المحلى بالآثار شرح المجلى بالإختصار

كتاب الزكاة
على من و فيما تجب الزكاة
الزكاة فرض كالصلاة هذا إجماع متيقن
...
كِتَابُ الزَّكَاةِ
637 - مَسْأَلَةٌ: الزَّكَاةُ فَرْضٌ كَالصَّلاَةِ, هَذَا إجْمَاعٌ مُتَيَقَّنٌ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}. فَلَمْ يُبِحْ اللَّهُ تَعَالَى سَبِيلَ أَحَدٍ حَتَّى يُؤْمِنَ بِاَللَّهِ تَعَالَى, وَيَتُوبَ، عَنِ الْكُفْرِ, وَيُقِيمَ الصَّلاَةَ, وَيُؤْتِيَ الزَّكَاةَ..
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا أَبُو غَسَّانَ مَالِكُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْمِسْمَعِيُّ، حدثنا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الصَّبَّاحِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ, وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ, وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ, فَإِذَا فَعَلُوهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ".
قال أبو محمد: وَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِقْدَارَ الزَّكَاةِ, وَمِنْ أَيِّ الأَمْوَالِ تُؤْخَذُ, وَفِي أَيِّ وَقْتٍ تُؤْخَذُ, وَمَنْ يَأْخُذُهَا, وَأَيْنَ تُوضَعُ؟

(5/201)


الزكاة فرض على الرجال و النساء الأحرار و منهم و الحرائر و العبيد و الإماء و الكبار و الصغار و العقلاء و المجانين من المسلمين
...
638 - مَسْأَلَةٌ: وَالزَّكَاةُ فَرْضٌ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ الأَحْرَارِ مِنْهُمْ وَالْحَرَائِرُ وَالْعَبِيدُ, وَالإِمَاءُ, وَالْكِبَارُ وَالصِّغَارِ, وَالْعُقَلاَءُ, وَالْمَجَانِينُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ,
وَلاَ تُؤْخَذُ مِنْ كَافِرٍ.
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}. فَهَذَا خِطَابٌ مِنْهُ تَعَالَى لِكُلِّ بَالِغٍ عَاقِلٍ, مِنْ حُرٍّ, أَوْ عَبْدٍ, ذَكَرٍ، أَوْ أُنْثَى: لأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا.
وَقَالَ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}. فَهَذَا عُمُومٌ لِكُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ, وَعَاقِلٍ وَمَجْنُونٍ, وَحُرٍّ وَعَبْدٍ، لأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ مُحْتَاجُونَ إلَى طُهْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ وَتَزْكِيَتِهِ إيَّاهُمْ, وَكُلُّهُمْ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا.
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْهَمْدَانِيُّ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ،

(5/201)


حدثنا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ زَكَرِيَّاءَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِي، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: "اُدْعُهُمْ إلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ, فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ, فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ, فَأَعْلِمْهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ, تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ, وَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ".
فَهَذَا عُمُومٌ لِكُلِّ غَنِيٍّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ, وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ وَالْمَجْنُونُ وَالْعَبْدُ وَالأَمَةُ إذَا كَانُوا أَغْنِيَاءَ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا.
فأما أَبُو حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيُّ فَقَالاَ: زَكَاةُ مَالِ الْعَبْدِ عَلَى سَيِّدِهِ: لإِنَّ مَالَ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ, وَلاَ يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ.
قال أبو محمد: أَمَّا هَذَانِ فَقَدْ وَافَقَا أَهْلَ الْحَقِّ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي مَالِ الْعَبْدِ, وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي: هَلْ يَمْلِكُ الْعَبْدُ مَالَهُ أَمْ لاَ وَلَيْسَ هَذَا مَكَانَ الْكَلاَمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ; وَحَسْبُنَا أَنَّهُمَا مُتَّفِقَانِ مَعَنَا فِي أَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي مَالِ الْعَبْدِ.
وقال مالك: لاَ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَالِ الْعَبْدِ, لاَ عَلَيْهِ، وَلاَ عَلَى سَيِّدِهِ.
وَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ جِدًّا, لِخِلاَفِهِ الْقُرْآنَ وَالسُّنَنَ, وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً أَصْلاً, إلاَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: الْعَبْدُ لَيْسَ بِتَامِّ الْمِلْكِ. فَقُلْنَا: أَمَّا تَامُّ الْمِلْكِ فَكَلاَمٌ لاَ يُعْقَلُ.
لَكِنَّ مَالَ الْعَبْدِ لاَ يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَوْجُهٍ ثَلاَثَةٍ لاَ رَابِعَ لَهَا.
إمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْعَبْدِ, وَهَذَا قَوْلُنَا, وَإِذَا كَانَ لَهُ فَهُوَ مَالِكُهُ, وَهُوَ مُسْلِمٌ, فَالزَّكَاةُ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ فَرْقَ.
وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ لِسَيِّدِهِ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيُّ, فَيُزَكِّيهِ سَيِّدُهُ; لاَِنَّهُ مُسْلِمٌ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لَهُمَا مَعًا.
وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ لاَ لِلْعَبْدِ، وَلاَ لِلسَّيِّدِ; فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ. فَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الْعَبْدِ وَعَلَى السَّيِّدِ

