الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي الفَصْلُ الثَّاني: الرّضاع
آثرت هنا بحث كل ما يتعلق بالرضاع من أحكام؛ لأن الباحث يرتاح له، فأوضحت
حق الولد في الرضاع وما يستتبعه من أحكام، وهذا ما يتعلق بهذا الباب المخصص
لحقوق الأولاد، ثم بحثت تأثير الرضاع في تحريم الزواج بسبب القرابة الناشئة
عنه، وما يستلزمه من طرق إثبات الرضاع. فكان هذا الفصل مشتملاً على مباحث
ثلاثة:
الأول ـ حق الولد الصغير في الرضاع.
الثاني ـ شروط الرضاع المحرِّم للزواج.
الثالث ـ ما يثبت به الرضاع.
علماً بأن أركان الرضاع في اصطلاح الجمهور غير الحنفية ثلاثة: وهي مرضع،
ولبن، ورضيع.
المبحث الأول ـ حق الولد الصغير في الرضاع:
فيه مطالب أربعة عن وجوب الإرضاع على الأم، واستحقاق أجرة الرضاع، وتقديم
الأم على المتبرعة بالرضاع، والمكلف بأجرة الرضاع ومقدار الأجرة.
(10/7273)
المطلب الأول ـ هل
يجب الإرضاع على الأم؟ اتفق فقهاء الإسلام على أن
الرضاع واجب على الأم ديانة تسأل عنه أمام الله تعالى حفاظاً على حياة
الولد، سواء أكانت متزوجة بأبي الرضيع، أم مطلَّقة منه وانتهت عدتها.
واختلفوا في وجوبه عليها قضاء، أيستطيع القاضي إجبارها عليه أم لا؟
قال المالكية بالوجوب قضاء، فتجبر عليه، وقال الجمهور بأنه مندوب لا تجبر
عليه، ولها أن تمتنع إلا عند الضرورة (1)، ورضاع الولد على الأب وحده، وليس
له إجبار أمه على رضاعه، سواء كانت من مرتبة أدنى أو شريفة، وسواء أكانت في
حال الزوجية أم مطلقة. وجاء في المقدمات الممهدات لابن رشد المالكي: ويستحب
للأم أن ترضع ولدها.
ومنشأ الخلاف: كيفية فهم المراد من قوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن
حولين كاملين، لمن أراد أن يتم الرضاعة ... } إلىقوله: {وإن أردتم أن
تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلَّمتم ما آتيتم بالمعروف} [سورة
البقرة: 233/ 2].
ذهب المالكية: إلى أنه يجب على الأم إذا كانت زوجة أو معتدة من طلاق رجعي
إرضاع ولدها، فلو امتنعت من إرضاعه بدون عذر، أجبرها القاضي، إلا المرأة
الشريفة لثراء أو حسب فلا يجب عليها الإرضاع إن قبل الولد الرضاع من غيرها،
فهم فهموا من الآية أنها أمر لكل والدة زوجة أو غيرها بالرضاع، وهو
_________
(1) أحكام القرآن لابن العربي: 204/ 1 - 206، 1828/ 4، أحكام القرآن
للجصاص: 403/ 1 ومابعدها، الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 929/ 2
ومابعدها، تفسير القرآن لابن كثير: 283/ 1، فتح القدير: 345/ 3، المغني:
627/ 7، البدائع: 40/ 4، القوانين الفقهية: ص 222، بداية المجتهد: 56/ 2،
الشرح الصغير: 754/ 2، مغني المحتاج: 449/ 3.
(10/7274)
حق عليها، واستثنوا الشريفة بالعرف القائم
على المصلحة. ولا يجب الإرضاع أيضاً على المطلقة طلاقاً بائناً، لقوله
تعالى: {فإن أرضعن لكم، فآتوهن أجورهن} [الطلاق:6/ 65] فإن هذه الآية واردة
في المطلقات طلاقاً بائناً.
وقالوا: إن معنى قوله تعالى: {لاتضارّ والدة بولدها، ولا مولود له بولده}
[البقرة:233/ 2] أن الأم لا تأبى أن ترضعه إضراراً بأبيه، ولا يحل للأب أن
يمنع الأم من إرضاعه. وذلك كله عند الطلاق؛ لأن ذكر النهي عن الضرر جاء عند
ذكر الطلاق، ولأن النفقة واجبة للمطلقة الرجعية لأجل بقاء النكاح في العدة،
ولا تستوجب الأم زيادة على النفقة لأجل رضاعه. أما البائن فيجب لها أجر
الرضاع بنص الآية السابقة.
وورد في صحيح البخاري عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «تقول لك المرأة: أنفق
عليَّ وإلا طلقني، ويقول لك العبد: أطعمني واستعملني، ويقول لك ابنك: أنفق
علي، إلى من تكلني؟!».
وذهب الجمهور إلى أن الآية أمر ندب وإرشاد من الله تعالى للوالدات أن يرضعن
أولادهن، إلا إذا لم يقبل الولد ثدي غير الأم، بدليل قوله تعالى: {وإن
تعاسرتم فسترضع له أخرى} [الطلاق:6/ 65] وإنما ندب للأم إرضاع ولدها، لأن
لبن الأم أصلح للطفل، وشفقة الأم عليه أكثر، ولأن الرضاع حق للأم، كما هو
حق للوليد، ولا يجبر أحد على استيفاء حقه، إلا إذا وجد ما يستدعي الإجبار.
ويفهم منه أن الفقهاء اتفقوا على وجوب الإرضاع على الأم في ثلاث حالات وهي:
(10/7275)
1ً - ألا يقبل
الطفل الرضاع إلا من ثدي أمه، فيجب عندئذ إرضاعه إنقاذاً له من الهلاك،
لتعين الأم، كما تجبر المرضعة على استدامة الإجارة بعد مضي مدتها، إذا لم
يقبل ثدي غيرها.
