الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

البَابُ الثَّالث: حقوق الأولاد يشتمل على خمسة فصول:
الأول ـ النسب.
الثاني ـ الرضاع.
الثالث ـ الحضانة.
الرابع ـ الولاية.
الخامس ـ النفقات ـ نفقة الأولاد والزوجة وغيرهم.
والكلام فيها لأن بناء الأسرة بناء قوياً لا يتم إلا بثبوت نسب الأولاد من آبائهم، حتى يحفظوا من الضياع، وبإرضاعهم؛ لأن الرضاع أول مقومات الحياة الأولى، وبحضانتهم لحاجتهم الشديدة إلى رعايتهم في سن الضعف والطفولة، وبالولاية عليهم في النفس والمال إن كان لهم مال، لاحتياجهم إلى من يرعى شؤونهم في التربية والتعليم، وحفظ أموالهم واستثمارها، وبالإنفاق عليهم قبل البلوغ بسبب عجزهم.
وأبحث هذه الفصول تباعاً فيما يأتي:

(10/7245)


الفَصْلُ الأوَّل: النَّسَب يشتمل على تمهيد ومبحثين:
الأول ـ في أسباب ثبوت النسب، والثاني ـ في طرق إثبات النسب:

تمهيد ـ عناية الشرع بالنسب وتحريم التبني والإلحاق من طريق غير مشروع:
النسب أقوى الدعائم التي تقوم عليها الأسرة، ويرتبط به أفرادها برباط دائم من الصلة تقوم على أساس وحدة الدم والجزئية والبغيضة، فالولد جزء من أبيه، والأب بعض من ولده. ورابطة النسب هي نسيج الأسرة الذي لا تنفصم عراه، وهو نعمة عظمى أنعمها الله على الإنسان، إذ لولاها لتفككت أواصر الأسرة، وذابت الصلات بينها، ولما بقي أثر من حنان وعطف ورحمة بين أفرادها، لذا أمتن الله عز وجل على الإنسان بالنسب، فقال سبحانه: {وهو الذي خلق من الماء بشراً، فجعله نسباً وصهراً، وكان ربك قديراً}. [الفرقان:54/ 25]. ورعاية النسب أحد مقاصد الشريعة الخمسة.
ومنع الشرع الآباء من إنكار نسب الأولاد، وحرم على النساء نسبة ولد إلى غير أبيه الحقيقي، فقال صلّى الله عليه وسلم: «أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم (1)،
_________
(1) أي أنها أتت بولد زنا.

(10/7247)


فليست من الله في شيء، ولن يدخلها الله جنته، وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه، احتجب الله تعالى منه، وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين يوم القيامة» (1).
ومنع الشرع أيضاً الأبناء من انتسابهم إلى غير آبائهم، فقال صلّى الله عليه وسلم: «من ادعى إلي غير أبيه وهو يعلم، فالجنة عليه حرام (2)» وقال أيضاً: «من ادعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه، فعليه لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة» (3).
وحرمت الشريعة نظام التبني وأبطلته بعد أن كان في الجاهلية وصدر الإسلام، وقد تبنى النبي صلّى الله عليه وسلم زيد بن حارثة قبل النبوة، وكان يدعى «زيد بن محمد» إلى أن نزل قوله تعالى: {وما جعل أدعياءكم أبناءكم، ذلكم قولكم بأفواهكم، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل. ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله، فإن لم تعلموا آباءهم، فإخوانكم في الدين ومواليكم} (4).ذكرالقرطبي في تفسيره: أنه أجمع أهل التفسيرعلىأن ههذه الآية ننزلت في زيد بن حارثة. وروىالأئمةأن ابن عمرقال: «ماكنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد، حتى نزلت: {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله}» [الأحزاب:5/ 33] أي أعدل وأحق عند الله.
فالعدل يقضي والحق يوجب نسبة الابن إلى أبيه الحقيقي، لا لأبيه المزور، والإسلام دين الحق والعدل، والعنصر الغريب عن الأسرة ذكراً أو أنثى لا ينسجم معها قطعاً في خلق ولا دين، وقد تقع مفاسد ومنكرات عليه أو منه، لإحساسه
_________
(1) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم عن أبي هريرة، وهو صحيح.
(2) رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه عن سعد بن أبي وقاص وأبي بكرة، وهو صحيح.
(3) رواه أبو داود عن أنس.
(4) الأحزاب: 5،4.

(10/7248)


بأنه أجنبي، فمن تبنى لقيطاً أو مجهول النسب دون أن يدعي أنه ولده، لم يكن ولده حقيقة، فلا يثبت التوارث بينهما، ولا تجري عليه أحكام التحريم بالقرابة. ومن كان له أب معروف نسب إلى أبيه، ومن جهل أبوه دعي مولىً وأخاً في الدين، منعاً من تغيير الحقائق، وحفظاً لحقوق الآباء والأولاد من الضياع أو الانتقاص، وتوفيراً لوحدة الانسجام في الأسرة، فكثيراً ما أساء الولد المتبنى للزوجين وأقاربهما في العرض والمال.
لكن لم يمنع الإسلام تربية ولد لقيط وتعليمه، ثم حجبه عن الأسرة بعد البلوغ أو قبله بقليل، وإنما فتح باب الإحسان إليه على أوسع نطاق، وعدّ ذلك اتفاقاً للنفس من الهلاك، وإحياء لنفس بشرية، ومن أحيا نفساً فكأنما أحيا الناس جميعاً.
ونسب الولد من أمه ثابت في كل حالات الولادة شرعية أو غيرشرعية، أم نسب الولد من أبيه، فلا يثبت إلا من طريق الزواج الصحيح أو الفاسد، أو الوطء بشبهة، أو الإقرار بالنسب، وأبطل الإسلام ما كان في الجاهلية من إلحاق الأولاد عن طريق الزنا، فقال صلّى الله عليه وسلم: «الولد للفراش، وللعاهر الحجر» (1) ومعناه أن الولد يلحق الأب الذي له زوجية صحيحة، علماً بأن الفراش هو المرأة في رأي الأكثر، وقد يعبر به عن حالة الافتراش، وأما الزنا فلا يصلح سبباً لإثبات النسب، وإنما يستحق الزاني العاهر الرجم أو الطرد بالحجارة.
وقد دل ظاهر الحديث على أن الولد إنما يلحق بالأب بعد ثبوت الفراش، وهو لا يثبت إلا بعد إمكان الوطء في الزواج الصحيح أو الفاسد. وهو رأي
_________
(1) رواه الجماعة إلا الترمذي، والجماعة: أحمد وأصحاب الكتب الستة (نيل الأوطار: 279/ 6).

