الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي الفَصْلُ الثَّالث: حكم الوقف، ومتى يزول
ملك الواقف؟
حكم الوقف: أي الأثر المترتب على حدوث
الوقف من الواقف. ويختلف الأثر المترتب باختلاف الآراء الفقهية (1):
ف عند أبي حنيفة: أثر الوقف هو التبرع
بالريع غير لازم، وتظل العين الموقوفة على ملك الواقف، فيجوز له التصرف بها
كما يشاء، وإذا تصرف بها اعتبر راجعاً عن الوقف، وإذا مات الواقف ورثها
ورثته، ويجوز له الرجوع في وقفه متى شاء، كما يجوز له أن يغير في مصارفه
وشروطه كيفما يشاء، وسأخصص بعد بيان المذاهب في حكم الوقف بحثاً عن الرجوع
في وقف المسجد وغيره بناء على هذا الرأي.
_________
(1) الدرا لمختار: 399/ 3، 402 ومابعدها، البدائع: 220/ 6 ومابعده، اللباب:
180/ 2 - 184، فتح القدير: 45/ 5، 52، الشرح الصغير: 97/ 4، القوانين
الفقهية: ص 370، الفروق: 111/ 2، المهذب: 443/ 1، مغني المحتاج: 389/ 2،
المغني: 546/ 5، غاية المنتهى: 306/ 2.
(10/7616)
وعند الصاحبين
وبرأيهما يفتى: إذا صح الوقف خرج عن ملك الواقف، وصار حبيساً على
حكم ملك الله تعالى، ولم يدخل في ملك الموقوف عليه، بدليل انتقاله عنه بشرط
الواقف (المالك الأول) كسائر أملاكه.
وإذا صح الوقف لم يجز بيعه ولا تمليكه ولا قسمته، إلا أن يكون الوقف مشاعاً
فللشريك بناء على جوازه عند أبي يوسف أن يطلب فيه القسمة، فتصح مقاسمته؛
لأن القسمة تمييز وإفراز، ويغلب في الوقف معنى الإفراز في غير المكيل
والموزون الذي يغلب فيه معنى المبادلة، نظراً وملاحظة لمصلحة الوقف.
والمفتى به وهو قول الصاحبين جواز قسمة المشاع إذا كانت القسمة بين الواقف
وشريكه المالك، أو الواقف الآخر أو ناظره إن اختلفت جهة وقفهما.
ويرى المالكية: أن الموقوف يظل مملوكاً
للواقف، لكن تكون المنفعة ملكاً لازماً للموقوف له، فهم كأبي حنيفة، ودليل
قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «حبّس الأصل، وسبِّل الثمرة».
والأظهر في مذهب الشافعية: أن الملك في
رقبة الموقوف ينتقل إلى الله تعالى، أي ينفك عن اختصاص الآدمي، فلا يكون
للواقف ولا للموقوف عليه، ومنافعه ملك للموقوف عليه، يستوفيها بنفسه وبغيره
بإعارة وإجارة، ويملك الأجرة وفوائده كثمرة وصوف ولبن، وكذا الولد في
الأصح، فهم كالصاحبين.
وقال الحنابلة في الصحيح من المذهب: إذا
صح الوقف زال به ملك الواقف؛ لأنه سبب يزيل التصرف في الرقبة والمنفعة،
فأزال الملك كالعتق. وأما خبر «حبّس الأصل وسبل الثمرة» فالمراد به أن يكون
محبوساً لا يباع ولا يوهب ولا يورث.
(10/7617)
وينتقل الملك عندهم في الوقف إلى الله
تعالى إن كان الوقف على مسجد ونحوه كمدرسة ورباط وقنطرة وفقراء وغزاة وما
أشبه ذلك، وينتقل الملك في العين الموقوفة إلى الموقوف عليه إن كان آدمياً
معيناً كزيد وعمرو، أو كان جمعاً محصوراً كأولاده أو أولاد زيد؛ لأن الوقف
سبب يزيل التصرف في الرقبة، فملكه المنتقل إليه كالهبة.