2ً - ألا توجد مرضعة أخرى
سواها، فيلزمها الإرضاع حفاظاً على حياته.
3ً - إذا عدم الأب
لاختصاصها به، أو لم يوجد لأبيه ولا للولد مال لاستئجار مرضعة، فيجب عليها
إرضاعه، لئلا يموت.
وأوجب الشافعية على الأم إرضاع اللَّبَأ: وهو اللبن النازل أول الولادة؛
لأن الولد لا يعيش بدونه غالباً، وغيرها لا يغني.
استئجار المرضع: إذا امتنعت الأم عن
الإرضاع في غير هذه الحالات، وجب على الأب أن يستأجر مرضعة وتسمى (ظئراً)
لإرضاعه، محافظة على حياة الولد، وعلى الظئر المستأجرة أن ترضعه عند أمه؛
لأن الحضانة حق لها، وامتناعها عن الإرضاع لا يسقط حقها في الحضانة، لأن
كلاً منهما حق مستقل عن الآخر.
فإن لم يستأجر الأب مرضعة، كان للأم أن تطالبه قضاء بدفع أجرة الرضاع،
لتستأجر هي من ترضعه.
ولا يستأجر الأب ولو من مال الصغير أم الرضيع في حال الزوجية أو العدة من
طلاق رجعي، ويجوز استئجارها إذا كانت بائناً في الأصح لدى الحنفية؛ لأن
الأب في حال الزوجية والعدة قائم بنفقة الزوجة، ولا يجتمع عليه واجبان، وفي
أخذها الأجرة من مال الصغير أخذ للأجرة على الواجب عليها ديانة، وهو
الرضاع، أما بعد البينونة فلا تجبر الأم على إرضاع الولد قضاء، فساغ لها
أخذ الأجرة على الرضاع في رواية صحيحة عند الحنفية وهي المعتمدة كما ذكر
ابن عابدين، وفي رواية أخرى رجحها صاحب الهداية: لا أجرة لها؛ لأن لها
النفقة في العدة.
(10/7276)
المطلب الثاني ـ
حالة استحقاق الأم أجرة الرضاع، ومدة الاستحقاق وبدء الاستحقاق:
أولاً ـ حالة استحقاق الأم أجرة الرضاع: إذا أرضعت الأم ولدها بنفسها أو
بإجبارها على الرضاع قضاء، فهل تستحق أجرة على الرضاع؟ في الأمر تفصيل وهو
ما يأتي (1):
1 - لا تستحق الأم أجرة الرضاع عند الحنفية والشافعية والحنابلة في حال
الزوجية أو أثناء العدة من الطلاق الرجعي؛ لأن الزوج مكلف بالإنفاق عليها،
فلا تستحق نفقة أخرى مقابل الرضاع، حتى لا يجتمع عليه واجبان: النفقة
والأجرة في آن واحد، وهو غير جائز لكفاية النفقة الواجبة على الزوج.
ووافق المالكية على هذا الرأي إذا كان الرضاع واجباً على الأم، وهو الحالة
الغالبة، أما إن كان الرضاع غير واجب على الأم كالشريفة القدر، فإنها تستحق
الأجرة على الرضاع.
2 - تستحق الأم الأجرة على الرضاع بالاتفاق بعد انتهاء الزوجية والعدة، أو
في عدة الوفاة، لقوله تعالى: {فإن أرضعن
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 929/ 2 وما بعدها، أحكام القرآن لابن
العربي: 1828/ 4 ومابعدها، أحكام القرآن للجصاص: 463/ 3، فتح القدير: 345/
3، بداية المجتهد: 56/ 2.
(10/7277)
لكم فآتوهن أجورهن} [الطلاق:6/ 65] فهي
واردة في المطلَّقات، ولأنه لا نفقة للأم بعد الزوجية وفي عدة الوفاة.
3 - تستحق الأم الأجرة على الرضاع في عدة الطلاق البائن في الأصح عند بعض
الحنفية، لأنها كالأجنبية، وكذا عند المالكية، لقوله تعالى: {فإن أرضعن
لكم، فآتوهن أجورهن} [الطلاق:6/ 65] فقد أوجب تعالى للمطلقات بائناً الأجرة
على الرضاع، حتى لو كانت حاملاً ولها النفقة؛ لأن كلاً من النفقة وأجرة
الرضاع وجب بدليل خاص به، فوجوب أحدهما لا يمنع وجوب الآخر. وهذا هو المقرر
في القانون السوري كما سأبين.
وذكر بعض الحنفية أن المفتى به عدم الفرق بين عدة الرجعي والبائن، فلا
تستحق الأم أجرة الرضاع في الحالتين لوجوب النفقة لها مطلقاً، وهذا هو
المعمول به في محاكم مصر.
والحاصل: أن المدار في استحقاق الأم أجرة الرضاع وعدم استحقاقها على وجوب
الرضاع وعدم وجوبه عليها في رأي المالكية، وعلى وجوب النفقة للأم وعدم
وجوبها لها في رأي الحنفية.
ثانياً ـ مدة الاستحقاق: اتفق الفقهاء على أن مدة استحقاق الأجرة على
الرضاع هي سنتان فقط، فمتى أتم الطفل حولين كاملين، لم يكن للمرضع الأم
الحق في المطالبة بأجرة الرضاع (1)، لقوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن
حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} [البقرة:233/ 2] د لت الآية على أن
الأب يلزم بنفقة الرضاع في مدة سنتين فقط.