(10/7249)


الجمهور. وروي عن أبي حنيفة أنه يثبت بمجرد العقد؛ لأن مجرد المظنة كافية. ورد بمنع حصولها بمجرد العقد، بل لا بد من إمكان الوطء (1).

المبحث الأول ـ أسباب ثبوت النسب:
لا بد قبل بيان أسباب ثبوت النسب من توضيح أمور ثلاثة:

الأول ـ مدة الحمل.
الثاني ـ الخلاف في الولادة وتعيين المولود.
الثالث ـ إثبات نسب الولد بالقيافة.
مدة الحمل:

لا يثبت نسب الحمل بصفة عامة إلا إذا أتى في فترة واقعة بين أقل الحمل وأكثرها، كما أبنا سابقاً في بحث العدة وغيرها.
أما أقل الحمل: فقد اتفق الفقهاء (2) على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر من وقت الدخول وإمكان الوطء في رأي الجمهور، ومن وقت عقد الزواج في رأي أبي حنيفة، لأن المرأة هي فراش للزوج ويلحقه الولد لعموم الحديث المتقدم «الولد للفراش». ودليل الجمهور: أن المرأة ليست بفراش إلا بإمكان الوطء، وهو مع الدخول.
ودليل إجماع العلماء على أقل مدة الحمل: العمل بمجموع آيتين في القرآن
_________
(1) نيل الأوطار: 279/ 6 وما بعدها، بداية المجتهد: 352/ 2، البدائع: 212/ 3، فتح القدير: 300/ 3.
(2) بداية المجتهد: 352/ 2.

(10/7250)


الكريم هما: {وحمله وفصاله ثلاثون شهراً} [الأحقاف:15/ 46] {وفصاله في عامين} [لقمان:14/ 31] فالآية الأولى حددت الحمل والفصال، أي الفطام بثلاثين شهراً، وحددت الآية الثانية الفصال بعامين، فبإسقاط مدة العامين للفصال تكون مدة الحمل ستة أشهر، والواقع والطب يؤيدان ذلك.
وروي أن رجلاً تزوج، فولدت امرأته لستة أشهر من وقت الزواج، فرفع الأمر إلى عثمان رضي الله عنه، فهمَّ برجمها، فقال ابن عباس: «أما إنها لو خاصمتكم إلى كتاب الله لخصمتكم ـ أي غلبتكم ـ قال الله تعالى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهراً} وقال: {وفصاله في عامين}، فلم يبق
للحمل إلا ستة أشهر، فأخذ عثمان بقوله، ودرأ عنها الحد (1).

وأما أكثر مدة الحمل: ففيه للعلماء أقوال (2) أشهرها ما يأتي:
1ً - سنتان وهو رأي الحنفية، لقول عائشة رضي الله عنها: «لا يبقى الولد في رحم أمه أكثر من سنتين، ولو بفلكة مغزل» (3) فإن ولد الحمل لسنتين من يوم موت الزوج أو طلاقه، ثبت نسبه من أبيه المطلّق أو الميت.
2ً - أربع سنين، وهو رأي الشافعية والحنابلة؛ لأن ما لا نص فيه يرجع فيه إلى الوجود، وقد وجد الحمل لأربع سنين؛ لأن نساء بني عجلان يحملن أربع سنين، كما قال الإمامان أحمد والشافعي، وكما ذكر سابقاً.
_________
(1) البدائع: 211/ 3.
(2) الدر المختار: 857/ 2، فتح القدير: 310/ 3، الكتاب مع اللباب: 87/ 3، بداية المجتهد: 352/ 2، مغني المحتاج: 390/ 3، المغني: 477/ 7 وما بعدها، المحلى: 385/ 10، مسألة: 2011.
(3) رواه الدارقطني والبيهقي في سننيهما.

(10/7251)


فإذا ولدت المرأة لأربع سنين فما دون من يوم موت الزوج أو طلاقه، ولم تكن تزوجت، ولا وطئت، ولا انقضت عدتها بالقروء ولا بوضع الحمل، فإن الولد لا حق بالزوج، وعدتها منقضية بوضعه.
وإن أتت بالولد لأربع سنين منذ مات أو بانت منه بطلاق أو فسخ، أو انقضاء عدتها إن كانت رجعية، لم يلحقه ولدها؛ لأننا نعلم أنها علقت به بعد زوال النكاح، والبينونة منه.
3ً - خمس سنين: وهو المشهور عن المالكية والليث بن سعد وعباد بن العوام، قال مالك: بلغني عن امرأة حملت سبع سنين.
4ً - سنة قمرية: هو رأي محمد بن عبد الحكم من المالكية.
5ً - تسعة أشهر قمرية: وهو رأي ابن حزم الظاهري، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه. ويظهر أن الأقوال الثلاثة الأولى روعي فيها إخبار بعض النساء، اللاتي ترين أن انتفاخ البطن علامة الحمل. لذا قال ابن رشد: «وهذه المسألة مرجوع فيها إلى العادة والتجربة، وقول ابن عبد الحكم والظاهرية هو أقرب إلى المعتاد، والحكم إنما يجب بالمعتاد، لا بالنادر، ولعله أن يكون مستحيلاً».
وقد رئي في القوانين المعمول بها الاعتماد على رأي الأطباء، فاعتبر أقصى مدة الحمل سنة شمسية (365 يوماً) ليشمل كل الحالات النادرة. نصت المادة (128) من القانون السوري على أن: «أقل مدة الحمل مائة وثمانون يوماً، وأكثرها سنة شمسية» وكو أقل الحمل (180) يوماً هو رأي الجمهور، وخالفهم المالكية فقد روها بـ (175) يوماً؛ لأن الأشهر الهلالية قد يتوالى منها ثلاثة أشهر بمقدار (29) يوماً، ويجوز أن يليهما شهران ناقصان أيضاً، فتكون أيام الأشهر الستة (175) يوماً.

(10/7252)


ونصت المادة (15) من القانون المصري رقم (25 لسنة 1929) على أنه: «لا تسمع عند الإنكار دعوى النسب لولد زوجة ثبت عدم التلاقي بينهما وبين زوجها من حين العقد، ولا لولد زوجة به بعد سنة من غيبتة الزوج عنها، ولا لولد المطلَّقة والمتوفى عنها زوجها إذا أتت به لأكثر من سنة من وقت الطلاق أو الوفاة».
وأخذ بهذا التقرير في كل من تونس والمغرب وغيرهما.

