الفقه على المذاهب الأربعة

باب حد القذف
-فأما حد القذف فقد بينه اله سبحانه وتعالى بقوله في كتابه العزيز {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء، فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً، وأولئك هم الفاسقون} آية 4 من سورة النور (1) .
__________
فقطعت يده، وهو يقول الحمد الله الذي طهرني منك، اردت أن تدخلي (جسدي النار) فهد التوبة النصوح. وقال اب جرير حدثنا أبو كريب، حدثنا موسى بن داود، حدثنا أبن لهيعة عن يحيى بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو قال: سرقت امرأة حلياً فجاء الذين سرقتهم فقالوا: يا رسول الله سرقتنا هذه المرأة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقطعوا يدها اليمنى) فقال المرأة: هل من توبة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنت اليوم من خظئتك كيوم ولدتك امك) قال: فأنزل الله عز وجل: {فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فأن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم} .
وقد رواه الإمام أحمد بأبسط من هذا فقال: حدثنا أبن لهيعة، حدثني يحيى بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو أن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء بها الذين سرقتهم، فقالوا: يا رسول الله إن هذه المرأة سرقتنا، قال قومها: فنحن نفديها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقطعوا يدها) فقالوا نحن نفديها بخمسمائة دينار فقال: (اقطعوا يدها) فقطعت يدها اليمنى فقالت المرأة هل لي من توبة يا رسول الله؟ قال: (نعم أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك امك) فأنزل الله في سور المائدة: {فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه ان الله غفور رحيم} وهذه المرأة هي المخزومية التي سرقت، وحديثها ثابت في الصحيحين كما سبق في أول الباب.
وروي عن السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قال عنها: إنها تابت وحسنت توبتها بعد، وتزوجت، وكانت تأتيني بعد ذلك، فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذه هي التوبة الخالصة، التوبة النصوح التي تحمل صاحبها على الندم على ما وقع منه، وتشعره بالحسرة على ما فرط في جنب الله عز وجل ويجبره على الإقلاع عن الذنب.)
-

(1) (تعريفه
الحد شرعاً، عقوبة مقدرة وجبت حقاً لله تعالى كما في عقوبة الزنا، أو وجبت حقاً لآدمي كما في حد القذف، وسميت العقوبات الشرعية حدوداً، لأن الله تعالى حدها، وقدرها، فلا يجوز لأحد أن يتجاوزها، قال تعالى: {ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه} .
وقيل: سميت بذلك لأن الحد في اللغة كالمنع، والحدود تمنع عن الإقدام على الفواحش،

(5/185)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
والحكمة في وجوب حد القذف دون التساب بالكفر، لأن المسبوب بالكفر قادر على أن ينفي عنه ذلك بالنطق بالشهادتين، بخلاف المتهم بالزنان فإنه لا يقدر على نفي التهمة عنه، والرمي، وهو الإلقاء بحجر أو سهم، أو نحوهما مما يؤذي ويضر، استعير للسب، وتوجيه العيوب لما في كل من الأذى والإضرار بالناس، فخرج اللسان مخرج اليد بالسنان، بل:
جراحات السهام لها التئام * ولا يلتام ما جرح اللسان
وقد اختار الله تعالى التعبير بالرمي فذكرها ثلاث مرات في ثلاث آيات خاصة بحد القذف، فقال تعالى: {والذين يرمون المحصنات} وقال تعالى: {والذين يرمون أزواجهم} وقال تعالى: روالذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات} وهو من بلاغة القرآن الكريم، فإن الكلمة متى أفلتت من لسان قائلها لم يتمالك زمامها، وانطلقت لا تلوي على شيء حتى تصيب من وجهت إليه بالضرر والأذى، فهي كالسهم يرمى به فلا تعود اليد قادرة على رده، فليحتفظ من يهم بالرمي والأمر في يده، حتى لا يندم حيث لا ينفع الندم.
مبحث حكمة التشريع
إن الله عز وجل لما بين في أول سورة {النور} ما في جريمة الزنا من عظيم الفحشن وكبير الشناعة مما لم يجتمع في جريمة أخرى، من كبير الإجرام، وتشتنيع الفعل، وأمر هذا شأنه يلحق العرض، من الرمي به ما ينكس الرأس، ويهدم الشرف، وكان من مقاصد الشرع الكريم، حفظ الأعراض، وصون الشرف لصاحبه، والاحتفاظ بالكرامة وعزة النفس، كان من متقضى حكمته جل شأنه هذا التشريع الزاجر للنفوس الجامحة، التي قد يدفها الغضب والحقد إلى أن تصيب الناس في كرامتهم، وتخدش شرفهم، وهو أعز عزيز لديهم، مستهينة بما اقترفت كما قال تعالى: {إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم، وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم} آية النور: 15.
ففرض الله لنا فيما فرض من أحكام (حد القذف) الزاجر الرادع، الكفيل بصيانة الأعراض، وحفظ الكرامة والشرف، حتى تنزجر النفوس عن الإقدام على هذا الجرم الفظيع، وليتأدب عامة المؤمنين بطلب ظن الخير بالآخرين، وعدم المسارعة إلى سوء الظن بالناس، والدعوة إلى تطهير اللسان، وصون الآداب والتحرز عن الخوض في كبريات التهم بلا علم، وتقرير بينات التهمة بحسب فظاعتها حتى لا يتخذ الناس الكيد بالاتهام الكاذب ذريعة للخدش والنكاية بلا حق. وإنك لا تجد من أنواع الجرم، ما يقدم عليه صاحبه غافلاً عن عظيم خطره إلا جرم اللسان، وكأنه سهولة حركته بطبعه. ولذة التحدث بالأمور المستغربة، وحسبان أن الطلام لا ينقص من المتكلم فيه شيئاً محسوساً يذكر، مع اعتياد الناس التساهل في القول والسماع، كل ذلك جعل الناس يستهينون به، ويحسبونه هيناً وهو ذنب عند الله عظيم، لذلك اهتم الشارع بحد القذف أعظم اهتمام، فأنزل في حد السرقة آية واحدة، وفي حد الزنا آيتين، وفي حد قطاع الطريق آية، أما حد القذف فقد أنزل فيه آيتين ثم أتبعه بنوع آخر

(5/186)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
منه وهو (اللعان) فأنزل فيه خمس آيات، ثم أردفه بذكر حديث الافك فأنزل فيه تسع آيات، ثم أتبع ذلك كله، فأنزل أربع آيات في النهي عن قذف المحصنات الغافلات المؤمنات، إلى أن قال: (أولئك مبرؤون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم} فكأن الله تعالى أنزل في حد (القذف) وأحكامه وأنواعه وبيان عقابه، وشرح الأضرار المترتبة عليه في المجتمع، والنهي عنه، والتحذير من الوقوع يه، وفظاعة الإقدام عليه، أنزل في ذلك (عشرين) آية في سورة النور.
ثم ذكر الله تعالى في ذكر هذه الآيات عقاب المجرم الذي يقذف الناسن ويهتك أعراضهم بأنه لم يستطيع إثبا البينة على قوله بأمور: أولاً: أن يجلد ثمانين جلدة. ثانياً: ترد شهادته طول حياته. ثالثاُ: يصبح من أهل الفسوق والإجرام وأصحاب الكبائر. رابعاً: يكون عند الله من الكاذبين، خامساً: أنه ملعون في الدنيا، ملعون في الآخرة، سادساً: ان له عذاباً عظيماً عند الله قد ادخره له يوم القيامة، سابعاً: تشهد عليه جوارحه زيادة في الخزي والعار على رؤوس الأشهاد. ثامناً: ان الله تعالى يوفيهم جزاء فعلهم، ويجزيهم حساب عملهم، من القدر المستحق من أنواع العذاب في نار جهنم، وقد أجمعت المة على أن القذف من أكبر الكبائر وأن حد القذف من أكبر الكبائر وأن حد القذف ثابت بالكتاب والسنة، وإجماع الأمة، أما الكاب فقوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة ابداً. وأولئك هم الفاسقون} وقوله تعالى: {فإذا لم يأتوا باشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} .
والمعنى: أن من قذف مسلماً أو مسلمة، ولم ستطع إقامة البينة المطلوبة لإثبات قوله، فهو كاذب عند الله، أي حكمه في شريعة الله تعالى حكم الكاذب يقيناً، فيقام عليه حد الكاذب، وقوله تعالى: {إن الذين يرمون الممحصنات الغافلات المؤمنات، لعنوا في الدنيا والآخرة، ولهم عذا بعظيم، يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانو ايعملون، يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق، ويعلمون أن الله هو الحق المبين} آيات: 23، 24، 25 من سورة النور فقد بين الله تبارك وتعالى في هذه الآيات فظاعة تلك الجريمة، وعظيم أمرها، فشنع على من وقع فيها، وشرح عظم خطرها، وبين عقوبة مرتكبها، ونهاية أمر فاعلها، ووضح شديد وعيدها، وأي وعيد أشد من اللعنة في الدنيا من الناس والملائكة، والطرد من رحمة الله تعالى ورضوانه يوم القيامة، واستحقاق العذب العظيم، وتقرير ذنبه بشهادة جوارحه عليه في الآخرة أن القاذف مطالب في الجنيا لتصديق دعواه بأربعة شهداءن، فالقاذف يوم القيامة يقوم في وجهه لتكذيبه خمسة شهود من أعضائه وجوارحه: لسانه، ويداه، ورجلاه، تنكيلاً لهن وفضيحة لشأنه، جزاء وفاقاً على محاولته فضيحة المحصنات، الغلافلات المؤمنات.
وحسبك بختم الآية الكريمة بأن الله سيوفيه جزاءه الحق، ويعلم المفتري على الناس الكذب إن لم يكن قد علم أن قوله هوة الحق المبين، وقال تعالى: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة، والله يعلم وأنتم

(5/187)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
ولا تعلمون} والعذاب المتوعد به في الدنيا شامل لحد القذف وما يصيب المتعرض للأعراض غالباً، من مصائب الدهر، ولحوق المخزيات، وتسليط الألسنة على شرفه وعرضه تثير منه ما كمن، بالباطل وبالصحيح، ومن فتش عن عوراتهم فضحوه، ومن تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في قعر بيته، وكما تجين تدانن وكما تفعل تجارى، والجزاء من جنس العمل، ومن زرع الحسرة حصد الندامة.
وأما عذاب الآخرة، فهو أشد وأبقى، وإذا كان هذا من شأن الذين يحبون بقلوبهم أن تنتشر الفاحشة، وتشيع في المؤمنين، فما بالك بمن يفترها، ويروجها بنفسه؟ وأما السنة فما رواه الإمام البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى عن أبي هريرة رشي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات، الغافلات، المؤمنات) .
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قذف مملوكه يقام عليه الحج يوم القيامة، إلا أن يكون كما قال) متفق عليه. ففي الحديث دليل على أنه لا يحد المالك في الدنيا أذا قذف مملوكه، وإن كان جاخلاً تحت عموم آية القذف بناء على أنه لم يرد بالإحصان الحرية وكذلك فعل الرسول صلوات مالله وسلامه عليه، فعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لما نزل عذري قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فذكر ذلك، وتلا القرآن، من قوله (ن الذين جاؤوا بالإفك) إلى آخر ثماني عشرة آية (فما نزل برجلين، وامراة فضربوا الحد) أخرجه أحمد والأربعة، وأشار أليه الإمام البخاري، والرجلان هما حان، ومسطح، وأما المرأة فهي حمنة بنت جحش فالحديث يدل على ثبوت حد القذف.
ما يبيح القذف
قال العلماء: إن القذف ينقسم الى لا محظور، ومباح، وواجب، فإذا لم يكن هناك ولد يريد نفيه فلا يجب وهل يباح أم لا؟ ينظر، وإن رآها بعينه تزني، أو أقرت هي على نفسها ووقع في قلبه صدقها، أو سمع ممن يثق بقوله أو لم يسمع، ولكنه استفاض فيما بين الناس ان فلاناً يزني بفلانة، وقد شاهده الزوح يخرج من بينها، أو رآها معه في بيت، فإنه يباح له القذف في مثل هذه الحالات لتأكد التهمة، ويجوز أن يمسكها، ويستر عليها إن تابت، أما إذا سمع الخبر ممن لا يوثق بقوله، أو استفاض من بين الناس، ولكن الزوج لم يره معها في خلوة، أو بالعكس لم يحل له قذفها، ولكن يجب عليه مراقبتها والتجسس عليها حتى يثبت له صدق الخبر، أو كذبه، حتى لا يكون (ديوثا) يقر الزنا في أهل بيته.
أما إذا كان ثم ولد يرد نفيه، نظر: فإن تيقن أنه ليس منه، بأن لم يكن وطئها الزوج، أو وطئها

(5/188)