ثالثاً ـ بدء الاستحقاق: تستحق المرضع غير الأم المسماة ظئراً وكذا الأم
بعد انتهاء الزوجية الأجرة على الرضاع من تاريخ العقد؛ لأنها مستأجرة
للرضاع، فلا تستحق الأجرة إلا من يوم العقد.
_________
(1) حاشية ابن عابدين: 931/ 2، أحكام القرآن للجصاص: 404/ 1.
(10/7278)
وأما الأم المرضع في حال قيام الزوجية أو
أثناء العدة من طلاق رجعي، فتستحق الأجرة بالإرضاع في المدة مطلقاً بلا عقد
إجارة، في رأي المالكية، وأما في رأي الحنفية على الراجح فمن تاريخ قيامها
بالإرضاع. وقيل عند الحنفية: من وقت طلبها الأجر. ولا تسقط الأجرة بموت
الأب، بل تكون دائنة له أسوة بغرمائه، فليست الأجرة نفقة وإنما هي دين
يستحق في التركة، إذ لو كانت نفقة لسقطت بموته، كما تسقط بالموت نفقة
الزوجة والقريب ولو بعدا لقضاء، ما لم تكن مستدانة بأمر القاضي (1). وإذا
لم يكن للرضيع أب وجبت الأجرة على من يلي الأب في الإنفاق عليه.
المطلب الثالث ـ التفضيل بين الأم والمتبرعة
بالرضاع:
اتفق الفقهاء على أن الأم تقدم في الإرضاع إذا أرضعت ولدها بدون أجر، أو لم
تطلب زيادة على ما تأخذه الأجنبية ولو دون أجر المثل، أو لم توجد مرضعة إلا
بأجر، رعاية لمصلحة الصغير بسبب كون الأم أكثر حناناً وشفقة عليه من غيرها،
ولأن في منع الأم من إرضاع ولدها إضراراً بها، وهو لا يجوز، لقوله تعالى:
{لا تضار والدة بولدها} [البقرة:233/ 2] وقوله سبحانه: {والوالدات يرضعن
أولادهن حولين كاملين} [البقرة:233/ 2] دل النص على أن الأم أحق برضاع
ولدها في الحولين (2).
فإن وجدت متبرعة بالإرضاع، وطلبت الأم الأجر، أو وجدت مرضعة بأجر أقل مما
تأخذه الأم، كانت الأم عند المالكية والحنابلة هي الأحق من غيرها بأجر
المثل، لإطلاق الآية السابقة: {لا تضارّ والدة بولدها} [البقرة:233/ 2]
وآية:
_________
(1) ابن عابدين، المكان السابق.
(2) الجصاص، المكان السابق.
(10/7279)
{والوالدات يرضعن أولادهن} [البقرة:233/ 2]
ولأنها أحنى وأشفق على الولد من الأجنبية، ولبنها أمرأ من لبن غيرها.
وتقدم الأجنبية في رأي الحنفية والشافعية في الأظهر (1) حينئذ، سواء أكان
الأب موسراً أم معسراً؛ رفقاً بالأب ودفعاً للضرر عنه، لقوله تعالى: {لا
تضار والدة بولدها، ولا مولود له بولده} [البقرة:233/ 2] أي بإلزامه لها
أكثر من أجرة الأجنبية، وقوله تعالى: {وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا
جناح عليكم} [البقرة:233/ 2].
ويقال للأم حينئذ: إما أن ترضعيه متبرعة، أو بمثل الأجرة التي تطالب بها
غيرك، وإما أن تسلميه لها.
وإذا سلمته الأم لأجنبية بقي لها حق الحضانة، فإما أن ترضعه المرضعة عند
الأم، وإما أن ترضعه في بيتها، ثم ترده إلى الأم.
المطلب الرابع ـ المكلف بأجرة الرضاع ومقدار
الأجرة:
الأب: هو المكلف بأجرة الرضاع؛ لأنه هو
الملزم بالنفقة على الولد، وتكون أجرة الرضاع على من تجب عليه النفقة،
لقوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم
الرضاعة، وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة:233/ 2] وقوله
سبحانه: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} [الطلاق:6/ 65].
وعلى الأب خمس نفقات للولد الصغير: أجرة الرضاع، وأجرة الحضانة،
_________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 930/ 2، فتح القدير: 345/ 3 وما
بعدها، مغني المحتاج: 450/ 3، المغني: 627/ 7 وما بعدها.
(10/7280)
ونفقة المعيشة من صابون ودهن وفرش وغطاء،
وأجرة مسكن الحضانة الذي تحضنه فيه الأم، وأجرة خادم له إن احتاج إليه.
وتلزم الأب نفقة الصغير وإن خالفه في دينه، كما تجب نفقة الزوجة على الزوج،
وإن خالفته في دينه، للآيات السابقة، وكما سأبين.
لكن إلزام الأب بالنفقة بأنواعها إذا لم يكن للصغير مال، فإن كان له مال،
فالأصل أن نفقة الإنسان في مال نفسه، صغيراً كان أو كبيراً (1). فإن كان
الأب فقيراً ولم يكن للصغير مال أجبرت الأم في رأي الحنفية على إرضاعه،
وتكون الأجرة ديناً على الأب يطالب بها عند يساره. وتجبر الأم على الرضاع
في رأي المالكية وليس لها الرجوع بالأجرة على الأب إذا أيسر.
