلة:4/ 58] فلا يجوز دفعها لكافر، وإنما يشترط أن يكون مسلماً، كالزكاة، ويجوز صرفها إلى الصغير والكبير ولو لم يأكل الطعام عند الحنابلة؛ لأنه مسلم محتاج أشبه الكبير، لكن يقبضها ولي الصغير؛ لأن الصغير لا يصح منه القبض.
ومستحق كفارة الظهار في رأي الحنفية: هو مستحق الفطرة، فلا يجوز إطعام أصله وفرعه وأحد الزوجين، ويجوز إطعام الذمي، لا الحربي ولو مستأمناً.

خامساً ـ شرط الكفارة: اتفق فقهاء المذاهب (1) على أن النية شرط لصحة الكفارة، بأن ينوي العتق أو الصوم أو الإطعام الواجب عليه عن الكفارة، أي بنية مقارنة للتكفير أو قبله بيسير، لأن الكفارة حق مالي يجب تطهيراً، كالزكاة، والأعمال بالنيات.
سادساً ـ من وطئ قبل أن يكفر: اتفق الفقهاء على أن من وطئ قبل أن يكفر عصى ربه وأثم، لمخالفة أمره تعالى، وتستقر الكفارة في ذمته، فلا تسقط بعدئذ بموت ولا طلاق ولا غيره، إلا بعد الطلاق الثلاث عند المالكية كما سبق، ويظل تحريم زوجته عليه باقياً حتى
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 796/ 2، الشرح الصغير: 650/ 2، مغني المحتاج: 359/ 3، المهذب: 118/ 2، المغني: 387/ 7.

(9/7159)


يكفر. لكن اختلفوا في تأثير الوطء أثناء التكفير، فأطلق المالكية (1) القول في أنواع الكفارة، فمن وطئ قبل أن يكفر عن ظهاره، سواء بالعتق أو بالصوم أو بالإطعام، وسواء أكان الوطء ليلاً أم نهاراً، عامداً أم ناسياً، ولو في أثناء الإطعام، ولو لم يبق عليه إلا مد واحد، فإنه يحرم ويبطل ويبتدئ الكفارة من جديد. وأما وطء الزوجة غير المظاهر منها فلا يضر في صيام إن وقع ليلاً، ولا في إطعام وعتق.
ورأى الشافعية (2) أن المظاهر إن جامع أثناء الصيام ليلاً قبل أن يكفر أثم؛ لأنه جامع قبل التكفير، ولا يبطل تتابع الصيام؛ لأن جماعه لم يؤثر في الصوم المفروض، فلم يقطع التتابع، كالأكل بالليل. وكذا إن جامع أثناء الإطعام، لا يبطل ما مضى.
وفصل الحنفية والحنابلة (3) في الأمر، فقالوا: إن وطئ المظاهر امرأته المظاهر منها في أثناء الصوم، أفسد ما مضى من صيامه، واستأنف الصوم، أي ابتدأ صيام الشهرين من جديد. أما إن وطئ أثناء الإطعام، فلا تلزمه إعادة مامضى، وسبب التفرقة بين الصوم والإطعام: إطلاق النص القرآني في الإطعام: {فإطعام ستين مسكيناً} [المجادلة:4/ 58] دون تقييده بكونه قبل التماس، وتقييده في تحرير الرقبة والصيام بكونهما قبل التماس في قوله سبحانه في الحالتين: {من قبل أن يتماسا} [المجادلة:4/ 58].
_________
(1) الشرح الصغير: 651/ 2 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 242.
(2) المهذب: 117/ 2.
(3) الدر المختار ورد المحتار: 800/ 2 وما بعدها، المغني: 367/ 7، 383.