والقذف هو عبارة عن أن يتهم شخص آخر بالزنا صريحاً، كأن يقول: أنت زان، أو دلالة، كأن ينسب شخص آخر إلى غير أبيه، فمن صدر منه ذلك كان جزاءه أن يجلد ثمانين جلدة، ما لم يأت بأربعة شهداء يشهدون بأنهم رأوا، بأعينهم المتهم يزني في امرأة لا تحل له (1) .
__________
لكنها أتت به لأقل من ستة أهشر من وقت الوطء، أو لأكثر من أربع سنين يجب عليه القذف، ونفي الولد باللعان، لأنه ممنوع من استلحاق نسب الغير، كما هو ممنوع من نفي نسبه، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله، ولن يدخلها الله حنته،) فما حرم على المرأة أن تدخل على قوم من ليس منهم كان الرجل أيضاً كذلك.
أما إن احتمل أن يكون منه بأن أتت به لأكثر من ستةة أشهر من وقت الوطء، ولدون أربع سنين، نظر، إن لم يكن قد استبرأها بحيضة، أو استبرأها وأتت به لدون ستة أشهر، من وقت الاستبراء، لا يحل له القذف والنفي، وإن اتهمها بالزنا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه، احتجب الله منه يوم القيامة، وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين) .
(1) (تعريفه شرعاً
القذف في اللغة الرمي، وفي اصطلاح الفقهاء: نسبة من أحصن إلى الزنا صريحاً أو دلالة وإنما سمي اتهام المسلم المحصن قذفاً، لأن الناطق بهذه الكلمة كالفاحشة (الزنا) يقذفها كما يقذف الحجر في حالة غضب لا يدري من أصابته في طريقها من محصنة بريئة، وأبيها، وأمها، وأختها، وأخيها، وزوجها، وبينها، وعشيرتها، وذويها، كل أولئك قد نالهم ضرر من قذيفته الطائشة، وهو ضاحك مسرور غافل لا يدري من آلام هؤلاء شيئاً، ويسمى (فرية) لأنه من الافتراء والكذب.
وقد وصف الله تعالى النساء بهذه الأوصاف الحميدة التي تناسب هذا المقام، فالمحصنات هن المصونات كأنه جعل عليهن حصن منيع، والغافلات: أي الخاليات الذهن عن التفكير في المنكر فضلاً عن التوجه إليه والمؤمنات اللاتي آمن بالقران الكريم، وأحكامه، والتزمن حدود الإمان.
واسم الإحصان يقع على المتزوجة، وعلى العفيفة وإن لم تتزوج لقوله تعالى في مريم: {والتي أحصنت فرجها} وهو مأخوذ منع الفرج، فإذا تزوجت منعته إلا من زوجها، وغير المتزوجة تمنعه على كل أحد.
وقد أتفق الأئمة رحمهم الله: على أن الحر البالغ، العاقل، المسلم، المختار، إذا قذف حراً عاقلاً، بالغاً، مسلماً، عفيفاً، لم يحمد في زنا، في سالف الزمان، أو قذف حرة، بالغة، عاقلة، مسلمة، عفيفة، غير متلاعنة، لم تحد في زنا، مطيقة للوطء، قذفها بصريح الزنا، أو كنايته، في غير دار الحرب، وطلب المقذوف بنفسه إقامة حد القذف لزمه ثمانون جلدة، إذا لم يستطع، إقامة البينة، لإثبات ما قاله، بأربعة شهداء عدول.

(5/189)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وإنما اعتبروا الإسلام شرطاً في الإحصان لقوله صلى الله عليه وسلم: (من أشرك بالله فليس بمحصن) ، واعتبروا العقل، والبلوغ، لقوله صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاث) واعتبروا الحرية، لأن العبد ناقص الدرجة، فلا يعظم عليه التعيير بالزنا، واعتبروا العفة عن الزنا، لأن الحد مشروع لتكذيب القاذف، فإذا كان المقذوف زانياً، فالقاذف صاق في القذف، وكذلك إن كان المقذوف وطىء امرأة بشبهة، أو نكاح فاسد، لآن فيه شبهة الزنا، كما فيه شبهة الحل، فكما إن احجى الشبهتين اسقطتت الحد عن الواطىء، فكذا الأخرى تسقطه عن قاذفه أيضاً، واعتبروا الاختيار، لأن المكره، لا يقام عليه الحد، بل يرفع عنه العقاب واعتبروا بها، من شروط المحصن، ان لا يحد في زنا في سالف الزمان، حتى يكون محصناً ظاهراً.
فلو زنا في عنفوان شبابه مرة، ثم تاب، وحسن حاله، وشاخ في الصلاح لا يحد قاذفه، وكذلك لو زنا كافر، أو رقيق، ثم أسلم، وعتق، وصلح حاله فقذفه قاذف لاحد عليه، بخلاف ما لوزنا في حال صغره، أو جنونه، ثم بلغ، أو أفاق فقذفه يحد، لأن فعل الصبي والمجنون لا يكون زنا، ولو قذف عنيناً أو مجبوباً، أو رتقاء أو صغيرة لا تطيق فلا حد عليه، ولو قذف محصناً فقبل ان يحد القاذف زنا المقذوف، سقط الحد عن قاذفه، لأن صدور الزنا يورث ريبة في حاله فيما مضى، لأن الله تعالى كريم لا يهتك ستر عبده في أول ما يرتكب المعصية. فبظهوره يعلم أنه كان متصفاً به من قبل روي أن رجلاً زنا في عهد عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فقال الرجل: والله ما زنيت إلا هذه، فقال له عمر: كذبت إن الله لا يفضح عبده في أول مرة.
واتفق الأئمة على أن القذف الذي يجب به الحد هو أن يرمي القاذف المقذوف بالزنا أو اللواط، أو ينفيه عن نسبه، إذا كانت أمه حرة مسلمة، بصريح القول دون سائر المعاصي. وذلك لأن القذف بالزنا فيه من العار بدناءة النفس، وهتك الستر، وافتضاح السوءات، وانتهاك الحرمات، والدلالة على عدم الغيرة، الذي هو من سمات أخس الحيوانات، ما قرف به كل الموبقات، فإن كان المرمي به امرأة كان فيه من جلب العار على قومها، ما يؤدي إلى سفك الدماء. وقلما يغسل ذلك العار إلا بسفك الدماء، وإن كان المرمي به رجلاً، كان فيه الدلالة على أنه ليس للعرض في نظره كرامة، ولا للغيرة على نفسه سلطان، وكان أمارة على أنه لو أصيب بما أصاب به الناس لاعتبره أمراً عادياً، لاتثور للغيرة له نفسه، ولا يغلي له دمه، ولذلك قيل: لا يزني الغيور وكفى بهذا عاراً، وعيباً يلحق الأبناء، والأحفاد، وتبقى سيرته طوال الحقاب.
وقد أجمع الفقهاء على أن المراد بالرمي هنا في الآية الكريمة إنما هو الرمي بالزنا خاصة دون الرمي بالجرائم الأخرى. لعدة قرائن منها مجيء الآية بعد آية الزنا، ومنها التعبير بالمحصنات وهن العفائف، فدل ذلك على أن المراد بالرمي، ورميهن بضد الفقاف. ونها قوله: {ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} يعني على صحة ما رموهن به، ومعلوم أن هذا العدد من الشهود غير مشروط إلا في

(5/190)


لا فرق بين أن يكون القاذف والمقذوف، رجلاً أو امرأة، وإنما خص الله المقذوف من النساء بالذكر، حيث عبر المحصنات، لأن ضرر الزنا يتعدى المرأة إلى أسرتها فقذفها يصيبهم به معرة شديدة، بخلاف الرجل.
وكذلك خص الله القاذف من الرجال بالذكر حيث قال تعالى: {والذين يرمون} لأن النساء يغلب عليهن الحياء عادة، فلا يقذفن الرجال بالزنا.
وقد بينت السنة أنه لا فرق بين الرجال، والنساء في القذف، كما بينت الشروط اللازمة الاقامة حد القذف، من عقل، وحرية إلى آخر ما هو مبين في كتب الفقه.
__________
الزنا، ومنها انعقاد الإجماع على أنه لا يجب الجلد بالرمي بغير الزنان فيجب أن يكون المراد بالرمي، في الآية، هو الرمي بالزنا خاصة، من بين سائر العيوب.
واتفق الفقهاء: على أنه لا يقام حد القذف على القاذف إلا إذا طلب المقذوف بنفسه إقامة حد القذف على قاذه. لآنه حقه من حيث دفع العار الذي لحقه، فلو عفا عنه وتركه، ولم يطلب إقامة الحد عليه، فلا يقام الحد عليه.
ألفاظ القذف
ألفاظ القذف تنقسم إلى ثلاثة أقسام، صريح، وكناية، وتعريض.
واتفق الفقهاء على أن الحد يقام بالقذف باللفظ الصريح، كأن يقول: يا زانية، أو زنيت، أو زنى قبلك، أو دبرك، ولو قال: زنى بدنك فيه وجهان، أحدهما كناية كقوله: زنت يدك، لأن حقيقة الزنا من الفرج، فلا يكون من سائر البدن إلا المعونة، والثاني: وهو الأصح أنه صريح لأن الفعل إنما يصدر من جملة البدن، والفرج آلة في الفعل وأما الكنايات فمثل أن يقول: يا فاسقة، يا فاجرة، يا خبيثة، يا مؤاجرة، يا ابنة الحرام، أو امرأتي لا ترد يد لامس، وبالعكس فهذا لا يكون قذفاً فلا يحد إلا أن يريده. فإن قال: لم أقصد به القذف بالزنا، وكذبه المقذوف، فالقول قوله مع يمينه، ويجب على الأمام أن يعزره بما يراه، لأنه قد آذاه بذلك وألحق به الشينن ولأن الحدود لا تثبت بالقياس أما التعريض فقد اختلف فيه الفقهاء رحمهم الله تعالى.
الحنفية، والشافعية في أحد آرائهم قالوا: لا يجب الحد في التعريض وإن نوى القذف، وذلك مثل أن يقول: يا أبن الحلال، أما فما زنيت أنا معروف النسب ليست أمي زانية ابحث عن أصلك، أنا عفيف الفرج لأن التعريض بالقذف محتمل للقذف وغيره فرجب أن لا يحد لأن الصل براءة الذمة فلا يرجع عنه بالشك وإنما يجب عليه التعزير فقط، لأن قذف غير المعين لا يحصل به كبير أذى للناس، لأن كل واحد يقول المراد بذل غيري، ولأن الاحتمال الذي في الاسم المستعار شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات.

(5/191)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
المالكية قالوا: يجب إقامة الحد في التعريض مطلقاً، نوى به القذف، أو لم يقو، وذلك لأنه لا يخلو من قصد احد بذلك في نفسه، فنأخذ له حقه منه، وإن كنا لانعلم ذاته. تطهيراً لذلك القاذف من هذه العادة وتربية لنفسه الخبيثة، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يضرب الحد في التعريض روي أن رجلين استبا في زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال أحدهما للآخر: والله ما أنا بزان، ولا أمي بزانية، فاستشار عمر الناس في ذلك فقال قائل مدح أباه وأمه، وقال آخرون: قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا، فجلده ثمانين جلدة. ولأن الكناية قد تقوم بعرف العادة مقام النص الصريح، وإن كان اللفظ فيها مستعملاً في غير موضعه، والتعريض خاص بالأكابر من أهل الدنيا، الذين يراعون ناموسهم عند الخلق.
الشافعية في الرأي الثاني، والحنابلة في إحدى روايتهم قالوا: إن نوى بالتعويض القذف، وفسره به وجب إقامة حد القذف عليه، وإن لم ينو لا حد عليه، والقول قوله مع يمينه.
الحنابلة، في روايتهم الثانية قالوا: يجب الحد على الإطلاق، نوى أو لم ينون خصوصاً إذا كان في حالة غضب وثورة، لنها قرينة تفيد أنه يقصد إهانته، وإلحاق العار بالمقذوف.
عدم قبول شهادته
اتفق الأئمة على أن القاذف لا تقبل شهادته بعد إقامة الحد عليه، لأن الشارع قد رتب على قذف المحصن أو المحصنة ثلاثة أشياء، الجلد ثمانين جلدة، ورد الشهادة أبداً، والحكم عليه بالفسق، حيث قال تعالى: {فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً، وأولئك هم الفاسقون} أما الجلد فللزجر، ولمقابلة الإيذاء بالإيذاء، وأما رد الهشادة فهي عقوبة لسانية تشبه قطع يد السارق، فكأنه روعي أن جزاء هذا اللسان الذي اقترف ذلك الإثم العظيم، أن يهدر ويقطع أثره، فلا يعتد بما يقوله، ويشهد به فيما بين الناس، فهو العدم سواء، وأما تفسيقه فهو مبالغة في الزجر، وإشارة إلى أن ما لقي من جزاء في الدنيا من الحد ورد الشهادة لم يعفه من اعتباره فاسقاً خارا"ً عن أمر ربه وطاعته تبارك وتعالى، وناهيك بهذه الجزاءات دلالة على عظم الخطب، وشدة الخطر، وإذا كان هذا في الرمي بالزنا والاتهام به، فكيف يكون حال مقترف هذا الجرم الفاحش الشنيع؟ فهذا الحكم مع دلالته على ما سبق له، يدل دلالة بالغة على تفظيع جرم تلك الفاحشة، وتشنيع أمرها، وعناية الشارع بالتنزيه عنها، والتنفير منها، حتى يتطهر المجتمتع من آثامها، وإذا حد الكافر في قذف لم تجز شهادته على أهل الذمة، فترد تتمة لحده.
إذا كانت أم المقذوف كافرة أو أمة
المالكية قالوا: يجب إقامة الحمد على القاذف، سواء كانت أم المقذوف حرة، أو أمة، مسلمة أو كافرة، لعموم لفظ الآية أو كان أبو المقذوف الحر المسلم عبداً، أو كافراً، على الراجح من المذهب.