(5/202)


وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَهُ الإِمَامُ, فَيَضَعُهُ حَيْثُ يَضَعُ كُلَّ مَالٍ لاَ يُعْرَفُ لَهُ رَبٌّ. وَهَذَا لاَ يَقُولُونَ بِهِ, لاَ سِيَّمَا مَعَ تَنَاقُضِهِمْ فِي إبَاحَتِهِمْ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَسَرَّى بِإِذْنِ سَيِّدِهِ; فَلَوْلاَ أَنَّهُ عِنْدَهُمْ مَالِكٌ لِمَالِهِ لَمَا حَلَّ لَهُ وَطْءُ فَرْجٍ لاَ يَمْلِكُهُ أَصْلاً, وَلَكَانَ زَانِيًا, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ} فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْعَبْدُ مَالِكًا مِلْكَ يَمِينِهِ لَكَانَ عَادِيًا إذَا تَسَرَّى. وَهُمْ يَرَوْنَ الزَّكَاةَ عَلَى: السَّفِيهِ, وَالْمَجْنُونِ, وَلاَ يَنْفُذُ أَمْرُهُمَا فِي أَمْوَالِهِمَا; فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَالِ الْعَبْدِ.
وَمَوَّهَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ صَحَّ الإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِي مَالِ الْمُكَاتَبِ.
فَقُلْنَا: هَذَا الْبَاطِلُ, وَمَا رُوِيَ إسْقَاطُ الزَّكَاةِ، عَنْ مَالِ الْمُكَاتَبِ إلاَّ عَنْ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ مِنْ بَيْنِ صَاحِبٍ وَتَابِعٍ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، رضي الله عنهم، أَنَّ الْمُكَاتَبَ: عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ. وَصَحَّ إيجَابُ الزَّكَاةِ فِي مَالِ الْعَبْدِ، عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ; فَالزَّكَاةُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَاجِبَةٌ فِي مَالِ الْمُكَاتَبِ.
وَهَذَا مَكَانٌ تَنَاقَضَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيُّ, فَقَالاَ: لاَ زَكَاةَ فِي مَالِ الْمُكَاتَبِ.
وَاحْتَجَّا بِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ مِلْكٌ بَعْدُ.
قال أبو محمد: وَهَذَا بَاطِلٌ; لاَِنَّهُمَا مُجْمِعَانِ مَعَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ لاَِحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ الْمُكَاتَبِ فَلْسًا بِغَيْرِ إذْنِهِ, أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ وَاجِبٍ; ، وَأَنَّ مَالَهُ بِيَدِهِ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِالْمَعْرُوفِ, مِنْ نَفَقَةٍ عَلَى نَفْسِهِ, وَكِسْوَةٍ, وَبَيْعٍ وَابْتِيَاعٍ, تَصَرُّفَ ذِي الْمِلْكِ فِي مِلْكِهِ; فَلَوْلاَ أَنَّهُ مَالُهُ وَمِلْكُهُ مَا حَلَّ لَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا كُلِّهِ فِيهِ.
وَهُمْ كَثِيرًا يُعَارِضُونَ السُّنَنَ بِأَنَّهَا خِلاَفُ الآُصُولِ, كَقَوْلِهِمْ فِي حَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ وَحَدِيثِ الْعِتْقِ فِي السِّتَّةِ الأَعْبُدِ بِالْقُرْعَةِ وَحَدِيثِ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ, وَغَيْرِ ذَلِكَ, فَلَيْتَ شِعْرِي. فِي أَيِّ الآُصُول وَجَدُوا مَالاً مَحْكُومًا بِهِ لاِِنْسَانٍ مَمْنُوعًا مِنْهُ كُلُّ أَحَدٍ سِوَاهُ مُطْلَقَةً عَلَيْهِ يَدُهُ فِي بَيْعٍ وَابْتِيَاعٍ وَنَفَقَةٍ وَكِسْوَةٍ وَسُكْنَى; وَهُوَ لَيْسَ لَهُ. أَمْ فِي أَيِّ سَنَةٍ وَجَدُوا هَذَا. أَمْ فِي أَيِّ الْقُرْآنِ. أَمْ فِي غَيْرِ قِيَاسٍ.
وَمِمَّنْ رَأَى الزَّكَاةَ فِي مَالِ الْمُكَاتَبِ: أَبُو ثَوْرٍ, وَغَيْرُهُ.
وَالْعَجَبُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ; وَالشَّافِعِيَّ: مُجْمِعَانِ عَلَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ, عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ; فَمِنْ أَيْنَ أَسْقَطَا الزَّكَاةَ، عَنْ مَالِهِ دُونَ مَالِ غَيْرِهِ مِنْ الْعَبِيدِ.
وَأَيْضًا فَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَهُمْ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَالِ الْمُكَاتَبِ, وَمَالِ الْعَبْدِ.

