الفقه
على المذاهب الأربعة القسم الثاني كتاب
القصاص.
-وأما القصاص فهو أن يعاقب الجاني بمثل جنايته على أرواح الناس، أو عضو من
أعضائهم فإذا قتل شخص آخر استحق القصاص، هو قتله كما قتل غيره (1)
__________
(1) ("تنبيه"
ذكر الشيخ رحمه الله تعالى في كتابه أن (القصاص) من باب الحدود، فعند ذكر
كتاب الحدود - ذكر حد الشرب. ثم حد الزنا، ثم حد السرقة، ثم حد القذف، ثم
القصاص، ثم حد التعيزر، وبعد أن انتهى من باب الحد ذكر حكم المفسدين في
الرض والخوارج، ثم حكم البغاة وقطاع الطرق وهذا نمط لم يدرج عليه الفقهاء
الذين سبقوه في التأليفن فإن علماء السلف الصالح اللذي ألفوا في الفقه على
اختلاف مذاهبهم لم يذكروا القصاص في كتاب الحدود على الشرب، والزنا،
والسرقةن والقذف، والتعزير.
الحنفية قالوا: في كتاب (الاختيار شرح الممختار) تأليف عبد الله بن محمود
بن مودود الموصلي "كتاب الحدود" ثم ذكر حد الزنا والقذف، والشرب، والسرقة،
وقطاع الطرق، وفي كتاب السير ذكر حكم المرتد، وحكم الخوارج والبغاة من
المسلمين، وبعد ذلك ذكر كتاب الجنايات بفصوله ثم ذكر "كتاب الديات" بفصوله
وفروعه. ثم قال في أول كتابه الجناية، كل فعل محظور يتضمن ضرراً ويكون تارة
على نفسه، وتارة على غيره، ويقال: جنى على نفسه، وجنى على غيره، فالجناية
على غيره تكون على النفس، وعلى الطرفن وعلى العرض، وعلى المال، والجناية
على النفس تسمى قتلاً، أو صلباً، أو حرقاً، والجناية على الطرف تسمى قطعاً،
أو كسراً، أو شجاً، وهذا الباب لبيان هاتين الجنايتين، وما يجب بهما،
والجناية على العرض نوعا قذف وموجبه الحد. وقد بيناه، وغيبة، وموجبها الإثم
وهو من أحكام الآخرة، والجناية على المال. تسمى نصباً أو خيانة أو سرقة،
وقد بيناها، وموجبها في كتاب السرقة، ثم القصاص مشروع ثبتت شرعيته بالكتاب
والسنة، وإجماع الأمة، أما الكتاب فقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب
عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى} الآية
178 من سورة البقرة.
وقوله تعالى: {ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل
إنه كان منصوراً} آية 33 من الإسراء والسنة، قوله صلى الله عليه وسلم: (من
قتل قتلناه) وقوله عليه الصلاة والسلام (كتاب الله
(5/217)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
القصاص) وعليه الإجماع والعقل، والحكمة تقتضي شرعيته أيضاً. فإن الطباع
البشرية، والأنفس الشريرة تميل إلى الطلم والاعتداء، وترغب في استيفاء
الزائد علىى الابتداء، سما البوادي، واهل الجهلن العادين عن سنن العقل
والعدلن كما نقل عن عاداتهم في الجاهلية، فلو المتشرع الأجزية الزاجرة عن
التعدي والقصاص من غير زيادة ولا انتقاص، لتجرأ ذوو الجهل والحمية، والنفس
الأبية على القتل والفتك في الابتداء، وإضعاف ما جنى علهم في الاستيفاء،
فيؤدي ذلك إلى التفاني، وفيه من الفساد ما لا يخفى، فاقتضت الحكمة شرع
العقوبات الزاجرة عن الابتداء في القتل والقصاص المانع من استيفاء الزائد
على المثل فورد الشرع ببذلك لهذه الحكمة حسماً عن مادة هذا الباب، قال
تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} .
الشافعية - قالوا: في كتاب (مغنى المحتاج) كتاب البغاة كتاب الرجة، كتاب
الزنا، كفارة حد القذف، كتاب قطع السرقة، باب قطع الطريق، كتاب الأشربة،
فصل في التعزير. وقبل هذا ذكر كتاب الجراح وفصوله - ثم ذكر كتاب الديات،
وفصوله.
وكذلك كتاب (الام) للإمام الشافعي رحمه الله تعالى فذكر أولاً كتاب أهل
البغي وأهل الردة. وبعده كتاب الحدود، وصفة النفي ثم ذكر كتاب السرقة،
وكتاب الزنا، وكتاب الخمر، وكتاب قاطع الطريقن وكتبا المرتد، وكتاب
الأشربة.
وأما كتاب مختصر المزني للإمام الشافعين فقد ذكر في كتاب الحدود، باب حد
الزنا، باب حد القذف، كتاب السرقة، باب قطاع الطريق، باب الأشربة، قتال أهل
الردة، وقبل ذلك ذكر كتاب القتل، وكتاب القسامة.
المالكية قالوا: في كتاب حاشية الشيخ الصاوي على الشرح الصغير باب في أحكام
الجناية على النفس أو على ما دونها، ثم باب (تعريف البغي) ثم بابب تعريف
(الردة) باب ذكر حد الزنا، وباب حد القذف، وباب أحكام السرقة، باب ذكر
الحزابة، باب حد الشارب ولم يذكر القصاص، في باب الحدود، وذكر أحكام
الجنايات أولاً لأنه أوكد الضروريات التي يجب مراعاتها، وأما صاحب كتاب
الميزان للشيخ عبد الوهاب الشعراني فذكر كتاب الجنايات، كتاب الجيات. باب
القسامة، باب كفارة القتل، كتاب حكم الحر والساحر، كتاب الحدود السبعة
المترتبة على الجنايات، باب الردة، باب حكم البغاة، باب الزنا، باب حد
القذف، باب السرقة، باب قطاع الطريق، باب حد شرب المكر، باب التعزير.
وكذلك كتاب (رحمة الأمة في اختلاف الأئمة) . للشيخ محمد بن عبد الرحمن
الدمشقي الشافعي، الشافعين ومراعاة لأمانة العلم سنأسير في الكتاب على حسب
ما سر فضيلة المؤلف رحمه الله تعالى وأذكر كتاب القصاص، والجناياتن في باب
الحدود، تحقيقاً لرغبته، وإن كانت طريقته تخالف جميع المؤلفين في علم
الفقه.
(5/218)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
وقد أردت التنبيه على ذلك حتى يكون المطلع على علم بسير المؤلف في كتابه،
وحتى لا يكون هناك لبس في ذكر الأبواب، وإدخال بعضها في البعض الآخر، وإن
كنت أنا أميل الى تنظيم المؤلفين في كتب الفقه، وإخراج القصاص من كتاب
الحدود.
مبحث تعريف القصاص
القصاص مأخوذ من قص الأثر، وهو اتباعه، ومنه القاص لأنه يتبع الآثار،
والأخبار، وقص الشعر أثره، فكأن القاتلس سلك طريقاً من القتل فقص أثره
فيها، ومشى على سبيله في ذلك، ومنه قوله تعالى: {فارتدا على آثارهما قصصاً}
.
وقيل: القص القطع، يقال: قصصت ما بينهما، ومنه أخذ القصاص، لأنه يجرحه مثل
جرحه، أو بقتله به، يقال: أقص الحاكم فلاناً من فلان، وأباده به فامتثل بهن
أي اقتص منه.
حكم القصاص
والقصاص ثابت في الشرع بالكتاب، والسنة، وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم،
وإجماع الأمة. أما الكتاب فقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم
القصاص في القتلى الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، فمن عفي له
من أخيه شيء فاتباع بالمعروف، وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ركم ورحمة،
فمن أعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم، ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب
لعلكم تتقون} آيتي 178، 179 من سورة البقرة
وقوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس، والعين بالعينن والأنف
بالأنف، والأذن، والسن بالسن، والجروح قصاص، فمن تصدق به فهو كفارة له، ومن
لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} آية 45 من سورة المائدة.
وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد فيه نسخ من الشارع الحكيم، ولم يرد نسخ
ذلك وقوله تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ومن قتل
مظلموماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل أنه كان منصوراً} آية
33 من سورة الإسراء أي أتينا لوليه سلطنة القتل.
وقوله تعالى: {ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة، ودية مسلمة إلى أهله
إلا أن يصدقوا} ووجه التمسك به أن الله تعالى ذكر في هذه الآية حكم القتل
الخطأ، فتعين أن يكون القصاص واجباً وثابتاً فيما هو ضد الخطأ، وهو العمد،
ولم تعين بالعمد لا يعدل عنه لئلا تلزم الزيادة على النص بالرأي، ولأن الله
تعالى قال: {كتب عليكم القصاص في القتلى} ومعناه، فرض، وأثبت، كما قال
تعالى: {كتب عليكم الصيام} وقال: {وكتب عليكم القتال} وقال تعالى: {إن
الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} ومعناه الفرض الثابت.
وقيل: إن ما (كتب) في الآيات هنا، إخبار عماكتب في اللوح المحفوظ، وسبق به
القضاء
(5/219)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
أزلا، وصورته أن القاتل فرض عليه إذا أراد الولي القتل الاستسلام لأمر الله
تعالى، والانقياد لقصاصه المشروعن وأن الولي فرض عليه الوقوف عند قاتل
وليهن وترك المعتدي على غيره، كما كانت العرب تتعدى فتقتل غير القاتل. وهو
معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن من أعتى الناس على الله يوم
القيامة، ثلاثة رجل قتل غير قاتله، ورجل قتل في الحرم، ورجل أخذ بذحول
الجاهلية) والذحول هو العداوة، والحقد.
قال الشعبي وقتادة وغيرهما، إن اهل الجاهلية كان فيهم بغين وطاعة للشيطان،
فكان الحي إذا كان فيه عز ومنعه، فقتل لهم عبد قتله عبد قوم آخرين، قالوا:
لا نقتل به إلا شريفاًن ويقولون: القتل أوقى للقتل) بالواو والقاف، ويروى
(أبقى) بالباء والقاف، ويروى (أنفى) بالنون والقاء، فنهاهم الله عن البغي
فقال: {كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر، والعبد بالعبد} الآية {ولكم
في القصاص حياة} .
وروى البخاري والنسائي والدارقطني عن ابن عباس رضي الله عن ابن عباس رضي
الله تعالى عنهما قال: (كان في بني إسرائيل القصاص، ولم تكن فيه الدية)
فقال الله لهذه الأمة {كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر، والعبد،
بالعبد، والأنثى بالأنثى، فمن عفي له من أخيه شيء} فالعفو أن يقبل الدية في
العمد، {فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} يبتع بالمعروف، ويؤدي بإحسان
{ذلك تخفيف من ركم ورحمة} مما كتب على من كان قبلكم {فمن اعتدى بعد ذلك فله
عذاب أليم} أي قتل بعد قبول الدية، هذا لفظ الإمام البخاري: في سبب نزول
الآية.
وظاهر الآية الكريمة يوجب القود بالقصاص أينما يوجد القتل، ولا يفصل بين
العمد والخطأ، إلا أنه تقيد بوصف العمدية، بالحديث النبوي المشهور، الذي
تلقته الأمة بالقبلو، وهو قوله عليه الصلاة ولاسلام (العمد قود) أي موجبة
قود. لأن الحديث لو لم يكن يوجب تقييد الآية لم يكن القود موجب العمد فقط،
فلا يكون لذكر لفظ العمد فقط، فلا يكون لذكر لفظ العمد فائدة.
قالوا: ولن الجناية بالعمدية تتكامل، وحكمة الزجر عليها تتوفر، والعقوبة
المتناهية لا شرع لها دون ذلك.
وأما السنة فقوله صلوات الله وسلامه عليه: (من قتل قتلناه) وقوله لعيه
الصلاة والسلام: (كتاب الله القصاص) وقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل دم
امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث، الثيب
الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) واتفق عليه.
وروي عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل
قتل مسلم إلا بإحدى ثلاث خصال، زان فيرجم، ورجل قتل مسلماً متعمداً فيقتل،
وجل يخرج عن الإسلام، فيحارب
(5/220)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
الله ورسوله، فيقتل، أو يصلب، أو ينفى من الأرض) رواه أبو داود، والنسائي،
وصححه الحاكم، والأحاديث في ذلك كثيرة.
وعليه إجماع الأمة من غير مخالف منه، ويؤيده العقل السليم، لأن المال لا
يصلح موجباً في القتل العمد، لعدم المماثلة، لأن الآدمي مالك مبتذل، والمال
مملوك مبتذل، فأنا يتماثلان، بخلاف القصاص، فإنه يصلح موجباً للتماثلن وفيه
زيادة حكمة وهي مصلحة الحياء زجراً للغير إن وقوعه فيه، وجبرأً للورثة
فيتعين، وإنما جب المال في الخطأ أولاً، ضرورة صون الدم عن الهدار فإنه لما
لم يكن الاقتصاص فيه، هدر الدم لو لم يجب المان والآدمي مكرم لا يجب إهدار
دمه، على أن ذلك ثابت بنص القرآن الكريم.
والقصاص شرع لمعنى النظر للولي على وجه خاص، وهو الانتقام، وتشفي الصدر،
فإنه شرع زجراً عما كان عليه أهل الجاهلية من إفناء قبيلة بواحد، لا لأنهم
كانوا يأخذون أموالاً كثيرة عند قتل واحدا منهم، بل القاتل وأهله لو بذلوا
ما ملكوه وأمثاله، ما رضي به أولياء المقتول، فكان إيجاب المال في مقابلة
القتل العمد تضييع حمة القصاص، وإذا ثبت أن الصل هو القصاص لم يجز المصير
إلى غيره بغير ضرورة مثل أن يفقد احد الاولياء. فإنه تعذر الاستيفاء حينئذ،
أو أن يكون محل القصاص. ناقصاً بأن تكون يد قاطع اليد أقل اصبعاً، وأمثال
ذلك.
من يقيم القصاص
لا خلاف بين الأئمة في أن القصاص في القتل لا يقيمه إلا أولو الأمر، الذين
فرض عليهم النهوض بالقصاصن وإقامة الحدود. وغير ذلك، لأن الله سبحانه
وتعالى خاطب الجميع المؤمنين بالقصاص قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب
علكم القصاص في القتلى} ثم لا يتهيأ للمؤمنين جميعاً، أن يجتمعوا على
القصاص، فأقاموا مالسلطان مقام أنفسهم في إقامة القصاص وغيره من الحدود،
وليس القصاص بلازم، إنما اللازم إلا يتجاوز القصاص وغيره من الحدودالى
الاعتداءن فأما إذا وقع الرضا بدون القصاص من دية، أو عفو فذلك مباح، فلا
يجوز لأحد أن يقتص من أحد حقه دون السلطان الذي أعطاه الله هيذه السلطة،
وليس للناس أن يقتص بعضهم من بعض، وإنما يكون ذلك للسلطان، أو من نصبه
السلطان لذلك، ولهذا جعل الله السلطان ليقبض أيدي الناس بعضهم عن بعض.
السلطان يقتص من نفسه
واجمعم العلماء على أن على السطان أن يقتص من نفسه أن تعدى على احد من
رعيته ظلماً، غذ هو واحد منهم، وإنما له مزية النظر لهم كالوصي والوكيل،
وذلك لا يمنع القصاص منه، وليس بين السلطان وبين العامة فرق في أحكام الله
عز وجل، لقوله جل ذكره: {كتب عليكم القصاص في القتلى} وثبت عن أبي بكر
الصديق رضي الله تعالى عنه، أنه قال لرجل شكا إليه أن عاملاً "أي حاكماً"
قطع يده بغير حق: لئن كنت صادقاً لأقيدنك منه.
(5/221)
مبحث عناية الشريعة
بدماء الناس
-وقد عنيت الشرعة الإسلامية بالمحافظة على دماء الناس عناية تامة، فددت
الجناة الذين يعتدون على دماء الناس تهديداً شديداً (1)
ويكفي في زجر المسلم الذي يؤمن بالله واليوم الآخر، قوله تعالى: {ومن يقتل
مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها، وغضب الله عليه، ولعنه، وأعدّ له
عذاباً عظيماً} فإن في هذه الآية من الشدة ما تقشعر له جلود العتادة، إن
كانوا مسلمين.
__________
وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم
شيئاً إذ أكب عليه رجل، فطعنه رسول الله بعرجون كان معه، فصاح الرجل فقال
له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعال فاستقد) قال: بل عفوت يا رسول
الله، وروى أبو داود الطيالسي عن أبي فراس قال: خطب عمر بن الخطاب رضي الله
تعالى عنه، فقال: إلا من ظلمه أميره فليرفع ذلك إلي أقيده منه، فقام عمرو
بن العاص فقال: يأمير المؤمنين، لئن أدب الرجل منا رجلاً من أهل رعيته،
لتقصنه منه؟ قال: كيف لا أقصه منه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقص من نفسه) ؟
ولفظ أبي داود السجستاني عنه قال: خطبنا عمر بن الخطاب فقال: إني لم أبعث
عمالي ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم فمن فعل ذلك به فليرفعه إلي
أقصه منه) وذكر الحديث بمعناه) .
-
(1) (لقد جعل الله عقوبة قتل النفس من أفظع العقوبات، وجعل القضاء بها من
أعظم المظالم فيما يرجع إلى العباد، وجعل الحساب عليها أول القضاء يوم
القيامة. فعن أبي مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء) ، رواه البخاري
ومسلم، أي في الأمر المتعلق بالدماء.
وقتل النفس من الموبقات المهلكات، ومن أكبر الكبائر، فقد روى أبو هريرة
الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات:
قيل يا رسول الله: وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسمحر، وقتل النفس التي حرم
الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف
المحصنات الغافلات المؤمنات" رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
واعتبر الشارع أن للمسلم لا يزال في سعة منشرح الصدر، فإذا أراق دم امرىء
مسلم صار منحصراً ضيقاً لما أوعد الله عليه مالم يوعد على غيره من دينه،
فيضيق عليه دينه بسبب الوعيد لقاتل النفس عمداً بغير حق.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن
يزال المؤمن في فسحة من دينه، ما لم يصب دماً حراماً) ، وقال ابن عمر رضي
الله عنهما: إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها، سفك الدم
الحرام بغير حله) رواه البخاري رحمه الله.
(5/222)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
وقد ثبت في الشرع النهي عن قتل البهيمة بغير حق، والعيد في ذلك، فكيف بقتل
الآدمي، فكيف بالمسلم، فكيف بقتل المرء الصالح، عن البراء بن عازب رضي الله
عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لزوال الدنيا أهون على الله من
قتل مؤمن بغير حق) رواه ابن ماجه.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يطوف بالكعبة ويقول: (ما أطيبك وما أطيب ريحك، ما أعظمك وما أعظم
حرمتك، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمتك: ماله،
ودمه) رواه ابن ماجة واللفظ له.
وعن أبي سعيد وابي هريرة رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: (لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في
النار) . رواه الترمذي
بل جعل الشارع الذنب على من أعان على قتل مؤمن بمال، أو سلاح، أو ساعده ولو
بكلمة، أو بنصف كلمة.
روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة، لقي الله مكتوباً بين عينيه آيس من
رحمة الله) رواه ابن ماجة.
وقد جعل الله تعالى جناية قتل النفس بعد الشرك والعياذ بالله تعالى وقرنه
به حتى تدرك النفوس فظاعة هذه الجريمة، وعظم خطرها، وشدة عقابها يوم
القيامة، فقال تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر، ولا يقتلون
النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا يزنون، ومن يفعل ذلك يلق أثاماً، يضاعف
له العذاب يوم القيامة، ويخلد فيه مهاناً} الآية 19 من سورة الفرقان.
وقال تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً، ومن يفعل ذلك
عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً وكان ذلك على الله يسيراً} آية 29، 30 من
سورة النساء.
وقد جعل الله تعالى وزر من قتل نفساً بغير حق حرمها الله تعالى، مثل من قتل
الناس جميعاً، لأنه لا فرق عنده بين نفس ونفس، ومن حرم قتلها واعتقد ذلك،
فكأنما حرم دماء الناس جميعاً، وكأنه أحيا الناس جميعاً، فقد سلم الناس منه
بهذا الاعتبارن قال تعالى: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل
نفساً بغير نفس، أو فساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعاً. ومن أحياها
فكأنما أحيا الناس جميعاً} .
قال قتادة في قوله: {من قتل نفساً بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعاً} هذا
تعظيم لتعاطي القتل. ثم قال: عظيم والله وزرها، وعظيم والله أجرها، وقال
الحسن البصري، فكأنما قتل الناس جميعاً، قال: وزراً {ومن أحياها فكأنما
أحيا الناس جميعاً} ، قال: أجراً
وقال الله تعالى فيما أوصى به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وفي ذكر
الأمور التي حرمها الله تعالى على عباده في الأرض، {قل تعالوا أتل ما حرم
ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً، وبالوالدين إحساناً، ولا تقتلوا أولادكم
من إملاق نحن نرزقكم وإياهم، ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا
تقتلوا النفس
(5/223)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون} آية 151 من الأنعام.
فقد نص الله تعالى على النهي عن قتل النفس التي حرمها تأكيداً واهتماماً
بشأنها وتعظيماً لحرمتها، وإلا فهو ذكر حرمتها في أول المنهيات. بالنهي عن
قتل الأولاد، فهو نهى عن قتل النفس كلها، ثم النهي عن قتل النفس داخل في
النهي عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فكأن الله تعالى نهى عن قتل النفس
التي حرمها في هذه الآية ثلاث مرات متوالية.
روي عن أمير المؤمنين سيدنا عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه أنه قال وهو
محصور في داره بالمدينة. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل
دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو
قتل نفساً بغير نفس، فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام، ولا تمنيت أن لي
بديني بدلاً منه، بعد أن هداني الله، ولا قتلت نفساً فبم تقتلونني) رواه
الإمام أحمد والترمذي، وابن ماجة.
وقد بين الله تعالى حكم القتل العمد، فذكر تهديداً شديداً، ووعيداً أكيداً
لمن أقدم على هذا الذنب العظيم، الذي هو مقرون بالشرك بالله في الآية؟؟ من
كتاب الله عز وجل، والآيات والأحاديث في تحريم القتل كثرة جداً، ونكتفي بما
ذكرناه سابقاً.
وقد قال الله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالد فيها، وغضب
الله عليه، ولعنه، وأعد له عذاباً عظيماً} آية 93 من النساء.
قال البخاري: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا المغيرة بن النعمان، قال سمعت
ابن جبير قال: اختلف فيها أهل الكوفة، فرحلت إلى ابن عباسن فسألته عنها
فقال: نزلت هذه الآية {ومن يقتل مؤمناً، متعمداً فجزاؤه جهنم} هي آخر ما
نزل وما نسخها شيء وكذا رواه هو أيضاً ومسلم والنسائي من طرق عن شعبة به.
قالوا: إن لقاتل العمد أحكاماً في الدنيا، وأحكاماً في الآخرةن فأما في
الدنيا فتسلط اولياء المقتول عليه قال تعالى: {ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا
لولنه سلطاناً} الآية ثم هم مخيرون بين أن يقتلوا، أو يعفوان أو ياخذوا دية
مغلظة أثلاثاً ثلاثون حقه، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة، وأما في الآخرة فهو
العذاب في نار جهنم، والخلود فيها، وغضب الله تعالى عليه، والطرد من رحمته
ولعنه، والعذاب العظيم المضاعف، كما ذكرت الآية الشريفة التي معنا.
ومعنى هذه الصيغة أن هذا جزاؤه أن جوزي عليه، وكذا كل وعيد على ذنب، لكن قد
يكون ذلك معارض من أعمال صالحة، تمنع وصول ذلك الجزاء إليه، وبتقدير دخول
القاتل النار إن مات ولم يتب، ولم تكن له أعمال صالحة، فعلى قول ابن عباس
رضي الله عنهما أنه لا توبة له. أي لا يقبل الله توبته، وأما على قول جمهور
العلماء، حيث لا عمل له صالحاً ينجو به، فليس بمخلد فيها ابداً، بل المراد
بالخلود المذكور في الآية الكريمة، هو المكث الطويل، وقد تواترت الأحاديث
عن
(5/224)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى مثال
ذرة من إيمان) وأما حديث معاوية (كل ذنب عسى الله أن يغفر إلا الرجل يموت
كافراً، أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً) فعسى للترجي، فإذا انتفى الترجي في
هاتين الصورتين انتفى وقوع ذلك في أحدهما وهو القتل، لما ذكرنا من الأدلة،
وأما من مات وهو كافر، فالنص أن الله تعالى لا يغفر له البتة، وأما مطالبة
المقتول القاتل يوم القيامة، فإنه حق من حقوق الآدميين، وهي لا تسقط
بالتوبة، ولكن لا بد من رده إليهم، ولا فرق بين المقتول والمسروق منه،
والمغصوب منه، والمقذوف، وسائر حقوق الآدميين، فإن الإجماع منعقد على أنها
لا تسقط بالتوبة، ولكنه لا بد من ردها إليهم في صحة التوبة.
فإن تعذر ذلك فلا بد من المطالبة يوم القيامة، لكن لا يلزم من وقوع
المطالبة وقوع المجازاة، إذ قد يكون للقاتل أعمال صالحة تنقل إلى المقتول
أو بعضهان ثم يفضل له أجر يدخل به الجنة، أو يعض الله المقتول بما شاء من
فضله من قصور الجنة ونعيمها، ورفع درجته فيها، ونحو ذلك حتى يرضى عن القاتل
وقيل: إن الخلود في النار يحمل على أنه جزاء القتل العمد بطريق الاستحلال
والعياذ بالله، وهو مستلزم للردة، وقيل يؤول الخلود في الآية على أنه لو
عامله بعدله، أو على معنى تطويل المدة مجازاً، فالمراد به المكث الطويل
والله أعلم.
توبة القاتل
ذهبت طائفة من علماء السلف إلى أنه لا توبة للقاتل منهم عبد الله بن عباس،
وزيد بن ثابت وأبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وأبو سلمة بن عبد الرحمن،
وعبيد بن عمير، والحسن البصري، وقتادة، والضحالك بن مزاحم رضي الله عنهم.
نقله ابن أبي حاتم.
حدثنا ابن حميد، وابن وكيع، قالا: حدّثنا جرير عن يحيى الجابري، عن سالم بن
أبي الجعد قال: كنا عند ابن عباس بعد ما كف بصره، فأتاه رجل فناداه: يا عبد
الله بن عباس، ماترى في رجل قتل مؤمناً متعمداً؟ فقال جزاؤه جهنم خالداً
فيها، وغضب الله عليه ولعنه، واحد له عذاباً عظيماً. قال: أفرأيت إن تابن
وعمل صالحاً ثم اهتدى؟ قال ابن عباس: ثكلته أمه قاتل مؤمن متعمداً جاء يوم
القيامة أخذه بيمنه أو بشماله، تشجب اوداجه من قبل عرش الرحمن، يلزم قاتله
بشماله، وبيده الأخرى رأسه يقول: يارب سل هذا فيم قتلني، وأيم الذي نفس
بيده لقد أنزلت هذه الآية فما نسختها من آية حتى قبض نبيكم صلى الله عليه
وسلم، وما نزل بعدها من برهان) .
وفي الباب أحاديث كثرة، منه ما رواه الإمام أحمد حدّثنا صقر بن عيسى،
حدّثنا ثور بن يزيد، عن أبي عون عن أبي إدريس، قال: سمعت معاوية رضي الله
عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل ذنب عسى الله أن
يغفره إلا الرجل يموت كافراً، أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً) .
وذهب الجمهور من سلف الأمة وخلفها إلى أن القاتل له توبة فيما بينه وبين
الله عز وجل. فإن تاب، وأتاب، وخشع، وخضع، وعمل عملاً صالحاً، بدل الله
سيائته حسنات، وعوض المقتول من ظلامته، وأرضاه عن ظلامته، قال تعالى:
{والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر إلى قوله إلا من تاب
(5/225)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
وآمن وعمل عملاً صالحاً} الآية وهذا خبر لا يجوز نسخه، وحمله على المشركين،
وحمل هذه الآية على المؤمنين خلاف الظاهر، وقال تعالى: {قل يا عبادي الذين
أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} الآية. وهذا عام في جميع
الذنوب، من كفر وشرك، وشك ونفاق، وقتل وفسق وغير ذلك، كل من تاب، أي من أي
ذلك تاب الله عليهن وقال الله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما
دون ذلك لمن يشاء} فهذه الآية عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك بالله، وهي
مذكورة في هذه السورة الكريمة بعد هذه الآية، وفيها لتقوية الرجاء في رحمة
الله، والله أعلم.
وثبت في الصحيحين خبر الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس، ثم سأل عالماً هل لي
من توبة؟ فقال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ثم ارشده إلى بلد يتعبد الله
فيه فهاجر إليه. فمات في الطريق فقبضته ملائكة الرحمة وهذه الأمة أولى
بالتوبة من بني إسرائيل.
الكفارة في قتل العمد
الحنفية، والمالكية، والحنابلة في إحدى روايتيهم قالوا: لا تجب الكفارة في
قتل العمد، لأن الشارع شدد في أمر القاتل عمداً، بالقتل أو الدية إذا عفا
الأولياء عن قتله إلى الدية، فلا يزاد على ذلك حيث ورج به النص، ولن قتل
العمد كبيرة محضة، وفي الكفارة معنى العبادة فلا تناط بمثلها، والكبائر لا
تكون سبباً لما فيه معنى العبادة، والكفارة فيها ذلك فلا تجب، وموضوعه في
أصول الفقه، وهو أن الكفارة لاتناط بماهو كبيرة محضة، ولأن الكفارة من
المقادير وتعينها في الشرع لدفع الأدنى، وهو الخطأ، لا يدل لدفع الذنب
الأعلى وهو العمد، فكم من شيء يتحمل الأدنى للقدرة عليه، ولا يتحمل الأعلى
للعجز عنه.
قال صاحب العناية: فإن قال الشافعي قد دل الدليل على عد صفة العمدية وهو
حديث وائلة بن الأسقع، قال أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاحب لنا
قد استوجب النار بالقتل فقال: اعتقوا عنه رقبة، يتق الله كل عضو منها عضو
منه، من النار، وإيجاب النار إنما يكون بالقتل العمد قلنا: لا نسلم لجواز
أن يكون استوجب النار بشبه العمد كالقتل بالحجر، أو العصا الكبيرين سلمناه
لكنه لا يعارض إشارة قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم
خالداً فيها} فإن الفاء تقتضي أن يكون المذكور كل الجزاء، فلو اوجبنا
الكفارة لكان المذكور بعضه وهو خلف. اهـ.
ولأن الله تعالى ذكر الجزاء الدنيوي على القتل العمد وهو القصاص بقول
تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى} وذكر الجزاء الأخروي بقوله تعالى:
{ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها} الآية. فلو قلنا: بوجوب
الكفارة على القاتل عمداً، لزدنا على النص، وهو باطل ولأن القتل العمد أعظم
من أن يكفر عنه، مثل الصلاة المتروكة عمداً، فإنهم اتفقوا على وجوب قضائها
من غير كفارة.
الشافعية والحنابلة في روايتهم الثانية قالوا: أن الكفارة تجب في قتل العمد
لأن العامد أغلظ
(5/226)
مبحث عقاب قاتل النفس ظلماً.
-وقد قال بعض الأئمة المجتهدين: إن قاتل النفس خالد في النار كالكافر، بدون
قرف، كما هو ظاهر هذه الآية: {ومن قتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً
فيها} .
وساء صح هذا القول، أو لم يصح، فإنه يكفي أن يمكث القاتل معذباً في نار
جهنم زمناً طويلا، ويكفيه غضب الله عليه، ولعنته إياه، ويكفيه أن الله أعد
له عذاباً عظيماً، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم، ولا شك أن من كان عنده
مثقال ذرة من إيمان وسمع هذه الآية، فانهيفر من العدوان على دماء الناسن
كما تفر الشاة من الذئبن فلو فرض، وقتل شخص آخر في جنح الظلام، وأفلت من
القصاص في هذه الحياة الدنيا، فإن ذلك شر له، لا خير فيهن لأن العقوبة
الأخروية الشديدة تنتظره، وغضب الله عليه، في هذه الحياة الدنيا ينتظرهن
أما من اقتص منه في حياته الدنيا، فإنه يكون كفارة له في الآخرة على
التحقيق، لأن الله أكرم من أن يعذب مرتينن وقد فعل به ما فعله بغيره جزاء
وفاقاً (1)
__________
إثماً ممن كان قتله خطأ، فكانت الكفارة به أليق ممن كان قتله خطأ، وقد
اتفقوا على وجوب الكفارة في القتل الخطأ، فلأن تجب عليه في العمد أولى،
فطردوا هذا في كفارة اليمين الغموس، الواجبة بانص، قال تعالى: {ولكن
يؤاخذكم بما عقدتم الإيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين} الآية.
واحتجوا على مذهبهم بما رواه الإمام أحمد عن واثلة بن السقع قال: أتى النبي
صلى الله عليه وسلم نفر من بني سليم، فقالوا: إن صاحباً لنا قد اوجبـ يعني
النار بالقتل قال: (فليعتق رقبة يفدي الله بكل عضو منها عضواً منه من
النار) وإيجاب النار غنما يكون بالقتل العمد. فهذا دليل واضح على أن
الكفارة تجب في قتل العمد) .
-
(1) (اتفق الأئمة رحمهم الله تعالى على أن قاتل النفس المؤمنة متعمداً، يجب
عليه ثلاثة أمور، الأول الإثم العظيم، لقوله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً
متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها، وغضب الله عليه، ولعنه، واعد له عذاباً
عظيماً} وقد وردت به أحاديث كثيرةن وانعقد عليه غجماع المة، الثاني يجب
عليه القود ت لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في
القتلى} إلا انهتقيد بوسف العمدية لقول صلى الله عليه وسلم (العمد قود) أي
موجب له.
الثالث يوجب حرمان القاتل من الميراث، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ميراث
لقاتل) ولكن العلماء اشترطوا أموراً في القاتل الذي يقاد منه، وفي المقتول،
وفي صفة القتل.
فقالوا: إن القاتل الذي يقتص منه في القتل العمد يشترط فيه أن يكون عاقلاً،
فلا قصاص على
(5/227)
مبحث جواز العفو في
القصاص
-وقد عرفت أن القصاص يسقط بالعفو أو الصلح، بخلاف الحد فإنه لا يسقط
بالعفو، لأنه حق الله تعالى، ولكن هذا هو رأي الحنفية.
أما غيرهم فإنهم يقولون: إن الذي لا يسقط بالعفو هو حد الزنا، وحد السرقة،
بعد رفع الأمر إلى الحاكم، وأما حد القذف، فإنه يسقط بالعفو مطلقاً، وإذا
كنت على ذكر مما بيناه لك سابقاً، من أن حد الزنا لا يقع إلا إذا شهد
بالجريمة اربعة شهود، رأوا بأعينهم الفعل نفسه وذلكمتعذرن لا يمن تحقيقه
عملياً، فإن تنفيذه يكون منوطاً بإقرار الجاني وحده.
أما حد الشرب فبعضهم يرى أنه من بابب التعزير.
وعلى هذا يمكن أن يقال: إن الحد الذي يتصور وقوعه، ولا يسقط بالعفو هو حد
السرقة بعد رفعه إلى الحاكم على الوجه الذي بيناه سابقاً (1)
__________
مجنون، وأن يكون بالغاص، فلا قصاص على صبي وأن يكون مختاراً، فلا قصاص على
مكره، وأن يكون مباشراً للقتل، فلا قصاص على من قتل من غير مباشرة الفعل،
وأن يكون غير مشارك فيه غيره وأن لا يكون اباً للمقتول، ولا سيداً له، على
تفصيل فيما يأتي:
ويشترط في المقتول: أن يكون مكافئاً لدم القاتل والذي تختلف فيه النفوس هو
الإسلام، والكفر، والحرية، والعبودية، والذكورة، والأنوثةن والواحد،
والكثيرن وأن يكون معصوم الدم.
ويشترط في صفة القتل: أن يكون (عمداً) بلا جناية من القاتل قصاصاً، إلا أن
يعفو الأولياء أو يصالحوا لأن الحق لهمن لكن اختلفوا.
الحنفية قالوا: إن القصاص واجب عيناً، وليس للولي أخذ الدية إلا برضا
القاتل، لما ورج في الكتاب والسنة.
الشافعية قالوا: إن للولي حق العدول إلى المال من غير مرضاة القاتل لأنه
تعين موقعاً للهلاك فيجوز بدون رضاه.
وفي قول: أن الواجب أحدهما لا بعينه وبتعين باختياره، لأن حق العبد شرع
جابراً، وفي كل نو جبر فيتخير) .
-
(1) (اختلف العلماء في هل القصاص يكفر ذنب الجاني أم لا؟
فقال بعضهم: إن إقامة الحد على القاتل، والقصاص منه إذا رضي به وتاب، فإنه
يكفر عنه
(5/228)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
ثم القتل لقول صلى الله عليه وسلم: (الحدود كفارات لأهلها) فعمم ولم يخصص
فعلاً عن غيره، ولأن الله تعالى أكرم، وأرحم بعبده أن يعذبه مرتين، مرة في
الدنيا بالقود، ومرة في الآخرة بالنار، وهو الراجح.
وقال بعضهم: إن القصاص لا يكفر الذنب، ولا يرفع عنه الإصم في الآخرة، لأن
المقتول ظلماً، لا منفعة له في القصاص البتة، وإنما القصاص منفعته للأحياء
فقط، لينتهني الناس عن القتل.
قال تعالى: {ولكم في القصاص حياة} ولما روي عن عبد الله بن مسعود عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: (يجيء المقتول متعلقاً بقاتله يوم القيامة، آخذاً
رأسه بيده الأخرى، فيقول: يارب سل هذا فيم قتلني؟ قال: فيقول: قتلته لكتون
العزة لك، فيقول: فإنها لي، قال: ويجيء آخر متعلقاً بقاتله، يقول: رب سل
هذا فيم قتلني؟ قال: فيقول: قتلته لتكون العزة لفلان، قال: فإنها ليست له،
بؤ بإثمه، فيهوي في النار سبعين خريفاً) وفي الباب أحاديث كثيرة، وأما
الحديث الذي ورد في أن الحدود تكفر الذنوب، فإنه يختص بالحدود التي فيها حق
الله تعالى.
المالكية، والحنابلة، والشافعية - قالوا: العمد إما يوجب القصاص جزاماً مثل
قتل المرتد مرتداً، فإن الواجب فيه القود جزماً.
وإما أن يوجب الدية جزماً، كما أذا قتل الوالد ولده، أو إذا قتل المسلم
الذمي فإن موجبه الدية قطعاً. أو التخيير بين القصاص والدية، فيجوز للولي
العفو عن القود، على الدية بغير رضا الجاني، لما روى البيهقي عن مجاهد
وغيره (كان في شرع موسى صلى الله عليه وسلم تحتم القصاص جزماً، وفي شرع
عيسى صلى الله عليه وسلم الدية فقط، فخفف الله تعالى عن هذه الأمة، وخيرها
بين الأمرين) لما في الإلزام بأحدهما من المشقة، ولأن الجاني محكوم عليه
فلا يعتبر رضاه كالمحال عليه والمضمون عنه، ولو عفا عن عضو من أعضاء الجاني
سقط كلهن كما أن تطليق بعض المرأة تطليق لكلها، ولو عفا بعض المتستحقين سقط
أيضاً، وإن لم يرض البعض الآخر وانتقل الأمر إلى الدية، لأن القصاص لا
يتجزأ، ويغلب فيه جانب السقوط لحقن الدماء، ولا يؤثر فيه الجهل، فلو قطع
عضو رقيق فعفا عنه سيده قبل معرفته بالعضو المعفو عنه، صح العفو لأن العفو
مستحب، فقد رغب الشارع فيه وجعا إليه، قال تعالى: {فمن عفا واصلح فأجره على
الله أنه لا يحب الظالمين} آية 40 من الشورى وقول الرسول: (من قتل له قتيل
فأهله لين خيرتين: إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا اخذوا الدية) .
وروى البيهقي وغيره عن أنس رضي الله تعالىعنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان ما رفعاليه قصاص قط إلا أمر فيه بالعفو) .
وعن عدي بن ثابت قال: هشم رجل فم رجل على عهد معاوية، فأعطى دينه، فأبى أن
يقبل حتى أعطى ثلاثاً) ، فقال رجل: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: (من تصدق بدم أو دونه، كان كفارة له من يوم ولد إلى يوم تصدق) رواه
أبو يعلى.
وعن عبادة بن الصامت رضي الله تبارك وتعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: (ما من
(5/229)
محاسن التشريع
الإسلامي
-وها هنا سؤال معروف وهو أن الشريعقة الإسلامية جعلت عقوبة القتل من باب
القصاص الذي يصح سقوطه بالعفو، لكونه من أفظع الجرائم، وأشدها ضرراً
بالمجتمع الإنساني، ومقتضى ذلك أن تجعله من باب الحدود التي لا تقبل السقوط
بحال من الأحوال. كي يعلم الجاني أنه مقتول لا محالة، فلا يقدم على
الجريمة.
والجواب: أن ذلك من محاسن التشريع السلامي وجقتع، وذلك لأن الغرض من
العقوبة قد بينه الله تعالى في كتابه العزيز بقول: {ولكم في القصاص حياة يا
أولي الألبابن لعلكم تتقون} آية [179 من البقرة] .
__________
رجل يجرح في جسده جراحة، فيتصدق بها إلا كفر الله تبارك وتعالى عنه مثل ما
تصدقه) رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.
ولو أطلق الولي العفو عن القود، ولم يتعرض للدية بنفي ولا إثبات فالمذهب لا
دية عليه، لأن القتل لم يوجب الدية على هذا القول والعفو إسقاط ثابت، لا
إثبات معدوم.
وفي قول آخر، إن الدية تجب على القاتل في ماله لقوله تعالى: {فمن عفي له عن
أخيه شيء فاتباع بالمعروف} أي اتباع المال وذلك يشعر بوجوبه بالعفو، ولأن
الدية بدل عن القود عند سقوطه بعفو، أو غيره كموت الجاني مثلاصن فقد خير
الشارع الولي بين أخذ المال، وبين القصاص.
الحنفية، والمالكية في روايتهم الثانية، والشافعية في أرجح روايتهم
والحنابلة في القول الآخر: - قالوا: إن الواجب بالقتل العمد معين، وهو
القود وليس للولي أخذ الدية إلا برضا القاتل لما ورد في الكتاب والسنة،
ولأن المال لا يصلح موجباً في العمد، لعدم المماصلة والقصاص يصلح للتماصل،
وفيه زيادة حكمة وهي ممصلحة الأحياء، زجراً للغير عن وقوعه فيه، وجبراً
للورثة فيتعين، وقد شرع القصاص لمعنى النظر للولي على وجه خاص، وهو
الانتقام وتشفى الصدورن فإنه شرع في الصل زجراً عما كان عليه أهل الجاهلية
من إفناء قبيلة بواحد، لا لأنهم كانوا يأخذون أموالاً كثرة عند قتل واحد
منهم، بل إن القاتل وأهله لو بذلوا كل ما ملكوه من الدنيا وأمثال ما رضي به
أولياء المقتول، فكان إيجاب المال في مقالبلة القتل العمد تضييع حكمة
القصاص، وإذا ثبت أن الأصل في العمد هو القصاص، لم يجز المصير إلى غيره
بغير ضرورة، مثل أن يعفو أحد الأولياء، فإنه تعذر الاستيفاء حينئذ أو أن
يكون محل القصاص ناقصاً، بأن تكون يد قاطع اليد أقل إصبعاً، أو أن يكون
القاتل أباً أو أماً للمقتول فإنه يتعذر القصاص في أمثال هذه الحلات، فيعل
عنها إلى الدية صوناً للدم من الهدر اهـ.
الشافعية، والحنفية، والحنابلة رحمهم الله - قالوا: إذا عفت المرأة سقط
القصاص عن القاتل.
(5/230)
وإذا كان الغرض من القصاص هو حقن الدماء،
والكف عن العدوان على الأرواح، ليعيش الناس آمنين، فإن من الضروري أن ينظر
الشرع في كل النواحي التي يترتب عليها حفظ الأرواح وصيانتها، فإذا كانت
العقوبة تزجر فاسد الأخلاق الذي تميل نفسه إلى الجريمة فتمنعه عن قتل نفسه،
وقتل غيره.
ولكن يجب النظر إلى ما يرفع الأحقاد، والضغائن من نفوس الأسرة، حقناً
للدماء ومحافظة على الأرواح.
مبحث سلطان أولياء الدم على القاتل
-ولما كان من البدهي الذي لا ريب فيه أن القتل يحدث عند أولياء الدم حقداً
شديداً، ويترك في أنفسهم لوعة لا تنطفىء إلا بالتشفي من القاتل، وتحكمهم
فيه، فقد جعل الشارع
__________
المالكية قالوا: لا مدخل للنساء في الدم، مع قولهم في رواية أخرى: إن
للنساء مدخلاً في الدم كالرجال إذا لم يكن في درجتهن عصبة، ومعنى أن لهن
مدخلاً، أي في درجة الوقد والدية معاً وقيل: في القود جون العفو، وقيل:
الاستيفاء للنساء بثلاثة شروط. إن كن وارثات ولم يساوهن عاصب في الدرجة،
وكن عصبة لو كن ذكوراً.
الحنفية، والمالكية رحمهم الله تعالى قالوا: إن الولي إذا عفا عن القصاص،
عاد إلى الدية بغير رضا الجاني، وليس له العدول إلى المال إلا برضا الجاني،
وإن عفا ولم يقيد عفوه بديته، ولا غيرها فيقتضي العفو مجرداً عن الدية.
الشافعية، والحنابلة - قالوا: إن الولي مخير بين القود والدية والعفو بغير
مال فللولي العدول إلى الدية مطلقاً، سواء رضي القاتل أم لم يرض، لأن الدية
بدل عن القود، وقيل: إن الدية بدل عن النفس لا عن القود بدليل أن المرأة لو
قتلت رجلاً، وجب عليها دية الرجل، فلو كانت بدلاً عن القود وجب عليها دية
المرأة، وقال المتولي من علماء الشافعية: الواجب عند العفو دية المقتول لا
دية القاتل، وجمع بعضهم بين الطلامين، بأن القود بد عن نفس المجني عليه
وبدل البدل بدل.
قالوا: ولو عقا الولي عن القود على غير جنس الدية، الصالح غيره عليه، ثبت
ذلك الغير أو المصالح عليه، وإن كان أكثر من الدية، إن قبل الجاني أن
المصالح ذلك نسقط عنه القصاص، وإذا لم يقبل الجاني أو المصالح ذلك فلا يثبت
لأنه اعتياض فاشترط رضاهما كعوض الخلغ، ولا يسقط عنه القود في الأصح إن
امتنع عن دفعها لأنه رضي به على عوض، ولم يحصل له.
قالوا: ولو عفا عن القود على نصف الدية، فإنه يسقط عن القود الدية معاً
اهـ.) .
-
(5/231)
لأولياء الدم سلطاناً، على القاتل الذي
يثبت عليه القتل، فإن شاؤوا عقوا عنه في نظير مال أو غيرهن وإن شاؤوا
اقتصوا منه بالقتل بدون تمثيل أو تعذيب، وفي ذلك سلوى تذهب بها أحقادهم،
فلا يمعنون في العدوان، ولا يسرفون في الانتقام بقتل الأبرياء من أسرة
القاتل، فتصور ضغائن خصومهم فيقابلونهم بالمثل، ويترتب على ذلك إراقة
الدماء البريئة باقبح معانيها.
فإن الحوادث قد جلت على أن كثيراً من جنايات القتل قد نشأت من إثمال رأي
ولاة الدم، وحرصهم على أن ينتقموا بأنفسهم من القاتل، فهم يعمدون إلى اتهام
غيره من أقاربه الأبرياء، ويكتمون أمره، كي يقتلوه عند سنوح الفرصة بأيديهم
تشفياً، وبذلك تسود الفوضى بين الأسر، وتكثر فيهم حوادث القتل، بدون أن
يكون للقانون أدنى بأثير على أنفسهم، أما لو كان لولي الدم رأي في القصاص
من أول الأمر، فإنه يرى في تسلطه على القاتل، ما يطفىء لوعته ويرفع عنه
المهانة، فتهدأ نفسهن فإن عفا عنه فذاك، وإلا اقتص منه وحده، ووقفت الفتنة
عند هذا الحد (1)
__________
(1) (قال تعالى: {ومن قتل مظلوماً} بغير سبب يوجب القتل {فقد جعلنا لوليه}
أي لمستحق دمه.
المالكية قالوا: الولي يجب أن يكون ذكراً لأنه أفرده بالولاية بلفظ
التذكيرن فالآية تدل على خروج المرأة عن مطلق لفظ الولي، فلا جرم ليس
للنساء حق في القصاص لذلك، ولا أثر لعفوها، وليس لها الاستيفاء.
الحنيفية، والمالكية، والحنابلة - قالوا: إن المراد بالولي في الآية الوارث
قال تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أوليا بعض} آية [71 سورة التوبة] ،
فاقتضى ذلك إثبا القود لسائر الورثة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(وعلى المقتتلين أن ينجزوا الول فلأول وإن كان امرأة (سلطاناً) أي تسليطاً
إن شاء قتل، وإن شاء عفا، وإن شاء اخذ الدية) وقال الإمام مالك: السلطان
أمر الله تعالى، ابن عباس قال: السلطان، الحجة.
قالوا: وقوله عالى: {ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً} تفسير لقوله
تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} وطاهر الآية أنه لاسبب
لحل القتل إلا قتل المظلوم، ولكن الأحاديث تقتضي ضم شيئين آخرين إليه،
وهما: الكفر بعد الإيمان، والزنا بعد الإحصان، ودلت آية اخرى على حصول سبب
رابع وهو قطع الطريق، قال تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله
ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا، أو يصلبوا} ودلت الآية على حصول خامس
وهو الكفر، قال تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله، ولا باليوم الآخر}
واختلف الفقهاء في أشياء اخرى منها ترك الصلاة واللواط، والقتل بالسحر،
{فلا يسرف في القتل} إنه لما حصلت عليه استيفاء القصاص أو
(5/232)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
الدية، فلا يقدم على استيفاء القتل. بلك يكتفي بأخذ الدية، أو يميل إلى
العفو، أي فلا يصير مسرفاً بسبب إقدامه على القتل.
وصير معنى الآية، والترغيب في العفو، والاكتفاء بالدية، كما قال تعالى:
{وإن تعفوا أقرب للتقوى} .
وقيل: الإسراف في القتل هو أن الولي يقتل القاتل وغير القاتل، وذلك لأن
الواحد منهم إذا قتل واحداً من قبيلة شريفة، فأولياء ذلك المقتول كان
يقتلون خلقاً من القبيلة الدنيئة، ولا يكتفون بقتل القاتل، فنهى الله تعالى
عنه وامر بالاقتصار على قتل القاتل وحده من غير تعد، وقيل الإسراف في
القتل، هو أن لا يرضى بقتل القاتل، فإن أهل الجاهلية كانوا يقصدون أشراف
قبيلة القاتل، ثم كانوا يقتلون منهم قوماً معينين، ويتركون القاتل الساقط.
وقيل الإسراف: هوان لا يكتفي بقتل القاتل. بل يمثل به ويقطع أعضاءه، ويمزق
جسده، قرأ الأكثرون (فلا يسرف) بالياء، ويكون الضمير للقاتل الظالم ابتداء
أي فلا ينبغي أن يسرف ذلك الظالم.
وقال الطبري: هو على معنى الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والأئمة من بعده
أي لا تقتلوا غير القاتل: {أنه كان منصوراً} فيه ثلاثة أوجه.
الأول: كأنه قيل للظالم المبتدىء بذلك القتل على سبيل الظلم، لا تفعل ذلك،
فإن ذلك المقتول يكون منصوراً في الدنيا والآخرة. أما نصرته في الدنيا
فيقتل قالتله، وأما نصرته في الآخرة، فبكثرة الثواب له، وكثرة العقاب
لقالتله.
الثاني: أن هذا الولي يكون منصوراً في قتل ذلك القاتل الظالم، فليكتف بهذا
القدر فإنه يكون منصوراً فيه، ولا ينبغي أن يطمع في الزيادة منهن لأن من
يكون منصوراً من عند الله يحرم عليه طلب الزيادة وعن ابن عباس رضي الله
عنهما أنه قال: قلت لعلي كرم الله وجهه، (وايم الله ليظهرن عليكم ابن أبي
سفيان) ، لأن الله تعالى يقول: {ومن قتل مظلوماً فقد جعلانا لوليه سلطاناً}
.
الثالث: أن هذا القاتل الظالم، ينبغي أن يكتفي باستيفاء القصاص، وأن لا
يطلب الزيادة عنه.
فإن قيل: وكم من ولي مخذول لا يصل إلى حقه؟.
قلنا: المعونة تكون بظهور الحجة تارة، وباستيفائها أخرى وبمجموعها ثالثة،
فأيها كان فهو نصر من الله سبحانه وتعالى، فالله نصره بوليه من بعده.
قال الضحاك: هذا اول ما نزل من القرآن في شأن القتل، وهي مكية، اهـ.
ويشترط لوجوب القصاصن أو الدية في نفس القتيل باو بدنه، أن يقصد القتل أو
الشخص بما يقتل غالباً، أو قصدهما بما لا يقتل غالباً، أو تسبب فب قتله
بفعل منه. ويشترط في القتيل كونه معصوماً، ويشترط في القاتل كونه مكلفاً.)
-
(5/233)
مبحث حق السلطان على
القاتل
-ولا يقال: إذا عفا أولياء الدم عن القاتل كان إطلاقه خطراً على الأمن؟
لأنا نقول: إن ولي الدم في الغلب مصر على القصاص، وإذا فرض وعفا عنه ولكن
رأي الحاكم أن إطلاقه يهدد الامن العام، له أن يعزره بما شاء، وله أن يجعله
تحت المراقبة، التي تحول بينه وبين العدوان حتى يتحقق، من حسن سلوكه.
فإن من محاسن الشريعة الإسلامية ودقتها، انها جعلت عقوبة القتل قصاصاً يقبل
فيه الحاكم الصلح، أو العفو عن أولياء الدم بشروط وتفاصيل تطلب في في كتب
الفقه، ولا يسعها المقام (1)
__________
(1) (اختلف العلماء في القاتل عمداً إذا عفا عنه أولياء الدم هل يبقى
للسلطان فيه حق أو لا؟
المالكية، والحنيفية رحمهم الله قالوا: إن للحاكم حقاً على القاتل إذا عفا
عنه اولياء الدم وله أن يجلده مائة جلدة، ويسجنه سنة كاملة، وبه قال أهل
المدينة على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام، وروي ذلك عن سيدنا عمر بن
الخطاب رضي الله تعالى عنه.
الشافعية، والحنابلة رحمهم الله - قالوا: لا يجب على الحاكم شيء من ذلك إلا
أن يكون القاتل معروفاً بالشر والأذى، فيجوز للإمام أن يؤدبه على حب ما يرى
بالحبس، أو الضرب، أو التأنيب، وحجتهم في ذلك طاهر الشرع.
قالوا: وليس لمحجور فلس عقو عن مال إن أوجبنا أحدهما لا بعينه، لأنه ممنوه
من التبرع به، وإن أوجبنا القود عيناً فإن عفا عن الدية ثبتت كثيره، وإن
اطلق العقو فلا يدة أيضاً، وإن عفا المحدور أو المفلس على أن لا مال أصلاً،
فلا يجب شيء لأن القتل لم يوجب المال.
وقيل: إن المفلس يصح اقتصاصه. وإساطه، واحترز بمحجور عن المفلس قبل الحجر
عليه فإنه كموسر، وبمفلس عن المحجور عليه بسلب عبارته كصبي ومجنون فعفوهما
لغو المبذر حكمه بعد الحجر عليه بالتبذير في إساقط القود واستيفائه كرشيد،
لأن الحجر عليه لحق نفسه لا لغيره فلا تجب الجية في صورتي عفو.
موت القاتل
الحنفية، والمالكية قالوا: من قتل آخر متعمداً، ووجب عليه القصاص ثم مات
بعد ذلك بأجله من غير تعد، سقط حق ولي الدم عن القصاص والدية جميعاً، ولا
شيء على ورثة القاتل لفوات محل الاستيفاء.
الشافعية، والحنابلة - قالوا: إذا مات القاتل عمداً بعد جنايتع، لا يسقط
الحق عنه بل تبقى الدية
(5/234)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
في تركته، وترد إلى ورثة المقتول، ولهم الحق في أخذها أو العفو عنها، وذلك
لأن الوجاب احدهما عنهم، فإذا استحال تحقيق القود وجبت الدية، حتى لا يهدر
دمه، كالوالد إذا قتل ولده أو عبده، وتعذر الاستيفاء بالقصاص، فإنه ينتقل
إلى الدية. في تركته، وترد إلى المقتول، ولهم الحق في أخذها أو العفو عنها،
وذلك لأن الواجب احدهما عندهم، فإذا استحال تحقيق القود وجبت الدية، حتى لا
يهدر دمه، كالوالد إذا إذا قتل ولده أو عبده، وتعذر الاستيفاء بالقصاص،
فإنه ينتقل إلى الدية.
اختلاف ورثة الدم في العفو
اتفق الفقهاء على أن المقتول عمداً، إذا كان مسلماً معصوم الدم، وكان
القاتل مكلفاً عاقلاً، ولم يكن أباً ولا جداً للمقتول، وكان له أولاد ذكور
كبار عقلاء، وحضروا مجلس القضاء وطالبوا بالقصاص، فإنه يجب على الحاكم
تنفيذ الحكم من غير تأخير، إلا إذا كان الجاني امرأة حاملاص، فإنه يؤجل
القود، حتى تضع حملها، وترضع مولودها.