(5/192)


على أن الآية الكريمة قد أشارت إلى أهم شرط من هذه الشوط، وهو أن يكون المقذوف محصناً، ذكراً كان، أو أنثى، ومعنى إحصانه هنا، أن لا يكون قد ارتكب جريمة الزنا قبل قذفه، أو بعده قبل إقامة الحد، فإن ثبت عليه ذلك، فإنه لا يكون محصناً، ويسقط الحد عن القاذف.
__________
الحنفية، والشافعية قالوا: لا يجب إقامة الحد على القاذف إذا كانت أم المقذوف أمة، أو كانت كتابية، ويحد إذا كان أبو المقذوف الحر المسلم عبداً، أو كافراً، أو كان القاذف كافراً والعياذ بالله تعالى.
قبول شهادته قبل إقامة الحد عليه
الشافعية والليث بن سعد قالوا: إذا وجب الحد على شخص بطلب شهادته ولزمه صفة الفسق قبل إقامة الحد عليه، لأن الله تعالى رتب على القذف مع عدم الإتيان بالشهداء الأربعة اموراً ثلاثة معظوفاً بعضها على بعض بحرف الواو، وهو لا يقتضي الترتيب، فوجب أن لا يكون بعضها مرتباً على البعض، فوجب أن لا يكون رد الشهادة مرتباً على إقامة الحد، بل يجب أن يثبت رد الشهادة سواء أقيم الحد عليه أم لا اهـ.
الحنفية، والمالكية قالوا: إذا ثبت حد القذف على شخص، فإن شهادته تكون مقبول ما لم يحد، فلا يتسم بسمة الفسق ما لم يقع به الحد، لأنه لو لزمته سمة الفسق لما جازت شهادته، إذ كانت سمة الفسق مبطلة لشهادة من وسم بها.
وذلك لأن ظاهر الاية يقتضي ترتب وجوب الحد على مجموع القذف، والعجز عن إقامة الشهادة، فلو علقنا هذا الاحكم على القذف وحده، قدح ذلك في كونه معلقاً على الأمرين. ويذلك بخلاف زاهر الآية، وايضاً فوجوب الجلد حكم مرتب على مجموع أمرين فوجب أن لا يحصل بمجرد حصول أحدهما.
واتفق الأئمة على أن الحر لا يجلد في قذف عبده، لآنه ملك يمينه، فلا يعاقب بقذفه.
إذا قذف العبد حراً
اتفق الأئمة على أن العبد إذا قذف حراً يجلد اربعين جلدة نصف حد الحر، ذكراً، أو أنثى. وذلك لما رواه الثوري عن جعفر بن محمد عن ابيه أن علياً عليه السلام قال: (يجلد العبد في القذف أربعين) وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه قال: (أدركت أبا بكر وعمر، وعثمان، ومن بعدهم من الخلفاء وكلهم يضربون المملوك في القذف أربعين) ولان جميع حدود الأحرار تنشطر بالرق.
ولأن الله عز وجل قال: {فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} فنص على أن حد الأمة في الزنا نصف حد الحرة، ثم قاسوا العبد على الأمة، في تنصيف حد الزنا، ثم قاسوا تنصيف حد قذف العبد على تنصيف حد الزنا، في حقه، فرجع حاصل الأمر إلى

(5/193)


ومن أتى امرأة بعقد فاسد، كأن تزوجها بغير شهود. أو أتى امرأة وهي نائمة ظناً منه أنها زوجته، وهي ليست كذلك، فإن حد الزنا يسقط عنه بهذه الشبهة، ولكن هل يرفع عنه فعله الاحصان، بحيث لو قذفه شخص بالزنا لا يجلد ثمانين جلدة؟ أو لا يزال محصناً يُحَدُّ قاذفه؟ خلاف بين العلماء.
فبعضهم يرى أن اقدام على هذا الفعل بدون حيطة يرفع الإحصان.
وبعضهم يقول: لا يرفع عن الإحصان إلا الزنا الموجب للحد، فهذا هو حد القذف.
__________
تخصيص عموم الكتاب، بهذا القياس، والعبرة بحال القذف ولو تحرر بعد القذف وقبل إقامة الحد عليه، لأنه كان رقيقاً في حال القذف.
لو قال له: يا فارسي
المالكية قالوا: لو قال لعربي، يا نبطي، أو يا رومي، أو يا بربري أو قال لفارسي: يا رومي، أو قال لرومي: يا فارسي ولم يكن في آبائه من هذه صفته فعليه الحد لأنه قذف في حقفه. ويلحقه به العار، لما فيه من رائحة الطعن في نسبه، وذلك لسد باب الأذى جملة، أو قال له أنا عفيف الفرج.
الحنفية والشافعية، والحنابة رحمهم الله تعالى قالوا: أنه لو قال له هذه الألفاظ فلا يجب عليه الحد، لندرة فهم القذف بالزنا من مثل ذلك اللفظ، والنادر لا حكم له غالباً، ولأنه يراج به التشبيه في الخلاق.
ولو قال لامرأة زنيت بحمار، أو ببعير، أو بثور فلا حد عليه، لأن الزنا ايلاج رجل ذكره في فرج الأنثى وما ذكره لا يعقل، ولو قال لها زنيت بناقة أو بقرة، أو ثوب، أو جرهم فإنه يقام عليه الحد إذا لم يأت بالبينة.
وذلك لأن معناه أنها زنت واخذت البدل، أو الجر من الزاني، ولو قال هذا الرجل فاسق، أو مخنث لا يحد، ولو قال لها: زنيت وأنت صغيرة أو جامعك فلان جماعاً حراماً، لا يجب عليه الحد، لعدم الصراحة في القول، إذ الجماع الحرام يكون بنكاح فاسد، ولا بقوله: أشهد في رجل بأنك زان، لأنه حال لقذف غيره، ومن قال لآخر يا زاني فقالك لاب أنت، فإنهما يحدان أذا طالب كل منهما الآخر، وأثبت ما طالب به عند الحاكم، لزمه حيئذ حق الله تعالى، وهو الحد، فلا يتمكن واحد منهما من إسقاطه فيحد كل واحد منهما، بخلاف ما إذا قا له مثلاً: يا خبيثن فقال له: بل أنت الخبيث تكافآ ولا يعزر كل منهما للآخر، لأن التعزير لحق الآدمي، وقد وجب له عليه ما وجب للآخر، فتساقطا.
ومن قال لمسلم: يا فاسق، أو يا خبيث، أو يا كافر، أو يا سارق، أو يا مخنث أو يا قاتل النفس، أو يا فاجرن أو يا تارك الصلاة، وغير ذلك من قذفه بعيوب غير الزنان فلا يقام عليه الحد في كل هذه

(5/194)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الألفاظ، وإنما يعزره الحاكم، بما يراه تأديباً له وزجراً، من الضرب، والسجن، والتأنيب، وخلافه. لأن هذه اللفاظ لا تلحق من العار والمهانة كما يلحقه من القذف بالزنا، أو بنفي النسب.
الإقرار بالقذف
اتفق الأئمة على أنه لو أقر بالقذف، قبل قوله، ويقام عليه الحد، فإن رجع في إقراره قبل إقامة الحد عليه، فلا يقبل رجوعة، لأن للمقذوف حقاَ فيكذبه في الرجوع، بخلاف ماهو خاص بحق الله تعالى لأنه لا مكذب له فيه، فيقبل رجوعة.
وقيل لا يقبل رجوعه، لأنه ألحق الشين والعار بالغيرن وشوه سمعته، ويريد أن يبطل حق الغير في إقامة الحق ورد شرفه أما المجتمع ورفع العار عنه.
إذا أتى القاذف بالشهود
اتفق العلماء على القاذف إذا أتى بأربعة من الشهود العدول من الرجال العقلاء، يشهدون عليها بمارماها، لا يقام عليه الحدن ولا يعتبر قاذفاً ويثبت الزنا، لأنه صادق في قوله ويقام الحد على الزانيةن إذا تمت الشهادة عليها بشروطها كما سبق ذلك فيعتبر شاهداً.
مبحث كيفية الشهادة
اتفق الأئمة على أن الشهادة على الزنا لا تثبت إلا بأربعة شهداء بقوله تعالى: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} وقال تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} وقوله تعالى: {لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء} وبما روي عن سعد بن عبادة رضي الله عنه أنه قال: (يا رسول الله أرايت إن وجدت مع امرأتي رجلاً أمهله حتى آتي بأربعة شهداء. قال: نعم) وإنما اشترطوا أربعة شهود لأنه فعل يغمض الاطلاع عليه، فاحتيط فيه باشتراط الأربعة ولأنه يمس الكرامة والشرف فوجب الاحتياط والقة في إثباته بخلاف الباقي فإذا شهدوا على فعل الزنا أمام القضي يجب عليهم أن يذكروا الزاني ومن زنا بها؟ فأنه قدر يراه على جارية فيظن أنها أجنبية ويجب أن يشهدوا أنا رأينا ذكره يدخل في فرجها دخول الميل في المكحلة، فلو شهدوا مطلقاً أنه زنى لا يثبت، لأنهم ريما يرون المفاخذة زنا بخلاف ما لو قذف إنساناً فاعترف وقال: زنيت يجب الحد ولا يستفسر عن ذلك، ولو أقر على نفسه بالزنا هل يشترط أن يستفسر؟ فيه وجهان (أحدهما) نعم كالشهود (والثاني) لا يجب كما في الإقرار بالقذف.
الشافعية قالوا: لا فرق بين أن يجيء الشهود متفرقين أو مجتمعين، لأن الإتيان بأربعة شهداء قدر مشترك بين الإتيان بهم مجتمعين أو متفرقين، واللفظ الدال على ما به الاشتراك لا إشعار له بما به الامتيازن فالآتي بهم متفرقين يكون عاملاً بالنص، فوجب أن يخرج عن العهدة ولأن كل حكم يثبت بشهادة الشهود إذا جاؤوا مجتمعين يثبت إذا جاؤوا متفرقين كسائر الأحكام، بل هنا أولى لأنهم إذا

(5/195)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
جاؤوا متفرقين كان أبعد عن التهمة، وعن أن يتلقن بعضهم من بعض، فلذلك قلنا إذا وقعت ريبة للقاضي في شهادة الشهود فرقهم ليظهر على عورة إن كانت في شهادتهم ولآنه لا يشترط أن يشهدوا معاً في حالة واحدة، بل إذا اجتمعوا عند القاضي وكان يقدم واحداً بعد لآخر ويشهد فإنه تقبل شهادتهم، فكذا إذا اجتمعوا على بابه ثم كان يدخل واحد بعد واحد.
الحنفية قالوا: إذا شهد الشهداء متفرقين فلا تقبل شهادتهم ويجب عليهم حد القذف، لأن الشاهد الواحد لما شهد فقد قذفه ولم يأت بأربعة شهداء فوجب عليه الحد لقوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا برابعة شهداء فاجلودهم ثماني جلدة} وأقصى ما في الباب أنهم عبروا عن ذلك القذف بلفظ الشهادة وذلك لا عبرة به لأنه يؤدي إلى إسقاط حد القذف رأساً، لأن كل قاذف لا يعجزه لقظ الشهادة، فيجعل ذلك وسلة إلى إساقط الحد عن نفسه وحصل مقصوده من قذف الأبرياءء الغافلين.
مبحث إذا قل الشهود عن أربعة
المالكية قالوا: إذا كان الشهداء أقل من أربعة أعتبروا قذفة، ويقام عليهم حد القذف، ويجلد كل واحد منهم ثمانين جلدة، كما ورد في الآية الكريمة: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} .
الحنفية، والحنابلة، والشافعية في بعض أقوالهم قالوا: إذا كان الشهود أقل من أربعة فلا يعتبرون قذفة، ولا يقم عليهم حد القذف، لآنهم جاؤوا شاهدين، لا قاذفين، فلا ذنب لهم، ويسد باب الشهادة على الزنا.
الشافعية في قولهم الثاني قالوا: لو شهد في مجلس الحالكم دون أربعة من الرجال بزنا أحد الناس يقام عليهم الحد في الأظهر منمن المذهب. وذلك لآن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أقام الحد على الثلاثة الذي شهدوا على المغيرة بن شعبة بالزنا رضي الله عنه، كما ذكره البخاري رحمه الله في صحيحه. ولم يخالفة أحد من الصحابة رضوان الله عليهم، ولئلا يتخذ الناس صورة الشهادة ذريعة إلى الوقيعة في اعراض الناس، ولا يقام عليهم الحد، فهو من باب سد الذرائع.
ومحل الخلاف إذا شهدوا في مجلس القاضي، أما لو شهدوا في غير مجلسه فهم قاذفون جزماً وإن كانوا بلفظ الشهادة، لأنه تبين أنهم لا يقصدون أداء الشهادة، بل القذف والتشهير.
مبحث إذا جاء القاذف بشهود فسقة
الحنفية قالوا: إذا قذف رجلاً آخر، فجاء بأربعة فساق شهداء على المقذوف بالزنا فإنه يسقط الحد عن القاذف، ولا يقام الحد على الشهداء، وذلك لقوله تعالى: {ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} وهذا قد أتى بأربعة شهداء، فلا يلزمه الحد، بالآية. ولأن الفاسق من أهل الشهادة، وقد