واجب المرضع: وأما المرضع فلا تكلف بشيء
سوى الإرضاع، وما يوجبه عليها العرف كإصلاح طعام الولد وحفظه وغسله وغسل
ثيابه؛ لأن خدمة الصغير واجب عليها؛ لأن العرف معتبر فيما لا نص فيه. فإن
أرضعته بلبن شاة فلا أجر لها؛ لأنها لم تأت بالعمل الواجب عليها، وهو
الإرضاع، وهذا العقد إيجار، وليس بإرضاع، وهو غير ما وقع عليه عقد الإجارة
(2)
مقدار الأجرة: الأجرة التي تستحقها الأم
هي أجرة المثل: وهي التي تقبل امرأة أخرى أن ترضع الولد في مقابلها.
وتقديرها متروك للقاضي، فلو طلبت الأم أكثر من أجر المثل لا تجاب إلى
طلبها.
_________
(1) فتح القدير: 346/ 3، حاشية ابن عابدين: 931/ 2.
(2) تبيين الحقائق: 129/ 5، البدائع: 41/ 4.
(10/7281)
موقف القانون السوري
من أجرة الرضاع:
نصت المادة (1/ 152) على المكلف بأجرة الرضاع، ولكن في سن الرضاع، لا بعد
الفطام:
1 - أجرة رضاع الولد، سواء أكان الرضاع طبيعياً أم اصطناعياً على المكلف
بنفقته، ويعتبر ذلك في مقابل غذائه.
ونصت الفقرة الثانية من هذه المادة على حالة عدم استحقاق الأم أجرة الرضاع:
2 - لا تستحق الأم أجرة الرضاع حال قيام الزوجية، أو في عدة الطلاق الرجعي.
والمعنى بالمفهوم أنها تستحق أجرة الرضاع بعد انتهاء الزوجية وانقضاء العدة
مطلقاً، وفي عدة الطلاق البائن، وفي عدة الوفاة.
ونصت المادة (153) على الأخذ برأي الحنفية، ولكن في حالة إعسار الأب فقط
بتقديم المتبرعة بالرضاع على الأم، وهو المعقول، ونص المادة هو: «المتبرعة
أحق بالإرضاع إن طلبت الأم أجرة، وكان الأب معسراً، على أن يكون الإرضاع في
بيت الأم».
ولكن في الحضانة تقدم الأم إذا كان الأب موسراً، ولو طلبت أجراً أكثر، وسبب
التفريق بين الحضانة والرضاع: أن الرضاع أمر مادي يقصد به التغذية ونمو
الجسد، أما الحضانة فتتطلب حناناً وشفقة، والأم أحن وأشفق من غيرها.
(10/7282)
المبحث الثاني ـ شروط الرضاع المحرِّم
للزواج عند الفقهاء: اشترط الفقهاء للتحريم بالرضاع الشروط الستة الآتية
(1):
1 ً - أن يكون لبن امرأة آدمية، سواء
أكانت عند الجمهور بكراً أم متزوجة أم بغير زوج: فلا تحريم بتناول غير
اللبن كامتصاص ماء أصفر أو دم أو قيح، ولا بلبن الرجل أو الخنثى المشكل أو
البهيمة، فلو رضع صغيران من شاة مثلاً، لم يثبت بينهما أخوة، فيحل زواجهما؛
لأن الأخوة فرع الأمومة، فإذا لم يثبت الأصل لم يثبت الفرع. واشترط
الحنابلة أن يكون بلبن امرأة ثار لها لبن من الحمل، فلو طلق رجل زوجته وهي
ترضع من لبن ولده، فتزوجت بصبي رضيع، فأرضعته، حرمت عليه؛ لأن الرضيع يصير
ابناً للرجل الذي ثار اللبن بوطئه.
واشترط الشافعية في المرأة أن تكون حيَّة حياة مستقرة حال انفصال اللبن
منها، بلغت تسع سنين قمرية تقريباً، وإن لم يحكم ببلوغها بذلك، فلا تحريم
برضاع المرأة الميتة والصغيرة، أي أن لبن الميتة والصغيرة لا يحرم. لكن لو
حلبت المرأة لبنها قبل موتها، وشربه الطفل بعد موتها، حرم في الأصح،
لانفصاله منها، وهو حلال محترم.
ولم يشترط الجمهور هذا الشرط، فلبن الميتة، والصغيرة التي لم تطق الوطء، إن
قدر أن بها لبناً، يحرِّم؛ لأنه ينبت اللحم، ولأن اللبن لا يموت.
2 - أن يتحقق من وصول اللبن إلى معدة الرضيع،
سواء بالامتصاص من الثدي، أم بشربه من الإناء أو الزجاجة. وهذا شرط عند
الحنفية، فإن لم يتحقق
_________
(1) البدائع: 5/ 4 - 13، القوانين الفقهية: ص 206 وما بعدها، مغني المحتاج:
414/ 3 - 419، كشاف القناع: 515/ 5 ومابعدها، الشرح الصغير: 719/ 2 - 721،
المغني: 537/ 7 - 547، بداية المجتهد: 34/ 2 - 39.
(10/7283)
من الوصول إلى المعدة بأن التقم الثدي، ولم
يعلم أرضع أم لا، فلا يثبت التحريم، للشك في وجود سبب التحريم وهو الرضاع،
والأحكام لا تثبت بالشك.
واكتفى المالكية باشتراط وصول اللبن تحقيقاً أو ظناً أو شكاً إلى الجوف من
الفم برضاع الصغير، فيثبت التحريم ولو مع الشك، عملاً بالاحتياط، ولا يثبت
التحريم على المشهور بمجرد الوصول إلى الحلق فقط. واشترط الشافعية
والحنابلة وجود خمس رضعات متفرقات، والمرجع في معرفة الرضعة إلى العرف،
ولايشترط كونها مشبعة، ولا بد من وصول اللبن إلى الجوف.