الخلاف في الولادة وتعيين المولود:
قد يقع اختلاف بين الزوجين في ولادة المعتدة أو في تعيين المولود أثناء المدة التي يثبت فيها النسب (1).

أما الخلاف في ولادة المعتدة: فهو أن تدعي المعتدة ولادة ولد خلال المدة التي يثبت فيها النسب، وينكر الزوج قائلاً: إنها لم تلد، وهذا الولد لقيط، فلا يثبت نسبه منه عند أبي حنيفة إلا إذا شهد بولادتها رجلان، أو رجل وامرأتان؛ لأن عدتها انقضت بإقرارها بوضع الحمل، فاحتيج إلى إثبات النسب، بنحو مستقل في القضاء، ولا يثبت إلا بحجة كاملة.
وقال الصاحبان: يثبت النسب بشهادة امرأة واحدة، لأن الفراش: وهو تعين المرأة لماء الزوج، بحيث يثبت منه نسب كل ولد تلده، قائم بقيام العدة، وقيام الفواش ملزم للنسب، فلا حاجة لإثباته، وإنما الحاجة إلى تعيين الولد، وهو يحصل بشهادة امرأة واحدة، كما في حال قيام الزواج أو ظهور الحبل أو إقرار الزوج به. وهذا هو المعمول به في محاكم مصر؛ لأن المرأة ما دامت في العدة فإن سبب ثبوت النسب قائم.
_________
(1) فتح القدير: 306/ 3 - 309.

(10/7253)


واتفق الإمام أبو حنيفة وصاحباه على أنه إذا كان هناك حبل ظاهر، أو اعتراف من الزوج بالولد أو الحبل، أو كان الزوج قائماً، فيثبت النسب من الزوج بلا شهادة، والقول قول المرأة في الولادة بيمينها.

وأما الاختلاف بين الزوجين في تعيين المولود: فهو أن يعترف الزوج بالولادة، ولكنه ينكر شخص المولود، بأن يقول: إنها ولدت بنتاً، وهذا الولد غلام. فيتعين المولود بشهادة امرأة واحدة باتفاق الحنفية وهو رأي الحنابلة أيضاً، لما رواه الدارقطني عن حذيفة «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أجازشهادة القابلة»، ولما رواه ابن أبي شيبة وعد الرزاق عن الزهري قال: «مضت السنة أن تجوز شهادة النساء فيما لا يطلع عليه غيرهن من ولادات النساء وعيوبهن» (1).
وقال المالكية: تعيين المولود كالولادة لا يثبت إلا بشهادة امرأتين.
ورأى الشافعية: أن أمور النساء لا يكفي فيها أقل من أربع نسوة، لأن الله عز وجل جعل مكان الرجل الواحد شهادة امرأتين.

إثبات نسب الولد بالقيافة:
إذا تزوجت المعتدة بزوج آخر في أثناء عدتها من زوج سابق، وأت بولد يمكن أن يكون منهما، فمن الذي يلحق به؟
وإذا ادعى رجلان أو ثلاثة لقيطاً، فمن الذي يحكم له به؟ هل يمكن إثبات نسب الولد في هاتين الحالتين بالقيافة أو بالقافة؟ والقيافة: تتبع الأثر، والقافة عند العرب: هم قوم كانت عندهم معرفة بفصول تشابه الناس.
_________
(1) نصب الراية: 264/ 3.

(10/7254)


اختلف الفقهاء على رأيين في الاعتماد على القافة (1):
فرأى الحنفية: أن الأصل ألا يحكم لأحد المتنازعين في الولد، إلا أن يكون هناك فراش (2)، لقوله عليه الصلاة والسلام: «الولد للفراش» فإن عدم الفراش أو اشتركا في الفراش، كان الولد بينهما، ولا يعمل بقول القائف، بل يحكم بالولد الذي ادعاه اثنان لهما جميعاً.
ورأي الجمهور وهم (مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور والأوزاعي): أنه يحكم بالقيافة، بدليل قول عائشة: «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم دخل عليَّ مسروراً، تبرُق أسارير وجهه، فقال: ألم تري أن مُجَزِّزاً (3) نظر إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض» (4) ففيه دليل على ثبوت العمل بالقافة.
وأثبت عمر بن الخطاب وابن عباس وأنس بن مالك الحكم بالقافة، فكان عمر يليط (5) أولاد الجاهلية بمن استلاطهم ـ أي بمن ادعاهم في الإسلام ـ فأتى رجلان كلاهما يدعي ولد امرأة، فدعا قائفاً، فنظر إليه، فقال القائف: لقد اشتركا فيها، فضربه عمر بالدِّرة، ثم دعا المرأة، فقال: أخبريني بخبرك، فقالت: كان هذا لأحد الرجلين، يأتي في إبل لأهلها، فلا يفارقها حتى يُظن، ونظن أنه قد استمر
_________
(1) بداية المجتهد: 352/ 2 وما بعدها، المغني: 483/ 7، نيل الأوطار: 282/ 6 وما بعدها.
(2) اختلف في معنى الفراش، فذهب الأكثر إلى أنه اسم للمرأة، وقد يعبر به عن حالة الافتراش، وقيل: إنه اسم للزوج، وفي القاموس: إن الفراش زوجة الرجل.
(3) تبرق أسارير وجهه: أطلق على ما يظهر على وجه من سره، وسمي هذ الرجل القائف مجززاً لأنه جزّ نواصي قوم، وهو مُجَزز المدلجي.
(4) رواه الجماعة عن عائشة (نيل الأوطار: 282/ 6).
(5) ألاط فلاناً بفلان: ألحقه به.

(10/7255)


بها حمل، ثم انصرف عنها، فأهريقت عليه دماً، ثم خلف هذا عليها، تعني الآخر، فلا أدري أيهما هو، فكبر القائف، فقال عمر للغلام: والِ أيهما شئت (1) قالوا: فقضاء عمر بمحضر من الصحابة بالقافة من غير إنكار من واحد منهم هو كالإجماع.

