الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي الفَصْلُ الثَّاني: أنواع الوقف ومحلّه:
ينقسم الوقف بحسب الجهة الأولى التي وقف عليها في الابتداء على نوعين:
خيري، وأهلي أو ذُرّي (1).
أما الوقف الخيري: فهو الذي يوقف في أول الأمر على جهة خيرية، ولو لمدة
معينة، يكون بعدها وقفاً على شخص معين أو أشخاص معينين. كأن يقف أرضه على
مستشفى أو مدرسة، ثم من بعد ذلك على نفسه وأولاده.
وأما الوقف الأهلي أو الذُّرِّي: فهو الذي يوقف في ابتداء الأمر على نفس
الواقف أو أي شخص أو أشخاص معينين، ولو جعل آخره لجهة خيرية، كأن يقف على
نفسه، ثم على أولاده، ثم من بعدهم على جهة خيرية.
ونص القانون المصري م (180) لسنة 1952م، والقانون السوري لسنة (1949) على
انتهاء أو إلغاء الوقف الأهلي لتصفية مشكلاته المعقدة. وبقي
الوقف الخيري جائزاً.
_________
(1) الوقف للأستاذ الشيخ عيسوي: ص 21.
(10/7607)
وأما محل الوقف:
فهو المال الموجود المتقوم (1) من عقار: أرض أو دار بالإجماع، أو منقول
ككتب وثياب وحيوان وسلاح، لقوله: «وأما خالد، فإنكم تظلمون خالداً، فإنه
احتبس أدرعه وأعتده في سبيل الله» (2)، واتفقت الأمة على وقف الحصر
والقناديل في المساجد من غير نكير.
ويصح وقف الحلي للبس والإعارة؛ لأنه عين الانتفاع بها دائماً، فصح وقفها
كالعقار، ولما روى الخلال بإسناده عن نافع قال: ابتاعت حفصة حلياً بعشرين
ألفاً، فحبسته على نساء آل الخطاب، فكانت لا تخرج زكاته.
وشرط الحنفية في الوقف المنقول: أن يكون تابعاً للعقار، أو جرى به التعامل
عرفاً، كوقف الكتب وأدوات الجنازة.
ويصح وقف المشاع من عقار أو منقول؛ لأن عمر رضي الله عنه وقف مئة سهم في
خيبر مشاعاً (3).
وقد وضع الحنابلة وغيرهم ضابطاً لما يجوز وقفه، وما لا يجوز، فقالوا: الذي
يجوز وقفه هو كل ما جاز بيعه، وجاز الانتفاع به، مع بقاء عينه، وكان أصلاً
يبقى بقاء متصلاً كالعقار والحيوانات والسلاح والأثاث وأشباه ذلك.
وما لا ينتفع به إلا بالإتلاف مثل الدنانير والدراهم (النقود) وما ليس
بحلي، والمأكول والمشروب والشمع وأشباهه، لا يصح وقفه في قول جماعة من
الفقهاء؛
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 393/ 3، الشرح الصغير: 101/ 4 ومابعدها،
المهذب: 440/ 1، مغني المحتاج: 377/ 2، المغني: 583/ 5 - 585، تكملة
المجموع: 577/ 14.
(2) رواه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأعتده ـ وهو الصواب ـ
جمع عتاد: وهو كل ما أعده من السلاح والدواب.
(3) رواه الشافعي.
(10/7608)
لأن الوقف تحبيس الأصل، وتسبيل الثمرة، وما
لا ينتفع به إلا بالإتلاف لا يصح فيه الوقف؛ لأنه لا يمكن الانتفاع به على
الدوام. إلا أن متقدمي الحنفية أجازوا وقف الدنانير والدراهم والمكيل
والموزون، لكن الظاهر أنه لا يجوز الآن لعدم التعامل به كما سيأتي.
ولا يصح وقف الحمل؛ لأنه تمليك منجز، فلم يصح في الحمل وحده، كالبيع.
قال ابن جزي المالكي: يجوز تحبيس العقار كالأرضين والديار والحوانيت
والجنات، والمساجد، والآبار، والقناطر والمقابر، والطرق وغير ذلك. ولا يجوز
تحبيس الطعام لأن منفعته في استهلاكه، ولكن نص الإمام مالك وتبعه الشيخ
خليل على جواز وقف الطعام والنقد، وهو المذهب وينزل رد بدله منزلة بقاء
عينه.