وإن تنازلوا عن القصاص، وطلبوا الدية، وجبت لهم الدية، ولو بغير رضا
الجاني، أما إذا اختلفوا في العفو فطلب بعضهم القصاص. وعفا البعض الآخر عن
الجاني، فإنه يسقط القصاص، وتجب الدية في مال القاتل، وتقسم على الورثة،
وإن لم يرض باقي الورثة، لأن القصاص لا يتجزأ، ويغلب فيه جانب السقوط لحقن
الدماء، لحرمة دم الآدمي. لأن الحدود تدرأ بالشبهات، وهذه شبهة في إقامة
القصاص على القاتل، أما إذا كان الورثة نساء ورجالاً. واختلفوا في العفو،
أو إقامة الحد والقصاص، أو أخذ الدية فقد اختلف فيه الأئمة رحمهم الله
تعالى.
المالكية رحمهم الله تعالى قالوا: يسقط القصاص إن عفا رجل من المستحقين حيث
كان العافي مساوياً في درجة الباقي من الورثة، والاستحقاق، كابنين، أو
عمين، أو أخوين، وأولى، إن كان العافي أعلى درجة كعفو ابن مع اخ، فإن كان
العافي انزل درجة من الباقين، لم يعتبر عفوه، كعفو أخ مع ابن للمقتول.
وكذا، إن كان العافي لم يساو الباقي، في الاستحقاق كإخوة لام، مع إخوة لاب،
لان الاستيفاء حق للغاصب الذكر، فلا دخل فيه لزوج ولا لأخ لأم، اوجد لها،
ويقدم الأقرب فالأقرب، فيتقدم ابن فاينه، إلا الجد الأدنى، والاخوة فسيان
في القتل والعفو، ولا كلام للجد الأعلى مع الإخوة.
أما إذا كان القائم بالدم نساء فقط، وذلك لعدم مساواة عاصب لهن في الدرجة،
بأن لم يوجد أصلاً أو وجد، وكان أنزل. فالبنت، وبنت الابن، احق من الخت قي
عفو وضده، فمتى طلبت القصاص الثابت ببينة أو اعتراف، أو العفو عن القتل
فيها، ولا كلام للأخت، وإن كانت مساوية في الإرث ولا شيء لها من الدية، أما
لو احتاج القصاص لقسامة، فليس لهما أن يقسما، لأن النساء لا يقسمن في
العمد، بل العصبة فقط، فحيث اقسموا وأرادوا القتل، وعفت البنت فلا عفو لها،
والقول للعصبة في القصاص، وإن عفوا، وأرادت القتل، فلا عفو لهم هم، والقول
لها في طلب القصاص، فلا عفو بإجماع الجميع، أو بعض البنات، وبعض منهم.
وإن عفت واحدة من البنات، أو بنات ابن أو أخوات ولم يكن عاصب أو كان، ولا
كلام،
(5/235)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
لكون البنت أعلى درجة منه والقتل ثابت بالبينة أو الإقرار، نظر الحاكم العد
في الصواب، من إمضاء لعفو بعض البنات، أو رد لعفوهن لأنه بمنزلة العاصب، إذ
يرث الباقي من التركة لبيت المال.
وفي اجتماع رجال ونساء أعلى درجه منهن ولم يحزن الميراث، لم يسقط القصاص
إلا بعفو الفريقين، فمن أراد القصاص من الفريقين. فالقول قوله، أو ببعض من
كل من الفريقين، ومهما عفا البعض من المستحقين للدمن، مع تساوي درجاتهم،
بعد ثبوت الدم مطلقاً ببينة أو غيرها، فإنه يسقط القصاص، وإذا سقط فلمن بقي
من الورثة ممن لم يعف، وله التكلم، في نصيبه من دية عمد، وكذا لو عقا جميع
من له التكلم مرتباً سقط حقه من الدم، ومن الدية، وما بقي منها يكون لمن
بقي ممن له التكلم، ولغيره من بقية الورثة، كالزوج أو الزوجة، أو الاخوة،
وما بقي ممن لا تكلم له بأخذ نصيبه من الدية. كولدين، لأنه مال ثبت بعفو
الأول، بخلاف لو عفا في فور واحد، فلا شيء لمن تكلم له، كما إذا اكان من له
التكلم واحداً، وعفا، كإرثه للدم، كما لو قتل احد ولديه اباه، ثم مات غير
القاتل، ولا وارث له سوى القاتل، فقد ورث القاتل دم نفسه كله، وكذا لو ورث
القاتل بعض الدم، كما لو كان غير القاتل أكثر من واحد، مات أحدهم عن القاتل
وغيره، فقد ورث القاتل بعض الدم، فيسقط القصاص. ولمن بقي من الورثة نصيبه
من الدية، هذا إن استقل الباقي بالعفو، أما لو عفا من يستقل بالعفو فلا
يسقط القود عمن ورث قسطاً، إلا بعفو الجميع, أو بعض من كل، كما لو قتل شقيق
أخاه وترك المقتول بتات ثلاثة اخوة أشقاء غير القاتل فمات أحد الثلاثة، فقد
ورث القاتل قسطاً، ولا يسقط القوج إلا بعفو الجميع، أبو بعض من كل.
الأئمة الثلاثة قاولا: كل وارث يعتبر قوله في اسقاط القصاص وغسقاط حقه من
الدية، وفي أخذ حقه، والتمسك به.
وقال الشافعي: الغائب منهم والحاضر، والصغير والكبير، والذكر والأنثى سواء
في الاستحقاق ولاية الدم عن المقتول عمداً، لأن الدم كالدية.
عفو المقتول عمداً المقتول عمداً عن دمه قبل موته
المالكية قالوا: إذا قال البالغ، العاقل، المعصوم الدم، لإنسان: إن قتلتني
أبرأتك من دمي فقتله، فإنه لا يسقط القود عن قالتله، وكذا لو قال له بعد أن
جرحه، ولم ينفذ مقتله: أبرأتك من دمي. فلا يسقط القصاص، لأنه أسقط حقاً قبل
وجبوبه، بخلاف ما إذا أبرأه من دمه بعد إنفاذ مقتله، أو قال له: إن مت فقد
أبرأتك، فإنه يبرأ، ولو كان قبل إنفاذ مقتله، ولكن لابد من كون البراءة بعد
الجمرح، وللولي حق القصاص، أو العفو مجاباً، أو على الدية إن رضي الجاني
بها، فإن لم يرض الجاني بالدية، خير الولي بين أن يقتص من القاتل، أو يعفو
عنه بغير عوض، وإن عفا عن الجاني ولم يقيد عفوه بدية ولا غيرها، فيقضى
بالعفو مجرداً عن الدية، إلا أن تظهر بقرائن الأحوال إرادتها مع الدية
(5/236)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
حال العفو، ويقول: إنما عفوت لأخذ المدية، فيصدق يمينه، ويبقى الولي بعد
حلفه، على حقه في القصاص إن امتنع الجاني عن دفع الدية. وإلا دفعها، وتم
العفو كما طلب الولي.
الشافعية قالوا: إن قال حر مكلف، رشيد، أو سفيه، لوجل آخر: اقطع يدي مثلاً
ففعل الآجنبي فهو هدر، لا قصاص فيه ولا دية، للإذن فيه لأنه اسقط حقه
باختياره، فإن سرى الجرح للنفس فمان أو قال له ابتداء: اقتلني، فقتله فهو
هدر في الأظهر من المذهب للإذن في ذلك الفعل.
وقبل تجب الدية على القاتل، والخلاف مبني على أن الدية ثبتت لميت ابتداء في
آخر جزء من حياته ثم يتلقاها الوارث، أو على أن الدية ثبتت للوارث ابتداء
عقب هلاك المقتول؟ إن قلنا بالأول وهو الأصح لم تجب الدية في حال السراية،
لأنه أذن فيما بملك وإلا وجبت، ففي صورة القطع تجب نصف الدية، لأنه الحادث
بالسراية، وفي حالة الأمر بالقتل ابتداء تجب الدية، وعلى القول الأول تسقط
الدية ولكن تجب الكفارة، فإن الكفارة تجب على الصح لحق الله تعالى والإذن
لا يؤثر فيها، تجب على كل حال، ولو قال له: اقتلني وإلا قتلتك، فقتله، فلا
قصاص ولا دية في الأظهر.
ولو قطع عضو من شخص يجب فيه القود، فعفا المقطوع عن قوده وإريه، فإن لم يسر
القطع بأن اندمل فلا شيء من قصاص، أو أرش، لاسقاط الحق بعد ثبوته.
وإن سرى القطع للنفس، فلا قصاص في نفس ولا طرف، لأن السراية تولدت من معفو
عنه، فصارت شبهة واقعة للقصاص. أما إذا سرى إلى عضو آخر فلا قصاص فيه وإن
لم يعف عن الأول. وأما أرش العضو في صورة سراية القطع للنفس، فإن جرى من
المقطوع في لفظ العفة عن الجاني، لفظ وصيته، كأن قال بعد عفوه عن القود،
اوصيت له بأرش هذه الجناية فوصيته للقاتل، أو جرى لفظ إبراء أو إسقاطن أو
جرى عفو عن القود، اوصيت له بأرش هذه الجناية فوصيته للقاتل، أو جرى لفظ
إبراء أو إساقط، أو جرى عفو عن الجناية، سقط الأرش قطعاً، وقيل: ما جرى من
هذه الثلاثة وصيته، لاعباره من الثاث، وتجب الزيادة على ارش العضو المعفو
عنه أن كان إلى تمام الجية للسراية، سواء تعرض في عفوه لما يحدص منها، أم
لا، وفي قول: إن تعرض في عفوه عن الجناية لما يحدث منها سقطت تلك الزيادة،
والظهر عدم اسقوط، لأن إسقاط الشيء قبل ثبوته غير منتظم، فلمو سرى قطع
العضو المعفو عن قوده وارشه كأصبع، إلى عضو آخر، كباقي الكف، فاندمل القطع،
ضمن دية السراية فقط، لأنه إنما عفا عن موجب جناية موجودة فلا يتناول
غيرها، ومن له قصاص نفس بسراية قطع طرف، كأن قطع يده فمات بسراية، لو عفا
وليه عن النفس، فلا قطع له، لأن المستحق القتل، والقطع طريقه، وقد عفا عنه،
أو عفا وليه عن الطرف، فله جز الرقبة في الأصح لأن كلاً منهما حقه، والثاني
المنع، لأنه استحق القتل بالقطع الساري، وقد عفا عنه.
ولو قطعه الولي ثم عفا عن النفس مجاناً أو بعوض، فإن سرى القطع إلى النفس،
ظهر بطلان العفو ووقعت السراية قصاصاً، لأن السبب وجد قبل العفو، وترتب
عليه مقتضاه فلم يؤثر فيه العفو، وإن الم يسرق قطع الولي، بل وقت، فيصح
عفوه، لأنه أثر في سقوط القصاص، ويستقر العفو المعفو عليه، إذ لم يستوف
بالقطع تمام الدية، ولا يلزم الولي بقطع اليد شيء.
(5/237)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
ولو وكل الولي غيره في استيفاء القصاص ثم عفا، فاقتص الوكيل جاهلاً بذلك،
فلا قصاص عليه لعذره والأظهر وجوب الدية، لأنه بأن أنه قتله بغير حق، فتجب
على الوكيل دية مغلظة، لورثة الجاني، لا للموكل، والأصح أن الوكيل لا يرجع
بالدية على الثاني أمكن الموكل إعلام الوكيل بالعفو أم لا لأنه محسن
بالعفو، ولو وجب قصاص عليها فنكحها عليه جاز وسقط، فإن فارق قبل الوطء، رجع
بنصف الأرش، اهـ.
الحنفية، والحنابلة رحمهم الله تعالى قالوا: إذا عفا المقتول عن دمهن في
القتل العمد جاز ذلك على الأولياء، وسقط القصاص عن القاتل، ولا يجب شيء
لورثته من بعده. لأن الحق الذي جعل للولي إنما هو حق المقتول أولاً، فناب
فيه الوارث منابه، وأقيم مقامه، فكان المقتول أحق بالخيار من الذي أقيم
مقامه بعد موته.
وقد أجمع العلماء على قوله تعالى: {فمن تصدق به فهو كفارة له} أن المراذ في
الآية الكريمة هة المقتولن يتصدق بدمه، وذلك في حالة إصابته قبل موته،
وإنما اختلفوا على من يعود الضمير في قول تعالى: {فهو كفارة له} فقيل: يعود
الضمير على القاتل لمن رأى به توبة.
وقيل: يعود الضمير على المقتول الذي تصدق على قالتله بدمه، أو القود من
أطرافه في الجراحة، فيكون هذا التصدق كفارة لذنوبه وخطاياه، إذا فعا عن
قاتله، أو عن جرحه.
فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {فمن تصدق به} يقول:
فمن عفا عنه وتصدق عليهن فهو كفارة للمطلوب، وأجر للطالب.
وروي عن جابر بن عبد الله في قوله تعالى: {فمن تصدق به فهو كفارة له}
للمجروح، فيهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تصدق به وهكذا، وروي عن الشعبي عن رجل
من النصار عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {فمن تصدق به فهو كفارة
له} قالك (هو الذي تكسر سنه، أو تقطع يده، أو يقطع الشيء منه، أو بجرح في
بدنه فيعفو عن ذلك) قال: (فيحط عنه خطاياه، فإن كان ربع الدية فربع خطاياه،
وإن كان الثلث، فثلث خطاياه، وإن كانت الدية، حطت عنه الخطايا كذلك) .
وروى الإمام أحمد قال: حدّثنا وكيع، حدّثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي
السفر قال: كسر رجل من قريش سن رجل من الأنصار، فاستعدى عليه معاوية، فقال
معاوية: انا سنرضيه، فألح الأنصاري فقال معاوية: شأنك بصاحبك، وأبو الدرداء
جالس، فقال أو الدرداء: سمعت رسول الله يقول: (ما من مسلم يصاب بشيء من
جسده، فيتصدق به، إلا رفعه الله به درجة، وحط به عنه خطية) فقال الأنصاري.
فإني قد عفوت.
وروي عن عدي بن ثابت: أن رجلاً اهتم فمه رجل على عهد معاوية رضي الله عنه،
فأعطي دية، فأبى إلا أن يقتص، فأعطي ديتين فأبى فأعطي ثلاثة، فأبى، فحدث
رجل من أصحاب
(5/238)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من تصدق بدم فما دونه، فهو كفارة له،
من يوم أن ولد، إلى يوم يموت) والأحاديث في ذلك كثيرة.
الحنفية قالوا: من قطع يد رجل عفا المقطوعة يده عن القطع. ثم مات بعد ذلك،
فعلى القاطع الدية في ماله، وإن عفا عن القطع وما يحدث منه، ثم مات من ذلك
فهو عفو عن النفس، ثم إن كان خطأ فهو من الثلث، وإن كان عمداً فهو من جميع
المال.
لأن العفو عن القطع والشجة والجراحة ليس لعفو عما يحدث منه، فإذا وقع شيء
من ذلك وعفا المجني عليه عنه بعد الجرح، ثم سرى ومات بسببه، فعلى الجاني
الدية في ماله خاصة. لأن سبب الضمان قد تحقق وهو قتل نفس معصومة مقومة،
والعفو لم يتناوله بصريحه، لأنه عفا عن القطع، وهو غير القتل لا محالة،
وبالسراية تبين أن الواقع قتل، لا قطع وحقه فيه، فما هو حقه لم يفع عنه،
وما عفا عنه فليس بحقه، فلا يكون معتبراص، ألا ترى أن الولي لو قال بعد
السراية: عفوتك عن اليدن لم يكن عفواً، ولو قال المجني عليه: عفوتك عن
القتل، وأقتصد القطع لم يكن عفواً، فكذا إذا عفا عن اليد ثم سرى القطع،
وإذا لم يكن معتبراً وجب الضمان.
والقياس يقتضي القصاص لأنه هو الموجب للعمد، إلا أنا تركناه لأن صورة العفو
اورثت شبهة، وهي دارئة للقود، فتجب الدية في ماله.
وقال الصاحبان رحمهما الله تعالى: من قطع يد رجل فعفا المقطوعة يده عن
القطع، ثم مات من ذلك القطع بسبب السراية، فهو عفو عن النفس أيضاًن فلا شيء
على القاطع، لأن العفو عن القطع عفو عن موجبه، لأن الفعل عرض لا يبقى، فلا
يتصور العفو عنه، فيكون العفو عنه عفواً عن موجبه، وموجبه أما القطع إذا
اقتصر، ولم يسر، وإما القتل، إن سرى القطع ومات بسببه، فكان العفو، عفواً
عنهما جميعاص، ولأن اسم القطع يتناول الساري والمقتصر فإن الاذن بالقطع به،
وبما حدث منه، حتى إذا قال شخص لآخر: اقطع يدي فقطعه، ثم سرى إلى النفس،
فإنه لم يضمن، والعفو إذن انتهاء، فيعتبر بإذن ابتداء، فصار كما إذا عفا عن
الجناية، فإنه يتناول الجناية السارية، والمقتصرة.
وقال الإمام: لا نسلم أن الساري نوع من القطع، وإن السراية صفة له، بل
السراية قتل من الابتداء، لأن القتل فعل مزهق للروح، ولما انزهق الروح به
عرفنا أنه كان قتلاً، ولأن القتل ليس بموجب للقطع من حيث كونه قطعاً، فلا
يتناوله العفو، بخلاف العفوعن الجناية لأنه اسم جنس، وبخلاف العفو عن الشجة
وما يحدث منها، لأنه صريح في العفو عن السراية والقتل، ولو كان القطع خطاً
فقد أجراه مجرى العمد، في العفو عن القطع مطلقاً، والعفو عن القطع وما يحدث
منه، والعفو عن الشجة، والعفو عن الجناية، ولأن العفو عن القطع وما يحدث
منه، والعفو عن الجناية عفو عن الدية بالاتفاق، والعفو عن القطع مطلقاً عفو
عن الدية عن القطع مطلقاً عفو عن الدية عندهما إذا كان خطأ، وعند أبي حنيفة
يكون عفواً عن أرش اليد لاغير، والعفو عن الشجة عفو عن الدية إذا سرت
عندهما، وعنده عن أرش الشجة
(5/239)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
لا غير، والقطع إن كان خطأ وجبت الدية من ثلث المال، وإن كان عمداً فهو
جميع المال عند أبي حنيفة رحمه الله اهـ.
الصلح في القتل عمداً على مال
اتفق الأئمة على أنه إذا اصطلح القاتل وأولياء القتيل على مال سقط القصاص،
ووجب المال، قليلاً كان أو كثيراً، زائداً على مقدار الدية، لقوله تعالى:
{فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف، وأداء إليه بإحسان} على ماقيل:
إن الآية نزلت في الصلح وهو قول ابن عباس والحسن، والضحاك، ومجاهد وهو
موافق للام، فإن لفظ (عفا) إذا استعمل باللام كان معناه البدل، أي فمن أعطى
من جهة أخيه في الدين المقتول شيئاً من المال، بطريق الصلح، عن مجاملة وحسن
معاملة.
ولأن القصاص حق ثابت للورثة يجري فيه الإسقاط عفواً، فكذا تعويضاً،
لاشتماله على إحسان الأولياء، وإحياء القاتل، فيجوز بالتراضي، والقليل
والكثيرفيه سواء، لأنه ليس فيه نص مقدر فيفوض إلى اصطلاحهما كالخلع وغيره،
وإن لم يذكروا خالاً، ولا مؤجلاً فهو حال، لأنه مال واجب بالعقد، والأصل في
أمثاله الحلول، مثل المهر، والثمن، بخلاف الدية، لانها ما وجبت بالعقد.
المالكية قالوا: يجوز صلح الجاني مع ولي الدم في القتل العمد، ومع المجني
عليه في الجرح العمد، بأقل من الدية، أو أكثر منها، حالاً ومؤجلاً، بذهب أو
فضة أو عرض.
عفو احد الشركاء في الدم
الحنفية قالوا: إذا عفا احد الشركاء في الجم، أو صالح عن حقه على عوض، سقط
حق الباقين في القصاصن وكان لهم نصيبهم من الدية، لان الدية متجزئة، لكونها
من قبيل الأموال في الجملة، بالاتفاق، فيجب أن يكونا للجميع حتى للزوجين،
لأن وجوبهما اولاً للميت، ثم يثبت للورثة. ولا يقع للميت إلا بأن يسند
الوجوب إلى سببه وهو الجرح، فكانا كسائر الأموال في ثبوتهما قبل الموت، ألا
ترى أنه إذا أوصى بثلث ماله دخلت دينه فهيا، وتعضى منه ديونه، وكان الإمام
على رضي الله عنه يقسم الدية على من أحرز الميراثن وكفى به قدوة، وإذا ثبت
ذلك، فكل من الورثة يتمكن من الاستيفاء، والعفو، والزوجية تبقى بعد الموت
حكماً في حق الإرث، أو يثبت للورثة بعد الموت مستنداً إلى سببه وهو الجرح،
وإذا سقط القصاص ينقلب نصيب الباقين مالاً، لأنه امتنع بمعنى راجع إلى
القاتل، وليس للعافي شيء من المال، لأنه أسقط حقه بفعله ورضاه.
الشافعية، والمالكية - قالوا: إنه لا حظ للزوجين في القصاص والدية، ولاحق
لهما فيهما،
(5/240)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
وذلك لأن الوراثة فيما يجب بعد الموت خلافة، وهي فيه بالنسب، لا السبب،
لانقطاعه بعد الموت. والزوجية تنقطع بالموت ولأن المالكية يقولون: لاحظ
للنساء في القصاص، والدية معاً.
والشافعية يقولون: لاحظ للناء في استيفاء القصاص، ولهن حق العفو فقط اه.
إذا اقتص من الجاني فمات
الشافعية، والمالكية، والحنابلة - قالوا: لو اقتص المجني عليه من الجاني،
بالعطع مثلاً فمات من أثر القصاص، بسبب السراية، من العضو المقطوع، فلا شيء
على المجني عليه، لأنه استوفى حقه وهو القطع، ولا يمكن التقيد بوصف السلامة
لما فيه من سد باب القصاص، إذ الاحتراس عن السراية ليس في وسعه، فصار
كالإمام، والبزاغ، والحجام، والمأمور قطع اليج، ولقوله تعالى: {ولمن انتصر
بعد ظلمه}
الحنفية قالوا: إذا اقتص المجني عليه من الجاني، فسرى القطع إلى الجسد،
ومات بسببه تجب الدية للورثة على عاقلة المقتص له، لأنه قتل بغير حق، لأن
حقه القطع، وهذا وقط قتلاً، ولهذا لو وقع ظلماً لكان قتلا ووجب فيه القصاص،
ولأنه جرح أفضى إلى فوات الحياة في مجرى العادة، وهو مسمى القتل، إلا أن
القصاص سقط للشبهةن فوجب المال، بخلاف الإمام وغيرهن لأنه ملكف فيها بالفعل
إما تقلداً كالإمام، أو عقداً كما في غيره منها. فالقاضي إذا تقلد القضاء
يجب عليه أن يحكم، فإذا قطع يد السارق فمات من ذلك فإنه لا شيء عليه،
والواجبات لا تتقيد بوصف السلامة كالرمي إلى الحربي، وفيما نحن فيه من
الاستيفاء لا وجوب، ولا التزام إذ هو مندوب إلى العفو، فيكون من باب
الإطلاق والإباحة، قال تعالى: {وإن تعفوا اقرب للتقوى} ولو رمى صيداً فأصاب
إنساناً ضمن، كذا هذا.
مبحث تأخير القصاص للولد الصغير
الحنفية، والمالكية قالوا: من قتل وله أولياء صغار وكبار، فللكبار أن
يقتلوا القاتل. ولا ينتظرون حتى يدرك الصغار، لأن القصاص حق لا يتجزأ
لثبوته بسبب لا يتجزأ، وهو القرابة يثبت لكل واحد كملاً كالولاية في
النكاح. ولثبوت التفرقة بين الصغار، والكبار الغيب من حيث احتمال العفو في
الحال وعدمه، فإن العفو من الغائب موهوم حال استيفاء القصاص، لجواز أن يكون
الغائب عفا عن حقه في القصاص، والحاضر لا يشعر به، فلو استوفى كان استيفاء
مع الشبهة وهو لا يجوز، وأما العفو في الصغير فميئوس منه حال استيفاء
القصاص، لأنه ليس من أهل العفو، وإنما يتوهم العفو منه بعد بلوغه سن الرشد،
والشبهة في المال لا تعتبر لأن ذلك يؤدي إلى سد باب القصاص، لاحتمال أن
يقدم ولي المقتول على قتله، وكذلك إذا كان احد الاولياء مجنوناً يجب على
القاضي تعجل القصاص، ولا ينتظر شفاءه من الجنون المطبع، وهو الذي لا يفيق.
(5/241)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
الشافعية، والحنابلة في أظهر روايتهم والصاحبان من الحنفية قالوا: إذا كان
أولياء الدم فيهم صغار وكبار فليس للكبار تعجيل القصاص بل ينتظر ويحبس
القاتل ولا يخلى سبيله بكفيل، حتى يدرك الصغار، ويبرأ المجنون منهم، فيكون
له الخيار بين القصاص وأخذ الديةن أو العفو عن الجاني، أو الصلح على مال.
ذلك لأن القصاص مشترك بينهم، ولا يمكن استيفاء البعض لعدم التجزي، وفي
استيفائهم الكل إبطال حق الصغير والمجنون، فيجب أن يؤخر القصاص إلى ادراكه،
أو يفيق المجنون، كما إذا كان بين الكبيرينن وكان أحدهما غائباً، أو كان
بين الموليين وليتفقوا على مستوف وإلا فقرعة يدخلها العاجز، وهذا الخلاف
إذا لم يكن في الورثة اب للقتيل، أما إذا كان فيهم الب فلهم الاستيفاء
بالاتفاق، ولا ينتظرون حتى يدرك الصغار، لأن الأب له الولاية على النفس.
ولو سبق أحدهم فقتله فالأظهر لا قصاص، وللباقين قسط الدية في تركته، وقيل:
من المستوفى، وإن بادر بعد عفو غيره لزمه القصاص، وقيل: لا.
استيفاء الأب لولده الصغير
الحنفية، والمالكية قالوا: إذا قتل ولي الصغيرن أو المعتةه، فللأب وهو حد
المقتول استيفاء القصاص، من القاتل نيابة عن المعتوه، والصغير، لأنه من
الولاية على النفس، لأن القصاص شرع للتشفين وللأب شفقة كاملة، فيعد ضرر
الولد ضرر نفسه، فجعل ما يحصل له من التشفي كالحاصل للابن، فالأب يلي
القصاص كما يلي الإنكاح، سواء كان شريكه أم لا، وللأب أن يصالح لأنه أنظر
في حق المعتوه والصغير، وليس له أن ينقص عن قدر الدية، فإن نقص المال
المصالح عليه عن عدر الدية يجب كمال الدية، وليس له أن يعفو عن القاتل بغير
مال، لأن فيه إبطال حقهن وكذلك إن قطعت يد المعتوه عمداً أو يد الصغير،
فللأب أن يستوفي القصاص.
قتل الوالد بولده
الحنفية، والشافعية، والحنابلة - قالوا: لا يقتل الرجل بابنه لقول صلى الله
عليه وسلم: (لا يقاد الوالد بولده) وهو حديث مشهور تلقته الأمة بالقبول،
فيصلح مخصصاً لعموم الآية الدالة على وجب القصاص في القتلى، وذلك مثل إخراج
قتل المولى عبده أو عبد ولده، ولأن عمر قضى بالدية في قاتل ابنه ولم ينكر
عليه أحد.
ولأن الأب لإحياء الولد، فمن المحال أن يستحق له إفناؤه، ولهذا لا يجوز له
قتله، وإن وجده في صف الأعداء مقاتلاً، أو زانياً وهو محصن، ويجب على الأب
الدية للورثة، ويحرم منها.
المالكية قالوا: لا يقاد الأب بالابن إلا أن يضجعه ويذبحه، أو يحبسه حتى
يموت، مما لا عذر له فيه ولا شبهة فإن حذفه بالسيف، أو بالعصا، أو بالحجر
الكبير غير قاصد لقلته، فلا يقتل فيه، والجد
(5/242)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
في ذلك عندهم مثل الأب، وحجتهم في ذلك عموم القصاص بين المسلمين، لا فرق
بين الأب وغيره وقاسوه على الرجل إذا زنا بابنته وهو محصن، فإنه يرجم
بالاتفاق، ولأن الآية في القصاص عممتن فلا تخصص بخبر الآحاد، فإذا ثبت
العمد وجب عليه القصاص، ومن ورث قصاصاً على أبيه سقط لحرمة الأبوة اهـ.
مبحث شبه العمد
الحنفية قالوا: القتل على خمسة اوجه، عمد، وشبه عمد، وخطأ وما أجري مجرى
الخطأ، والقتل بسبب فالعمد، ما تعمد ضربه بسلاح، أو ما أجري مجرى السلاح
كالمحدد من الخشب، وليطة القصب، والمروة المحددة، والنار.
وشبه العمد: أن يتعمد الضرب بما ليس بسلاح، ولا ما أجري محرى السلاح، سواء
كان الهلاك به غالباً كالحجر والعصا الكبيرين، ومدقة القصار، أو لم يكن
كالسوط والعصا الصغير، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (ألا إن قتيل خطأ
العمد، قتيل السوط، والعصا) رواه النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه، ووجه
الاستدلال به، أنه عليه الصلاة والسلام جعل قتيل السوط والعصا مطلقاً شبه
عمد، فتخصصه بالصغيرة إبطال للإطلاق، وهو غير جائز.
ولأن العصا الكبيرة، والصغيرة تساويا في كونهما غير موضوعتين للقتل، ولا
مستعملتين له غالباً، إذ لا يمكن الاستعمال على غرة من المقصود قتله،
وبالاستعمال على غرة يحصل القتل غالباص، وإذا تساويا، والقتل بالعصا
الصغيرة شبه عمد بالاتفاق فكذا الكبيرة، فقصرت العمدية نظراً إلى الألة،
فكان شبه عمد.
الشافعية، والحنابلة، والصاحبان من الحنفية - قالوا: شبه العمد، هو أن
يتعمد الضرب بما لا يحصل الهلاك به غالباً، كالعصا الصغيرة، إذا لم يوال في
الضربات، أما إذا والى فيها فهو عمد، وقيل: شبه عمد، وسمي هذا النوع شبه
عمد، لاقتصار معنى العمد فيه، وإلا لكان عمداً، واقتصاره إنما يتصور في
استعمال آلة لا يقتل بها غالباً كالعصا الصغيرة، فإن القصد باستعمالها غير
القتل كالتأديب، ونحوه، فتجب الدية لا القصاص، أما إذا استعمل آلة يقتل
بها، كالضرب بحجر عظيم، أو حشبة عظيمة، أو مدق القصار أو نحوه، فإنه لا
يقصد باستعمال هذه الأشياء إلا القتل كالحديدة، والسيف، فكان قتلاً عمداً
موجباً للقود، قالوا: وقد واققنا أو حنيفة بأن القتل بالعمود الحديد موجب
للقود.
وموجب شبه العمد على القولين، الإثم لأنه قتل وهو قاصد الضرب، والكفارة
لأنه خطأ نظراً إلى أن الآلة تدخل تحت قوله تعالى {ومن قتل مؤمناً خطأ
فتحرير رقبة مؤمنة} الآية، ولأنه شبيه بالخطأ، ويجب فيه الدية مغلظة على
العاقلة. وهي مائة من الإبلن اربعون منها في بطونها أولادها، وتجب في
(5/243)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
ثلاث سنين لقضية عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فقد روي عنه أنه قضى
بالدية على العاقلة في ثلاث سنين، ووافقه الصحابة من غير نكير من واحد
منهم، فكان كالمروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه مما لا يعرف بالرأي،
ويتعلق به حرمان الميراث لأنه جزاء القتل، والشبهة تؤثر في إسقاط القصاص،
دون حرمان الميراث، فقد روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إن قتيل الخطأ شبه العمد، قتيل السوط،
أو العصا، فيه مائة من الإبل منها اربعون في بطونها أولادها) رواه الخمسة.
وروى الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: (عقل شبه العمد مغلظ، مثل عقل العمد، ولايقتل صاحبه، وذلك أن
ينزو الشيطان بين الناس، فتكون جماء في غير ضغينة، ولا حمل سلاح) .
المالكية قالوا: إن الضرب بالعصا، والحجر الصغيرين عمد، فإنهم قالوا: إننا
لانعرف ماهو قتل شبه العمد، وإنما القتل عندهم نوعان فقط، عمد وخطأ، ما وقع
بسبب من السباب أو من غير مكلف. أو غير قاصد للمقتول، أو القتل بما مثله لا
يقتل في العادة به، كالسوط. وهذا لا قود فيه، وإنما تجب فيه الدية، وقتل
العمد ما سواه: إذ لا واسطة بين العمد، والخطأ في سائر الأفعال، فكذا في
هذا الفعل، وشبه الخطأ أن يتعمد القتل، ويخطىء القصد، أو يضربه بسوط لا
يقتل مثله غالباً، أو يلكزه بيده، أو يلطمه لطماً بليغاً، فيجب القصاص في
كل ذلك، فإن تعمد الجاني الضرب بقضيب أو سوط لا يقتل به غالباً أو مثقل،
كحجر، أو خنق، ومنع من طعام حتى ماب، أو منع من شرب محتى مات فالقود أن قصد
بذلك موته، فإن قصد مجرد التعذيب فالدية.
الشافعية قالوا: الفعل المزحق ثلاثة: عمد وخطأ، وشبه عمد، ولا قصاص إلا في
العمد، وهو قصد مالفعل والشخص بما يقتل غالباً، جارح، أو مثقل.
فالأول وهو الواجب: قتل المرتد إذا لم يتب، والحربي إذا لم يسلم، أو يعط
الدية.
والثاني وهو الحرام: قتل المعصوم بغير حق.
والثالث وهو المكروه: قتل الغازي قريبه الكافر إذا لم يسب الله، أو رسول
صلى الله عليه وسلم.
والرابع وهو المندوب: قتل الغازي قريبه الكافر إذا حدث منه سب لله، أو
الرسول صلى الله عليه وسلم.
والخامس وهو المباح: قتل الإمام الأسير، وهو مخير فيه.
وأما قتل الخطأ، فلا يوصف بحرام ولا حلال، لأنه غير مكلف فيما أخطأ فهو
كفعل المجنون والبهيمة، فإن فقد قصد أحدهما بأن وقع عليه فمات، أو رمى شجرة
فأصابه فخطأ، وإن قصدهما بما لا يقتل غالباً فشبه عمد، ومنه الضرب بسوط، أو
عصا، فلو غرز إبرة بمقتل فعمد، ولو غرز فيما لا يؤلم كجلدة عقب، فلا شيء
بحال، ولو حبسه ومنعه الطعان والشراب والطلب حتى مات، فإن
(5/244)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
مضت مدة يموت مثله فيها غالباً جوعاً، أو عطشاً فعمد، وإلا فإن لم يكن به
جوع، وعطش سابق فشبه عمد، وإن كان به بعض جوع أو عطش، وعلم الحابس الحال،
وكانت مدة حبسه بحيث لو أضيفت لمدة جوعه، أو عطشه السابق بلغت المدة
القاتلة فعمد، لظهور الإهلاك من الرجل الحابس، وأما إذا لم يبلغ مجموع
المدنين ذلك فهو كما لو لم يكن به شيء سابق، وإن لم يعلم الحال فهو شبه
العمد.
مبحث القال بمثقل، والإغراق، أو الإحراق بالنار
المالكية قالوا: إن حبس شخص آخر ومنعه الطعام، أو الشراب حتى مات بسبب ذلك
أو خنقه بيده، فيجب عليه القود في كل ذلك إن قصد بذلك موتهن أو علم أنه
يموت من ذلك.
ومن سقى غيره سماً في طعام، أو شراب فمات فعليه القود، فقد وري عنهم أن منع
فضل مائه، مسافراص، عالماً بأنه لا يحل له منعه، وأنه يموت إن لم سقه قتل
به، وإن لم يل قتله بيده، ومن ضرب غيره بمثقل كحجر، إن نفذ الضارب مقتله،
أو لم ينفذه، ممات مغموراً مما ذكر، بأن ضربه فرفع مغموراً من الضربن أو
الجرح حتى مات فيقتص منه بلا قسامة، كما لو رفع ميتاً مما ذكر، فإن لم ينقذ
له مقتل، وأفاق بعد الضرب أو الجرح، ثم مات لمقتص إلا بالقسامة، وكذلك من
طرح معصوماً غمر محسن للعوم في نهرن لعداوة، أو غيرها، أو طرح من يحسن
العوم عداوة، فغرق في الحالين يجب القصاص وإلا لم يكن لعداوة، والدية في
اللعب.
ومن تسبب في الإتلاف كحفر بئر، بأن حفرها ببينة فوقع فيها المقصود، أو وضع
شيئاً مزلقاً، أو اتخذ كلباً عقوراً لمعين، وهلك المقصود بالبئر وما بعده
فيجب القود من المتسبب، وإن هلك غير المقصود، أو قصد مطلق الضرر فهلك بها
إنسان فتجب الدية في الحر المعصوم، والقيمة في غيره، وإن لم يقصد ضرراً
بالحفر وما بعده، فلا شيء عليه، ويكون هدراً، وتقديم مسموم لمعصوم عالماً
بأنه مسموم فتناوله غير عالم فمات يجب القصاص، فإن تناوله عالماً بسمه، فهو
القاتل لنفسهن وإن لم يعلم المقدم فهو من الخطأ، ومن رمى على غيره حية، وهي
حية فمات، وإن لم تلدغه فمات من الخوف فعليه القود، وإن كانت ميتة فتجب
الدية، وكذا إن كان شأنها عدم اللدغ لصغرها، فإن كان على وجه اللعب فالديةن
وإن كان على وجه العداوة فالقود.
ومن أشار على غيره بسلاح كسيف، ومدفع، وبندقة، وخنجر، فهرب المشار إليه
خوفاً منه، وطلبه المشير في هروبه، لعداوة بينهما، فمات بلا سقوط، فيجب
القود بلا قسامة، وإن لم يضربه بالقتل، وإن سقط حال هروبه فبقسامة، لا
حتمال موته من سقوطه، واشارته فقط بلا عداوة ولا هرب يكون خطأ، فتجب الدية
مخمسة على العاقلة، وكذا إن هرب ولا عداوة ومات فدية خطأ.
الشافعية، والحنابلة قالوا: يجب القصاص بالسبب، فلو شهدا بقصاص فقتل ثم
رجعا وقالا:
(5/245)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
تعمدنا الكذب فيها، وعلمنا أنه يقتل، أو يقطع بشهادتنا لزمهما حينئذ
القصاص، لآنهما تسبببا في إهلاكه، بما قتل غالباً، فأشبه ذلك الإكراه
الحسي، إلا أن يعترف الولي بعلمه بكذبهما، فلا قصاص عليهما.
لأنهما لم يلجأ إلى قتله حساً ولا شرعاً، فصار قولهم شرطاً محصناً، فيجب
على الولي القصاص، أما لو قال الولي عرفت كذبهما بعد القتل، فلا يسقط
القصاص عنهما.
ولو ضيف بمسموم يقتل غالباً، أو ناوله صبياً غير مميز، أو مجنوناً فأكله
فمات منه، وجب القصاص عليه أو ضيف به بالغاً عاقلاً، ولم يعلم الضيف بالسم
حال الطعام، فدية ولا قصاص، لأنه تناوله باختياره من غير إلجاء، وقيل: يجب
القصاص. واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم امر بقتل المرأة اليهودية
التي سمت له الشاة بخيبر، فمات منها بشر بن وائل بن معرور، أما إذا علم
الضيف حال الطعام، فلا شيء على المضيف قطعاً لأنه المهلك نفسه، ولا يجب على
المجني عليه معالجة الجناية بما يدفعها، فلو ترك المجروح علاج جرح مهلك له،
فمات منه وجب القصاص، جزمماً على الجارح، لأن البرء غير موثوق به لو عولج،
والجراحة في نفسها مهلكة، ولو ألقاه في ماء لا يعد مغرقاً كمنبسط فمكث فيه
مضطجعاً حتى هلك فهدر أو ماء مغرق لا يخلص منه إلا بسباحة، فإن لم يحسنها،
أو كان مكتوفاً، أو زمناً تعمد، وإن أمكنه التخلص بسباحة مثلاً، ولكن منع
منها عارض، كريح، وموج، فهلك بسبب ذلك، فشبه عمد تجب دينه، وإن أمكنه
التخلص بسباحة مثلاً، ولكن منع منها عارض، كريح، وموج، فهلك بسبب ذلك، فشبه
عمد تجب دينه، وإن أمكنه التخلص من الغرق فتركها، فلا دية في الأظهر.
وإن ألقاه في نار يمكن معها الخلاص منها فمكث فيها حتى مات ففي الدية
قولان، وقيل: تجب الدية في الإلقاء في النار، بخلاف الماء، لأن النار تحرق
بأول ملاقاتها، وتؤثر قروحاً قاتلة، بخلاف الماء، ولو حفر بئراً فرداه فيها
آخر، والتردية تقتل غالباً، أو ألقاه من شاهق، فتلقاه آخر فقده، فالقصاص
على القاتل في الأول، والمردي في الثاني، والقاد في الثالث، ولو ألقاه في
ماء مغرف لا يمكنه الخلاص منه كلجة البحر، فالتقمه حوت وجب القصاص في
الأظهر، لأنه هلك بسببه، ولا نظر إلى جهة الهلاك، كما لو ألقاه في بئر
مهلكة في أسفلها سكين لم يعلم بها الملقي فهلك بها.
قالوا: ومحل الخلاف ما لم يرفع الحوت رأسه ويلقمه، وإلا وجب القصاص قطعاً،
ومحله أيضاً إذا كان لا يعلم بالحوت الذي في اللجة، فإن علم به وجب القود
قطعاً. كما لو ألقاه على أسد في ريببته، أو أما قطار سريق.
أما إذا ألقاه في ماء غير مغرق، فالتقمه حوت وهو لا يعلم به الملقي فلا
قصاً قطعاً، لأنه لم يقصد إهلالكه، ولم يشعر بسبب الإهلاك كما لو دفعه
دفعاً خفيفاً، فوقع على سكين فمات ولم يعلم بها الدافع، فتجب في الحالتين
دية شبه العمد، وإن شهر المجنون سلاحاً على غيره فقتله ذلك الغير فلا ضمان
عليه لانع قتله دفاعاً عن نفسه، وكذلك لو شهر الصبي سلاحاً على غيره فقتله
فلا ضمان، لأنه يصير محمولاً على قتله بفعله فأشبه المكره، وكذلك فعل
الدابة لو هجمت على لإنسان فقتلها فلا ضمان لأنه دفاع عن النفس.
(5/246)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
الحنفية قالوا: من شهر على رجل سلاحاً ليلاً أو نهاراً، أو شهر عليه عصاً
في المصر ليلاً، أو شهر عليه عصاً نهاراً في طريق غير المصر فتله المشهور
عليه عمداً، وكان الشاهر عاقلاً مكلفاً، فلا شيء عليهن لقوله عليه الصلاة
والسلام (من شهر على المسلمين سيفاً فقد أطل دمه) ولأنه يعد في نظر الشرع
باغ، فتسقط عصمته ببغيه، ولأنه تعين طريقاً لدفع القتل عن نفسهن فجاز له
قتله، لدفع الشر عن نفسه، وجعف الشر مباح أو واجب، ولأن السراح لا يلبث
فيحتاج إلى دفعه بالقتل، والعصا الصغيرة، وإن كانت تلبث، وكن في الليل لا
يلحقه الغوث، فيضطر إلى جفعه بالقتل، وكذلك في النهار في غير المصرن في
طريق لا يلحقه الغوث، وفي الصحراء فإذا قتله كان دمه هدراً، ولا ضمان على
قاتله.
وإن شهر المجنون على غيره سلاحاً فقتله المشهور عليه عمداً، فعليه الدية في
مالهن لأنه قتل شخصاً معصوماً، أو أتلف مالاً معصوماً حقاً للمالك، وفعل
الدابة لا يصلح مسقطاً وكذا فعلهما، وإن كانت عصمتهما حقهما لعدم اختيار
صحيح، ولهذا لا يجب القصاص لتحقق الفعل منهما بخلاف البالغ العاقل، لأن له
أختياراً صحيحاً، وإنما لا يجب القصاص مع القتل العمد بسلاح، لوجود المبيحن
وهو دفع الشر عن نفسه، فتجب الجية حتى لا يهدر دم المسلم المعصوم.
ومن شهر على غيره سلاحاً في المصر، فضربه ثم قتله الآخر، فعلى القاتل
القصاص لأنه ضربه فانصرف عنه، لأنه خرج من أن يكون محارباً بالانصراف،
فعادت عصمته إليه، ومن دخل عليه غيره ليلاً، واخرج السرقة، فاتبعه صاحب
الدار، وقتله ليخلص المتاع فلا شيء عليه، ودمه هدر، لقول صلى الله عليه
وسلم: (قاتل دون مالك) ولأنه يباح له القتل دفاعاً للابتداء، فكذا
استرداداً في الانتهاء، وذلك إذا كان لا يتمكن من استرداد ماله، إلا
بالقتل.
ومن حفر بئراً في طريق المسلمين، أو وضع حجراً فتلف بذلك إنسان، فديته على
عاقلته، وإن تلف به بهيمة، فضمانه في مالهن لأنه متعد فيه فيضمن ما يتولد
منه، غير أن العاقلة تتحمل النفس دون المال، فكان ضمان البهيمة في ماله
خاصة، وإلقاء التراب، واتخاذ الطين في الطريق بمنزلة إلقاء الحجر، والخشبة.
وإذا كنس الطريق أو رشها، فعطب احد بموضع كنسه أو رشه لا ضمان عليه، لأنه
ليس بمتعد فإنه ما أحدث شيئاً فيه، وإنما قصد رفع الأذى عن الطريقن حتى لو
جمع الكناسة في الطريق، وتعلق بها إنسان فإنه يضمن دينه، لتعديه بشغله
الطريق بالكناسة.
ولو وضع حجراً، فنحاه غيره عن موضعه، فعطب به إنسان، فالضمان على لاذي
نحاه، لأن حكم فعله قد انتسخ، والبالوعة يحفرها الرجل في الطريق، فإن امره
السلطان بذلك، أو آخرجه عليه لم يضمن ما تلف به، لأنه غير متعد حيث فعل ذلك
بأمر من له الولاية في حقوق العامة. وإن كان حفر
(5/247)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
البالوعة، أو رفع غطاءها بغير امره فهو متعد، فيضم ما تلف به، إما بالتصرف
في حق غيره، أو بالافتيات على رأي الإمام، أو هو مباح مقيد بشرط السلامة،
وكذا كل ما فعل في طريق العامة، وإذا فر البئر في ملكه فلا يضمن لأنه غير
متعد، وكذا إذا حفرها في فناء جارهن لأن له ذلك لمصلحة داره والفناء في
تصرفه، ولو حفرها في الطريق ومات الواقع فيها جوعاً، أو غماً، لا ضمان على
الحافر، لأنه مات لمعنى في نفسه، فلا يضاف إلى الحفر، والضمان إنما يجب إذا
مات من الوقوع.
وقال أبو يوسف رحمه الله: إن مات جوعاً فكذلك، وإن ماتغماً فاحافر ضامن له،
لأنه لا سبب للغم سوى الوقوع، أما الجوع فلا يختص بالبئر.
وقال محمد: هو ضامن في الوجوه كلها، لأنه إنما حدث بسبب الوقوع إذ لولاه
لكان الطعام قريباً منه، وإن استأجر أجراء فحفروها له في غير ملكه، فذلك
على المستأجر فقط وإن علموا ذلك، فالضمان على الاجراء، لأنه لا يصح امره
بما ليس بمملوك له، ولا غرس.
قالوا: ومن غرق صبياً، أو بالغاً في البحر فلا قصاص عليه لقول الرسول صلى
الله عليه وسلم: (إلا أن قتيل خطأ العمد قتيل السوط، والعصا) وفيه، وفي كل
خطأ أرش، ولأن الآلة غير مستعملة في القتل، ولا معدة له لتعذر استعماله،
فتمكنت شبهة عدم العمدية، ولأن القصاص ينبىء عن المماثلة، ومنه يقال: اقتص
أثره.
أما إذا بالنار حتى مات، فيجب فيه القصاص بالسيف، وكذلك الضرب بحديدة
مدببة، أو خشبة محددة: أو حجر محدد، فإنه يجب فيه القصاص بالسيف، لأنه عمد.
قالوا: من شج نفسه، وشجه رجل، وعقره أسد، وأصابته حية، فمات من ذلك كله،
فإنه يجب على الجنبي ثاث الدية، لأن فعل الأسد والحية جنس واحد لكونه هدر
في الدنيا والآخرة، وفعله بنفسه هدر في الدنيا، معتر في الآخرة حتى يأثم
عليه، فعند أبي حنيفة ومحمد يغسل ويصلى عليه، وعند أبي يوسف يغسل، ولا يصلى
عليه، لأنه تعدى على نفسه بشجها، وفعل الأجنبي معتبر في الدنيا والآخرة،
فصارت ثلاثة أجناس، فكأن النفس تلفت بثلاثة أفعال، فيكون الثالث بفعل كل
واحد ثلثه، فيجب عليه ثلث الدية.
مبحث من مات متاثرا بجراحه
اتفق الأئمة: على أن من جرح رجلاً عمداً، فلم يزل صاحب الجرح ملازماً
لفراشه حتى مات من أثر الجراح، فإنه يجب عليه القصاص، لوجود السبب، وهو سفك
دم محقون على التأبيد عمداً، وعدم وجود ما يبطل حكمه من عفو، أو شبهة
تدرأه، فأضيف إليه.
واتفقوا: على أنه إذا تكافأت الدماء، أن ينفذ القصاص في القتل العمد، فيقتل
الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، والرجل بالرجل، والذمي
بالذمي، والمستأمن بالمستأمن.
(5/248)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
لقوله تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى، الحر بالحر، والعبد بالعبد،
والأنثى بالأنثى} فقد جاءت الآية الكريمة مبينة لحكم النوع إذا قتل نوعه،
ولم تتعرض لاحد النوعين إذا قبل الآخر، فالآية محكمة، وفيها إجمال بينه
قوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} .
وبينه النبي صلى الله عليه وسلم حين قتل الرجل اليهودي بالمراة، في
المدينة، وحين أمر بقتل المرأة اليهودية التي وضعت السم في الطعام في غزوة
خيبر فمات بسببه صحابي من أصحابه رضوان الله عليهم.
مبحث قتل المؤمن بالكافر
المالكية قالوا: يقتل الأدنى صفة بالأعلى، كذمي قتل مسلماً، أو كحر كتابي
يقتل بعبد مسلم، لأن الإسلام أعلى من الحرية.
ولا يقتل الأعلى بالأدنى، كمسلم بكافر، وكمسلم رقيق، بحر كتابي، ويقتل
الذكر بالأنثى، حيث لم يكن القاتل زائداً حرية، أو إسلاماً، ويقتل الصحيح
بالمرض، ولو كان مشرفاً على الهلاك أو محتضراً للموت. وقتل كامل الأعضاء
والحواس بالناقص عضواص، كيد ورجل، أو الناقص حاسة كسمع وبصر، واحتجوا على
مذهبهم بما روي من حديث الإمام على كرم الله وجهه، أنه سأله قيس بن عبادة
والأشقر، هل عهد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عهداً لم يعهده إلى
الناس؟ قال: لا. إلا ما في كتابي هذا، وأخرج كتاباً من قراب سيفه، فإذا فيه
(المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، ولا
يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده، لو أحدث حدثاً، أو آوى محدثاث فعليه
لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين) خرجه أبو دادو.
وما روي أيضاً عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: (لا يقتل مؤمن بكافر) . وما روي عن أبي جحيفة أنه قال: قلت لعلي
رضي الله عنه: (هل عندكم شيء من الوحي غير القرآن؟ قال: لا. والذي فلق
الحبة، وبرأ النسمة، إلا فهم يعطيه الله تعالى رجلاً في القرآن الكريم، وما
في هذه الصحيفة. قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك ألأسير، وأن
لا يقتل مسلم بكافر) رواه البخاري رحمه الله وأخرجه أبو داود، والنسائي.
رحمهما الله تعالى.
واحتجوا أيضاً على مذهبهم، بإجماع العلماء على أنه لا يقتل مسلم بالحربي
الذي أمن أي اخذ الامان.
قالوا: فلا يقتل المؤمن بالذمي إلا أن يضجعه فيذبحه، أو يقتله غيلة ويأخذ
ماله، فلا يشترط فيه الشوط المتقدمة، بل يقتل ولا صلح ولا عفو.
الشافعية والحنابلة قالوا: يشترط عندهم في القاتل مكافأته، ومساواته للقتيل
في الصفة بأن لم يفضله بإسلام أو أمان، أو حرية، أو أصلية، أو سيادة،
ويعتبر حال الجناية، حينئذ، فلا يقتل مسلم،
(5/249)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
ولو كان زانياً محصناً، أو تاركاً للصلا' متعمداً، بذمي، ولا كتابي، لخبر
البخاري رحمه الله تعالى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يقتل
مسلم بذمي) .
قال ابن المنذر: لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر يعارضه. ولأنه لا
يقاد المسلم بالكافر فيما دون النفس بالإجماع، كما قال ابن عبد البر،
فالنفس بذلك أولى، والحديث المذكور يقتضي عموم الكافر، فلا يجوز تخصص
بإضمار (الحربي) ولأنه لو كان لامعنى كما قال الأحناف، لخلا عن الفائدة،
لأنه يصير التقديرن لا يقتل المسلم إذا قتل كافراً حربياص، ومعلوم أن قتله
عبادة، فكيف يعقل أنه يقتل به؟.
ويقتل ذمي بالمسلم لشرفه، وبالذمي وإن اختلفت ملتهما، كاليهوجي، بالمسيحي،
فلو اسلم الذميي القاتل كافراً مكافئاً له، لم سقط القصاص. لتكافئهما حال
الجناية. لأن الاعتبار بالعقوبات حال الجناية، ولا نظر لما يحدث بعدها.
قالوا: ويقتل رجل بامرأة وخنثى، كعكسه، وعالم بجاهل، وشريف بخسيس، وشيخ
بشاب كعكسهما، لأنه صلى الله عليه وسلم كتب في كتابه إلى أهل اليمن (إن
الذكر يقتل بالأنثى) رواه النسائي وقوله صلوات الله وسلامه عليه (المؤمنون
تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم) خرجه أبو داود.
ولو جرح ذمي، ذمياً، وأسلم الجارح، ثم مات المجروح بالسراية، فلا يسقط
القصاص بالنفس للتطافؤ حالة الجرح المفضي إلى الهلاك، وذا أسلم المقتول عند
إشرافه على القتل، أو بعد جرحه لا يقتص له وارثه الكافر، بل إنما يقتص له
الحاكم بعد طلب الوارث، وإذا لم يطلب، فليس للإمان أن يقتص.
ولا يقتل حر بمن فيه رق، ويقتل قن، وعبد، ومكاتب، وأم ولد بعضهم ببعض.
لو قتل عبد عبداً، ثم عتق القاتل، أو عتق بعد الجرح، فكحدوث الإسلام، وهو
عدم سقوط القصاص في القتل جزماص، ولا قصاص بين عبد مسلم، وحر وذمي لعلو
الإسلام وشرفه.
الحنفية قالوا: يقتل المسلم بالذمي، لأن الله تعالى قال: {الحر بالحر
والعبد بالعبد والأنثى بالانثى} فهو تخصيص بالذكر، وهو لا ينافي ما عده،
كما في قوله، (والأنثى بالأنثى) فإنه لا ينافي الذكر بالأنثى، ولا العكس
بافجماع، وفائدة التخصيص الرد على من اراد قتل غير القاتل بالمقتول، وذلك
أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ري أن قبيلتين من العرب تدعي إحداهما
فضلاً عن الأخرى، اقتتلتا فقالت: مدعية الفضل لا نرضى إلا بقتل الذكر منهم
بالأنثى منا، والحر منهم بقتل العبد منا، فأنزل الله تعالى هذه الآية
الكريمة، رداً عليهم فجاءت الآية مبينة لحكم النوع إذا قتل نوعه، فبينت حكم
الحر إذا قتل حراً، وحكم العبد إذا قتل الآخر، فالآية محكمة، وفيها إجمال
بينة قوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس
(5/250)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
بالنفس} وقتل المسلم بالذمي نفس بنفس، وبينه النبي صلى الله عليه وسلم
بسنته لما قتل اليهودي بالمرأة، قاله مجاهد.
قالوا: والذمي مع المسلم متساويان في الحرمة التي تكفي في القصاصن وهي حرمة
الدم الثابتة على التأييد والمسلم كذل:، وكلاهما قد صار من أهل دار
الإسلام، والذي يقق ذلك: أن المسلم تقطع يده بسرقة مال الذمي، وهذا يدل على
أن مال الذمي قد ساوى مال المسلم، فدل على مساواتع لدمه، إذ المال إنما
يحرم بحرمة مالكه، وأجمع العلماء على أن العور والأشل إذا قتل رجلاً سالم
الأعضاء، أنه ليس لوليه أن يقتل الأعور، ويأخذ منه نصف الدية، من أجل أنه
قتل إذا عينين وهو أعور، وقت ل ذا يدين وهو أشل، فهذا يدل لى أن النفس
مكافئة للنفس، ويكافىء الطفل فيها الكبير.
واحتجوا بما روى محمد بن الحسن عن إبراهيم رحمهما الله تعالى (أن رجلاً من
المسلمين قتل رجلاً من أهل الذمة، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال: (انا أحق من وفى بذمته، ثم أمر به فقتل) .