أسباب ثبوت النسب من الأب:
سبب ثبوت نسب الولد من أمه: هو الولادة، شرعية كانت أم غير شرعية، كما قدمنا، وأما أسباب ثبوت النسب من الأب فهي:
1 - الزواج الصحيح.
2 - الزواج الفاسد:
3 - الوطء بشبهة.
ونبين كل سبب على حدة فيما يأتي:

أولاً ـ الزواج الصحيح: اتفق الفقهاء على أن الولد الذي تأتي به المرأة المتزوجة زواجاً صحيحاً ينسب إلى زوجها، للحديث المتقدم: «الولد للفراش»، والمراد بالفراش: المرأة التي يستفرشها الرجل ويستمتع بها. وذلك ب الشروط الآتية (2):
الشرط الأول ـ أن يكون الزوج ممن يتصور منه الحمل عادة، بأن يكون بالغاً
_________
(1) رواه مالك عن سليمان بن يسار.
(2) البدائع: 211/ 3 وما بعدها، الدر المختار: 857/ 2 وما بعدها، فتح القدير: 301/ 3، المغني: 428/ 7 وما بعدها.

(10/7256)


في رأي المالكية والشافعية، ومثله في رأي الحنفية والحنابلة المراهق: وهو عند الحنفية من بلغ اثنتي عشرة سنة، وعند الحنابلة: من بلغ عشر سنوات، فلا يثبت النسب من الصغير غير البالغ، حتى ولو ولدته أمه لأكثر من ستة أشهر من تاريخ عقد الزواج. ولا يثبت النسب في رأي المالكية من المجبوب الممسوح: وهو الذي قطع عضوه التناسلي وأنثياه. أما الخصي: وهو من قطعت أنثياه أو اليسرى فقط، فيرجع في شأنه للأطباء المختصين، فإن قالوا: يولد له، ثبت النسب منه، وإن قالوا: لا يولد له لا يثبت النسب منه.
ويثبت النسب في رأي الشافعية والحنابلة (1) من المجبوب الذي بقي أنثياه فقط، ومن الخصي الذي سُلَّت خصيتاه وبقي ذكره، ولا يثبت من الممسوح المقطوع جميع ذكره وأنثييه.

الشرط الثاني ـ أن يلد الولد بعد ستة أشهر من وقت الزواج في رأي الحنفية، ومن إمكان الوطء بعد الزواج في رأي الجمهور، فإن ولد لأقل من الحد الأدنى لمدة الحمل وهي ستة أشهر، لا يثبت نسبه من الزوج اتفاقاً، وكان دليلاً على أن الحمل به حدث قبل الزواج، إلا إذا ادعاه الزوج، ويحمل ادعاؤه على أن المرأة حملت به قبل العقد عليها، إما بناء على عقد آخر، وإما بناء على عقد فاسد أو وطء بشبهة، مراعاة لمصلحة الولد، وستراً للأعراض بقدر الإمكان.
الشرط الثالث ـ إمكان تلاقي الزوجين بعد العقد: وهذا شرط متفق عليه، وإنما الخلاف في المراد به أهو الإمكان والتصور العقلي، أو الإمكان الفعلي والعادي؟
_________
(1) مغني المحتاج: 396/ 3، المغني: 430/ 7.

(10/7257)


قال الحنفية: الحق أن التصور والإمكان العقلي شرط، فمتى أمكن التقاء الزوجين عقلاً ثبت نسب الولد من الزوج إن ولدته الزوجة لستة أشهر من تاريخ العقد، حتى ولو لم يثبت التلاقي حساً. فلو تزوج مشرقي مغربية، ولم يلتقيا في الظاهر مدة سنة، فولدت ولداً لستة أشهر من تاريخ الزواج، ثبت النسب، لاحتمال تلاقيهما من باب الكرامة، وكرامات الأولياء حق، فتظهر الكرامة بقطع المسافة البعيدة في المدة القليلة، ويكون الزوج من أهل الخطوة الذين تطوى لهم المسافات البعيدة. وفي رأيي أن هذا التعليل غير مقبول عادة، والصحيح أن الحنفية يثبتون النسب من تاريخ العقد، عملاً بحديث «الولد للفراش» وإن لم يتحقق إمكان الوطء أو الدخول. وفي هذا احتياط للولد وعدم ضياعه وستر على العِرْض، ومنع من وقوع مشكلة اللقطاء، فألحق الولد بمن له زوجية صحيحة. فإن تيقين الزوج أن الولد ليس منه فله أن ينفيه باللعان.
ورفض الأئمة الثلاثة هذا المنطق، وقالوا: يشترط إمكان التلاقي بالفعل أو الحس والعادة، وإمكان الوطء والدخول، لأن الإمكان العقلي نادر ولا يصح أن يكون له دور في نطاق العقود الظاهرة، والأحكام إنما تنبني على الكثير الغالب والظاهر المشاهد، لا القليل النادر، أو الخفي غير المحتمل عادة، فلو تأكد عدم اللقاء بين الزوجين فعلاً، لم يثبت نسب الولد من الزوج، كما لو كان أحد الزوجين سجيناً أو غائباً في بلد بعيد غيبة امتدت إلى أكثر من أقصى مدة الحمل، لذا أخذت القوانين بهذا الرأي، وهو الصحيح لاتفاقه مع قواعد الشريعة والعقل.
وفائدة الخلاف: أن الولد لا ينتفي نسبه في رأي الحنفية إلا باللعان، وينتفي بدون لعان في رأي الجمهور، لعدم إمكان التلاقي بين الزوجين عادة.

موقف القانون من هذا السبب: نص القانون السوري م (129) على مايلي:

(10/7258)


1 - ولد كل زوجة في النكاح الصحيح ينسب إلى زوجها بالشرطين التاليين:
أـ أن يمضي على عقد الزواج أقل مدة الحمل.
ب ـ ألا يثبت عدم التلاقي بين الزوجين بصورة محسوسة، كما لو كان أحد الزوجين سجيناً أو غائباً في بلد بعيد أكثر من مدة الحمل.
2 - إذا انتفى أحد هذين الشرطين لا يثبت نسب الولد من الزوج إلا إذا أقر به أوادعاه.
3 - إذا توافر هذان الشرطان لا ينفى نسب المولود عن الزوج إلا باللعان.
وقضى القانون المصري رقم (25) لسنة 1929 في المادة (15) بمنع القضاة من سماع دعوى نسب الولد في حالة الإنكار إذا ثبت عدم التلاقي بين الزوجين وزوجته من حين العقد إلى الولادة، كما قضى بمنعهم من سماع مثل هذه الدعوى إذا أتت الزوجة بالولد بعد سنة من غيبة الزوج عنها.