(5/203)


وَلاَ بُدَّ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يَعْتِقَ الْمُكَاتَبُ, فَمَالُهُ لَهُ وَزَكَاتُهُ عَلَيْهِ, وَأَمَّا أَنْ يَرِقَّ, فَمَالُهُ قَبْلُ وَبَعْدُ كَانَ عِنْدَهُمَا لِسَيِّدِهِ; فَزَكَاتُهُ عَلَى السَّيِّدِ.
وَشَغَبَ بَعْضُهُمْ بِرِوَايَاتٍ رُوِيَتْ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, وَابْنِهِ, وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، رضي الله عنهم، لاَ زَكَاةَ فِي مَالِ الْعَبْدِ, وَالْمُكَاتَبُ.
قال أبو محمد: أَمَّا الْحَنَفِيُّونَ وَالشَّافِعِيُّونَ فَقَدْ خَالَفُوا هَذِهِ الرِّوَايَاتِ, فَرَأَوْا الزَّكَاةَ فِي مَالِ الْعَبْدِ وَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ مَنْ ذَكَرْنَا بَعْضُهُ حُجَّةٌ وَبَعْضُهُ خَطَأٌ; فَهَذَا هُوَ التَّحَكُّمُ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْبَاطِلِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ فَيُقَالُ لَهُمْ: قَدْ خَالَفَ مَنْ ذَكَرْنَا مَا هُوَ أَصَحُّ مِنْ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، حدثنا يَزِيدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ هُوَ التُّسْتَرِيُّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ حَدَّثَنِي جَابِرٌ الْحَذَّاءُ قَالَ: سَأَلْت ابْنَ عُمَرَ قُلْت عَلَى الْمَمْلُوكِ زَكَاةٌ. قَالَ: أَلَيْسَ مُسْلِمًا. قُلْت: بَلَى; قَالَ: فَإِنَّ عَلَيْهِ فِي كُلِّ مِائَتَيْنِ خَمْسَةً فَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ.
حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُطَرِّفُ بْنُ قَيْسٍ، حدثنا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حدثنا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ.
فَالزَّكَاةُ فِي قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى الْمُكَاتَبِ.
وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، أَنَّهُ قَالَ: لاُِقَاتِلَنِّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ, فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ.
قال أبو محمد: وَهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الصَّلاَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ. وَالنَّصُّ قَدْ جَاءَ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ عَلَى مَا أَوْجَبَهُمَا النَّصُّ.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، حدثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ:، أَنَّهُ قَالَ: فِي مَالِ الْعَبْدِ, قَالَ: يُزَكِّيهِ الْعَبْدُ.