(5/196)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وجدت شرائط شهادة الزنا، من اجتماعهم عند القاضي، إلا أنهم لم تقبل شهادتهم لجل التهمة، فكما اعتبرنا التهمة في نفي الحد عن المشهود عليه، فكذلك وجب أعبتارها في نفي الحد عنهم.
الشافعية في أحد اقوالهم قالوا: يقام الحد على لاشهود لأنهم غير موصوفين، بالشرائط المعتبرة في قبول الشهادة، فخرجوا عن أن يكونوا شاهدين، فبقوا محض قاذفين، وقيل في قول آخر: إنه لا يقام عليهم الحد كمذهب الحنفية.
واتفق الأئمة: على أن حد القذف يثبت بإقراره مرة واحدة، وبشهادة رجلين، وقيل: بامرأة مرتين.
واتفقوا: على أن حد القذف لا يبطل بالتقادم والرجوع لتعلق حق العبد به فيكذبه في الرجوع.
صيغة المبالغة
الحنفية قالوا: من قال لرجل يا زانية، بتار التأنيث فلا يعد قاذفاً ولا يقام عليه الحد، لأنه رماه بمايستحيل منه، كما لو قذف مقطوع الذكر، أو اماة رتقاء فإنه لا يحد. ولا يحد في قذف الأخرس لاحتمال أن يصدقه في قوله لو نطق، وفي الولين كذبه ثابت بيقين فانتفى إلحاق الشين إلا بنفسه وكذا لو قال له: أنت أزنى من فلان، أو أنت أزنى الناس، أو أزنى الزناة، لأن أفعل في مثل يستعمل للترجيح في العلم، فكأنه قا: أنت أعلم به، فلا حد عليه لهذه الشبهة. ولو قال لامرأة، يا زاني وجب عليه الحدن لأن الترجيح شائع.
الشافعية قالوا: لو قال لرجل: يا زانية يحد، لأن قذفه على المبالغةن فإن التاء تزاد له، كما في لفظ علامة، ونسابة، ولا يحد إذا قذف المجبوب، أو الرتقاء، أو الخنثى المشكل إلا إذا رماه بأنه أتي من دبرهن فإنه يعد قاذفاً، ويقام عليه الحد، لأنه يلحقه شين مثل الزنا.
المالكية قالوا: لا يحد من رمى مقطوع الذكر، أو العنين، أو التي في فرجها عظم، لأنه ظهر كذبه في الواقع، ولا يلحقهم شين بهذا القول، لاستحالة الزنا من هؤلاءن ويقام الحد عليه إذا رمى واحداً من هؤلاء بأنه أتي في دبره، وكذلك المخنث والمشكل. لآن المالكية قالو: يزاد في شروط المقذوف السابقة المتفق عليها في القذف بالزنا، أربعة:
-1 - البلوغ في الذكر الفاعل.
-2 - والإطاقة في الأنثى، والذكر المفعول به.
-3 - والعقل، والعفة.
-4 - والآلة، ولو قال له: أنا عفيف الفرج فعليه الحد، أما إذا لم يرد (الفرج) فلا حد عليه بل يؤدب، لأن العفة تكون في الفرج وغيره كالمطعم، ولو قال لها: يا محبة، أو يافاجرة، أو ياعاهرة، أو يا صبية، لأنه يدل عرفاً على الزنا فيحد، ولو قال له: يا علق بكسر العين، أو يا مخنث وجب إقامة

(5/197)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الحد عليه، لأنهما يدلان على أنه مفعول به، فيحد قائل ذلك، حيث كان المقذوف مطيقاً للجماع، وطالب المقذوف بإقامة حد القذف على قاذفه.
مبحث إذا قذف شخصاً مراراً
اتفق الأئمة رحمهم الله تعالى على أنه إن قذف شخصاً واحداً مراراً كثيرة، في ملجس واحد، أو في مجالس مختلفة، وسواء كان القذف بكلمة واحدة، أو بكلمات، لواحد أو لجماعة. فلا يتكرر الجلد بتكرر القذف، بل يجب عليه حد واحد، ولو قذف قذفين لواحد فحد واحد أيضاً إلا أن يكرر القذف بعد إقامة الحد فإنه يعاد عليه الحد، ولو لم يصرح باللفظ، بأن قال بعد الحد، والله ما كذبت، أو لقد صدقت فيما قلت أو غير ذلك من الألفاظ التي تدل على الاتهما بجريمة الزنا، لأنه تعتبر حداً جديداً بعد الحد الول.
واتقوا على أنه إن - قذف واحداً، حد، ثم إن قذفه ثانية حد حداً ثانياً، وإن عاد وقذفه ثالثة حد أيضاً مرة ثالثة وهكذا.
مبحث إذا قذف جماعة
الحنفية، والمالكية قالوا: إن قذف جماعة في مجلس، أو مجالس مختلفة، بكلمة أو كلمات، مجتمعين أو متفرقين فعليه حد واحد، فإن قام بأحدهم وضرب له كان ذلك بكل قذف كان عليه ولا حد لمن قام منهم بعد ذلك، فإن الحد يجري في التداخل.
واحتجوا على ذلك بالقرآن الكريم فإن الله تعالى قال: {والذين يرمون المحصنات} والمعنى أن كل واحد يرمي المحصنات وجب عليه الجلد، وذلك يقتضي أن قاذف الجماهة من المحصنات لا يجلد أكثر من ثمانين جلدة، فمن أوجب على قاذف جماعة المحصنات أكثر من حد واحد فقد خالف الآية الكريمة.
وأما السنة، فما روى عكرمة عن أبن عباس رضي الله عنهما: (أن هلال بن امية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم، بشريك بن سحماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إما البينة أو حد في ظهرك) لم يوجب النبي صلى الله عليه وسلم على هلال إلا حداً واحداً مع قذفه لامرأته وقذفه لشريك بن سحماء إلى أن نزلت آية اللعان، فأقيم اللعان على الزوجات مقام الحد في الأجنبيات، وأما القياس،، فهو أن سائر ما يوجب الحد إذا وجد فيه مراراً لم يجب إلا حد كحد واحد كمن زنى مراراً، أو شرب الخمر مراراً أو سرق مراراً قبل إقامة الحد عليه، فيكفي حد واحد، والمعنى الجامع من إقامة الحد هو دفع الضرر، وقد حصل فإن قام بأحدهم وضرب له كان ذلك بكل قذف كان عليه، ولا حد لمن قام منهم بعد ذلك. ولو قال كلكم زان إلا واحداً يجب عليه الحد لأن القذف فيه موجب للحد، فكان لكل واحد أن يدعي.
الشافعية في أحد آرائهم قالوا: إنه يحد لكل واحد حداً على انفراد لاختلاف المقذوف. ولأن قوله تعالى في الآية الكريمة {والذين} صيغة جمع وقوله: {المحصنات} صيغة الجمع أيضاً،

(5/198)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
والجمع إذا قوبل بالجمع يقابل (الفرد بالفرد) فيصير المعنى، كل من رمى محصناً واحداً، وجب عليه الحد وتمسك أيضاً بقول تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} فإن الآية تدل على ترتيب الجلد على رمي المحصن من حيث أن هذا المسمى يوجب الجلد، وإذا ثبت هذا فنقول: إذا قذف واحداً صار ذلك القذف موجباً للجلد، فإذا قذف الثاني وجب أن يكون القذف موجباً للحد أيضاً ثم موجب القذف الثاني لا يجوز أن يكون هو الموجب للحد الأول. لأن ذلك قد وجب بالقذف الول، وإيجاب الواجب محال فوجب أن يكون بالقذف الثاني حداً ثانياً، وأما القياس فإن حد القذف حق الآدمي، بدليل أنه لا حد إلا بمطالبة المقذوف.
وقوق الآدمي لا تتداخل بخلاف حد الزنا، فإنه حق لله تعالى، هذا كله إذا قذف جماعة كل واحد منهم بكلمة على حدة. أما إذا قذفهم بكلمة على حدة. أما إذا قذفهم بكلمة واحدة فقال: أنتم زناة، أو زنيتم ففيه قولان: (أصحهما) وهو قوله في الجديد يجب لكل واحد حد كالم لأنه من حقوق العباد فلا يتداخل، ولأنه أدخل على كل واحد منهم معرة فصار كما لو قذفهم بكلمات، وفي القديم لا يجب للكل إلا حد واحد، اعتباراً باللفظ، فإن اللفظ واحد والأول أصح لأنه أوفق لمفهوم الآية فعلى هذا لو قال لرجل: يا أبن الزانيين يكون قذفاً لأبويه بكلو واحدة فيجب عليه حدان.
الحنابلة في أظهر روايتهم قالوا: إن قازفهم بكلمة واحدة يتم عليه حد واحد وإن قذفهم بكلمات فيجعل لكل واحد حد.
والثاني من روايتهم: أنهم قالوا: إن طلبوه متفرقين حد لكل واحد منهم حداً، وإن لم يطلبوه فيجب حد واحد للجميع.
المالكية قالوا: إن قذف شخصاً كان هو المقذوف الأول أو غيره، في اثناء الحد، ألغى ما مضى وابتدأ للمقذوفين حداً حداً، إلا أن يبقى من الأول اليسير وهو ماجون النصف، أو خمسة عشر فيكمل الأول، ثم يستأنف للثاني فيستوي له الحد، فالحد يجري فيه التداخل عندهم.
الحنفية قالوا: إن الحدود تتداخل فلو ضرب القاذف تسعة وسبعين سوطاً ثم قذف قذفاً آخر فلا يضرب إلا ذلك السوط الواحد للتداخلن لأنه اجتمع الحدان، لأن كما الحد الأول بالسوط الذي بقي وحكي أن أبن أبي ليلى سمع من يقول لشخص: يا ابن الزانيين، فحده حدين في المسجد في وقت واحد، فبلغ الإمام أبا حنيفة، فقال: "يا للعجب لقاضي بلدنا، أخطأ في مسألة واحدة في خمسة مواضع. الأول: أخذه بدون طلب المقذوف، والثاني: أنه لو خاصم وجب حد واحد، والثالث: أنه إن كان الواجب عنده حدين ينبغي أن يتربص بينهما يوماً، أو أكثر حتى يخف أثر الضر بالأول عن القاذف، والرابع: ضربه في المسجد، والخامس: ينبغي أن يتعرف أن والديه في الأحياء، أو لا؟ فإن كان حيين فالخصومة لهما، وإلا فالخصومة للابن".
وإذا قذف عبداً حراً فأعتق فقذف آخر فاجتمعا ضرب ثمانين سوطاً، ولو جاء الأول فضرب

(5/199)


إجماع الشرائع على أن القذف اعتداء على الأعراض
-وقد اجمعت الشرائع والعقول، على أن القذف بهذا المعنى اعتداء على الأعراض التي، يقتضي النظام العام صيانتها خصوصاً إذا لوحظ، ما يترتب عليه من شر، وفاسدن لأن قذف المحصنات بالزنا يوجب لا محالة العداوة، والبغضاء بين الأسر، ويولد الضغائن والأحقاد، في نفوس الناس، وربما أفضى إلى الانتقام بقل النفس وذلك شر وبيل، يجب أن توضع له عقوبة تحذر الناس عنه، فلا يطلقون لألسنتهم العنان فيه، حذراً مما يترتب عليه من شر وفساد.
__________
أربعين ثم جاء به الآخر تمم له الثمانين، لأن الرعين وقع لهما، يبقى الباقي أربعين، ولو قذف آخر قبل أن يأتي به الثاني، تكون الثمانون لهما جيمعاً، ولا يضرب ثمانين مسأنفاً لأن ما بقي تمامه حد الأحرار، فجاز أن يدخل فيه الأحرار، وذلك لتداخل حد القذف.
الشافعية قالوا: إن اختلف المقذوف، أو المقذوف به وهو الزنا لا يتداخل لأن الغلب في حد القذف حق العبد عندهم، فإن قذف جماعة بكلمات، أو قذف واحداً مرات بزنا آخر يجب لكل قذف حد.
مبحث إذا قذف الصبي أو المجنون زوجته
إذا قذف الصبي أو المجنون امرأته، أو أجنبياً، فلا حد عليهما ولا لعان، لا في الاحال ولا بعد البلوغ، لسقوط التكليف عنهما لقوله صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاث) ولكن يعزران للتأديب إن كان لهما تمييز، فلو لم تتفق إقامة التعزير على الصبي حتى بلغ يسقط عنه التعزير.
قذف الأخرس
الحنفية قالوا: لا يصح قذف الأخرس، ولا لعانه. ولا يقام عليه الحد، لأن إشارته غير مفهومة، وفيها شك وشبهة والحدود تدرأ بالشبهات.
الشافعية قالوا: إن الأخرس إذا كانت له إشارة مفهومة، أو كتابة معلومة وقذف محصناً أو محصنة بالإشارة، أو بالكتابة لزمه الحد، وكذا يصح لعانه، وهو قول أقرب إلى ظاهر الآية الكريمة، لأن من كتب، أو أشار إلى القذف وفهم منه ذلك، فقد رمى المحصنة، وألحق العار بها، فوجب اندراجه تحت الظاهر، ولأنا نقيس قذفه ولعانه على سائر الأحكام.
قذف الكافر
اتفق الأئمة رحمهم الله على دخول الكافر تحت عموم الآية في قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات} لأن الاسم يتناوله ولا مانع، فللمسيحي واليهودي إذا قذف المسلم يجلد ثمانين سوطاً مثل المسلم.