وقت ثبوت النسب بعد الفرقة من زواج صحيح:
الفرقة إما أن تكون قبل الدخول أو بعد الدخول:
أـ إذا طلق الرجل زوجته قبل الدخول والخلوة، ثم ولدت ولداً بعد الطلاق، فإن أتت به قبل مضي ستة أشهر من تاريخ الطلاق، ثبت نسبه من الزوج، للتيقن بأنها حملت به قبل الفرقة.
وإن أتت به بعد مضي ستة أشهر أو أكثر من تاريخ الطلاق، فلا يثبت نسبه من الزوج، إذ لا نتيقن بحدوث الحمل قبل حصول الفرقة.

(10/7259)


ب ـ وإذا طلق الرجل زوجته بعد الدخول أو الخلوة، سواء كان الطلاق رجعياً أو بائناً، أو مات عنها:
فإن أتت المرأة بولد بعد الطلاق أو الوفاة، ثبت نسبه من الزوج، إذا ولدته قبل مضي أقصى مدة الحمل من يوم الطلاق أو الوفاة. وأقصى مدة الحمل هي كما تقدم أربع سنين في رأي الشافعية والحنابلة، وسنتان في رأي الحنفية، وخمس سنوات في المشهور لدى المالكية.
أما إن ولدته بعد مضي أقصى مدة الحمل من يوم الطلاق أو الوفاة فلا يثبت نسبه من الزوج المطلق أو المتوفى. وهذا رأي الجمهور.
وفصَّل الحنفية بين الطلاق الرجعي والطلاق البائن، فقالوا:
أـ إن كان الطلاق رجعياً، ولم تقر المرأة بانقضاء عدتها، ثبت نسب الولد من الزوج، سواء أتت به قبل مضي سنتين من تاريخ الطلاق أو بعد مضي سنتين أو أكثر؛ لأن الطلاق الرجعي لا يحرم المرأة على زوجها، فيجوز له الاستمتاع بها، ويكون ذلك رجعة.
فإن أقرت بانقضاء العدة، وكانت المدة تحتمل انقضاءها، بأن كانت ستين يوماً في رأي أبي حنيفة، وتسعة وثلاثين يوماً في رأي الصاحبين، فلا يثبت نسب الولد من الزوج إلا إذا كانت المدة بين الإقرار والولادة أقل من ستة أشهر لتبين كذبها أو خطئها في إقرارها. فإن كانت ستة أشهر فأكثر، فلا يثبت نسبه من الزوج إلا إذا ادعاه.
ب ـ وإن كان الطلاق بائناً أو كانت الفرقة بسبب وفاة الزوج، ولم تقر بانقضاء العدة، فلا يثبت نسب الولد إلا إذا أتت به قبل مضي سنتين من تاريخ الطلاق أو الوفاة؛ لأن أقصى مدة الحمل عندهم سنتان. فإن أتت به في هذه المدة،

(10/7260)


وكان هناك احتمال بأنها حملت به بعد مضي هذه المدة، لم يكن هناك احتمال بأنها حملت به قبل الطلاق أو الوفاة.
أما إن أقرت بانقضاء العدة، والمدة تحتمل انتهاء العدة فيها، فلا يثبت نسب الولد من الزوج إلا إذا جاء به قبل مضي ستة أشهر من وقت الإقرار، وكانت المدة بين الطلاق والولادة أقل من سنتين.

موقف القانون: أخذ القانون السوري بهذا التفصيل من حيث المبدأ في المادتين (130، 131) لبيان نسب الولد بعد الفرقة أو وفاة الزوج. فقرر أنه إذا ولدت المطلقة من طلاق رجعي أو بائن أو المتوفى عنها زوجها، فإما أن تكون أقرت بانقضاء عدتها أو لم تقر.
أـ فإذا كانت قد أقرت بانقضاء عدتها، ثم جاءت بولد، يثبت نسبه من الزوج إذا ولد لأقل من ستة أشهر، أي (180) يوماً من وقت الإقرار بانقضاء العدة، وأقل من سنة شمسية من وقت الطلاق أو الموت، لتبين كذبها في الإقرار بانقضاء العدة (م131).
ب ـ وإن لم تكن أقرت بانقضاء العدة، ثبت نسب ولدها من زوجها إذا ولدته خلال سنة من تاريخ الطلاق أو الوفاة. ولا يثبت إذا ولدته لأكثر من سنة إلا إذا ادعاه زوج المطلَّقة، أو ادعاه ورثة المتوفى (م130).
وهذا هو نفس المقرر في القانون المصري رقم (25) لسنة 1929.

ثانياً ـ الزواج الفاسد: الزواج الفاسد في إثبات النسب كالزواج الصحيح (1)؛
لأن النسب يحتاط
_________
(1) الدر المختار: 857/ 2.

(10/7261)


في إثباته إحياء للولد ومحافظة عليه. ويشترط لثبوت النسب بالزواج الفاسد ثلاثة شروط:
1 ً - أن يكون الرجل ممن يتصور منه الحمل: بأن يكون بالغاً عند المالكية والشافعية، أو بالغاً أو مراهقاً عند الحنفية والحنابلة.
2 ً - تحقق الدخول بالمرأة أو الخلوة بها في رأي المالكية: فإن لم يحصل الدخول أو الخلوة بعد زواج فاسد، لم يثبت نسب الولد، والخلوة في الزواج الفاسد كالخلوة في الزواج الصحيح، لإمكان الوطء في كل منهما.
واشترط الحنفية حصول الدخول فقط، أما الخلوة فلا تكفي في ثبوت النسب بالزواج الفاسد؛ لأنه لا يحل فيها الوطء بين الرجل والمرأة.

3 ً - أن تلد المرأة بعد ستة أشهر أو أكثر من تاريخ الدخول أو الخلوة عند المالكية، ومن تاريخ الدخول عند الحنفية. فلو ولدت المرأة ولداً قبل مضي ستة أشهر من الدخول والخلوة عند الأولين لا يثبت نسبه من الرجل؛ لأنه يدل على وجوده قبل ذلك وأنه من رجل آخر. وإذا ولدته المرأة بعد ستة أشهر أو أكثر من تاريخ الدخول أو الخلوة، ثبت نسبه من الرجل.
ولا ينتفي نسبه عن الرجل إلا باللعان في رأي المالكية والشافعية والحنابلة (1). ولا ينتفي نسبه ولو باللعان في رأي الحنفية؛ لأن اللعان لا يصح عند الحنفية إلا بعد زواج صحيح، والزواج هنا فاسد.
والمقرر عند المالكية: أن كل نكاح يدرأ فيه الحد، فالولد لاحق بالواطئ، وحيث وجب الحد لا يلحق النسب (2).
_________
(1) المغني: 400/ 7.
(2) القوانين الفقهية: ص 211.