متى يزول الملك عن الوقف؟ يزول الملك عن
الموقوف في رأي أبي حنيفة (1) بأحد
أربعة أسباب:
1ً - بإفراز مسجد.
2ً - أو بقضاء القاضي؛ لأنه
مجتهد فيه أي يسوغ فيه الاجتهاد والاختلاف بين الأئمة، فيكون الحكم فيه
رافعاً للخلاف.
3ً - أو بالموت إذا علق به،
مثل إذا مت فقد وقفت داري على كذا، فالصحيح أنه كوصية تلزم من الثلث
بالموت، لا قبله.
4ً - أو بقوله: وقفتها في
حياتي، وبعد وفاتي مؤبداً، وهو جائز عند أئمة الحنفية الثلاثة، لكن عند
الإمام ما دام حياً هو نذر بالتصدق بالغلة، فعليه الوفاء، وله الرجوع، فإن
لم يرجع حتى مات، نفذ الوقف من الثلث.
وفي الأمرين الأولين: يزول الملك ويلزم الوقف في حياة الواقف بلا توقف على
موته، فاللزوم حالي، كما يلزم أيضاً بالموت.
أما في الأمرين الآخرين: فيزول الملك ويلزم الوقف بموت الواقف، لكن في
_________
(1) الدر المختار: 395/ 3 - 399.
(10/7618)
حال الحياة يجوز للواقف الرجوع عن الوقف ما
دام حياً، غنياً أو فقيراً، بأمر قاض أو غيره.
ولا يتم الوقف بناء على القول بلزومه وبناء على رأي محمد حتى يقبض ويفرز؛
لأنه كالصدقة، ولأن تسليم كل شيء بما يليق به، ففي المسجد بالإفراز، وفي
غيره بنصب الناظر (المتولي) بتسليمه إياه، ولا يجوز وقف مشاع يقسم عند
محمد، ويجوز عند أبي يوسف، كما تقدم؛ لأن التسليم عنده ليس بشرط، بسبب كون
الوقف عنده كالإعتاق.
واشترط المالكية (1) لصحة الوقف: القبض
كالهبة، فإن مات الواقف أو مرض مرض موت أو أفلس قبل القبض (الحوز) بطل
الوقف.
وقال الشافعية (2): الوقف عقد (3) يقتضي
نقل الملك في الحال، علماً بأن الوقف على معين يشترط فيه عندهم القبول
متصلاً بالإيجاب إن كان من أهل القبول، وإلا فقبول وليه كالهبة والوصية،
أما الوقف على جهة عامة كالفقراء أو على مسجد أو نحوه، فلا يشترط فيه
القبول جزماً لتعذره.
وكذلك قال الحنابلة (4) كالشافعية: يزول
الملك ويلزم الوقف بمجرد التلفظ به؛ لأن الوقف يحصل به، لحديث عمر المتقدم:
«إن شئت حبَّست أصلها، وتصدقت بها» ولأنه تبرع يمنع البيع والهبة والميراث،
فلزم بمجرده كالعتق.
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 370.
(2) مغني المحتاج: 383/ 2، 385.
(3) قد يطلق العقد في اصطلاح الفقهاء على الالتزام الذي ينشأ عنه حكم شرعي،
سواء أكان صادراً من طرف واحد كالنذر واليمين، أم صادراً من طرفين كالبيع
والإجارة، كما يطلق على مجموع الإيجاب والقبول، أو كلام أحد طرفي العقد.
(4) المغني: 546/ 5، 587.
(10/7619)
ويصح في رأي الحنابلة قسمة الوقف عن غيره،
باعتبار أن القسمة إفراز على الصحيح على التفصيل الآتي: تجوز القسمة إن لم
يكن فيها رد، وكذا إن كان فيها رد من جانب أصحاب الوقف؛ لأن الرد شراء شيء
من غير الوقف، أما إن كان فيها رد من غير أصحاب الوقف، فلا تجوز؛ لأنه شراء
بعض الوقف، وبيعه غير جائز.