(5/200)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وإذا دخل الحربي دارنا بامان فقذف مسلماً حداً، لأن فيه حق العبدن وقد التزم إيفاء حقوق العباد، ولأنه طمع في أن لا يؤذى، فيكون ملتزماً بالضرورة أن لا يؤذي.
قذف المجوسي بعد إسلامه
الحنفية قالوا: إذا قذف رجل مجوسياً تزوج بأمه، أو أخته، أو بنته، ثم أسلم ففسخ نكاحهما فقذفه مسلم في حال إسلامه يقام عليه الحد، بناء على أن انكحتهم لها حكم الصحة عندهم.
الشافعية، والمالكية، والحنابلة، رحمهم الله تعالى قالوا: إذا قذف مسلم مجوسياً بعد إسلامه فلا يحد، لأن أنكحتهم ليس لها حكم الصحة عندهم، فلا يكون المجوسي محصناً.
الحكم إذا مات المقذوف
الحنفية قالوا: إن حد القذف لا يورث، بل يسقط بموت المقذوف قبل إقامة الحد على قاذفه، وإذا مات بعد ما اقيم عليه بعض الحد سقط الباقي لأنه حق لله تعالى ولم يثبت جليل من الكتاب والسنة علىلا أن الشرع جعل الوارث له حق المطالبة بحد القذف على الميتم المقذوف أو وصيه ولن حد القذف لو كان مورثاً لكان للزوج أو الزوجة فيه نصيب ولأنه حق ليس فيه معنى المال والوثيقة فلا يورث كالوكالة والمضاربة، ولا ينقلب مالاً عند سقوطه، ولا ستحلف عليه القاذف، ويتصف بالرق.
الشافعية والحنابلة قالوا: إن حد القذف يورث فإذا مات المقذوف قبل استيفاء الحد فيقام الباقي، والعفو يثبت للوارث في حد القذف، وكذلك إذا كان الواجب بحقه التعزير فإنه يوؤث عنه، وكذا لو أنشأ القذف بعد المورث ثبت لوارثه طلبه الحد وذلك لأن حد القذف هو حق الآدمي لأنه يسقط بعفوه ولا يستوفى إلا بطلبه، ويحلف فيه المدعي إذا أنكر، وإذا كان حق الآدمي وجب أن يورث لقوله عليه الصلاة والسلام: (ومن ترك حقاً فلورثته) ولا تبطل الشهادة بالتقادم ويجب على المأمن ولا يصح الرجوع عنه بعد الإقرار به.
وفيمن يرث ثلاثة أوجه لأصحاب الشافعية:
الأول: وهو الأصح عند الشافعية أنه يرثه جميع الورثة كالمال لا فرق بين النساء والرجال.
الثاني: يرثه ذوو الأنساب فيخرج منه الزوجان لأن الزوجين يصح افتراقهما أو غبدال كل واحد بغير صاحبة، ولن الزوجية ترتفع بالموت، ولآن المقصود من الحد دفع العار عن النسب، وذلك لا يلحق الزوج والزوجة، لبعد القرابة بينهما.
الثالث: إنه يرثه العصبات فقط دون النساء، لشدة ارتباط العصبة بعضهم ببعض، فكانوا أشد تعلقاً وارتباطاً بالمقذوف من مطلق الوثة وذلك مرجوح.
المالكية قالوا: للمقذوف حق المطالبة بحق قاذفه، وإن علم المقذوف على أن مارمي به منصف به، لأنه أفسد عليه عرضه، وليس للقاذف تحليف المقذوف على أنه بريء مما رماه به،

(5/201)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وللوارث الحق بالقيام، والمطالبة بحق مورثه المقذوف قبل الموت، أو بعده، لأن المعرة تلحق الواث بقذف مورثهن خصوصاً، إذا كان الميت أوصاه بغقامة الحد فليس للوارث في هذه الحالة العفو، ولا المماطلة، بل يجب على الحاكم تنفيذه، وللأبعد من المورثة كابن الابن القيام بطلب حق مورثه من إقامة حد القذف، فيتقدم الابن، ثم ابنه الخ.. إن سكت الأب وقيل: يجوز للأب القيام بالمطالبة بحد القذف مع وجود الأقرب، وإن لم يسكت الأقرب، لأن المعرة تلحق الجميع لا فرق بين الأقرب، والبعد.
أما الزوجان، فليس لحدهما حق المطالبة بإقامة الحد للآخر، لأن أحدهما ليس ولياً للآخر، ولا تلحقه به معرة بعد موته، ما لم يكن أحدهما قد أوصى الآخر بالمطالبة بحقه في إقامة الحد على القاذف قبل وفاته، في أن يطالب بالحد لأنه يصبح ولياً مثل الوارث.
الحنفية قالوا: لو قال له: يا أبن الزانية، وأمه ميتة، محصنة، فطلب الابن بحده حد القاذف، لأنه قذف محصنة بعد موتها، ولا يصح أن يطالب بحق الميت في حد القذف إلا من يقع القدح في نسبه بقذفه، ويلحقه العار به، وهو الوالد، وإن علا، والولد وإن سفل، لأن العار يلتصق بهما لمطانة الجزئية، فيكون القذف متناولاً لهم معنى، فلذلك يثبت لهم حق المطالبة.
مبحث من قذف ميتاً
وإذا كان المقذوف محصناً جاز لابنه الكافر، والعبد المطالبة بحد القذف، لأنه عيره بقذف محصن، فيأخذه بالحد، وذلك لأن الإحصان في الذي ينسب إلى الزنا شرط ليقع تعبيراً، عن الكمال.
مطالبة العبد لسيده والولد لوالده
الحنفية، والشافعية، والحنابلة قالوا: ليس للعبد أن يطالب مولاه بقذف أمه الحرة التي قذفها في حال موتها، بأن قال السيد لعبده: يا أبن الزانية وأمه ميتة وليس للابن أن يطالب أباه بقذف امه الحرة المسلمة التي قذفها في حال موتها، بأن قال له: با أبن الزانية لأن الب لا يعقاقب بسبب فرعه، ولهذا لا يقاد الوالد بولده، ولا يقطع بسرقته، لقوله تعالى: {فلا تقل لهما أفٍ} وقوله عليه الصلاة والسلام (لا يقاد الوالد بولده، ولا السيد بعبده) وللإجماع على كونه، لا يقاد به، فإن غهدار جنايته على نفس الولد توجب إهدارها في عرضه بطريق أولى، مع أن القصاص متيقن بسببه، والغالب فيه حق العبد، ولأن المولى لا يعاقب بسبب عبده وذلك، لأن حق عبده حقه، فلا يجوز أن يعاقب بسبب حق نفسه، ولقثول صلوات الله وسلامه عليه (لا يقاد الوالد بولده ولا السيد بعبده) ولان العبد من أموال السيد وملك له فلا حق له عليه.
المالكية في المشهور من المذهب قالوا: إذا قذف الوالد ابنه فقال له: يا أبن الزانية، بعد موت أمه الحرة المسلمة المحصنة، فإنه يجوز للابن أن يطالب أباه، بقذف أمه، ويقيم عليه الحد القذف كغيره من الجانب، وذلك لإطلاق الآية الكريمة {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء

(5/202)


مبحث اعتراض الجهلة على حد القذف.
-إن بعض الناس يتخيل أن عقوبة الجلد شديدة، ولا تناسب المدنية الحاضرة. والجواب عن مثل هذا هو أن يقال: ينبغي لمن يتكلم بهذا أن يدرك اولاً معنى الجريمة، ومعنى ما يترتب عليها من الآثار التي تؤذي المجتمع الإنسانين ثم يقارن بينها وبين
__________
فاجلدوهم ثمانين جلدة} فالآية لم تفرق بين فرد وآخر، ولا بين قريب وبعيد، ولآنه حد هو حق الله تعالى، فلا يمنع من إقامته قرابة الأولاد.
وقال المالكية: إذا حد الب سقطت عدالة الابن لمبائرته سبب عقوبة أبيه، مع قول الله تعالى: {ولا تقل لهم أفٍ، ولا تنهرهما، وقل لهما قولاً كريماً} .
وأجمع الأئمة على أنه إذا كان لزوجته الميتة التي قال لولدها، بعد موتها: يا أبن الزانية ولد آخر من غيره، كان له حق المطالبة، بحد القذف. لأن لكل منهما حق الخصومة، وظهر في حق أحدهما مانع، دون الآخر، فيعمل المقتضى عمله في الآخر، ولذا لو كان جماعة يستحقون المطالبة، فعفا ا؛ دهم، كان للآخر المطالبة به، بخلاف عقو أحد مستحقي القصاص فإنه يمنع استيفاء الآخر، لأن القصاص حق واحد للميت، موروث للوارثين فباسقاط أحدهما بالعفو لا يتصور بقاؤه، لأن القتل الواحد لا يتصور تجزئته، أما هنا فالحق في الحد لله تعالى.
قالوا: ومن قال لغيره: يا زاني، فقال: لا، بل أنت، فإنهما يحدان، لأن معناه، لا بل أنت زان، إذ هي كلمة عطف يستدرك بها الغلط فيصير الخبر المذكور في الأول، مذكوراً في الثاني.
قال لامرأته: يا زانية، فقالت: لا بل أنت، حدت المرأة خاصة، إذا ترافعا، ولا لعان، لنهما قاذفان، وقذف الرجل زوجته يوجب اللعان، وقذفها إياه يوجب الحد عليهما والأصل أن الحدين إذا اجتمعا، وفي تقديم أحدهما اسقاط للآخر، وجب تقديمه احتيالاً للدرء، واللعان قائم مقام الحد فهو في معناه، وبتقديم حد المرأة يبطل اللعان، لأنها تصير محدودة في قذف. واللعان لا يجري بين المحدودة في القذف، وبين زوجها لأنه شهادة، ولا شهادة للمحدود في القذف.
قالوا: ولو كانت قالت في جواب قوله: يا زانية زنيت بك فلا حد، ولا لعان، لوقوع الشك في كل منهما، لأنه يحتمل أنها أرادت الزنا قبل النكاح، فتكون قد صدقت في نسبتها إلى الزنان فيسقط اللعان، وقذفته حيث نسبته إلى الزنا، ولم سصدقها عليه، فيجب الحد دون اللعان، ويحتمل أنها ارادت زناء مان معك بعد النكاح، لآني ما مكنت أحداً غيرك. وهو المراد، في مثل هذن الحالة، وعلى هذا الاعتبار يجب اللعان دون الحد على المرأة، لوجود القذف منه، وعدمه منها، فعلى تقدير يجب الحد دون اللعان، وعلىم تقدير يجب اللعان دون الحد، والحكم بتعين أحد التقديرين فوقع الشك في كل من وجب اللعان والحد، فلا يجب واحد منهما بالشك) .
-

(5/203)


العقوبة، ليعلم أن الغرض من العقوبة إنما هو زجر الناس عن كل فعل، أو قول يضر بالمجتمع، ويؤذي أفراده، وجماعته، فإذا فشت الجرائم بين الناس، وأصبح كل واحد غير آمن على عرضه، أو نفسه، أو ماله، فإنه لا يكون لهذا معنى الإ أن الإنسان الذي ميزه الله تعالى بالعقل مساوٍ للحيوان المفترس، الذي يعتدي فويه على ضعيفة، وذلك هو الهلاك، والفناء للأفراد والجماعات، فلا بد من زاجر يزجر المجرمين، فاسدي الخلاق، ويوقفهم عند الحد الذي يصلح للبقاي، ولا بد أن يكون ذلك الزاجر قاطعاً للدابر الجريمة، كي لا يكون لها أثر بين الناس، فمن مصلحة المجتمع، ومصلحة المجرمين أنفسهم، أن تكون العقوبة زاجرة، بصرف النظر عن تفاوت حال المجرمين في الرقة والخشونة، أو الذكورة والنوثة، فإن ذات الجريمة واحدن، وآثارها الضارة واحدة ولا يليق بعاقل مشرع أن يقول: إن المحرم الذي يهاجم أعراض الناس فيثلمها بلسانه كذباً وافتراء، لا يستحق عقوبة الضرب الموجعة.
بل الواجب أن يقول: إن هذه الجريمة لها اسوأ الأثر بين الأفراد والجماعات، فيجب أن توضع لها عقوبة تقلعها من أساسها، فالعقوبة التي وصفها الله تعالى لازمة ضرورية.
فعلى المؤمنين الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر، أن ينزهوا ألسنتهم عن قذف الناس بهذه الفاحشة إن لم يكن خوفاً من العقوبة الدنيوية، فخوفاً من الله الذي وصفهم بأنهم (فاسقون) .
أما المستهترون الذين لا يبالون أمر الله عز وجل، ولا يخشونه، فإن هؤلاء أحط من الأنعام، فلا زاجر لهم إلا بما يؤذيهم، وإلاتمادوا في نهش أعراض الناس بدون حساب (1)