ولأن القصاص يعتمد المساواة في العصمة، وهي ثابتة، نظراً إلى التكليف أو
الدرا، ولأن المبيح للدم إنما هو كفر المحارب، قال تعالى: {قاتلوا الذين لا
يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون
دين الحق من الذين أوتوا الكتاب، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} آية
29 من التوبة.
ولأن قتل الذمي بالذمي، دليل على أن كفر الذمي لا يورث الشبهة، إذ لو
أورثها لما جرى القصاص بينهما، كما لا يجري بين الحربيين، ولأن الأسلام
أعلى من حرية الذمي والأعلى لا يقتل بالأدنى، ولا يقتل المسلم بالمستأمن،
لأنه غير محقون الدم على التأبيد، وكذلك كفره باعث على الحرب لأنه على قصد
الرجوع إلى داره، فصار كالحربي، ولا يقتل الذمي بالمستأمن، ويقتل المستأمن
بالمستأمن، ويقتل الرجل بالمرأة، والكبير بالصغير، والصحيح بالعمى والزمن،
وبناقص الطراف وبالمجنون، للآيات الدالة بعمومها على وجوب القصاص، ولأن في
اعتبار التفاوت فيما وراء العصمة، امتنعاع القصاص، وظهر التقاتل، والتفاني
بين أفراد المجتمع.
مبحث قتل الحر بالعبد
الحنفية قالوا: يقتل الحر بالحر، والحر بالعبدن لعموم الآيات الواردة في
القصاص، ولآن القصاص يعتمد المساواة في العصمة، وهي بالدين، أو بالدار،
والعبد والحر يستويان فيهما، فيجري القصاص بينهما، وحقيقة الكفر لا تمنع
ممن جريان القصاص، لأنه لو صلح لما جرى بين العبدين، كما لا يجري بين
المستأمنين وليس كذلك، ونص الآية فيه تخصيص بالذكر، وهو لا ينفي ما عداه،
كما في قوله تعالى {والأنثى بالأنثى} فإنه لا ينفي أن يقتل الأنثى بالذكر،
ولا العكس بالإجماع، وفائدة التخصيص الرد على من اراد قتل غير القاتل، أو
الاسراف في القصاص، كأن يقتل العشرة بالواحد.
(5/251)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
وإذا قتل الحر العبد، فإن أراد سيد العبد قتل القاتل، وأعطى دية الحر إلا
قيمة العبد وإن شاء استحيا، واخذ قيمة العبد، هذا مذكور عن الإمام علي،
والحسن.
واحتجوا على مذهبهم بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلمون تتكافأ
دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم) .
وما روي عن سمرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعنا) رواه أحمد والاربعة، وحسنه
الترمذي، وهو من رواية الحسن البصري. فالحديث دليل على أن الحر يقاد بالعبد
في النفس والكراف، والجدع قطع الأنف، واو الأذن، أو اليد، أو الشفة في
القاموس.
ومن طريق المعنى قالوا: ولما كان قتل العبد محرماً كقتل الحر، وجب أن يكون
القصاص فيه كالقصاص في الحر، وقال النخعي وجماعة: يقتل الحر بالعبد سواء
كان عبد القاتل، أو عبد غير القاتل، واحتجوا، على هذا بعموم قوله تعالى
{وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} وهو ضعيف.
المالكية، والشافعية، والحنابلة - قالوا: لا يقتل حر بعبد، ولأن مبنى
القصاص على المساواة، وهي منتفية بين المالك، والمملوك، ولهذا لا يقطع طرف
الحر بطرف العبد، بخلاف العبد بالعبد، لأنهما يستويان، وبخلاف العبد حيث
يقتل بالحر لأنه تفاوت إلى نقصان، وهم يقتلون الادنى بالأعلى، دون العكس.
قال أبو ثور: لما اتفق جميعهم على أنه لا قصاص بين العبيد، والحرار، فيما
دون النفوس، كانت النفوس أحرى بذلك، ومن فرق منهم بين ذلك فقد ناقض.
وأيضاً: فالإجماع فيمن قتل عبداً خطأ أنه ليس عليه إلا القيمة، فكما لم
يشبه الحر في الخطأ، لم شبهه في العمد.
وأيضاً: فإن العبد سلعة من السلع، يباع ويشترى، ويتصرف في الحر كما يشاء،
فلا مساواة بينه، وبين الحر، ولا مقاومة.
واحتجوا بما رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالىعن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال: (لايقتل مسلم بكافر) .
مبحث قتل الرجل بالمرأة
اتفقت كلمة فقهاء المسلمين على أنه يجوزقتل الرجل بالمرأة، والكبير
بالصغير، والصحيح بالمريض لعموم الآيات الواردة في وجوب القصاص، وفعل
الرسول صلى الله عليه وسلم فقد ورد أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه امر
بقتل الرجل اليهودي الذي اعترف بقتل المرأة المسلمة في المدينة، وبما روي
عن على كرم الله وجهه، وعبد الله قالا: إذا قتل الرجل المرأة متعمداً، فهو
بهاقود، كما تقتل المرأة
(5/252)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
بالرجل ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف (المسلمون تتكافأ
دماؤهم، فالمرأة تكافىء الرجل، وتدخل تحت الحديث، ولات اعتبار التفاوت فميا
وراء عصمة الدم، يجعل القصاص ممتنعاً، ويظهر الفتنة، والتفاني بين العباد،
وهذا نشر للفساد فلا يصح، وقد روي أن الرسول صلى الله عليه وسلم كتب في
كتاب عمرو بن حزم (أن الرجل يقتل بالمرأة) .
القصاص بين الرجل والمرأة فيما دون النفس
الشافعية، والمالكية، والحنابلة - قالوا: يجوز القصاص بين الرجال، والنساء
فيما دون النفس، فقد اعتبروا الأطراف اخرى، واولى، ولقوله تعالى {والعين
بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسن} روى على بن أبي طلحة
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: تقتل النفس بالنفس، وتفقأ العين بالعين،
وبقطع الأنف، وتنزع السن بالسن، وتقتص الجراح بالجراح، فهذا يستوي فيه
احرار المسلمين فيما بينهما، رجالهم، ونساؤهم، إذا كان عمداً في النفس، وما
دون النفس، ويستوي فيه العبيد رجالهم، ونساؤهم، إذا كان عمداً في النفس،
وما دون النفس رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم.
الحنابلة في باقي قولهم: أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها إلا أن يدفع
وليها إلى اوليائه نصف الدية، لأن ديتها على النصف من دية الرجل.
الحنفية قالوا: لا قصاص بين الرجل والمرأة، فيما دون النفس، ولا بين الحر
والعبد، ولا بين العبيد، لأن الأطراف يسلك بها مسلك الأموال، فينعدم
التماثل بالتفاوت في القيمة، والتفاوت معلوم قطعاً بتقويم الشرع، فإن الشرع
قوم اليد الواحدة للحر بخمسمائة دينار قطعاً ويقيناً، ولا بتلغ يد العبد
إلى ذلك، فإن بلغت كانت بالحرز والطن، فلا تكون مساوية ليد الحر يقيناً،
فإذا كان التفاوت معلوماً قطعاً أمكن لنا اعتباره بخلاف التفاوت في البطش،
لأنه لا ضابط له فاعتبر أصله.
وقد سلكنا بالأطراف مسلك الأموال، لانها خلقت وقاية للأنفس كالمال، فاواجب
أن يعتر التفاوت المالي مانعاً مطلقاً.
والآية الكريمة، وإن كانت عامة في جميع الأطراف من غير تفاوت، لكن قد خص
منها الحربي والمستأمن والنص العام إذا خص منه شيء يجوز تخصيصه بخبر
الواحد، فخصصوه بما روي عن عمران بن حصين أنه قال: قطع عبد، لقوم فقراء،
أذن عبيد لقوم أغنياء، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يقض
بالقصاص) .
وقيل: إن الآية المذكورة آية القصاص، {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم
القصاص في القتلى
(5/253)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
الحر بالحر، والعبد بالعبد} والقصاص ينبىء عن المماثلة، فالمراد بما في
الآية المذكورة، ما يمكن فيه المماثلة، لا غير اهـ.
مبحث قتل المكره
الشافعية قالوا: لو أكره إنسان شخصاً آخر على قتل شخص بغير حق فقتله، فيجب
القصاص على المكره بالكسر لأنه أهلكه بما يقصد به الإهلاك غالباً، فأشبه
بما لو رماه بسهم فقتله، وكذا يجب القصاص على المكره بفتح الراء في الأظهر
لأنه قتله عمداً، عدواناً وظلماً، لا ستبقاء نفسه، فأشبه ما لو قتله المضطر
ليأكله، بل أولى، لأن المضطر علىم يقين من التلف، إن لم يأكل، بخلاف المكره
بالفتح.
وقيل: القصاص على المكره بالكسر، أما المكره بالفتح فلا قصاص عليه لقول
الرسول صلى الله عليه وسلم (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا
عليه) ولأنه كالآلة في يد المكره، فصار كما لو ضربه به، أو مثل الذي يسقط
من علو، أو الذي تحمله الريح من موضع إلى موضع فقتل غيره.
وقيل: لا قصاص على المكره بالكسر، بل القصاص واجب على المكره بالفتح لأنه
مباشر للقتل، والمباشرة مققدمة، على غيرها، ولأنه يشبه من جهة المختار في
فعله، ومن جهة المضطر المغلوب، وغلإكراه لا يتم إلا بالتخويف بالقتل، أو
بإتلاف ما يخاف عليه التلف من الأعضاء، كالقطع والضرب الشديد، وقيل: يحصل
الإكراه بما يحصل به الإكراه على الطلاق من أنواع التهديدات.
ولو قال له: اقتل هذا وإلا قتلت ولدك. وكان في مقدوره أن يقتل ولده، فليس
بإكراه، وقال الروياني: الصحيح عندي أنه إكراه، لأن ولده كنفسه في الغالب،
فما أصابه من الضرر، كأنما أصاب نفسه، بل بعض النفوس عندها، الولد أغلى من
النفس، وهذا هو الظاهر.
وقال الشافعية: لا يجوز للمكره بالفتح الإقدام على القتل المحرم لذاته، وإن
لم يوجب عليه القصاص، بل عليه الإثم يوم القيامة، إذا قتل نفساً محرمة، كما
لا يباح له الزنا بالإكراه، ولكن يباح له شرب الخمر، والقذف، والإفطار في
رمضان، على القول بإبطال الصوم، ويباح له الخروج من صلاة الفرض، وإتلاف مال
الغير، وضمن المال هو والمكره.
وإذا أكره إنسان على الإتيان بما هو كفر قولاً، أو فعلاً كالسجود لصنم، مع
طمأنينة القلب بالإيمان وكراهية الكفر، فقيل: الفضل له الثبات على الإيمان،
ولا يلفظ الكفر، والعياذ بالله.
وقيل: يجوز أن يلفظ به صيانة لنفسه أن تزهق، وقيل: إن كان من العلماء
المقتدى بهم فالأفضل الثبات على الإيمان، مهما كان التخويف والوعيد، فإن
قتل مات شهيداً، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون دينه
قهو شهيد) وحتى يكون قدوة لغيره من الناس، كما ثبت أصحاب الأخدود، فإن كان
المكره بالفتح لم يظن أن الإكراه يبيح له الإقدام على القتل، وجب عليه
القصاص، أما إذا كان
(5/254)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
يعقد ذلك فلا قود عليه. وكذلك لا قصاص عليه، إذا كان ممن يخفى عليه تحريم
الإقدام نعلى القتل بالإكراه، لأن القصاص يسقط بالشبهة، فإن وجبت الدية في
حالة العفو عن القصاص وزعت عليهما بالسوية كالشريكين ويجوز للولي أن يقتص
من أحدهما ويأخذ نصف الدية من الآخر، هذا إذا كافأه، فإن ساوى المقتول
أحدهما فقط، كأن كان المقتول ذمياً، أو عبداً، واحدهما كذلك، والآخر مسلم،
أو حر، فالقصاص على المكافىء دون الآخر، بل يجبعليه نصف الدية، أو نصف
القيمة لأولياء الدم، لأنهما مشتركان في الفعل، وشريك غير المطافىء يقتص
منه، كشريك الأب، ولو أكره بالغ، عاقل، مراهقاً، أو عكسه، على قتل شخص
فقتله، فعلى البالغ القصاص، لوجود مقتضيه، وهو القتل المحض والعدوان على
الغير، هذا إن قلنا: عمد الصبي عمد، وهو الأظهر في المذهب، فإن قلنا خطأ
فلا قصاص، لأنه شريك المخطىء ولا قصاص على الصبي بحال، لعدم تكليفه، حتى
ولو كبر.
ولو أكره بالفتح مكلفاً، على رمي شبح علم المكره بالكسر، أنه رجل، وظنه
المكره بالفتح صيداً أو حجراً فرماه فقتله، فالأصح وجوب القصاص على المكره
بالكسر ت لأنه قتله قاصداً للقتل بما يقتل غالباً.
ولو أكرهه على رمي صيد فأصاب رجلاً، أو غيره فمات، فلا قصاص على اج منهما،
ويجب على عاقلة كل منهما نصف الدية، ولو أكرهه على صعود شجرة، أو على نزول
بئر، فزلق فمات، فشبه عمدن لأنه لا يقصد به القتل غالباً، وتجب الدية كاملة
على عاقلة، المكره بالكسر وقال الغزالي هو عمد، وقيل: وهو خطأ محض، ولو
أكره على قتل نفسه، بأن قال له: اقتل نفسك، أو اشرب هذا السم، وإلا قتلتك،
فقتلها، فلا قصاص عليه، في الأظهر، لأن هذا ليس بإكراه حقيقة، لاتحاد
المأمور به، والمخوف به، فصار كأنه مختار له.
وقيل: يجب القصاص، كما إذا أكرهه على قتل غيره. ويستثنى ما إذا كان المكره
بالفتح غير مميز لصغر، أو جنون، فإنه في هذه الحال يجب القصاص على المكره
جزماً ولو قال رجل لآخر: اقتلني وإلا قتلتك، فقتله ذلك الشخص، فالمذهب لا
قصاص عليه لأن الإذن شبهة دارئة للحد.
وقيل: يجب عليه القصاص، لأن القتل لا يباح بالإذن، فأشبه ما لو أذن له في
الزنا، بأمته، والأظهر عدم القصاص، ولو أمر السلطان شخصاً بقتل آخر، ظلماً
بغير حق، والمأمور لا يعلم ظن السلطان، ولا خطأه، وجب القود أو الدية،
والكفارة على السلطان فقط، ولا شيء على المأمور لأنه آلته، ولابد منه في
السياسة، ولأن الظاهر أن الإمام لا يأمر إلا بحق، ولأن طاعته واجبة، فيما
لا يعلم أنه معصية، وإن علم بظنه، أو خطئه وجب القود على المأمور إن لم يخف
قهره بالبطش بما يحصل به الإكراه، لأنه لا يجوز طاعته حينئذككما جاء في
الحديث الشريف، (طاعة لمخلوق في معصية الخالق) فصار كما لو قتله بغير إذنه،
فلا شيء على السلطان إلا الإثم فيما إذا كان ظالماً، نعم: إن اعتقد وجوب
طاعته في المصيبة، فالضمان على الإمام لا عليه.
فإن خاف قهره، وبطشه، فالضمان بالقصاص، وغيره عليهما، وصار كالمكره ولو أمر
شخص
(5/255)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
عبده أو عبد غيره المميز بقتل أو إتلاف ظلماً فقتل أثم الآمر، واقتص من
العبد البالغ، وتعلق الضمان برقبته، ولو كان للصبي أو المجنون تمييز وهو لا
يعقتد وجوب طاعنه في كل أمره، فالضمان عليهما دون الأمر، وما أتلفه غير
المميز بلا أمر، خطأ يتعلق بذمته إن كان حراً، وبرقبته.
المالكية، والحنابلة قالوا: إذا أكره رجل آخر فقتله فيجب القصاص على المكره
بالكسر لتسببه ويجب القصاص على المكره بالفتح لمباشرته الفعل بنفسه، لأن
المأمور لم يعذر بالإكراه، ولا يعذر الآمر لعدو المباشرة، فيجب القصاص
عليهما معاً، واحتجوا في قتل المكره على القتل بالقتل، بإجماع الأئمة على
أنه من أشرف على الهلاك من مخمصة، لا يجوز له أن يقتل إنساناً ليأكله،
وينقذ نفسه من الهلاك، بل يجب عليه الصبر حتى يموت، ولو فعل كان آثماً.
فإنه يجب قتل المسبب مع المباشر، فيقتل السيد الذي يأمر عبده بقتل حر ففعل،
ويقتل معه العبد إن كان كبيراً، وكذلك يقتل الأب إذا آمر ولده الصغير بقتل
إنسان ففعل، فإن كان الولد كبيراً قتل معه، ويقتل المعلم الذي يعلم الصنعة،
أو العلم أو القرآن إذا أمر تلميذه صغيراً غير مميز فيجب على عائلته نصف
الدية مع القصاص من الأب أو المعلم، هذا إن لم يكره.
ويقتل شريك الصبي دون الصبي لأنه غير مكلف، إن تمالا معاً على قتل شخص،
وعلى عائلة الصبي نصف الدية، لأن عمده كخطئه، فإن لم يتفقا على قتله،
وتعمداه، فعليه الدية في ماله، وعلى عائلة الصغير نصفها وإن قتلاه، أو
الكبير خطأ، فعلى عاقلة كل نصف الدية، هذا ما لم يدع أولياء المقتول أنه
مات من فعل المكلف فانهم يقسمون عليه ويقتلونه، ويسقط نصف الدية عن عائلة
الصبي لأن القسامة، إنما بها، ويستحق بها واحد.
وإنما يكون المأمور مكرهاً بالفتح إذا كان لا يمكنه المخالفة، كخوف قتل من
الآمر، أو قطع عضو أو قتل ولد، فإن لم يخفف، اقتص منه وحده دون الآمر.
ومن قدم طعاماً مسموماً، وهو عالم بأنه مسموم لعصوم، فتناوله غير عالم به
فمات، يجب عليه القصاص لأنه تسبب في قتله، فإن تناوله المعصوم، وهو عالم
بسمه فهو القاتل لنفسه، ولا شيء على المقدم له، وإن كان متسبباً، وإن لم
يعلم المقدم بكسر الدال ولا الآكل، فهو من قتل الخطأ، فيجب في الدية، على
العاقلة، بعد أن يقسم أولياء المقتول عليه. اهـ.
الحنفية قالوا: من أكره إنساناً على قتل آخر وخوفه بالقتل، أو تلف بعض
الأعضاء، فخاف منه وفعل القتل، فإنه يجب القصاص على الآمر دون المأمور،
خصوصاً إذا كان للآمر سلطان على المأمور فإن المكره بالفتح يشبه من لا
اختيار له، كالذي يسقط من ارتفاع، فقد اعتبروا تأثير
(5/256)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
الإكراه في إسقاط كثير من الواجبات في الشرع لكون المكره كالآلة، في د
المكره بالكسر، ولحديث الرسول صلوات الله وسلامه عليه: (رفع عن أمتي الخطأ
والنسيان، وما استكرهوا عليه) .
ولكن يعاقب المكره بالفتح بأن يضرب مائة جلدة، ويحبس سنة كاملة، أو حسب رأي
الحاكم.
وإذا أمر العبد المحجور عليه صبياً حراً بقتل رجل فقتله، فعلى عاقلة الصبي
الدية، لأنه هو القاتل حقيقة، وعمده وخطؤه سواء، ولا شيء على الآمر.
للضرب للتأديب
المالكية قالوا: من ضرب آخر لقصد التأديب الجائز شرعاً، كالسلطان مثلاً،
إذا ضرب إنساناً لارتكاب جريمة لا توجب الحد، أو أراد أن يعزره مثلاً، أو
يجله في حد من الحدود، فمات بذلك السبب. أو قطع يد سارق، فسرع القطع إلى
جسده فمات. فإن دمه يكون هدراً، ولا ضمان على الحاكم ولا في بيت آلما، لأنه
فعل شيئاً آمره به الشرع، ونفذ حكماً طالبه به الإسلام، ولم يقصد بفعله
القتل، ولا الانتقام، وكذلك الأب، أو آلم إذا ضرب أحدهما ولده بقصد
التأديب، فمات، لا شيء عليهما، والمعلم، صنعة، أو علماً، أو قرآناً، إذا
ضرب الذي يتعلم منه بقصد الحمل على التعليم، والاستفادة منه، فمات، بسبب
هذا الضرب الذي يتعلم منه بقصد الحمل على ضرب الزوجة بقصد التربية، والنهي
عن المنكر، والحث على الاستقامة، فماتت بسبب ضربه، لا شيء عليه، لأن الشرع
وضع الزوجة أمانة في عنقه، يربيها، ويهذبها، ويكسوها، ويطعماه، أباح له
الضرب إذا خرجت عن طاعته، أو خاف نشوزها قال تعالى: {واللاتي تخافون
نشوزهن، فعظوهن، واهجروهن في المضاجع، واضربوهن} الآية.
الشافعية، والحنابلة قالوا: إن الشرع قد أباح للأبوين أن يضربا أولادهما
للتأديب، ولأمرهما بالمعروف، ونهيهما عن المنكر، وكذلك أباح للزوج أن يضرب
زوجته، لحفظ عرضها. وللمعلم أن يضرب من يتعلم منه. وللقاضي أن يضرب من
ينحرف من المسلمين، أو يخرج عن طاعته، فلو مات شخص بسبب ضرب واحد من
المذكورين، وكان ضربه ضرباً لا يهلك عادة، فإنه لا ضمان عليه، لأنه لم يقصد
القتل ولم يفعل إلا بقصد المصلحة للمضروب، وأدى ما أمره به الشارع الحكيم.
قالوا: ولو ضرب واحد من هؤلاء مريضاً ضرباً لا يقتل الصحيح، وهو جاهل
بالمرض لا يجب عليه القصاص، لأن ما أتى به ليس بمهلك عنده.
وقيل: يجب عليه القصاص، لأن جهله لا يبيح له الضرب القاتل، أما إذا ضربه
وكان عالماً بمرضه، فإنه يجب عليه القصاص جزماً من غير خلاف منهم، لأنه
تبين أنه يقصد إهلاكه بالضرب.
الحنفية قالوا: أن الواجبات لا تتقيد بوصف السلامة، فإذا ضرب الأب ابنه، أو
ضرب المعلم
(5/257)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
الصبي بإذن الأب، فمات الصبي فلا قصاص عليه، بل يجب على الأب، أو المعلم
الدية في مالهن في حالة القتل، ولا يرث الأب منها لأنه محروم من ميراثه.
مبحث إذا اشترك في القتل من يقام عليه الحد مع غيره.
المالكية قالوا: إذا شارك بالغ عاقل مسلم، صبياً في قتل رجل معصوم الدم على
التأبيد فإنه يجب قتل الكبير دون الصبي، إن تمالأ معاً على قتله ويجب على
عاقلة الصبي نصف الدية. لأن عمده كخطىء فإن لم يتمالآ على قتله، وتعمداه،
أو الكبير فقط، فعليه نصف الدية، وعلى عاقلة الصغير نصفها، هذا ما لم يدع
أولياء المقتول أنه مات من فعل المكلف فقط، فانهم يقسمون عليه، ويقتلونه
قصاصاً، ويسقط نصف الدية عن عاقلة الصبي، لأن القسامة إنما يقتل بها ويستحق
بها واحد، وإن قتلاه، أو الكبير خطأ، فعلى عاقلة كل نصف الدية.
قالوا: ولا يقتل شريك مخطىء ولا شريك مجنون، بل يجب عليه نصف الدية في ماله
خاصة، وعلى عاقلة المخطئ أو المجنون نصفها، هذا أن تعمد وإلا فالنصف على
عاقلته أيضاً، وإنما كان على عاقلة الصبي نصف الدية في عمده وخطئه، لأن
عمده في نظر الشرع كخطئه.
ومن شارك سبعاً في قتل إنسان عمداً، كأن عقره سبع، ثم شجه رجل ومات
بسببهما، ومن جرح نفسه جرحاً ينشأ عنه الموت غالباً، ثم طعنة قاتلة، ومات
بسببهما معاً ومن شارك حربياً، في قتل رجل، من غير أن يتفق معه على قتله.
قالوا: يجب القصاص على هؤلاء المكلفين الذين شاركوا غير مكلفين، فإن عقر
السبع غير معتبر في الدنيا ولا في الآخرة، وكذلك ضرب نفسه، وإن كان غير
معتر في الدنيا فهو معتبر في الآخرة. وعليه الإثم، وكذلك الحري غير معتبر
في الدنيا والآخرة,
وقيل: لا يقتص مما ذكرن بل إنما عليه نصف الدية، ويضرب مائة جلدة، ويحبس
عاماً كاملاً، والقول بالقصاص يكون بقسامة، والقول بنصف الدية يكون بلا
قسامة.
وإن تصادم المكلفان أو تجاذبا حبلاً، أو غيره، فسقطا. راكبين، أو ماشيين،
أو مختلفين، قصداً، فماتا، فلا قصاص، لفوات محله، وإن مات أحدهما، فحكم
القود يجري بينهما، أو حملاً على القصد عند جهل الحال لا على الخطأ، عكس
السفينتين إذا تصادمتا، وجهل الحال، فيحملان على عدم القصد، من رؤسائهما،
فلا قود ولا ضمان، لأن جريهما بالريح ليس من عمل أربابهما كالعجز الحقيقي،
بحيث لا يستطيع كل منهما أن يصرف دابته، أو سفينته عن الآخر، فلا ضمان بل
هو هدر.
ولو قاد بصير أعمى فوقع البصير، ووقع الأعمى عليه فقتله، فتجب الدية على
عاقلة الرجل الأعمى، ولو طلب غريقاً، فما أخذه ليخرجه، خشي على نفسه الهلاك
منه، فتركه في البحر ومات،
(5/258)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
فلا شيء عليه، ولو سقط رجل من فوق دابته في الطريق، على رجل جالس فمات
الرجل، فديته على عاقلة الساقط.
الشافعية، والحنابلة قالوا: إذا اشترك في قتل النفس عامد ومخطئ، أو مكلف،
وغير مكلف، مثل عامد، وصبي، أو عاقل، ومجنون له نوع تمييز، في قتل من
يكافئه، فإنه يجب قتل العاقل المكلف، وتجب نصف الدية على عاقلة الصبي
والمجنون، وكذلك الحر والعبد إذا قتلا عبداً عمداً، فيجب على العبد القصاص،
ويجب على الحر نصف القيمة من ماله، وكذلك الحل في المسلم والذمي، فإنه يقتل
الذمي، وعلى المسلم نصف الدية في ماله، فيتحمل كل واحد جنايته على انفراد،
وكأنه لم يشاركه آخر، وحجتهم في ذلك النظر إلى المصلحة العامة التي تقتضي
التغليظ على القاتل لحرمة الدماء، فطأن كل واحد منهما انفرد بالقتل فله حكم
نفسه، فيجب القصاص على من شارك أباً في قتل ولده، ويجب على الأب وإن سفل
نصف الدية مغلظة في ماله، ولا يرث منها، وكذلك يجب قتل شريك حربي في قتل
مسلم، وشريك قاطع قصاصاً أو قاطع حداً، كأن جرحه بعد القطع المذكور شخص غير
القاطع، وات بسبب القطع، والجرح معاً، وكذا يقتل شريك من جرح نفسه، كأن جرح
شخص نفسه جرحاً بالغا ثم جرحه آخر فمات بهما، وكذا يقتل شريك دافع الصائل،
كأن جرحه شخص بعد دفع الحيوان الصائل، فمات بهما، وكذا يقتل شريك السبع
والحية القاتلين غالباً في قتل من يكافئه، وكذا يقتل عبد شارك سيداً في قتل
عبده أو عبد ولده، في الأظهر لظهور الزهوق فيما ذكر بفعلين عمدين، وامتناع
القصاص على الآخر لمعنى يخصه، فصار كشريك الأب، ولو جرحه شخص خطأ ونهشته
حية، وعقره سبع ومات من ذلك لزمه ثلاث الدية كما لو جرحه ثلاثة.
الحنفية قالوا: لا يجب القصاص على من شارك الأب في قتل ولده، ولا على شريك
المولى، ولا على شريك الخاطئ، ولا على شريك الصبي، ولا على شريك المجنون،
ولك من لا يجب القصاص بقتله، لأن القتل حصل بسببين، أحدهما غير موجب للقود،
وهو لا يتجزأ فلا يجب، لأن الأصل في الدماء الحرمة، والنصوص الموجبة للقصاص
مختصة بحالة الانفراد، وموضع يمكن القصاص، وهو غير ممكن هنا لعدم التجزيء
فلا يتناوله النص، ثم من يجب عليه القصاص لو انفرد، يجب عليه نصف الدية في
ماله، لأن فعله عمد، وإنما لم يجب القصاص لتعذر الاستيفاء، والعاقلة لا
تعقل العمد، ونصف الدية الآخر على عاقلة الآخر إن كان صبياً أو مجنوناً أو
خطأ، لأن الدية يجب فيه بنفس القتل، فإن عمد الصبي والمجنون خطأ قال الإمام
على رضي الله عنه، وإن كان الأب فتجب نصف الدية في ماله خاصة ويحرم من
ميراثها، ولأن مشاركة من لا يجب عليه القصاص شبهة، فإن القتل لا يتبعض
والحدود تدرأ بالشبهات، فيجب الدية.
قالوا: ومن شج نفسه وشجه رجل، وعقره أسد، ونهشته حية، فمات من ذلك كله،
فيجب على الرجل الأجنبي ثلث الدية، لأن فعل الأسد والحية فعل واحد، لكونه
هدر في الدنيا والآخرة،
(5/259)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
وفعله بنفسه هدر في الدنيا معتبر في الآخرة، حتى يأثم عليه، ويعاقب به يوم
القيامة أمام الله تعالى، وعند الإمام أبي حنفية رحمه الله تعالى، والإمام
محمد يغسل الميت، ويصلى عليه، وندع أمره إلى الله تعالى يحاسبه، وعند أبي
يوسف رحمه الله، يغسل من شج نفسه، ولا تجب الصلاة عليه، لأنه قاتل نفسه.
فالشرع لم يجعل دمه هدراً مطلقاً كالمرتد مثلاً، وجعله جنساً آخر، وفعل
الأجنبي معتبر في الدنيا والآخرة، فصارت ثلاثة أجناس، فكأن النفس تلفت
بثلاثة أفعال، فيكون التالف بفعل كل واحد ثلثه، فيجب على الرجل الأجنبي ثلث
الدية من ماله خاصة، ويسقط الباقي لأنه هدر.
مبحث قتل الجماعة بالواحد
الشافعية رحمهم الله تعالى قالوا: تقتل الجماعة بالواحد. سواء كثرت
الجماعة، أم قلت: وسواء باشروا جميعاً القتل أم باشره بعضهم، وساء قتلوه
بمحدد أم بغيره، كما لو ألقوه من شاهق جبل، أو في بحر خضم، أو هدموا عليه
حائطاً، ولو تفاوتت جراحاتهم في العدد والفحش والأرش، لما روي أن سيدنا عمر
بن الخطاب رضي الله تبارك وتعالى عنه أنه قتل نفراً خمسة، وقيل: سبعة، برجل
قتلوه غيلة أي جعلوه في موضع لا يراه أحد وقال كلمته المشهورة (لو تمالأ
علي أهل صنعاء لقتلتهم جميعاً) ولم ينكر عليه أحد من الصحابة الحاضرين في
عصره، فصار ذلك إجماعاً، ولأن القصاص عقوبة تجب على الواحد، فيجب للواحد
على الجماعة، كحد القذف وغيره، ولأنه شرع لحقن الدماء. فلو لم يجب عند
الاشتراك لكان كل من أراد أن يقتل شخصاً استعان بآخرين على قتله، واتخذ ذلك
ذريعة لسفك الدماء، لأنه صار آمناً من القصاص.
قالوا: وللولي العفو عن بعضهم على حصة من الدية، وعن جميعهم على الدية، ثم
إن كان القتل بجراحات وزعت الدية باعتبار عدد الرؤوس، لأن تأثير الجراحات
لا ينضبط، وقد تزيد نكاية الجرح الواحد على وزعت الدية باعتبار عدد الرؤوس،
لأن تأثير الجراحات لا ينضبط، وقد تزيد نكاية الجرح الواحد على جراحات
كثيرة، ولو ضربوه بالسياط مثلاً فقتلوه، وضرب كل واحد منهم لو انفرد يكون
غير قاتل ففي القصاص أوجه:
أحدها: يجب على الجميع القصاص، كيلا يصير ذريعة إلى القتل، وسفك الدماء
ظلماً.
ثانيها: لا يجب القصاص على واحد منهم، لأن فعل كل واحد شبه عمد، فتجب
الدية.
ثالثها: وهو أصحها: يجب عليهم القصاص إن اتفقوا على ضربه تلك الضربات، وكان
ضرب كل واحد منهم يؤثر في إزهاق الروح بخلاف ما إذا وقع اجتماعهم اتفاقا من
غير تواطؤ، فإنه تجب عليهم الدية.
وإنما يعتد في ذلك بجراحة كل واحد منهم إذا كانت مؤثرة في زهوق الروح، فلا
عبرة بخدشة خفيفة، والولي يستحق دم كل شخص بكماله، إذ الروح لا تتجزأن ولو
استحق بعض دمه لم يقتل.
(5/260)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
وقيل: البعض بدليل أنه لو آل المر إلى الدية لم يلزمه شيء بالحصة، ولكن لا
يمكن استيفاؤه إلا بالجميع، فاستوفي لتعذره، وأبطل الإمام القياس على الدية
بقتل الرجل المرأة فإن دمه مستحق فيها، وديتها على النصف.
ومن اندملت جراحته قبل الموت لزمه مقتضاها دون قصاص النفس، لأن القتل هو
الجراحة السارية.
الحنابلة قالوا: لا تقتلوا الجماعة بالواحد، لأن الله تعالى شرط المساواة
في القصاص. ولا مساواة بين الجماعة والواحد، قال تعالى: {وكتبنا عليهم فيها
أن النفس بالنفس} وقال تعالى: {الحر بالحر والعبد بالعبد} الآية فيجب عليهم
الدية حسب الؤوس، أو يقتل واحد منهم والدية على الباقين اهـ.
الحنفية قالوا: تقتل أنفس الجماعة بالنفس الواحدة. ولا يقطع بالطرف إلا طرف
واحد، وذلك لأن مفهوم القتل إنما شرع لنفي القتل، فلو لم يقتل الجماعة
بالواحد لتذرع الناس إلى القتل بأن يتعمدوا قتل الواحد بالجماعة. سواء
باشروا جميعاً القتل، أو باشره واحد منهم.
فقد روي (أن امرأة بصنعاء غاب زوجها، وترك في حجرها ابناً له من غيرها،
غلاماً يقال له أصيل فاتخذت المرأة بعد زوجها خليلاً، فقالت له: إن هذا
الغلام يفضحنا فاقتله فأبى، فامتنعت منه فطاوعها، فاجتمع على قتل الغلام
الرجل ورجل آخر، والمراة، وخادمها فقتلوه، ثم قطعوا أعضاءه وجعلوه فيعيبة،
وطرحوه في ركية، في ناحية العزبة، ليس فيها ماء) .
وذكر القصة وفيها، فأخذ خليلها فاعترف، ثم اعترف الباقون، فكتب علي وهو
يومئذ أمير على اليمن شأنهم إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فكتب
عمر بقتلهم جميعاً، وقال: (والله لو أن أهل صنعاء اشتركوا في قتله، لقتلتهم
أجمعين) وفي هذا دليل على أن رأي سيدنا عمر رضي الله عنه قتل الجماعة
بالواحد، ووافقه الصحابة رضوان الله عليهم من غير مخالف منهم، وفي ذلك
إجماع من الأمة على هذا الحكم.
ولأن القتل بطريق التغالب فساد غالب، وكل فساد غالب يحتاج إلى مزجرة
للسفهاء،
فالقتل بطريق التغلب يحتاج إلى حكم زاجر، والحكم الزاجر في القتل العمد هو
القصاص، فهو مزجرة للسفهاء، فيجب تحقيقاً لحكمة الأحياء.
قال صحاب النهاية: وهذا جواب الاستحسان، وفي القياس لا يلزمهم القصاص، لأن
المعتبر في القصاص إنما هو المساواة، لما في الزيادة من الظلم على المعتدي،
وفي النقصان، من البخس بحق المعتدي عليه، ولا مساواة بين العشرة والاحد،
هذا شيء يعلم ببداهة العقل، فالواحد من العشرة يكون مثلاً للواحد فكيف تكون
العشرة مثلاً للواحد؟ وايد هذا القياس قوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن
النفس بالنفس} وذلك ينفي مقابلة النفوس بنفس، ولكن تركنا هذا المقياس. لما
روي أن
(5/261)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلاً، فقضى عمر رضي الله عنه بالقصاص عليهم،
وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به اهـ.
المالكية قالوا: يقتل الجمع كثلاثة فأكثر بواحد، إن تعمدوا الضرب له
وضربوه، ولم تتميز ضربة كل واحد منهم، وسواء كان الموت ينشأ عن كل واحدة أو
عن بعضهها، واذ انفذ احد الضاربين مقاتله، ولم يدر من أي الضربات فإنه يسقط
القصاص، وتجب الدية في أموالهم إذا لم يتمالؤوا على قتله، وكذلك يقتل
الجميع إذا تساوت الضربات، وإن تميزت الضربات، كان بعضها أقوى شأنه إزهاق
الروح، قدم الأقوى ضرباً في القتل دون غيره إن علم الضارب وإن لم علم
الجميعن وإن قصد الجميع قتله وضربه وحضروا، وإن لم يباشره إلا احدهم، بحيث
إذا لم يباشره هذا لم يتركه الآخر، سواء حصل القتل بآلة يقتل بها عادة.
والحاصل: أن الاتفاق يوجب قتل الجميع، وإن رقع الضرب من البعض، أو كان
الضرب بنحو سوط، وأما تعمد الضربب بلا اتفاق فإنما يوجب قتل الجميع إذا لم
تتميز الضربات، اوتميزت وتساوتن أو لم تتساو، ولم يعلم صاحب الأقوى،
والأقدام، وعوقب غيره، وهذا الحكم إذا وقع المضروب ميتاً في جميع هذه
الحالات، أو وقع منفوذ المقاتل، أو مغموراً فاقد الشعور حتى مات، وإلا فتجب
فيه القصامة، ولا يقتل بها إلا واحد فقط، والله أعلم.
مبحث إذا قتل الواحد جماعة
الحنفية، والمالكية قالوا: إذا قتل الرجل الواحد جماعة، من المسلمين
الحرار، مرة واحدة أو متعقبين، فليس عليه إلا القود، ولا يجب عليه شيء آخر
بعد ذلك وإذا حضر أولياء المقتولين قتل لجماعتهم، ولا شيء لهم غير ذلك، فإن
حضر واحد منهم إلى الحاكم قتل له، وسقط حق الباقين، لفوات محل الاستيفاء،
ولأن كل واحد منهم قاتل بوصفالكمال في اعتبار الشرع تحقيقاً للمماثلة
المعتبرة في القصاص، فجاء التماثل، اصله الفصل الأول، إذ لو لم يكن كذلك
لما وجب القصاص، ولأنه وجد من كل واحد منهم جرح نافذ صالح للإزهاق، فيصاف
إلى كل واحد منهم، إذ هو لا يتجزأ، والحكم حصل عقب علل لابد من الإضافة
إليها، فإما إن يضاف إليها توزيعاً أو كملاً، والأول باطل لعدم التجزي،
فتعين الثاني، ولهذا إذا حلف جماعة كل منهم أن لا يقتل فلاناً، فاجتمعوا
على قتله حنثوا.
ولأن القصاص شرع مع المنافي، وهو قوله صلى الله عليه وسلم (الآدمي بنيان
الرب، ملعون من هدم بنيان الرب) وتحقيق الاحياء قد حصل بقتل القاتل، فاكتفى
به، ولا شيء لهم غير ذلك.
الشافعية قالوا: إن قتل الرجل جماعة من المسلمين المعصومة دماؤهم، قتل
بالأول منهم ويجب
(5/262)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
للباقين الديات من الموال، وإن قتلهم في حالة واحدة، كان هدم عليهم حائطاً
وهم نيام فتلهم في وقت واحد، يقرع بين أولياء المقتولين، فمن خرجت قرعتع
قتل له، وثبت للباقين الديات لا غير.
وقيل: قتل لهم، وقسمتم الديات بينهم، لتعذر القصاص عليهم، كما لو مات
الجاني، فإن اتسعت التركة لجميعهم فذاك، وإلا قسمت التركة بين الجميع بحسب
استحقاقهم في الديات، وذلك لأن الموجود من الواحد قتلات عدة، والذي تحقق في
حقه قتل واحد فلا تماثل فيه، وهو القياس في الفصل الأول، إلا أنه عرف
بالشرع، ولأن الدين شرع المماثلة في القصاص، لئلا يلزم الظلم على المعتدي
على تقدير الزيادة، ولئلا يلزم البخص لحق المعتدى عليه، على تقدير النقصان،
ولا شك أن الظلم والبخس إنما يندفعان بتحقق المماثلة، فلو قتله غير الأول
من المستحقين، أو غير من خرجت القرعة له منهم عصى، لأنه قتل نفساً منع من
قتلها.
ووجب على الحاكم أن يعذره لإبطال حق غيره، ووقع قتله قصاصاً لأن حقه يتعلق
به، بدليل لو عفا الول، فإن الحكم ينتقل إلى من بعده من الولياء، ويجب
للباقين الديات لتعذر القصاص عليهم بغير اختيارهم، ولو ضربوه كلهم حتى مات
أساؤوا، ووقع القتل موزعاً لعيهم، ورجع كل منهم بالباقي له في الدية فلو
كانوا ثلاثة، أخذ كل واحد منهم ثلث حقه وله ثلثا الدية، ولو قتله أجنبي
وعفا الوارث على مال أختص بالدية وله القتيل الأول.
ولو طلبوا الاشتراك في القصاص والديات لم يجابوا لذلك، ولو أن ولي القاتل
الأول، أو بعض أولياء القتلى، صبياص، أو مجنوناً، أو غائباً، حبس القاتل
إلى بلوغة، وغقامته، وقدومه من السفر.
ولو ضربه واحد ضرباً ثقيلاً، كأن ضربه خمسي سوطاً، ثم ضربه الآخر سوطين أو
ثلاثة، حال الألم من ضرب الأول، عالماً بضربه، اقتص منهما، لظهورقصد
الإهلاك منهما، أو جاهلاً به فلا قصاص على واحد منهما، لأنه لم يظهر قصد
الإهلاك من الثاني، والأول شريك، فعلى الأول حصة ضربه من دية العمد، وعلى
الثاني حصة ضربه من دية شبه العمد، وإن ضرباه بالعكس فلا قصاص على واحد
منهما، لأن ضرب الأول شبه عمد، والثاني شريكه، فيجب على الول حصة ضربه، من
دية شبه العمد، والثاني حصة ضربه من دية العمد، ومن قتل جمعاً، أو قطع
أطرافهم مثلاً مرتباًن قتل، أو قطع بأولهم، إن لم يعف لسبق حقهن وهذا الحكم
سواء أكان القاتل حراً، أو عبداً.
وقيل: إن كان القاتل عبداً قتل بجمعهم، فإن عفا الول، قتل بالثاني، وهكذا
والاعتبار في التقديم والتأخير بوقت الموت، لا بوقت الجناية.
الحنابلة قالوا: إذا قتل واحد جماعة، واحد بعد واحد، فحضر الأولياء قتل
للأول ولا شيء للباقين، وإن قتلهم جميعاً ولم يعلم الأول منهم، وحضر أولياء
المقتولين، وطلبوا من الحاكم القصاص، قتل لجماعتهم، ولا دية عليه.
(5/263)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
وإن طلب بعضهم القصاص، وبعضهم الدية، قتل لمن طلب منهم القصاص، ولو كانوا
أكثر من اثنين، ووجبت الدية في ماله لمن طلبها من الباقين.
وإن طلبوا جيمعاً الدية، كان لكل واحد منهم الدية كاملة من ماله خاصة، إذا
كان القتل عمداً، ولاشيء على العاقلة، وإذا كانت التركة لا تسعهم جميعاً،
قسمت بينهم بالسوية، كما يفعل مع الغرماء، فيأخذ كل منهم حصته من التركة
حسب الرؤوس.
مبحث إذا قطع رجلان يد رجل واحد
الحنفية قالوا: إذا قطع رجلان يد رجل واحد عمداً، فلا يجب القصاص على واحد
منهما بل يجب عليهما نصف الديةن لأن تعدد الجاني في الطراف ليس كتعدده في
النفس عنهدهم فإذا قطعا يداً لرجل، أو امرأة، حر، أو عبداً فلا قصاص اصلاً،
لأن كلاً منهما قاطع بعض اليد، سواء كان المحل متحداً، أو متخلفاً، لأن من
انقطع يفعل أحدهما، لم ينقطع بفعل الآخر، وقاطع بعض اليد لا يقطع كل يده
قصاصاً لانتفاء المماثلة، وهذا لأن المحل متجزىء، فإن قطع بعض، وترك بعض
متصور ومعقول، فلا يمكن أن يجعل كل واحد فاعلا فعلا كاملا، بخلاف النفس،
فإن الانزهاق لا يتجزأ، وقد مر ذلك في موضعه، ويجب عليهما نصف الدية
مناصفة، لأنه دية اليد الواحدة، ثما قطعاها عمداً.
المالكية قالوا: إذا تعدد مباشر على ما دون النفس بلا تمالؤ منهم عليه
وتميزت الجراحات، وعلم فعل كل واحد منهم، فيجب أن يقتص من كلو واحد منهم ما
فعل حسب المساحة التي قطعها، ولا ينظر لتفاوت العضو بالرقة والغلظ، والطول
والقصر.
فإن تمالؤوا اقتص من كل واحد منهم بقدر الجميع، تميزت الجراحات، أم لا،
قياساً على قتل النفس، من أن الجميع عند التمالؤ يقتلون بالواحد، وأما إذا
لم تتميز الجراحات عند عدم التمالؤ، فهل يلزمهم دية الجميع، ولا قصاص، أو
يقتصر من كل بقدر الجميع؟ فإذا كانوا ثلاثة، خلع احدهم عينه، وقطع الثاني
يدهن وقطع الثالث رجله، ولم يعلم من الذي فقأ العين، ومن قطع الرجل، ومن
الذي قطع اليد، والحال أنه لا تمالؤ بينهم، اقتص من كل بفقء عينه، وقطع
يده، ورجله، وفيه نظر إذا لم يقع من كل واحد وإلا ظهر من المذهب هو الأول.
الشافعية، والحنابلةـ قالوا: يشترط لقصاص الطرف والجرح ما شرط للنفس، من
كون الجاني مكلفا ملتزماً، وكونه غير أصل للمجني عليه، ومون المجني عليه
معصوماً ومكافئاً للجانين ولا يشترط التساوي في البدل، كما لا يشترط في
قصاص النفس، فيقطع العبد بالعبد، والمرأة بالرجلن وبالعكس والذمي بالمسلم،
والعبد بالحر، ولا عكس، ويشترط كون الجناية عمداً عدواناً، لأنه لا قصاص
إلا في العمد، لا في الخطأ وشبه العمد، ومن صور الخطأ في الأطرافن أن يقصد
أن يصيب حائطاً بحجر، فيصيب رأس إنسان فيوضحه، ومن صور شبه العمد، أن يضرب
رأسه بطلمة، أو بحجر
(5/264)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
لا يشج غالباً لصغره، فيتورم الموضه، إلى أن يتضح العظم، وغير ذلك من أنواع
الجنايات، وتقطع الأيدي الكثيرة باليد الواحدة، كما لو اشترك جمع في قطع،
كأن وضعوا سيفاً على يده، وتحاملوا عليه دفعة واحدة، حتى قطعت اليد، وجب
عليهم القصاص، فيقطعوا جميعاً إن تعمدوا القطع، كما في النفس.
فإن قيل: سرق رجلان نصابا واحداً لم يقطعا، فهلا كان هنا كذلك؟
أجيب بأن القطع في السرقة حق الله تعالى والحدود بالمساهلات أحق، بخلاف
القصاص الذي هو حق العبد، لقصد الزجر، وحرمة دم الآدمي.
وإذا تميز فعل بعضهم عن بعض، كأن قطع كل منهم من جانب، والتقت الحديدتان،
فإنه لا يجب القصاص على واحد منهما، لأن كلاً منهما لم يقطع إلا بعض اليد،
فلا يقطع به كل يده، فتجب عليها نصف الدية.
وإذا قطع كل منهم بعض الطرف، أو تعاونوا على قطعه بمنشار مثلاً، جره بعضهم
في الذهاب، وبعضهم في العود، قال الجمهور: لا يجب القصاص على أحد منهم،
لتعذر المماثلة، لا شتمال المحل على اعصاب ملتفة، وعروق ضارية وساكنة، مع
اختلاف وضعها في الأعضاء، فيجب على كل واحد منهم حكومة تليق بجنايته، بحيث
يبلغ مجموع الحكومات دية اليد.
مبحث من اعتدى على رجلين
الحنفية قالوا: إذا قطع واحد يميني رجلين فحضرا فلهما أن يقطعا يده، ويأخذا
منه نصف الدية بقسمانه نصفينن سواء قطعهما معاً، أو على التعاقب، لانهما
استويا في سبب الاستحقاق، فيستويان في حكمه، كالغريمين في التركة، والقصاص
ملك الفعل يثبت مع المنافي، فلا يظهر إلا في حق الاستيفاء، أما المحل فخلو
عنه فلا يمنع ثبوت الثاني، بخلاف الرهن، لأن الحق ثابت في المحل، فصار كما
إذا قطع العبد يمينيهما على العاقب فتستحق رقبو لهما، وإذا حضر واحد منهما
فقطع يده، فلآخر عليه نصف الديةن لأن للحاضر أن يستوفي لثبوت حقه، وتردد حق
الغائب، وإذا استوفي لم يبق محل الاستيفاء، فيتعين حق الآخر في الديةن لأنه
اوفى به حقاً مستحقاً، يقضى فإذا قضى طرفه حقاً مستحقاً عليه، فيقضى للآخر
بالأرش.
أما لو قطع يمين أحدهما، ويسار الآخر قطعت يداه، ولا يقال: تنتفي المماثلة
حينئذ لأنه ما فوت على كل واحد منهما جنس المنفعة، وهما فوتاه عليه، لأن
المعتبرفي حق كل واحد ما استوفاه، وليس في ذلك تفويت جنس المنفعة، ولا
زيادة على حقه.
قالوا: وإن طلبا القصاص معاً قطع لهما ولا دية، وإن طلب أحدهما القصاص
والثاني الدية قطع لمن طلب القصاص وأخذت الدية للآخر. اهـ.
(5/265)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
المالكية قالوا: من اعتدى على شخصين فعطع يمينيهما معاً أو متعاقبان، فإنه
يجب عليه أن تقطع يمينه لهما، ولا دية عليه بعد ذلك، لا ستحالة الاستيفاء
منه لانعدام المماثلة.
الشافعية، والحنابلة قالوا: إذا قطع رجل واحد يميني رجلين على التعاقب فإنه
يجب عليه أن تقطع يمينه قصاصاً للأول، والدية للثاني، وإذا قطعهما معاُ
مقترنين يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة قطع به، لأن اليد استحقها الأول،
فلا يثبت الاستحقاق فيها للثاني كالرهن بعد الرهن، وفي القرآن، اليد
الواحدة لا تفي بالحقين فترجح بالقرعة، ويغرم الدية، للثاني حتى لا يضيع
عليه حقه، كما في النفس عمداً، وكذا إذا اشتبه الأمر.
إذا أمسك رجل رجلاً فقتله الآخر
الحنفية قالوا: لو أمسك رجل برجل، فقتله آخر فإنه يجب القصاص على القاتل
دون الممسك، لأنه هو الذي باشر القتل، والممسك لم يباشره فلا قصاص عليه، بل
يجب عليه التعزير، فيحبسه الإمام في السجن حتى يموت، فقد روي عن عبد الله
بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أمسك الرجل
الرجل وقتله الآخر، يقتل الذي قتل، ويحبس الذي أمسك) رواه الدارقطني.
الشافعية قالوا: لو أمسك إنسان رجلاً، وقتله رجل آخر غيره فإنه يجب القصاص
على القاتل، لأنه مباشر للفعل، ويعزر الذي أمسك القتيل حسب ما يراه الحاكم
في طول المدة وقصرها، لأن الغرض تأديبه، وليس بمقصود استمراره للموت،
واشترطوا في المسألة، أن يكون القاتل مكلفاً، فلو أمسكه رجل وعرضه لمجنون،
أو سبع ضار فافترسه، فالقصاص على الممسك قطعاً في الصورتين، ولو وضع صغيراً
على هدف بعد الرمي لا قبله، فاصابه السهم من الرامي، لأنه المباشر للقتل،
ويجب القصاص على من أردى آخر في البئر فمات، دون الحافر لأن حفره لا أثر له
مع المباشر.
وقد روي عن الإمام علي كرم الله وجهه (أنه قضى في رجل قتل رجلاً متعمداً،
وأمسكه آخر) ، قال: (يقتل القاتل، ويحبس الآخر في السجن حتى يموت) رواه
الإمام الشافعي رحمه الله.
المالكية قالوا: إذا أمسك رجلا وكان يقصد قتله، فقتله آخر، ولولا الامساك
ما قدر القاتل على قتله، فيجب القود عليهما معاً، الممسك لتسببه، والقاتل
لمباشرته القتل بنفسه، وهي أن يمسكه لاجل القتل، وأن يعلم أن الطالب قاصد
قتله، وأن يكون لولا إمساكه ما أدركه القاتل، فإن أمسكه لاجل أن يضربه
ضرباً معتاداً، أو كان لم يعلم أنه يقصد قتله، أو كان قتله لا يتوقف على
امساك له، قتل المباشر وحده، وهو القاتل فعلاً وضرب الممسك مائة سوط، وحبس
سنة كاملة، تأديباً له وتعزيراً.
الحنابلة قالوا: في احدى روايتهم: يقتل القاتل، ويحبس الممسك حتى يموت في
جميع
(5/266)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
الأحوال وفي الرواية الأخرى قالوا: إنهما يقتلان جميعاً على الاطلاق القاتل
لمباشرته القتل بنفسه، والممسك لأنه السبب في القتل، إذ لولا الامساك لما
حصل القتل.
مبحث عفو المقتول خطأ عن الدية
المالكية، والحنفية، والشافعية وجمهور فقهاء الأمصار - قالوا: إن عفو
المقتول عن ديته ينفذ في الثلث من الدية فقط، إلا أن يجيز الورثة هذا
العفو، فتسقط الدية كلها عن القاتل خطأ لانهم تنازلوا عن حقوقهم في إرث
المال وحجتهم في ذلك، أن المقتول واهب مالاً له بعد موته لأن الدية لا تجب
إلا بعد ازهاق الروح، فتنقل الو الورثة، فلا يجوز العفو إلا في الثلث وأصله
حكم الوصية، وهي لاتنفذ إلا في ثلث المال، كما أخبر بذلك الرسول صلى الله
عليه وسلم فقال: (الثلث، والثلث كثير) .
وقال الحسن وطاوس وجماعة من الفقهاء: يجوز أن يعفو القاتل عن الدية في قتل
الخطأ، وتسقط عن القاتل وحجتهم في ذلك أن المقتول إذا كان له أن يعفو عن
الدم فهو أحرى أن يعفو عن المال، والدية يستحقها المقتول أولاً، ثم تنتقل
من بعده إلى الورثة.
المالكية قالوا: لو حصل عفو من كبير معه صغير فليس للصغير إلا نصيبه من
الدية، ولا يسري عقو الكبير عليه، فلو كان للصغير ولي من أب ونحوه كوصي،
واستحق الصغير قصاصاً بلا مشارك له فعلى وليه النظر بالمصلحة في القتل وأخذ
الدية كاملة، ويخير إن استوت، ولا يجوز له أخذ بعض الدية مع يسر الجاني،
فإن صالح على أقل من الدية، رجع الصغير بعد رشده على القاتل، فإن كان
الجاني معسراً فله الصلح بأقل، من الدية، رجع الصغير بعد رشده على القاتل،
فإن كان الجاني معسراً فله الصلح بأقل، أما لو قتل الصغير، فلا كلام لوليه،
لانقطاع نظره بالموت، والكلام للعاصب، فإن قتل شخص عبد الصبي، أو جرحه،
فالأولى للولي اخذ القيمة، والأرش دون القصاصن إذا لانفع للصبي ما لم يخش
على الصبي من القاتل، وإلا تعين القصاص ومثله السفيه، والحكم كذلك في
الأطراف اهـ.
مبحث صفة القصاص في النفس
المالكية رحمهم الله تعالى قالوا: يجب أن يقتل القاتل بما قتل به، ولو كان
المقتول به ناراً، لقوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا ما عوقبتم به} قال
المفسرون: إن هذه الآية دليل على جواز التماثل في القصاص فمن قتل بحديدة
قتل بها، ومن قتل بحجر قتل به، ولا يتعدى قدر الواجب، ويكون القصاص بالنار
مستثنى من النهي عن التعذيب بها على المشهور.
قالوا: والمعنى أن الحق في القتل للولي بمثل ما قتل به الجاني، وذلك إذا
ثبت القتل بالبينة، أو الاعتراف، أما لو ثبت بقسامة، فإنه يقتل بالسيف،
وكذلك لو ثبت أن القتل بخمر فيتعين قتل الجاني بالسيف، وكذا لو أقر بأنه
قتله لواطاً فلا يقتل بما قتل به، بأن يجعل له خشبة في دبره حتى
(5/267)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
يموت، بل يجب أن يقتل بالسيف، أما لو ثبت اللواط بأربعة شهود فيكون حده
الرجم بالحجارة حتى يموت ولو كان غيرمحصن، وكذلك من قتل بالسحر وثبت عليه
ذلك بالبينة أو إقرار، فيتعين قتله بالسيف، ولا يلزم بفعل السحر مع نفسه
حتى يموت، لأن الأمر بالمعصية معصية.