وبيان الرأي الفقهي في بعض أنواع المال الموقوف:
1 ً - وقف العقار: يصح وقف العقار (1)
من أرض ودور وحوانيت وبساتين ونحوها بالاتفاق (2)؛ لأن جماعة من الصحابة
رضوان الله عليهم وقفوه، مثلما تقدم من وقف عمر رضي الله عنه أرضه في خيبر،
ولأن العقار متأبد يبقى على الدوام.
لكن بين الحنفية أنه لا يشترط لصحة الوقف تحديد العقار؛ لأن الشرط كونه
معلوماً، أو إذا كانت الدار مشهورة معروفة، صح وقفها كما قال ابن الهمام في
_________
(1) هو الأرض مبنية أو غير مبنية.
(2) الدر المختار: 408/ 3، 439، فتح القدير: 48/ 5 وما بعدها، الكتاب مع
اللباب: 182/ 2، الشرح الكبير: 76/ 4، القوانين الفقهية: ص 369، مغني
المحتاج: 377/ 2، المهذب: 440/ 1، المغني: 585/ 5.
(10/7609)
الفتح، وإن لم تحدد، استغناء بشهرتها عن
تحديدها. وأفتى متأخرو الحنفية استثناء من قولهم بعدم تقوم المنافع بضمان
غصب عقار الوقف وغصب منافعه أو إتلافها، كما إذا سكن فيه شخص بلا إذن أو
أسكنه ناظر الوقف بلا أجر، وعليه أجر المثل، ولو كان غير معد للاستغلال،
صيانة للوقف، كما أنه يفتى بضمان مال اليتيم والمال المعد للاستغلال، وبكل
ما هو أنفع للوقف فيما اختلف العلماء فيه.
2 ً - وقف المنقول: اتفق الجمهور (1)
غير الحنفية على جواز وقف المنقول مطلقاً، كآلات المسجد كالقنديل والحصير،
وأنواع السلاح والثياب والأثاث، سواء أكان الموقوف مستقلاً بذاته، ورد به
النص أو جرى به العرف، أم تبعاً لغيره من العقار، إذ لم يشترطوا التأبيد
لصحة الوقف، فيصح كونه مؤبداً أو مؤقتاً، خيرياً أو أهلياً.
وأخذ القانون المصري (م 8) بهذا الرأي، فأجاز وقف العقار والمنقول.
ولم يجز الحنفية (2) وقف المنقولومنه عندهم البناء والغراس إلا إذا كان
تبعاً للعقار، أو ورد به النص كالسلاح والخيل، أو جرى به العرف كوقف الكتب
والمصاحف والفأس والقدوم والقدور (الأواني) وأدوات الجنازة وثيابها،
والدنانير والدراهم، والمكيل والموزون، والسفينة بالمتاع، لتعامل الناس به،
والتعامل ـ وهو الأكثر استعمالاً ـ يترك به القياس، لخبر ابن مسعود: «ما
رآه المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن» ولأن الثابت بالعرف ثابت بالنص، هذا
مع العلم أن وقف البناء صار متعارفاً، بخلاف ما لا تعامل فيه كثياب ومتاع،
وهذا قول محمد، المفتى به. ويباع المكيل والموزون ويدفع ثمنه مضاربة أو
مباضعة، كما يفعل في وقف النقود، وما خرج من الربح يتصدق به في جهة الوقف.
_________
(1) المراجع السابقة.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 409/ 3 ومابعدها، 427 وما بعدها.
(10/7610)
لكن قال ابن عابدين (1): وقف الدراهم
متعارف في بلاد الروم دون بلادنا، ووقف الفأس والقدوم كان متعارفاً في زمن
المتقدمين، ولم نسمع به في زماننا، فالظاهر أنه لا يصح الآن، ولئن وجدنا
قليلاً لا يعتبر، لأن التعامل هو الأكثر استعمالاً.
والسبب في عدم جواز وقف المنقول عندهم: أن من شرط الوقف التأبيد، والمنقول
لا يدوم.
3ً
- وقف المشاع: يجوز عند الجمهور غير
المالكية وقف المشاع الذي لا يحتمل القسمة، مع الشيوع، كحصة سيارة؛ لأن
الوقف كالهبة، وهبة المشاع غير القابل للقسمة جائزة.
ولم يجز المالكية وقف الحصة الشائعة فيما لا يقبل القسمة؛ لأنه يشترط الحوز
عنده لصحة الوقف، وهذا أحد قولين مرجحين في المذهب.
أما المشاع القابل للقسمة: فقال أبو يوسف ويفتى بقوله: يجوز وقفه؛ لأن
القسمة من تمام القبض، والقبض عنده ليس بشرط لتمام الوقف، فكذا تتمته، وهذا
موافق لرأي المالكية والشافعية والحنابلة.