(10/7262)


وقت ثبوت النسب بعد الفرقة من زواج فاسد:
إذا حدثت الفرقة بعد زواج فاسد بالمتاركة أو تفريق القاضي بعد الدخول، أو الخلوة في رأي المالكية، ثم ولدت المرأة قبل مضي أقصى مدة الحمل من تاريخ الفرقة، ثبت نسبه من الرجل. وإن ولدته بعد مضي أقصى مدة الحمل، لا يثبت نسبه منه. وأقصى مدة الحمل كما سبق هي أربع سنين في رأي الشافعية والحنابلة، وخمس سنين في رأي المالكية، وسنتان في رأي الحنفية، وسنة شمسية لدى القانونيين والأطباء.

موقف القانون: نص القانون السوري على ثبوت النسب في الزواج الفاسد في المادة (132) التالية، أخذاً بالمذهب الحنفي:
1 - المولود من زواج فاسد بعد الدخول إذا ولد لمئة وثمانين يوماً فأكثر من تاريخ الدخول، ثبت نسبه من الزوج.
2 - إذا كانت ولادته بعد متاركة أو تفريق، لا يثبت نسبه إلا إذا جاءت به خلال سنة من تاريخ المتاركة أو التفريق.

ثالثاً ـ الوطء بشبهة: الوطء بشبهة: هو الاتصال الجنسي غير الزنا، وليس بناء على عقد زواج صحيح أو فاسد، مثل المرأة المزفوفة إلى بيت زوجها دون رؤية سابقة، وقيل: إنها زوجته، فيدخل بها. ومثل وطء امرأة يجدها الرجل على فراشه، فيظنها زوجته. ومثل وطء المطلقة طلاقاً ثلاثاً أثناء العدة، على اعتقاد أنها تحل له.
فإن أتت المرأة بولد بعد مضي ستة أشهر أو أكثر من وقت الوطء، ثبت نسبه من الواطئ لتأكد أن الحمل منه. وإن أتت به قبل مضي ستة أشهر لا يثبت النسب

(10/7263)


منه، لتأكد أن الحمل حدث قبل ذلك، إلا أنه إذا ادعاه ثبت نسبه منه، إذ قد يكون وطئها قبل ذلك بشبهة أخرى (1).
وإذا ترك الرجل الموطوءة عن شبهة، ثبت النسب من الواطئ، كما يثبت بعد الفرقة من زواج فاسد.
أما إن حدث الوطء بغير شبهة وإنما بالزنا، فلا يثبت نسب الولد من الزاني، للحديث المتقدم، «الولد للفراش وللعاهر الحجر» ولأن الزنا محظور شرعاً، فلا يكون سبباً لنعمة النسب.

موقف القانون: نص القانون السوري على ثبوت النسب بالدخول بشبهة في المادة (133) التالية:
1 ـ الموطوءة بشبهة إذا جاءت بولد ما بين أقل مدة الحمل وأكثرها، يثبت نسبه من الواطئ.
2 - متى ثبت النسب ولو بنكاح فاسد أو بشبهة، ترتب عليه جميع نتائج القرابة، فيمنع النكاح في الدرجات الممنوعة، وتستحق به نفقة القرابة والإرث.

آثار النسب: أوضحت الفقرة الثانية من هذه المادة آثار ثبوت النسب، فإذا ثبت النسب، ولو من نكاح فاسد أو وطء بشبهة، ترتب عليه جميع نتائج القرابة، فيمنع الزواج في الدرجات الممنوعة، وتستحق به نفقة القرابة، ويستحق به الإرث. وكان ينبغي إفراد هذه الفقرة بمادة مستقلة، لشمولها جميع أسباب ثبوت النسب من زواج صحيح أو فاسد أو بشبهة.
_________
(1) المغني: 431/ 7 وما بعدها.

(10/7264)


المبحث الثاني ـ طرق إثبات النسب:
يثبت النسب بأحد طرق ثلاثة وهي (1):
1ً - الزواج الصحيح أو الفاسد.
2ً - الإقرار بالنسب.
3ً - البينة.

الطريق الأول ـ الزواج الصحيح أو الفاسد:
الزواج الصحيح أو الفاسد سبب لإثبات النسب، وطريق لثبوته في الواقع، متى ثبت الزواج ولو كان فاسداً، أو كان زواجاً عرفياً، أي منعقداً بطريق عقد خاص دون تسجيل في سجلات الزواج الرسمية، يثبت به نسب كل ما تأتي به المرأة من أولاد.

الطريق الثاني ـ الإقرار بالنسب أوادعاء الولد:
الإقرار بالنسب نوعان: إقرار على نفس المقر، وإقرار محمول على غير المقر.

أما الإقرار بالنسب على نفس المقر: فهو أن الأب بالولد أو الابن بالوالد، كأن يقول: هذا ابني، أو هذا أبي، أو هذه أمي. ويصح هذا الإقرار من الرجل ولو في مرض الموت، بشروط أربعة متفق على أغلبها بين المذاهب، وهي ما يأتي، وقد ذكرتها في بحث الإقرار، وأعيدها هنا:
_________
(1) البدائع: 215/ 3 - 218، 228/ 7، الشرح الكبير معد الدسوقي: 412/ 3 - 414، الخرشي: 316/ 4، مغني المحتاج: 259/ 2، المغني: 184/ 5.

(10/7265)