(5/204)


وَبِهِ إلَى حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ قَيْسٍ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ:، أَنَّهُ قَالَ فِي زَكَاةِ مَالِ الْعَبْدِ, قَالَ: يُزَكِّيهِ الْمَمْلُوكُ.
حدثنا حمام، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا الدَّبَرِيُّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي ابْنُ حُجَيْرٍ: أَنَّ طَاوُوسًا كَانَ يَقُولُ: فِي مَالِ الْعَبْدِ زَكَاةٌ.
حدثنا حمام، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاجِيَّ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُونُسَ الْمُرَادِيُّ، حدثنا بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ، حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ زَمْعَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: فِي مَالِ الْعَبْدِ زَكَاةٌ.
وَبِهِ إلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا غُنْدَرٌ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ سُئِلَ، عَنِ الْعَبْدِ هَلْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ قَالَ: هَلْ عَلَيْهِ صَلاَةٌ.
وَقَدْ رُوِّينَا نَحْوَ هَذَا، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ; وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَأَصْحَابِنَا.
قال أبو محمد: وَكَمْ قِصَّةٍ خَالَفُوا فِيهَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ, وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ, كَقَوْلِهِمَا جَمِيعًا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ: مُدَّانِ مِنْ قَمْحٍ أَوْ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ. وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ.
وَأَمَّا مَالُ الصَّغِيرِ, وَالْمَجْنُونِ; فَإِنَّ مَالِكًا, وَالشَّافِعِيَّ قَالاَ بِقَوْلِنَا وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَأُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ, وَجَابِرٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ, وَعَطَاءٍ وَغَيْرِهِ.
وقال أبو حنيفة: لاَ زَكَاةَ فِي أَمْوَالِهِمَا مِنْ النَّاضِّ وَالْمَاشِيَةِ خَاصَّةً, وَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ فِي ثِمَارِهِمَا وَزُرُوعِهِمَا.
وَلاَ نَعْلَمُ أَحَدًا تَقَدَّمَهُ إلَى هَذَا التَّقْسِيمِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ, وَابْنُ شُبْرُمَةَ: لاَ زَكَاةَ فِي ذَهَبِهِ وَفِضَّتِهِ خَاصَّةً، وَأَمَّا الثِّمَارُ وَالزُّرُوعُ وَالْمَوَاشِي فَفِيهَا الزَّكَاةُ.
وَأَمَّا إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ, وَشُرَيْحٌ, فَقَالاَ: لاَ زَكَاةَ فِي مَالِهِ جُمْلَةً.
قال أبو محمد: وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَسَقَطُ كَلاَمٍ وَأَغَثُّهُ لَيْتَ شِعْرِي مَا الْفَرْقُ بَيْنَ زَكَاةِ الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ وَبَيْنَ زَكَاةِ الْمَاشِيَةِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَلَوْ أَنَّ عَاكِسًا عَكَسَ قَوْلَهُمْ, فَأَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي ذَهَبِهِمَا وَفِضَّتِهِمَا وَمَاشِيَتِهِمَا وَأَسْقَطَهَا، عَنْ زَرْعِهِمَا وَثَمَرَتِهِمَا, أَكَانَ يَكُونُ بَيْنَ

(5/205)