وقال محمد، وأكثر المشايخ أخذوا بقوله: لا يجوز وقف المشاع؛ لأن أصل القبض
عنده شرط لتمام الوقف، فكذا ما يتم به، والقبض لا يصح في المشاع.
قال القاضي أبو عاصم: قول أبي يوسف من حيث المعنى أقوى، إلا أن قول
_________
(1) رد المحتار: 410/ 3.
(10/7611)
محمد أقرب إلى موافقة الآثار. ولما كثر
المصحح من الطرفين، وكان قول أبي يوسف فيه ترغيب للناس في الوقف وهو جهة
بر، أطبق المتأخرون من أهل المذهب، على أن القاضي الحنفي والمقلد يخير بين
أن يحكم بصحته وبطلانه، وإذا كان الأكثر على ترجيح قول محمد، وبأيها حكم صح
حكمه ونفذ، فلا يسوغ له ولا لقاض غيره أن يحكم بخلافه، كما صرح به غير
واحد. وقال في البحر: وصح وقف المشاع إذا قضي بصحته؛ لأنه قضاء في مجتهد
فيه (1). وهذا هو المعتمد الذي جرى عليه صاحب الدر المختار، وهو يتمشى مع
قوله: ولا يتم الوقف حتى يقبض الموقوف؛ لأن تسليم كل شيء بما يليق به، في
المسجد بالإفراز، وفي غيره بنصب المتولي وبتسليمه إياه، وحتى يفرز، فلا
يجوز وقف مشاع يقسم، خلافاً لأبي يوسف.
أما غير الحنفية (2) فقال المالكية: يصح وقف المشترك الشائع فيما يقبل
القسمة، ولا يصح فيما لا يقبل القسمة.
وقال الشافعية والحنابلة: يصح وقف المشاع ولو لم يقبل القسمة، ويجبر عليها
الواقف إن أرادها الشريك، ويجبر الواقف على البيع إن أراد شريكه، ويجعل
ثمنه في مثل وقفه، بدليل أن عمر وقف مئة سهم من خيبر بإذن رسول الله صلّى
الله عليه وسلم، وهذا صفة المشاع؛ لأن القصد حبس الأصل، وتسبيل المنفعة،
والمشاع كالمقسوم في ذلك.
_________
(1) فتح القدير: 45/ 5، اللباب: 181/ 2، الدر المختار: 399/ 3، 409.
(2) الشرح الكبير: 76/ 4، المهذب: 441/ 1، المغني: 586/ 5، مغني المحتاج:
377/ 2، غاية المنتهى: 300/ 2.
(10/7612)
أما القانون فإنه أخذ في المادة (8) بالرأي
الأول، ونص على أنه لا يجوز وقف الحصة الشائعة في عقار غير قابل للقسمة إلا
إذا كان الباقي منه موقوفاً، واتحدت الجهة الموقوفة عليها، أو كانت الحصص
مخصصة لمنفعة عين موقوفة.
4ً
- وقف حق الارتفاق: قال الشافعية
والحنابلة (1): يجوز وقف علو الدار دون سفلها، وسفلها دون علو؛ لأنهما
عينان يجوز وقفهما، فجاز وقف أحدهما دون الآخر، ولأنه يصح بيع العلو أو
السفل، ولأنه تصرف يزيل الملك إلى من يثبت له حق الاستقرار والتصرف، فجاز
كالبيع.
وقال الحنفية: لا يصح وقف الحقوق المالية، مثل حق التعلي وباقي حقوق
الارتفاق؛ لأن الحق ليس بمال عندهم.
5ً
- وقف الإقطاعات: الإقطاعات: هي أرض
مملوكة للدولة، أعطتها لبعض المواطنين ليستغلها ويؤدي الضريبة المفروضة
عليها، مع بقاء ملكيتها للدولة.
فإذا وقف المقطع له هذه الأرض لا يصح وقفه، لأنه ليس مالكاً لها. وكذلك لا
يجوز للحكام والولاة والأمراء وقف شيء من هذه الإقطاعات إلا إذا كانت الأرض
مواتاً، أو ملكها الإمام، فأقطعها رجلاً. ويجوز لمن أحيا الأرض الموات من
الأفراد وقفها؛ لأنه ملكها بالإحياء، ووقف ما يملك (2).
_________
(1) المهذب: 441/ 1، المغني: 553/ 5.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 430/ 3 وما بعدها.
(10/7613)
قال في الدر المختار: وأغلب أوقاف الأمراء
بمصر، إنما هوإقطاعات يجعلونها مشتراة صورة من وكيل بيت المال.