3 - أن يحصل الإرضاع بطريق الفم أو الأنف:
فقد اتفق أئمة المذاهب على أن التحريم يحصل بالوجور (وهو صب اللبن في
الحلق) لحصول التغذية به كالارتضاع، وبالسَّعُوط (وهو صب اللبن في الأنف
ليصل الدماغ) لحصول التغذي به؛ لأن الدماغ جوف له كالمعدة، بل لا يشترط
التغذي بما وصل من منفذ عال، بل مجرد وصوله للجوف كاف في التحريم.
ولا يحصل التحريم عند الحنفية، والشافعية في الأظهر، والحنابلة في منصوص
أحمد بالحقنة، أو بتقطير اللبن في العين أو الأذن أو الجرح في الجسم؛ لأن
هذا ليس برضاع ولا في معناه، فلم يجز إثبات حكمه فيه، ولانتفاء التغذي.
وقال المالكية: يحصل التحريم بحقنة تغذي أي تكون غذاء، لا مجرد وصول اللبن
للجوف عن طريق الحقنة. وحينئذ يختلف ما وصل من منفذ عال، فلا يشترط فيه
الغذاء، وما وصل من منفذ سفلي ونحوه فيشترط فيه التغذي.
4 ً - ألا يخلط اللبن بغيره: وهذا شرط
عند الحنفية والمالكية. فإن خلط بمائع آخر، فالعبرة عند الحنفية والمالكية
للغالب، فإن غلب اللبن حرَّم، وإن غلب غير اللبن عليه، حتى لم يبق له عند
المالكية طعم ولا أثر مع الطعام ونحوه، فلا يحرم؛
(10/7284)
لأن الحكم للأغلب، ولأنه بالخلط يزول الاسم
والمعنى المراد به، وهو التغذي، فلا يثبت به الحرمة. ولافرق عند المالكية
بين الخلط بالمائع أو بالطعام.
واعتبر الشافعية في الأظهر والحنابلة في الراجح اللبن المشوب (المختلط
بغيره) كاللبن الخالص الذي لا يخالطه سواه، سواء شيب بطعام أوشراب أو غيره،
لوصول اللبن إلى الجوف، وحصوله في بطنه.
ورأى أبو حنيفة خلافاً للصاحبين أن اللبن المخلوط بالطعام لا يحرم عنده
بحال سواء أكان غالباً أم مغلوباً؛ لأن الطعام وإن كان أقل من اللبن، فإنه
يسلب قوة اللبن ويضعفه، فلا تقع الكفاية به في تغذية الصبي، فكان اللبن
مغلوباً معنى، وإن كان غالباً صورة.
وإذا خلط لبن امرأة بلبن امرأة أخرى: فالحكم للغالب عند أبي حنيفة وأبي
يوسف، فإن تساويا ثبت التحريم من المرأتين جميعاً للاختلاط.
وقال المالكية ومحمد وزفر: يثبت التحريم من المرأتين جميعاً، سواء تساوى
مقدار اللبنين أوغلب أحدهما الآخر، وهذا هو الراجح لدي؛ لأن اللبنين من جنس
واحد، والجنس لا يغلب الجنس.
5 - أن يكون الرضاع في حال الصغر باتفاق
المذاهب الأربعة: فلا يحرم رضاع الكبير: وهو من تجاوز السنتين.
وقال داود الظاهري: إن رضاع الكبير يحرم، وكانت عائشة ترى أن رضاعة الكبير
تحرم، لما روي أن سهلة بنت سهيل قالت: «يا رسول الله، إنا كنا نرى سالماً
ولداً، فكان يأوي معي، ومع أبي حذيفة في بيت واحد، ويراني فُضْلى (1)، وقد
_________
(1) فضْلى وفضلاً: أي متبذلة في ثياب مهنتي.
(10/7285)
أنزل الله فيهم ما قد علمت، فكيف ترى فيه؟
فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلم: أرضعيه حتى يدخل عليه» (1)، فأرضعته
خمس رضعات فكان بمنزلة ولدها، وبناء عليه كانت عائشة تأمر بنات أخواتها
وبنات إخوتها يرضعن من أحبت عائشة أن يراها، ويدخل عليها، وإن كان كبيراً
خمس رضعات (2).
واستدل الجمهور على اشتراط كون الرضاع في حال الصغر بما يأتي:
أولاً ـ بقوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن
يتم الرضاعة} [البقرة:233/ 2] فإنه تعالى جعل تمام الرضاعة في الحولين،
فأفهم أن الحكم بعد الحولين بخلافه. وقال تعالى: {وفصاله في عامين}
[لقمان:14/ 31] أي فطامه، فدل على أن أكثر مدة الرضاع المعتبرة شرعاً
سنتان.
ثانياً ـ بخبر: «لا رضاع إلا ماكان في الحولين» (3) وخبر: «لا يحرِّم من
الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي، وكان قبل الفطام» (4) وخبر «لا رضاع
بعد فصال، ولا يُتْم بعد احتلام» (5). وقال الشافعي رضي الله عنه عن حديث
سهلة: إنه رخصة خاصة بسالم، وكذلك قال الحنابلة وغيرهم، جمعاً بين الأدلة.
ثبت عن عائشة أنها قالت: «دخل علي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعندي
رجل، فقال: من هذا؟ قلت: أخي من الرضاعة، قال: يا عائشة، انظُرن من
إخوانكُنّ، فإنما
_________
(1) رواه أحمد ومسلم عن زينب بنت أم سلمة (نيل الأوطار: 313/ 6).
(2) قيل: إن هذا رخصة لسهلة، وما روي عن عائشة لا يتفق مع نزاهتها ومكانتها
الدينية التي تأبى عليها أساليب الاحتيال، أو أنها تحلب الحليب من ثديها ثم
تعطيه له.