قال بعضهم: أنه إذا أقر يؤمر بفعله لنفسه فا مات، وإلا فالسيف، وكذلك القتل
بالسم، يقتل بالسيف في ظاهر المذهب، وكذلك إذا قتله بمنعه عن الطعام، أو
الماء، أو قتله بكثرة الأكل والشراب، أو نخسه بإبرة حتى مات على الراجح،
فلا يفعل بالجاني ذلك، بل يتعين قتله بالسيف.
قالوا: فإن صدر منه القتل بالغرف يفرق، وإن صدر منه القتل بالخنق، يخنق،
وإن قتل بحجر، فإنه يقتل بضرب حجر، ويكون الضرب في موضع خطر حتى يموت
بسرعة، وإذا قتل آخر بالضرب بعصا، فإنه يضرب عصا حتى يموت.
قالوا: ويمكن متسحق القصاص من السيف، ولو كان الجاني قتل بشيءأخف من السيف،
لأن الحق له في القتل بمثل ما قتل به المجني عليه، فإذا طلب القصاص بالسيف
فإنه يجاب إلى طلبه، لأن فيه تخفيفاً عن القاتل.
الشافعية، والحنابلة في إحدى روايتهم قالوا: يجب أن يقتص من القاتلن على
الصفة التي قتل غيره بها، وبآلة تشبه الآلة التي استعملها في مباشرة القتل،
حت يتحقق القصاص ويشعر بالألم الذي شعر به القتيل، إن كان قتله بفعل مشروع
فإن مات بهذه الوسيلة التي استعملها، وإلا تحز رقبته بالسيف قتلاً، لأن
مبنى القصاص لغة وشرعاً على المساواة، وذلك فيما ذكرنا، لأن فيه مساواة في
اصل الوصف، والفعل المقصود به، فمن قتل غيره تغريقاُ، قتل تغريقاً بالماء،
ومن قتل بضرب حجر قتل بمثل ذلك، إلا أن يطول تعذيبه بذلك فيكون السيف له
أروح، فإن قطع يد رجل فمات بسبب السراية فعل به مثل ذلك، ويمهل تلك المدة
التي مكثها المقتول، فإن مات، وإلا تحز رقبته بالسيف، وإن كان القتل بشي
غير مسموح به شرعاً، كأن أكرهه على شرب الخمر حتى قتله بها، أو لاط بصغيرن
فقتله، أو اعتدى على صغيرة وزنى بها فقتلها، فإنه يجب قتله في هذه الحالة
بالسيف، لأن المماثلة ممتنعة لتحريم الفعل.
وحجتهم في ذلك قول تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} آية 126
من النحل وقوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم، فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى
عليكم} آية 194 من البغرة. قال القرطبي: لا خلاف بين العلماء أن هذه الآية
أصل في التماثل في القصاص، فمن قتل بشيء قتل بمثل ما قتل به، وهو قول
الجمهور، ما لم يقتله بفسق كاللواطة، وإسقاء الخمر. وما روي عن انس بن مالك
رضي الله تعالى عنه (أن جارية وجد رأسها قد رض بين حجرين، فسألوها: من صنع
بك هذا؟ فلان؟ فلان. حتى ذكروا يهودياً، فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي،
فأقر، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ترض رأسه بين حجرين، متفق
عليه، واللفظ لمسلم.
(5/268)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
فالحديث دليل على أنه يجب القصاص بالمثقل، كالمحدد، وأنه يقتل الرجل
بالمرأة، وأن القاتل يقتل بما قتل به، قال تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها}
.
وبما أخرجه البيهقي من حديث البراء رضي اللهتعالى عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: (من غرض غرضنا به، ومن حرق، حرقناه، ومن غرق غرقناه) ومعنى
غرض أي اتخذه غرضاً للسهام، ولأن المقصود من القصاص التشفي، وإنما بكمل إذا
قتل بمثل ما قتل، وحديث النهي عن المثلة محمول على من وجب قتله، لا على وجه
المكافأة.
ويشترط أن تراعى المماثلة في طريق القتل، وتراعى في الكيفية والمقدار، ففي
التجويع يحبس مثل تلك المدةن ويمنع عنه الطعام، وفي الإلقاء في الماء، أو
النار يلغى في ماء، ونار مثلهما، ويترك تلك المدة، وتشد قوائمه عند الإلقاء
في الماء، إن كان يحسن السباحة، وفي الخنق، يخنق بمثل ما خنق، بمثل تلك
المدة، وفي الإلقاء من الشاهق يلقى من مثله، وتراعى صلابة الموضع، وفي
الضرب بالمثقل يراعى الحجم، وعدد الضربات، وإذا تعذر الوقوف على قدر الحجر،
أو النار، أو على عدد الضربات، اخذ باليقين، وقيل: يعدل إلى السيف، هذا إذا
عزم على أنه إن لم يمت بذلك قتله، فإن قال ولي الدم فإن لم يمت به عفوت عنه
لم يمكنه لما فيه من التعذيب، وفي السحر، يقتل بالسف لأن عموم السحر حرام،
لا شيء مباح فيشبهه، ولا ينضبط وفي الخبر (حد الساحر ضربه بالسيف) ولو قتله
بمسموم من طعام أو آلة اقتص منه بمثلها إذا لم يكن مهرياً يمنع الغسل، ولو
أنهشه حية، فإن كانت تلك الحية موجودة لم يعدل إلى غيرها، ولو كانت غير
موجودة جاز العدول إلى حية غيرها لتنهشه، وكذلك لو ألقاه في زريبة أسد
فافترسه، فإنه يلقى أمام الأسد ليفترسه كما فعل، ولو رجع شهود الزنا بعد
رجم المشهود عليه، اقتص منهم بالرجم، وإن رجعوا بعد موته بالجلد، اقتص منهم
وبالجلد، ولو جوع، كتجويعه فملم يمت في المدة الي جوع فيها المقتول، فإنه
يزاد في المدة حتى يموت، ليكون قتله بالطريق التي قتل به، ولا يبالي بزيادة
الإيلام، والتعذيب، كما لو ضرب رقبة إنسان بضربة واحدة ولم تنحز رقبته إلا
بضربتين، لأن المماثلة قد حصلتن ولم يبق إلا تفويت الروح فيجب تفويتها
بالأسهل.
ومن عدل من أولياء الدم عما تجوز فيه المماثلة، إلى الضرب بالسيف، فله ذلك،
سواء ارضي الجاني، أم لا، فإنه أرحم واسهل، بل هو أولى للخروج من الخلافن
أما إذا عدل إلى ذبحه كالبهيمة، لم يجز، لهتكه الحرمة، فإن كان الجاني قتل
بالسيف، ويريد ولي المقتول قتل الجاني بغير السيف، فإنه لا يمكن من ذلك.
ولو قطع يدهن فسى قطعه للنفس، فمات، فللولي حز رقبته ابتداء، لأنه أسهل على
الجاني من القطع، ثم الحز، وله القطه، للمماثلة، ثم الحز للرقبة حالاً
للسراية، ولا يجاب الجاني إذا قال لولي المجني عليه: امهلني عليه بعد
جنايتي، لثبوت حق القصاص ناجزاً، وإن شاء الولي
(5/269)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
أخر، وانتظر السراية، بعد القطع وليس للجاني أن يقول لولي المقتول ارحني
بالقتل أو العفو، بل الخيرة في ذلك إلى المستحق، لأنه صاحب الشأن.
ولو مات بجائفة أو كسر عضو، أو نحو ذلك مما لا قصاص فيه. فللولي حز الرقبة
بالسيف لا غير، لأن المماثلة لا تتحقق في هذه الحالة، بدليل عدم إيجاب
القصاص في ذلك عند الاندمال فوجب السيف، فإن قال ولي المقتول: أجيفه،
وأقتله أن لم يمت فله ذلك، وإن قال: أجيفه ثم أعفو لم يكن من ذلك.
ولو اقتص معطوع عضو فيه نسف الدية، من قاطعه، ثم مات المقطوع الأول
بالسراية، فلوليه حز الرقبة وله عفو بنصف الدية في تركة الجاني، ولو قطعت
يداه فاقتص المقطوع، ثم مات سراية فلوليه الحز لرقبة الجاني في مقابلة نفس
مورثه، فإن عفا عن قتله، فلا شيء له، لأنه استوفى ما يقابل الدية، ولو مات
الجاني سراية من قطع عضو منه قصاصاً، فنفسه هدر، لقوله تعالى: {ولمن انتصر
بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} .
وقد روى البعقي عن عمر، وعلي رضي الله عنهما: (من مات في حد، أو قصاص، فلا
دية له، والحق قتله) ولأنه مات من قطع يستحق، فلا يتعلق بسرايته ضمان، كقطع
يد السارق حداً,
قالوا: يأذن الإمام، أو نائبه لواحد من مستحقي القصاص في استيفائه بنفسه،
في النفس إذا طلب ذلك ليكمل له التشفي.
الحنفية قالوا: لا يجوز أن يستوفى القصاص إلا بالسيف خاصة، في جميع
الأحوال، سواء كان القتل به أم بغيره، واحتجوا على مذهبهم بما أخرجه
البزار، وابن عدي، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال: (لا قود إلا بالسيف) وواحتجوا بأن الشارع نهى عن المثلة،
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة) .
فقول الرسول صلى الله عليه وسلم (لا قود إلا بالسيف) نص على نفي استيفاء
القصاص بغيره. ويلحق به ما كان سلاحاً من غير السيف، كالمدفع، والبندقة،
وغيرهما، ولأن فيما ذهب الأئمة إليه استيفاء لزيادة، فلم يحصل المقصود بمثل
ما فعل الجاني، فيجب التحرز عنه، كما في كسر العظم والجائفة، ولأن الآلة في
الاغراق، والخنق، وإلاحراق، غير معدة للقتل، ولا مستعملة فيه لتعذر
استعمالها، فتمكنت شبهد عد العمدية، ولأن القصاص مبني على المماثلة، ومنه
يقال: اقتص أثره، ولا تماثل بين الجرح والدق، لقصور الثاني عن تخريب
الطاهر، وكذا لا يتماثلان في حكمة الزجر، لأن القتل بالسيف غالب، وبالمثقل
نادر.
وأما ما رواه الشافعية من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من غرق غرقناه
ومن حرق حرقناه، من قتل عبداً قتلناه) فهو غير مرفع لأنه يلزم على قولهم
أنه يجوز التحريق بالتحريق، وهو منهي عنه شرعاً، فقد
(5/270)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تعذبوا أحداً بعذاب الله) أو
أن الحديث محمول على السياسة، حيث اضافه صلى الله عليه وسلم إلى نفسه فقال:
(غرقنا) ولم يقل صلوات الله
وسلامه عليه (حرقوه أو غرقوه) وقد استدل الأحناف بهذا الحديث في وجوب
القصاص، ولم يعملوا به، في الاستيفاء لقول صلى الله عليه وسلم: (لا قود إلا
بالسيف) فهو أقوى من الحديث الثاني عند أهل الحديث وقد ذكر بعده، فنسخ
حكمه.
مبحث من قتل ثم لجأ إلى الحرم
الشافعية قالوا: يقتص المستحق على الفور في النفس، وكذلك في الأطراف على
المذهب لأن القصاص موجب الاتلاف، فيتعجل كقيم المتلفات، والتأخير لاحتمال
العفو.
قالوا: ويقتص في الحرم، لأن الحرم لا يمنع من القصاص، كقتل الحية والعقرب
داخل الاحرم، وسواء التجأ إليه أم لا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما
دخل مكة عامم الفتح وسمع به عبد الله بن خطل التميمي الذي ارتد بعد إسلامه،
وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم في شعره ويلقنه لجاريتيه المغنيتين،
فتتغنيان به، فخاف من الرسول وتعلق بأستار الكعبة ليستجير بها، وعند طواف
النبي صلى الله عليه وسلم بها أخبر بحالته، فقال: (اقتلوه) فإن الكعبية لا
تعيذ عاصياً، ولا تمنع من إقامة حد واجب فقتل وكذلك الحويرث بن نقيد، فإنه
كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم بهجائه، فقتله الإمام على رضي الله
تبارك وتعالى عنه بمكة المكرمة.
وكذلك المقيدس بن صبابة الكندي عبد أن ارتد ورجع إلى مكة، فامر النبي صلى
الله عليه وسلم بقتله، واهدر دمه، فقتله ابن عمه نميلة بن عبد الله الليثي،
وهو متعلق بأستار الكعبة، وقيل: بمحل آخر، ولأن القصاص على القور، فلا
يؤخر.
فلو التجأ الجاني إلى الكعبة، أو المسجد الحرام، أو غيره من المساجد، أو
إلى ملك إنسان فيخرج منه ثم يقتل صيانة للمسجد، ولأنه يمتنع استعمال ملك
الغير بغير غذنه، فإن هذا التأخير يسير، وخوفاً من تلوث المسجد الحرام أو
المساجد الأخرى، فيخرج منها، وكذا يقتل لو التجأ الجاني إلى مقابر
المسلمين، ولم يمكن قتله إلا بإراقة الدم عليها، وإذا لم يخرج الجاني من
الحرم، ومكث فيه جاز إقامة القصاص عليه وقتله فيه، فإن حرمة دم الآدمي أقوى
من حرمة البيت.
المالكية قالوا: لو قتل شخص إنساناً في الحل ثم دخل الحرم بعد ارتكاب
جنايته فلا يؤخر، بل يجب إخراجه من الحرم، ويقام عليه الحد خارج الحرم، ولو
كان الجاني محرماً، ولا ينتظر لإتمامه ولا يجوز إقامة القصاص في الحرم عليه
لئلا يؤدي إلى تنجسه بالدماء، وسواء فعل موجب القصاص في داخل الحرم، أم
فعله خارجه ثم لجأ إليه، ليهرب من تنفيذ القصاص
وأما قوله تعالى: {ومن دخله كان آمناً} فهو إخبار عما كان عليه الناس في
الجاهلية، كما قال الحسن البصري وغيره: كان الرجل يقتل فيضع في عنقه صوفة،
ودخل الحرم فيلقاه ابن القتول، فلا يهيجه حتى يخرج.
(5/271)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
وقال ابن أبي حاتم: حدّثنا أبو سعيد الأشج، حدّثنا أبو يحيى التميمي عن
عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله تعالى: {ومن دخله كان آمناً}
قال: (من عاذ بالبيت اعاذه البيت، ولكن لا يؤوى، ولا يطعم، ولا سقى، فإذا
خرج أخذ بذنبه) .
وروي في الصحيحين، والفظ لمسلمعن أبي شريح العدوي، أنه قال لعمرو بن سعيد
وهو يبعث البعوث إلى مكة: ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولاً قال قال به
رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح سمعته اذناي، ووعاه قلبين
وأبصرته عيناي حين تكلم به، أنه حمد الله، وأثنى عليه ثم قال: (مكة حرمها
الله، ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر، أن يسفك
بها دماً، أو يعيضد بها شجراً، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه
وسلم فيها، فقولوا له إن الله أذن لنبيه، ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها
ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالآمس، فليبلغ الشاهد
الغائب) فقيل لأبي شريح ما قاله لك عمرو؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا
شريح: إن الحم لا يعيذ عاصياً، ولا فاراً بدم، ولا فاراً بدم، ولا فاراً
بجزية، وقيل: الجملة إنشائية معنى أي آمناً من القتل، والظلم، إلا بموجب
شرعي، وهذا هو الإثم الذي ذكره الله تعالى بقوله: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم
نذقه من عذاب أليم} . آية 25 من سور الحج.
الحنفية رحمهم الله تعالى قالوا: إذا قتل رجل إنساناً عمداً خارج الحرم، ثم
لجأ إليه ليفر من القصاص وأقام بالحرم، أو وجب القتل عليه ردة، أو زنا وهو
محصن، أو بسبب خروجه على جماعة المسلمين، ثم لجأ إلى الحرم بمكة المكرمة،
فلا يجب قتله ما دام في الحرم، لحرمة القتل في الحرم، لقول تعالى: {ومن
دخله كان آمنا} يعنى حرم مكة إذا دخله الخائف يأمن من كل سوء، فمن عاذ
بالبيت أعاذه البيت، وورد في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
يوم فتح مكة: (إن هذا البلد حرم الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام
بحرمة الله إلى يوم القيامة، وأنه لم يحل القتل فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي
إلا في ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه،
ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاها، فقال
العباس: يا رسول الله إلا الأذخر، فإنه لقينهم ولبيوتهم، فقال: (إلا
الادخر) وقد ورد في تأمين من دخل الحرم عدة آيات منها قوله تعالى {واذ
جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً} ومنه قوله تعالى {واذ قال إبراهيم رب اجعل
هذا بلداً آمناً} آيتي 125، 126 من سور البقرة، وقال تعالى: {الذي أطعمهم
من جوع وآمنهم من خوف} آية 4 من سورة قريش فظاهر الآية الكريمة الإخبار عن
كون من دخله آمناً، ولكن لا يمكن حمله عليه إذ قد لا يصير آمناً فيقع الخلف
في الخبر، فودب حمله على الأمر، أي آمنوا من دخل الحرم وترك العمل به في
الجنايات التي دون النفس لأن الضرر فيها أخف من قتل النفس، وفيما إذا وجب
على الجاني القصاص لجناية ارتكبها داخل الحرم، فإنه يجوز أن يقتل في الحرم
في هذه الحالة، لأنه هو الذي هتك حرمة الحرم، فلا يحترم دمه، أما إذا ارتكب
الجناية خارج الحرم ثم التجأ إليه فلا يستوفي فيه بل يجب أن يضيق عليه،
فيمنع من
الطعام والشراب والكلام والمعاملة، حتى يخرج من الحرم
(5/272)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
فيستوفى منه القصاص ويقتل أو يموت داخل الحرم بالجوع والصد، وذلك تعظيماً
لحرمة البيت الحرام. الحنابلة قالوا: لا يستوفى من الملتجىء إلى الحرم
قصاصاً مطلقاً، سواء ارتكب الجناية خارج الحرم والتجأ إليه واحتمى به، أو
ارتكب جنايته داخل الحرم واعتصم به، وسواء كان القصاص في النفس أو الأطراف،
ولا يضيق عليه، حتى يخرج من الحرم، أو يموت، فإن خرج من الحرم، قتل بذنبه،
ونفذ عليه القصاص الواجب عليه، وإلا ترك وشأنه في الحرم. وذلك لنص الآيات
الواردة في في تأمين من دخل الحرم قال تعالى: {ومن دخله كان آمناً} تأكيداً
لفضيلة الحرم، واحتراماً لقدسيته، لشدة حرمة الحرم في الكتاب والسنة الذي
هو حضرة الله تعالى الخالصة، فيحمل هنا على حال الحاكم الذي غلبت عليه هيبة
المولى عز وجل. وهيبة بيته الحرام، فانطوت فيها إقامة حدوده حرمة له، فأخر
القصاص مدة عن الجاني حتى يخرج من الحرم.
مبحث ما لا يجب عليه القصاص في العمد
الحنفية قالوا: لا يجب القصاص على المسلم إذا قتل المستأمن لأنه غير محقون
الدم على التأبيد، لأن كفره باعث على الحراب، لأنه على قصد الرجوع إلى
داره، فكان كالحربي،
ولا يقتل الذمي بالمستأمن، لقيام المبيح، وعدم التكافؤ.
ولا يقتل الرجل بابنه، لقوله صلوات الله وسلامه عليه: (لا يقاد الوالد
بولده) وهو معلوم بكونه سبباً لإحيائه، فإن المحال أن يتسبب لفنائه، ويلحق
بالأب الأم، وكذلك الجد والجدة من قبل الأب، والأم، وإن سفل.
ولا يقتل الرجل بعبده، ولا مدبره، ولا مكاتبه، ولا بعبد ولده، لأنه لا
يستوجب لنفسه على نفسه القصاص، ولا يستوجب ولده على أبيه، إذا قتل الأب
ولده عبده.
ولا يقتل الرجل بقتل عبد ملك بعضه. بهبة، أو ميراث، أو شراء، لأن القصاص لا
يتجزأ.
ومن ورث قصاصاً على أبيه، مثل أن يقتل الرجل أم ابنه الكبير مثلاً، سقط
القصاص عن الأب، لحرمة الأبوة.
وإن قتل عبد الرهن في يد المرتهن لم يجب القصاص حتى يجتمع الراهن والمرتهن،
لأن المرتهن لا ملك له فلا يليه، والراهن لو تولاه لبطل حق المرتهن في
الدين فيجب اجتماعهما، ليسقط حق المرتهن برضاه.
والعبد الذي أعتق بعضه إذا مات ولم يترك وفاء، فلا يجب القصاص على قاتله،
لأن ملك المولى لا يعود بموته، ولا ينفسخ بالعجر ما عتق منه.
(5/273)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
ومن غرق صبياً، أو بالغاً في البحر فلا قصاص عليه، عن أبي حنيفة، وقال
الصاحبان يجب عليه القصاص، ويستوفى منه القصاص بحز رقبته بالسيف.
ومن رمى رجلاً بسهم عمداً، فنفذ منه السهم إلى رجل آخر وأصابه وماتا معاً،
فيجب عليه القصاص في الأول، وتجب الدية لورثة الثاني على عائلة الرجل
القاتل. لأن الول عمد، والثاني احد فرعي الخطأ، فكأنه رمى صيداً فأصاب
آدمياً، والقتل يتعدد بتعدد أثره، ولا قصاص على من قتل لصاً دخل عليه ليلاً
وأخرج ماله، أو اعتدى على عرضه، ولا قصاص على صبي ولا مجنون، لانهما غير
مكلفين: يجب الدية على العاقلة، ولا قصاص على مسلم قتل مسلماً ظن أنه مشرك
عند التقاء الصغين من المسلمين والمشركين ولا قصاص على من قتل رجلاً
باغياً، شهر سيفه على المسلمين في طريقهم ليعتدي عليهم.
الشافعية، والحنابلة - قالوا: يشترط لوجوب القصاص في القتيل إسلامه لخبر
مسلم عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا
إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم، وأموالهم إلا بحقها) ويشترط
أمان المقتول، إما بعقد ذمة، وإما بعهد، أو أمان مجرد لقوله تعالى: {وإن
أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} آية [6: من التوبة] .
فلا يجب القصاص على قاتل الحربي، لأنه مهدر الدم لعموم قوله تعالى:
{فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} آية [5: من التوبة] .
فلا قصاص على من قتل المرتد عن الإسلام والعياذ بالله تعالى لقوله صلوات
الله وسلامه عليه. (من بدل دينه فاقتلوه) .
ويسقط القصاص عن الصبي والمجنون، لما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه
قال: (رفع القلم عن ثلاث) وإنما يسقط القصاص عن المجنون إذا كان جنونه
مطبقاً لا يقيف منه، أما الجنون المتقطع فينظر إن كان في زمن إفاقته فهو
كالعاقل الذي لا جنون به، وإن كان الحادث وقع في زمن جنونه، فهو كالمجنون
الذي لا إفاقة له.
أما السكران، فالظاهر من المذهب وجوب القصاص عليه إن تعدى بسكره لأنه مكلف،
ولئلا يؤدي إلى ترك القصاص، لأن من رام القتل لا يعجز أن يسكر حتى لا يقتص
منه، وألحق به من تعدى بشراب دواء مزيل للعقل، فإنه يقتص منه.
أما السكران غير المعتدين فهو كالمعتوه فلا قصاص عليه.
ولو قال: كنت يوم القتل صبياً أو مجنوناً، وكذبه لي المقتول، صدق القاتل
بيمينه، إن أمكن الصبا وقت القتل وعهد الجنون قبله، لأن الأصل بقؤهما،
بخلاف ما إذا لم يمكن صباه، ولم يعهد جنونه فإنه يقتص منه.
ولو قال القاتل: أنا الآن صبي وأمكن فلا قصاص عليه، ولا يحلف أنه صبي لأن
التحليف.
(5/274)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
لاثبات صباه، ولو ثبت لبطلت يمينه، ففي تحليف إبطال لتحليف، ولا قصاص على
حربي قتل حال حرابته، ثم عصم بعد ذلك بإسلام، أو ذمة، لما تواتر من فعله
صلى الله عليه وسلم والصحابة بعده. من عدم القصاص ممن أسلم، لأن الإسلام
يجب ما قبله، وقد عفا الرسول صلى الله عليه وسلم عن وحشي قاتل حمزة رضي
الله تعالى عنه، ولا يقتل مسلم ولو كان زانياً محصناً، بقتل ذمي، للحديث
الوارد في صحيح البخاري رحمه الله تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: (ألا لا يقتل مسلم بكافر) لأنهم اشترطوا في القاتل مكافأته للقتيل،
بأن لم يفضله بإسلام، أو أما، أو جزية، أو أصلية، أو سيادة، ولهذا لا يقتل
ذمي بمرتد، ولا يقتل حر بمن فيه رق، ولو قت الحر المسلم شخصاً لا يعلم أنه
مسلم أو كافر، ولا أنه حر، أو عبد فلا قصاص للشبهة، ولا يقتل المكاتب إذا
قتل عبده ولا قصاص على من بعضه حر وبعضه عبد، إذا قتل مثله، سواء ازدادت،
حرية القاتل على حرية المقتول أم لا، لأنه لم يقتل بالبعض الحر البعض الحر،
وبالرقيق الرقيق، بل قتله جيمعه بجيمعه حرية ورقا شائعاً، فيلزم قتل جزء
حرية بجزء رق وهو ممتنع.
ولا قصاص بين عبد مسلم، وحر ذمي، لأن المسلم لا يقتل باذمي، والحر لا يقتل
بالعبد، ولا تجبر فضيلة كل منهما بضعته. ولو قتل ذمي عبداً ثم نقض العهد
واسترق لا يجوز قتله، وإن صار كفؤاً له، لأن الاعتبار بوقت الجناية، ولم
يكن مكافئاً له. ولا قصاص بقتل ولد للقال، وإن سفل للحديث الوارد في
الحاكم، والبيهقي وصححاه. إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقاد
للابن من أبيه) ولرعاية حرمته، وكذا لا قصاص على الأم، والأجداد والجدات،
وإن علوا من قبل الأم والأب لأن الحكم يتعلق بالولادة، فاستوى فيه من ذكر
كالنفقة.
ولا قصاص للولد على الوالد، كأن قتل الرجل زوجة نفسه، وله منها ولد، فصار
ولياً لدمها، أو قتل الأب زوجة ابنه، أو لزمه قود فورث بعضه ولده، كأن قتل
أبا زوجته، ثم ماتت الزوجة، وله منها ولد فورث الدم عن أمه، لأنه إذا لم
يقتل بجنايته على ولده، فلأن لا يقتل بجنايته على من له في قتله حق أولى.
ويقتل الولد الحر المسلم، بالوالد الكافر.
ولو تداعيا قتيلاً مجهولاً نسبه فقتله أحدهما، قبل تبين حاله، فلا قصاص في
الحال، لأن أحدهما أبوه، وقد اشتبه الأمر، فهو كما لو اشتبه طاهر بنجس لا
يستعمل أحدهما بغير اجتهاد بل يعرض الأمر على القائف، فإن ألحقه القائف
بالآخر، اقتص الآخر لثبوت أوته، وانقطاع نسبه عن القاتل، وإن لم يلحقه
القائف بالآخر، فلا يقتص لعدم ثبوت الأبوة.
ولو أشتركا في قتله، وألحقه الفائف بأحدهما، اقتص من الآخر (الأجنبي) لأنه
شريك الأب. ولا قصاص على مسلم إذا رمى مسلماً. ثم ارتد والعياذ بالله تعالى
وهو مجروح بالرماية ثم مات بسبب السراية، مرتداً لأنه لو قتل حينئذ مباشرة
لم يجب فيه شيء.
المالكية قالوا: يسقط القصاص عن الصبي، وعن المجنون الذي ارتكب الجناية حال
جنونه،
(5/275)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
أما إذا ارتكب الجناية حال إفاقته، فإنه يقتص منه، فإن جن انتظر حتى يفيق،
فإن لم يفق فالدية في ماله ولا قصاص، على السكران، وإن كان سكره بحلال،
لأنه كالمجنون، فتجب الدية على عاقلته، كالمخطئ وإن كان سكر بحرام فهو
مكلف، ولا يقتل الحبي قصاصاً بل يهدر دمه، لأن العصمة تكون بإيمان، أو
أمان، ولا يقتل حر بذمي، ولا يقتل مسلم بذمي حر، لأن الإسلام أعلى من حرية
الذمي، والأعلى لا يقتل بالأدنى، لأنه يشترط عندهم أن لا يكون القاتل
زائداً حرية، أو إسلاماً عن المجني عليه، ولا قصاص علىقاتل الحربي، والمرتد
لعدم العصمة عندهما.
مبحث في تغير حال المجروح من الجرح إلى الموت
الشافعية، والحنابلة - قالوا: في شأن تغيير حال المجروح من وقت الجرح إلى
الموت بعصمة، أو حرية أو إهدار، أو غيره إذا جرح مسلم، أو ذمي، حربياً، أو
مرتداً، أو عبد نفسه، فأسلم الحربي، أو المرتد، أو أمن الحربي، وعتق العبد،
ثم مات بسراية الجرح، فلا ضمان بمال، ولا قصاص، لأن الجرح السابق غير
مضمون.
وقيل: تجب دية مخففة اعتباراً بحال استقرار الجناية، والمراد دية حر مسلم،
لأن كل جرح أوله غير مضمون لا ينقلب مضموناً بتغير الحال في الانتهاء، وإن
كان مضموناً في أوله فقط فالنفس هدر، ويجب ضمان تلك الجناية، وإن كان
مضموناً في الحالتين اعتبر في قدر الضمان الانتهاء، ويتبر في القصاص
المكافأة عن الفعل إلى الانتهاء، وحينئذ فلو رمى مسلم، مرتداً، أو حربياً،
أو عبد نفسه، فأسلم الحربي، أو المرتد، أو أمن الحربي، أو عتق العبد، ثم
أصابه السهم، فلا قصاص قطعاً، لعدم المكافأة من أول أجزاء الجناية.
والمذهب، وجوب دية مسلم اعتباراً بحال الإصابة، لانها حالة اتصال الجناية
والرمي كالمقدمة التي تيسبب بها إلى الجناية، كما لو حفر بئراً، وهناك
حربي، أو مرتد فأسلم ثم وقع فيها فإنه يضمنه، وإن كان عند السببب مهدراً،
وعبد نفسه، اولى بالضمان منهما. لأنه معصوم مضمون بالكفارة.
والأصح في المذهب وجوب الدية مخففة، مضروبة على العاقلة، لانها دية خطأ،
كما لو رمى إلى صيد فأصاب آدمياً، وقيل: دية شبه عمد، وقيل: عمد.
وعكس هذا، كما لو جرح حربي مسلماً ثم أسلم الجارح، أو عقدت له ذمة، ثم مات
المجروح فلا ضمان على الصحيح، ولو ارتد المسلم المجروح والعياذ بالله ثم
مات بالسراية مرتداً، وجارحه غير مرتد، فالنفس هدر، لا قود فيها، ولا دية،
ولاكفارة، سواء أكان الجارح الإمام، أم غيره. لأنه لو قتل حينئذ مباشرة، لم
يجب فيه شيء فكذا بالسراية، أما إذا كان جارحه مرتداً، فإنه
(5/276)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
يجب عليه القصاص، ولكن قصاص الجرح، إن كان مما يوجب القصاص، كالموضحة، وقطع
الطرف، في الأظهر، لأن القصاص في الطرف منفرد عن القصاص في النفس فهو كما
لو لم يسر.
وقيل: لا قصاص عليه، لأن الجراحة صارت نفساً، وهي مهدرة، فكذا الطرف أما لو
قطع يد مسلم ثم ارتد، واندملت يده فله القصاص، وإن مات قبل استيفائه،
يستوفيه، قريب المسلم لأن القصاص للتشفي، حتى ولو كان القريب ناقصاً،
النظروا كماله ليستوفي حقه.
وقيل: يستوفي الإمام، لأن المرتد لا وارث له فيستوفيه الإمام، كما يستوفي
قصاص من لا وارث له، وعلى الأول يجوز أن يعفو قريبه على مال، ياخذه الإمام
لبيت المال فإن اقتضى الجرح للمرتد مالا كقطع طرف خطأ، وجب أقل الأمرين، من
أرش الجرح، ودية النفس، لأنه المتيقن، فإن كان الأرش أقل كجائفة، لم يزد
بالسراية في الردة شيء وإن كانت دية النفس أقل، كأن قطع يديه ورجليه، ثم
ارتد ومات، لم يجب أكثر منهما لأنه لو مات مسلماً بالسراية لم يجب أكثر
منهما.
وقيل: وجب ارشه بالغاً ما بلغ، ولو زاذ على الدية، ففي قطع يديه، ورجليه
ديتان، وقيل: هذا الجرح هدر، فلا ضمان فيه، لأن الجراحة إذا سرت صارت
قتلاً، وصارت الأطراف تابعة للنفس، والنفس مهدرة، فكذلك ما يتبعها.
هذا كله إذا طرأت الردة بعد الجرح، فلو طرأت بعد الرمي وقبل الإصابة. فلا
ضمان بالاتفاق. أنه حين جنى عليه كان مرتداً.
ولو ارتد المجروح، ثم اسلم فمات بالسراية، فلا قصاص في الصح مطلقاً، لأنه
انتهى إلى حالة لو ما فيها لم يجب القصاص، فصار شبهة دارئة للقصاص.
وقيل: إن قصرت الردة، بأن لم يض في الردة زمن يسري فيه الجرح، وجب القصاص،
لانها إذا قصرت لم يظهر فيها أثر السراية، فإن طال الزمن، لم يجب القصاص
قطعاً، وعلى القول الأول تجب الدية في ماله بكمالها لوقوع الجرح، والموت في
حالة العصمة.
وقيل: يجب عليه نصفها، توزيعاً على حالتي العصمة والإهدار.
ولو جرح مسلم ذمياً، فاسلم، أو جرح عبداً لغيره فعتق، ومات بالسراية فلا
قصاص على الجارح في الصورتين، لأنه لم يقصد بالجناية من يطافئه، فكان شبهة،
وتجب دية حر مسل، لأنه كان مضموناً في الابتداء، وفي الانتهاء حر مسلم، فإن
كان العبد كافراً وجب دية حر كافر، فإن اندمل الجرح، وبرئ ثم مات، فإنه يجب
عليه ارش الجناية، ويكون الواجب في العبد لسيده، ودية العتيق إن مات
بالسراية، ولم يكن لجرحه عليه أرش الجناية الواقعة في ملكه، ولا يتعين حقه
فيها، بل للجاني العدول لقيمتها، وإن كانت الدية موجودة، فإذا تسلم الدراهم
أجبر السيد على قبولها، فإن زادت دية العبد على قيمته، فالزيادة تكون
لورثته، لأنها وجبت بسبب الحرية، ولو كان لجرحه أرش مقدر كأن قطع يد
(5/277)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
عبد أو فقأ عينهن فعتق ثم مات بسراية، ووجب كمال الدية، فللسيد الأقل من
الدية الواجبة، ومن نصف قيمته، وهو أرش العضو الذي تلف في ملكه لو اندملت
الحراحة. لأن السراية لم تحصل في الرق، حتى يعتبر في حق السيدن فإن كانت
الدية أقل فلا واحب غيرها، وإن كان نصف القيمة أقل فهو أرش الجناية الواقعة
في ملكه.
وقيل: للسيد الأقل من الدية، ومن قيمته، ولو قطع يد العبد شخص فعتق، فجرحه
آخران مثلاً كأن قطع أحدهما يده الأخرى والآخر إدى رجليه، ومات بسرايتهم
فلا قصاص على الأول إن كان حراً لعدم المكافأة حال الجناية، ويجب على
الآخرين قصاص الطرف قطعاً، وقصاص النفس على المذهب اهـ.
الحنفية: من رمى مسلماً، فارتد المرمي إليه والعياذ بالله ثم وقع السهم
عليه، فيجب على الرامي الدية عند أبي حنيفة، وقال الصاحبان، لا شيء عليه،
لأنه بالارتداد أسقط تقوم نفسه، وذلك ابراء للضامن، لأن من أخرج المتقوم عن
التقوم سقط كالمغصوب منه، إذا اعتق المغصوب، فإنه صار مبرئاً للغاصب عن
الضمان بإسقاط حقه، وصار به مبرأ، كما إذا أبرأه الرامي عن الجناية، أو حقه
بعد الجرح، أي انعقاد سببه، وهو الرمي قبل أن يصيبه السهم.
ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى، أن الضمان يجب بفعله وهو الرمي إذ لافعل منه
بعد: وماهو كذلك، فالمعتبر فيه وقت الفعل كالغضب، فيعتبر حالة الرامين
والمرمي إليه فيها متقوم. واستوضح اعتبار وقت الرمي، بما إذا رمى صيداً ثم
ارتد والعياذ بالله ثم أصاب، فإن ردته بعد الرمي لاتحرم، لأن فعله ذكاة
شرعاً، وقد تم موجباً للحل بشرطهن وهو التسمية، وبما إذا كانت الجناية خطأ،
فكفر بعد الرمي. قبل الإصابة فإنه صحيح، والفعل وإن كان عمداً، فالقود يسقط
بالشبهة الناشئة من اعتبار حالة الإصابة. وجبت الدية في ماله، ولو كانت
المسألة بالعكس، فلا شيء في قولهم جميعاً، وكذا إذا رمى حربياً فأسلم، ثم
وقع به السهم، لأن الرمي ما انعقد موجباً للضمان لعدم تقوم المحل، فلا
ينقلب موجباً لصيرورته متقوماً بعد ذلك.
وإن رمى عبداً فأعتقه مولاه ثم وقع السهم به فعليه قيمته للمولى عند أبي
حنيفة وابي يوسف.
وقال محمد: عليه فضل ما بين قيمته مرمياً إلى غير مرمي، حتى لو كانت قيمته
قبل الرمي ألف درهم، وبعده ثمانمائة درهم لزمه مائتا درهم، لأن العتق قاطع
للسراية لاشتباه من له الحق، لأن المستحق حال ابتداء الجناية المولى، وحال
الإصابة العبدن لحريته، فصار العتق بمنزلة البرء، كما إذا قطع يد عبد، أو
جرحه، ثم أعتقه المولى، ثم سرى فإن العتق يقطع السراية، حتى لا يجب بعد
العتق شيء من الدية والقيمة، وإنما يضمن النقصان، وغا انقطع بقي مجر الرمي
وهو جناية ينتقص بها قيمة المرمي إليه، بالإضافة إلى ما قبل الرمي، فيجب
ذلك.
ولهما: أنه يصير قتلاً من وقت الرمي لأن فعله الرمي وهو مملوك في تلك
الحالة فتجب قيمته،
(5/278)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
بخلاف القطع والجرح، لأنه اتلاف بعض المحل، وأنه يوجب الضمان للمولى. وبعد
السراية لو وجب شيء، لوجب للعبد فتصير النهاية مخالفة للبداية.
أما الرمي قبل الإصابة ليس بإتلاف شيء منه، لأنه لا أثر له في المحل، وإنما
قلت الرغبات فيه فلا يجب به ضمان، فلا تتخالف البداية والنهاية، فتجب قيمته
للمولى، ومن قضي عليه بالرجم فرماه رجل ثم رجع احد الشهود، ثم وقع به
الحجرن فلا شيء على الرامي، لأن الممعتبر حالة الرمي وهو مباح الدم فيها
اهـ.
المالكية قالوا: من رمى شخصاً مسلماً، فارتد المرمي والعياذ بالله ثم أصابه
السهم، فلا شيء على الرامي، بل يكون دمه هدراً، ولا قصاص ولا دية عليه، لأن
التلف حصل في محل لا عصمة له، فيكون هدراً، كما لو جرحه ثم ارتد ثم مات،
وكما لو أبرأه بعد الجرح عن الجنايةن أو عن حقه، وكما لو أبرأه عن الجناية
ثم اصابه السهم، وكما لو اعتق المالك العبد المغصوب يصير مبرئاً للغاصب عن
الضمان لأنه يشترط في المجني عليه العصمة من وقت الضرب، أو الرمي بالسهم
للموت، ولأنه بالارتداد أسقط تقوم نفسه، فيكون مبرئاً للرامي عن موجبه، كما
إذا أبرأه عن حقه بعد القطع وقبل الموتن فإنه يكون هدراً ولا ضمان له، ولأن
عدم وجب الضمان باعتبار أن الارتداد قاطع للسراية كالعتق، لا باعتبار أنه
صار مبرئاً، وكذا تعتبر العصمة حالة الرمي، فمن رمى غير معصوم، أو أنقص منه
برق أو كفر، فأسلم قبل الإصابة، أو عتق الرقيق، لم يقتص من الرامي، وأما من
قطع يد معصوم مثلاًفارتد المقطوع، ثم مات من القطع مرتداً، فإنه يثبت
القصاص في القطع فقط، لأنه كان معصوماً حال القطع.
مبحث في حكم الفعلين
الحنفية قالوا: ومن قطع يد رجل خطأ ثم قتله عمداً قبل أن تبرأ يده أو قطع
يده عمداً ثم قتله خطأ، أو قطع يده خطأ فبرأت يده، ثم قتله خطأ، أو قطع يده
عمداً فبرأت، ثم قتله عمداً، فإنه يؤخد بالأمرين جميعاً، فإن الصل فيه: أن
الجمع بين الجراحات واجب ما أمكن تتميماً للأول، لأن القتل في الأعم يقع
بضربات متعاقبة، وفي اعتبار كل ضربة بنفسها بعض الحرج، إلا أن لا يمكن
الجمع فيعطى كل واحد حكم نفسه، وقد تعذر الجمع فيهذه الصور، في الأولين،
لاختلاف حكم الفعلين وضعاً موجباً، لأن احد الفعلين خطأ، والثاني عمد، وفي
الآخرين متعذر الجمع أيضاً لتخلل البرء، فلا جمع اصلاً، لأن الفعل الأول قد
انتهى، فا البرء قاطع للسراية، فيكون القتل بعده ابتداء، فلا بد من اعتبار
كل واحد منهما، حتى لو لم يتخلل وقد تجانسا، بأن كانا خطأين، فإنه يجمع بين
الأمرين بالإجماع، لإمكان الجمع، واكتفى بدية واحدة، حيث انفى المانع من
الجمع، وهو تخلل البرء، والاختلاف.
وإن تجانسا عمداً، بأن كان قطع يده عمداً، ثم قتله عمداً، قبل أن تبرأ يده،
فقد اختلف فيه.
(5/279)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: الولي بالخيار بين أن يقطع ثم يقتل، وبين
أن يكتفي بالقتل، وبين أن يكتفي بالقتل.
وقال الصاحبان: يقتل ولا تقطع يده لأن الجمع ممكن لتجانس الفعلين، وعدم
تخلل البرء بينهما فيجمع بينهما.
وقال أبو حينفة: أن الجمع متعذر إما للاختلاف بين الفعلين هذين، لأن الموجب
القود، وهو يعتمد المساواة في الفعلنوذك بأن يكون القتل بالقتل، والقطع
بالقطع، وهو متعذر، أو لأن الحر يقطع إضافة السراية إلى القطع، حتى لو صدر
من شخصين يجب الوقد على الحاز، فصار كتخلل البرء، بخلاف ما إذا قطع وسرى
لأن الفعل وواحد، وبخلاف ما إذا كانا خطأينن لأن الموجب الدية، وهي بدل
النفس، من غير اعتبار المساواة.
قال الإمام أبو حنيفة: ولأن أرش اليد إنما يجب عند استحكام أثر الفعل، وذلك
بالحز القاطع للسراية، فيجتمع ضمان الكل، وضمان الجزء في حالة واحدة، وهي
حالة الحز، وفي ذلك تكرار دية اليد، لأن ضمان الكل يشملها، والتكرار غير
مشروع، فلا يجتمعان، أما القطع والقتل قصاصاَ يجتمعان لأن مبنى القصاص
المساواة، وهي إنما تتحقق باجتماعهما، لأن العمد مبناه على التغليظ
والتشديد، ولهذا تقتل العشرة بالواحد، وفي مراعاة صورة الفعل معنى التغليظ
فيجوز اعتباره فيه، وأما الخطأ فمبناه على التخفيف ألا ترى أن الدية لا
تتعدد بتعدد القاتلين، فاعتبار التغليظ فيه لا يكون مناسباً.
ومن ضرب رجلاً مائة سوط فبرأ من تسعين، ومات من عشرة، ففيه دية واحدة، لأنه
لما برأ منها لا تبقى معتبرة في حق الأرش، وإن بقيت معتبرة في حق التعزير،
فبقي الاعتبار للعشرة أسواط، وكذلك كل جراحة اندملت، ولم يبق لها أثر على
أصل أبي حنيفة، وعند أبي يوسف في مثله حكومة عدل، وعن محمد أنه تجب أجرة
الطبيب. وإن ضرب رجلا مائة سوط، وجرحته، وبقي له أثر تجب حكومة العدل لبقاء
الثر والأرش إنما يجب باعتبار الأثر في النفس، بأن لم يبرأ وليس ذلك
بموجود، بل الأثر هو الموجود، فإن لم يجرح في الابتداء فلا يجب شيء باتفاقن
وإن جرح واندمل ولم يبق لها أثر فكذلك كما هو رأي أبي حنيفة رحمه الله،
لأنه لم يكن إلا مجرد الألم، وهو لا يوجب شيئاً، كما لو ضربه ضرباً مؤلماً.
الشافعية، والحنابلة رحمهم الله - قالوا: إذا قطع الرجل يد شخص، ثم بعد
القطع قتل الشخص القاطع، الشخص المقطوعة يده، فإنه يجب أن تقطع يد القاطع
اولاً، ثم بعد القطع يجب أن يقتل حداً طلباً للمماثلة، قال تعالى: {فمن
اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} .
وإن قطع رجل يد شخص آخر، فمات المقطوعة يده من ذلك القطع بسبب السراية،
فقطع يد الرجل القاطع، فإن مات الجاني الذي قطعت يده بسبب السراية فالأمر
ظاهر، وهو المطلوب من مراعاة القصاص، وإن لم يمت بقطع يده، قتل لتحقق
الممالثلة بالقصاص.
(5/280)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
قالوا: ويجوز للولي أن ينتظر للولي أن ينتظر بعد القطع هل يموت سرايةن أم
لا؟ فله بعد ذلك المبادرة إلى حز بقبته بالسيف قصاصاً، ويجوز له حزها
ابتداء كما في المسألة الولى لا ستحقاقه له.
قالوا: لو جرح إنسان شخصاً جراحة واحدة، وجرحه شخص آخر بعد مائة جراحة،
ومات بسبب الواحدة والمائة، وكانت تلك الجراحة الواحدة، والجراحات المائة
لو انفردت كل منهما لقتلت، لزم صاحب الجراحة الواحدة، وصاحب المائة جراحة،
القصاص مطلقاً سواء تواطآ على قتله معاً، أم لا؟ إذ رب جرح له نكاية في
الباطن، اخطر من جروح متعددة، فإن كان فعل كل واحد منهما لا يقتل لو انفرد
عن الآخر، لكنه له دخل في القتل. ففيه تفصيل، فإن تواطآ قتلا وإلا فلا
يقتلان، وتجب عليهما الدية لأنه شبه عمد. وإن كان جرح أحدهما يقتل لو انفرد
وجرح الآخر لا يقتل لو انفرد، لكن له دخل في القتل، فلك حكمه، فصاحب الأول
يقتل مطلقاً والثاني يقتل إن كان متفقاً على قتله، وإن لم يكن متفقاً فلا
يقتل، وتجب عليه حصته من الدية.
وأما إذا كان ضرب أحدهما خفيفاً، بحيث لا يؤثر في القتل اصلاً، كالضرب بطرف
الثوب مثلاً، أو الضرب بسوط صغير، فإنه لا شيء على صاحبه، فلا دخل له في
قصاص، ولا دية وموته موافقة قدر.
وأما إذا قطع الجاني الثاني بجنايته، جناية الأول، بأن يقطع الأول من
المجني عليه يده، أو رجله مثلاً، ويقطع الثاني رقبته، أو يقده نصفين،
فالأول جارحن عليه قصاص اليد أو الرجل، أو ديتها، والثاني قاتل، لأنه قطع
جناية الأول، وأزهق روحه فيجب عليه القصاص دون الأول.
قالوا: إذا وجد من شخصين مجتمعين في زمن واحد فعلانن مزهقان للروح، بحيث لو
انفرد كل منهما لامكن إحالة الإزهاق عليه، وهما مسرعان للقتل، كحز للرقبة،
وقد للجثة، أو غير مسرعين للقتل، كقطع عضوين، وما منهما، فهما قاتلان في
هذه الأحوال المذكورةن فيجب عليهما القصاص، وكذلك يجب عليهما الدية إذا
وجبت لوجود السبب منهما، وإن لم يوجد الفعلان معاً في وقت واحد: بل ترتبا،
بأن أنهاه رجل مثلاً، إلى حركة مذبوح وهي التي لم يبق معها ابصار، ولا نطق
اختياري، ولا حركة اختيار، ويقطع بموته بعد يوم أو ايام، وتسمى حالة اليأس،
وهي التي اشترط وجودها في حالة إيجاب القصاص وهي التي لا يصح فيها إسلام،
ولا ردة، ولا شيء من التصرفات، وينتقل فيها ماله لورثته الحاصلين حينئذ، لا
لمن حدث. ولو مات له قريبلم يررثه دون الحياة المستمرة، وهي التي لو ترك
معها لعاش، ثم جنى ضخص آخر على المجني عليه، بعد الانتهاء لحركة مذبوح،
فالأول منهما قاتل قطعاً، فيجب عليه القصاص أن كان القتل عمداً، والدية أن
كان القتل خطأ، لأنه صيره إلى حالة الموت، والثاني يجب تقريره بما يراه
الإمام، لهتكه حرمه الموت، كما لو قطع عضواً من شخص بعد موته.
وإن جنى الثاني منهما قبل الانتهاء إلى درجة مذبوح، بأن جرحه، أو قطع عضواً
منه، فجاء الثاني بعده وحز رقبته، أو قعطه نصفين، وأزهق روحه، فالثاني قاتل
بالاتفاق، ويجب عليه القصاص،
(5/281)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
لأن الجرح إنما يقتل بالسراية، وحز الرقبة، وقد الجثة بقعط اثنينن فتعين
القتل منه ولا فرق أن يتوقع البرء من الجراحة السابقة، أو يتيقين الهلاك
بها بعد يوم أو أيام، أيام، لأنه له في الحال حياة مستقرة، وقد عهد سيدنا
عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يوم إصابته، وهو في هذه الحالة الخطرة،
وعمل الصحابة رضوان الله عليهم بعده الذي عاهدهم به، ووصاياه التي أوصاهم
بها، ويجب على الجاني الأول قصاص العضو المقطوع، أو مال بحسب الحال من عمد
أو غيره، وإن لم يزفف الثاني أيضاً أي لم يصل به إلى الهلاك كأن قطع الأول
يده من الكوع مثلاً، والثاني قطعهما من المرفق، ثم مات المجني عليه بسبب
سراية القطعين فهما قاتلان بسبب السراية.
ولا يقال: أن أثر القطع الثاني أزال أثر القطع الأول، لأن الموت حدث بهما
معاً.
قالوا: ولو قتل مريضاً وهو في حالة النزع الأخير، وعيشه عيش مذبوح، فإنه
يجب عليه القصاص بقتله، لأنه يجوز أن يمد الله في أجله ويعيش، فإن موته غير
محقق، لأن الآجال لا يعلمها إلا الله تعالى.
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: ولو انتهى المريض إلى سكرات الموت
وبدت مخايله، فلا يحكم له بالموت. وإن كان يظن أنه في حالة المقدود.
وقرقوا بأن انتهاء المريض إلى تلك الحالة غير مقطوع به، وقد يظن موته ثم
يشفى، بخلاف المقدود ومن في معناه، ولأن المريض لم يسبق فيه فعل بحال
القتلى وأحكامه عليه، حتى يهدر الفعل الثاني.
ولو جرح واحد شخصاً جرحين عمداً وخطأ، ومات بهما لم يجب عليه القصاص،
لاختلاف وصف الفعلين، حيث أن أحد الجرحين عمد، والآخر خطأ، فاختلفا، أو
جرحه جرحين مضموناً، وغير مضمون. كمن جرح حربياً، أو مرتداً، أو عبد نفسه،
أو صائلاً، ثم اسلم المرتد، أو أمن الحربي، أو عتق العبد المجروح، أو رجل
الحيوان الصائل، وجرحه الجاني بعد ذلك ثانياً ومات بالجرحين، فلا يجب عليه
القصاص، في هذه الصور، أو جرح شخصاً بحق كقصاص، وسرقة، ثم جرحه بعد ذلك مرة
ثانية عدواناً، أو جرح حربياً ثم أسلم، ثم جرحه ثانياً فمات بالسراية، لا
يجب قتله في مثل هذه الأحوال.
أما في الحالة الأولى عمداً وخطأ فلأن الزهوق لم يحصل بالعمد المحض، فيجب
عليه نصف الدية المغلظة في ماله خاصة، ويجب نصف الدية المخففة على عاقلته
في الخطأ، وأما في باقي الصور، فلأن الموت حصل بمضمون وغير مضمون فغلب عليه
مسقط القصاص، وثبت موجب الجرح الثاني من قصاص وغيره ولو وقعت إحدى
الجراحتين بأمره للصبي غير المميز، أو المجنون الذي لا يفيق فلا يجب عليه
القصاص، بل تجب نصف الدية على العاقلة، لأن عمد الصبي والمجنون خطأ، ولأن
غير المميز يصبح كالآلة.
(5/282)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
ولو داوى المجروح جرحه بسم قاتل في الحال، كأن شربه، أو وضعه على الجرح فلا
قصاص، ولا دية على جارحه في لنفس، لأن المجروح قتل نفسه، فصار كما لو جرحه
إنسان فذبح هو نفسه، أما الجرح الحادث، على الجارح ضمانه، سواء علم المجروح
حال السم، أو لا.
وإن قتل غالباً، وعلم المجروح حاله، فشريك جارح نفسه، في أصح الطريقين،
ويكون عليه القود في أظهر المذاهب، تنزيلاً لفعل المجروح منزلة العمد.
وقيل: هو شريك مخطئ، لأنه قصد التداوي فأخطأ، فلا قود على شريكه، أما لو
قصد قتل نفسه بالسم ليستريح من الألم مثلاً، فهو شريك قاتل نفسه قطعاً، فلا
قصاص، ولا دية، وإذا كان المجروح لا يعلم بالسم، فلا قصاص جزماً، لأنه شريك
مخطئ، ولو خاط المجروح جرحه في لحم ولو تداويا خياطة تقتل غالباً ففي
القصاص الطريقان، بخلاف ما لو خاطه في لحم ميت فإنه لا اثر له ولا للجلد
كما فهم بالأولى، لعدم الإيلام المهلك، فعلى الجارح القصاص أو كمال الدية،
ولو خاطه غيره بلا أمر منه، اقتص منه ومن الجارحن وإن كان الذي خاط الجرح
حكماً لتعديه مع الجارح فإن خاطه الطبيب لصبي أو مجنون لمصلحة فلا قصاص
عليه، ولو قصد المجروح أو غيره الخياطة في لحم ميت فوقع في لحم حي، فالجارح
وشريك مخطئ، وكذا لو قصد الخياطة في الجلد فوقع في اللحم، والكي فيما ذكر
كالخياطة فيه، ولا أثر لدواء لا يضر، ولا نظر للقروح.
المالكية قالوا: إن تعدد مباشر على ما دون النفس بلا اتفاق منهم، وتميزت
الجراحات، وعلم فعل كل واحد منهم، فيقتص من كل بقجر ما فعل، ولا ينظر
لتفاوت العضو بالرقة والغلظ، وإذا اتفقوا فيجب أن يقتص من كل بقدر الجميع
سواء تميزت الجراحات أم لا، قياساً على قتل النفس، فإن الجميع عند الاتفاق
يقتلون بالواحد، أما إذا لم تتميز الجراحات عند عدم الاتفاق، فهل يلزمهم
دية الجميع ولا قصاص؟ أو يقتص من كل بقدر الجميع، فإذا كانوا ثلاثة قلغ
أحدهم عينه، والثاني قطع يده، والثالث قطع رجله، ولم يعلم من الذي فقأ
العين، وقطع الرجل، وقطع اليد، والحال أنه لا تمالؤ بينهم، اقتص من كل بفقء
عينه وقطع يده، وقطع رجله، وفيه نظر، فالأظهر الأول. إذا لم يقع الفعل من
كل واحد.
وتندرج الأطراف في النفس، كقطع يد الطرف، ثم قتله فقط، أما إن كانت فإنه
يندرج في النفس، أن تعمد الجاني قطع النفس، بل يجب عليه الدية للطرف، ثم
الجناية على الطرف خطأ، فلا تندرج في يد أو رجل، أو فقء عين من شخص، ثم
قتله القصاص.
هذا إذا كان الطرف المقطوع من المقتول.
(5/283)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
أما إذا كان الطرف لغير المقتول، كقطع يد شخص، وفقء عين آخر، وقتل رجل ثالث
عمداً، فتندرج الأطراف في النفس، ولا تقطع يده، ثم يقتل.
قالوا: ومحل اندراج طرف المقتول في النفس إذا لم يقصد الجاني المثلة
بالمجني عليه المقتول، فإن قصد المثلة به، فإنه يقتص منه للطرف، ثم يقتل
بعد ذلك. وأما طرف غير المقتول، فإنه يندرج في القتل، ولو قصد الجاني
المثلة بهم، على الرأي الراجح من المذهب.