ويطبق التفصيل السابق إن كان المشاع وقفاً على جهتين، فأراد أهله قسمته،
فلا تجوز إن كان فيها رد بأي حال.
ومتى جازت القسمة في الوقف، وطلبها أحد الشريكين أو ولي الوقف، أجبر الآخر؛
لأن كل قسمة جازت من غير رد ولا ضرر، فهي واجبة.
موقف القانون من الرجوع في وقف المسجد
وغير المسجد (1):
أما الرجوع في وقف المسجد: فقد نص القانون المصري رقم (48 لسنة 1946) (م
11) على أنه: «لا يجوز الرجوع ولا التغيير في وقف المسجد، ولا فيما وقف
عليه».
والمراد بما وقف على المسجد: ما وقف عليه ابتداء من أول الأمر، لا ما وقف
عليه انتهاء، بأن وقف على جهة ما أولاً، ثم من بعدها يكون وقفاً على
المسجد، تطبيقاً للقانون رقم (78 لسنة 1947).
وأخذ القانون هذا الحكم بعدم جواز الرجوع مما اتفق عليه الفقهاء، حتى أبو
حنيفة، فإنه وافق الصاحبين على أنه لا يجوز الرجوع في وقف المسجد، ويعد
_________
(1) راجع الوقف للأستاذ عيسوي: ص 17 ومابعدها.
(10/7620)
تصرف الواقف لازماً، فلا يجوز للواقف ولا
لورثته الرجوع والتغيير فيه؛ لأن وقف المسجد حين يتم يصير خالصاً لله
تعالى، وأن المساجد لله، وخلوصه لله تعالى يقتضي عدم جواز الرجوع فيه.
أما الرجوع في وقف غير المسجد: فقد أخذ
القانون بمذهب أبي حنيفة في حياة الواقف، وبمذهب الصاحبين وباقي الأئمة بعد
وفاة الواقف.
ففي حياة الواقف: نصت المادة (11) من القانون المصري على أنه: «للواقف أن
يرجع في وقفه كله أو بعضه، كما يجوز له أن يغير في مصارفه وشروطه، ولو حرم
نفسه من ذلك، على ألا ينفذ التغيير إلا في حدود هذا القانون» فهذا يدل على
جواز الرجوع عن الوقف والتغيير فيه، ولم يقل بذلك إلا أبو حنيفة.
وأما بعد وفاة الواقف: فسكت عنه القانون، وما سكت عنه يعمل فيه بالراجح من
مذهب أبي حنيفة، والراجح فيه مذهب الصاحبين: وهو أن الوقف تبرع لازم، لا
يجوز الرجوع فيه.
أما الرجوع عن الأوقاف قبل العمل بهذا القانون: فقد نصت المادة (11) على
أنه «لا يجوز له الرجوع ولا التغيير فيما وقفه قبل العمل بهذا القانون،
وجعل استحقاقه لغيره، إذا كان قد حرم نفسه وذريته من هذا الاستحقاق، ومن
الشروط العشرة بالنسبة له، أو ثبت أن هذا الاستحقاق كان بعوض مالي أو لضمان
حقوق ثابتة قِبَل الواقف».
ففي حالة حرمان نفسه وذريته من الاستحقاق: يعتبر عمل الواقف قرينة قاطعة
على أنه تصرف هذا التصرف في مقابل يمنعه من الرجوع، ولا حاجة حينئذ إلى
تحقيق أو إثبات.
(10/7621)
وفي حالة كون الاستحقاق بعوض مالي: مثل أن
يقف المدين على الدائن وأولاده، ويحرم الواقف نفسه وأولاده من ذلك، يكون
الوقف في مقابل عوض.
وفي حالة كون الاستحقاق لضمان حقوق ثابتة قِبَل الواقف: مثل بيع شخص لقريبه
عقاراً بيعاً صورياً، ثم وقف القريب هذا العقار على قريبه الذي باعه له،
يترتب على الرجوع إضرار بالناس، وتضييع لحق أصحاب الحقوق، ويكون إثبات ذلك
بجميع الأدلة القانونية، ومنها القرائن.