(3) رواه الدارقطني عن ابن عباس (نيل الأوطار: 315/ 6).
(4) رواه الترمذي وصححه عن أم سلمة (المرجع السابق).
(5) رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن جابر (المرجع السابق).
(10/7286)
الرضاعة من المجاعة» (1) وعن ابن مسعود:
«لا رضاع إلا ما أنشز العظم، وأنبت اللحم» (2).
والتزم الشافعية والحنابلة وأبو يوسف ومحمد بظاهر هذه الأدلة، فشرطوا أن
يكون الرضاع في مدة الحولين الأولين من العمر، بالأشهر القمرية، ولو بعد
الفطام؛ لأن حديث «فإنما الرضاعة من المجاعة» يراد به الرضاع الذي يكون في
سن المجاعة، كيفما كان الطفل، وهو سن الرضاع، فلو ارتضع الطفل بعدهما
بلحظة، ولو بعد فطامه، لم يثبت التحريم؛ لأن شرطه وهو كونه في الحولين لم
يوجد، وإن حصل الرضاع في أثناء الحولين، ولو بعد الفطام، ثبت به التحريم؛
لأن الرضاع في وقته عرف محرِّماً في الشرع. ويكون انتهاء الحولين من تمام
انفصال الرضيع، فإن ارتضع قبل تمامه لم يؤثر. هذا الرأي هو الراجح لقوة
الأدلة التي استندوا إليها.
وأضاف الإمام مالك مدة شهرين على الحولين؛ لأن الطفل قد يحتاج إلى هذه
المدة لتحويل غذائه إلى الطعام. لكن إن فطم الولد عن اللبن، واستغنى
بالطعام استغناء بيِّناً ولو في الحولين، أو لم يوجد له مرضع في الحولين،
فاستغنى بالطعام أكثر من يومين وما أشبههما، فأرضعته امرأة، فلا يحرم، لأن
مفهوم الحديث: «فإنما الرضاعة من المجاعة» يدل على أن الطفل غير مفطوم، فإن
فطم في بعض الحولين، لم يكن رضاعاً من المجاعة.
وأضاف الإمام أبو حنيفة أيضاً مدة نصف سنة على الحولين، فتكون مدة الرضاعة
عنده ثلاثين شهراً، لاحتياج الطفل إلى هذه المدة للتدرج من اللبن إلى
الطعام المعتاد، لكن إن استغنى بالفطام عن اللبن استغناء تاماً، لم يكن ذلك
_________
(1) رواه الجماعة إلا الترمذي عن عائشة (المرجع السابق: ص 316).
(2) نيل الأوطار: 316/ 6، سبل السلام: 214/ 3.
(10/7287)
رضاعاً؛ لأنه لا رضاع بعد الفطام، وإن فطم
الطفل فأكل أكلاً ضعيفاً لا يستغنى به عن الرضاع، ثم عاد فأرضع، كما يرضع
أولاً في الثلاثين شهراً، فهو رضاع محرم، كما يحرم رضاع الصغير الذي لم
يفطم، ويحمل الحديث السابق: «لا رضاع بعد فصال» على الفصال المعتاد
المتعارف. واستدل للإمامين مالك وأبي حنيفة بقوله تعالى: {والوالدات يرضعن
أولادهن حولين كاملين، لمن أراد أن يتم الرضاعة} .. {فإن أرادا فصالاً عن
تراض منهما وتشاور، فلا جناح عليهما} [البقرة:2/ 233] فالآية في نهايتها
تدل على أن للوالدين الخيار في فطم الطفل عند تمام الحولين. والتحديد
بالحولين في مقدم الآية إنما هو لبيان المدة التي يجوز فيها للأم المطلَّقة
أن تأخذ فيها أجراً على الرضاع.
وأجيب عنه بأن الفطام الذي يحتاج إلى المشاورة والتراضي بين الوالدين هو
الذي يكون قبل تمام الحولين، فإن استمر الرضاع بعد الحولين لضعف الطفل، فلا
مانع منه للحاجة، ولكن لا يترتب عليه أحكامه من التحريم وأخذ الأم المطلقة
أجراً عليه.
6 - أن يكون الرضاع خمس رضعات متفرقات فصاعدا
ً: وهذا شرط عند الشافعية والحنابلة، والمعتبر في الرضعة العرف، فلو انقطع
الطفل عن الرضاع إعراضاً عن الثدي تعدد الرضاع، عملاً بالعرف، ولو انقطع
للتنفس أو الاستراحة أو الملل أو الانتقال من ثدي إلى آخر أو من امرأة إلى
أخرى أو اللهو أو النومة الخفيفة أو ازدراء ما جمعه من اللبن في فمه، وعاد
في الحال، فلا تعدد، بل الكل رضعة واحدة. وإن رضع أقل من خمس رضعات فلا
تحريم، وإن شك في عدد الرضعات بني على اليقين؛ لأن الأصل عدم وجود الرضاع
المحرم، لكن في حالة الشك الترك أولى، لأنه من الشبهات. واستدلوا بأدلة
ثلاثة:
(10/7288)
أولها ـ ما روى مسلم عن عائشة رضي الله
عنها قالت: «كان فيما أنزل الله من القرآن عشر رضعات معلومات يحرّمن، فنسخن
بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من
القرآن» (1) أي يتلى حكمهن أو يقرؤهن من لم يبلغه النسخ لقربه. لكن قيل
عنه: إنه مضطرب.
ثانيها ـ إن علة التحريم بالرضاع هي شبهة الجزئية التي تحدث باللبن الذي
ينبت اللحم وينشز العظم، أي ينميه ويزيده، وهذا لا يتحقق إلا برضاع يوم
كامل على الأقل، وهو خمس رضعات متفرقات.