قالوا: وكما تندرج الأطراف في النفس تندرج الأصابع إذا قطعت عمداً في قطع
اليد عمداً بعدها، ما لم يقصد المثلة به، سواء كانت من يد من قطعت أصابعه،
أو يد غيره، فإذا قطع اصابع شخص عمداً، ثم قطع كفه عمداً بعد ذلك، فقطع
الجاني من الكوع.
ولو قطع أصابع رجل، ويد رجل آخر من الكوع، ويد ثالث من المرفق، قطع لهم من
المرفق، إن لم يقصد المثيل به، فإن قصد المثلة بفعله السابق، لم يندرج في
الصورتين بل تقطع أصابعه أولاً، ثم كفه بعد ذلك في الصورة الأولى.
وفي الصورة الثانية، تقطع أصابعه أولاً، ثم تقطع يده من الكوع للجناية
الثانية، ثم تقطع يده من المرفق للجناية الثالثة، حتى يشعر بالألم الذي
تسبب فيه لغيره، وتحصل المماثلة في القصاص.
قالوا: ويؤخر القصاص فيما دون النفس لعذر، كبرد، أو حر يخاف منه الموت على
الجاني، لئلا يموت فيلزم اخذ نفس بدون نفس، وكذا يؤخر الجاني إذا كان
مريضاً حتى يبرأ، ويؤخر القصاص فيما دون النفس حتى يبرأ الجروح، لاحتمال أن
يموت بسبب السراية، فيكون الواجب القتل بقسامة، كدية الجرح الخطأ، فيؤخر
إلى برء المجروح خوف أن يسري على النفس، فتؤخذ الدية كاملة، فإن برىء الجرح
على غير شين، فلا دية، ولا أدب، لأنه لا يعتمد في الشرع، وإن برىء الجرح
المقطوع على شين، فتجب حكومة عدلين، لهما معرفة بهذه الأشياء، فيقوم على
فرض أنه رقيق، سالماً بعشرة مثلاً، ثم معيباً بتسعة مثلاً، فالتفاوت بين
القيمتين هو العشر في المثال، فقد نقصت الجناية العشر، فيلزم الجاني بنسبة
ذلك من الدية، كمائة دينار، وقيل: يجتهدان بالفكر فيما يستحقه المجني عليه،
من الجاني.
مبحث إذا قطعت المرأة يد الرجل فتزوجها على الأرش
الحنفية قالوا: إذا قطعت المرأة يد رجل فتزوجها على أرش يده، فإما أن يقتصر
القطع، أو يسرين فإن كان الأول صحت التسمية، ويصير الأرش وهو خمسة آلاف
درهم مهراً لها بالإجماع، سواء كان القطع عمداً أم خطأ، وسواء تزوجها على
القطع فقط أو عليه وعلى ما يحدث منه، لأنه لما برأ تبين أن موجبها الأرش
دون القصاص لأنه لا يجري في الأطراف، بين الرجل، والمراة، والأرش يصلح
صداقاً، وإن كان الثاني، ومات الرجل بسبب السراية، فإما أن يكون القطع خطأ،
أو عمداً فإن
(5/284)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
كان الأول فله مهر مثلها، والدية على العاقلة، وإن كان الثاني فلها ذلك،
والدية في مالها عند أبي حنيفة حمه الله، لأن العفو عن اليد، إذا لم يكن
عفواً عما يحدث منه عنده فالتزوج على اليد لا يكون تزوجاً على ما يحدث منه،
فيكون ما لها من المهر غير ما عليها مما يحدث منه، ثم القطع إذا كان عمداً
كان التزوج تزوجاً على القصاص في الطرف، وهو ليس بمال فلا يصلح مهراً، لا
سيما على تقدير سقوط القصاص، فإنه إذا لم يصلح مهراً على تقدير ثبوته، لا
يصلح على تقدير سقوطه بطريق الأولى، والقصاص يسقط ها هنا، إما بقبولها
التزوج، لأن سقوطه متعلق بالقبول، فلما قبلت سقط، وإما بتعذر الاستيفاء،
فإنه لما جعل القصاص مهراً جعل لها ولاية الاستيفاء ولا يمكن استيفاء
القصاص عن نفسها، وإذا لم يصح القصاص ولا بدله مهراً، يجب مهر المثل وعليها
الدية في مالها، لأن التزوج وإن كان يتضمن العفو، فتجب الدية، وتجب في
مالها لأنه عمد، وإذا وجب لها مهر المثل وعليها الدية تقطع المقاصة إن كانا
على السواء، وإن كان في الدية زيادة ترده على الورثةن وإن كان في المهر فضل
يرده الورثة عليها، وإذا كان القطع خطأ يكون هذا تزوجا على أرش اليد، وإذا
سرعى إلى النفس تبين أنه لا أرش لليد، وأن المسمى معدوم فيجب مهر المثل،
كما إذا تزوجها على ما في اليد، ولا شيء فيها، ولا يتقاصان لأن الدية تجب
على العاقلة في الخطأ، والمهر حق لها، ولو تزوجها على اليد وما يحدث منها،
أو على الجناية ثم مات من ذلك والقطع عمد، فلها مهر مثلها، لأن هذا تزوج
على القصاص وهو لا يصلح مهراً. فيجب مهر المثل، وصار كما إذا تزوجها على
خمر، أو خنزير، ولا شيء له عليها، لأنه لما جعل القصاص مهراً فقد رشي
بسقوطه بجهة المهر، فيسقط أصلاً، وأن كان القتل خطأ يرفع عن العاقلة مهر
المثل من جميع المال، لأنه مريض مرض الموت، والتزوج من الحوائح الأصلية،
ولا يصح في حق الزيادة على مهر المثل، لأنه محاباة فيكون وصية، فيرفع عن
العاقلة، لانهم يتحملون عنها فمن المحال أن ترجع عليهم بموجب جنايتها.
الشافعية رحمهم الله قالوا: لو وجب لرجل قصاص على امرأة، فنكحها على هذا
القصاص. بأن جعله صداقاً لها صح النكاح، والصداق، أما النكاح فواضح، لأنه
تام بأركانه وشروطه، وأما المهر، فلآنه عوض مقصود، وقيل: لا يصح، ويجب لها
مهر مثلها.
وسقط القصاص، لتضمن ذلك العفو، لأنها ملكت قصاص نفسهأ فإن فارقها الرجل قبل
الدخول بها، رجع عليها بنصف الأرش لتلك الجناية، لأنه بد ل ما وقع العقد
به، كما إذا اصدقها تعليم سورة من القرآن الكريم، فعلمها ثم طلقها قبل
الدخول بها، فإنه يرجع بنصف أجرة التعليم.
وفي قول نص عليه في كتاب (الأم) يرجع عليها بنصف مهر مثلها، بناء على القول
الثاني. هذا في حالة ما إذا وجب عليها القصاص.
(5/285)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
أما إذا اوجبت الجناية مالاً، كالخطأ فنكحها على أرش الجناية التي
ارتكبتها، فإن النكاح يصح دون الصداق، للجهل بالدية.
مبحث حكم دم من عليه قصاص
الشافعية، والحنابلة - قالوا: من وجب عليه قصاص فهو معصوم الدم على غير
المستحق، كغيره من المسلمين، فإذا اعتدى عليه وقتله غير المستحق اقتص منه،
لقوله تعالى في كتابه العزيز {ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا
يسرف في القتل} آية [33 من سورة الإسراء] فخص وليه بقتله، فدل على أن غير
وليه لا سلطان له عليه، وذلك فيمن لم يتحتم فقله. أما إذا تحتم قتله لقطع
طريق، فإن الصحيح أنه يقتل قصاصاً، ولو قتله المستحق لا يقتل له.
والزاني المسلم المحصن، إن قتله ذمي قتل به، لأنه لا تسلطله على المسلم،
وإذا كان الذمي يقتل به، فالمرتد والمعاهد والمستأمن بالأولى، وإذا قتله
مسلم غير زان محصن، فلا يقتل به في الأصح، لاستيفائه حد الله تعالى.
والرأي الثاني، أنه يجب عليه القصاص، لأن الاستيفاء للإمام، فأشبه ما لو
قتل من عليه القصاص غير مستحقه، وعلى الأول لا فرق بين أن يقتله قبل أمر
الإمام بقتله أم لا، ولا بين أن يثبت زناه بالبينة أم لا، ولا بين أن يكون
قبل رجوعه عن الإقرار أم لا.
أما المسلم الزاني المحصنن إذا قتله فإنه يقتل بهن وتارك الصلاة عمداً بعد
امر الحاكم بها، حكمه كالزاني المحصن.
المالكية رحمهم الله قالوا: إذا أتلف مكلف معصوماص، فالقصاص واجب لولي الدم
عليه، لا لغير ولي الدم، لأن دم القاتل معصوم بالنسبة لغير ولي الدم، فإذا
قتل غير ولي الدم قاتلاً لمعصوم، فإنه يقتص منه، لأن القود ثابت للولي فقط.
وليس للولي: تنفيذ القصاص إلا بإذن الإمام أو نائبه، وإن اقتص ولي الدم من
القاتل بغير إذن الحاكم أدب لا فتياته على الإمام.
وقال علماء المالكية أيضاً: يجب على القاتل عمداً، إذا كان بالغاً عاقلاً
ولم يقتص منه، لنحو فقو، أو صلح، ذكراً، أو أنثى، حراً، عبداً مسلماً، أو
غير مسلم، يجب عليه جلد مائة، وحبس سنة كاملة، من غير تغريب واختلف في
المقدم منها، فقيل يقدم الجلد، وقيل: الحبس، ولم يشطروها بالرق لعظم الخطر
في القتل.
مبحث فيما يثبت موجب القصاص
الحنفية، والشافعية، والحنابلة رحمهم الله تعالى - قالوا: يثبت موجب القصاص
من قتل، أو
(5/286)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
جرح عمد، بإقرار أو شهادة رجلين، قال تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم}
[آية 282] من البقرة. وقال تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} آية [2 من سورة
الطلاق] وقال عليه اصلاة والسلام (شاهداك، أو يمينه) ولا تقبل شهادة النساء
في الحدود والقصاص، قال الزهري: مضت السنة من لدن رسول الله صلى الله عليه
وسلم والخليفتين بعده أن لا تقبل شهداة النساء في الحدود والقصاص) .
وألحقوا به علو القاضي، ونكول المدعى عليه، وحلف المجعي فإنه يثبت بهما
أيضاً، ويثبت موجب المال من قتل، أو جرح خطأ، أو شبه عمد، بغلإرار، وشهادة
عدلين، وعلم القاضي، أو برجل وامرأتين أو برجل ويمين، لا بامرأتين، ويمين
لقوله تعالى: {فإن لم يكونا رجلين، فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء}
آية [282 من البقرة] .
وإنما يثبت المال برجل وامرأتين إذا اجعى به عيناً، فلوا ادعى القصاص فشهد
له رجل، وامرأتان لم يثبت القصا، ولا تثبت الديةن لانها خاصة بالرجالن ولو
عفا مستحق القصاص في جناية توجيه عن القصاص ليقبل المال وشهد له رجل
وامرأتان، أو رجل ويمين، لم يحكم له بذلك، لأن المال إنما يثبت بعد ثبوت
القصاص، ولم يثبت القصاص ليعتبر العفو.
وقيل: يقبل لأن القصد المال، ومحل الخلاف إن أنشأ الرجل الدعوى، والشهادة
بعد العفو.
أما لو ادعى العمد، وأقام رجلاً وامرأتين ثم عفا عن القصاص على مال، وقصد
الحكم له بتلك الشهادة، لم يحكم له بها قطعاص، لانها غير مقبول حين أقيمت
فلم يجز العمل بها، كما لو شهد صبي، أو عبد بشيء، ثم بلغ الصبي، أو عتق
العبد.
قالوا: لو شهد رجل وامرأتان بهاشمة قبلها إيضاحها لم يجب أرشها، لأن الهشم
المشتمل على الايضاح جناية واحدة، وإذا اشتملت ما يوجب القصاص احتيط لها،
فلا يثبت ألا بحجة كاملة، وهي رجلان.
ويجب على الشاهد أن يصرح بالمدعى به (بفتح العين) فلو قال الشاهد: ضرب
المجنى عليه بسيف فجرحه فمات، لم يثبت هذا القتل المدعى به، لاحتمال أن
يكون ما بسبب لآخر، حتى يقول الشاهد: فمات من جرحه، أو يقول: فقتله أو أنهر
دمه، أو نحو ذلك، كضربه فمات مكانه، لينتفي الاحتمال المذكور، ولو قال
الشاهد: ضرب الجاني رأس المجنى عليه فأدماه، أو ضرب رأسه مثلاً فأسال الضرب
دمه، ثبتت بذلك دامية عملاً بقوله الذي قطعه، بخلاف ما لو قال: فسال دمه لم
تثبت لاحتمال حصول السيلان بسبب آخر.
قالوا: ويشترط في الشهادة بالموضحة. أن يقول الشاهد: ضربه فأوضح عظم راسه
لأنه لا شيء يحتمل بعده، وقيل: يكفي فأوضح راسه من غير تصريح بإيضاح العظم،
ويجب على الشاهد بيان محل الموضحة وقدرها بالمساحة، أو بالإشارة اليها
ليمكن فيها القصاص، وذلك إذا كان على
(5/287)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
رأسه مواضح، فإن لم يكن برأسه إلا موضحة واحدة، وشهد الشاهد بأنه اوضح رأسه
لم يثبت القصاص لجواز أنه كان على رأسه موضحة صغيرة، فوسعها غير الجاني.
قالوا: وثبت القتل بالسحر، بالإقرار من الساحر، فإن قال قتلته بسحري وهو
يقتل غالباً يكون عمداً وعليه القصاص، وإن قال يقتل نادراً فشبه عمد، وإن
قال: أخطأت من اسم غيره إلى اسمه، فيكون خطأ، ويجب في هاتين الصورتين دية
في مال الساحر لا على العاقلة، لأن إقراره لا يلزمهم، إلا أن تصدقه
العاقلة، فتكون الدية عليهم.
المالكية رحمهم الله قالوا: يثبت الحق في القصاص، والجرح بالإرار، أو
بشهادة رجلين عدلين، لأن كل ما ليس بمال، ولا آيل إلى المال لا يكفي فيه
إلا عدلان، كالعتق، والعفة عن القصاص، وكشرب خمر، وقذف، وقتل، وجرح، وغير
ذلك.
واشترطوا في صحة الشهدة عند الحاكم العدالة - والعدل، هو الحر، المسلم،
البالغ، العاقل، بلا فسق، ولا حجر، ولا بدعة، ولا تأول، وأن يكون صاحب
مروءة بترك شيء غير لائق من لعب بحمام، وشطرنج، وترك سماع غناء وترك سفاهة
من القول، وترك صغيرة، وإن كان أعمى في القول، أو أصم في العقل، وشرط قبول
شهادته، أن يكون فطناً، جازماً في شهادته بما أدى، غير متهم فيها.
فانرحع الشاهدان قبل الحكم، بعد الأداء تبطل الشهادة، ولا يعمل بها،
ويؤدبان، أما إذا رجعا بعد الحكم، والاستيفاء في القتل فلا تبطل، بل يغرم
الشاهدان دفع الدية، للمشهود عليه ويضمنان الدية، والعقل في القصاص في
أموالها.
وقال أشهب: يقتص من الشاهدين إذا رجعا بعد الحكم والاستيفاء في القتل العمد
لأنهما تسببا في قتل النفس بلا شبهة فيقتلان.
ويحكم بنقض الحكم بنقض الحكم إن ثبت كذبهم بعد الحكم، وقبل الاستيفاء، في
القتل، والقطع، والحد، وإن علم الحاكم كذبهما في شهادتهما، وحكم بما شهدا
به، من قتل، أو قصاص، اودية، سواء باشر الدم، أو لا، فإنه يقتص من الحاكم
في هذه الحالة، ويجب على الحاكم دفع الدية من ماله خاصة، دون العاقلة.
فإن لم علم كذبهما، فلا ضمان عليه، وإن علم بقادح منهما.
قالوا: وسبب القسامة التي توجب القصاص في العمد، والدية في الخطأ، قتل الحر
المسلم، سواء كان بالغاً، أو صبياً، قتل بجرح، أو ضرب، أو سم، بلوث - بفتح
اللام، وسكون الواو - الأمر الذي ينشأ عنه غلبة الظن بأنه قتله، وذلك كوجود
شاهدين عدلين على قول حر، مسلم، بالغ: قتلني، أو جرحني، أو ضربني فلان،
وذكر اسم القاتل، حراً، أو عبداً، بالغاً، أو صبياً، ذكراً أو أنثى، أو
قال: دمي عنده، سواء كان قول المسلم قتلني عمداً، أو خطأ، ففي العمد
يستحقون بالقسامة
(5/288)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
القصاص وفي الخطأ الدية، ولو كان القائل: قتلني فلان، فاسقاً، على اعدل أهل
زمانه، واورعهم، فيقسمون ويقتل فيه.
أو ادعى الولد على أبيه أنه ذبحه، أو شق جوفه، أو رماه بحديد قاصداً قتله،
فيقسمون ويأخذون الدية مغلظة.
وإن أطلق المقتول، ولم يبين بعمد ولا خطأ، بين أولياؤه أنه عمد، أو خطأ،
وأقسموا على ما بينوا، وتبطل القسامة إن قالوا: لانعلم هنل القتل عمد أو
خطأ، أو لانعلم من قتله، أو اختلفوا بأن قال بعض الأولياء قتله عمداً، وقال
بعضهم: لا نعلم هل قتله عمداً، أو خطأ، فيبطل الدم، لانهم لم يتفقوا على أن
وليهم قتل عمداً حتى يستحقوا القود، ولا على من قتله، فيقسمون عليه.
أو شهد عدلان على معاينة الضرب، أو معاينة الجرح خطأ أو عمداً، وتأخر موت
المضروب، أما إذا لم يتأخر، فانهم يستحقون الدم، أو الدية بدون قسامة،
لكونها شهادة على معاينة القتل، فيقسم أولياؤه لمن ضربه، أو جرحه، من الضرب
مات، أو إنما مات منه، أو بشهادة عدل بمعاينة الضرب أو الجرح، عمداً أو
خطأ، تأخر الموت أو لم يتأخر، يقسم الأولياء خمسين يميناً: لقد جرحه، أو
ضربه، ومات من الجرح، أو الضرب، أو شهد عدل بإقرار المقتول، الحر، المسلم،
البالغ العاقل، أن فلاناً جرحنين أو ضربني عمداً أو خطأ فشهادته لوث، يحلف
الأولياء خمسين يميناً، لقد قتله أو شهد عدل برؤية المقتول يتحرك في دمه،
والشخص المتهم بالقتل قريب منه، وعليه اثر القتل، ككون الآلة بيده ملطخة
بدم أخارجاً من مكان المقتول وليس فيه غيره، فتكون شهادة العدل على ماذكر
لوثاً، يحلف الأولياء، ويستحقون القود، أو الدية اهـ.
الشافعية - قالوا: لو أقر بعض الورثة لو كان فاسقاً، بعفو بعض منهم عن
القصاص، سواء عينه، املا، سقط القصاص لأنه لا يتبعض، ولو أعترف بسقوط حقه
منه، فيسقط حق الباقين، بخلاف الدية فإنها لا تسقط، وإن لم يعين العافي،
فللورثة كلهم الدية، وإن عينه فأنكر فكذلك ويصدق بيمينه إنه لم يعف وإن أقر
بالعفو مجاناً، أو مطلقا سثط حق من الدية، وللباقين حصتهم منها.
ويشترط لا ثبات العفو من بعض الورثة عن القصاص - لا عن حصته من الدية -
شاهدان عدلان، لأن القصاص ليس بمال، وما لا يثبت بحدة ناقصة لا يحكم
بسقوطه، اما إثبات العفو عن حصته من الدية، فيثبت بالحجة الناقصة أيضاً، من
رجل وأمرأتين، أو رجل ويمين، لأن المال يثبت بذلك، فكذا أسقاطه، وخرج بقوله
أقر، ما لو شهد، فإنه إن كان فاسقاً، أو لم يعين العافي فكالإقرار، وإن كان
عدلاً، وعين العافي وشهد بأنه عفا عن القصاص والدية جميعاً بعد دعوى الجاني
قبلت شهادته في الدية، ويحلف الجاني مع الشاهد الن العافي عفا عن الدية لا
عنها وعن القصاص، لأن القصاص سقط بالإقرار فيسقط من الدية حصة العافي، وإن
شهد بالعفو عن الدية فقط لم يسقط قصاص الشاهد.
ولو اختلف شاهدان في زمان القتل: كأن قال أحدهما قتله في الليل، وقال
الآخر: قتله بالنهار، فاو اختلفا في مكان القتل: كأن قال أحدهما: قتله في
المسجد، وقال الآخر: قتله في الدار، أو اختلفا.
(5/289)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
في آلة القتل: كأن قال أحدهما: قتل بالسيف، وقال الآخر: قتله بالرمح، أو
اختلفا في هيئة القتل: كأن قال أحدهما: قطع رقبته، وقال الآخر: شقه نصفين،
سقطت شهاتهما في هذه الصورن ولا لوث بها، لأن كل واحج ناقض صاحبه.
وقيل: هذه الشهادة - لوث - فيقسم الولي، وتثبت الدية لا تفاقهما على أصل
القتل، والاختلاف في الصفة بما يكون غلطاً أو نسياناً.
فإن قيل: لم لم يحلف على الأول مع من وافقه منهما، أو يأخذ البدل كنظيره من
السرقة.
أجيب: بأن باب القسامة، أمره أعظم، ولهذا غلظ فيه بتكرير الأيمان.
هذا إذا شهد على الفعل، فلو شهد على الإقرار لم يضر اختلافهما في الزمان
ولا في المكان، لأنه لا أختلاف في القتل وصفته: بل الاختلاف في الإقرار.
نعم: إن عينا يوماً، في مكانين متاعدين بحيث لا يصل المسافر من أحدهما إلى
الآخر في الزمان الذي عيناه، كأن شهد أحدهما بأنه أقر بالقتل بمكة يوم كذا،
والآخر أقر، بأنه قتله بمصر في تاريخ ذلك اليوم، فتلغو الشهادة ولا تقبل.
الحنفية رحمهم الله تعالى - قالوا: من قتل وله ابنان حاضر وغائب، فأقام
الحاضر البينة على القتل، ثم قدم الغائب فإنه يجب عليه أن يعيد البينة عند
الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن استيفاء القصاص حق الوارث عنهده،
ولأن القصاص طريق الخلافة دون الوراثة ألا ترى أن ملك القصاص يثبت بعد
الموت، والميت ليس من أهله، بخلاف الدين، والدية، لأن الميت من أهل الملك
في الأموال، كما إذا نصب شبكة في حياته فتعلق بها صيد بعد ممانه فإنه
يملكه، وإذا كان طريقه الإثبات ابتداء لا ينتصب أحدهما خصماً عن الباقين،
فيعيد البينة بعد حضوره، احتيالاً للدرء.
وقال الصاحبان: إذا حضر الغائب فلا يعيد إقامة البينة، لأن استيفاء القصاص
حق المورث، فإن القصاص طريقه طريق الوارثة، كالدين، وهذا لأنه عوض عن نفسه،
فيكون الملك فيه لمن له الملك في المعوض، كما في الدية، ولهذا لو انقلب
مالاً يكون للميت، ويسقط بعفوه بعد الجرح قبل الموت، فينتصب احد الورثة
خصماً عن الباقين، فلا يعيد البينة بعد حضوره. أما إذا كان القتل خطأ، وحضر
الغائب فلا يجب عليه إعادة البينة بالاجماع، فإن أقام القاتل البينة أن
القائب قد عفا عن القصاص، فالشاهد من اولياء الدم خصم له، ويسقط القصاص،
لأنه ادعى على الحاضر سقوط حقه في القصاص، إلى مال، ولا يمكنه إثباته إلا
بإثبات العفو من الغئب، فينتصب الحاضر خصماً عن الغائب، وكذلك عبد بين
رجلين قتل عمداً، واحد الرجلين غائب فهو على هذا، فإن كان الأولياء ثلاثة،
فشهد اثنان منهم على الآخر اه قد فقا، فشهادتهما باطلة، وهو عفو منهما،
لانهما يجران بشهادتهما إلى أنفسهما مغنماً، وهو انقلاب القود مالاً، فإن
صدقهما القاتل فالدية بينهم أثلاثاً، لأنه لما صدقهما وحده، فقد أقر بثلثي
الدية لهما، فصح إقراره إلا أنه يدعي سقوط حق المشهود عليه، وهو
(5/290)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
ينكر فلا يصدق، ويغرم نصيبه، وأما إن كذبهما القاتل فلا شيء لهما، وللغائب
ثلث الدية، لانهما اقرا على أنفسها بسقوط القصاص فقبل، وادعيا انقلاب
يصيبهما مالاً، فلا يقبل إلا بحجة، وينقلب نصيب المشهود عليه مالاً، لأن
دعواهما العفو عليه، وهو ينكر بمنزلة ابتداء العفو منهما في حق المشهود
عليه، لأن سقوط القود مضاف إليهما، وإن صدقهما المشهود عليه وحده غرم
القاتل ثلث الدية للغائب المشهود عليه، لإقراره له ذلك.
قالوا: وإذا شهد الشهود أنه ضربه فلم يزل صاحب فراش حتى مات فيجب عليه
القوج إذا كان القتل عمداً، لأن الثابت بالشهادة كالثاب معاينة، وفي ذلك
القصاص - إذا شهدوا أنه ضربه بشيء جارح قصداً، - والشهادة على قتل العمد
تتحقق على هذا الوجه، لأن الموت بسبب الضرب إنما يعرف إذا صار باضرب صاحب
فراش حتى مات.
وإذا اختلف شاههدا القتل في الأيام بأن قال أحجهما: إنه قتله يوم السبت،
وقال الآخر بأن القتل كان يوم الخميس.
أو اختلفا في البلد، بأن قال أحدهما: إن القتل كان في مكة، وقال الآخر بأنه
ومع في الكوفة، أو اختلفا في الآلة التي كان بها القتل، بأن قال أحدهماك
ضربه بسيف، وقال الآخر: ضربه بعصا. فالشهادة باطلة، ولا يعمل بها، لأن
القتل لا يعاد ولا يكرر - والقتل في زمان، أو في مكان غير القتل في زمان أو
مكان آخر - والقتل بالعصا غير القتل في زمان، أو في مكان غير القتل في زمان
أو مكان آخر - والقتل بالعصا غير القتل بالسلاح، لأن الثاني عمد بالاتفاق،
والاول شبه عمد، وتختلف أحكامهما، فكان على كل قتل شهادة فرد، وكذا إذا قال
أحدهما: فإن المطلق يوجب الدية في ماله، والمقيد بالعصا يوجب الدية على
العاقلة.
قالوا: وإن شهدا أنه قتله، وقالا: لا ندري باي شيء قتله، ففيه الدية
استحساناً، والقياس أن لا تقبل هذه الشهادة لأن القتل يختلف باختلاف الآلة،
فجهل المشهود يسقط الشهادة لأن قولهم: لا ندري بأي شيء قتله، إما صادقون أو
كاذبون، لعدم الواسطة بين الصدق والكذب وعلى كلا التقديرين يجب أن لا تقبل
شهادتهما، لأنهما إن صجقا امته القضاء بها لاختلاف موجب السيف والعصا، وإن
كذبا فكذلك لانهما صرا فسقة.
ووجه الاستحسان، انهم شهدوا بقتل مطلق، والمطلق ليس بمحمل فيجب اقل موجبه
وهو الدية، ولأنهم جعلوا عالمين بأنه قتله بالسيف، لكنهم بقولهم: لا ندري،
اختاروا حسبة الستر على القتل وأحسنوا إليه بالإحياء، وجعل كذبهم هذا
معفواً عند الله لما جاء في الحديث الشريف (ليس كذاباً من يصلح بين اثنين)
فبتأويلهم كذبهم بهذا لم يكونوا فسقة، فتقبل شهادتهم، فلا يثبت الاختلاف
بالشك، وتجب الدية في مال، لأن الأصل في الفعل العمد، فلا يلزم العاقلة.
وإذا اقر رجلان كل واحد منهما بأنه قتل فلاناً، فقال الولي: قتلتماه
جيمعاً، فله أن يقتلهما، وإن
(5/291)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
شهدوا على رجل أنه قتل فلاناً، وشهدوا آخرون على آخر بقتله، وقال الولي:
قتلتماه جيمعاً، بطل ذلك كله، والفرق أن الإقرار والشهادة يتناول كل واحد
منهما وجوب كل القتل، ووجوب القصاص قد حصل التكذيب فيهما، غير أن تكذيب
المقر له في بعض ما أقر به لا يبطل شهادته أصلاً، لأن التكذيب تفسيق، وفسق
الشاهد يمنع القبل اهـ.
مبحث شهادة الشهود
اتفق الأئمة رحمهم الله تعالى: على أن الشخص لو شهد لمورثه بجرح قبل
الاندمال لم تقبل شهادته للتهمة، لأنه لو ماب مورثه كان الأرش له، فكأنه
شهد لنفسه، وهي شهادة غير مقبولة شرعاً، قالوا: إلا أن يكون على المجروح
دين يستغرق تركته فتقبل شهادته لأنه لا يجر بذلك لنفسه نفعاً، وفيه نظر لأن
الدين لا يمنع الإرث وبما يبرأ منه، ولا حتمال ظهور مال لمورثه، مخفياً.
قال الرافعي: وشهادتهم بتزكية الشهود كشهادتهم بالجرح.
والمراد بالشاهد الوارث غير اصله وفرعه، لأن شهادتهما لا تقبل مطلقاً
للبعضية، قالوا: ولو شهد لمورثه بمال في مرض موته تقبل في الأصح موته تقبل
في الأصح عند أكثر العلماء.
وقيل: لا تقبل كالجرح، وقد فرق (القارقي) بينهما بأنهما إذا شهدا بالمال لم
يحصل لهما نفع حال وجوبه، لأن الملك يحصل للمشهودل له، وينفذ تصرفه فيه، في
ملاذه وشهواتهن وإذا شهدا له بالجراحة كان النفع حال الوجوب لهما، لأن
الدية قبل الموت لم تجب وبعده تجب لهما.
وفرق غيره، بأن الجرح سبب الموت الناقل للحق، فإذا شهد بالجرح فكأنه شهد
بالسبب الذي ثبت به الحق، ههنا بخلافه.
قالوا: ولا تقبل شهادة العاقلة بفسق شهود قتل، أو قطع طرف خطأ، أو شبه عمد
يحملونه وقت الشهادة، لأنهم يدفعون عن أنفسهم الغرم، فإن كانوا لا يحملونها
وقت الشهادة نظرت، فإن كانوا من فقراء العاقلة فالنص ردها أيضاً، أو من
أباعدهم، وفي الأقربين وفاء بالواجب، فالنيص قبولها، والفرق أن المال غاد
ورائح، والغنى غير مستبعد، فتحصل التهمة، وموت الغريب كالمستبعد في
الاعتقاد، فلا تحقق التهمة لمثله.
بخلاف ما إذا شهدوا بفسق بينة القتل العمد، وبينة الإقرار بالقتل، فإنها
تكون مقبولة في هذه الحالة لعدم التهمة، إذ لاتحمل.
قالوا: ويشترط في الشهادة السلامة من التكاذب، فلو شهد اثنان على اثنين
بقتل شخص، فشهد المشهود عليهما مبادرة على الأولين، أو غيرهما بقتله، فإن
صدق الولي الأولين حكم بهما، لسلامة شهادتهما عن التهمة وسقطت شهادة
الآخرين، لانهما يدفعان بشهادتهما عن أنفسهما القتل
(5/292)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
الذي شهد به الأولان، والدافع متهم في شهادته ولو صدق الولي الآخرين، أو
صدق الجميع، أو كذب الجميع بطلت الشهادتان في المسائل الثلاثة المذكورة -
أما الأول فلآن في تصديق الآخرين تكذيب الأولين، وعداوة الآخرين لهما، وأما
في الثانية، فلآن في تصديق كل فريق تذكيباً للآخر، وأما الثالثة فالأمر
فيهما ظاهر، حيث كذب الطرفين.
قالوا: ولو أقر بعض الورثة - ول كان فاسقاً - بعفو بعض منهم عن القصاص،
سواء عينه أو لا؟ سقط القصاص عن الجاني، لأنه لا يتبعض، ولو اعترف بسوقط
حقه منه فيسقط حق الباقي في القصاص، أما الدية فإنها باقية لا تسقط، بل وإن
لم يعين العافي، فللورثة كلهم الدية، وإن عينه، فأنكر فكذلك لا تسقط الدية،
ويصدق بيمينه أنه لم عف، وإن أقر بالعفو مجاناً، أو مطلقاً سقط حقه من
الدية، وثبت للباقين من الورثة حصتهم منها.
ويشترط لإثبات العفو من بعض الورثة عن القصاص، لا عن حصته من الدية شاهدان
عدلان من الرجال، لأن القصاص ليس بمال، وما لا يثبت بحجة ناقصة لا يحكم
بسقوطه، أما إثبات العفو عن حصته من الدية، فيثبت بالحجة الناقصة أيضاً، من
رجل وامرأتين، أو رجل ويمين، لأن المال يثبت بذلك، فكذا إسقاطه.
وإذا شهد بعض الورثة بعفو بعضهم عن القصاص، فإن كان فاسقاً أو لم يعين
العافي منهم فهو كالإقرار.
وإن كان عدلاً وعين العافي، وشهد بأنه عفا عن القصاص والدية جميعاً بعد
دعوى الجاني قبلت شهادته في العفو عن الديةن ويحلف الجاني مع الشاهد، أن
العافي عقا عن الدية لا عنها وعن القصاص، لأن القصاص سقط بالإقرار، فيسقط
من الدية حصة العافي، وإن شهد بالعفو عن الدية، فسقط لم يسقط قصاص الشاهد.
قالوا: وإذا رجع شهود القصاص ضمنوا الدية، ولا قصاص عليهم، لأنه لم يوجد
منهم القتل مباشرة، والتسبيب لا يوجب القصاص، كحافر البئر، بخلاف الإكراه،
لأن المكره فيه مضطر إلى ذلك فإنه يؤثر حياته، وكذلك الولي فإنه مختار،
والاختيار يقطع التسبيب، وإذا امتنع القصاص وجبت الدية، لأن القتل بغير حق
لا يخلو عن أحد الموجبين، ولو شهدا بالعفو عن القصاص ثم رجعا لم يضمنا، لأن
القصاص ليس بمال.
قالوا: وإذا رجع شهود الفرع ضمنوا، لأن التلف اضيف إليهم، فإنهم الذين
ألجؤوا القاضي، إلى الحكم، وإن رجع شهود الأصل، وقالوا: لم نشهد شهود
الفرع، لم يضمنوا، لانهم أنكروا التسبيب، وهو الاشهاد والقضاء ماض لأنه خبر
محتمل.
ولو قالوا: أشهدناهم وغلطنا، فلا ضمان عليهم، لأن القضاء وقع بما عابثه من
الحجة وهي شهادة الفروع فيضاف إليهم اهـ.
-
(5/293)
مبحث الجناية على
الأطراف.
-أما الجناية على الأطراف من يد، أو عين، أو سن، فقد جعلت الشريعة
الإسلامية، عقوبتها القصاص أيضاً، بمعنى أنه يفعل بالجاني مثل ما فعل جزاء
وفاقاً، ولكن يشترط المماثلة بين العضوين، فلا تفقأ عين عوراء، في نظير عين
سليمة، ولا يقطع لسان أخرس، في لسان متكلم، ولا تقطع يد عاطلة بيد عاملة،
ونحو ذلك مما هومبين في محله (1) وهذا هو العدل المطلق، فإن الذي يعتدي على
إتلاف عضو إنسان لا جزاء له إلا أن يتلف منه ذلك العضو، كما قال تعالى:
{وجزاء سيئة سيئة مثلها} آية [40 من سورة الشورى] .
__________
(1) (اتفق الأئمة الأربعة: على أن من أتلف نفساً فعليه دية كاملة، وفي مارن
الأنف وهو ما لأن دون العظم، ويسمى أرنبة الأنف تجب دية كاملة، لأن فيه
جمالاً ومنفعة، وهو مشتمل على الطرفين المسمييين بالمنخرين، وعلى الحاجز
بينهما، وتندرج حكومة قصبته في ديته فلا يزاد على دية واحدة، لأنه عضو
واحد، وفي قطع اللسان الدية لفوات منفعة مقصودة، وهو النطق ولو كان اللسان
لألكن، وهو من في لسانه لكنة، أو أعجم، ول لسان أرت، ولو لسان ألثغ -
بمثلثة - ولو لسان طفل لم ينطق، ولأن فيه جمالاً ومنفعة يتميز بها الإنسان
عن البهائم في البيان والعبارة، عما في الضمير، وفيه ثلاث منافع: الكلام،
والذوق، والاعتماد في أكل الطعام، وإدارته في اللهوات حتى يستكمل طحنه
بلأضراس، فتجب فيه دية كاملة، وفي إبطال الصوت مع إبقاء اللسان دية كاملة.
وقيل: شرط الدية في قطع لسان الطفل الصغير، ظهور أثر نطق بتحريكه لبكاء، أو
مص للثدي، لانها أمارات طاهرة على سلامة اللسان، فإن لم يظهر فحكومة، لأن
سلامته غير متيقنة، والأصل براءة الذمة، ولو قطع نصف لسانه فذهبب ربع كلامه
أو عكس فنصف الدية، وإن شل اللسان فديتان، وقيل: دية.
وإذا كان اللسان المقطوع عديم الذوق، أو كان أخرساً، تجب فيه حكومة عدل،
وتجب الدية كاملة إذا قطع بعض اللسان، ومنع الكلام، لتفويت منفعة مقصودة،
وإن كانت الآلة قائمة، ولو قدر على التكلم ببعض الحروف. قيل: تقسم على عدد
حروف الهجاء، وقيل على عدد حروف تتعلق باللسان فبقدر ما لا يقدر عليه تجب
ديته.
وربما يقال: إن ذلك الجزاء تكثير لرباب العاهات بين أفراد الأمة، فبعد أن
كان الناقس، هو المعتدي ناقصاً مثله، وذلك ضار بقوة الأمة وبهيبتها.
وقيل: إن قدر على أداء أكثرها تجب حكومة عدل لحصول الإفهام مع الاختلال،
وإن عجز عن أداء الأكثر يجب كل الدية، لأن الظاهر أنه لا تحصل منفعة
الكلام، وقد روي أن رجلاً قطع طرف
(5/294)
والجواب: أن في هذا القصاص تقليلاً لأرباب
العاهات - لا تكثيراً - بل في القصاص قضاء على الجريمة، من أصلها، كما قال
تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون} آية [179 من
سورة البقرة] .
لأن الذي يوقن بالجزاء المماثل، ويعلم أنه إذا اعتدى على عضو من أعضاء بدن
غيره قطع مثله منه، فإنه يحجم عن ارتكاب الجريمة بتاتاً، وبذلك يرتفع
العدوان، فلا يوجد ذو عاهة أصلاً، لا معتد، ولا معتدى عليه.
__________
لسان رجل في زمان الإمام على كرم الله وجهه فأمره أن يقرأ - ا، ب، ت، ث -
فكلما قرأ حرفاً أسقط من الدية بقدر ذلك، ومالم يقرأ أوجب من الدية
بحسبانه، وحروف اللسان ثمانية عشر حرفاً في لغة العرب، وحروف الحلق وهي
ستة، وحروف الحلق وهي ستة، وحروف الشفة وهي أربعة.
وفي قطع الذكر تجب الدية كاملة، وكذلك الحشفة، وهي رأس الذكر إذا قطعها
عليه دية كاملة ولو كان الذكر لصغير، وشيخ كبير، وخصي، وعنين، لإطلاق
الحديث الوارد في ذلك.
وعند أكثر الفقهاء: أن في ذكر الخصي والعنين حكومة.
والأصل فيه ما روي عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه أن النبي صلوات الله
وسلامه عليه، قال (في النفسن الدية، وفي اللسان الدية، وفي المارن الدية)
وهكذا في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم رضي
الله عنه (روى أبو داود في المراسيل عن ابن شهاب قال: قرأت في كتاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران وكان الكتاب عند
أبي بكر بن حزم، رواه النسائي) . ولأن ذكر الخصي سليم وهو قادر على
الإيلاج، وإنما الفائت الإيلاد، والعنة عيب في غير الذكر، لأن الشهوة في
القلب والمني في الصلب، وليس الذكر بمحل لواحد منهما: فكان سليماً من
العيب، والحشفة كالذكر، لأن ما عداها من الذكر كالتابع لها، كالكف مع
الأصابع، لأن معظم منافع الذكر وهو لذة المباشرة تتعلق بها، وأحكام الوطء
تدور عليها، من قطع بعضها يجب بقسطه منها، لأن الدية تكمل بقطعها فقسطت على
أبعاضها.
وقيل: يجب بقسطه مع كل الذكر، لأنه المقصود بكمال الدية، أما الذكر الأشل
ففيه حكومة عدل، وذكر الخنصى ففيه نصف دية، ونصف حكومة.
والأصل في الأطراف أنه إذا فوت جنس منفعة على الكمال، أو أزال جمالاً
مقصوداً في الآدمي على الكمال، يجب كل الدية، لإتلافهكل النفس من وجه، وهو
ملحق بالإتلاف من كل وجه تعظيماً للآدمي، فإن كان جنس المنعفة، أو الكمال
قائماً بعضو واحد فعند إتلافه يجب كمال الدية، وإن كان قائماً بعضوين، ففي
كل واحد منهما نصف الدية، وإن كان قائماً بأربعة أعضاء ففي كل واحد منها
ربع الدية، وإن كان قائماً بعشرة أعضاء، ففي كل واحد منها عشر الدية، وإن
كان قائماً بأكثر ففي كل واحد منها نصف عشر الدية، كقطع أنملة إبهام الأصبع
مثلاً.
(5/295)
أما الذي يعلم أن نتيجة عدوانه عقوبة
بالسجن القليل، فإنه لا يبالي بتكرار فعله مع كثيرين، فيزيد أرباب العاهات
والمجرمون معاً، على أن السجن إذا طال أمده فإنه يكون من شر الآفات التي
تقضي على حياة المجرم، فإنه يصبح عاطلاً مستهتراً بالجرائم، كما هو مشاهد
في كثير من متعودي الإجرام والسجون فمتى أمكن القصاص بالتساوي بين العضوين،
كان من العدل أن يقتص من الجاني بمثل جنايته، وإن لم يمكن كان للحاكم أن
يعزره بما يراه زاجراً له عن العودة، ورادعاً للأشرار عن ارتكاب الجرائم.
على أنك قد عرفت أن القصاص في نظر الشريعة الإسلامية حق المعتدى عليه، فله
أن يصطلح مع خصمه على مال أو غيره، أو يعفو عنه.
فإذا رأى الحاكم أن العفو يترتب عليه ضرر بالأمن، فله أن يتخذ الوسائل التي
يراها لصيانة الأمن.
__________
وفي قطع الذكر فاتت على الشخص منفعة الوطء، والإيلاد، واستمساك البول،
والرمي به عن جسده، وفق الماء، والإيلاج الذي هو طريق الاعلاق عادة، وغير
ذلك، وإن شق الذكر طولاً، فأبطل منفعته وجبت فيه دية كاملة، كما لو ضربه
على ذكره فأشله، وإن تعذر بضربه الجماع به، لا الانقباض والانبساط فتجب
حكومة عد، لأنه ونفعته باقيان والخلل في غيرهما، فلو قطعه قاطع بعد ذلك،
فعليه القصاص، أو كمال الدية.
وفي العقل إذا ذهب بالضرب عمداً، أو خطأ دية كاملة، وقد قضى سيدنا عمر بن
الخطاب رضي الله تعالى عنه بذلك، ولفوات منفعة الإدراك إذ به ينتفع بنفسه
في معاشه ومعاده، وذلك إذا لم يرج عوده بقول أهل الخبرة في مدة يظن أنه
يعيش إليها، كما جاء في خبر عمرو بن حزم.
وقل أبن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه العلم على ذلك، لأن العقل أشرف
المعاني، والأعضاء، وبه يتميز الإنسان عن البهائم، ويعقله عن الوقوع في
الدنايا، والمراد العقل الغريزي الذي به التكليف دون المكتسب الذي به حسن
التصرف، ففيه حكومة، فإن رجي عوده في المدة المذكورة انتظر، فإن عاد فلا
ضمان، كما في سن من لم ينفر، وفي إزالة بعضه بعض الدية بالقسط إن ضبط بزمان
كأن كان يجن يوماً، ويفيق يوماً، أو بغيره، كأن يقابل صواب قوله، وفعله
بالمختل منهما، وتعرف النسبة بينهما، فإن لم ينضبط فحكومة يقدرها الحاكم
باجتهاده، فإن ما في أثناء المدة المقدر عوده فيها وجبت ديته كاملة، ولا
يجب القصاص فيه للاختلاف في محله، فقيل محله - القلب - وقيل: الدماغ وقيل:
مشترك بينهما، والأكثرون على الأول، وقيل: مسكنه الدماغ وتدبيره القلب،
ويسمى عقلاً لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك، ولا يراد شيء على دية
العقل أن زال بما لا أرش له، كأن ضرب رأسه، أو لطمه لكن يجب تعذيره في
الأصح.
فإن زال العقل الغريزي بجرح له أرش مقدر كالموضحة، أو حكومة كالباضعة، وجبت
الدية
(5/296)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
والأرش، أو الدية والحكومة معاً، ولا يندرج ذلك في دية العقل لأنها جناية
أبطلت منفعة غير حالة في محل الجناية، فكانت كما لو أوضحه فذهب سمعه، أو
بصره، وكما لو انفردت الجناية عن زوال العقل، وعلى هذا لو قطع يديه وجليه،
فزال عقله بذلك لزمه ثلاث ديات.
ولو ادعى ولي المجنون زوال عقل المجني عليه، وأنكره الجاني، ونسبه إلى
التجانن، اختبر في عقله، فإن لم ينتظم قوله، وفعله في خلواته فتجب له دية
بلا يمين، وهذا في المجنون المطبق، أما المجنون المنقطع فإنه يحلف في زمن
إفاقته، فإن انتظم قوله وفعله حلف الجاني، لاحتمال صدور المنتظم اتفاقاً،
أو جرياً على العادة، والاختيار لا يقدر بمدة، بل إلى أن يغلب على الظن
صدقه، أو كذبه، ولا بد في سماع دعوى الزوال، من كون الجناية تحتمل زوال
العقل. وإلا لم تسمع الدعوى، كحصول الموت بصعقة خفيفة وفي إزالة السمع تجب
دية كاملة، لخبر البيهقي (في السمع الدية) ونقل أبن المنذر فيه الإجماع
ولأنه من اشرف الحواس، فكان كالبصر، بل هو أشرف منه عند أكثر الفقهاء، لأن
به يدرك الفهم، ويدرك من الجهات الست، وفي النور والظلمة، ولا يدرك بالبصر
إلا من جهة المقابلة، وبواسطة من ضياء أو شعاع، وقال أكثر المتكلمين بتفضيل
البصر عليه، لأن السمع لا يدرك به إلا الأصوات، والبصر يدرك الأجسام
والألوان، والهيئات فكان أشرف منه، ولا بد في وجوب الدية من تحقق زوال
السمع، فلو قال أهل الخبر: يعدو وقدروا له مدة لا يستبعد أن يعيش إليها
انتظرت، فإن استبعد ذلك، أو لم يقدروا مدة أخذت الدية في الحال. وإن قالوا:
لطيفة السمع باقية في مقرها، ولكن انسد منفذ السمع، والسمع باق وجبت فيه
حكومة.
وقيل: يعتبر في طريق معرفة السمع الدلائل الموصلة إلى ذلك، فإن لم يحصل
العلم بذلك يعتبر في الدعوى والإنكار، فطريق معرفة السمع أن يتغافل وينادى
عليه، فإن أجاب على أنه يسمع، ولا دية له.
حكى الناطفي عن أبي حازم القاضي أن امرأة تطارشت في مجلس حكمه، فاشتغل
بالقضاء عن النظر إليها، ثم قال لها فجأة، غطي عورتك، فاضطربت وتسارعت إلى
جمع ثيابها وظهر مكرها، وفي إزالة السمع من أذن واحدة يجب نصف الدية، وفي
قطع الأذنين الشاخصتين الدية لأن فيهما تمام الجمال، ولو أزال أذنيه وسمعه
فتجب ديتان، لأن محل السمع غير محل القطع فلم يتداخلا، لو ادعى المجني عليه
زوال السمع من أذنيه، وكذبه الجاني، وانزعج للصياح في قوم، وغفلة فكاذب،
لأن ذلك يدل على التصنع ولا بد من تحليف الجاني، وإن سمعه لباق، لاحتمال أن
يكون انزعاجه اتفاقاً من غير سمع، وإن لم ينزعج المجني عليه بالصياح ونحوه،
فصادق في دعواه، وتجب له الدية كاملة.
وإن نقص سمع المجني عليه فقسط النقص من الدية إن عرف قدر ما ذهب، بأن كان
يسمع من مكان كذا فصار يسمع من قدر نصفه مثلاً، وطريق معرفة ذلك أن يحدثه
شخص ويتباعد إلى أن يقول: لا أسمع فيعلي الصوت قليلاً، فإن قال: أسمع عرف
صدقه، ثم يعمل كذلك من جهة أخرى، فإن اتفقت المسافتان ظهر صدقه، ثم ينسب
ذلك من مسافة سماعه قبل الجناية إن عرف، ويجب بقدره من
(5/297)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
الدية، فإن كان التفاوت نصفاً وجبت الدية، وإن لم يعرف قدره بالنسبة، فتجب
فيه حكومة عدل، باجتهاد قاض.
ولو قال المجني عليه: أنا أعرف قدر ما ذهب من سمعي، صدق بيمينه، لأنه لا
يعرف إلا من جهته، وإن نقص سمع المجني عليه من أذن واحدة سدت هذه الناقصة،
وضبط منتهى سماع الآخرين ثم عكس. ويؤخذ قسط التفاوت من الدية، فإن كان بين
مسافة السمعية، والأخرى النصف فله ربع الدية، لأنه أذهب رع سمعه، وإن كان
الثالث، فيجب عليه سدس الدية، وهكذا.
فإن لم ينضبط فالواجب حكومة عدل.
وفي ذهاب بصر كل عين، صغيرة، أو كبيرة، حادة، أو كحلة، صحيحة أو عليلة،
عمشاء أو حولاء، من شاب، أو شيخ أو طفل، حيث البصر سليم يجب نصف الدية، وفي
العينين الدية كاملة لأن البصر من المنافع المقصودة في الحياة، وقد روي أن
عمر رضي الله عنه قضي بأربع ديات في ضربة واحدة ذهب بها العقل والكلام
والسمع والبصر، وإن ادعى المجني عليه زوال بصره، أنكر الجاني، سئل أهل
الخبرة بذلك عدلان منهم مطلقاً، أو رجل وامرأتان أن كان خطأ، أو شبه عمد،
فانهم إذا أوقفوا الشخص في مقابلة عين الشمس، ونظروا في عينه عرفوا أن
الضوء ذاهب أو موجود، بخلاف السمع لا يراجعون فيه، إذ لا طريق لهم إليه، أو
يمتحن المجني عليه بتقريب عقرب، أو حديدة محماة، أو نحو ذلك من عينه بغتة،
ونظر هل ينزعج أم لا؟ فإن انزعج صدق الجاني بيمينه، وإلا فالمجني عليه
بيمينه، وإن نقص ضوء المجني عليه، فحكمه كنقص السمع، فإن عرف قدر النقص بأن
كان يرى الشخص من مسافة فصار لا يراه إلا من نصفها مثلاً، فقسطه من الدية،
وإلا فحكومة عدل، فإن نقص بعض ضوء عينه عصبت ووفق شخص في موضع يراه، ويؤمر
أن يتباعد حتى يقول: لا أراه، فتعرف المسافة ثم تعصب الصحيحة، وتطلق
العليلة، ويؤمر الشخص بأن يقرب راجعاً إلى أن يراه، فيضبط ما بين
المسافتين، ويجب قسطه من الدية، فإن أبصر بالصحيحة من مائتي ذراع مثلاً،
وبالأخرى من مائة فالنسف، نعم لو قال أهل الخبرة، أن المائة الثانية تحتاج
إلى مثلي ما تحتاج إليه المائة الأولى لقرب وبعد الثانية، وجب ثلثا دية
العليلة، وإن أعشاه لزمه نصف دية، وإن أعمشه، أو أخفشه،، أو أحوله، أو أشخص
بصره، فالواجب حكومة، ومن بعينه بياض لا ينقص الضوء ففي قلعها نصف دية.
(حادثة) .
سئل أبن الصلاح عن رجل أرمد أتى امرأة بالبادية تدعي الطب لتداوي عينه،
فكحلته فتلفت عينه، فهل يلزمها ضمانها؟ فأجاب: إن ثبت أن ذهاب عينه
بتداويها فعلى عاقلتها ضمانها، فإن لم يكن لها عاقلة، فإن تعذر فعليها في
مالها، إلا أن يكون الرمد أذن لها في المداواة بهذا الدواء المعين فلا
تضمن، ويقاس على هذا حالة المريض مع الأطباء في هذا الزمان.
ومن أزال الشم من المنخرين بجناية على رأسه تجب عليه دية كاملة، كما جاء في
خبر عمرو بن
(5/298)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
حزم، لأنه من الحواس النافعة، فتكمل فيه الدية كالسمع، وفي إزالة شم منخر
واحد نصف الدية، ولو نقص الشم وجب بقسطه من الدية، إذا أمكن معرفته، وإن لم
يمكن فالحكومة.
ولو أنكر الجاني زوال الشم من المجني عليه، امتحن في غفلاته بالروائح
الحادة، فإن هش للطيب، وعبس لغيره حلف الجاني لظهور كذب المجني عليه، ولا
يستحق ضماناً، وإن لم يهش للطيب، ولم يتأذ من الكريه، حلف المجني عليه
لظهور صدقه مع أنه لا يعرف إلا منه، وفي إبطال حاسة الذوق، الذي هو وقوة في
اللسان يدرك بها الطعم، تجب دية كاملة، لأنه أحد الحواس الخمس، فأسبه الشم،
واختلف في محله هل هو في طرف الحلقوم، أو في اللسان؟ ذهب أكثر أهل العلم
إلى القول الثاني، وقالوا: إنه المشهور وعليه الحكماء، لكنهم يقولون: هو
قوة منبثة في العصب المفروش على جرم اللسان يدرك بها الطعوم بمخالطة
اللعابية التي في الفم بالمطعوم ووصولها للعصب، وقال أهل السنة: إن الإدراك
المذكور بمشيئة الله تعالى - يعني أن الله تعالى يخلق ما ذكر عند المخالطة
المذكورة، وعلى هذا القول فينبغي أن يكون كالنطف مع اللسان، فتجب فيه دية
واحدة للسان، لأن الذوق يدرك به حلاوة، وحموضة، ومرارة، وملوحة، وعذوبة،
وتوزع الدية على هذه الأنواع الخمسة، فإذا أبطل إدراك واحدة منهن وجب فيها
خمس الدية، وهكذا.
وإن نقص الإدراك نقصاً لا تقدر، بأن يحس بمذاق الأنواع الخمس لكن لا يدركها
على كمالها فتجب في ذلك النقص حكومة عدل. وتختلف بقوة النقصان وضعفه، وإن
عرف قدره فقسطه من الدية.
ولو اختلف الجاني والمجني عليه في ذهاب الذوق امتحن بالأشياء المرة ونحوها
كالحامض الحاد. الذي لا يصبر عليه عادة. فإن ادعى النقص صدق بيمينه، وإن
تألم وعبس صدق الجاني بيمينه.
قالوا: وتجب الدية في إبطال المضغ كأن يجني على أسنانه فتخدر، وتبطل
صلاحيتها، للمضغ، وتفسد اللثة، لأنه المنفعة العظمى للأسنان وفيها الدية،
فكذا منفعتها كالبصر مع العين، والبطش مع اليد.
وتجب الدية فإبطال قوة الإمناء بكسر صلب، لقوات المقصود، وهو النسل، بخلاف
انقطاع اللبن بالجناية على الثدي، فإن فيه حكومة، لأن الرضاع يطرأ ويزول،
وقيل فيه الدية كاملة، واستعداد الطبيعة للإمناء صفة لازمة للفحول، ولأن
إبطال قوة الامناء موت للرجل أدبياً ومعنوياً. فتجب الدية.
وتجب الدية في إبطال قوة الحبل من المرأة لقوات النسل، فيكمل فيه ديتها
لانقاطع النسل، وتجب الدية في إبطال قوة الحبل من الرجل أيضاً بأن يجني على
صلبه، فيصير منيه فاسداً لا يحبل، وتجب الدية في ذهاب جماع من المجني عليه،
بجناية على صلبه مع بقاء مائه، وسمة ذكره، فيطل التلذذ بالجماع لأن ذلك من
المنافع المقصودة. وقد ورد الأثر فيه عن الخلفاء الراشدين، وإن ضربه
(5/299)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
ضربة شديدة على صلبه فأبطل إنعاظه فتجب الدية، ولا تندرج فيه دية الصلب وإن
كانت قوة الجميع فيه، فلو كسر صلبه، فأبطل إنعاظه فعليه ديتان، لأن كل
جناية غير الأخرى، وفي إفضاء المرأة بجناية عمداً أو شبه عمد، أو خطأ بوطء
أو بغيره، من الزوج، أو غيره، تجب ديتها كاملة، لفوات المنفعة الجماع أو
اختلالها، لأنه يقطع التناسل منها، ويسبب لها العقم، لأن النطفة لا تستقر
في محل العلوق لا متزاجها في البول، فأشبه قطع الذكر، والإقضاء حاجز ما بين
مدخل ذكر، ودبر، فيصير سبيل جماعها وغائطها واحداً، إذ به تفوت المنفعة
الكلية.
وقيل: الإفضاء: رفع ما بين مدخل ذكر، وجبر، فيصير سبيل جماعها وبولها
واحداً، لأن ما بين القبل والدبر قوي لا يرفعه الذكر، وبينهما عظم لا يتأتى
كسره.