مبحث العفو عن القاذف
-الشافعية، والحنابلة قالوا: إن للمقذوف الحق في أن يقفو عن قاذفه، ويسقط بذلك العفو حد القذف، وفي ذلك سعة، فإذا سبق لسان أحد إلى قذف شخص بهذه الفاحشة، فإنه
__________
(1) (إن لله تعالى في طي كل مصيبة نعمة، وفي كل بلية رحمة، وإن لم يطلع على ذلك صاحبها، ففي إقامة الحدود تأديب للمؤمنين، وتربية لنفوسهم على الخير، والبعد عن مواطن الشر، وتطهير لألسنتهم، والتحفظ بها عن الخوض في أعراض الناس وحفظاً لهم من أن يقعوا في معصية الله تعالى، ويصبحوا من الفاسقين، وفي تشريع الحدود تطهير للمجتمع من الشرور والمفاسد، التي تهلكهم وتفرق بين صفوفهم، وإذا قارنا بين المجتمع الذي نعيش فيه، وبين المجتمع الذي كان في عهد الرسول الله صلى الله عليه وسلم أدركنا الفرق الكبير والبون الشاسع بينهما. وذلك لإقامة الحدود في عهده وعهد الخلفاء الراشدين من بعده)
-

(5/204)


يصح له أن يسترضيه، ويزيل ذلك الأثر من نفسه، فاذ عقفا عنه، فإن عفوه يصح، سواء كان قبل رفع الأمر للحاكم، أو بعده.
المالكية يوافقون على هذا الرأي إذا كان العفو قبل أن يرف الآمر للحاكم، أما بعد رفع الآمر للحاكم، فإن العفو يصح إذا كان المقذوغ يخاف على نفسه سوء السمعة، أما بعد رفع الأمر للحاكمن فإن العفو يصح إذا كان المقذوف يخاف على نفسه سوء السمعة، أما إذا كان مشهوراً، بالفعة، ولا تؤذيه إذاعة التهمة، فإن العفو لا يصح.
وعلى أي حال، فإن القول بصحة عقو المقذوف معقول، لأنه هو الذي وقع عليه ضرر القذف، ومتى عفا ذهب أثر الجريمة الضار، فإذا قذفه ثانياً بعد العفو، فإنه لا يحد، ولكن يعزر كي لا يعود إلى شتمه.
ويمكنك أن تقول: إن العفو يسقط حد القاذف عند الأئمة الثلاثة خلافاً للحنفية، ومع ذلك فإن الحنفية يقولون: أنه لا يقام إلا إذا رفع المقذوف الأمر للحاكم (1)
__________
(1) (الشافعية والحنابلة في أظهر روايتهم قالوا: إن حد القذف حق للمقذوف، وإن كان فيه حق الشرع، تقديماً لحق العبد باعتبار حاجته، وغنى الشرع، ولأن أكثر الأحكام تبنى عليه، والمعقول يشهد له وهة أن العبد ينتفع بحد القذف على الخصوص، مثل القصاص فلا يستوفى إلا بمطالبته، وله أن يسقطه عن القاذف معفو عنه، وله أن يبرىء منه، وهو يورث عن المذوف، وذلك لأن حق العبد في حد القذف غالب على حق الشرع، وظاهر عليه، لأن فيه صيانة أعراض الناس.
الحنفية قالوا: ليس للمقذول أن يسقط حد القذف عن القاذف، ولا أن يعفو عنه، ولا يمكنه أن يبرىء القاذف منه، لأن الغالب فيه حق الله تعالى، ولا خلاف أن فيه حق للعبد، وحق الشرع، ولأنه شرع لدفع العار عن المقذوف، وهو الذي ينتفع به على الخصوص فمن هذا الوجه حق العبد، وفيه معنى الزجر، ولذلك يسمى حداً، والمراد بالزجر إخلاء المجامتع من الفساد وتطهيره من المنكر، وهذا علامة حق الشرع، إذا لم يختص به إنسان دون غيره، ولأن ما للعبد من الحق يتولاه مولاه فيصير حق العبد شرعياً له، ولا كذلك عكسه، لأنه لا ولاية للعبد في استيفاء حقوق الشرع إلا نيابة، وهذا هو الصل المشهور الذي يتخرج عليه الفروع المختلف فيها، كالإرث، لأنه يجري في حقوق العباد، لا في حقوق الشرع، فإن العبد يرث حق العبد بشرط كونه مالاً، والحد ليس شيئاً من أنواع الأموال، فيبل بالموت، إذا لم يثبت دليل سمعي على استخلاف الشرع وإرث جعل له حق المطالبة، أو وصية المطالبة التي جعلها شرطاً لظهور حقه، ومنها العفو، فإنه بعدما ثبت عند الحاكم القذف والاحصان، لو عفا المقذوف عن القاذف لا يصح منه، ويحد، فإن الحد لا يسقط بعد ثبوته عندهم إلا أن يقول المقذوف. لم يقذفني، أو كذب شهودي، وحينئذ يظهر أن القذف لم ينعقد موجباً للحد، بخلاف العفو عن القصاص فإنه يسقط بعد وجوبه، لأن القالب فيه حق العبد، ومنها أنه لا يجوز الاعتياض عنه،

(5/205)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
ويجري فيه التداخل، حتى لو قذف شخصاً مرات، أو قذف جماعة كان فيه حد واحد، إذا لم يتخلل حد بين القذفين، ولو ادعى بعضهم فحدن ففي أثناء الحد ادعى آخرون، كما ذلك الحد فقط.
قالوا: وإنما لا يصح عفوه، لأنه عقو عما هو مولى عليه فيه، وهو الإقامة، ولأنه متعنت في العفو، لأنه رضي بالعار الذي لحقه من القذف، والرضا بالعار عار، وذلك هو الأظهر من جهة الدليل، والأشهر عند عامة المشايخ، ومن أصحابهم من قال: إن الغالب في حد القذف حق العبد.
المالكية قالوا: إن حد القذف الغالب فيه حق العبد، فلا يستوفى إلا بمطالبته، وإن له اسقاطه إذا لم يرفع الأمر إلى الحاكم، أما إذا رفع الأمر إلى الحاكم، ووصل إليه، فليس لأحد اسقاطه في هذه الحالة، لأن العلماء اجمعوا على أن الحد إذا رفع إلى الحاكم وجب الحكم بإقامة الحد عليه، وتحريم قبول الشفاعة في أسقاطه، إلا أن يريد بذلك المقذوف الستر على نفسه من كثرة اللغط فيه، وهو المشهور عندهم.
وقالوا: إن حد القذف لا يجوز الاعتياض عنه، وإنه يجري فيه التداخل، فلو قذف
قذفين أو أكثر لواحد، وجب حد واحد، ولو قذف جماعة في مجلس، أو مجالس بكلمة، أو كلمات فعليه حد واحد، ولو قذق جماعة في مجلس، أو مجالس بكلمة، أو كلمات فعليه حد.
واحد للجميع، فإن طالب أحدهم، وضرب له، كان ذلك بكل قذف كان عليه، ولا حد لمن طالب منهم بعد ذلك. فلا يتكرر الجلد بتكرر القذف، ولا بتعدد المقذوف، إلا أن يكرر القذف بعد إقامة الحد، فإنه يعاد عليه، ولو لم يصرح به.
مبحث من نسبه إلى عمه أو خاله
الحنفية قالوا: ومن نسب إنساناً إلى عمه أو خاله، أو إلى زوج أمه، فليس بقاذف لأن كل واحد من هؤلاء يسمى أباً، فلأول وهو تسمية العم أباً لقول تعالى: {وإله آبائك إبراهيم واسماعيل وإسحاق} وإسماعيل كان عماً ليعقوب عليهم الصلاة والسلام، والثاني لقوله عليه الصلاة والسلام (الخال والد من لا والد له) والثالث للتربية، وقيل في قوله تعالى: {إن ابني من أهلي} أنه كان أبن امرأته، ومن قال لآخر: يازاني، فقال له الآخر: لا بل أنت، فإنهما يحدان إذا طالب كل منهما الآخر لأنهما قاذفان، وإذا طالب كل الآخر، واثبت ما طالب به عند الحاكم لزمه حينئذ حق الله تعالى وهو إقامة الحد، فلا يتمكن واحد منهما من ساقاطه، فيحد كل منهما، بخلاف ما لو قال له مثلا: يا خبيث، فقال له: بل أنت تكافآ، ولا يعزر كل منهما للآخر لأنه حق للآدمي فتساقطا.
مبحث إذا ظهر أن الشهود كفار أو عبيد
الشافعية قالوا: لو الزوج بزنا زوجته كان قاذفاً لها فيحد حد القذف، لأن شهادته بزناها غير مقبول عند القاضي للتهمة، وعلى هذا لو شهد عليها دون أربعة حدوا جميعاً لأنهم قذفة، وكذا لو كان شهد أربع نسوة، أو عبيد، أو كفرة، أو أهل ذمة، أو مستأمنين فإنهم في كل هذه المسائل يحدون حد القذف على المذهب، لأنهم ليسوا من أهل الشهادة. فلم يقصدوا بقوله إلا القذف.

(5/206)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
والطريق الثاني في حدهم إننا نزلنا نقص الصفة في هؤلاء الشهداء منزلة نقص العدد فيحدون، ومحل الخلاف إذا كانوا في مظاهر الحال بصفة الشهود، ثم باتوا كفاراً، أو عبيداً، وذلك لأن القاضي إذا علم حالهم من أول الأمر ردهم، ولا يصغي إليهم، فيكون قولهم قذفاً محصناً، قطعاً، من غير شك (لأنه ليس في تعرضه شهادة) ,
قالوا: لو شهد أربعة بالزنا، وردت شهادتهم بفسق، ولو مقطوعاً به كالزنا، وشرب الخمر، لم يحدوا، لعدم تمام شرائط الشهادة، وفارق ما مر في المسائل الأولى في نقص العدد، بأن نقص العدد متيقن، وفسقهم إنما يعرف بالظن والاجتهاد وهو شبهة، والحد يدرأ بالشبهات.
ولو شهد دون اربعة بالزنا فحدوا، وعادوا مع رابع لم تقبل شهادتهم كالفاسق ترد شهادته، ثم يتوب ويعيدها لم تقبل.
ولو شهد بالزنا عبيد فحدوا، ثم عادوا بعد العتق قبلت شهادتهم لعدم اتهمامهم، ولو شهد به خمسة، فرجع واحد منهم عن شهادته، لم يحد هو ولا غيره، لقاء النساب ولو رجع اثنان من الخمسة حدا، لأنهما ألحقا به العار، دون الباقينن لتمام النصاب عند الشهادة، مع عدم تقصيرهم، ولو رجع واحد من أربعة، حد وحده دون الباقين لما ذكر.
مسألة
قالوا: إذا قذف إنسان إنساناً آخر بين يدي الحاكم، أو قذف امرأته برجل يعينه والرجل غائب عن المجلس، فعلى الحاكم أن يبعث إلى المقذوف، ويخبره بأن فلاناً قذفه، وثبت لك حد القذف عليه، كما لو ثبت له مال على آخر، وهو لا يعلمه، يلزمه إعلامه بذلك وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم أنيساً ليخبرها بأن فلاناً قذفها بابنه، ولم يبعثه الرسول ليبحث عن زناه، ويتحققه.
الشافعي رحمه الله قال: ليس للإمام اذارمي رجل بزنا، أن يبعث إليه فيسأله عن ذلك. لأن اللع تعالى قال: {ولا تجسسوا} وأراد به إذا لم يكن القاذف معيناً مثل أن قال رجل: الناس يقولون إن فلاناً زنى.
من قذف زوجته برجل
الحنفية، والشافعية، والحنابلة ت قالوا: يجب اللعان بممجرد أن يقذف الرجل زوجته بالزنا إن طالبته بذلك لعموم قول تعالى: {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم اربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين} الخ الآيات ولم تخص الآية في الزنا صفة دون صفة، ويشترط أن يكون الزوج من اهل الشهادة، وأن تكون الزوجة ممن يحد قاذفها، وطالبته بذلك.
المالكية قالوا: لا يجوز اللعان بمجرد القذف، بل لابد أني يدعي رؤية الزنا.
وحجتهم في ذلك، ظاهر الأحاديث الواردة في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم: منها قوله في حديث