ثالثها ـ حديث «لا تحرم المصة والمصتان» وفي رواية «لا تحرم المصة
والمصتان، ولا الإملاجة والإملاجتان» (2).
وقال المالكية والحنفية: الرضاع المحرم يكون بالقليل والكثير، ولو بالمصة
الواحدة، للأدلة الثلاثة التالية:
أولها ـ عموم قوله تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} [النساء:23/ 4] فإنه
علَّق التحريم بالإرضاع من غير تقدير بقدر معين، فيعمل به على إطلاقه.
ثانيها ـ حديث «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» (3) فإنه ربط التحريم
بمجرد الرضاع، ويؤكده آثار عن بعض الصحابة، روي عن علي وابن مسعود وابن
عباس أنهم قالوا: قليل الرضاع وكثيره سواء.
_________
(1) نصب الراية: 218/ 3.
(2) روى مسلم الحديث الأول، وروى ابن حبان في صحيحه الحديث الثاني عن عائشة
(نصب الراية: 317/ 3). سبل السلام: 213/ 3).
(3) أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس ومن حديث عائشة، ورواه أحمد
والترمذي وصححه عن الإمام علي رضي الله عنه بلفظ «إن الله حرَّم من الرضاع
ما حَرَّم من النسب» (نصب الراية: 218/ 3، نيل الأوطار: 217/ 6 - 218).
(10/7289)
ثالثها ـ إن الرضاع فعل يتعلق به التحريم،
فيستوي قليله وكثيره؛ لأن شأن الشارع إناطة الحكم بالحقيقة مجردة عن شرط
التكرار والكثرة، وتتحقق جزئية الرضيع من المرضعة بالقليل والكثير.
ويعمل بهذا الرأي في مصر وليبيا، ويعمل في سورية بالرأي الأول، وهو الراجح،
لما فيه من توسعة وتيسير على الناس.
المبحث الثالث ـ ما يثبت به الرضاع:
يثبت الإرضاع بأحد أمرين: الإقرار والبينة (1).
1 - أما الإقرار: فهو عند الحنفية
اعتراف الرجل والمرأة معاً أو أحدهما بوجود الرضاع المحرم بينهما.
فإذا أقر الرجل والمرأة بالرضاع قبل الزواج، بأن اعترفا بأنهما أخوان من
الرضاع، فلا يحل لهما الإقدام على الزواج، وإن تزوجا كان العقد فاسداً، ولم
يجب للمرأة شيء من المهر.
وإن كان الإقرار بعد الزواج وجب عليهما الافتراق، فإن لم يفترقا اختياراً،
فرق القاضي بينهما جبراً؛ لأنه تبين فساد العقد، ويجب للمرأة الأقل من
المسمى ومهر المثل.
ب ـ وإذا كان الإقرار من جانب الرجل وحده، كأن يقول: هي أختي أو أمي أو
بنتي في الرضاع: فإن كان الإقرار قبل الزواج، فلا يحل له التزوج بها. وإن
كان بعد الزواج، وجب عليه أن يفارق المرأة، فإن لم يفارقها اختياراً، وجب
على
_________
(1) البدائع: 14/ 4، القوانين الفقهية: ص 207، مغني المحتاج: 423/ 3 - 425،
المغني: 558/ 7 - 562، الشرح الصغير: 725/ 2 - 727.
(10/7290)
القاضي أن يفرق بينهما جبراً، ويكون للمرأة
في التفريق قبل الدخول نصف المهر المسمى، وبعد الدخول يكون لها جميع المهر
المسمى، ولها النفقة والسكنى في العدة؛ لأن الإقرار حجة قاصرة على المقر
لايتعداه إلى غيره إلا إذا صدقه الغير، أو ثبتت بالبينة صحة الإقرار، ولكن
لا يبطل حقها بالمهر والنفقة والسكنى.
جـ ـ وإذا كان الإقرار من جانب المرأة وحدها: فإن كان قبل الزواج، فلا يحل
لها أن تتزوجه، ولكن يحل له أن يتزوجها إذا وقع في قلبه كذبها على المفتى
به؛ لأن الطلاق له لا لها، والإقرار حجة قاصرة على المقر، ويحتمل أن يكون
إقرارها لغرض خفي في نفسها.
وإن كان الإقرار منها بعد الزواج، فلا يؤثر الإقرار على صحة الزواج إلا إذا
صدقها الزوج فيه.
ويجوز للمقر الرجوع عن إقراره مالم يشهد على إقراره، سواء قبل الزوج أم
بعده، بأن يقول: كنت واهماً أو ناسياً، لاحتمال أنه أقر بناء على إخبار
غيره، ثم تبين له كذبه. فإن أشهد على إقراره، لم يقبل منه الرجوع بعدئذ،
لوجود التناقض بين إقراره ورجوعه.
ويثبت الرضاع عند المالكية بإقرار الزوجين معاً، أو باعتراف أبويهما،
أوباعتراف الزوج المكلف وحده ولو بعد العقد؛ لأن المكلف يؤخذ بإقراره، أو
باعتراف الزوجة فقط إذا كانت بالغاً قبل العقد عليها، لا إن أقرت بعده،
ويفسخ الزواج بينهما في كل هذه الأحوال.
فإن حصل الفسخ قبل الدخول بها فلا شيء لها، إلا أن يقر الزوج فقط بعد
العقد، فأنكرت، فلها نصف المهر (1).
_________
(1) هذه إحدى المسائل الثلاث المستثنيات من قاعدة، كل عقد فسخ قبل الدخول،
لا شيء فيه إلا نكاح الدرهمين، وفرقة المتلاعنين، وفسخ المتراضعين.