(9/7160)


المطلب الخامس ـ انتهاء حكم الظهار:
الظهار إما مؤقت أو مطلق مؤبد، ويختلف حكم انتهاء أحدهما عن الآخر (1):
أـ إن كان الظهار مؤقتاً، كأن يقول الرجل لزوجته: (أنت علي كظهر أمي يوماً أو شهراً أو سنة) ينتهي بانتهاء الوقت بدون كفارة عند الجمهور؛ لأن الظهار كاليمين يتوقت، وينتهي بانتهاء أجله، بعكس الطلاق لا يحله شيء فلا يتوقت. وقال المالكية: يبطل التأقيت ويتأبد الظهار، ولا ينحل إلا بالكفارة، قياساً على الطلاق، وإذا كان تحريم الطلاق لا يحتمل التأقيت، فكذا تحريم الظهار مثله.
ب ـ وإن كان الظهار مؤبداً أو مطلقاً: فينتهي حكم الظهار أو يبطل بالاتفاق بموت أحد الزوجين، لزوال محل حكم الظهار، ولا يتصور بقاء الشيء في غير محله.
ولا يبطل حكم الظهار عند الجمهور غير المالكية بالطلاق الرجعي أو البائن أو الثلاث، ولا بالردة عن الإسلام في قول أبي حنيفة، حتى لو تزوجت بزوج آخر، ثم عادت إلى الأول، فلا يحل له وطؤها بدون تقديم الكفارة؛ لأن الظهار قد انعقد موجباً حكمه وهو الحرمة، فيبقى على ما انعقد عليه، وهو ثبوت حرمة لا ترتفع إلا بالكفارة.
أما عدم المطالبة بالكفارة فيتم بالموت أو بالفراق عند الجمهور غير الشافعية (2)، فلو مات أحد المظاهرين، أو فارق الزوج زوجته قبل العود، فلا
_________
(1) البدائع: 235/ 3.
(2) المغني: 351/ 7 وما بعدها.

(9/7161)


كفارة عليه، لقوله تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم، ثم يعودون لما قالوا، فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} [المجادلة:3/ 58] فأوجب الكفارة بأمرين: ظهار وعود، فلا تثبت بأحدهما، ولأن الكفارة في الظهار كفارة يمين، فلا تجب الكفارة قبل الحنث كسائر الأيمان، والحنث فيها هو العود (أي العزم على الوطء).
وقال الشافعي: متى أمسك الرجل المظاهر منها بعد ظهاره زمناً يمكنه طلاقها فيه، فلم يطلقها، فعليه الكفارة؛ لأن ذلك هو العود عنده.

المبحث العاشر ـ التفريق بسبب الردة أو إسلام أحد الزوجين:
أثر الارتداد:
1 ًـ إذا ارتد أحد الزوجين عن الإسلام، وقعت الفرقة بينهما بغير طلاق، عند أبي حنيفة وأبي يوسف، ولا حاجة لتفريق القاضي، وإنما ينفسخ الزواج بينهما فسخاً، والمشهور عند المالكية وعلى الراجح عندهم أن فرقة الردة طلاق.
وقال الشافعية والحنابلة: يتوقف فسخ النكاح على انقضاء العدة، فإن أسلم المرتدقبل انقضائها فهما على النكاح، وإن لم يسلم حتى انقضت بانت المرأة منذ اختلف الدينان. ورأى الجعفرية أن الردة من أحد الزوجين قبل الدخول تفسخ الزواج في الحال. وتتوقف على انقضاء العدة بعد الدخول.
فإن كان الزوج هو المرتد، وكان قد دخل بزوجته، فلها كمال المهر؛ لأنه قد استقر بالدخول. وإن كان لم يدخل بها بعدُ، فلها نصف المهر؛ لأنها فرقة حصلت من الزوج قبل الدخول، وهي فُرقة تنصِّف المهر.
وإن كانت المرأة هي المرتدة، وكانت الردة قبل الدخول، فلا مهر لها؛ لأنها منعت المعقود عليه بالارتداد، فصارت كالبائع إذا أتلف المبيع قبل القبض. وإن

(9/7162)


كانت الردة بعد الدخول بها، فلها المهر كاملاً؛ لأن الدخول في دار الإسلام لا يخلو عن عَقْر (حد) أو عُقر (مهر).
2ً ـ وإن ارتد الزوجان معاً، أو لم يعلم سبق أحدهما، ثم عادا إلى الإسلام معاًً، فهما على نكاحهما استحساناً، لعدم اختلاف دينهما (1).
3ً ـ ولا يجوز أن يتزوج المرتد مسلمة ولا كافرة ولا مرتدة؛ لأنه مستحق للقتل. وكذلك المرتدة لا يجوز أن يتزوجها مسلم ولا كافر ولا مرتد لأنها عند الحنفية محبوسة للتأمل (2).