1 ً - أن يكون المقر به مجهول النسب: بأن لا يكون معروف النسب من أب آخر، فإن كان ثابت النسب من أب معروف غير المقر، كان هذا الإقرار باطلاً؛ لأن الشرع قاض بثبوت النسب من ذلك الأب، ومتى تأكد ثبوت النسب من شخص، لا يقبل الانتقال منه إلى غيره، فقد لعن النبي صلّى الله عليه وسلم من انتسب إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه.
ومجهول النسب عند بعض الحنفية: هو الذي لا يعلم له أب في البلد الذي ولد فيه. وهذا هو الظاهر الآن مع سهولة المواصلات والبحث عن بلد الميلاد.
واستثنى العلماء من هذا الشرط ولد اللعان، فإنه لا يصح ادعاؤه بالنسب وإلحاقه بغير الأب الملاعن، لاحتمال أن يرجع الملاعن ويكذب نفسه فيما ادعاه من أن الولد ليس منه.
2ً - أن يصدقه الحس: بأن يكون المقر به محتمل الثبوت من نسب المقر، بأن يكون ممن يولد مثل المقر به لمثل المقر، وذلك في سن تسمح بأن يكون ابناً للمقر. فلو كان المقر ببنوته أكبر من المقر أو مساوياً له في السن أو مقارباً، بحيث لا يمكن أن يكون ابناً للمقر عادة، لم يصح إقراره؛ لأن الحس أو الواقع يكذبه في هذا الإقرار، فمن قال لغلام: هذا ابني، وكان سن الغلام عشر سنوات، وسن المقر عشرين سنة، لم يعتبر هذا الإقرار عند الحنفية؛ لأن الغلام لا يولد له في رأيهم قبل بلوغ سن الثانية عشرة.
وكذلك إذا نازع المقر منازع آخر غيره، لم يثبت نسبه؛ لأنه إذا نازعه فيه غيره تعارض الإقراران، فلم يكن إلحاقه بأحدهما أولى من الآخر.
3ً - أن يصدقه المقر له في إقراره إن كان أهلاً للتصديق، بأن يكون بالغاً عاقلاً عند الجمهور، ومميزاً عند الحنفية؛ لأن الإقرار حجة قاصرة على المقر، فلا تتعداه

(10/7266)


إلى غيره إلا ببينة، أو تصديق من الغير. فإن كان المقر به صغيراً أو مجنوناً، فلا يشترط تصديقهما؛ لأنهما ليسا بأهل للإقرار أو التصديق.
وقال المالكية: ليس تصديق المقر به شرطاً لثبوت النسب من المقر؛ لأن النسب حق للولد على الأب، فيثبت بإقراره بدون توقف على تصديق منه، إذا لم يقم دليل على كذب المقر.
4ً - ألا يكون فيه حمل النسب على الغير: سواء كذبه المقر له أو صدقه؛ لأن إقرار الإنسان حجة قاصرة على نفسه، لا على غيره؛ لأنه على غيره شهادة أو دعوى، وشهادة الفرد فيما لا يطلع عليه الرجال غير مقبولة، والدعوى المفردة ليست بحجة.
وبناء عليه إذا كان المقر ببنوة الغلام زوجة أو معتدة، فيشترط مع ما ذكر أن يوافق زوجها على الاعتراف ببنوته له أيضاً، أوأن تثبت ولادتها له من ذلك الزوج؛ لأن فيه تحميل النسب على الغير، فلا يقبل إلا بتصديقه أو ببينة.
ويبطل الإقرار إن صرح المقر في إقراره بأن الولد ابنه من الزنا؛ لأن الزنا لا يصلح سبباً لإثبات النسب، إذ النسب نعمة فلا تنال بالمحظور.
فإذا استوفى الإقرار بالبنوة أو الأبوة هذه الشروط، صح وثبت به نسب المقر له من المقر، وترتب عليه الإرث الشرعي. وإذا صح الإقرار لا يملك المقر الرجوع فيه بعدئذ؛ لأن النسب إذا ثبت لا يبطل بالرجوع.
وقد اشترط الحنفية لصحة الإقرار بالنسب أيضاً حياة الولد، فلو أقر شخص بأن فلاناً ابنه، وكان المقر له بالبنوة ميتاً، لم يصح هذا الإقرار، ولا يثبت به النسب؛ إذ لا حاجة بعد الوفاة لإثبات النسب؛ لأنه لا يحتاج الميت إلى تكريم ولا

(10/7267)


تشريف. لكن استثنى الحنفية منه ما إذا كان للابن المتوفى أولاد، فإن الإقرار بنسبه بعد وفاته، يكون صحيحاً، رعاية لمصلحة هؤلاء الأولاد؛ لأنه يحتاجون إلى ثبوت نسب أبيهم، وفي ثبوت نسبه شرف لهم وتكريم.
ولم يشترط المالكية حياة الولد المقر به؛ لأن النسب حق للولد على أبيه، فلا يتوقف إثباته على حياة الولد، كما لا يتوقف على تصديقه، إلا أن الأب لا يرث الابن الذي استلحقه إلا إذا كان له ولد، أو كان المال قليلاً، حتى لا يتهم الأب بأن إقراره لأجل أخذ المال الكثير.
والشروط السابقة تشترط أيضاً في الإقرار بنسب على الغير، ما عدا الشرط الأخير.
وقال الشافعية والحنابلة: يثبت النسب بالإقرار على الغير بالشروط السابقة، وبشرط كون المقر جميع الورثة، وبشرط كون الملحق به النسب ميتاً، فلا يلحق بالحي ولو كان مجنوناً، لاستحالة ثبوت نسب الشخص ـ مع وجوده حياً ـ بقول غيره.

وأما الإقرار بنسب محمول على الغير:
فهو الإقرار بما يتفرع عن أصل النسب، كأن يقر إنسان فيقول: هذا أخي، أوهذا عمي، أو هذا جدي، أو هذا ابن ابني.
ويصح بالشروط السابقة، ويزاد عليها شرط آخر، وهو تصديق الغير، فإذا قال إنسان: هذا أخي، يشترط لثبوت نسبه عندا لحنفية أن يصدقه أبوه فيه، أو تقوم البينة على صحة الإقرار، أو يصدقه اثنان من الورثة إن كان الغير ميتاً؛ لأن الإقرار حجة قاصرة على المقر، لولايته على نفسه دون غيره.

(10/7268)


فإن لم يصدقه الغير أو لم يصدقه اثنان من الورثة، أو لم تقم بينة على صحة الإقرار، يعامل المقر بمقتضى إقراره في حق نفسه، فتجب عليه نفقة المقر له إن كان عاجزاً فقيراً، وكان المقر موسراً، ويشارك المقر له المقر في حصته التي يرثها من تركة أبيه. هذا رأي الحنفية.
وقال المالكية: يأخذ المقر له بالأخوة المقدار الذي نقص من حصة المقر بسبب إقراره.
فإذا أقر ولد بأخوة آخر، وأنكره الولد الآخر، أخذ المنكر نصف التركة، وشارك المقر له في النصف الآخر عند الحنفية. وأما عند المالكية فيأخذ المنكر نصيبه كاملاً، ويأخذ المقر له ما نقص من نصيب المقر على فرض أن التركة توزع على ثلاثة.
فلو كانت التركة (12) ديناراً مثلاً، أخذ المقر له على رأي الحنفية (3) دنانير كنصيب المقر، وعلى رأي المالكية أخذ دينارين ويكون للمنكر (6)، وللمقر (4) لأن التركة توزع على ثلاثة، ففي حال عدم وجود المقر له يكون للمقر (6)، وفي حال وجوده يكون له (4)، فما نقص من نصيبه وهو (2) يأخذه المقر له.
وإذا صح الإقرار بالنسب لإنسان، شارك الورثة في الميراث. وإن لم يصدقه الغير، ومات المقر، ورث منه المقر له، كباقي ورثته.