(10/7291)
وإن حدث الفسخ بعد الدخول بها، فلها المهر
المسمى جميعه، إلا إذا علمت المرأة بالرضاع قبل الدخول، ولم يعلم هو، فلها
ربع دينار بالدخول. وليس لها نفقة ولا سكن.
ويقبل إقرار أحد أبوي صغير، بأن أقر أبوه أو أمه بالرضاع قبل العقد عليه
فقط، فلا يصح العقد بعد الإقرار.
ولا يصح الرجوع عن الإقرار، سواء أصر المقر على إقراره أم لم يصر.
ويشترط لصحة الإقرار عند الشافعية رجلان، فلا يثبت بإقرار غيرهما، لاطلاع
الرجال عليه غالباً.
ولو قال الرجل: هند بنتي أو أختي برضاع، أو قالت المرأة: هو أخي، حرم
تناكحهما، لأنه يؤاخذ كل منهما بإقراره.
ولو قال زوجان: بيننا رضاع محرِّم، فرِّق بينهما، وسقط المهر المسمى، ووجب
مهر المثل إن حدث الوطء.
وإن ادعى الزوج رضاعاً محرِّماً، فأنكرت زوجته ذلك؛ انفسخ النكاح وفرق
بينهما، ولها إن وطئ المهر المسمى إن كان صحيحاً، وإلا فمهر المثل،
لاستقراره بالدخول. فإن لم يطأ فلها نصف المهر، لورود الفرقة منه، ولا يقبل
قوله عليها، وله تحليفها قبل الدخول، وكذا بعد الدخول إن كان المسمى أكثر
من مهر المثل. وإن نكلت عن اليمين حلف الزوج ولزمه مهر المثل فقط بعد
الوطء، ولا شيء لها عليه قبله.
وإن ادعت الزوجة الرضاع، فأنكر الزوج ذلك، صدق بيمينه إن زوِّجت برضاها،
وإلا بأن زوجت بغيررضاها، فالأصح تصديقها بيمينها. ولها في الحالين مهر
مثلها إن وطئت جاهلة بالرضاع.
(10/7292)
وقال الحنابلة: إن أقر الزوج قبل الدخول
بالرضاع المحرِّم، بأن قال: هي أختي من الرضاعة، انفسخ النكاح، كما قال
الشافعية. فإن صدقته المرأة فلا مهر لها، وإن كذبته فلها نصف المهر.
وإن أقرت المرأة بأن زوجها أخوها من الرضاع، فكذبها، لم يقبل قولها في فسخ
النكاح؛ لأنه حق عليها، فإن كان قبل الدخول فلا مهر لها؛ لأنها تقر بأنها
لاتستحقه.
وإن كان بعد الدخول، فأقرت بعلمها بالرضاع وبتحريمها عليه، فلا مهر لها
أيضاً، لإقرارها بأنها زانية مطاوعة.
وإن أنكرت شيئاً من ذلك، فلها المهر؛ لأنه وطء بشبهة، وهي زوجته في ظاهر
الحكم؛ لأن قولها عليه غير مقبول.
2 - وأما البينة: فهي الشهادة، وهي
الإخبار في مجلس القضاء بحق الشخص على الغير.
وقد اتفق فقهاء المذاهب الأربعة على ثبوت الرضاع بشهادة رجلين أو رجل
وامرأتين من أهل العدالة.
واختلفوا في ثبوت الرضاع بشهادة رجل واحد، أو امرأة واحدة، أو أربع من
النساء.
فقال الحنفية: لا تقبل هذه الشهادات، لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال:
«لا يقبل على الرضاع أقل من شاهدين» وكان قوله بمحضر من الصحابة، ولم ينكر
أحد، فكان هذا إجماعاً، ولأن الرضاع مما يطلع عليه الرجال، فلا يقبل فيه
شهادة النساء على الانفراد، كالشهادة في الدخول.
(10/7293)
وقال المالكية: لا يثبت الرضاع قبل العقد
بشهادة امرأة فقط ولو فشا منها أومن غيرها الرضاع، إلا أم الصغير، فتقبل
شهادتها، مع الفشو، ولا يصح العقد معه.
ويثبت الرضاع بشهادة رجل وامرأة أو بشهادة امرأتين إن فشا الرضاع منهما أو
من غيرهما بين الناس، قبل العقد. ولا تشترط مع الفشو عدالة على الأرجح.
وإنما اشترط لقبول هذه الشهادة: الإظهار قبل الزواج، لإبعاد التهمة عن
الشاهد بهذه الشهادة.
وقال الشافعية: يثبت الرضاع بشهادة أربع نسوة، لاختصاص النساء بالاطلاع
عليه غالباً كالولادة، ولا يثبت بدون أربع نسوة، إذ كل امرأتين بمثابة رجل.
وتقبل شهادة المرضعة مع غيرها، إن لم تطلب أجرة عن رضاعها، ولا ذكرت فعلها،
بل شهدت أن بينهما رضاعاً محرِّماً؛ لأنها لا تريد بهذه الشهادة نفعاً ولا
تدفع ضرراً. أما إذا طلبت الأجرة فلا تقبل شهادتها؛ لأنها متهمة.
وتقبل شهادة أم الزوجة وبنتها مع غيرهما حسبة بلا تقدم دعوى، ومن المتفق
عليه أن الرضاع مما تقبل فيه شهادة الحسبة، فلا تتوقف على الدعوى، لأنه
يتضمن الحرمة، وهي من حقوق الله تعالى، كما تقبل الشهادة على الطلاق حسبة
دون تقدم دعوى.
(10/7294)
|