(5/207)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
سعد بن عبادة "أرأيت لو أن رجلاً وحد مع امرأته رجلاً) وحديث أبن عباس رضي الله عنهما وفيه: (فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: والله يا رسول لقد رأيت بعيني، وسمعت بأذني، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به، واشتد عليه، فنزلت الآية الكريمة: {والذين يرمون أزواجهم} الآية وايضاً فإن الدعوى يجب أن تكون مبينة كالشهادة سواء بسواء.
واتفق الأئمة: على أن من قذف زوجته بالزنا، واجعى الرؤية يجب أن يجرى اللعان بينهما.
مبحث نفي الولد
ومن أقر بولد ثم نفاه، فإنه يلاعن لأن النسب لزمه بإقراره، وبالنفي بعده صار قاذفاً لزوجته، فيلاعن، وغن نفاه ثم أقر به حد، لأنه قد أكذب نفسه وأبطل اللعان الذي كان وجب بنفيه الولد، لأن اللعان حد ضروري صير إليه ضرورة التكاذب بين الزوجين في زنا الزوجة، والأصل في اللعان أنه حد القاذف، لأنه قذفها بلزنا، فإذا بطل الصل، وهو بطلان التطاذب صير إلى الأصل فيحد الرجل. والولد ولده في حالة ما إذا أقر بالولد ثم نفاه، وما إذا نفاه أولاً ثم اقر به، لإقراره به سابقاً، فيثبت ولا ينفى بما بعده، أو لاحقاً فيثبت به بعد النفي.
وإن قال الزوج الذي جاءت زوجته بولد: ليس بابني، ولا بابنك، فلا حد ولا لعان، لأنه إذا أنكر أنه ابنها، أنكر الولاجة، فكما نفى كونه ابنه لنفي ولادتها إياه، وبنفي ولاتها لا يصير قاذفاً لأنه إنكار الزنا منه.
الحنفية قالوا: ومن وطىء وطأ حراماً في غير ملكة لم يحد قاذفه، لفوات شرط العفة في حقه، وهو من شروط الإحصان، ولأن القاذف صادق فيما قاله، فلا يقام عليه الحد لأنه غير قاذف.
الشافعية - قالوا: اذاسب إنسان إنساناً جاز للمسبوب أن يسب الساب بقدر ما سبه لقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} ولكن لا يجوز أن يسب أباه، وأمه، وإنما يجوز السب بما ليس كذباً، ولا قذفاً، كقوله: يا ظالم، يا أحمق، يا بليد، يا مغفل، لأن أحداً لا يكاد ينفك عن ذلك، وإذا انتصر بسبب خصمه، فقد استوفى ظلامتهن وبرىء الأول من حقه.
مبحث إذا نفى الزوج الحمل
التفق الفهاء على أن الزوج غاذ نفى الحمل ت بأن ادعى أنه استبرأها، ولم يطأها بعد الاستبراء اتفقوا على جواز الحمل وإقامة اللعان.
وأما إن نفى الحمل مطلقاً أختلف العلماء فيه.
المالكية في المشهور عندهم قالوا: إنه لا يجب اللعان بذلك.
الشافعية، والحنابلة قالوا: لا معنى لهذا، لأن المرأة قد تحمل برؤية الدم.

(5/208)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وقت نفي الحمل
المالكية - قالوا: اشترطوا أنه إذا لم ينفه وهو حمل، لم يجز له أن ينفيه بعد الولادة بلعان وحجتهم في ذلك الآثار المتواترة عن حديث أبن عباس، وأبن مسعودن وأنس، وسهيل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم حين حكم باللعان بين المتلاعنين قال: (إن جاءت به على صفة كذا فما أراه إلا قد صدق عليها) . فهذا يدل على أنها كانت حاملاً وقت اللعان.
الشافعية قالوا: إذا علم الزوج بالحمل فأمكنه الحاكم من اللعان فلم يتلاعن لم يكن له حق أن ينفيه بعد الولادة.
الحنفية قالوا: لا ينفى الولد حتى تضع الزوجة وحجتهم في ذلك أن الحمل قد ينفش وقد يضمحل، فلا وجه للعان إلا علىلا يقينن ولا يأتي اليقين إلا بعد الوضع.
من قذف الملاعنة
الحنفية قالوا: من قذف امرأة وعنها أولاد لم يعرف لهم أب، أو قذف الملاعنة بولد، والولد حي أو قذفها بعد موت الولد، لا حد عليه لقيام امارة الزنا منها وهي ولادة ولد لا أب له، ففاتت العفة نظراً إليها وهي شرط الإحصان: أما لو قذف ولد الملاعنة نفسه، أو ولد الزنا فإنه يحدن لما رواه اما أحمد في حديث هلال بن أمية من قوله: وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يدعى ولدها لأب ولا يرمى ولدها ومن رماها ورمى ولدها فعليه الحد.
ولو قذف امرأة لاعنت بغير ولد فعليه الحد لعدم ثبوت الزنا وثبوت اماراته، ولو أنه بعد اللعان ادعى الولد فحد أو لم يحد حتى مات فثبت نسب الولد منه، فقذفها بعد ذلك قاذف غيره أو هو قبل موته حد، ولا يحد الذي قذفها قبل تكذيب نفسه.
وكذا لو قامت البينة على الزوج أنه ادعاه وهو ينكر، يثبت النسب منه ويحد، ومن قذفها بعد ذلك يحد لأنها خرجت عن صورة الزواني.
الشافعية قالوا: في أحد آرائهم، إن الملاعنة إذا قذفها أجنبي بذلك الزنا الذي لا عنت فيه، لا يحد.
واعترض عليهم: بأن مقتضاه أن لا يحد الزوج لو قذفها أجنبي بعد اللعان، ولكن المنصوص في الأصل أنه يحد، بل الحق أنها لم يسقط إحصانها يوجه وقولهم اللعان قائم مقام حد الزنا في حقها. إنما يقتضي، أن لا يحد قاذفها، ولو كان معناه أنه وجب عليها الحد، وجعل اللعان بدله، وليس كذلك، لأنه لا يجب الحد بمجرد دعوى الزنا عليه، مع العجز إن إثباته يسقط احصانها. وإنما هو ليتبين الصادق منهما.

(5/209)


مبحث مراعاة الشريعة لحال المجرم.
-ومما ينبغي ملا حظته أن إقامة الحد بالجلد يجب أن يراعى فيها حال المجرم، واحتماله للعقوبة، فإذا كان جسمه ضعيفاً لا يحتمل، أو كان مريضاً، فإنه يؤخر إلى أن يقوى على احتمال العقوبة، فإذا كان ضعفه طبيعياً بحيث لا يرجى له قوة، فإنه يجمع له أعواد بقدر العقوبة، ويضرب بها مرة واحدة. وهذا هو رأي جماهير العلماء. ومن هذا كله يتضح لك أن الشدة في العقوبة إنما هي بالنسبة للفجار الأقوياء، الذين يؤذون الناس، بما يوجب حقدهم عليهم، وعدم الصفح عنهم، وهؤلاء شرهم على أنفسهم، وعلى المجتمع شديد، فلا ينبغي لأحد أن يرحمهم في أي زمان ومكان (1)
__________
مبحث إقامة الحد
ولا يستوفي حد القذف إلا بحضرة الإمام، أو نائبه، لاحتياجه إلى النظر، والاجتهاد في شأنه ومن تكرر منه السرقة منه السرقة، أو الزنا، أو الشرب، فحد فهو للكل، وتتداخل الحدود.
أما لو زنى، وسرق، وقذف وشرب، فإنه يحد على كل واحد منها حداً على حدة. لأنه لو ضرب لأحدهما فربما اعتقد أنه لا حد في الباقي، فلا ينزجر عنها. ولا كذلك إذا احدث الجناية.
اجتماع الحدود
وإذا اجتمع حد الزنا، والسرقة والشرب، والقذف، وفقء العين مثلاً يبدأ الحاكم بالفقء أولاً فإذا برىء يحد بالقذف، لما فيه من حق العبد، ويحبس حتى يبرأ لأنه لو جمع عليه بين حدين، ربما تلف، والتلف ليس بواجب على الضارب، فإذا برىء، فللإمام الخيار، إن شاء بدأ بالقطع، وإن شاء بحد الزنا لتساويهما في الثبوت. وآخرها حد الشرب لأنه ثبت بالسنة، وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم واجماع الصحابة رضوان الله عليهم.
وإن كان الجاني محصناً بدأ الحاكم بالفقء، ثم حد القذف، ثم الرحم، ويسقط الباقي لأن القتل يأتي على النفس، فيؤدي إلى إسقاط بعض الحدود.
ومن حده الإمام، أو عزره فمات من أثر الجلد، فدمه هدر لأنه مأمور من جهة الشرع بإقامة الحد، فلا يقيد بالسلامة، ولأنه يسوف بحقه الله تعالى بأمره. فكأن الله تعالى أماته بغير سلطان، فلا يجب الضمان.
اتفق الفقهاء: على أن السكران إذا قذف انساناً بالزنا في حالة السكر، فإنه يحاسب على هذا القذف، ويعاقب عليه، ويقام عليه حد القذف بعد صحوه، إذا طلب المقذوف إقامة الحد) .
-
(1) (الحنفية، والشافعية، والحنابلة قالوا: إن حد القذف اخف من جميع الحدوده، لأن سببه

(5/210)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وهو النسبة إلى الزنا غير مقطوع به، لجواز كونه صادقاً غير أنه عاجز عن البيان، بخلاف حد الزنا، لأن سببه معاين للشهود، أو للفرية، والمعلوم لهما هنا نفس القذفن وإيجابه الحد ليس بذاته بل باعتبار كونه كاذباً حقيقة أو حكماً بعد إقامة البينة قال تعالى: {فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} فالله تعالى منع من النسبة إلى الزنا إلا عند القدرة على الإثبات بالشهداء، لأن قائدة النسبة هناك تحصل، أما عند العجز فانما هو تشنيع، ولقلقة تقابل بمثلها بلا فائدة، ولذلك قالوا: إن القاذف لا يجر من ثيابه عند الجلد، ولا ينزع عنه إلا الفرو، والثياب المحشوة، لأنه يمنع من وصول الألم إليه، فلو كان عليه ثوب ذو بطانة غير محشو فلا ينزع، والظاهر أنه إن كان فوق قميص ينزع لأنه يصير مع القميص إما محشواً، أو قريباً منه، ويمنع إيصال الألم الذي يصلح زاجراً.
المالكية قالوا: إن حد القذف مثل سائر الحدود، فيجب أن يجرد القاذف من ثيابه عند الجلد، ولا يبقى على حسده إلا ما يستر عورته فقط، ويجلد ثمانين جلدة، والعبد يضرب أربعين فقط.
قالوا: ويتعين الضرب بالسوط المصنوع من الجلد، وذلك للسليم القوي، أما نحيف الجسم والمريض فلا يصح ضربه بالسوط، لأنه يؤدي إلى إتلافه وهلاكه، ويفرق الشرب على جميع الأعضاء، لأن جمع الجلدات في عضو واحد ربما يؤدي إلى الإتلاف، وهو غير مستحق، ويتقى في الضرب المقاتل كثمرة التمر، والفرج، والوجه لأنه يجمع المحاسن ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم (إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه) وروي أن سيدنا عمر رضي الله عنه قال للجلاد: إياك أن تضرب الرأس والفرج، ويضرب الرجل قائماً، والمرأة جالسة مستورة، وكشف العورة حرام إلا أنه ينزع عنها الحشو، والفرو، ليخلص اللم إليها. فإن كان القاذف شديد الهزال، أو مريضاً مرضاً لا يرجى برؤه كالمسلول والمجذوم جلد (بعثكل) وبه ثمانون غصناً يضرب به مرة واحدة، ولا يقام الحد في الأيام الشديد ة الحر ولا الشديدة البرد، ولا يقام الحد على النفساء والحامل حتى تضع وتبرأ من مرضها.
مبحث التوبة النصوح
لقد عبر الله تعالى في الأية الكريمة في جانب {الذين يرمون المحصنات} بصيغة المذكر (الذين) وعبر في جانب المرمي بصيغة المؤنث (المحصنات) ولا فرق بين الذكور والإناث عند جميع الفقهاء في الرامي، والمرمي فمن رمى غيره بالزنا، واستوفى شروط الحد وجب على الحاكم حده سواء أكان كل من الرامي والمرمي رجلاً أم امرأة، وإنما اختير هذا التعبير أما في الأول فمن باب تغليب الذكور على الإناث فإنهما متى اجامعا في حكم شرعي عبر بصيغة كالذكور تغليباً لهم عليهن قال تعالى: {وكانت من القانتين} وأيضاً في الغالب، أو المفروض إن الرمي في هذه الفاحشة بعيد لأن ألسنة النساء اللاتي ينبغي أن يحوطهن الحياء والأدب، فلا يكاد يقع منهن هذا البذاء. وأن الغالب في الرمي يكون من جانب الذكور.