ولو وقف السلطان من بيت المال، لمصلحة عمت، يجوز ويؤجر.
ويجوز للسلطان أن يأذن بوقف أرض على مسجد من أراضي البلاد المفتوحة عنوة
التي لم تقسم بين الغانمين، إذ لو قسمت صارت ملكاً لهم حقيقة؛ لأنها تصير
ملكاً للغانمين بالفتح والقسمة، فيجوز أمر السلطان فيها. أما الأراضي
المفتوحة صلحاً فلا ينفذ أمر السلطان بوقفها؛ لأنها تبقى ملكاً لملاكها
الأصليين (1).
وكذا قال الشافعية (2): لو وقف الإمام شيئاً من أرض بيت المال، صح.
6ً
- وقف أراضي الحوز: أرض الحوز: هي أرض
مملوكة لبعض الأفراد، ولكنهم عجزوا عن استغلالها، فوضعت الحكومة يدها عليها
لتستغلها وتستوفي منها ضرائبها. فلا يصح وقفها؛ لأنها ليست مالكة لها،
وإنما ما تزال ملكاً لأصحابها.
7ً
- وقف الإرصاد: الإرصاد: أن يقف أحد
الحكام أرضاً مملوكة للدولة لمصلحة عامة كمدرسة أو مستشفى. وقد عرف أن هذا
جائز بحكم الولاية العامة، ولكن يسمى هذا إرصاداً لا وقفاً حقيقة.
_________
(1) المرجع السابق.
(2) مغني المحتاج: 377/ 2.
(10/7614)
8ً
- وقف المرهون: قال الحنفية (1): يصح
للراهن وقف المرهون؛ لأنه يملكه، لكن يبقى حق المرتهن متعلقاً بالمرهون،
فإن وفى الدين تطهرت وخلصت العين المرهونة من تعلق حق المرتهن بها، وإلا
فله أن يطلب إبطال الوقف وبيع المرهون. وبناء عليه: يجبر القاضي الراهن على
دفع ما عليه إن كان موسراً، أما إن كان معسراً فيبطل الوقف ويبيع العين
المرهونة فيما عليه من الدين. وكذا لو مات، فإن كان له ما يوفي الدين، ظل
الشيء موقوفاً، وإلا بيع وبطل الوقف.
وقال الجمهور غير الحنفية (2): لا يصح وقف المرهون.
9ً
- وقف العين المؤجرة: قال الحنفية
والحنابلة (3): لا يملك المستأجر وقف منفعة العين المستأجرة، لأنه يشترط
لديهم التأبيد، والإجارة مؤقتة غير مؤبدة. وكذلك قال الشافعية (4): مالك
المنفعة دون الرقبة كالمستأجر والموصى له بالمنفعة لا يصح وقفه إياها، لكن
لو وقف المستأجر بناء أو غراساً في أرض مستأجرة له، فالأصح جوازه، ويكفي
دوام الوقف إلى قيام مالك الأرض بالقلع بعد مدة الإجارة. والمستعير والموصى
له بالمنفعة مثل المستأجر في الحكم. ويصح عندهم للمؤجر وقف الأرض المؤجرة.
وقال المالكية (5): للمستأجر وقف منفعة المأجور مدة الإجارة المقررة له، إذ
_________
(1) الدر، المرجع السابق: ص 432 ومابعدها.
(2) كشاف القناع: 271/ 4، الشرح الكبير: 77/ 4.
(3) الدر المختار: 400/ 3، 437 وما بعدها، كشاف القناع: 371/ 4.
(4) المحلي على المنهاج مع حاشية قليوبي وعميرة: 99/ 3، مغني المحتاج: 377/
2 ومابعدها.
(5) الشرح الصغير: 98/ 4، الشرح الكبير: 77/ 4.
(10/7615)
لايشترط لديهم تأبيد الوقف، وإنما يصح لمدة معينة. ولا يصح للمؤجر وقف
المأجور.
وأجاز الحنفية والحنابلة للمؤجر وقف العين المؤجرة؛ لأنه وقف ما يملك،
ويبقى للمستأجر الحق في الانتفاع بالعين المستأجرة إلى انتهاء مدة الإجارة،
أو تراضيه مع المؤجر على فسخ الإجارة قبل انتهاء مدتها.
والخلاصة: يصح عند الجمهور للمؤجر وقف العين المؤجرة، ولا يصح وقفها عند
المالكية، ويصح عند المالكية للمستأجر وقف منفعة المأجور، ولا يصح وقفها
عند الجمهور. |