المالكية - قالوا: يجب في الإفضاء حكومة، بأن يقوم ما عليها عند الأزواج
بأن يقال: ما صداقها على أنها غير مفضاة، وما صداقها على أنها مفضاة، فيغرم
النقص، ثم إن كان الفعل من الزوج فيلحق بالخطأ. لأذن الشارع في الفعل
بالجملة، فإن بلغ الثالث على العاقلة، وإلا ففي ماله خاصة ولا يندرج
الإفضاء تحت مهر، بل يغرم الحكومة مع الصداق زوجاً، أو أجنبياً غصبها
ووطئها، بخلاف إزالة البكرة من الزوج، أو الغاصب فإنه لا يغرم للبكارة
شيئاً زائداً على الصداق الذي دفعه، لأنه لا يمكن الوطء إلا بإزالتها، فهي
من لواحق الوطء، بخلاف الإفضاء، فإنه منهي عنه، إلا إذا أزال البكارة
بإصبعه، فإن الحكومة فيها لا تندرج في المهر، زوجاً، أو أجنبياً، فيجب على
الأجنبي حكومة، ولو لم يطأها، وهي مع المهر إن وطئ، أما الزوج فيلزمه أرش
البكارة التي أزالها بالإصبعه مع نصف الصداق، إذا طلقها قبل البناء بها،
فإن دخل بها وطلقها بعد البناء فتدرج في المهر، فإن أمسكها فلا شيء عليه،
وإزالة البكارة بالإصبع جرم فيؤدب الزوج عليه.
قالوا: وتجب الدية إذا فعل فعلاً أحدث في بدنه جذاماً - وهو داء يأكل
الأعضاء، أو احدث تبريصة - وهو نوع من البرص - أو تسويد جسده، بعد أن كان
غير اسود، أو أحدث به سواداً وبياضاً وهو نوع من البرص يحث في الجلد، فتجب
دية كاملة في كل هذه الصور، لأنه فوت عليه منفعة الجمال والكمال، فإن سود
جسمه، وجذمه بسبب ضربة واحدة، وجب عليه ديتان، لأن كلاً منهما منفصل عن
الآخر.
قطع الأذنين الظاهرتين.
المالكية - قالوا: لا تجب الدية في قطع الأذنين الشاخصتين، إذا بقي اسمع
سليماً، بل تجب حكومة عدل.
الأئمة الثلاثة - قالوا: تجب في الأذنين دية كاملة، وفي قطع إحداهما نصف
الدية، لقوات منفعة الجمال، وجمع الهواء للسمع.
(5/300)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
قطع عين الأعور
المالكية، والحنابلة - قالوا: إن عين العور السليمة إذا قلعت، أو ذهب بصرها
يجب فيها دية كاملة، لأن بصر الذاهبة انتقل إليها.
والفرق بين عين العور، والعضو الواحد من كل زوج، أن العين تقوم مقام
العينين في معظم الغرض وهي من أعظم الجواهر مكانة.
الحنفية والشافعية - قالوا: إذا قلع عين الأعور، تجب نصف الدية، مثل إحدى
اليدين والرجلين، وباقي الأعضاء المزدوجة.
ذهاب شعر الرأس واللحية والحاجب
الحنفية - قالوا: قالوا: إن الجناية على اللحية وشعر الرأس إذا حلقت ولم
تنبت تجب في كل منهما الدية لأنه يفوت به منفعة الجمال غير أنه لو حلق رأس
إنسان بطريقة لا تجعلها تنبت، أو شعر لحيته لا يطالب بدفع الدية حالاً، بل
يؤجل سنة لتصور الإنبات فإن مات المجني عليه قبل مضي سنة، ولم ينبت الشعر
فلا دية عليه، لاحتمال ظهورها لو عاش حياً، بل تجب حكومة وشعر الرجل،
والمرأة، والصغير، والكبير في ذلك سواء، وذلك لأن شعر اللحية جمال بالنسبة
للرجال في وقتها، وفي حلقها تفويث لمنعة الجمال والكمال، فقد ورد أن
الملائكة تقول (سبحان من زين الرجال باللحى، والنساء بالذوائب) فتجب الدية،
وكذلك شعر الرأس بالنسبة للمرأة من أعظم زينتها وتمام جمالها، وبالنسبة
للرجال زينة وجمال أيضاً، ألا ترى أن من عدم الشعر حلقه، أو سقط شعر رأسه،
أو كان أقرع، فإنه يتأذى من ذلك ويتكلف ستر رأسه، ويستحي من كشفها أمام
الناس، ويعتقد أن ذلك نقص في جماله وكماله وخلقه، وبعض رجال العرب يطلقون
شعورهم ضفيرة للزينة، وشعر الشارب فيه حكومة إذا حلق لأنه تابع للحية، فصار
كبعض أطرافها، وأما لحية العبد فيجب فيها كمال القيمة، لأن المقصود به
المنفعة بالاستعمال، دون الجمال، بخلاف الحر.
قالوا: ولحية الكوسج إن كان على ذقنه شعرات معدودة، فلا شيء في حلقه، لأن
وجودها يشينه، ولا يزينه، وإن كان أكثر من ذلك، وكان على الخد والذقن
جميعاً لكنه غير متصل ففيه حكومة عدل، لأن فيه بعض الجمال، وإن كان الشعر
متصلاً ففيه كمال الدية مثل غيره، لأنه ليس بكوسج وفيه معنى الجمال للرجل،
هذا كله إذا فسد المنبت، فإن نبتت حتى استوى الشعر كما كان، فلا يجب شيء من
الضمانات، لأنه لم يبق أثر الجناية، ويؤدب على ارتكابه ما لا يحل، وإن نبتت
بيضاء فعند أبي حنيفة أنه لا يجب عليه شيء في الحر، لأنه يزيده جمالاً، وفي
العبد تجب حكومة عل، لأنه ينقص قيمته، وعندهما تجب حكومة عدل لأنه في غير
أوانه يشنه، ولا يزينه، ويستوي العمد والخطأ على هذا، فكما تجب الدية في
حلق الرأس واللحية خطأ، فكذلك إذا حلقهما عمداً.
(5/301)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
قالوا: وفي الحاجبين الدية، وفي أحدها نصف الدية، لأن بهما يحصل الجمال
للإنسان.
الشافعية، والمالكية، والحنابلة - قالوا: في حلق شعر اللحية، وشعر الرأس
تجب فيهما حكومة عدل، لأن ذلك زيادة في الآدمي، ولهذا يحلق شعر الرأس كله،
ويحلق شعر اللحية بعضهم في بعض البلاد، وصار كشعر الصدر والساق، ولهذا يجب
في شعر العبد نقصان القيمة بالإجماع.
قالوا: وفي إزالة شعر الحاجب تجب حكومة واحداً أو متعدداً، لأن في العشر
جمالاً، وسواء كان إزالة العشر عمداً أم خطأ، وكذلك الهدب، وهو الشعر
النابت على شفر العين، تجب حكومة إذا لم ينبت، وإلا فإن نبت فف يعمده الأدب
والخطأ لا شي فيه.
دية اليدين والرجلين
واتفق الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى: على أن في اليدين تجب الدية كاملة،
وفي الرجلين الدية، وفي الشفتين الدية، وفي الأنثيين في قطعهما، أو سلها،
أو رضهما دية كاملة، وفي الواحدة من هذه الأشياء نصف الدية، وفي قطع
الأنثيين مع الذكر ديتان، كذا روي في حديث سعيد بن المسيب رضي الله تعالى
عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأن في تفويت الاثنين من هذه الأشياء
تفويت جنس المنفعة، أو كمال الجمال، فيجب كل الدية وفي تفويت أحدهما تفويت
النصف، فيجب نصف الدية.
قالوا: وفي ثديي المرأة الدية، لما فهي من تفويت جنس المنفعة، وذلك إذا
قطعهما من أصلهما سواء أبطل اللبن، أو لا، شابة أو عجوزاً، بخلاف ثديي
الرجل حيث تجب حكومة عدل، لأنه ليس فيه تفويت جنس المنفعة، و (الجمال) وفي
قطع الحلمتين إن أبطل اللبن دية كاملة، ومثل إبطال اللبن لإفساده، فالدية
القطع اللبن، ولفوات جنس منفعة الإرضاع، وإمساك اللبن، وقيل الدية لقطع
اللبن فحكومة عدل، فلو قطع حلمتي صغيرة فينتظر بها لزمن الإياس من اللبن،
وتمام سنة، فإن أيس فدية كاملة، وإن حصل اللبن في مدة الإياس ففيهما حكومة،
وفي قطع إحدى الحلمتين يجب نصف الدية.
مبحث جناية جفن العين والأهداب
الشافعية، والمالكية، والحنابلة - قالوا: في قطع كل جفن - بالفتح - من
أجفان العين، وهو غطاء العين يجب ربع دية، سواء الأعلى أو الأسفل، ففي
الأربعة دبة كاملة، ولو كان لأعمى، وبلا هدب لأن فيها جمالاً ومنفعة، وقد
اختصت عن غيرها من الأعضاء بكونها رباعية، وتدخل حكومة الأهداب في دية
الأجفان، بخلاف ما إذا انفردت الأهداب ولم تنبت، فإن فيها حكومة إذا فسد
منبتها كسائر الشعور، لأن الفائت بقطعها الزينة والجمال، دون المقاصد
الأصلية، وإلا فالتعزير، وفي قطع الجفن المستحشف حكومة، وفي أحشاف الجفن
الصحيح ربع دية جزماً، وفي بعض الجفن الواحد قسطه من
(5/302)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
الربع، فإن قطع بعضه فتقلص باقيه، فلا تكمل الدية، ول قطع الأجفان الأربعة،
والعينين لزمه ديتان، لخبر عمرو بن حزم بذلك ولأن العين من أعظم الجوارح
نفعاً.
الحنفية - قالوا: إذا قطع الأشفار العينين، عمداً أو خطأ يجب أن يدفع
الدية، وفي قطع أحدهما ربع الدية، والأشفار جمع (شفر) بالشم وهي الأهداب
مجازاً.
وقالوا: إن الأشفار هي منابت الشعر، وهي حروف العينين، وأطرافهما،
وغطاؤهما، والشعور التي عليها تسمى الأهداب، وهذا لأنه يفوت الجمال على
الكمال، وجنس المنفعة، وهي منفعة دفع الأذى عليها تسمى الأهداب، وهذا لأنه
يفوت الجمال على الكمال، وجنس المنفعة، وهي منفعة دفع الأذى والقذى عن
العين إذ هو يندفع بالهدب، وإذا كان الواجب في الكل كل الدية، وهي أربعة،
كن في أحدها ربع الدية، وفي ثلاثة منها ثلاثة أرباعها، وإذا كان المراد
بالأشفار منبت الشعر فالحكم فيه هكذا. ولو قطع الجفون بأهدابها ففيه دية
واحدة، لأن الكل شيء واحد، وصار كالمارق مع القصية.
مبحث قطع أصابع اليدين أو الرجلين
واتفق الفقهاء: على أنه يجب في قطع أصبع من أصابع اليدين، والرجلين خطأ عشر
الدية سواء كان إبهاماً، أو خنصراً من أنثى أو ذكر، صغير أو كبير، مسلم أو
كافر، والإبل مخمسة، ومربعة، لقوله عليه الصلاة والسلام (في كل اصبع عشر من
الإبل) ولأن في قطع الكل تفويت جنس المنعفة، وفيه دية كاملة، وهي مائة من
الإبل، فتنقسم الدية عليها، والأصابع كلها سواء، في أصل المنفعة، فلا تعتبر
الزيادة فيه كاليمين مع الشمال، وكذا اصابع القدمين حيث يفوت بقطع كلها
منفعة المشي، فتجب الدية كاملة، ثم فيهما عشر أصابع فتنقسم الدية عليها
أعشاراً، وعشر الدية الواجب بإزاء كل أصبع إنما هو بمقابلة مفاصلها، وفي كل
اصبع فيها ثلاثة مفاصل، ففي كل منها ثلث دية الأصبع، وما فيها مفصلان ففي
أحدهما نصف دية الأصبع، وهو نظير انقسام دية اليد على الأصابع، ففي كل مفصل
من الصبع ثلاثة وثلث بعير من الإبل، إلا في الإبهام من يد أو رجل فتجب في
أنملته نصف دية الأصبع، وهو خمس من الإبل أو خمسون ديناراً.
قالوا: وفي كل سن خمس من الإبل، لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي
موسى الأشعري رضي الله عنه (وفي كل سن خمس من الإبل) والأسنان والأضراس
والأنياب كلها سواء لإطلاق الحديث، لأن السن اسم جنس يدخل تحته اثنان
وثلاثون سناً، فإذا ضرب رجل رجلاً حتى سقطت أسنانه كلها. وكان الضرب خطأ،
فإنه يجب عليه دية وثلاثة أخماس الدية وهي من الدراهم ستة عشر الضرب عمداً،
وجب القصاص على الجاني، حيث يمكن المماثلة، وسواء قلعت السن من أصلها، أو
لم يبق إلا المغيب في اللحم، وسواء بعد أن كانت السن بيضاء فصار بالجناية
عليها سوداء، لأنه اذهب جمالها، ولها إذا اسودت ثم انقلعت، أو تغيرت بحمرة
أو صفرة بعد بياضها إن كانت الحمرة
(5/303)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
والصفرة في العرف كالسوداء في إذهاب جمالها، وفي قلع سن المرأة الحرة
المسلمة بعيران ونصف، والذمي بعير وثلثان، ولمجوسي ثلث بغير، ولرقيق نصف
عشر قيمته وهكذا، ومن ضرب عضواً فأذهب منفعته ففيه دية كالمة، كاليد إذا
شلت، والعين إذا ذهب ضوءها، لأن المتعلق توفيت جنس المنفعة، لا فوات
الصورة، فإنه إذا قطع اليد الشلاء فإنه تجب عليه حكومة عدل لا الدية، لأن
المقصود باليد كمال المنفعة ولما كانت النفعة غير كاملة لم تتكامل الجناية،
من حيث تفويت الجمال، فإن كان بها نفع تام فكالسليمة في وجوب القصاص، أو
الدية.
ومن ضرب صلب غيره فأحدبه، وقوص ظهره تجب عليه دية كاملة، لأنه فوت جمالاً
على الكمال، وهو استواء القامة، فلو زالت الحدوبة، لا شيء عليه، لزوالها لا
عن أثر، وفي شفري المرأة، وهما اللحمان المحيطان بالفرج المغطيان العظم،
تجب دية كاملة إن بدا العظم من دية المرأة فإن لم يظهر العظم فحكومة، وفي
أحد الشفرين إن بدا العظم نصف دية، لأن فيهما جمالاً ومنفعة إذ بهما يقع
الالتذاذ بالجماع وبهما تمسك البول والدم، وهما من كمال جمالها.
وقي قطع قضيب الذكر إلى ليس فيه حشفة لقطعها قبل حكومة، وفي قطع الحشفة وهي
رأس الذكر دية كاملة، وفي قطع بعضها بحسابها من الحشفة، فتقاس الحشفة لا
الذكر، فإن قطع ربع الحشفة فعليه ربع دية، وإن قطع ثلثها فعليه ثلث دية،
وإن قطع نصفها فعليه نصف الدية وهكذا.
قالوا: وتتعدد الدية بتعدد الجناية، فإذا قطع يديه، فزال عقله بسببها تجب
عليه ديتان، دية اليدين ودية للعقل، ولو زال من ذلك القطع بصره أيضاً، تجب
عليه ثلاث ديات، واحدة لليدين، وثانية للعقل، ودية ثالثة للبصر، لأن كل
واحدة منهم منفعة مقصودة، وقد زالت، وهكذا وقد روي أن سيدنا عمر بن الخطاب
رضي الله تعالى عنه قضى بأربع ديات في ضربة واحدة، ذهب بها العقل، والكلام،
والسمع، والبصر، مع بقاء الرجل حياً، واخذ أربع ديات، وذلك لعظم حرمة أعضاء
الآدمي.
قالوا: وفي كسر عظم اللحيين عليه دية. لأن فيهما جمالاً ومنفعة، فوجب فيهما
الدية وفي كسر أحدهما نصف الدية كالأذنين، وهما عظمتان تثبت عليهما السنان
السفلى وملتقاهما الذقن، أما العليا فمنبتها عظم الرأس.
وقد استشكل بعض العلماء في إيجاب الدية في اللحيين، بأن لم يرد فيهما خبر
عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم: والقياس لا يقتضيه لأنهما من العظام
الداخلة، فيشبهان الترقوة، والضلع، وأيضاً فإنه لا دية في عظم الساعد،
والعضد، والساق، والفخذ، وهي عظام فيها جمال ومنفعة، فجب فيها حكومة عدل
حسب خطورتها.
وأجيب: بأنهما لما كانا من الوجه كانا أشرف من غيرهما، فوجب فيهما الدية.
قالوا: ولا يدخل أرش الأسنان في دية فك اللحيين في الأصح، لأن كلاً منهما
مستقل برأسه، وله بدل مقدر، واسم يخصه، فلا يدخل أحدهما في الآخر، كالأسنان
واللسان.
(5/304)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
وقيل: يدخل أرش الأسنان في دية الفك كما تدخل حكومة الكف في دية الأصابع،
ورد عليه، بأن اسم اليد يشمل الكف والأصابع، ولا يشمل اسم اللحيين
والأسنان، وبأن اللحيين كاملا الخلق قبل الأسنان، بدليل الطفل، بخلاف الكف
مع الأصابع، لأنهما كالعضو الواحد.
الأئمة الثلاثة قالوا: في الأليتين وهما الناتئان عن البدن عن استواء الظهر
والفخذ، إذا قطعا خطأ تجب الدية كاملة، لما فيهما من الجمال والمنفعة، في
الركوب والعقود، وفي قطع أحدهما نصف الدية، وفي البعض بقسطه إن عرف قدره،
وإلا فالحكومة، ولا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة، ولا نطر إلى اختلاف
البدن الناتئ، واختلاف الناس فيه كاختلافهم في سائر الأعضاء، ولا يشترط في
وجوب الدية بلوغ الحديد إلى عظم الفخذ، ولو نبت ما قطع لم تسقط الدية على
الطاهر، أما إذا قطعتا عمداً فيجب القصاص فيهما أو في أحدهما.
المالكية - قالوا: في إحدى روايتهم: في أليتي المرأة إذ قطعا خطأ حكومة
قياساً على اليتي الرجل وعمداً القصاص.
الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى - قالوا: في سلخ الجلد تجب دية المسلوخ
منه، إن لم ينبت إن في الجلد جمالاً ومنفعة ظاهرة، وذلك إن بقيت فيه حياة
مستقرة. لأن إيجاب الدية فيه إنما يظهر إن فرضت الحياة المذكورة بعد سلخ
المجني عليه، وإن مات بسبب آخر غير السلخ كأن قطع غير السالخ رقبته بعد
حودث السلخ، فيجب على الجاني القصاص لأنه أزهق روحه، ويجب على السالخ
الدية، ومثل حز غير السالخ ما لو انهدم عليه حائط، أو دهمه قطار، أو نحو
ذلك.
فإن مات المجني عليه بسبب سلخ جلده، أو لم يمت لكن حز السالخ رقبته بعد ذلك
فالواجب حينئذ دية النفس إن عفا عن القود، وإلا فيجب القصاص.
قالوا: وفي كسر الترقوة. وهو بفتح التاء: العظم المتصل بين المنكب، وثغرة
النحر تجب فيه حكومة، كسائر العظام.
وقيل: الواجب فيها جمل لما روي عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه
أنه قضى بذلك، ووافقت الصحابة عليه، من غير نكير من واحد منهم وحمله الأول
على أن الحكومة كانت في الواقعة قدر جمل، ولكل إنسان ترقوتان يميناً،
ويساراً.
قالوا: وفي إبطال البطش من يدي المجني عليه بجناية عليهما فشلتا دية، لزوال
منفعتهما، وفي إبطال المشي من الرجلين بجناية على صلب تجب فيه دية كاملة،
لفوات المنفعة المقصودة منهما، وفي إبطال بطش، أو مس يد، أو رجل، أو إصبع
ديتها.
ولا تؤخذ الدية حتى يندمل الجرح فإن انجبر وعولج وعاد بطشه، أو مسه، أو
قدرة المشي على الرجلين فلا تجب الدية، وإن بقي شين بعد البرء، فتجب حكومة
عدل، وفي نقص كل من البطش والمشي، إن لم ينضبط حكومة، لما فات من المنفعة
والجمال، ويختلف بحسب النقص قلة وكثرة،
(5/305)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
وسواء احتاج في مشيه لعصا يتوكأ عليها، أم لا فإن انضبط النقص وجب القسط من
الدية، كالسمع، والبصر، والكلام وغيرهما. ولو كسر صلب المجني عليه فذهب مع
سلامة الرجل، والذكر، مشيه، وجماعه، أو ذهب عنه مشيه، ومنيه، فتجب له
ديتان، واحدة للرجلين والثانية لذهاب منهي، لأن كل واحد منهما مضمون بالدية
عند الانفراد، فكذا عند الاجتماع، ومنفعة كل منهما مستقلة.
وقيل: تجب دية واحدة لأن الصلب محل المني، ومنه يبتدي المشي، وينشأ الجماع
واتحاد المحمل يقتضي اتحاد الدية، ورد الأول بعدم اتحاد المحل. وهو الراجح.
وعلى الرأي الأول، لو ضربه فشلت رجلاه، وكسر صلبه، وانقطع منيه، وجب عليه
ثلاث ديات واحدة للرجلين، وثانية للصلب، وثالثة لانقطاع المني، وإن شل ذكره
أيضاً، وجب عليه أربع ديات، الثلاثة السابقة، والرابعة لشلل الذكر وعدم
القدرة على الجماع.
قالوا: في الشفتين الدية، وفي قطع إحداهما نصف الدية، لما ورد في كتاب عمرو
بن حزم: (وفي الشفتين الدية) ولما فيهما من الجمال والمنفعة، إذ الكلام
يتميز بهما، ويمسكان الريق والطعام. ويمنعان الحشرات والأتربة من دخول
البطن، والإشلال كالقطع. اهـ.
مبحث القصاص فيما دون النفس.
اتفق الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى: على أن من قطع يد غره من المفصل
عمداً قطعت يده من المفصل، وإن كانت يده أكبر من اليد المقطوع،، لقوله
تعالى: {والجروح قصاص} (آية 45 من سورة المائدة) وهو ينبئ عن المماثلة فكل
ما أمكن رعايتها فيه يجب فيه القصاص، وما لا يمكن رعاية المماثلة فيه، فلا
يجب فيه القصاص، وقد أمكن رعاية المماثلة في القطع من المفصل، فاعتبر، ولا
معتبر بكبر اليد وصغرها لأن منفعة اليد لا تختلف بذلك، وكذلك قطع الرجل،
وقطع مارن الأنف، وقطع الأذن الظاهرة، لإمكان رعاية المماثلة، فإن قطع
الأصابع ثم قطع الكف هو أو غيره، بعد الاندمال أو قبله وجب حكومة في الكف،
وكذلك إن قطع فوق الكف، ومن ضرب عين رجل بحديدة عمداً فقلعها لا قصاص عليه
لامتناع المماثلة في القلع، أما إن كانت العين قائمة فذهب ضوءها فعليه
القصاص، لإمكان المماثلة، بأن تحمى له المرآة ويجعل على وجهه قطن رطب،
وتقابل عينه بالمرآة، فيذهب ضوءها، وهو مأثور عن جماعة من الصحابة رضوان
الله عليهم، ولو كانت عين أحول، أو أعمش أو أعور، أو عين أخفش، أو عين
أعشى، لأن المنفعة باقية بأعين من ذكر.
قالوا: وفي السن يجب القصاص لقوله تعالى: {والسن بالسن} (آية 45 من سورة
المائدة) وإن كان سن من يقتص منه أكبر من سن الآخر، لأن منفعة السن لا
تتفاوت بالصغر والكبر، ولا قصاص في عظم إلا في السن
(5/306)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
وهذا للفظ مروي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وأبن مسعود رضي الله تعالى
عنهما وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا قصاص في العظم) والمراد غير
السن، لأن اعتبار المماثلة في غير السن متعذر، لاحتمال الزيادة والنقصان،
بخلاف السن لأنه يبرد بالمبرد، ولو أقلع من أصله بقلع الثاني فيتماثلان،
(وقد روي أن الربيع عمة أنس بن مالك رضي الله عنه كسرت ثنية جارية من
الأنصار بلطمة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقصاص) .
قالوا: وليس فيما دون النفس شبه عمد، إنما هو عمد أو خطا، لأن شبه العمد
يعود إلى الآلة، والقتل هو الذي يختلف باختلافها دون الأطراف، لأنه لا
يختلف إتلافها، باختلاف الآلة فلم يبق إلا العمد والخطأ - ولأن شبه العمد
إذا حصل فيما دون النفس وأمكن فيه القصاص جعل عمداً، وإن لم يمكن القصاص
جعل خطأ.
قالوا: ومن قطع يد رجل من نصف الساعد، أو جرحه جائفة فبرأ منها، فلا قصاص
عليه، لأنه لا يمكن اعتبار المماثلة فيه، إذ الأول كسر العظم، ولا ضابط
فيه، وكذا البرء نادر فيفضي الثاني إلى الهلاك ظاهراً، - ولو قطع اليد من
وسط الذراع، أو قطعها من وسط العضد، اقتص منه من الكف، فيقطع من الكوع في
الصورة الأولى، لأنه أقرب موضع من محل الكسر، وتجب في الباقي حكومة، وهو
جزء مقدر من الدية، لتقدر القصاص فيها، وله أن يعفو في المسألتين، أو يعدل
إلى المال، ولو طلب أن يقطع من الكوع في المسألة الثانية يمكن.
مبحث قطع اليد الشلاء بالصحيحة
ذكر الأئمة رحمهم الله تعالى: أنه إذا كانت يد المقطوع صحيحة، ويد القاطع
شلاء، أو ناقصة الأصابع، فالمقطوع بالخيار إن شاء قطع اليد المعيبة، ولا
شيء له غيرها وإن شاء أخذ الأرش كاملاً لأن استيفاء الحق كاملاً متعذر، فله
أن يتجوز بدون حقه، وله أن يعدل إلى العض، كالمثلي إذا انصرم عن أيدي الناس
بعد الإختلاف، ثم إذا استوفاها ناقصاً فقد رضي به، فيسقط حقه كما إذا رضي
بالرديء مكان الجيد.
قالوا: ومن شج رجلاً فاستوعبت الشجة ما بين قرني الشاج، فالمشجوج بالخيار،
إن شاء اقتص بمقدار شجته، يبتدئ من أي الجانبين شاء، وإن شاء أخذا الرش لأن
الشجة موجبة لكونها مشينة فقطن فيزداد الشين بزيادتها، وفي استيفاء ما بين
قرني الشاج زيادة على ما فعلن ولا يلحقه من الشين باستيفائه قدر حقه ما
يلحق المشجوج، فينتقص، فيخير، كما في الشلاء والصحيحة، وفي عكسه يخير
أيضاً، لأنه يتعذر الاستيفاء كاملاً للتعدي إلى غير حقه، وكذا إذا كانت
الشجة في طول الرأس، وهي تأخذ من جبهته، إلى قفاه، ولا تبلغ إلى قفا الشاج،
فهو بالخيار لأن المعنى لا يختلف.
(5/307)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
قالوا: ولا قصاص في اللسان، ولا في الذكر، لأنه ينقبض، وينبسط فلا يمكن
اعتبار المساواة، إلا أن تقطع الحشفة، لأن موضع القطع معلوم كالمفصل، ولو
قطع بعض الحشفة أو بعض الذكر، فلا قصاص فيه، لأن البعض لا يعلم مقداره.
بخلاف الأذن إذا قطع كله، أو بعضه، لأنه ينقبض ولا ينبسط وله حد يعرف،
فيمكن اعتبار المساواة، والشفة إذا استقصاءها بالقطع يجب القصاص، لإمكان
اعتبار المساواة فيها، بخلاف ما إذا قطع بعضها، لأنه يتعذر اتبار المساواة
فيها، لأنها تنقبض وتنبسط.
الشافعية - قالوا: يقتص من الذكر إذا قطع من أصله، واللسان، ومارن الأنف،
والأنثيين وشفرتي الفرج، إذا أمكن استيعاب القصاص في هذه الأعضاء، من غير
جيف، بأن لا يزيد على اخذ الواجب، وإن لم يكن القصاص إلا بإجافة الجاني فلا
قصاص سواء أجافه الجاني أم لا، نعم إن مات المجني عليه بسبب قطع عضو من هذه
الأعضاء، قطع الجاني ثم انتظر حتى يموت بسب السراية، وإذا مضت المدة
المحددة ولم يمت تحز رأسه قصاصاً.
قالوا: ولا يؤخذ يمين من يد، أو رجل، أو عين، أو منخر، أو أنثيين، أو
شفرتين، أو أليتين، بيسار منها، ولا يؤخذ أعلى من جفن، أو أنملة من إصبع
يد، أو رجل، أو سن بأسف من المذكورات، والمساواة في جميع ذلك، لاختلاف
المنافع باختلاف المحال ولا يؤخذ صحيح كل من الأعضاء بعضو أشل منها، وإن
رضي الجانيين لأن العضو الشل مسلوب المنفعة، وهو الذي لا عمل له مثل الحدقة
البصيرة، لا تؤخذ بيسار من هذه الأشياء المذكورة بيمين، ولا أسفل بأعلى
لانتفاء الاشتراك، والمماثلة، والمساواة في جميع ذلك، لاختلاف المنافع
باختلاف المحال ولا يؤخذ المحال ولا يؤخذ صحيح كل من الأعضاء بعضو البصيرة،
لا تؤخذ بالعمياء، وغير ذلك ويستثنى من ذلك الأنف، والأذن، فيؤخذ الصحيح
منها بالمستحشف لبقاء منفعتها من جمع الصوت والريح، والزينة - وإن قطع ذكره
من أصله، وأنثياه يجب للحر فيه ديتان كاملتان. ويجوز أن يقطع الأضعف من
الأعضاء بالأقوى منها، فتقطع العمياء بالصحيحة، لأنها دون حقه بشرط انقطاع
الدم، فإن لم ينقطع فلا قصاص، لما فيه من استيفاء النفس بالطرف، وهو إجحاف
بالجاني، ولا قصاص في كسر عظم، لعدم الوثوق بالمماثلة فيه، لأنه لا ينضبط،
مثل عظام الأضلاع، والظهر، والساعد، والساق، والفخذ، والعضد،
قالوا: ويجب القصاص في كل جرح انتهى ووصل إلى عظم من غير كسر، وذلك مثل
الموضحة في الوجه والرأس، وهي التي تصل إلى العظم وتضحه بعد حرف الجلد، حيث
أنه يتيسر ضبطها، واستيفاء مثلها من جسم الجاني، وكذلك جرح العضد، وجرح لحم
الساق، وجرح الفخذ، فهذه الثلاثة يجب القصاص فيما ينتهي من الجرح إلى عظم،
وذلك لتيسر استيفائها، وإن خالفت هذه الجروح في سائر البدن الموضحة، في
الوجه والرأس، فإنهما فيهما ارش مقدر من الشارع بخمسة أبعرة. وأما في
غيرهما ففيهما حكومة عدل مثل غيرها من باقي الجروح - أما العين العمياء،
والأذن الصماء، واللسان الأخرس، واليد المشلولة، والرجل المشلولة، والذكر
المشلول، والأنثيان المخصيتان، ففي كل هذه حكومة فقط.
(5/308)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
مبحث سقوط يد الجاني أو قطعها
الحنفية - قالوا: إذا كانت يد المقطوع صحيحة، ويد القاطع شلاء وخيره الحاكم
بين قطع اليد الشلاء، ولا أرش له، وبين أن يأخذ الأرش كاملاً، فسقطت اليد
المريضة قبل اختيار المجني عليه، أو قطعت ظلماً، في مدة الاختيار، سقط حقه
في هذه الحالة، ولا شيء له عند الجاني، وذلك لأن حقه متعين في القصاص،
وإنما ينتقل إلى المال باختياره، فيسقط بفواته بخلاف ما إذا قطعت يده بحق
عليه من قصاص، أو سرقة، فإنه يجب عليه الأرش وهو نصف الدية، لأنه أوفى به
حقاً مستحقاً، فصارت سالمة له معنى. ولو عولج الجاني وزال الشلل من يده قبل
أن يستوفي الأرض لم يكن له إلا القصاص، لأن حقه متعين فيه عندهم.
الشافعية - قالوا: إن الواجب أحد الشيئين، أما القصاص، أو الأرش فإذا تعذر
أحدهما، لفوات محله - كما في هذه الصورة - تعين الآخر وهو الأرش.
مبحث في اجتماع ديات في شخص واحد
قال الأئمة الأربعة: إذا اجتمعت ديات كثيرة في شخص واحد بجراحات متعددة،
بقطع أطراف، وإبطال منافع مختلفة، وهي كثيرة عده بعضهم إلى عشرين أو أكثر،
وقيل: أربعة عشر شيئاً، منها - عقل، سمع، بصر، شم، نطف، صوت، ذوق، مضغ،
أمناء، إحبال، جماع، إفضاء بطش، مشي، ذهاب شعر، أو جلد، وغير ذلك وتضاف
إليها المواضح، وسائر الشجاج، والجوائف، والحكومات، والكسور فيجتمع شيء
كثير من الجنايات على الإنسان. قد لا ينحصر.
فإذا أزال الجاني أطرافاً من المجني عليه تقتضي ديات متعددة، كقطع أذنين،
ويدين، ورجلين، وكذلك لطائف تقتضي ديات عدة، كإبطال سمع، وإبطال بصر،
وإبطال شم، وإبطال ذوق، وتعطيل، نسل، وغير ذلك. فإذا حصل شيء من هذا ومات
المجني عليه بسبب السراية منها، أو من بعضها، ولم يندمل البعض، فتجب على
الجاني دية واحد، وتتداخل الديات، ويسقط بدل ما ذكر. لأنها صارت نفساً، أما
إذا مات المجني عليه بسراية بعضها، بعد اندمال بعض آخر منها لم يدخل ما
اندمل في دية النفس قطعاً، وكذا الحكم له جرحه جرحاً خفيفاً لا مدخل
للسراية فيه، ثم أجافة فمات بسراية الجائفة، قبل اندمال ذلك الجرح، فلا
يدخل أرشه في دية النفس، أما ما لا يقدر بالدية، فيدخل أيضاً، وكذا لو قطع
الجاني عنق المجني عليه قبل اندماله من الجراحة يلزمه دية واحدة للنفس في
الأصح، لأن دية النفس وجبت قبل استقرار ما عداها - فيدخل فيها بدله
كالسراية.
وقيل: تجب ديات ما تقدم من أنواع الجراحة، لأن السراية قد انقطعت بالقتل
فأشبه أنقطاعها بالاندمال، لأن الآدمي مضمون مقدر، ولأن الثابت في ضمانه
التقيد.
(5/309)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
فإن كان الفعل مختلفاً. كأن حز الرقبة عمداً، والجنايات الحاصلة قبل الحز
حصلت خطأ، أو شبه عمد، أو عكسه، كأن حزه خطأ، والجنايات وقعت عمداً، أو شبه
عمد، فلا تداخل لشيء مما دون النفس، فيها، في الأصح من المذاهب، بل يجب دية
الطرف والنفس لاختلافهما، واختلاف من تجب عليه، فلو قطع يديه، ورجليه خطأ،
أو شبه عمد، ثم قطع رقبته عمداً، أو قطع هذه الأطراف عمداً، ثم حز الرقبة
خطأ أو شبه عمد، وعفا الأول في العمد على ديته، وجبت في الصورة الأولى دية
خطأ، أو شبه عمد، ودية عمد: وفي الصورة الثانية ديتا عمد، ودية خطا، وقيل:
تسقط الديات فينهما.
ولو حز الرقبة غير الجاني المتقدم تعددت الديات، لأن فعل الإنسان لا يدخل
في فعل غيره، فيلزم كل منهما ما أوجبه، فالذي اعتدى بجناية الجراحات يدفع
دياتها، والذي قتله يدفع ديته. اهـ.
مبحث ما تجب فيه الحكومة.
اتفق الأئمة رحمهم الله تعالى: على أن الشيء الذي يوجب مالاً. لا مقدر فيه
من الدية، ولم تعرف نسبته من مقدر، مثل الضلع، والصدر، والفخذ، والزند،
وغيرها، أما إذا عرفت نسبته منه كأن كان بقرب موضحة، أو جائفة، فيجب أكثر
من قسطه، وحكومة، وهي جز من الدية، نسبته إلى دية النفس في الأصح، وقيل:
نسبته إلى عضو الجناية، نسبة نقص الجناية من قيمة المجني عليه، لو كان
رقيقاً بصفاته التي هو عليها، وذلك مثل جرح يده، فيقال: كم قيمة المجني
عليهً بصفاته التي هو عليها، بغير جناية لو كان عبداً رقيقاً؟ فإذا قيل:
مائة دينار، فيقال: كم قيمته بعد حصول الجناية عليه؟ فإذا قيل: تسعون،
فيكون التفاوت العشر، فيجب في هذه الحالة عشر دية النفس وهو عشر من الإبل
إذا كان المجني عليه حراً، ذكراً، مسلماً، لأن الجملة مضمونة بالدية
المقدرة من الشارع الحكيم، فتضمن الأجزاء بجزء منها، كما في نظيره من عيب
المبيع.
والقول الثاني: أن تنسب إلى عضو الجناية، لا إلى دية النفس، فيجب في هذه
الصورة عشر دية اليد التي وقعت عليها الجناية، وهو خمس من الإبل، فإن كانت
الجناية على إصبع واحد، وجب بعير، أو الجناية وقعت على أنملة من إصبع وجب
ثلث بعير في غير الإبهام، ويقاس على ذلك ما أشبهه من القضايا.
وللحاجة في معرفة الحكومة إلى تقدير الرق.
قال الأئمة: العبد اصل الحر في الجنايات التي لا يتقدر أرشها، كما أن الحر
أصل العبد، في الجنايات التي قدر الشارع أرشها، وتجب الحكومة إبلاً كالدية،
أو تجب نقداً، فطلاً من الأمرين جائز، حسب الظروف المناسبة للمتقاضين، لأنه
يوصل إلى الغرض المطلوب، وهو دفع الضمان، وتعويض المجني عليه عما أصابه،
ومحل الخلاف إذا كانت الجناية على عضو له ارش مقدر، فإن كانت الجناية على
عضو ليس له أرش مقدر مثل الصدر، أو الفخذ، أو نحو ذلك اعتبرت الحكومة من
(5/310)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
دية النفس قطعاً، وتقدر لحية امرأة أزيلت ففسد منبتها، لحية عبد كبير يتزين
بها، ومثلها الخنثى ولو قلع سناً، أو قطع إصبعاً زائدة، ولم ينقص بذلك شيء،
قدرت زائدة لا أصلية خلفها، ويقوم له المجني عليه منصفاً بذلكن ثم يقوم
مقطوع الزائد، فيظهر التفاوت بذلك لأن الزائدة تشد الوجه، ويحصل بها نوع
جمال، ويستثنى من اعتبار النسبة لو قطع أنملة لها طرف زائد، فيجب فيها مع
دية أنملة حكومة، يقدرها القاضي باجتهاده، ولا يعتبر النسبة لعدم إمكانها
فإن كانت الحكومة لأجل طرف له أرش مقدر، كاليد، والرجل مثلاً، اشترط فيها
أن لا تبلغ تلك الحكومة مقدر الطرف، لئلا تكون الجناية على العضو مع بقائه
مضمونة بما يضمن به العضو نفسه، فينقص حكومة الأنملة بجرحها، أو قطع ظفرها
عن يدها، وحكومة جراحة الإصبع بطوله عن ديته، ولا يبلغ بحكومة ما دون
الجائفة من الجراحات على البطن، أو نحوه أرش الجائفة، فإن بلغته نقص القاضي
منه شيئاً باجتهاده لئلا يلزم المحذور السابع، ولا يكفي أقل متمول كما قاله
الإمام الشافعي رحمه الله تعالى.
أو كانت الحكومة لطرف لا تقدير فيه، ولا يتبع مقدراً، كفخذ، وساعد ليد،
وظهر، وكف يدن فالشرط أن لا تبلغ حكومته دية نفس، وهو معلوم إنها لا تصل
إلى ذلك لأن الكل أكثر من الجزء، بل المراد أن لا يصير بلوغها أرش عضو
مقدر، وإن زادت عليه فإن تبع مقدراً، كالكف فإنه يتبع الأصابع، فالشرط فيه
أن لا يبلغ ذلك دية المقدر وإن بلغ بحكومة الكف دية إصبع واحد جاز، لأن
منفعتها رفعاً، واحتواشاً تزيد على منفعة إصبع، كما أن حكومة اليد الشلاء،
لا تبلغ دية اليد السلمية، ويجوز أن تبلغ دية الإصبع، ويجوز أن تزيد عليها،
وإنما لم يجعل الساعد كالكف حتى لا يبلغ بحكومة جرحه دية الأصابع، لأن الكف
هي التي تتبع الأصابع لقربها، دون الساعد، لبعده عن الأصابع، ولهذا لو قطع
من الكوع لزمه ما يلزمه في لفظ الأصابع، ولو قطعت اليد من المرفق لزمه مع
نصف الدية حكومة الساعد.
قالوا: ويقوم لمعرفة الحكومة، المجني عليه بغرض رقه، لكن بعد اندمال الجروح
لا قبله، لأن الجراحة قد تسري إلى النفس فتزهقها، أو تسري إلى إتلاف ما
يكون واجبه مقدراً من الأعضاء، فيكون ذلك هو الواجب لا الحكومة. فإن لم يبق
بعد اندمال الجروح نقص في المنفعة، ولا نقص في الجمال، ولا تأثرت به
القيمة، اعتبر فيه أقرب نقص، من حالات نقص فيه، إلى الاندمال، وهكذا، وذلك
لئلا تحيط الجناية على المعصوم، فإذا لم يظهر النقص إلا حال سيلان الدم،
اعتبرنا القيمة حينئذ، واعتبرنا الجراحة دامية.
وأما إذا كانت الجراحة خفيفة لا تؤثر في حال سيلان الدم فإنه يعزر الجاني،
إلحاقاً لهما، باللطمة، والضربة التي لم يبق لها أثر للضرورة، لانسداد باب
التقويم الذي هو عمدة الحكومة.
وقيل: يقدر النقص المذكور، قاض، باجتهاده، لئلا تكون الجناية إن غير غرم.
وقيل: لا غرم حينئذ، بل الواجب التعزير كالضربة، والصفعة التي لم يبق لها
أثر، والجرح المقدر أرشه، كموضحة، يبتعه الشين الكائن حواليه، ولا يفرد
بحكومة، والجرح الذي لا يتقدر أرشه كدامية، يقدر الشين حواليه بحكومة عن
حكومة الجرح، لضعف الحكومة عن الاستتباع اهـ.
(5/311)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
المالكية رحمهم الله - قالوا: يشترط في القصاص من جراح الجسد غير الرأس
اتحاد
المحل. فلا يجوز أن يقتص من جرح عضو أيمن في عضو أيسر، ولا عكسه، ولا يجوز
أن تقطع سباية مثلاً بإبهام، ولو كان المجني عليه طويلاً، وعضو الجاني
قصيراً فلا يكمل بقية الجرح من عضوه الثاني.
ويقتص من الطبيب الذي يباشر القصاص من الجاني إذا زاد على المساحة المطلوبة
عمداً فيقتص منه بقدر ما زاد، أما لو نقص عن المطلوب عمداً أو خطأ فلا يقتص
ثانياً، فإن مات المقتص منه من اثر القصاص لتعديه ما أمر به.
وإذا لم يتحد المحل، أو لم يتعمد الطبيب الزيادة بل أخطأ، تجب الدية على
الجاني، فإذا قطع الجاني خنصراً مثلاً، ولا خنصر له، فلا يجب القصاص لعدم
اتحاد المحل، وتعين العقل، فإن كانت الجناية عمداً، أو أقل من ثلث الدية
وجبت في مال الجاني، وإن كانت الجناية خطأ، ولكنها أكثر من ثلث الدية فتجب
الدية على العاقلة، وذلك كحدقة عين أعمى جنى عليها صاحب عين سالمة
واقتلعها، فإن السالمة لا تؤخذ بالعين التالفة، لعدم المماثلة، فلا يجب
القصاص، ولا تجب نصف الدية، بل يلزمه حكومة عدل بالاجتهاد، في قيمة خسارة
العين العمياء.
أما إذا كان الجاني رجلاً اعمى، وفقأ عين رجل سليمة، فلا يجب القصاص، فإنه
لا تؤخذ السليمة بالعمياء، بل تجب نصف الدية على الجاني ولو كانت الجناية
عمداً، وكذلك لسان الأبكم الذي لا يتكلم لا يقطع بالناطق، ولا عكسه، بل يجب
في اللسان الناطق الدية، وتجب في اللسان الأبكم حكومة، كما قيل في العين
العمياء، والعين البصيرة.
ولا قصاص في ضربة على الخد إذا لم ينشأ عنها جرح، ولا ذهاب منفعة ولا عقل
منها ولا قصاص من ضربة بيد، أو رجل بغير وجه، كصفع بقفا، لم ينشأ عنها جرح
ولا ذهاب منفعة كاللطمة، ولا قصاص من إزالة شعر اللحية، ولا من إزالة شفر
عين، بضم الشين المعجمة، وسكون الفاء، وهو الهدب، ولا من إزالة شعر حاجب،
فعمد هذه المذكورات كالخطأ عدم القصاص والعقل، وإنما يجب الأدب في عمدها
دون خطئها، وتجب حكومة في شعر اللحية، وشعر العين، وشعر الحاجب إن لم ينبت
كما كان اولاً، لأن الأهداب والحواجب ليست أعضاء لها منفعة ولا فعل بين
ضروري في الخلقة، أما إذا نشأ من هذه الضربات جرح، أو ذهاب منفعة، فإنه يجب
فيها القصاص. أما الضرب بالسوط فيجب في عمدها القصاص، وإن لم ينشأ عنه جرح،
ولا ذهاب منفعة، لأن الضرب بالسوط عهد للأدب والحدود، وليس فيه متألف في
العادة.
ولا قصاص أن عظم الخطر في الجراحات التي في الجسد غير المثقلة، والآمة،
فإنه لاقصاص فيها من غير قيد بعظم الخطر، لأن شأنهما عظم الخطر، فلا قصاص
في كسر عظم الصدر، وكسر
(5/312)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
عظم الصلب، ورض الأنثيين، وفيها العقل كاملاً بعد البرء، وذلك بخلاف ما إذا
قطعهما، أو جرحهما فإنه يجب القصاص على الجاني، لأنه ليس من المتالف.
وأن جرحه جرحاً في القصاص كموضحة مثلاً، فذهب بسببه نمو بصره، أو شلت يده،
اقتص منه، ويجب أن يفعل بالجاني بعد تمام برء المجني عليه مثل ما فعل من
الجناية، فإن حصل للجاني مثل الذاهب من المجني عليه، أو زاد الذاهب من
الجاني، بأن ذهب بسبب الموضحة شيء آخر مع الذاهب، بأن أوضح فذهب بصره
وسمعه، فلا كلام لذلك الجاني الذي اقتص منه، لأنه ظالم يستحق القصاص بالوجه
الذي فعل به، والزيادة أمر من الله تعالى، وإذا لم يحصل للجاني مثل الذاهب
من المجني عليه، بأن لم يحصل شيء أصلاً، أو حصل غيره، فيجب عقل ما ذهب من
المجني عليه في مال الجاني إذا كان الجرح عمداً، أو العاقلة إن كان خطأ،
كأن ضربه بقضيب مما لا قصاص فيه، أو لطمه على خده، أو قفاه، لأن الضرب لا
يقتص فيه، إنما يقتص من الجروح لقول تعالى {والجروح قصاص} فذهب بصر المجني
عليه من أثر الضرب، فإنه لا يضرب بل يجب عليه العقل، إلا أن يمكن الاذهاب
من الجاني بفعل فيه يذهب منه مثل ما أذهب بما لا قصاص فيه، كحيلة تذهب بصره
بلا ضرب، فإنه يفعل به.
وإذا قطع بعد الجناية عضو رجل قاطع لعضو غيره عمداً، وسقط بآفة سماوية، أو
قطع عضوه بسبب سرقة، أو قطع بقصاص لغير المجني عليه أولاً، فلا شيء للمحني
عليه، لا قصاص، ولا دية، لأنه إنما تعلق حقه بالعضو المماثل وقد ذهب، وكذا
لو مات القاطع فلا شيء على الورثة' بخلاف مقطوع العضو قبل حدوث الجناية
فتجب عليه الدية، وفي القصاص يجوز أن يؤخذ من الجاني عضو قوي بعضو ضعيف جنى
عليه، فإذا جنى صاحب عين ضعيفة الأبصار خلقة، أو من كبر صاحبها، فإن
السليمة تقلع بالضعيفة، ما لم يكن الضعف جداً، وإلا فإن كان العضو شديد
الضعف فإنه تجب الدية، وإن فقأ سالم العينين عين أعور، فإنه يخير المجني
عليه بين فقء العين المماثلة من الجاني، وبين اخذ دية، وإن فقأ سالم
العينين عين أعور، فإنه يخير المجني عليه بين فقء العين المماثلة من
الجاني، وبين أخذ دية كاملة من مال الجاني، أي دية غين نفسه، وإذا كان
المشهور في المذهب تحتم القصاص في العمد، وإنما وجب التخيير لعدم مساواة
غين الجاني، والمجني عليه في الدية، لأن دية عين المجني عليه ألف دينار،
بخلاف عين الجاني فديتها خمسمائة دينار، فلو ألزمناه بالقصاص لكان أخذ
الأدنى في الأعلى، وهو ظلم له، فيجب التخيير، وإن فقأ أعور من سالم عيناً
مماثلة عين الجاني السالمة، فيجوز للمجني عليه سالم العينين القصاص من
الأعور الجاني بفقء عينه السالمة فيصير أعمى، أو ترك القصاص، ويأخذ من
الجاني دية عينه، وهي ألف دينار على أهل الذهب، لتعين القصاص بالمماثلة،
وصارت الثانية عين أعور فيها دية كاملة، لأنه ينتفع بالواحدة انتفاع صاحب
العينين.
وإن فقأ الأعور من السالم غير المماثلة لعينه، بأن فقأ من السالم المماثلة
للعوراء، فإنه يجب نصف دية فقط في مال الجاني، ولا يجوز للمجني عليه أن
يقتص منه لعدم المحل المماثل، وإن فقأ
(5/313)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
الأعور عيني السالم عمداً، في مرة، أو في مرتين، وساء فقأ التي ليس له
مثلها أولاً، أو ثانيا على الرجح، فيجب القود للمجني عليه، بأن يفقأ من
الجاني العين المماثلة فيصير أعمى مثله، ويأخذ من الجاني نصف الدية، بدل
العين التي ليس لها ممثلة، ولم يخير سالم العينين في المماثلة، بحيث يكون
له القصاص، أو أخذ الدية، لئلا يلزم عليه أخذ دية ونصف، حيث اختار الدية في
العينين، وهو خلاف ما ورد عن الشارع صلوات الله وسلامه عليه.
مبحث دية الأصابع والكف
الشافعية، والمالكية، والحنفية - قالوا: في قطع اصابع اليد نصف الدية، لأن
في قطعها تفويت جنس منفعة البطش وهو الموجب، فإن قطعها مع الكف ففيه أيضاً
نصف الدية، لقوله صلى الله عليه وسلم: (وفي اليدين الدية، وفي إحداهما نصف
الدية) ، ولأن الكف تبع للأصابع لأن البطش بها، وإن قطعها مع نصف الساعد،
ففي الصابع والكف نصف الدية، وفي الزيادة حكومة عدل، لأن الشرع أوجب في
اليد الواحدة نصف الدية، واليد اسم لهذه الجارحة إلى المنكب، فلا يزاد على
تقدير الشرع، وأن قطع الكف عن المفصل وفيها أصبع واحدة ففيه عشر الدية، وإن
كان أصبعان فالخمس، ولا شيء في الكف، لأن الأصابع اصل، والكف تابع حقيقة
وشرعاً، لأن البطش يقوم بها ولو كان في الكف ثلاثة أصابع يجب أرش الأصابع،
ولا شيء في الكف بالأجماع لأن الصابع أصول في التقوم، وللأكثر حكم الكل،
فاستتبعت الكف، كما إذا كانت الأصابع قائمة بأسرها.
قالوا: وفي الصابع الزائدة حكومة عدل، تشريفاً للآدمي، لانها جزء من يده،
ولكن لا منفعة فيها، ولا زينة، وكذلك السن الزائدة، فيها حكومة عدل، وإن
كانت كف المجني عليه ناقصة الصابع مثلاً، لم تقطع السليمة بها، ولو قطع
أصبعاً فتأكل غيرها، أو شل أصبع بجوارها أو كف، فلا قصاص في المتآكل،
والمشلول بالسراية، لعدم تحقق العمديية، بل فيه الدية، أو حكومة في مال
الجاني، ولو اقتص في أصبع من خمسة فسرى لغيرها لم تقع السراية. قصاصاً، بل
يجب على الجاني للأصابع الأربع أربعة أخماس الدية، ولا حكومة لمنابت
الصابع، بل تدخل في ديتها، ولو ضرب يده فتورمت، ثم سقطت بعد أيام وجب
القصاص، ولا أثر في القصاص في يد لخضرة أظفار وسوادها، لأنه علة ومرض في
الظفر، وتقطع ذاهبة الأظفار بسلميتها، لانها دونها، دون العكس، لأن الكامل
لا يؤخذ بالناقص. ولو نقصت يده أصبعاً فقطع يداً كاملة قطع وعليه أرش
الصبع، ولو قطع كامل اليد ناقصة، فإن شاء المقطوع أخذ دية اصابعه الربع وإن
شاء قطعها، ولو قطع كفاً بلا أصابع فلا قصاص إلا أن تكون كفه مثلها، ولقد
قطع فاقد الصابع كاملها قطع كفه وأخذ دية الأصابع اهـ.
مبحث في الشجاج
اتفق الأئمة الأربعة - رحمهم الله تعالى: على أن الشجاج في اللغة، والفقه،
عشرة.
(5/314)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
أولها - الحارصة - وهي التي شقت الجلد، ولاتخرج الدم.
ثانيها - الدامعة - وهي التي تظهر الدم ولا تسيله، كدمع العين.
ثالثها - الدامية - وهي التي تسيل الدم، بأن تضعف الجلد بلا شق له حتى يرشح
الدم.
رابعها - الباضعة - وهي التي تبضع الجلد، وتقطعه، أي - تشقه.
خامسها - المتلاحمة - وهي ما غاصت في اللحم في عدة مواضع منه، ولم تقرب
للعظم.
سادسها - السمحاق: وهي التي تصل إلى السمحاق، وهي جلدة رقيقة بين اللحم،
وعظم الرأس وتسمى (الملطاه) .
سابعها - الموضحة: وهي التي توضح العظم وتبينه، أي - تكشفه.
ثامنها - الهاشمة: وهي التي تهشم العظم وتكسره.
تاسعها - المنقلة: وهي التي تنقل العظم بعد الكسر، وتحوله.
عاشرها - الآمة: وهي التي تصل إلى أم الرأسن وهو الذي فه الدماغ، وتسمى
(المأمومة) فقد علم بالاستقراء بحسب الآثار أن الشجاج لا تزيد على ما ذكر
من العشر.
أما ما بعدها وهي - الدامغة - وهي التي تخرج الجماغ من موضعه، فإن النفس لا
تبقى بعدها عادة، فيكون ذلك قتلاً لا شجاص، وهي مرتبة على الحقيقة اللغوية
في الصحيح.
الموضحة
اتفق الفقهاء، على وجوب القصاص في الموضحة إن كانت عمداً، لما روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قضى بالقصاص في الموضحة، ولأنه يمكن أن ينتهي
السكين إلى العظم فيتساويان، فيتحقق القصاص، ولا يشترط فيها ما لوه بال
واتساع، بل يثبت القصاص فيها، وإن كان الشج ضيقاً، ولو قدر مغرز إبرة.
واتفقوا: على أن الموضحة، إن كانت خطأ فيجب فيها نصف عشر الدية وهو خمس من
الإبل وقد ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابه لعمرو بن حزم،
وثبت من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: (في الموضحة خمس) يعني من الإبل، ولما رواه الترمذي وحسنه (في الموضحة
خمس من الإبل) وذلك لحر، ذكر، مسلم، غير جنين، وتراعى هذه النسبة في حق
غيره من المرأة، والكتابي وغيرهما، ففي موضحة الكتابي الخطأ، يجب بعير
وثلثان، وفي موشحة المجوسي ونحوه، ثلث بعير، وفي موضحة المرأة المسلمة،
الحرة، يجب بعيران، ونصف بعير، وهو نصف عشر ديتها.
موضع الموضحة
المالكية - قالوا: المضحة ما أظهرت عظم الرأس، أو عظم الجبهة وهو ما بين
الحاجبين وشعر
(5/315)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
الرأس، أو عظم الخدين، واللحي الأعلى، ولا تكون في اللحي الأسفل، لأنه في
حكم العنق، ولا تكون في عظم النف، وإن وجب القصاص من عمده، وذلك لأن الوجه
مشتق من المواجهة، ولا مواجهة للناظر فيهما، فلو وجد في اللحي الأسفل
والأنف لا يجب الأرش المقدر.
الحنفية، والشافعية، والحنابلة - قالوا: الموضحة تكون في جميع الوجه
والرأس، والجبهة والوجنتين، والذقن داخل في الوجه.