موقف القانون: نص القانون السوري على الإقرار بالنسب.
نصت المادة (1/ 134) على شرط كون المقر به مجهول النسب وشرط تصديق الحس، ونصها:

(10/7269)


الإقرار بالبنوة ولو في مرض الموت لمجهول النسب، يثبت به النسب من المقر إذا كان فرق السن بينهما يحتمل هذه البنوة.
والفقرة الثانية من هذه المادة نصت على حالة إقرار الزوجة:
2 - إذا كان المقر امرأة متزوجة أو معتدة، لا يثبت نسب الولد من زوجها إلا بمصادقته أو بالبينة.
ونصت المادة (135) على شرط تصديق الغير وشرط تصديق الحس أيضاً: إقرار مجهول النسب بالأبوة أو بالأمومة يثبت به النسب إذا صادقه المقر له، وكان فرق السن بينهما يحتمل ذلك.
ونصت المادة (136) على حالة الإقرار بنسب محمول على الغير: الإقرار بالنسب في غير البنوة والأبوة والأمومة لا يسري على غير المقر إلا بتصديقه.

نوع البينة في إثبات النسب على الغير:
إثبات النسب على الغير كهذا أخي أو عمي قد يكون بالبينة، وهي عند أبي حنيفة ومحمد: إقرار رجلين أو رجل وامرأتين، كالشهادة.
ويرى مالك: أنه لا يثبت النسب على الغير إلا بإقرار اثنين؛ لأنه يحمل النسب على غيره، فاعتبر فيه العدد كالشهادة.
وقال الشافعي وأحمد وأبو يوسف: إن أقر جميع الورثة بنسب من يشاركهم في الإرث، ثبت نسبه، حتى ولو كان الوارث واحداً ذكراً أو أنثى؛ لأن النسب حق يثبت بالإقرار، فلم يطلب فيه العدد كالدين، ولأن الإقرار قول لا تشترط فيه عدالة، فلم يصح قياسه على الشهادة.

(10/7270)


الفرق بين الإقرار بالنسب وبين التبني:
ليس الإقرار بالنسب هو التبني المعروف؛ لأن الإقرار لا ينشئ النسب وإنما هو طريق لإثباته وظهوره. أما التبني فهو تصرف منشئ لنسب. ولأن البنوة التي تثبت بالتبني تتحقق ولو كان للمتبنى أب معروف، أما البنوة التي تثبت بالإقرار فلا تتحقق إلا إذا لم يكن للولد أب معروف.

الطريق الثالث ـ البينة:
البينة حجة متعدية لا يقتصر أثرها على المدعى عليه، بل يثبت في حقه وحق غيره، أما الإقرار فهو كما عرفنا حجة قاصرة على المقر لاتتعداه إلى غيره. وثبوت النسب بالبينة أقوى من الإقرار؛ لأن البينة أقوى الأدلة اليوم؛ لأن النسب وإن ظهر بالإقرار لكنه غير مؤكد، فاحتمل البطلان بالبينة.

ونوع البينة التي يثبت بها النسب كما سبق: هي شهادة رجلين أو رجل وامرأتين عند أبي حنيفة ومحمد. وشهادة رجلين فقط عند المالكية، وجميع الورثة عند الشافعية والحنابلة وأبي يوسف.
والشهادة تكون بمعاينة المشهود به أو سماعه، فإذا رأى الشاهد أو سمعه بنفسه، جاز له أن يشهد، وإذا لم يره أو يسمعه بنفسه، لا يحل له أن يشهد، لقوله صلّى الله عليه وسلم لشاهد: «ترى الشمس؟ قال: نعم، فقال: على مثلها فاشهد أو دع» (1).

الشهادة بالتسامع لإثبات النسب:
التسامع: استفاضة الخبر واشتهاره بين الناس، وقد اتفق فقهاء المذاهب
_________
(1) رواه البيهقي والحاكم وصحح إسناده، وتعقبه الذهبي فقال: بل هو حديث واهٍ (سبل السلام: 130/ 4).

(10/7271)


الأربعة على جواز إثبات النسب بشهادة السماع، كما هو الشأن في الزواج أو الزفاف والدخول بالزوجة، والرضاع والولادة والوفاة (1).
ودليلهم: أن هذه الأمور لا يطلع عليها إلا خواص الناس، فإذا لم تجز فيها الشهادة بالسماع، أدى إلى الحرج، وتعطيل الأحكام المترتبة عليها كالإرث وحرمة الزواج.
لكن اختلف الفقهاء في بيان المراد من التسامع، فقال أبو حنيفة: هو أن تتواتر به الأخبار ليحصل للسامع نوع من اليقين.
وقال الصاحبان: هو أن يخبر الشاهد رجلان عدلان أو عدل وامرأتان واختار قولهما بعض الفقهاء، بدليل أن القاضي يحكم بشهادة شاهدين، ولو لم ير المشهود به، أو يسمعه بنفسه. ويكفي الشاهد أن يقول: أشهد بكذا، ولا يقول: سمعت.
وتوسط المالكية فقالوا: أن يكون المنقول عنه غير معين ولا محصور، بأن ينتشر المسموع به بين الناس العدول وغيرهم. واشترطوا أن يقول الشهود: سمعنا كذا، ونحوه.
وقال الشافعية في الأرجح، والحنابلة في الأصح مثل قول أبي حنيفة: شرط التسامع سماع المشهود به من جمع كثير يؤمن تواطؤهم (أي توافقهم) على الكذب، بحيث يحصل به العلم (أي اليقين) أو الظن القوي بخبرهم. ولا يكفي الشاهد بالاستفاضة أن يقول: سمعت الناس يقولون كذا، وإن كانت شهادته مبنية عليها، بل يقول: أشهد أنه له، أو أنه ابنه مثلاً؛ لأنه قد يعلم خلاف ما سمع من الناس.
_________
(1) المبسوط: 111/ 16، البدائع: 266/ 6، الدسوقي: 198/ 4 وما بعدها، مغني المحتاج: 448/ 4 ومابعدها، المغني: 161/ 9 ومابعدها.

(10/7272)