أثر الإسلام:
1 ً ـ إذا أسلمت المرأة، وزوجها كافر، عَرَض عليه القاضي الإسلام، فإن أسلم فهي امرأته، لعدم طروء ما ينافي بقاء الزواج. وإن أبى عن الإسلام، فرَّق القاضي بينهما، لعدم جواز بقاء المسلمة عند الكافر. وكان التفريق طلاقاً بائناً عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: هي فُرْقة بغير طلاق (3).
2ً ـ وإن أسلم الزوج المتزوج مجوسية، عرض عليها الإسلام، فإن أسلمت فهي امرأته، وإن أبت عن الإسلام فرَّق القاضي بينهما، لأن نكاح المجوسية حرام مطلقاً، ولم تكن هذه الفرقة طلاقاً؛ لأن الفرقة بسبب من قبلها، والمرأة ليست بأهل للطلاق.
_________
(1) الكتاب مع اللباب: 28/ 3، المغني: 639/ 6، القوانين الفقهية: ص 196، شرح الرسالة: 46/ 2 - 47، المختصر النافع في فقه الإمامية: ص 203.
(2) الكتاب، المرجع السابق: 29/ 3، فتح القدير: 505/ 2.
(3) الكتاب مع اللباب: 26/ 3، فتح القدير: 507/ 2 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 196، شرح الرسالة: 46/ 2 - 47.

(9/7163)


فإن كان الزوج قد دخل بها، فلها المهر المسمى، لتأكده بالدخول، فلا يسقط بعد الفرقة، وإن لم يكن دخل بها، فلا مهر لها؛ لأن الفرقة جاءت من قبلها قبل الدخول بها (1).
3ً ـ وإذا أسلمت المرأة في دار الحرب، لم تقع الفُرْقة عليها حتى تنقضي عدتها بأن تحيض ثلاث حيضات إن كانت من ذوات الحيض، أو تمضي ثلاثة أشهر إن كانت من ذوات الأشهر، أو تضع حملها إن كانت حاملاً، وتلك عدتها؛ لأن إسلام زوجها مرجو، والعرض عليه متعذر، فنزِّل منزلة الطلاق الرجعي، فإذا انقضت عدتها، بانت من زوجها (2).
أما إذا خرج أحد الزوجين إلى دار الإسلام من دار الحرب مسلماً، فتقع الفرقة بينهما عند الحنفية (3)، لاختلاف الدارين حقيقة وحكماً، وتباين الدارين ينافي انتظام المصالح الزوجية، كما تتنافى بسبب قيام القرابة المَحْرمية.
وخالفهم الجمهور، فلم يحكموا بوقوع الفرقة لتباين الدارين؛ لأن أثر التباين في انقطاع الولاية (أي سقوط مالكيته عن نفسه وماله) لا في إحداث الفرقة كالحربي المستأمن الذي دخل دارنا بأمان، والمسلم المستأمن إذا دخل دار الحرب بأمان، لا تقع فرقة في زواجهما.
4ً ـ وإذا أسلم زوج الكتابية، فهما على نكاحهما؛ لأنه يصح الزواج بينهما ابتداء من الأصل، فيكون بقاء الزواج بينهما أولى.
_________
(1) اللباب: 26/ 3.
(2) اللباب، المرجع السابق: 27/ 3، فتح القدير: 508/ 2 وما بعدها.
(3) المبسوط: 50/ 5، البحر الرائق: 313/ 3.

(9/7164)