(5/211)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وأما الثاني وهو اختيار صيغة المؤنث في جانب المرمي (المقذوف) فلأن أكثر ما توجه هذه التهمة الشنعية للنساء، فهي لهن آلم، وأوجع، ولا يرمي بها الرامي إلا للنيل من المرمي بآلم ما يستطيع وهذا لا ينافي مساواة الرجال لهن في لحوق العار، وإصابة الشرف، وتنكيس العزة، وضياع الكرامة، وعلى ذلك يكون قيد التأنيث في الآية المستفاد من صيغة الجمع بالألف والتاء لا مفهوم له، بل مثلهن في ذلك الذكور، وليس هذا من باب قياس الرجال على النساء، بل من باب إلغاء الفارق بين الفريقين. على أن الآية وردت في واقعة هي أن هلال بن أمية قد رمى زوجته بالزنا بشريك بن سحماء، فجاء التقييد على وفق سبب النزول، فإنها نزلت قي قصة هلال بن أمية، حثنما شكا للرسول صلى الله عليه وسلم زوجته فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حد في ظهرك) .
وقد رتب الشارع على قذف المحصن أو المحصنة ثلاثة أشياء، الجلد ثمانين جلدة، ورد الشهادة، والحكم عليه بالفسق.
وقد أردف جل شأنه ذلك الجزاء باستثناء التائبين فقال تعالى: {إلا الذين تابوا من بعد ذلك واصلحوا فإن الله غفور رحيم} .
والتوبة هي الرجوع إلى الله بعد الاعراض عنه تعالى، والإقبال عليه بعد الإدبار، وكفى بالمعصية إعراضاً وإدباراً بل فراراً من حظيرة قدسه، وساحة رحمته.
والتوبة الصادقة النصوح تنتظم في معان ثلاثة تؤدي إلى تطهير القلب، بل والجوارح أيضاً، من أدران الذنوب، وأوساخ الخطايا، وهذه المعاني الثلاثة هي معرفة ما في الذنب من الإضرار بالنفس، والابتعاد عن ساحة الرحمة، ومنزلة الرضوان، وإنه لا يقدم عليه إلا عدو نفسه، الذي غلبت عليه شهوته، فلا تحصل التوبة دون أن يتحقق هذا المعنى تحققاً يقيناً، وعلماً حضورياً يشبه علمك أن في هذا الطعام الذي اشتهيته سماً مهلكاً، قاتلاً يخبرك به الطبيب الثقة، فماذا يكون حالك وقد تورطت فأكلت الطعام اشتهاء أليس يدركك من الندم والحسرة ما ترتبك معه، وتخور له قواك، ألست تشعر حينئذ بحالة اكتئاب وحسرة على ما فرط منك، تغلب عليك لذتك ابتئاساً - وفرحتك حزناً، فهذا هو المعنى الثاني وهو الندم على ما وقع منك، وليس مجرد الندم والحسرة ويقف الشخص مبهوتاً غير مفكر إذا كان من أهل الصيرة كلا بل لا يسمى نادماً حقيقة، ويصدق في دعواه أنه ندم حتى يترتب على ندمه أثره الصحيح، وذلك فعل يتعلق بما مضى، وبما هو حاصل، وبما يستقبل من الزمان، فيقلغ عن الاستمرار في تناول ذلك الطعام الشهي حالاً، ويعزم على أن لا يعود إليه في المستقبل، وعمل على تخليص معدته مما سبق منه إليها في الماضي، حتى يستريح باطنه من هذا السم القاتل، هكذا شأن التوبة من الذنوب والخطايا، ومقياس النندم أن يؤتي هذه الثمار الثلاث وهي:
اولاً الإقلاع فوراً عن الاستمرار في الذنب الحالي، ثانياًـ العزم على أن لا يعود في المستقبل أبداً، ثالثاً المبادرة إلى التخلص مما فرط منه في الماضي.

(5/212)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
ومن ذلك أن ترد الحقوق إلى اصحابها، وهذه هي التوبة الصحيحة المطهرة، المقبولة حاماً كما وعد الله جل شأنه، ووعده لا يخلف، وهذا معنى قولهم: التوبة تنتظم من علم، وحال، وعمل. والعمل يتعلق بالحال، والاستقبال، والماضي.
والإصلاح هو إزالة الخلل، والفساد الطارىء على الشيء، والمراد هنا في الآية إصلاح دات البين التي أفسدها بينه، وبين من قذفه، وذلك بأن يستسمحه مما فرط منه في حقه حتى يسامحه، وذلك شأن التوبة والتخلص من حقوق العباد.
وقال بعض العلماء: غنه من مضى مدة عليه في حسن الحال تقبل شهادته، وتعود ولايته، ثم قدورا تلك المدة بسنة حتى تمر عليه الفصول الأربعة التي تتغير فيها الحوال والطباع، كما يضرب للعنين أجل سنة. وأما قوله تعالى: {من بعد يذلك} فالتوبة لا تكون إلا بعد الذنب، فإن سره التهويل في المر وتفظيع ما وقع فيه وتكبيره.
مبحث قبول توبة القاذف
الحنفية قالوا: لا تقبل شهادة المحدود في قذف وإن تاب توبة صادقة وحسنت توبته لقوله تعالى: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً} ولأن رد شهادته من تمام الحد، لكونه مانعاً فقى بعد التوبة كأصله، بخلاف المردود في غير القذف لأن الرد للفسق، وقد ارتفع بالتوبة.
وأصله: أن الاستثناء إذا تعقب جملاً متعاطفة، هل ينصرف إلى الكل، أو إلى الجملة الأخيرة؟.
فالحنفية قالوا: إن الاستثناء ينصرف إلى الجملة الأخيرة فقط، وقد تقدم في الآية ثلاث جمل هي قوله تعالى: {فاجلدوهم} وقوله {ولاتقبلوا لهم شهادة أبداً} وقوله تعالى {وأولئك هم الفاسقون} والظاهر من عظف، {ولاتقبلوا} أنه داخل في حيز الحد، للعطف مع المناسبة، وقيد التأبيد، أما المناسبة: فإن رد شهادته مؤلم لقلبه، مسبب عن فعل لسانه، كما أن آلم قلب المقذوف بسبب فعل لسانه، وكذا قيد التأبيد لا فائدة له إلا بأبيد الرج، وإلا لقال: ولا تقبلوا لهم شهادة {وأولئك هم الفاسقون} جملة مستأنفة لبيان تعليل عدم القبول، ثم استثنى الذين تابوا، وهذا لأن الرد على ذلك التقدير ليس إلا للفسق، ويرتفع بالتوبة، فلا معنى للتأبيد، على تقدير القبول بالتوبة.
وهو استثناء منقطع، لأن التائبين ليسوا داخلين في الفاسقين، فكأنه قيل: وأولئك هم الفاسقون، لكن الذين تابوا فإن الله غفور رحيم، أي يغفر لهم، ويرحمهم، وإذا كان الرد من تمام الحد، لكونه مانعاص، أي زاجراً يبقى بعد التوبة كأصله، أي كأصل الحد، فإنه لا يسقط بالتوبة فإن من تاب بعد ثبوت الحد عليه، لا يسقط عنه، بل يجب أن يحد مهما حسنت توبته بالإجماع واحتج الحنفية على أن حكم الاستثناء مختص بالجملة الأخيرة بوجوه.

(5/213)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
(أحدها) أن الاستثناء من الاستثناء يختص بالجملة الآخيرة، فكذا في جميع الصور طرداً للباب.
(ثانيها) أن المقتضى لعموم الجمل المتقدمة قائم، والمعارض وهة الاستثناء يكفي في تصحيحه تعليقه بجملة واحدة، وهي الأخيرة، فقط.
(ثالثها) أن الاستثناء لو رجع إلى كل الجمل المتقدمة لوجب أنه إذا تاب أن لا يجلد، وهذا باطل بالإجماع، فوجب أن يختص الاستثناء بلجملة الأخيرة.
واحتج الأحناف على مذهبهم في المسألة بوجوه من الأخبار والأحاديث الشريفة.
(أحدها) ما روى أبن عباس رضي الله عنهما في قصة هلال بن أمية حين قذف امرأته بشريك بن سحماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجلد هلال، وتطل شهادته في المسلمين) فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن وقوع الجلد به يبطل شهادته عن غير شرط التوبة في قبولها.
(وثانيها) أن قوله عليه السلام (المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدود في قذف) ولم يشترط فيه وجود التوبة منه.
(وثالثها) ما روى عمرو بن شعيب عن ابيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجوز شهادة محدود في الإسلام) .
المالكية، والحنابلة، والشافعية - قالوا: تقبل شهادة المحدود في قذف إذا تاب وحسنت توبته، والمراد بتوبته الموجبة لقبول شهادته، أن يكذب نفسه في قذف. وهل يعتبر فيه إصلاح العمل أم لا؟
وقول يتعتبر لقوله تعالى {إلا الذين تابوا} وقيل: لا. لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لابي بكرة: تب أقبل شهادتك.
وقد احتجوا على مذهبهم، بأن شهادة المحدود في قذف مقبولة بوجوه:
(أحدها) قوله عليه الصلاة والسلام: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) ومن لا ذنب له مقبول الشهادة، فالتائب يجب أن يكون أيضاً مقبول الشهادة.
(وثانيها) أن الكافر يقذف فيتوب عن الكفر، ويدخل الإيمان، فتقبل شهادته بالإجماع، فالقاذف المسلم إذا تاب عن القذف، وجب أن تقبل شهادته، لأن القذف مع الإسلام أهون حالاً من القذف مع الكفر فإن قيل: المسلمون لا يألمون بسبب الكفار، لأنهم شهروا بعداوتهم، والطعن فيهم بالباطل، فلا يلحق المقذوف بقذف الكافر، من الشين والشنأن، وأيضاً فالتائب من الكفر لا يجب عليه الحد والتائب من القذف لا يسقط عنه الحد.
قلنا: هذا الفرق ملغى بقوله عليه الصلاة والسلام (أنبئهم أن لهم ما للمسلمين، عليهم ما على المسلمين) .

(5/214)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
(وثالثها) أجمعنا على أن التائب عن الكفر، والقتل، والزنا، والشرب، والسرقة، مقبول الشهادة. فكذا التائب عن القذف لأن هذه الكبيرة ليست أكبر من نفس الزنا. (ورابعها) أن ابا حنيفة رحمه الله تعالى يقبل شهادته إذا تاب قبل إقامة الحد عليه، مع أن الحد حق المقذوف، فلا يزول بالتوبة، فلأن تقبل شهادته إذا تاب بعد إقامة الحد عليه. وقد حسنت حالته، وزال اسم الفسق عنه كان أولى.
(وخامسها) أن قوله تعالى {إلا الذين تابوا} استثناء مذكور عقيب جمل، فوجب عوده إليها كلها، ويدل عليه أمور.
(أحدها) أجمعنا على أنه لو قال: عبده حر وامرأته طالق إن شاء الله، فإنه يرجع الاستثناء إلى الجميع فكذا فيما نحن فيه.
(وثانيها) أن الواو للجمع المطلق فقوله تعالى {فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة ابداً، وأولئك هم الفاسقون} صار الجمع كأنه ذكر معاً لا تقدم للبعض على البعض، فلما دخل عليه الاستثناء لم يكن رجوع الاستثناء إلى بعضها اولى من رجوعه إلى الباقي، إذ لم يكن لبعضها على بعض تقدم في المعنى البتة، فوجب رجوعه إلى الكل، ونظيره على قول أبي حنيفة رحمه الله قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} فإن فاء التعقيب ما دخلت على غسل الوجه، بل على مجموع هذه الأمور من حيث أن الواو لاتفيد الترتيب، فكذا ههنا كلمة إلا ما دخلت على واحد بعينه لأن حرف الواو لا يفيد الترتيبن بل دخلت على المجموع.
(وثالثها) أن قوله تعالى: {وأولئك هم الفاسقون} عقيب قوله تعالى: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً يدل على أن العلة في عدم قبول تلك الشهادة كونه فاسقاً، لات ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية، لا سيما إذا كان الوصف مناسباً، وكونه فاسقاً يناسب ألا يكون مقبول الشهادة، إذا ثبت أن العلة لرد الشهادة ليست إلا كونه فاسقاً، ودل الاستثناء على زوال الفسق، فقد زالت العلمة فوجب أن يزول الحكم لزوال العلة.
(ورابعها) أن مثل هذا الاستثناء موجود في القرآن الكريم، قال الله تعالى: {إنما جزاء الذين يحربون الله ورسوله} إلى قوله تعالى: {إلا الذين تابوا} ولا خلاف أن هذا الاستثناء إلى ما تقدم من أول الاية، وأن التوبة حاصلة لهؤلاء جميعاً.
وكذلك قوله تعالى: {لاتقربوا الصلاة وأنتم سكارى} إلى قوله تعالى: {فم تجدوا ماء فتيمموا} وصار التيمم لمن وجب عليه الاغتسال، كما أنه مشروع لمن وجب عليه الوضوء. والله تعالى أعلم.
كيفية التوبة عن القذف
الشافعية - قالوا: إن التوبة عن القذف تكون بإكذابه نفسه، واختلف أصحابه في معناه. فقال

(5/215)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
بعضهم: يقول كذبت قيما قلتت فلا أعود لمثله وقال أو إسحاق: لا يقول كذبت لأنه ربما يكون صادقاً فيكون قوله كذبت كذباً، والكذب معصية، والإتيان بالمعصية لا يكون توبة عن معصية اخرى، وإنما يقول القاذف بالملأ ندمتم على ما قلت، ورجعت عنه ولا أعود إليه وأما قوله تعالى: {فإن الله غفور رحيم} فالمعنى أنه لكونه غفوراً رحيماً يقبل التوبة، وهذا يدل على أن قبول التوبة غير واجب عقلاً، إذ لو كان واجباً لما كان في قبول غفوراً رحيماً، لأنه إذا كان واجباً فإنما يقبله خوفاً وقهراً، لعلمه بأنه لو لم يقبله لصار سفيهاً، ولخرج عن حد الإلهية) .
-

(5/216)