الشروط العشرة:
أباحت المادة الثانية عشرة من قانون الوقف المصري رقم (48 لسنة 1946)
للواقف أن يشترط لنفسه الشروط العشرة في وقفه، وأن يشترط تكرارها،
واعتبرتها صحيحة، ونصها:
«للواقف أن يشترط لنفسه لا لغيره الشروط العشرة أو ما يشاء منها وتكرارها،
على ألا تنفذ إلا في حدود هذا القانون» أما اشتراط الواقف الشروط العشرة
لغيره فهو شرط باطل عملاً بهذه المادة.
وكلمة الشروط العشرة محدثة الاستعمال في المعنى المراد هنا، ولم ترد في
كلام الفقهاء، ولكنها استعملت في هذا المعنى من أمد بعيد في كتب الواقفين
وفي فتاوى بعض المتأخرين وفي لغة المحاكم، حتى أصبح مدلولها محدوداً
ومنضبطاً، وصارت كلمة اصطلاحية.
والشروط العشرة في هذا الاصطلاح: هي الإعطاء،
والحرمان، والإدخال، والإخراج،
والزيادة، والنقصان،
والتغيير، والإبدال، والاستبدال،
والبدل أو التبادل أو التبديل (1).
_________
(1) قانون الوقف للأستاذ الشيخ فرج السنهوري: ص 208 - 213، 217.
(10/7622)
والإعطاء: معناه إدخال من يشاء في الوقف
كمصرف استثنائي، ويلزم من استعماله حرمان المصرف الأصلي من الغلة أو بعضها
في المدة التي يستحقها من أدخله في الوقف.
والإدخال: معناه إدخال غير موقوف عليه، وجعله من أهل الوقف ليكون مستحقاً
من وقت الإدخال أو بعد ذلك. وقد يصاحب هذا الشرط مصرف استثنائي وقد لا
يصاحبه.
والإخراج: هو جعل الموقوف عليه من غير أهل الوقف أبداً أو لمدة معينة يكون
بعدها من أهله. ومفهومه مغاير لمفهوم الحرمان، وقد يجتمع المفهومان،
فالإخراج إلى الأبد حرمان، والحرمان إلى الأبد إخراج.
والزيادة: تفضيل بعض الموقوف عليهم على الباقين بشيء يميزه به حين توزيع
الغلة، أو أن يجعل في نصيبه فضلاً على بقية الأنصباء على الدوام.
والنقصان: هو إعطاء بعض الموقوف عليهم أقل مما أعطى الآخرين عند التوزيع،
حيث لم تكن هناك أنصبة معينة أو تخفيض ما سبق أن عينه له.
والتغيير: هذا الشرط أعم من الشروط السابقة ويتناولها جميعها، وذكره بعدها
يكون بمثابة إجمال بعد تفصيل، فلو لم يذكر سواه، لملك من شرط له كل ما
تفيده الشروط الستة السابقة مجتمعة. وإذا أردف التغيير بالتبديل اعتبره
المتأخرون توكيداً لمعناه، إلا إذا أمكن صرفه لمعنى آخر لم يذكر،
كالاستبدال فإنه يصرف إليه، فإن التأسيس خير من التأكيد.
والاستبدال: أطلق الفقهاء كلمة الاستبدال، وأرادوا بها بيع الموقوف عقاراً
كان أو منقولاً بالنقد، وشراء عين بمال البدل لتكون موقوفة مكان العين التي
(10/7623)
بيعت، والمقايضة على عين الوقف بعين أخرى. ولكن طرأ عرف آخر للمؤلفين من
زمن بعيد، فأطلقوا الاستبدال على شراء عين بمال البدل لتكون وقفاً،
والإبدال على بيع الموقوف بالنقد، والتبادل أو البدل على المقايضة. |