وأتفق الأئمة الأربع: على أن هذه الشجاج العشر المذكورة تختص بالوجه،
والرأس لغة، وما كان في غير الرأس والوجه، يسمى جراحة، والحكم مرتب على
الحقيقة في الصحيح، حتى لو تحققت في غيرهما نحو الساق، واليد، لا يكون لها
أرش مقدر، وإنما تجب حكومة عدل، لأن التقدير بالتوقيف، وهو إنما ورد فيما
يختص بهما، ولأنه إنما ورد الحكم في الموضحة لمعنى الشين الذي يلحقه ببقاء
أثر الجراحة، والشين يختص بما يظهر منها في الغالب، وهو هذان العضوان لا
سواهما.
بقية الشجاج
الحنفية - قالوا: لا قصاص في بقية الشجاج لأنه لا يمكن اعتبار المساواة
فيها لأنه لاحد ينتهي السكين اليهن ولأن فيما قوق الموضحة، وهي الهاشمة،
والمنقلة، والآمة، فيها كسر العظم، ولا قصاص فيه وهذا رواية عن أبي حنيفة
رحمه الله.
وقال محمد في الأصل - وهو ظاهر الرواية - يجب القصاص فيما قبل الموضحة،
لأنه يمكن اعتبار المساواة فيهن إذ ليس فيه كسر العظم، ولا خوف هلاك غالب،
فيسبر غورها بمسبار، ثم تمخذ حديدة بقدر ذلك، فيقطع بها مقدرا ما قطع،
فيتحقق استيفاء القصاص.
قالوا: وفيما دون الموضحة، وهي الست المتقدمة عليها، من الحارصة إلى
السمحاق، يجب حكومة عدل، لأنه ليس فيها أرش مقدر، ولا يمكن غهداره، فوجب
اعتبراه بحكم العد، وهو ماثور عن النخعي، وعمر بن عبد العزيز.
قالوا: وفي الهاشمة عشر الدية، وفي المنقلة عشر الدية، ونسف عشر الدية، وفي
الآمة ثلث الدية، وفي الجائفة ثلث الديةن فإن نفذت فهما جائفتان ففيهما
ثلثا الدية. لما روي في كتاب عمرو بن حزم، رضي الله تعالى عنه، أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: (وفي الموضحة خمس من الإبل، وفي الهاشمة غشر، وفي
المنقلة خمس عشر، وفي الآمة، ويروى المأمومة ثلث الدية وقال عليه الصلاة
والسلام: (في الجائفة ثلث الجية) وعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه حكم
في جائفة نفذت إلى الجانب الآخر بثلثي الدية، ولأنها إذا نفذت نزلت منزلة
جائفتين، إحداهما من الجانب البطن، والأخرى من جانب الظهر، وفي كل جائفة
ثلث الدية. فلهذا وجب في النافذة ثلث الدية.
وقالوا: إن الجائفة تختص بالجوف، جوف الرأس، أو جوف البطن.
وتفسير حكومة العدل على ما قاله الإمام الطحاوي رحمه الله: إن يقوم
مملكوكاً بدون هذا الأثر
(5/316)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
ويقوم، وبه هذا الأثر ثم ينظر إلى تفاوت ما بين القميتين، فإن كان نصف عشر
القيمة، يجب نصف عشر الدية، وإن كان ربع عشر، فربع عشر.
الشافعية - قالوا: في الهاشمة مع إيضاح، أو احتاج إليه بشق لإخراج عظم، أو
تقويمه، عشرة من الإبل، وهي عشر دية الكامل بالحرية، لما روي عن زيد بن
ثابت رضي الله تعالى عنه، أنه صلى الله عليه وسلم: (اوجب في الهاشمة عشراً
من الإبل) رواه الدارقطني والبيهقي وفعل ذلك لا يكون إلا عن توقيت، وهاشمة
دون إيضاح خمس من الإبل على الصح، لأن العشرة في مقابلة الإيضاح والهشم،
وأرش الموضحة خمسة، فتعين أن الخمسة الباقية في مقابلة الهشم.
وقيل: في الهشم إذا خخلا عن غيضاح العظم تجب حكومة، لأنه كسر عظم بلا
إيضاح، فأشبه كسر سائر العظام - ومنقلة - خمسة عشر بعيراَ، روى النسائي ذلك
عن النبي صلى الله عليه وسلم، ونقل في كتاب (الأم) فيه الإجماع، وكذا أبن
المنذر، ويجب القصاص في الموضحة فقط. وفي مأمونة ثلث الدية لخبر عمرو بن
حزم بذلك قال في البحر: وهو إجماع، وفي الدامغة ما في المأمومة على الأصح
المنصوص، وقيل: تزاد حكومة لخرق غشاء الدماغ.
قالوا: وإنما يجب في المأمومة، وما قبلها ما ذكر إن اتحد الجاني، وأما لو
تعدد فحكمه ما يأتي: لو أوضح واحد، ذكراً، حراً، مسلماً فهشم آخر - بعد
الإيضاح، أو قبله - ونقل ثالث. وام رابع، فعلى كل من الثلاثة خمس من الإبل،
أما الأول فبسبب الإيضاح وأما الثاني فلأنه الزائد عليها من دية الهاشمة،
وأما الثالث فلنه الزائد عليهما من دية المنقلة، وعلى الرابع تمام الثلث
وهو ثمانية عشر بعيراً وثلث بعير، وهو مابين المنقلة والمأمومة.
قالوا: والشجاج الخمس التي قبل الموضحة من الحارصة إلى اسمحاق. إن عرفت
نسبتها من الموضحة، بأن كان على رأسه موضحة إذا قيس بها الباضعة مثلاً عرف
أن المقطوع ثلث، أو نصف في عمق اللحم، وجب قسط من أرشها بالنسبة، فإن شككنا
في قدرها من الموضحة، اوجبينا اليقين، وإن لم تعرف نسبته منها فتجب حكومة
عدل لا بتلغ أرض موشحة، كجرح سائر البدن، كالإيضاح والهشم، والتنقيلن فإن
فيه الحكومة فقط، لأن أدلة ما مر في الإيضاح، والهشم، والتنقيل لم يشمله
لاختصاص أسماء الثلاثة بجراحة الرأس، والوجه، وليس غيرهما في معناهما.
قالوا: وفي جائفة وإن صغرت ثلث دية، لثبوت ذلك في حديث عمرو بن حزم رضي
الله تعالى عنه.
وهذا كالمستثنى مما قبله إذ لا جرح في البدن يقدر غيرها، وهي جرح يصل إلى
جوف فيه قوة تحيل الغذاء، أو الدواء، كداخل بطن، وداخل صدر، وداخل ثغرة
نحر، وداخل جبين، وداخل خاصرة، ولا فرق بين أن يجيف بحديدة، أو خشبة، ولا
جائفة في الفم، والأنف، والجفن، والعين، وممر البول، إذ لا يعظم فيها الخطر
على النفس كالأمور المتقدمة، ولأنها لا تعد من الأجواف، فتجب
(5/317)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
فيها حكومة، فلو وصلت الجراحة إلى الفم بإيضاح من الوجه، وجب على الجاني
أرش موضحة، وهو خمس من الإبل، ولو وصلت الجراحة داخل النف، بكسر قصبة الأنف
فيجب أرش هاشمة، وهة عشر من الإبل مع وجوب حكومة فيهما للفوذ إلى الفم،
والأنف، لأنها جناية أخرى، ولزيادة الخطر، والقبح فيهما.
قالوا: وإن حز بسكين من كتف، أو فخذ إلى البطن فأجافه، فيجب على الجاني أرش
جائفة، وهو ثلث دية - وحكومة لجراحة الكتف' أو الفخذ، لأنها في غير محل
الجائفة، وإن حز بها من الصدر إلى البطن أو النحر، فيجب فيها أش جائفة بلا
حكومة، لأن جميعه محل الجائفة، ولو أجافه حتى لذع كبده، أو طحاله لزمه مع
دية الجائفة حكومة في ذلك، ولو كسر ضلعه كانت حكومته معتبرة بنفوذ الجائفة،
فإن نفذت في غير الضلع لزمه حكومة مع الدية، وإن لم تنفذ إلا بكسره، دخلت
حكومة كسره في دية الجائفة.
ولا يختلف أرش موضحة بكبرها، ولا صغرها، لاتباع الاسمن ولا بكونها بارزة،
أو مستورة بالشعر، ولا يشترط أن تكون موضحة بل لو غرز فيه غبرة فوصلت إلى
الجوف تسمى جائفةن ولذا قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: وهكذا كل ما
في ارأس من الشجاج فهو على الأسماء اهـ.
واعلم أن الموضحة تتعدد صورة، وحكماً، ومحلاً، وفاعلاً، فلو أوضح الجاني مع
اتحاد الحكم موضعين بينهما لحم، وجلد معاً. قيل: أو بينهما لحم فقط، أو جلد
فقط، فموضحتان أما في الأولى فلاختلاف الصورة مع قوة الحادز، وأما في
الثانية فلوجود حاجز بين الموضعين، والأصح أنها واحدة، ولو كثرت الموضحات
تعدد الأرش بحسبها ولا ضبط، وقيل: لا يجب أكثر من دية النفس.
قالوا: ولو انقسمت موضحة عمداً، وخطأ فموضحتان، أو شملت رأساً ووجهاً
فموضحتان، على الصحيح، ولو وسع الجاني موضحته مع اتحاد الحكم فواحدة على
الصحيح وقيل: ثنتان. ولو وسع غير الجاني الموضحة، فثنتان، لأن فعل الإنسان
لا ينبني على فعل غيره. كما لو قطع يد رجل، وحز آخر رقبته، فإن على كل
منهما جنايته. والجائفة كالموضحة في الاتحاد، والتعدد، المتقدم، ولو طعنه
بآلة نفذت في بطنه وخرجت من ظهره، أو عكسه أو نفذت من جنب وخرجت من جنب
فهما جائفتان في الأصح. اعتباراً للخارجة بالداخلة، وقد ثبت أن أبا بكر رضي
الله تعالى عنه قضى في رجل رمى ردلاً بسهم فأنفذه بثلثي الدية، وثبت أيضاً
أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قد قضى بهذا الحكم، ولا مخالف
لهما فكان لإجماعاً اهـ.
المالكية رحمهم الله تعالى - قالوا: يقتص من الموضحة. ويقتص مما قبلها من
كل ما لا يظهر به العظم وهي سنة. ثلاث متعلقة بالجلد، وهي، الدامية،
والحارصة والسممحاق، وثلاث متعلقة باللحم، وهي الباضعة، والمتلاحمة،
والملطاء، بكسر الميم.
قالوا: والهاشمة، تعتبر في القصاص إن اتحد المحل، بالمساحة حولاً، وعرضاً،
وعمقاً، وما بعد الموضحة من الشجاج فلا قصاص فيه، بل يتعين فيه العقل،
فيستوي عمده، وخطؤه، وهي:
(5/318)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
المتنقلة (بفتح النون كسر القاف مشددة) وهي لا تكون إلا في الرأس، أو
الوجه، هي ما ينقل فيها فراش العظم، وهو العظم الرقيق الكائف فوق العظم
كقشر البصل، أي ما يزيل منها الطبيب فراش العظم لأجل الدواء، ليلتئم الجرح.
وإنما لم يكن فيها قصاص لشدة خطرها على النفس، وإزهاق الروح.
وآمة. بفتح الهمزة ممدودة، وهي ما أفضت لأم الدماغ، أي الجرح الواصل لأم
دماغ، ولم تخرقها. وأم الدماغ جلدة رقيقة مفروشة عليه، متى انكشفت عنه مات،
والدماغ اسم للمخ.
قالوا: ولا يجب القصاص إن عظم الخطر، واشتد الخوف في غير الجراحات التي بعد
الموضحة. أي جراح الجسد غير المنقلة، والآمة، المتقدمتين. لأنه لا قصاص
فيهما من غير قيد بعظم الخطر، لأن شأنهما عظم الخطر، والجراحات التي في
الجسد ويخاف منها إزهاق الروح، ككسر عظم الصدر، وكسر عظم الصلب، أو العنق،
ورض الأنثيين.
مبحث في بأخير القصاص
الحنفية - قالوا: من جرح رجلاً جراحة عمداً، ووجب القصاص، فلا يقتص منه حتى
يبرأ من الجراحة، لقوله صلوات الله وسلامه عليه: (يستأني في الجراحات سنة)
ولأن الجراحات يعتبر فيها مآلها لا حالها لأن حكمها في الحال غير معلوم،
لأنها ربما تسري إلى النفس فيظهر أنه قتل، وإنما يستقر الأمر بالبرء.
المالكية - قالوا: يجب تأخير القصاص فيما دون النفس لعذر كبرد شديد، أو حر
يخاف منه الموت، لئلا يموت فيلزم أخذ نفس بدون نفس، وكذلك يؤخر إقامة
القصاص في الأطراف إذا كان الجاني مريضاً حتى يبرأ من مرضه، ويؤخر أيضاً
القصاص فيما دون النفس حتى يبرأ المجروح، لاحتمال أن يموت، فيكون الواجب
القتل بقسامة، وينتظر برء المجني عليه، ولو تأخر البرء سنة، خوف أن يؤول
إلى النفس، أو إلى ما تحمله العاقلة، وتجب الحكومة إذا برئ على شين، وإلا
ففيه الأدب في العمد.
الشافعية - قالوا: يجب أن يقتص المستحق على الفور، إن طلب ذلك في النفس
جزماً، ويقتص من الجاني فيما دون النفس في الحال، اعتباراً بالقصاص في
النفس، لأن الموجب قد تحقق فلا يعطل، ولأن القصاص موجب الإتلاف فيتعجل،
كقيم المتلفات، والتأخير أولى لاحتمال العفو، ويجوز للمجني عليه أن يقطع
الأطراف متوالية، ولو فرقت من الجاني، لأنها حقوق واجبه في الحال.
تأخير قصاص الحامل
واتفق الأئمة: على أن المرأة الحامل إذا وجب عليها القصاص في النفس أو
الأطراف، إذا طلب المجني عليه حبسها، فإنها تحبس حتى تضع حملها، ويؤخر عنها
القصاص في النفس والأطراف حتى
(5/319)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
تضع وترضع وليدها وينقضي النفاس، ويستغني عنها ولدها بغيرها من امرأة أخرى،
أو بهيمة يحل لبنها، أو فطام حولين، إذا فقد ما يستغني الولد به، وذلك في
قصاص النفس. لأنه اجتمع فيها حقان، حق الجنين وحق الولي في التعجيل، ومع
الصبر يحصل استيفاء الجنين، فهو أولى من تفويت أحدهما.
أما في قصاص الطرف أو حد القذف، فيؤجل لأن في استيفائه قد يحصل إجهاض
الجنين، وهو متلف له غالباً، وهو بريء، فلا يهلك بجريمة غيره، ولا فرق بين
أن يكون الجنين من حلال، أو جرام، ولا بين أن يحدث بعد وجوب العقوبة، أو
قبلها، حتى أن المرتدة لو حملت من الزنا بعد الردة، لا تقتل حتى تضع حملها،
وأما تأخيرها لارضاع اللبأ (هو اللبن الرقيق الذي ينزل من المرأة في الأيام
الأولى من الولادة) فلأن الولد لا يعيش إلا به محققاً، أو غالباً مع أن
التأخير يسير، وأما تأخيرها للاستغناء بغيرها، فلأ جل حياة الولد أيضاً،
فلأنه إذا وجب التأخير لوضعه فوجوبه بعد وجوده وتيقن حياته أولى، ويسن صبر
الولي بالاستيفاء بعد وجود مرضعات يتناوبنه، أو لبن شاة، أو نحوه، حتى توجد
امرأة فاضلة مرضعة لئلا يفسد خلقه نشؤه بالألبان المختلفة، ولبن البهيمة،
وتجبر المرضعة بالأجرة، فلو وجد مراضع وامتنعن أجبر الحاكم من يرى منهن
بالأجرة.
قالوا: ولو بادر المستحق وقتلها بعد انفصال الولد قبل وجود ما يغنه فمات
الولد، لزمه القود فيه، لأنه تسبب في موته، كما لو حبس رجلاً ببيت ومنعه
الطعام والشراب حتى مات. وإن قتلها وهي حامل، ولم ينفصل حملها، أو انفصل
سالماً ثم مات بعد ذلك فلا ضمان عليه لأنه لا يعلم أنه مات بسبب الجناية،
فإن انفصل ميتاً فالواجب، في غرة، وكفارة، وإن انفصل متألماً؟ ثم مات، فتجب
دية وكفارة، لأن الظاهر أن تألمه وموته من موتها، والدية والغرة تجب على
العاقلة، لأن الجنين لا يباشر بالجناية، ولا تتيقن حياته فيكون هلاكه خطأ،
أو شبه عمد، بخلاف الكفارة، فإنها تجب في ماله خاصة، وإن قتلها الولي بأمر
الحاكم - كان الضمان على الإمام علماً بالحمل، أو جهلا، أو علم الإمام
وحده. لأن البحث عليه، وهو الآمر به، والمباشر كالآلة، لصدور فعله عن رأيه
وبحثه.
قالوا: والصحيح تصديقها في حملها إذا أمكن حملها عادة بغير مخيلة، لقول
تعالى: {ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله
واليوم الآخر} من آية [228 سورة البقرة] أي من حمل أو حيض، ومن حرم عليه
كتمان شيء، وجب قبوله إذا أظهره كالشهادة، لأن الرسول صلوات الله وسلامه
عليه قبل قول الغامدية في الحمل، ولم يطلب منها البينة، ولا حلف يمين، أما
إذا لم يمكن حملها عادة كآيسة مثلاً، فلا تصدق في ادعاء الحمل، لأن الواقع
يكذبها.
وقيل: لا تصدق في اعترافها بالحمل، لأن الأصل عدم الحمل، وهي متهمة بتأخير
الواجب، فلا بد من بينة تقوم على ظهور مخايله أو إقرار المستحق.
وعلى القول الأول هل تحلف أو لا؟ قولان، أرجحهما الأول. لأن لها غرضاً في
التأخير.
(5/320)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
مبحث موت المجني عليه بعد القصاص.
الحنفية رحمهم الله تعالى - قالوا: إذا قطعت يد رجل عمداً، فاقتص له من يد
الجاني، ثم مات المجني عليه، فإنه يقتل المقتص منه، لأنه تبين أن الجناية
كانت قتل عمد، وحق المقتص له القود، واستيفاء القطع لا يوجب سقوط القود،
إذا استوفى طرف من عليه القود.
وعن أبي يوسف: أنه يسقط حقه في القصاص. أنه لما اقدم على القطع فقد أبرأه
عما وراءه، والحنفية: يقولون: إنما أقدم على القطع ظناً منه أن حقه فيه،
وبعد السراية تبين أنه في القود، فلم يكن مبرئاً عنه بدون العلم به.
الشافعية - قالوا: لو اقتص مقطوع عضو فيه نصف الدية من قاطعه، ثم المقطوع
الأول سراية، فيجب القصاص من القاطع، ويجوز لأولياء الدم العفو عنه بنصف
دية فقط لأن اليد المستوفاة قبل الموت مقابلة بالنصف الآخر.
وأن مات الجاني حتف أنفه، أو قتله غير القاتل، تعين نصف الدين في تركة
الجاني، ولو قطع ينده فاقتص المقطوع، ثم مات سراية، فلوليه حز رقبة الجاني
في مقابلة نفس مورثه؛ فإن عفا عن حزها، فلا شيء له، لأنه استوفى ما يقابل
الدية بقصاص اليدين.
مبحث الديات
المالكية، الشافعية، والحنابلة رحمهم الله تعالى - قالوا: الدية: هي المال
الواجب بجناية على الحر في نفس، أو فيما دونها، وأصلها ودية مشتقة من
الودي، وهو رفع الدية، ولأصل فيها الكتاب، والسنة، والإجماع، قال تعالى:
{ومن قتل مؤمنًا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله لا أن يصدقوا}
آية 92 من النساء والأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك كثيرة، والإجماع منعقد
على وجوبها في الجملة.
قالوا: يجب في قتل الذكر، الحر، المسلم، المحقون الدم، والقاتل له لا رق
فيه، مائة بعير، لأن الله تعالى أوجب في الآية المذكورة دية، وبينها النبي
صلى الله عليه وسلم في كتاب عمرو بن حزم في قوله: (في النفس مائة من الإبل)
رواه النسائي.
وأول من سنها مائة عبد المطلب حد النبي صلوات الله وسلامه عليه، وجاءت
الشربعة مقررة لها، والبعير يطلق على الذكر والأنثى، ولا تختلف الدية
بالفضائل والرذائل، وأن اختلفت بالأديان والذكورة والأنوثة، بخلاف الجناية
على الرقيق فإن فيه القيمة المختلفة، أما إذا كان المقتول غير محقون الدم
كتارك الصلاة كسلاً، والزاني المحصن، إذا قتل كل منهما وهو مسلم فلا دية
فيه، ولا كفارة، وقد يعرض للدية ما يغلظها وهو أحد أسباب خمسة، كون القتل
عمداً، أو شبه عمد، أو في الحرم، أو للذي رحم محرم، وقد يعرض لها ما ينقصها
وهو أحد أسباب أربعة: الأنوثة، والرق، وقتل
(5/321)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
الجنين، والكفر، فالأول يردها إلى الشطر، والثاني إلى القيمة، والثالث إلى
الغرة، والرابع إلى الثلث.
وهي مثلثة قي قتل العمد سواء أوجب فيه قصاص وعفي عنه أم لا، كقتل الوالد
ولده، والمراد بتثليثها جعلها ثلاثة أقسام. وإن كان بعضها أزيد من بعض، وهي
ثلاثون حقه، وهي الناقة التي طعنت في السنة الرابعة، وثلاثون جذعة، وهي
الناقة التي طعنت في السنة الخامسة، وأربعون خلفة، أي حاملاً، لخبر الإمام
الترمذي بذلك، فهي مغلظة من ثلاثة أوجه، كونها على الجاني، وكونها حالة،
ومن جهة السن. وهي في العمد على الجاني مثلثة معجلة، وشبه العمد مثلثة على
العاقلة مؤجلة.
وإنما أوجبوا الدية حالة في العمد تعظيماً لحرمة المسلم المجني عليه،
وجبراً لخاطر أولياء الدم.
قالوا: وتغلظ الدية في جرح العمد كما تغلظ في النفس من تثليث، وتربيع، لا
فرق في الجرح بين ما يقتص في كالموضحة أو لا.
الحنفية رحمهم الله تعالى - قالوا: يجب في قتل العمد، وشبه العمد دية مغلظة
على العاقلة والكفارة على وحرمان الميراث، لأنه جزاء القتل، والشبهة تؤثر
في سقوط القصاص دون حرمان الميراث، والأصل في وجب الدية المغلظة على عاقلة
القاتل في شبه العمد حديث حمل بن مالك رضي الله تعالى عنه، فقد روي عن حمل
بن مالك قال: كنت بين ضرتين فضربت إحداهما الأخرى بعمود فسطاط، أو بمسطح
خيمة، فألقت جنيناً ميتاً، فاختصم أولياؤها إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال عليه اللام لأولياء الضاربة (دوه) فقال أخوها: اتدي من لا صاح
ولا استهل ولا شرب، ولا أكل، ودم مثله يطل، فقال عليه السلام: (أسجع كسجع
الكهان؟ وفي رواية (دعني وأراجيز العرب، قوموا فدوه) ولا ريب أن قضاء
الرسول صلى الله عليه وسلم بالدية على العاقلة على ما ذكروا في تفصيل
الحديث، إنما كان بجناية شبه العمد، ودون الخطأ، فكأن وجوب الدية على
العاقلة في جناية شبه العمد ثابتاً بالنص، دون القياس.
وقالوا: والأصل أن كل دية وجبت بالقتل ابتداء لا بمعنى يحدث من بعد، فهي
على العاقلة، اعتباراً وتجب في ثلاث سنين، لقضية عمر بن الخطاب رضي الله
عنه وتؤجل تعظيماً لحرمة الجاني، ورحمة به، فإن المجني عليه قد نفذت في
الأقدار عند انتهاء أجله المقدر والجاني ترجى توبته، والعفو عنه، إذا أجلت
الدية ثلاث سنين.
ودية شبه العمد مائة من الإبل أرباعاً، خمس وعشرون بنت مخاض، وهي الناقة
التي طعنت في السنة الثانية من غمرها، وخمس وعشرون بنت لبون، وهي الناقة
التي طعنت ففي الثالثة. وخمس وعشرون ناقة، وهي التي طعنت في السنة الرابعة،
وخمس وعشرون جذعة، وهي الناقة التي طعنت في السنة الخامسة من سنها، وإنما
غلظت الدية لقوله صلى الله عليه وسلم (في نفس المؤمن مائة من الإبل) ووجه
الاستدلال به، أنه الثابت منه عليه السلام وليس فيه دلالة على صفة من
التغليظ، ولا بد منه بالإجماع،
(5/322)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
وما رواه غير ثابت لاختلاف الصحابة رضوان الله عليهم في صفة التغليظ، فإن
عمر، وزيداً وغيرهما قالوا: مثل ما قالوا.
وقال على رضي الله عنه تجب ًثلاثاً، ثلاث وثلاثون ناقة، وثلاث وثلاثون
جذعة، وأربع وثلاثون خلفة، وقال أبن مسعود بمثل ما قال الحنفية أرباعاُ
والرأي لا مدخل له في التقارير، فكان كالمرفوع، ويصير معارضاً لما رووه،
وإذا تعارضا، كان الأخذ بالمتيقن أولى، ودية شبه العمد مثل دية العمد
المحض.
قالوا: ولا يثبت التغليظ إلا في الإبل خاصة. فلا يزاد في الدراهم على عشرة
آلاف درهم، ولا يزاد في الدنانير عن ألف دينار.
دية الخطأ
الحنفية - والحنابلة - قالوا: إن الدية في الخطأ مائة من الإبل على
العاقلة، وتجب الكفارة في مال القاتل، والدية تكون أخماساً، عشرون بنت
مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون أبن مخاض، وعشرون ناقة، وعشرون جذعة، وهذا
قول أبن مسعود رضي الله تعالى عنه أخذوا به، ولأنه أخف فكان أليف بحالة
الخطأ، لأن الخاطئ معذور.
الشافعية، والمالكية - قالوا: قي قتل الخطأ تجب الدية أخماساً مؤجلة على
العاقلة إلا أنهم جعلوا عشرين أبن لبون، مكان عشرين أبن مخاض، لخبر الترمذي
وغيره بذلك، فهي مخففة في الخطأ من ثلاثة اوجه من كونها على العاقلة من
السن في الإبل، ومن التأجيل في دفعها، ودية شبه العمد مثلثة على العاقلة،
مؤجلة، فهي مخففة من وجهين، مغلظة من وجه.
أنواع الدية
الحنفية، والحنابلة - قالوا: يجوز أخذ الدراهم، والدنانير مع وجود الإبل،
ولا تثبت الدية إلا من هذه الأنواع الثلاثة، الإبل، والذهب، والفضة. فمن
الإبل مائة، ومن الفضة عشرة آلاف درهم، ومن الذهب ألف دينار، لأن التقدير
إنما يستقيم بشيء معلوم المالية، وغير هذه الأنواع الثلاثة مجهولة المالية،
ولهذا لا يقدر بها ضمان شيء مما وجب ضمانه بالإتلاف، والتقدير الإبل عرف
بالآثار المشهورة.
وقال أبو يوسف، ومحمد - تثبت الدية من الإبل، والذهب، والفضة، ومن البقر
مائتا بقرة، ومن الغنم ألفا شاة، ومن الحلل مائتا حلة، كل حلة ثوباً، لأن
عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه هكذا جعل على أهل كل مال منها.
الشافعية، والمالكية - قالوا: لا يؤخذ في الدية بقر، ولا غنم، ولا حلل -
ولا غرض، ومن لزمته دية، وله أبل فتؤخذ الدية منها، ولا يكلف غيرها، لأنها
تؤخذ على سبيل المواساة.
(5/323)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
وقيل: تؤخذ من غالب إبل قبيلته، إن كانت إبله من غير ذلك، وإن لم يكن له
إبل فتؤخذ من غالب إبل قبيلة بدوي، لأنها بدل متلف، وإلا فتؤخذ من غالب إبل
أقرب بلاد إلى موضع المؤدي، ما لم تبلغ مؤنة نقلها مع قيمتها أكثر من ثمن
المثل بقبيلة العدم، فإنه لا يجب حينئذ نقلها، وإذا وجب نوع من الإبل لا
يعدل عنه إلى نوع من غير ذلك الواجب، ولا يعدل إلى قيمة عنه إلا بتراض من
المؤدي، والمستحق، لأن المقصود بها تعظيم حرمة المجني عليه.
ولو عدمت إبل الدية، فالقديم الواجب ألف دينار على أهل الذهب، أو اثنا عشر
ألف درهم فضة على أهل الدراهم، للحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم:
(على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم) صححه أبن
حبان والحاكم من حديث عمرو بن حزم، والقول الجديد، الواجب قيمة الإبل وقت
وجوب تسليمها بالغة ما بلغت لأنها بدل متلف، فيرجع إلى قيمتها عند أعواز
أصله، وتقوم بنقد غالب بلده، لأنه أقرب من غيره، وأضبط، وإن وجد بعض الإبل
الواجبة أخذ الموجود منها، وقيمة الباقي.
المالكية - قالوا: لا يشترط في الإبل حد السن، وإنما المدار على أن تكون
الإبل حاملاً، سواء كانت حقة، أو كانت جذعة، أو غيرهما.
واتفقوا على أنه لا تؤخذ في الدية الإبل المريضة، ولا المعيبة إلا برضى
المستحق بذلك إذا كان أهلاً للتبرع، لأن الحق له، فله إسقاطه، ويثبت حمل
الخلفة المأخوذة من الدية، بأهل خبرة بذلك. بأن يشهد عدلان منهم عند إنكار
المستحق حملها إلحاقاً لها بالتقويم، وإن أخذها المستحق. بقولهما، أو
بتصديق المستحق على حملها، ثم ماتت عند المستحق وشق جوفها فبانت حائلاً،
غرمها وأخذ بدلها حاملاً، والأصح أجزاؤها قبل خمس سنين لصدق الاسم عليها.
مبحث دية المرأة، والمسيحي، واليهودي
الشافعية - قالوا: دية المرأة، والخنثى المشكل، الحران، دية كل منهما في
نفس أو جرح، كنصف دية رجل حر، ممن هما على ديته. لما روى البيهقي خبر (دية
المرأة نصف دية الرجل) وألحق بنفسها جرحها، وألحق بها الخنثى، لأن زيادته
عليها مشكوك فيها، ففي قتل المرأة والخنثى خطأ يجب: عشر بنات مخاض، وعشر
بنات لبون، وهكذا وفي قتلهما عمداً، أو شبه عمد، خمس عشرة حقة، وخمس عشرة
جذعة، وعشرون خلفة.
ودية اليهودي، والنصراني، والمعاهد، والمستأمن، إذا كان معصوماً تحل
مناكحته، ثلث دية مسلم نفساً، وغيرها، أما في النفس فروي مرفوعاً وقال
الشافعي في الأم (قضى بذلك عمرو، وعثمان رضي الله عنهما) ، ولأنه اقل ما
أجمع عليه، وهذا التقدير لا يعقل بلا توقيف، ففي قتله عمداً، عشر حقائق،
وعشر جذعات، وثلاث عشة خلفة وثلث، وكذلك في شبه العمد، وفي قتله الخطأ لم
تغلظ.
(5/324)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
فتجب ستة وثلثان من كل من بنات المخاض، وبنات اللبون، وبني اللبون،
والحقاق، والجذاع والسامرة، كاليهود والصابئة كالنصارى إن لم يكفرهما أهل
ملتهما، ومجوسي له أمان ديته أخس الديات وهي ثلثا عشرة دية مسلم، كما قال
به عمر، وعثمان، وأبن مسعود رضي الله تعالى عنهم ففيه عند تغليظ الدية،
حقتان، وجدعتان، وخلفتان وثلثا خلفة، وعند تخفيف الدية. تجب بعير وثلث من
كل سن، والمعنى في ذلك إن في اليهودي، والنصراني خمس فضائل وهي حصول كتاب،
ودين كان حقاً بالإجماع، وتحل مناكحتهم وذبائحهم، وقرون بالجزية، وليس
للمجوسي من هذه الخصال إلا التقرير بالجزية، فكانت ديته من الخمس من دية
اليهودي والنصراني، وكذلك الوثني، كعابد شمس، وقمر، وزنديق، ومن لا ينتحل
ديناً، ممن له أمان عندنا، كدخوله لنا رسولاً من قبلهم، أما الوثني الذي لا
أمان له، فدمه هدر، ودية نساء من ذكر على النصف من دية رجالهم.
والمذهب عندهم أن من قتل معصوماً، ولم تبلغه دعوة نبينا محمد صلى الله عليه
وسلم، أن تمسك بدين لم يبدل، فدية أهل ديته ديته، فإن كان كتابياً فدية
كتابي، وإن كان مجوسياً فدية مجوسي، وإن تمسك بدين بدل، ولم يبلغه ما
يخالفه، أو لم تبلغه دعوة نبي أصلاً، فديته كدية المجوسي.
وقيل: تجب دية أهل ديته، وقيل: لا يجب شيء لأنه ليس على دين حق، ولا عهد له
ولا ذمة، وقال الزركشي: وعلى المذهب يجب فيمن تمسك الآن باليهودية، أو
النصرانية دية مجوسي، لأنه لحقه التبديل - آي إذا لم تحل مناكحتم.
قالوا: ولا يجوز قتل من لم تبلغه الدعوة المحمدية، بل يعذر، ويقتص لمن أسلم
بدار الحرب، ولم يهاجر منها بعد إسلامه، وإن تمكن من الهجرة، لأن العصمة
بالإسلام اهـ.
الحنفية - قالوا: دية المرأة على النصف من دية الرجل، وقد ورد بهذا اللفظ
موقوفاً عن الإمام على كرم الله وجهه، ومرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه
وسلم.
وقال زيد بن ثابت رضي الله عنه، ثلث الدية وما فوقها ينتصف، وما دونه لا
يتنصف وبه أخذ الإمام الشافعي. وبما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(تعاقل المرأة الرجل إلى ثلث الدية) وبما حكي عن ربيعة قال: قلت لسعيد بن
المسيب: ما تقول فيمن قطع أصبع امرأة؟ قال: عليه عشر من الإبل، قلت: فإن
قطع أصبعين منها؟ قال عليه عشرون من الإبل، قلت: فإن قطع ثلاث أصابع؟ قال:
عليه ثلاثون من الإبل. قلت: فإن قطع أربع أصابع؟ قال: عليه عشرون من الإبل،
قلت: سبحان الله! لما كثر ألمها، واشتد مصابها قل أرشها، قال: أعراقي أنت؟
فقلت: لا. بل جاهل مسترشد، أو عالم مستثبت، قال: إنه السنة، وبه أخذ الإمام
الشافعي رحمه الله، والحجة عليه، ما رواه الحنفية بعمومه، وأن حالها انقص
من حال الرجل، ومنفعتها أقل.
وقد ظهر أثر النقصان بالتنصيف في النفس، فكذا في أطرافها، وأجزائها،
اعتباراً بها وبالثلث وما فوقه، لئلا يلزم مخالفة التبع للأصل، والحديث
المروي نادر، ولو كان هذا الحكم سنة الرسول عليه الصلاة والسلام لما
خالفوها.
(5/325)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
وقالوا: ودية المسلم والذمي سواء، لما روي عن النبس صلوات الصلاة وسلامه
عليه أنه قال: (دية كل ذي عهد في عهده ألف دينار) وكذلك قضى أبو بكر، وعمر
رضي الله تعالى عنهما. وما رواه الشافعي رحمه الله لم يعرف راويه، ولم يذكر
في كتب الحديث، وما رووه اشهر مما رواه الإمام مالك رحمه الله، فإنه ظهر به
عمل الصاحبة رضوان الله تعالى عليهم.
وذلك في العمد والخطأ من غير فرق بينهما، لعموم الآية الكريمة، إن {النفس
بالنفس} ولم تنسخ بآية أخرى.
المالكية - قالوا: إن دية المرأة، ودية اليهودي، والنصراني، على النصف من
دية الرجل المسلم، في العمد، والخطأ من غير فرق، وهي ستة آلاف درهم،
وخمسمائة دينار، لقوله عليه الصلاة والسلام: (عقل المسلم) والكل عنده اثنا
عشر ألفاً من الدراهم.
أما المجوسي المعاهد، والمرتد فدية كل منهما ثلث خمس دية المسلم خطأ
وعمداً، فتكون من الذهب ستة وستين ديناراً، وثلثي دينار، ومن الورق
ثمانمائة درهم، ومن الإبل ستة أبعرة وثلثا بعير، ودية أنثى كل من ذلك نصفه.
فدية الحرة المسلمة من الإبل خمسون وهكذا، ودية المجوسية المرتدة أربعمائة
درهم وهكذا.
الحنابلة - قالوا: إن كان للنصراني، ولليهودي عهد وقتله مسلم عمداً، فديته
كدية المسلم، وإن قتله خطأ فنصف دية المسلم، أما غير المعصوم من المرتدين،
ومن لا أمان لهم فإنه مقتول بكل حال، وأما من لا تحل مناكحته فهو كالمجوسي،
وأما الأطراف والجراح فبالقياس على النفس اهـ.
مبحث الجناية على الجنين
الحنفية - قالوا: إن الجنين إذا كان محققاً في بطن الأم فليس له ذمة صالحة
لكونه في حكم جزء من الآدمي، لكنه منفرد بالحياة معد لأن يكون نفساً له
ذمة، فباعتبار هذا الوجه يكون أهلاً لوجوب الحق له من عتق، أو إرث، أو نسب،
أو وصية، وباعتبار الوجه الأول لا يكون أهلاً لوجوب الحق عليه، فإما بعدما
يولد فله ذمة صالحة. ولهذا لو انقلب على مال إنسان فأتلفه يكون ضامناً له،
ويلزمه مهر امرأنه بعقد الولي.
فإذا ضرب رجل بطن امرأة حامل فألقت من بطنها جنيناً ميتاً، فيجب فيه غرة،
وهي نصف عشر دية الرجل، إذا كان ذكراً، وفي الأنثى عشر دية المرأة، وكل
منهما خمسمائة درهم، لأن نصف العشر من عشرة آلاف درهم، هو العشر من خمسة
آلاف درهم. والدليل على ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (في
الجنين غرة، عبد أو أمة، قيمته خمسمائة) ويروى (أو خمسمائة) والغرة على
العاقلة إذا كانت خمسمائة درهم، لأن النبي صلوات الله وسلامه عليه قضى
بالغرة على العاقلة، ولأنه بدل النفس، ولهذا سماه رسول الله صلى الله عليه
وسلم دية، حيث قال: (دوه) وقالوا له: أندي من لا صاح ولا أستهل - الحديث.
(5/326)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
إلا أن العواقل لا تتحمل ما دون خمسمائة درهم. وتجب في سنة، لما روي عن
محمد بن الحسن رحمه الله تعالى أنه قال: (بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم جعله على العاقلة في سنة) ولأنه إن كان بدل النفس من حيث أنه نفس على
حجة، فهو بدل العضو من حيث الاتصال بالأم فعملنا بالشبه الأول قي حق
التوريث، وبالثاني في حق التأجيل إلى سنة.
ويستوي فيه الذكر والأنثى، لإطلاق الحديث، ولأن في الحيين إنما ظهر
التفاوت، لتفاوت معاني الآدمية، ولا تفاوت في الجنين، فيقدر بمقدار واحد،
وهو خمسمائة.
فإن ألقته حياً ثم مات. فتجب في دية كاملة، لأنه أتلف حياً بالضرب السابق.
وإن ألقته ميتاً ثم ماتت ألم بعده، فعليه دية بقتل ألم، وعليه غرة بإلقائها
الجنين، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في هذا بالدية، والغرة.
وإن ماتت الأم من الضربة ثم خرج الجنين بعد ذلك حياً، ثم مات، فتجب عليه
دية في الأم، ودية في الجنين، لأن موت الأم أحد سببي موته، لأنه يختنق
بموتها، إذ تنفسه بتنفسها، فلا يجب الضمان بالشك، وما يجب في الجنين موروث
عنه، لأنه بدل نفسه فيرثه، ورثته، ولا يرثه الضارب، حتى لو ضرب بطن امرأنه
فألقت ابنه ميتاً، فعلى عاقلة الأب غرة ولا يرث منها، لأنه قالت بغير حق
مباشرة، ولا ميراث للقال، هذا في جنين المرأة الحرة، وأما جنين الامة إذا
كان ذكرا فيجب نصف عشر قمته لو كان حياً، وعشر قمته لو كان أنثى، لأنه بدل
نفسه، لأن ضمان الطرف لا يجب إلا عند ظهور النقصان، ولا معتبر به في ضمان
الجنين فكان بدل نفسه فيقدر بها، ويجب في مال الضارب مطلقاً من غير تقييد
بالبلوغ إلى خمسمائة درهم.
وقال أبو يوسف: يجب ضمان النقصان لو انتقصت الأم اعتباراً بجنين البهائم،
ولأن الضمان في قتل الرقيق ضمان ماله عنده. فصح الاعتبار على اصله.
فإن ضربت الأمة، فاعتق المولى ما في بطنها، ثم ألقته حياً، ثم مات، ففيه
قيمته حياً، ولا تجب الدية، وإن ما بعد العتق، لأنه قتله بالضرب السابق،
وقد كان في حالة الرق فلهذا تجب القيمة دون الدية، وتجب قيمته حياً، لأنه
بالضرب صار قاتلاً إياه وهو حي فنظرنا إلى حالتي السبب، والتلف.
قالوا: ولا كفارة في الجنين، لأن الكفارة فيها معنى العقوبة، قود عرفت في
النفوس المطلقة، فلا تتعداها، ولهذا لم يجب كل البدل، إلا أن يشاء لأنه
ارتكب محظوراً، فإذا تقرب إلى الله تعال كان أفضل له، ويستغفر مما صنع.
قالوا: والجنين الذي استبان بعض خلقه بمنزلة الجنين التام في جميع هذه
الأحكام، لإطلاق الأحاديث، ولأنه ولد في حق أمومية الولد، وانقضاء العدة
والنفاس وغير ذلك، فكذا في حق هذا الحكم، ولأنه بهذا القدر يتميز من العلقة
والدم، فكان نفساً، والله تعال أعلم.
الشافعية - رحمهم الله تعالى - قالوا: يجب في الجنين غرة إن انفصل ميتاً
بجناية في حياتها، أو
(5/327)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
انفصل بعد موتها بجناية في حياتها، وكذا إذا انفصل بعض الجنين بلا انفصال
من أمه كخورج رأسه ميتاً.
وقيل: لا بد من أنفصاله، لأن ما لم ينفصل يصير كالعضو منها، سواء أكانت
الدناية بالقول كالتهديد، أو بالفعل، أو بالترك.
وإذا لم يكن معصوماً عند الجناية، كجنين حربية من حربين وإن أسلم أحدهما
بعد الجناية، أو لم يكن الجنين مضموناً كأن كان الجاني مالكاً للجنين
ولأمه، بأن جنى السيد على أمته الحامل، وجنينها من غيره، وهو مالك له فعتقت
ثم القت الدنين، أو كانت أمه ميتة، أو لم ينفصل ولا ظهر بالجناية على أمه،
فلا يجب شيء في هذه الصور، لعدم احترامه في الولى، وعدم ضمان الجاني في
الثانية، ولظهر موته بموتها في الثالثة، ولعدم تحقق وجوده في الأخيرين.
وإن انفصل حياً، وبقي بعد انفصاله زماناً بلا ألم فيه ثم مات فلا ضمان على
الجاني. وإن مات حين خرج بعد انفصاله، أو تحرك تحركاً شديداً كقبض يد
وبسطها، ولو كانت حركة مذبوح، أو دام ألمه ومات منه، فتجب دية نفس كاملة
على الجاني، ولو انفصل الجنين لدون ستة أشهر. ولو ألقت امرأة بجناية عليها
جنينين ميتين فغرتان تجبان فيهما، أو ثلاثاً فثلاث وهكذا.
ولو ألقت يداً أو رجلاً وماتت فغرة، لأن العلم قد حضل بوجود الجنين والغالب
أن اليد بانت بالجناية، أما إذا عاشت ولم تلق جنيناً، فلا يجب على الجاني
إلا نصف غرة، كما أن الحي لا يجب فيها إلا نصف دية، ولا يضمن باقيه، لأنا
لم نتحقق ثلثه، وإن ماتت ثم ألقت ميتاً فعليه دية في الأم، وغرة في الجنين
لأنه مات بالضرب. ولو ألقت يداً، ثم جنيناً ميتاً بلا يد قبل الاندمال،
وزال الألم من الم فغرة، لأن الظاهر أن اليد مبانة منه بالجناية، أو حياً
فمات من الجناية، فتجب دية، وحل فيها أرش اليد، فإن عاش وشهد القوابل، أو
علم أنها يد من خلقت فيه الحياة، فتجب نصف دية لليد، وإن لم تشهد القوابل
بذلك ولم يعلم فنصف غرة لليد عملاً باليقين، وتجب على العاقلة في ثلاث سيني
لأنه بدل النفس، ولهذا يكون موروثاً بين ورثته، وإذا ألقت امرأة لحماً بسبب
جناية عليها فيجب فيه غرة إذا قال القوابل فيه صورة خفية على غيرهن. وتجب
الغرة أيضاً إذا القت امرأة لحماً لا صورة فيه أصلاً، تعرفها القوافل، ولكن
قلن إنه لو بقي ذلك اللح، لتصور، وتخلق، كما تنقضي به العدة، وذلك إذا كانت
مضغة.
أما لو ألقت علقة لم يجب فيها شيء قطعاً كما لا تنقضي به العدة.
قالوا: والغرة الواجبة عبد، أو أمة، كما نطق به الخبر، والخبرة في ذلك إلى
الغارم، ويجبر المستحق على قبولها من أي نوع كانت، ويشترط أن يكون مميزاً
سليماً من عيب مبيع لأن المعيب ليس من الخيار، والأصح قبول رقيق كبير من
عبد أو أمة، لم يعجز بهرم، لأنه من الخيار، مالم تنقص منافعه، ويشترط في
الغرة بلوغها في القيمة نصف عشر دية الأب المسلم، وهو عشر دية الأم
المسلمة.
(5/328)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
ففي الحر المسلم رقيق قيمته خمسة أبعرة، كما روي عنعلي، وعمر، وزيد بن
ثابت، رضي الله تعالى عنهم، ولأنها دية فصارت مقدرة كسائر الديات (ولأن
الجنين على أقل أحوال الإنسان، فاعتبر فيه أقل ما قدره الشرع من الديات،
وهو دية الموضحة والسن، فإن فقدت ثلث الغرة حساً بأن لن توجد أو شرعاً، بأن
وجدت بأكثر من ثمن مثلها، فتجب خمسة أبعرة بدلاً عنها، لأنها مقدرة بها عند
وجودها، فعند عدمها يؤخذ ما كانت مقدرة به، ولأن الإبل هي الأصل في الديات
فوجب الرجوع إليها عند فقد المنصوص عليه، فإن فقدت الإبل الدية، فإن فقد
بعضها وجبت قيمته مع الموجود.
وقيل: لا يشترط بلوغها ما ذكر: بل متى وجدت سليمة مميزة وجب قبولها، وإن
قلت قيمتها لإطلاق لقظ العبد، والأمة في الخبر، وسواء كان الجنين ذكراً، أم
أنثى، لإطلاق الخبر.
والغرة لورثة الجنين على فرائض الله تعالى، لأنها دية نفس، ويقدر انفاصله
حياً ثم موته، وهي واجبة على عاقلة الجاني، لخبر الصحيحين أنه صلى الله
عليه وسلم: (قضى في الجنين بغرة عبد، أو أمة) .
وقيل: إن تعمد الجناية بأن قصدها بما يلقى غالباص، فالغرة عليه، والجناية
عليه خطأ أو شبه عمد، سواء أكانت الجناية على أم خطأ، أو عمداً، أو شبه
عمد، لأنه لا يتحقق وجوده وحياته حتى يقصد، ولهذا للا يجب القصا في الجنين
إذا خرج حياً وما، لأن القصا إنما يجب في القتل العمد، ولا يتصور العمد
فيه.
قالوا: والجنين اليهودي، أو النصراني بالبع لابويه قيل: كمسلم في الغرة،
وقيل: هو هدر، وهذان القولان مبنيان على أن الغرة غير مقدرة بالقيمة،
والأصح غرة كثلث غرة مسلم، كما في ديته، وهو بعير وثلثا بعير. كما هو الحكم
على الكبير منهم.
قالوا: والجنين الرقيق، ذكراً كان أو غيره فيه عشر قيمة امه، قنة كانت أو
مديرة، أم مكاتبه، أو مستولدة، قياساً على الجنين الحر، فإن الغرة في
الجنين معتبرة بعشر ما تضمن به الم، وإنما لم يعتبروا قيمته في نفسه لعدم
ثبوت استقلاله بانفصاله ميتاص، واستثنى ما إذا كانت الأم هي الجانية على
نفسها، فإنه لا يجب في جنينها المملوك للسيد شيء، إذ لا يجب للسيد على
رقيقه شيء، وتعتبر قيمة الم يوم الجناية عليها، لأنه وقت الوجوب، وقيل: يوم
الإجهاض للجنين، لأنه وقت استقرار الجناية. هذا إذا انفصل الجنين ميتاً كما
علم سابقاً، فإن انفصل حياً، ومات من أثر الجناية، فإنه يجب فيه قيمته يوم
الانفصال قطعاص، وإن نقصت عن عشر قيمة امه، وتصرف الغرة في الجنين لسيده،
فإن كانت الأم مقطوعة أطرافها والجنين سليم أطرافه قومت بتقديرها سلمية في
الأصح لسلامته، كما لو كانت كافرة، والجنين مسلم، فإنه يقدر فيها الإسلام،
وتقوم مسلمة، وكذا لو كانت حرة والجنين رقيق، فإنها تقدر رقيقة. وهكذا.
قالوا: وتحمل العشر المذكورة عاقلة الجاني في الأظهر من المذهب كما مر في
الغرة، وإذا
(5/329)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
سقط جنين ميت فادعى وارثه على إنسان أنه سقط بجنايته فأنكر صدق بيمينه،
وعلى المدعي البينة، ولا يقبل إلا شهادة رجلين، فإن أقر بالجناية، وانكر
الاسقاط بجنايته فأنكر صدق بيمينه، وعلى المدعي البينة، ولا يقبل إلا شهادة
رجلين، فإن أقر بالجناية، وأنكر الاسقاط، وقال: السقط ملتقط، فهو المصدق
أيضاً، وعلى المدعي البينة، ويقبل فيها شهداة النساء، لأن الإسقاط ولادة.
المالكية - قالوا: في إلقاء الجنين سبب ضرب، أو تخويف لغير وجه شرعي - أما
إذا كان بسبب ضرب للتأديب فلا شيء فيه - أو بسبب شم ريح عفنة، أو فتح كنيف،
إن كان علقة - دم لا يذوب من صب الماء الحار عليه - سواء أكانت الجناية
خطأ، أو عمداً من أجنبي، أو أم، كشر بها ما يسقط به الحمل. فأسقطته ذكراص،
أو أنثى، كان من زوج، أو زنا، فيجب فيه عشر واجب أمه، فإن كانت الم حرة وجب
عشر ديتهان وإن كانت الم أمة وجب فيه عشر قيمتها، وتعتبر قيمتها يوم الضرب،
وقيل: يوم الإلقاء، وإن جنى أب فعليه عشر دية أم الجنين لغيرهن ولا يرث
منه، ويكن العشر الواجب نقداً معجلاً حالاً في مال الجاني عمداً، أو خطأ،
ما لم تبلغ الغرة ثلث ديته، فتكون على العاقلة كما لو ضرب مجوسي حرة مسلمة
فألقت جنيناً، أو تجب غرة في جنين الحرة، والتخيير يكون للجاني لا للمستحق.
أما جنين الأمة فيتعين فيه النقد عبداً ووليدة بدل من غرة الأمة الصغيرة
بلغت سبع الستين لتحرز التفرقة. وإنما يجب العشر، أو الغرة إذا نفصل عنها
كله ميتاً وهي حية، فإن ماتت قبل انفصاله فلا شيء فيه لاندراجه في جية الم،
وإن استهل، أو نزل ضارخاً، أو رضع، أو فعل شيئاً من كل ما يدل على أنه حي
حياة مستقرة، فالدية لازمة فيه إن أقسم أولياؤه أنه مات من فعل الجاني، وإن
مات عاجلاً ببعد تحقق حياته فإن لم يقسموا فلا غرة ولا دية، لأنه يحتمل
موته، بغير فعل الجاني، فإن ماتت امه وهو مستهل ومات فتجب على الجاني
ديتان، وإن تعمد الجاني بضرب بطن الأم فنزل مستهلاً ومات فالقصاص بالقسامة
وهذا هو الراجح من الخلاف.
وأما إذا تعمد الجاني قتل الجنين بضرب رأس أمه، فالراجح أنه تجب الدية
عليه، كتعمده بضرب يدها، أو رجلها.
والحاصل أن في ضرب البطن، والظهر، والرأس خلافاً، فقال أبن القاسم يجب
القصاص بقسامة، وقال أشهب: لا قود فيه، بل يجب الدية في مال الجاني بقسامة
أيضا، وأما تعمده الضرب في غير هذه المواضع فتجب الدية في ماله بقسمة، ومحل
القصاص في تلك المسائل إن لم يكن الجاني الب، أما إذا كان الجني هو الب فلا
يقتص منه إلا إذا قصد قتل الجنين بضرب بطن الأم خاصة.
ويجب تعدد الواجب من عشر أو غرة إن لم ستهل، ودية إن استهل بتعدد الجنين،
ثم إن كان القتل خطأ، وبلغ الثلث فتحمله العاقلة، وأما إن كان عمداً، أو
كانت الغرة أقل من الثلث فلا تتحمله العاقلة، بل يجب في مال الجاني حالاً
معجلاً.
وورث الواجب في الجنين من عشر، أو غيره على الفرائض المعلومة شرعاً،
الشاملة للفرض، والتعصب، فللأب الثلثان، وللأم الثلث ما لم يكن له اخوة،
وإن كان له اخوة فللأم السدس وهيذا هو الراجح من المذهب، خلافاً لمن قال:
تختص به الم، إذا لم تكن هي الجانية، والقائل به ربيعة،
(5/330)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
وذلك لأنها كالفرض عن جزء منها، وخلافاً لقول أبن هرمز حيث قال: للم والب
على الثلث والثلثين، ولو كان له اخوة، وكان له اخوة، وكان الإمام مالك يقول
بهذا الرأي اولاً، ثم رجع إلى القول الول لأنه الراجح.
واعلم بأنه إذا كان المسقط للجنين احد الآبوين كان هو القاتل، فلا يرث من
الواجب المذكور شيئاً، لأن القاتل لا يرث.
مبحث في العاقلة، وكيفية تأجيل ما تحمله
الحنفية - قالوا: الدية في شبه العمد، وفي الخطأ، وكل دية تجب بنفس القتل
على العاقلة، والعاقلة هم الذين يؤدون الدية، والأصل في وجوبها على العاقلة
قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث حمل بن مالك رضي الله تعالى عنه
للأولياء (قوموا فدوه) .
ولأن النفس محترمة لا وجه إلى الإهدار، والخاطئ معذور، وكذا الذي تولى شبه
العمد نظر إلى الآلة فلا وجه إلى إيجاب العقوبة عليه، وفي إيجاب مال عظيم
اجحافة، واستئصاله، فيصيل عقوبة، فضم عليه العاقلة، فكانوا هم المقصرون في
تركهم مراقبته، فخصوا به.
والعقلة هم أهل الديوان إن كان القاتل من اهل الديوان يؤخذ من عطاياهم في
ثلاث سيني، واهل الديوان هم اهل الريات والألوية، وهم الجيش الذين كتبت
أسماءهم في الديوان والجريدة، لأن سيدنا عمر بن الخكاب رضي الله تعالى عنه
هو أول من دون الدواوين، وجعل العقل كان على أهل النصرة، وقد كانت بأنواع
بالقرابة، والحلف، والولاء، والعد، وفي عهد عمر رضي الله عنه قد صارت
بالديوان فجعلها على أهله اتباعاً للمعنى، ولهذا قالوا: لو كان اليوم قوم
تناصرهم بالحرف فعاقلتهم أهل الحرفة، وإن كان بالحلف فأهله، والدية صلة،
ولكن إيجابها فيما هو صلة وهو العطاء اولى منه في اصول أموالهم، والتقدير
بثلاث سيني مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومحكي عن عمر بن الخطاب رضي
الله تعال عنه، ولأن الأخذ من العطاء للتخفيف، والعطاء يخرج في كل سنة مرة،
فإن خرجت العطاء في أكثر من ثلاث سنين أو أقل اخذ منها، لحصول المقصود، ولو
خرج للقاتل ثلاث عطايا في سنة واحدة في المستقبل يؤخذ منها كل الدية لأن
الوجوب بالقضاء.
وإذا كان جميع الدية في ثلاث سنين فكل ثلث منها في سنة، وإن كان الواجب
بالفعل ثلث دية النفس أو أقل كان في سنة واحدة. وما زاد عن الثاث إلى تمام
الثلثين في السنة الثانية، وما زاد على
(5/331)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
ذلك إلى تمام الدية في السنة الثالثة، وما وجب على العاقلة من الدية أو على
القاتل بأن قتل الأب ابنه عمداً، فهو في ماله في ثلاث سنين، لأن الشرع ورد
به مؤجلاً فلا يتعمداه.
ولو قتل عشرة رجلاً خطأ فعلى كل واحد عشر الدية في ثلاث سنين اعتباراً
للجزء بالكل إذ هو بدل النفس، وإنما يعتبر في مدة ثلاث سنين من وقت القضاء
بالدية لأن الواجب الأصلي المثل، والتحول إلى القيمة بالقضاء، فيعتبر
ابتداؤها من وقته كما في ولد المغرور، ومن لم يكن من أهل الديوان، فعاقلته
قبيلته، لأن نصرته بهم، وهي المعتبرة في التعاقل، وتقسم عليهم في ثلاث سنين
لا يزاد الواحد على اربعة دراهم في كل سنة ويجوز أن ينقص منها، فلا يؤخذ
منها، فلا يؤخذ من كل واحد في كل سنة إلا درهم، أو درهم وثلث درهم، وإن لم
يكن تتسع القبيلة لذلك ضم إليهم أقرب القبائل نسباً، ويضم الأقرب فالأقرب
على ترتيب العصبات. الاخوة ثم بنوهم، ثم الأعمام، ثم بنوهم والآباء
والأبناء فقيل يدخلون مع العاقلة لقربهم وقيل: لا يدخلون لأن الضم لنفي
الحرج حتى لا يصيب كل واحد أكثر من ثلاثة أو أربعة، وهذا إنما يتحقق عند
الكثرة، والآباء والأبناء لا يكثرون.
ولو كانت عاقلة الرجل أصحاب الرزق يقضى بالدية في أرزاقهم في ثلاث سنين في
كل سنة الثلث.
قالوا: ويدخل القاتل مع العاقلة إذا كان من أهل الديوان، أما إذا لم يكن
فلا شيء عليه من الدية، ولأنه هو الفاعل فلا معنى لإخراجه ومؤاخذة غيره،
فيكون فيما يؤدي كواحد منهم.
قالوا: وليس على النساء والذرية ممن كان له حظ في الديوان عقل لقول عمر رضي
الله تعالى عنه: (لا يعقل مع العاقلة صبي، ولا امرأة) . ولأن القتل إنما
يجب على أهل النصرة لتركهم مراقبته والناس لا يتناصرون بالصبيان والنساء،
ولهذا لا يوضع عليهم، وعلى هذا لو كان القاتل صبياً أو امرأة لا شيء عليهما
من الدية بخلاف الرجل، لأن وجوب جزء من الدية على القاتل باعتبار أنه احد
العواقل لأنه ينصر نفسه، وهذا لا يوجد فيهما، ولا يعقل أهل مصر عن مصر آخر،
ويعقل أهل كل مصر من أهل سوادهم، لانهم أتباع لأهل المصر. ومن جنىجناية من
أهل المصر وليس له في الديوان عطاء، وأهل البادية أقرب إليه، ومسكنه المصر
عقل عنه أهل الديوان من ذلك المصر، ولا يشترط أن يكون بينه وبين أهل
الديوان قرابة، ولو كان البدوي نازلاً في المصر لا مسكن له فيه، يعقله أهل
المصر، لأن أهل العطاء لا ينصرون من لا مسكن له فيه، كما أن أهل البادية لا
يعقلون عن أهل المصر النازلين فيهم، لأنه لا يستنصر بهم.
قز إن كان لأهل الذمة عواقل معروفة يتعاقلون بها، فإذا قتل أحدهم خطأ
فديتهعلى عاقلته بمنزلة المسلم، لانهم التزموا أحكام الإسلام في المعاملات
لاسيما في المعاني العاصمة عن الأضرار، ومعنى التناصير موجود في حقهم، وإن
تكن لهم عاقلة معروفة فالدية في ماله في ثلاث سنين، من يوم يقضى بها عليه
كما في حق المسلم، ولا يقل كافر عن مسلم، ولا مسلم عن كافر لعدم التناصر.
(5/332)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
والكفار يتعاقلون فيما بينهم وإن اختلفت مللهم، لأن الكفر كله ملة واحدة،
وذلك إذا لم تكن المعاداة فيما بينهم ظاهرة، أما إذا كانت ظاهرة، كاليهود،
والنصارى فينبغي أن لا يتعاقلون بعضهم عن بعض.
قالوا: وعاقلة المعتق قبيلة مولاه لأن النصرة بهم لقوله عليه الصلاة
والسلام (مولى القوم منهم) ومولى الموالاة يعقل عنه مولاه وقبيلته، لأنه
يتناصر به، فأشبه ولاء العتاقة.
قالوا: ولا تعقل العاقلة اقل من نصف عشر الدية، وتتحمل نصف العشر فصاعداً،
لحديث أبن عباس رضي الله عنهما الموقوف عليه، والمرفوع إلى النبي صلى الله
عليه وسلم (لا تعقل العواقل عمداً، ولاعبداً، ولا صلحاً، ولا اعترافاً، ولا
ما دون أرش الموضحة) وارش لموضحة نصف عشر بدل النفس ولأن التحمل للتحرز عن
الاجحاف، ولا اجحاف في القليل، وإنما وفي الكثير، والتقدير الفاصل عرف
بالسمع، وما نقص عن ذلك يكون في مال الجاني، والقياس فيه، التسوية بين
القليل والكثير، فيجب الكل على العاقلة كما ذهب إليه الشافعي أو التسوية في
أن لا يجب على العاقلة شيء، إلا أن الاحناف تركوه بما روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه أوجب أرش الجنين على العاقلة وهو نصف عشر بدل الرجل،
فما دونه يسلك به مسلك الأموال، لأنه يجب بالتحكيم كما يجب ضمان المال
بالتقويمن فلهذا كان في مال الجاني أخذاً بالقياس.
قالوا: ولا تعقل العاقلة جناية العبد، ولا مالزم بالصلح، أو باعتراف
الجاني، لأنه لا تناصر بالعبد والإقرار والصلح لا يلزمان العاقلة لقصور
الولاية عنهم، إلا أن يصدقوه. لأنه ثبت بتصادقهم. والامتناع كان لحقهم،
ولهم ولاية على أنفسهم، ومن أقر بقتل خطأ ولم يرفع إلى القاضي إلا بعد سنين
قضى عليه بالدية في ماله، في ثلاث سنين، من يوم يقضي عليه، لأن التأجيل من
وقت القضاء في الثابت بالبينة، ففي الثابت بالإقرار اولى، ولو تصادق القاتل
وولي الجناية على أن قاضي بلج كذا قضى بالدية على عاقلته بالكوفة بالبية
وكذبهما العاقلة، فلا شيء على العاقلة، لأن تصادقهما ليس بحجة عليهم، ولم
يكن عليه شيء في ماله إلا أن يكون له عطاء معهم فحينئذ يلزمه بقدر حصته،
لأنه تبين أن الدية واجبة عليهم.
الشافعية، والحنابلة - قالوا: دية الخطأ وشبه العمد في الكراف ونحوها، وكذا
في نفس غير القاتل نفسه، وكذا الحكومات والغرة تلزم العاقلة، لا الجاني،
لأن الجاهلية كانوا يمنعون من جنى منهم من اولياء القتيل أن يدهوا منه،
وياخذوا بثأرهم - فجعل الشارع بدل تلك النصرة بذل المال. وخص ذلك بالخطاً
وشبه العمد لكثرتهما، سيما في حق من يتعاطى حمل السلاح، فأعين كيلا ينتصر
(5/333)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
بالسبب الذي هو معذور فيه، وإنما يلزمهم ذلك إذا كانت بينة بالخطا أو شبه
العمد أو اعترف به فصدقوه.
وقالوا: وجهات تحمل الدية ثلاثة: قرابة، وولاء، وبيت مال، لا غيرها كوزوجته
ومحالفة، وقرابة ليست بعصبة، لأن المر كان كذلك على عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم، ولا نسخ بعده، ولأنه صلة والأولى بها الأقرباء، وعصبة الجاني هم
الذين يرثون بالنسب أو الولاء، إذا كانوا ذكوراً مكلفين، وهم القرابة من
قبل الأبن والمرأة والصبي وإن أيسرا لا يحملان شيئاً، وكذا المعتوه، ويخرج
من العصبة أصل الجاني من اب وإن علا، وفرعه من أبن وإن سفل لانهم أبعاضه،
فكما لا يتحمل الجاني في الدية، اعتباراً للجزء بالكل في النفي عنه،
والجامع كونه معذوراًً فلا يتحمل أبعاضه وقد روى النسائي (لا يوخذ الرجل
بجريرة، أي جريرة ابنه) وفي رواية لابي داود في خبر المرأتين السابق (وبرأ
الولد) أي من العقل، وقيس به غيره من الأبعاض، وتتجب الدية على العاقلة
سواء أكانت الدية قليلة أم كثيرة.
ويقدم في تحمل الدية من العصبة الأقرب، فالأقرب على البعد منهم، فإن لم يوف
القرب بالواجب بأن بقي منه شيء فيوزع الباقي على من يليه، ويقدم ممن ذكر
مدل بأبوين على مدل باب كالأرث، ويجب التسوية بينهما، لأن النوثة لا مجخل
لها في تحل العاقلة فلا تصلح للترجيح، ثم بعد عصبة النسب إن فقدوا، أو لم
يوف ما عليهم بالواجب يقدم معتق للخبر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم
(الولاء لحمة كلحمة النسب) فإن فقد المعتق أو لم يف ما عليهم بالواجب، تقدم
عصبته من نسب غير أصلهوغن علا، وفرعه وإن سفل يقدم الأقرب فالأقرب، لما
رواه الشافعين والبهقي (أن عمر قضى على علي رضي الله تعالى عنهما بأن يعقل
عن موالي صفية بنت عبد المطلب) لأنه أبن أخيها دون ابنها الزبير ثم ممعتق
المعتق، ثم عصبته كذلك، ثم معتق معتق الأب وعصبته، فإن لم يوجد يتحمل معتق
الجد ثم عثبته كذلك إلى حيث ينتهي الأرث.
قالوا - وعتيق المرأة - الجاني - تعقله عاقلتها ولا يضرب عليها، ومعتقون
كمعتق واحد، فيما عليه كل سنة وكل شخص من عصبة كل معتق بتحمل ما كان يحمله
ذلك المعتق في حياته من نصف أو ربع.
قالوا: ولا يقل عتيق عن معتقه في الظهر، كما لا يرث - وقيل: يعقل لأن العقل
للنصرة والإعانة، فإن فقد العاقل ممن ذكر أو وجد ولم يعرف ما عليه الواجب
عقل ذوو الأرحام إن قلنا بثوريتهم. ثم يعقل بيت مال المسلمين عن الجاني
المسلم، كما يرثه وللحديث الوارد عن الرسول صلوات الله وسلامه عليه: (انا
وارث من لا وارث له، اعقل عنه وأرثه) اخرجه أبو داود والنسائي، فإن فقد بيت
المال بأن لم يوجد فيه شيء، أو لم ينتظم امره بحيلولة الظلمة دونه، اولم
يعرف بيت المال فتجب الدية كلها، أو الباقي منها على الجاني في ماله في
الأصح. بناء على أنها تلزمه ابتداء ثم
(5/334)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
تتحملها العاقلة. فتجب عليه الدية صيانة للحق من الضياع، فلا يسقط كيلا
يضيع دم المسلم هدراً، وتؤجل على الجاني إذا وجبت عليه، فيؤخذ منه ثلث
الدية عند الحول، ولو مات في أثناء الحول يحل الأجل على الأصح.
قالوا: وتؤجل على العاقلة جية نفس كاملة بإسلام وحريةن وذكورية، ثلاث سنين،
في آخر كل سنة ثلث من الدية، لما رواه البيهقي من قضاء عمر، وعلي رضي الله
عنهما وعزاه الشافعي إلى قضاء النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما تؤخذ في آخر
كل سنة، لأن المنافع كالزرع والثمار، ونتاج الأبل تتكرر كل سنة، فاعتبر
مضها وليجتمع عنجهم ما يتوقعونه، فيواسون عن تمكن.
وتؤجل دية الذمي على الصح سنة، لأنها قدر ثلث دية المسلم، وقيل: تؤجل
ثلاثاً لأنها بدل نفس محترمة، وتؤجل دية امرأة مسلمة سنتين في آخر الأولى
منهما ثلث من دية نفس كاملة، والباقي آخر السنة الثانية، وقيل: تؤجل جيتها
ثلاث سنين، وتحمل العاقلة الجناية على العبد من الحر في الأظهر، ففي آخر كل
سنة يؤخذ من قيمته قدر ثلث دية، وقيل: تؤخذ كلها في ثلاث سنين لأنها بدل
نفس محترمة.
ولو قتل شخص رجلين فتؤجل ديتهما على عاقلته في ثلاث سنين، لأن الواجب ديتان
مختلفتا، وقيل: تؤجل ديتهما في ست سنين، في كل سنة قدر سدس دية، لأن بدل
النفس الواحدة يضرب في ثلاث سنين فيزاد للأخرى مثلها.
ولو قتل شخص امخرأتين أحلت ديتهما على عاقلته في سنتين، والأطراف كقطع
اليدين، والحكومات، وأروش الجنايات تؤجل في كل سنة قدر ثلث دية كاملة، فإن
زاد الواجب على دية نفس كقطع اليدين والرجلين ففي ست سنين، وقيل: تؤخذ كلها
في سنة بالغة ما بلغت لأنها ليست بدل النفس حتى تؤجل.
قالوا: وتؤجل دية النفس من الزهوق، لأنه وقت استقرار الوجوب. واجل دية غير
النفس، كقطع يد اندملت من ابتداء الجناية، لأنها حالة الوجوب، أما إذا لم
يندمل، بأن سرى من عضو إلى عضو، كان قطع أصبعه فسرت إلى كتفه، فأجل أرش
الأصبع من قطعها، والكف من سقوطها.
ومن مات من العاقل في أثناء سنة سقط من واجب تلك السنة، ولا يؤخذ من تركته
لأنها مواساة.
ويشترط فيمن يعقل - الذكورة، وعدم الفقر، والحرية والتكليف، واتفاق الدين،
فلا يعقل فقير ولا رقيق، ولا صبي، ولا محنون، ولا أنثى، ولا مسلم عن كافر،
وعكسه، ويعقل يهودي عن نصراني، وعكسه في الأصح، ويجب على الغني نصف دينار
على أهل الذهب، أو قدره دراهم على أهل الفضة، وهو سنة منها، لأن ذلك اول
درجة المىاساة في زكاة النقد، والزيادة عليه لا ضابط لها، ويجب على المتوسط
من العاقلة، ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، لأنه واسطة بين الفقير الذي لا شيء
عليه وبين الغني الذي عليه نصف دينار كل سنة من الثلاثن لأنها مواساة تتعلق
بالحول فتكرر بتكرره
(5/335)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
كالزكاة، فجيمع ما يلزم الغني في الثلاث سنين دينار ونصف، والمتوسط نصف
ربع، وقيل: هو واجب الثلاث، والمعتبر مقدار نصف الدينار، وربعه لا عينهما،
والغني والمتوسط يعتبران آخر الحول. لأنه حق مالي متعلق بالحول. ومن أعسر
في الحول سقط، فلا يلزمه شيء، لأنه ليس أهلاً للمواسة بخلاف الجزية، لأنها
كالأجرة لسكنى جار الإسلام. ولو ادعى الفقر بعد الغنى حلف ولا يكلف البينة،
والغني هو من يملك فاضلاً عما يبقى له في الكفارة عشرين ديناراً أو قدرها
اهـ.
المالكية - قالوا: العاقلة عدة أمور وهم أهل ديوانه إن كان الجاني من الجند
ولو كانوا من قبائل شتى فإن نقص أهل الديوان عن سبعمائة - بناء على أن أقل
العاقلة سبعمائة - ضم إليهم عصبة الجاني الذين ليسوا معه في الديوان، فإن
لم يكن ديوان، أو كان وليس الجاني منهم، أو لم يعطوا أرزاقهم المعينة، فتجب
الدية على العصبة الأقر فالأقرب، على ترتيب النكاح، فإذا كمل من البناء
سبعمائة فلا يجفع أولادهم شيئاً، وإن نقص كمل من أبناء الأبناء، وهكذا،
والحد يؤخر عن بني الاخوة هنا، فإن لم توجد عصبة، أو وجدت ولم توف بالواجب،
فالعاقلة هم الموالي الأعلون، وهم المعتقون - بكسر التاء - لانهم عصبة سبب
وهم كعصبة النسب لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (الولاء لحمة كلحمة
النسب) ولقولهم: الولاء عصوبة سببها نعمة العتق. ويقدم الأقرب فالأسفلون
حيث لم يوجد من الأعلين، فإن لم يوجدن فعاقلته بيت الما. إن كان الجاني
مسلماً، لأن بيت المال لا يعقل عن كافر، فانلم يكن بيت المال فتقسط على
الجاني، إن كان ممن يعقل، بأن كان ذكراً، بالغاً، عاقلاً، مليئاً.
وعاقلة الذمي ذو جيته، وهو من يحمل معه الجزية، إذ لو كانت عليه، وإن لم
يكونوا منأقرباه، فالنصراني يعقل عنه النصارى الذين في بلده، لا اليهود،
وعكسه، ويضرب على كل من تلزمه الدية من أهل دوان، أو عصبة، وموالي، وذمي،
إن تحالكموا إلينا. كل على عدر طاقته، وعقل عن صبي، مجنون، وامرأة، وفقير،
وغارم، إذا جنوا، فتغرم عاقلتهم عنهم، والعبرة في الصبا، والجنون، وضدهما،
والعسر، واليسر، والغيبة، والحضور، وقت التوزيع على العاقلة، فما وجدت فيه
الاصناف، وقت التوزيع وزع عليه.
وما لا فلا، فإن قدم غائب غيبة انقطاع وقت التوزيع، فلا تضرب عليه بعد
قدومه المتأخر عن التوزيع. فإن أيسر فقير، أو بلغ صبي، أو عقل مجنون، أو
اتضحت ذكورة خنثى بعد التوزيع فلا شيء على واحد منهم، وتحل الدية بالموت
والإفلاس، فإذا ماتت العاقلة، أو واحد منها، أو أفلس فيحل ما كان منجماً
عليهم أو عليه، ولا دخول لبدوي من عصبة الجاني مع حضري، ولا شماي مع مصري،
وكذا الحجاز واليمن، أما أهل أقليم واحد حضر مثلاً فيضمنون، فإذا لم تكل
العاقلة من أهل بلد ضم إليهم ما قرب منها العصبة.
قالوا: وتقسم الدية الكاملة لمسلم، أو غيره، ذكراً، أو أنثى عن نفس أو طرف
في ثلاث سنين من يوم الحكم. والثلث كدية الجائفة في سنة، والثلثان كجائفتين
في سنتين، والنصف في سنتين في كل سنة ربع، وثلاثة الرباع تنجم في ثلاث
سنين، في كل سنة ربع، والعاقلة الذي يضم إليه ما
(5/336)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
بعده سبعمائة رجل. فإذا وحج من العصبة هذا العدد فلا يضم إليهم الموالي،
وإن نقصوا عن هذا العدد لو كانوا اغنياء ضم إليهم ما يكملهم من الموالي،
وهكذا.
قالوا: إن الجاي لا يدخل مع العاقل' لأن العاقلة هي سبب تجرئه على الجناية.
الحنفية، والحنابلة، والشافعية في أحد قوليهم - قالوا: إن الغائب والحاضر
من العاقلة سواء في تحمل الدية.
الشافعية، والمالكية، والحنابلة - قالوا: لا مدخل لأهل الصنعة، والسوق في
التحمل إلا إذا كانوا أقارب.
الحنفية - قالوا: إذا كان الجاني من أهل الديوان فديوانه عاقلته، وعاقلة
السوقي أهل سوقه ثم قرابته فأهل محلته اهـ.
مبحث القسامة
اتفق الأئمة على أن القسامة مشوعة، إذا وجدقتيل في مكان ولم يعلم قاتله.
الحنفية - قالوا: القسامة في اللغة اسم وضع موضع الأقسام، وفي الشرع أيمان
يقسم بها أهل محلة، أو جار وجد فيها قتليل به اثر القتل، يقول كل واحد
منهم: والله ما قتلته، ولا علمت له قاتلاً) . ويلزم المدعي عليه اليمين
بالله عز وجل أنه ما قتل، ويبرأ.
والسبب الموجب للقسامة، وجود قتيل في موضع هو في حفظ قوم وحمايتهم،
كالمحلة، والدار، ومسجد المحلة، والغرية، والقتيل الذي تشرع فيه القسامة
اسم ليت به أثر جراحة، أو ضرب أو خنق، فإن كان الدم يخرج من أنفه، أو دبره
فليس بقتيل، بخلاف ما لو خرج الدم من أذنه، أو عينه، فهو قتيل تشرع فيه
القسامة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (الينة على المدعي واليمين على من
أنكر) وفي رواية (على المدعي عليه) وروى سعيد بن المسيب رضي الله عنه (أن
النبي صلى الله عليه وسلم بدأ باليهود بالقسامة، وجعل الدية عليهم لوجود
القتيل بين أظهرهم) ، وشرط القسامة. بلوغ المقسم، وعقله، وحريته، وتكيمل
اليمين خمسين يميناً.
وحكمها القضاء بوجوب الدية لأولياء الدم، إن حلفوا، والحبس إلى الحلفغن
أبوا، ويتخير الولي من القوم من يحلفهم، لأن اليمين حقه، والظاهر أنه يختار
من يتهمه بالقتل، أو يختار صالحي أهل المحلة، لما أن تحرزهم عن اليمين
الكاذبة، أبلغ التحرز، فيظهر القاتل. وفائدة اليمين النكول، فا كانوا لا
يباشرون ويعملون، يقيد يمين الصالح على العلم بأبلغ مما يقيد يمين الطالح،
ولو اختاروا أعمى أو محدوداصفي قذف جاز لأنه يمين ليس بشهادة، ومراعاة لحق
الميت وحرمته، وإذا حلفوا قضى على أهل المحلة بالدية، ولا يستحلف الولي لأن
النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الدية والقسامة في حديث أبن سهل، وفي
حديث زياد بن أبي مريم، وكذا جمع عمر رضي الله تعالى عنه بينهما على وادعه.
(5/337)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
وقد روي: أن عبد الله بن سهل، وعبد الرحمن بن سهل، وحويصة ومحيصة، خرجوا في
التجارة إلى خيبر وتفرقوا لحوائجهم فوجدوا عبد الله بن سهل قتيلاً في قليب
من خيبر يتشحط في دمه، فجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليروه
فأراد عبد الرحمن، وهو أخ القتيل أن يتكلم فقال صلى الله عليه وسلم اكبر
الكبر فتكلم أحد عميه حويصة، أو أو محيصة، وهو الأكبر منهما وأخيره بذلك
قال: ومن قتله؟ قالوا: ومن يقتله سوى اليهود، قال عليه الصلاة والسلام:
(تبرئكم اليهود بإيمانها) فقالوا: لا نرضى بأيمان قوم كفار، لا يبالون ما
حلفوا عليه. فقال عليه الصلاة والسلام أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟ فقالوا:
كيف نحلف على أمر لم نعاينه ولم نشاهد، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن يبطل دمه فوداه بمكائة من إبل الصدقة) فقول النبي صلى الله عليه وسلم
تبرئكم اليهود محمول على الإبراء عن القصاص والحبس، وكذا اليمين مبرئة عما
وجب له اليمين، والقاسمة ما شرعت لتجب الدية إذا نكلوا، بل شرعت ليظهر
القصاص بتحرزهم. عن اليمين الكاذبة، فيقروا بالقتل، فإذا حلفوا حصلت
البراءة عن القصاص. ثم الدية تجب بالقتل الموجود منهم ظاهراً، لوجود القتيل
بين أظهرهم لا بنكولهم، أو تقول: إنها وجبت بتقصيرهم في المحافظة كما في
القتل الخطأ، ومن أبى منهم اليمين حبس حتى يحلف، لأن اليمين فيه مستحقة
لذاتها تعظيماً لأمر الدم، ولهذا يجمع بينه وبين الدية، بخلاف النكول في
الموال، لأن اليمن بدل عن أصل حقه، ولهذايسقط ببدل المدعى، وفيما نحن فيه
لا يسقط ببدل الدية:
قالوا: وإن لم يكمل أهل المحلة كررت اليمان عليهم حتى تتم خمسين، لما روي
أن عمر رضي الله عنه لما قضى في القسامة دانى إليه تسعة واربعون رجلاً،
فكرر اليمين على رجل منهم حتى تمت خمسين، ثم قضى بالدية. ولا قسامة على
صبي، ولا مجنون، لأنهما ليسا من أهل القول الصيح، واليمين قول صحيح ولا
قسامة على امرأة، ولا عبد، لأنهما ليسا من أهل النصرة
وإن وجد ميتا لا أثر به، فلا قسامة ولا دية له، لأنه ليس بقتيل، ولو وجد
بدن القتيل، أو أكثر من نصف البدن، أو النصف ومعه الرأس في محلة. فعلى
أهلها القسامة والدية، وإن وجد نصف مشقوقاً بالطول، أو وجد اقل من النصف،
ومعه الرأس، أو وجدت يده، أو رجله، أو رأسه، فلا شيء عليهم، لأن هذا حكم
عرفناه بالنص وقد ورد في البدن، إلا أن للأكثر حكم الكل تعظيماً للآدمي،
بخلاف الأقل، لأنه ليس ببدن ولا ملحق به، فلا تجري فيه القسامة.
ولو وجد فيهم جنين أو سقط ليس به أثر الضرب فلا شيء على أهل المحلة، لأنه
لا يقوق الكبير حالاً وإن كان به اثر الضرب وهو تام الخلق وجبت القسامة
والدية عليهم، لأن الظاهر أن تام الخلق ينفصل حياً، وإن كان ناقص الخلق فلا
شيء عليهم، لأن ينفصل ميتاً لا حياً.
قالوا: وإذا وجد القتيل على دابة يسوقها رجل فالدية على عاقلته دون أهل
المحلة، لأنه في يده، فصار كما إذا كان في جاره، وكذا إذا كان قائدها أو
راكبها، فا اجتمعوا فعليهم لأن القتيل في أيديهم فصاروا كما إذا وجد في
دارهم.
(5/338)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
قالوا: وإذا مرت دابة بين قريتين وعليها قتيل، فهو على أقربهما، لما روي أن
النبي صلى الله عليه وسلم أتي بقتيل وجد بين قريتين، فأمر أن ذرع بينهما،
وعن عمر رضي الله عةنه أنه لما كتب إليه في القتيل الذي وجد بين وادعة،
وأرحب، وكتب بأن يقيس بين القريتين، فوجد القتيل إلى اجعة أقرب فقضى عليهم
بالقسامة.
وإذا وجد القتيل في دار لإنسان فالقسامة عليه، والدية على العاقلة ولا يدخل
السكان في القسامة مع الملاك عند أبي حنيفة، وقال اوب يوسف هي عليهم
جميعاً، وإذا وجد قتيل في دار فالقسامة على رب الدار، وعلى قومه، وتدخل
العاقلة في القسامة إن كانوا حضروا، وإن كانوا غائبين فالقسامة على رب
الدار يكرر عليهم الإيمان، وإن ووجد القتيل في ار مشتركة فهي على رؤوس
الرجال.
ومن اشترى داراً ولم يقبضها حتى وجد فيها قتيل فهو على عاقلة البائع.
وإن وجد قتيل في سفينة فالقسامة على من فيها من الركاب والملاحين.
وإن وجد في مسج محلة، فالقسامة على أهلها لأن التدبير فيه إليهم، وغنوجد في
المسجد الجامع، أو الشارع العظم فلا قسامة فيه والدية على بيت المال، لأنه
للعامة لا يختص به واحد منهم وكذلك الجسور العامة.
ولو وجد في السوق إن كان مملوكاً فعند أبي يوسف تجب على السكان، وعندهما
على المالك. وإن لم يكن مملوكاً كالشوارع العامة التي بنيت فيها فعلى بيت
المال لأنه لجماعة المسلمين.
ولو وجد في السجن فالدية على بيت المال، وعلى قول أبي يوسف الدية والقسامة
على أهل السجن. لأنهم محتبساً بالشاطئ فهو على أقرب القرى من ذلك المكان.
وإن ادعى الولي على واحد من أهل المحلة بعينه لم تسقط القسامة عنهم، وإن
اجعى على واحد من غيرهم سقطت عنهم، وإذا التقى قوم بالسيوف فأجلوا عن قتيل
فهو على أهل المحلة إلا أن يدعي الأولياء على اولئك، أو على رجل متهم
بعينه، فلم يكن على أهل المحلة شيء، ولا على اولئك حتى يقيموا البينة.
ولو وجد قتيل في معسكر أقاموا بفلاة من الأرض لا ملك لاحد فيها، فإن وجد في
خباء، أو فسطاط فعلى من سكنها الدية والقسامة، وإن كان حارجاً من الفسطاط
فعلى أقرب الأخبية، اعتباراً
وإن كان القوم لقوا قتالاً ووجد قتيل بين أظهرهم فلا قسامة، ولا دية، لأن
الظاهر أن العدو قتله، وإن كان للأرض مالك فالعسكر كالسكان، وإذا قال
المستحلف قتله فلان استحلف بالله ما قتلت، ولا
(5/339)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
عرفت له قاتلاً غير فلان، لأنه يريد إسقاط الخصونة عن نفسه بقوله فلا يقبل،
وإذا شهد اثنان من اهمل المحلة على رجل من غيرهم أنه قتل لم تقبل شهادتهما.
ولو ادعى على واحد من أهل المحلة بعينه فشهد شاهدان من أهلها عليه لم تقبل
الشهادة، لأن الخصومة قائمة، ومن جرح من قبيلة فنقل إلى أهله فمات من تلك
الجراحة، فإن كان صاحب فراش حتى مات فالقسامة والدية على القبيلة، ولو جد
رجل قتيلاً في دار نفسه فديته على عاقلته، لورثته.
وقالوا: إن الأولياء إذا كانوا جماعة تكرر عليهم الأيمان بالإدارة بع أن
يبدأ أحدهم بالقرعة.
وقالوا: إن القسامة تثبت في العبيد مراعاة لحرمة الآدمي المسلم من حيث هب
من غير تفرقة.
وقالوا: إن أيمان النساء لاتقبل في القسامة مطلقاً، لا في عمد، ولا في خطأ،
لعدم النصرة بهن.
وقالوا: لاتشرع الأيمان في القسامة إلا على المدعى عليهم، لكونهم متهمين
بالقتل فيحلفون لتبرأ ساحتهم.
الشافعية - قالوا: يشترط لك دعوى بدم، أو غيره كغصب، وسرقة، وإتلاف ستة
شروط، أحدها: أن تكون معلومة غالباً، بأن يفصل ما يدعنه من عمد أو خطأ، أو
شبه عمد، ومن انفراد، وشركة، وعدد الشركاء في قتل يوجب الدية، فإن أطلق
المدعي في دعواه، كقوله: هذا قتل أبي استفصله القاضي ندباص، فيقول له: كيف
قتله، عمداً، أم خطأ، أم شبه عمد؟
وقيل: لا يستفصل القاضي المدعي، بل يعرض عنه، لأنه ضرب من التلقين.
وثانيها: أن تكون ملزمة، فلا تسمع دعوى هبة شيء، أو بيعه، أو إقراره به حتى
يقول المدعي: وقبضته بإذن الواهب، ويلزم البائع، أو المقر التسليم.
وثالثها: أن يعين المد عي في دعواه المدعى عليه، واحداً كان أو جمعاً
معيناً، كثلاثة حاضرين، فلو قال: قتله أحدهم، فأنكروا، وطلب تحليفهم، لا
يحلفهم القاضي في الأصح للإبهام.
ورابعها: أن تكون الدعوى على مدعى عليه مكلفاً، فلا تصح الدعوى على صبي،
ومجنون، بل إن توجه على الصبي أو المجنون ما لى ادعى مستحقه على وليهما،
فإن لم يكن ولي حاضر، فالدعوى عليهما كالدعوى على الغائب.
وسادسها: أن لا تتناقض دعوى المدعي، وحينئذ لو ادعى على شخص انفراده
بالقتل، ثم ادعى على آخر أنه شريكه، أو منفر لم تسمع الدعوى الثانية، لما
فيه من تكذيب الأول ومناقضتها، وسواء أقسم على الول، ومضى الحكم فيه أم لا.
(5/340)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
وقالوا: وتثبت القسامة في قتل النفس لا في غيرها من جرح، أو إتلاف مال.
وعتبر كون القتل بمكان لوث - وهو قرينة حالية، أو مثالية تدل على صدق
المدعي، بأن يغلب على الظن صدقه ت بأن وجد قتيل، أو بعضه كرأسه في محلة
منفصلة عن بلد كبير، ولا يعرف قاتلهن ولا بينة بقتله، أو في قرية صغيرة
لأعدائه دينياً أو دنيوياً،، إذا كانت العدوة تبعث على الانتقام بالقتل،
ولم يساكنهم في القرية غيرهم فتجب القسامة، أو وجد قتيل تفرق عنه جمع كأن
ازدحموا على بئر، أو باب الكعبة، ثم تفرقوا عن قتيل، لقوة الطن انهم قتلوه.
ويشترط أن يكونوا محصورين، بحيث يتصور غجتماعهم على القتيل، وإلا لم تسمع
الدعوى، ولم يقسم.
قالوا: ولا يشترط في اللوث والقسامة ظهور دم، ولا جرح، لأن القتل يحصل
بالخنق، وعصر البيضة ونحوهما، فإذا ظهر أثره قام مقام الدم فلو لم يوجد اثر
أصلاً، فلا قسامة على الصحيح وقيل: تثبت القسامة.
قالوا: وشهادة العدل الواحد لوث لحصول الظن بصدقه. وذلك في القتل العمد
الموجب للقصاص. فإن كان في خطأ، أو شبه عمد، لم يكن لوثاً، بل يحلف معه
يميناً واحدة، ويستحق الدية، والعبيد والنساء شهادتهم لوث، لأن ذلك يفيد
غلبة الطن، سواء جاؤوا متفرقين، أو مجتمعين، وقيل: يشترط تفرقهم لاحتمال
التواطؤ.
وأخبار فسقة، أو صبيان، أو كفار لوث في الأصح، وكذلك لهج ألسنة الخاص
والعام بأن فلاناً قتل فلاناً ومن اللوث وجود تلطخه بالدم، أو بسلاح عند
القتيل، ومن اللوث أيضاً إذا تقاتل صبيان والتحم الحرب بينهم، وانكشوف عن
قتيل فهو لوث في حق الصف الآخر، وإلا فلوث في حق صفة.
فاذ وجد المقتضى للقسامة حلف المدعون على قاتله خمسين يميناً، واستحقوا دية
مغلظة إذا كان القتل عمداً، ويبدأ بأيمان المدعين للقسامة، لا بأيمان
المدعى عليهم، فإن نكل المدعوة ولا بينة، حلف المدعى عليه خمسين يميناً
وبرئ، وإنما بدئ بأيمان المدعين للقسامة، لأنهم هم الذين يطلبون أخذ الهأر
من المتهم بالقتل.
وقالوا: إن الأولياء إذا كانوا جماعة قسمت الايمان بينهم بالحساب على حسب
الارث، ولو ظهر لوث في قتيل فقال أحد ابنيه: قتله فلان، وظهر عليه لوث،
وقال الابن الآخر: لم يقتله بطل اللوث، لأن الله تعالى أجرى العادة بحرص
القريب على التشفي من قاتل قريبه، وأنه لا يبرئه تعائض هذا اللوث فسقطا،
فلا يحلف المدعي، لانخرام ظن القتل بالتكذيب الدال على أنه لم يقتله -
وقيل: لا يبطل حقه من اللوث وقيل: لا يبطل اللوث بتكذيب فاسق. وإذا لم
يتكاذب ابنا القتيل، بل قال أحدهما: قتله زيد، ومجهول عندي. وقال الآخر:
قتله عمرو ومجهول عندي، حلف كل منهما على من يعينه منهما، إذ لاتكاذب
بينهما، لاحعمال أن الذي أبهم ذكره هة الذي عينه الآخر وكذلك العكس، ولكل
منهما ربع الدية، لاعترافه بأن الواجب عليه نصفها، وحصته منه نصفه.
(5/341)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
ولو أنكر المدعى عليه اللوث في حقه، فقال: لم أكن مع القوم المتفرقين عن
القتيل، صدق بيمينه، لأن الأصل براءة ذمته من القتل، وعلى المدعي البينة
على الامارة التي يدعيها، وهي عدلان.
قالوا: لو ظهر لوث في قتيل لكن بمطلق قتل دون تقييده بصفة عمد، وخطأ، وشبه
عمد، فلا قسامة حينئذ في الأصحن لأن مطلق القتل لا يفيد مطالبته القاتل، بل
لابد من ثبوت العمد، ولا مطالبة العاقلة، بل لابد أن يثبت كونه خكا، أو شبه
عمد - وقيل: تثبت القسامة صيانة للدم عن الهدر قالوا: ولا قسامة في
الجراحات وقطع الأطراف والأموال. إلا في قتل عبد، أو أمة، مع لوث، فيقسم
السيد على من قتله من حر، أو رقيق في الأظهر، بناء على أن بدل الرقيق تحمله
العاقلة.
وقيل: لا قسامة في العبد بناءعلى أن بدله لا تحمله العاقلة، فهو ملحق
بالبهائم.
والقسامة أن يحلف المدعي الوارث على قتل النفس ولو ناقصه كامرأة، وذمي، مع
وجود اللوث خمسين يميناً، والحلف يتوجه إلى الصفة التي أحلف الحاكم عليهان
فيقول: والله لقد قتل هذان ويشير إليه إن كان حاضراً، ويرفع في نسبه إن كان
غائباً، أو يعرفه بما يمتاز به من قبيلة، أو حرفةن أو لقب، ولا يشترط
موالاة الأيمان، ولو تخلل الايمان جنون من الحالف، أو إغماء بني إذا أفاق
على ما مضى، ولو مات الولي المقسم في أثناء الايمان لم يبن وارثه، بل
يستأنف، ولو نكل عن الايمان أحد الورثة حلف الوارث الآخر خمسين يمينا، ولو
غاب حلف الآخر خمسين واخذ حصته وإلا صبر للغائب.
والمذهب، أن يمين المدعي عليه بلا لوث، واليمين المردودة منه على المدعي،
وعلى المدعى عليه واليمين مع شاهد خمسون للجميع.
المالكية - قالوا: سبب القسامة التي توجب القصاص في العمد، وتوجب الدية في
قتل الخطأ، قتل الحر المسلم، دون الرقيق، والكافر، وسواء أكان الحر بالغاً،
أو صبياً قتل بجرح أو ضرب، أو سم، بلوث، - وهو الأمر الذي ينشأ عنه غلبة
الطن بأنه قتله، كشاهدين على قول حر مسلم، بالغ قتلني أو جرحني، أو ضربني
فلان، أو شهادة عدلين على معاينة الضرب أو الجرح، أو أثر الضرب، أو شهادة
واحد علد على معاينة الجرح، أو الضرب، أو شهادة واحد على معاينة القتل، أو
يوجد القتيل ويضربه شخص عله أثر القتل، كان لوثاً، أما إذا قال: فلان، بل
فلان، أو إذا تردد، أو لم يكن أثر الجرح به بطل اللوث، ولا قسامة - وقلك
يقبل قوله ويكون لوثاً تحلف الولاة معه أيمان القسامة. ولكن الظاهر الأول.
وإنما قالوا: إن قول المقتول: دمي عند فلان واستمر على إقراره حتى مات لوث،
وتثبت به القسامة. مع قول العلماء: إن الناس لا لا يعطون بدعواهم، والأيمان
لا تثبت الدعاوى - وذلك لأن الشخص عند موته لا يتجاسر على الكذب في سفك دم
غيره، كيف؟ وهو الوقت الذي يحق في الندم، ويقلع فيه الظالم، ويرد المظالم
إلى أصحابها، ومدار الأحكام على غلبة الظن، وقد تأيد ذلك بالقسامة، وهي
أيمان مغلظة احتياطياً في الدماء لأن الغالب على القاتل إخفاء القتل عن
البينات، فاقتضى الاستحسان ذلك.
(5/342)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
قالوا: وسواء كان قول الحر المسلم، البالغ، قتلني عمداص، أو خطأ، ففي العمد
يستحقون بالقسامة القصاص، وفي الخطأ يستحقون الدية، ولو كان القائل هذا
القول رجلاً فاسقاً، وادعى على عدول، ولو اعدل وأورع أهل زمانه، أنه قتله،
أو ادعى الولد على أبيه أنه ذبحه، أو شق جوفه، أو رماه بحديدة قاصداً قتله،
فيقسم الولياء يمين القسامة، ويقتل فيه المدعى عليه قتل العمد، أو يقسمون
ويأخذون الدية مغلظة.
وإن أطلق القائل ولم يقيد بعمد أو خطأ بين أولياؤه أنه عمد أو خطأ، واقسموا
على ما بينوا، وإن قالوا: لا نعلم هل القتل عمد، أم خطان أو قالوا: لا نعلم
من قتله، أو أختلفوا، بأن قال بعض الولياء قتله عمد، أو قال بعضهم: لا
نعمل، هل قتله خطأ أم عمد، بطل الدم، لانهم لم يتفقوا على أن وليهم قتل
عمداً حتى يستحقوا القود، ولم يتفقوا على أنه خطأ حتى يستحقوا الدية. ولم
يتفقوا على من قتله فيقسموا عليه.
أما لو قال بعضهم قتله خطان وقال البعض لا نعلم خطأ أو عمداً، فللمجعي
الخطأ الحلف لجميع أيمان القسامة ويأخذ نصيبه من الدية لأن الثابت في الخطأ
مال أمكن توزيعه، ولا شيء لغيرهن ومثله لو قالوا جميعاً خطأ، ونكل البعض،
فلو قال بعضهم: خطأ وبعضهم عمداً فإن استووا في الدرجة كالبنين، أو الاخوة
فيحلف الجميع على كل طبق دعواه على قدر ارثه، ويقضى للجميع بدية الخطأ، فو
نكل مجعي الخطأ عن الحلف فلا شيء للجميع، وإن نكل مدعي الخطأ فلمدعي العمد
الدخول في حصته من حلف.
قالوا: ولو شهد عدلان على معاينة الضرب، أو الجرح خطأ أو عمداً، وكان حراً
مسلماً، وتأخر الموت.
فيقسم أولياؤه - والله منه مات - أو - إنما مات منه.
أما إذا لم يتأخر الموت فيستحعون الدم لدية بدون قسامة، لكونها شهادة على
معاينة القتل. أو شهادة عدل بمعاينة الضرب، أو الجرح عمداً أو خطأ، تأخر
الموت أو لم يتأخر فيقسم الاولياء خمسين يميناً - لقد جرحه، أو ضربه ومات
من الجرح والضرب، وقيل: يحلف واحد من الأولياء يميناً مكملة لشهادة العدل
اه ضربه أو جرخه، ثم يحلفون الخمسين يميناً.
ولو شهد علد بإقرار المقتول بعمد أو خطأ - اي شهد بالغ أن فلاناً جرحني، أو
ضربني عمداً، أو خطأ، وشهد عدل على قوله، فشادته لوث، يحف عليها الأولياء
خمسين يميناً بالصيغة المشتملة على اليمين لملكملة للنصاب، فلا يحتاجون
ليمين منفردة على العتمد من الذهب.
ولو شهد عدل برؤية المقتول حال كونه يتشحط في دمه، والشخص المتهم بالقتل
عليه اثر القتل بالفعل، ككون الآلة بيده ملطخة بدم، أو كان خارجاً من مكان
المقتول ولي فيه غيره، فتكون شهادة العدل على ما ذكر لوثاً، يحلف الاولياء
يمين القسامة، ويستحقون القود في العمد والدية في الخطأ.
(5/343)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
واعلم أنه تلزمه القسامة ولو تعدد اللوث كشهادة عدل بمعاينة القتل مع عدلين
على قول المقتول: قتلني فلان، فلا يقتصون، ولا يأخذون الدية إلا بعد
القسامة.
قالوا: وليس من اللوث وجود المقتول بقرية قوم ولو مسلماً بقرية كفار. وهذا
إذا كان يخالطهم غيرهم في القرية، وإلا كان لوثاً يوجب القسامة، كما جعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم القسامة لا بني عم عبد الله بن سهل حيث وجد
مقتولاً بخيبر، لأن خيبر مكان لا يخالط اليهود فيا غيرهم، أو وجد مقتولاً
بدارهم لجواز أن يكون قتله غير أهل القرية والدار، ورماه عندهم حيث كان
يخالطهم غيرهم في الدار أيضاً،
قالوا: والقسامة خمسون يميناً متوالية بدون تفريق بزمان أو مكان، يحلفون
على البت والجزم يحصل لهما العمل بالخبر، كما يحصل بالمعاينة. وجبرت اليمين
إذا وزعت على حدود وحصل كسران أو أكثر، فإنها تكمل على ذي أكثر كسرها، ولو
كان صاحب أكثر الكسر أقل نصيباً، وإن تساوت الكسور فعلى كل من الجميع تكميل
ما انكسر عليه للتساوي.
ويحلف في أيمان القسامة في الخطأ من يرث المقتول من المكلفين، وتوزع هذه
الايمان على قدر الميراث. وإن إلا واحد من الأخوة للام، فإنه يحلف خمسين
يميناً ويأخذ حظه من الدية، أو إذا لم يوجد إلا امرأة واحدة، ولا يأخذ أحد
من الأولياء الحاضرين البالغين إذا غاب بعضهم أو كان صغيراً. شيئاً من
الدية من العاقلة إلا بعد حلف جميع الايمان، ويأخذ حصته من الدية، لأن
العاقلة لا يخاطبون بالدية إلا بعد ثبوت الدم، ثم بعد حلف الحاضر جميع
الأيمان حف من حضر من الغيبة أو بلغ الصبي حصته من أيمان القسامة، ويأخذ
نصيبه من الدية، ولا يحلف أيمان القسامة في العمد اقل من رجلين لأن النساء
لا يحلفن في العمد، لعدم شهادتهن فيه، فإن انفردن عن رجلين صار المقتول كمن
لا وارث له فترة اليمان على المدعى عليه عصبة ولا يقسم في العمد إلا على
واحد من الجماعة الملوثين بالقتل يعينه المدعي للقسامة يقولون في الأيمان:
من ضربه ما، لا من ضربهم، ولا يقتل بها أكثر من واحد، فإن استووا في قتل
العمد كحمل صخرة ورموها عليه فمات، فيقسمون على الجميع، ويقتل الجميع حيث
رفع حياً وأكل ثم مات، فلو مات مكانه أو انفذت مقاتله قتل الجميع بدون
قسامة.
ويجوز للولي أن يستعين في القسامة بعاصبه، وإن لم يكن عاصب المقتول كامرأة
مقتولة ليس لها عاصب غير ابنها وله اخوة من أبيه، فيستعين بهم، أو ببعضهم
أو بعمه مثلاً.
قالوا: وتوزع الايمان على مستحق الدم على الرؤوس في العمد، وأما في الخطأ
فتوزع على قدر الإرث، فإن زادوا على خمسين اجتزئ منهم بخميسين، وكفى في حلف
جميعها اثنان من الأولياء، إذا كان الأولياء أكثر من اثنين وطاع منهم
اثنان، فيكفى حيث كان الباقي غير ناكلين، ونكول المعين
(5/344)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
من عصبة الولي لا يعتبر، بخلاف نكول غير المعين فإنه معتبر، فترد الايمان
على المدعى عليهم بالقتل، فيحلف كل واحد منهم خمسين يميناً، إن تعددوا، لأن
كل واحد م نهم متهم بالقتل، وإن كان لا يقتل بالقسامة إلا واحد، فإذا كان
المتهم واحداً، حلف الخمسين يميناً.
ومن نكل من المدعى عليهم بالقتل حبس حتى يحلف خمسين أو يموت في السجن حيث
كان متمرداً، وإلا فبعد سنة يضرب مائة ويطلق، والراجح الأول.
قالوا: إن الحاكم يبدأ بأيمان المدعين للقسامة، لا بأيمان المدعى عليهم.
فإن نكل المدعوة ولا بينة معهم عليه خمسين حلف المدعي يميناً وبرئ من دمه.
الحابلة - قالوا: إن القسامة مشروعة إذا وجد قتيل في محله، ولم يعلم قاتله،
وهي ثابتة بالسنة واجماع الأمة، ولكن لا يحكم بالقسامة إلا أن يكون بين
المقتول، وبين المدعى عليه لوث، وهي العداوة في حق الصف الآخر، والعصبة
خاصة، كما هو حاصل بين القبائل من المطالبة بالدماء وأخذ الثأر، وكما بين
أهل البغي، وأهل البغي، وأهل العدل، وأما قول المقتول المسلم البالغ: إن
فلاناً قتلني، فلا يكون لوثاً، فإذا وجد المقتضي للقسامة حلف المدعون على
قاتله خمسين يميناً، واستحقوا دمه إذا كان القتل عمداً.
ويجب أن تبدأ بأيمان المدعين للقسامة، لا بأيمان المدعى عليهم، فإن نكل
المدعون ولا بينة على القتل. حلف المدعى عليه خمسين يميناً، ما قتله ولا
يعلم له قاتلاً، وبرئ من دمه، فإذا كان أولياء الدم جماعة قسمت الأيمان
بينهم بالحساب، على حسب الإرث الذي يستحقونه من القتيل، حتى يكون الغرم على
قدر الغنم.
وقالوا: إن القسامة تثبت في العبيد. وذلك لحرمة الآدمي المسلم من حيث هو،
حيث إن الله تعالى كرمه، وقالوا: إن أيمان النساء لا تقبل في القسامة
مطلقاً، لا في عمد ولا في خطأ تخفيفاً عن النساء، لأنه لا نصرة عليهن،
والقسامة تبنى على النصرة من أفراد العاقلة، وأهل المحلة، لأن القاتل يعتز
بهم، ويحتمي بقوتهم.
مبحث كفارة القتل.
اتفق الأئمة رحمهم الله تعالى على وجوب الكفارة في قتل الخطأ إذا لم يكن
المقتول ذمياً ولا عبداً واتفقوا على أن كفارة قتل الخطأ عتق رقبة مؤمنة،
فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، وذلك لقوله تعالى: {ومن قتل مؤمناً خطأ
فتحرير رقبة مؤمنة، ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا، فإن كان من قوم عدو
لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة، وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية
مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة. فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة
من الله، وكان الله عليماً حكيماً} [آية: 92 من النساء] .
(5/345)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
والمالكية، والحنفية، والشافعية في أصح قوليهم، والحنابلة في إحدى روايتهم
- قالوا: أنه لا يجزئ الاطعام في كفارة قتل الخطأ، نظراً إلى عظم حرمة
المؤمن، فخص الكفارة بما هو أعلى قيمة غالباً من الإطعام، ولأنه لم يرد به
النص القرآني، والمقادير تعرف بالتوقيت، ولأن الله تعالى جعل المذكور في
الآية كل الواجب بحرف الفاء أو لكونه كل المذكور على ما عرف، ويجزئه رضيع
أحد أبويه مسلم، لأن شرط هذا الإعتاق الإسلام وسلامة الأطراف والأول يحصل
بإسلام أحد أبويه، والثاني بالظهور، إذ الظاهر سلامة أطرافه، ولايجزئه ما
في البطن لأنه لم تعرف حياته ولا سلامته.
الشافعية، والحنابلة في الروايتين الأخريين، - قالوا: إن الإطعام حين العجز
عن الصوم يجزئ، مثل كفارة الظهار.
الحنفية، والشافعية، والحنابلة - قالوا: تتجب الكفارة في قتل الذمي على
الاطلاق، وفي قتل العبد المسلم وذلك للعمل بوصية رسول الله صلى الله عليه
وسلم على الذمي، في وعد من ظلمه بأن يكون صلى الله عليه وسلم حجيجه يوم
القيامة، في نحو قوله: (من ظلم ذمياً كنت حجيجه يوم القيامة) فإذا كان هذا
فيمن ظلمه ولو بأخذ درهم من ماله أو بكلمة في عرضه مثلاً فكيف بمن قتله
بغير حق.
وأما وجوب الكفارة في قتل العبد المسلم فلدخولها في وصيته صلى الله عليه
وسلم في حال احتضاره، بقوله صلى الله عليه وسلم: (الصلاة وما ملكت أيمانم)
وقد ورد أن الوصية على الأرقاء من أواخر ما تكلم به رسول الله صلى الله
عليه وسلم وهو محتضر، فصار يقول ذلك بتكلف لا يكاد لسانه يبينها، فوجب
احترامه كل الاحترام، ومن جملة احترامه وجوب الكفارة في قتله.
المالكية - قالوا: لا تجب الكفارة في قتل الذمي، لأن وصية رسول الله صلى
الله عليه وسلم على أهل الذمة محمولة على فعل أمور مخصوصة، كأخذ ماله بغير
حق، وكالوفاء بذمته، وبغير الكفارة كتكفينه، ودفنه، إذا مات ونحو ذلك دون
وجوب الكفارة في قتله، فإنه مراق الدم في الجملة من حيث كفره بالله،
وتكذيبه لرسوله صلى الله عليه وسلم.
الحنفية، والمالكية، والحنابلة في إحدى روايتهم - قالوا: لا تجب الكفارة في
قتل العمد، لأن الشارع شدد في أمر القاتل عمداً بالقتل، أو الدية إذا عفا
الأولياء عن قتله إلى الدية، فلا يزاد على ذلك، لأنه كبيرةة محضة وفي
الكفارة معنى العبادة فلا تناط بمثلها، ولأن الكفارة من المقادير وتعينها
في الشرع لدفع الأدنى، لا يعينها لدفع الأعلى.
الشافعية - قالوا: تجب الكفارة في قتل العمد، لأن الحاجة إلى التكفير في
العمد أمس منها إليه في الخطأ، فكان أدعى إلى إيجابها، لأن العامد أغلظ
إثماً ممن كان قتله خطأ فكانت الكفارة به اليق من الخطأ.
قالوا: وتجب على كل واحد من الشركاء في القتل كفارة في الأصح، لأنه حق
يتعلق بالقتل فلا يتبعض كالقصاص. ولأن الكفارة لتكفير جناية القتل، وكل
واحد قاتل، ولأن فيها معنى العبادة، والعبادة الواجبة على الجماعة لا
تتبعض.
(5/346)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
وقيل: تجب الجميع كفارة واحدة، كقتل الصيد.
الشافعية، والحنابلة - قالوا: تجب الكفارة على الكافر إذا قتل مسلماً خطأ.
للتغليظ على الكافر بالتغريم من حيث عدم تحفظه في حق المسلم، حتى لا يعود
إلى مثلها، وليكون عبرة لغيره من دينه، بل قالوا: تجب الكفارة بالقتل، وإن
كان القاتل عبداً، كما يتعلق بقتله القصاص والضمان، دينه، بل قالوا: تجب
الكفارة بالقتل ذمياً، لا لتزامه الأحكام، ولو كان القاتل عامداً، أو
مخطئاً، أو متسبباً، بقتل مسلم ولو بدار الحرب، وذمي، وجنين، وعبد نفسه،
ونفسه ولا تجب الكفارة بقتل امرأة وصبي حربيين. ولا بقتل باغ، لأنه مباح
الدم، وصائل، لأنه لا يضمن، ومرتد، وزان محصن، ومقتص منه بقتل المستحق له،
لأنه مباح الدم بالنسبة إليه.
الحنفية، والمالكية - قالوا: إن الكفارة لا تجب على الكافر، لأن الكفارة
طهرة للقاتل من الأثم دافعة عنه وقوع العذاب به يوم القيامة، والكافر ليس
أهلا لذلك، لأنه لا يظهر إلا بحرقه بالنار يوم القيامة، فكيف يظهر
بالكفارة؟
المالكية، والشافعية، والحنابلة - قالوا: تجب الكفارة على الصبي، والمجنون
إذا قتلا، وذلك لنسبتهما إلى قلة التحفظ في الجملة، فلو خوف الولي الصبي من
القتل، أو ضبط المجنون بالقيد، والغل، لما كانا قدرا على قتل أحد عادة، مع
كون المجنون ربما تعاطى أسباب الجنون بأكله طعاماً لا يناسب مزاجه مثلاص،
فكان تغريمه الكفارة من باب المؤاخذة بالسبب عند من يقول به من الأئمة.
الحنفية - قالوا: لا تجب على الصبي، ولا على المجنون كفارة، لأن المجنون
خرج عن التكليف ولأن الصبي لم يبلغ سن التكليف فلم يؤاخذا بفعليهما، ولأن
أفعالهما من قسم المباح وهو أحد الحكام الخمسة.
المالكية، والشافعية، والحنابلة - قالوا: تجب الكفارة على القاتل بالسبب
كمن تعدى بحفر بئر عدواناص، ووضع حجراً في الطريق وكالمكره والآمر به لمن
لا يميز، وشاهد الزور، ولو حصل التردي في البئر بعد موت الحافر، لأن اسم
القاتل يشمل الآمرين فشملتهما الآية، وبالقياس على وجوب الدية.
الحنفية - قالوا: إن الكفارة لا تجب على القاتل بالسبب مطلقاً، وإن كانوا
قد اجمعوا على وجوب الدية، في القتل بالسبب، وذلك لعدم إلحاق السبب
بالمباشر، لأنه أخف حالاً منه حيث إنه لم يباشر القتل.
الحنفية - قالوا: إذا قتلت أم الولد سيدها فعليها قيمة نفسها، لأنه قد زال
عنها ملك سيدها بقتله، فصارة حرة، كما لو قتلت غيره، وذلك إذ لم يجب القصاص
عليها.
الشافعية - قالوا: يجب عليها الدية لأنها تصير حرة لزوال موجب جنايتها،
والواجب في قتل الحر دية.
(5/347)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
__________
الحنفية - قالوا: إن الجناية من أم الولد لا يجب فينها أكثر من قيمتها كما
لو جنت على أجنبي، ولأن اعتبار الخيانة قي الجاني بحال الجناية - وهي في
حال الجناية آمة. ولأنها ناقصة بالرق لأشبهت القن. وإذا لم يكن لها منه ولد
فعليها القصاص لورثة سيدها، وإن كان لها منه ولد وهو الراث وحده فلا قصاص
عليها، لأنه لو جب لوجب لولجها، ولا يجب للولد على امه قصاص.
الحنابلة - توقفوا في هذه المسألة) .
-
(5/348)
|