التَّحَكُّمَيْنِ فَرْقٌ فِي الْفَسَادِ.
قال أبو محمد: إنْ مَوَّهَ مُمَوِّهٌ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ لاَ صَلاَةَ عَلَيْهِمَا.
قِيلَ لَهُ: قَدْ تَسْقُطُ الزَّكَاةُ عَمَّنْ لاَ مَالَ لَهُ، وَلاَ تَسْقُطُ عَنْهُ الصَّلاَةُ وَإِنَّمَا تَجِبُ الصَّلاَةُ وَالزَّكَاةُ عَلَى الْعَاقِلِ الْبَالِغِ ذِي الْمَالِ الَّذِي فِيهِ الزَّكَاةُ; فَإِنْ سَقَطَ الْمَالُ: سَقَطَتْ الزَّكَاةُ, وَلَمْ تَسْقُطْ الصَّلاَةُ; وَإِنْ سَقَطَ الْعَقْلُ أَوْ الْبُلُوغُ: سَقَطَتْ الصَّلاَةُ وَلَمْ تَسْقُطْ الزَّكَاةُ; لاَِنَّهُ لاَ يَسْقُطُ فَرْضٌ أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم إلاَّ حَيْثُ أَسْقَطَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم. وَلاَ يَسْقُطُ فَرْضٌ مِنْ أَجْلِ سُقُوطِ فَرْضٍ آخَرَ بِالرَّأْيِ الْفَاسِدِ, بِلاَ نَصِّ قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ.
وَأَيْضًا: فَإِنْ أَسْقَطُوا الزَّكَاةَ، عَنْ مَالِ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ; لِسُقُوطِ الصَّلاَةِ عَنْهُمَا, وَلاَِنَّهُمَا لاَ يَحْتَاجَانِ إلَى طَهَارَةٍ فَلِيُسْقِطَاهَا بِهَذِهِ الْعِلَّةِ نَفْسِهَا مِنْ زَرْعِهِمَا وَثِمَارِهِمَا، وَلاَ فَرْقَ; وَلِيُسْقِطَا أَيْضًا عَنْهُمَا زَكَاةَ الْفِطْرِ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ.
فَإِنْ قَالُوا: النَّصُّ جَاءَ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ عَلَى الصَّغِيرِ.
قلنا: وَالنَّصُّ جَاءَ بِهَا عَلَى الْعَبْدِ, فَأَسْقَطْتُمُوهَا، عَنْ رَقِيقِ التِّجَارَةِ بِآرَائِكُمْ, وَهَذَا مِمَّا تَرَكُوا فِيهِ الْقِيَاسَ, إذْ لَمْ يَقِيسُوا زَكَاةَ الْمَاشِيَةِ وَالنَّاضِّ عَلَى زَكَاةِ الزَّرْعِ, وَالْفِطْرِ أَوْ فَلْيُوجِبُوهَا عَلَى الْمُكَاتَبِ; لِوُجُوبِ الصَّلاَةِ عَلَيْهِ, وَلاَ فَرْقَ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: زَكَاةُ الزَّرْعِ وَالثَّمَرَةِ حَقٌّ وَاجِبٌ فِي الأَرْضِ, يَجِبُ بِأَوَّلِ خُرُوجِهِمَا.
قال أبو محمد: وَقَدْ كَذَبَ هَذَا الْقَائِلُ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ وُجُوبِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الزَّكَاةِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْمَوَاشِي مِنْ حِينِ اكْتِسَابِهَا إلَى تَمَامِ الْحَوْلِ وَبَيْنَ وُجُوبِهِ فِي الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ مِنْ حِينِ ظُهُورِهَا إلَى حُلُولِ وَقْتِ الزَّكَاةِ فِيهَا, وَالزَّكَاةُ سَاقِطَةٌ بِخُرُوجِ كُلِّ ذَلِكَ، عَنْ يَدِ مَالِكِهِ قَبْلَ الْحَوْلِ, وَقَبْلَ حُلُولِ وَقْتِ الزَّكَاةِ فِي الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ. وَإِنَّمَا

(5/206)


الْحَقُّ عَلَى صَاحِبِ الأَرْضِ لاَ عَلَى الأَرْضِ, وَلاَ شَرِيعَةَ عَلَى أَرْضٍ أَصْلاً, إنَّمَا هِيَ عَلَى صَاحِبِ الأَرْضِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً}. فَظَهَرَ كَذِبُ هَذَا الْقَائِلِ وَفَسَادُ قَوْلِهِ.
وَأَيْضًا: فَلَوْ كَانَتْ الزَّكَاةُ عَلَى الأَرْضِ لاَ عَلَى صَاحِبِ الأَرْضِ لَوَجَبَ أَخْذُهَا فِي مَالِ الْكَافِرِ مِنْ زَرْعِهِ وَثِمَارِهِ, فَظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَلاَ خِلاَفَ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَى النِّسَاءِ كَهِيَ عَلَى الرِّجَالِ.
وَهُمْ مُقِرُّونَ بِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ أَرَضُونَ كَثِيرَةٌ لاَ حَقَّ فِيهَا مِنْ زَكَاةٍ، وَلاَ مِنْ خَرَاجٍ كَأَرْضِ مُسْلِمٍ جَعَلَهَا قَصَبًا وَهِيَ تُغِلُّ الْمَالَ الْكَثِيرَ, أَوْ تَرَكَهَا لَمْ يَجْعَلْ فِيهَا شَيْئًا, وَكَأَرْضِ ذِمِّيٍّ صَالَحَ عَلَى جِزْيَةٍ رَأْسِهِ فَقَطْ.
وَقَدْ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيِّ, وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ, وَأَشْهَبُ, وَالشَّافِعِيُّ: إنَّ الْخَرَاجِيَّ الْكَافِرَ إذَا ابْتَاعَ أَرْضَ عُشْرٍ مِنْ مُسْلِمٍ فَلاَ خَرَاجَ فِيهَا، وَلاَ عُشْرَ.
وَقَدْ صَحَّ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ بِالْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَالْبَحْرَيْنِ كَانَتْ لَهُمَا أَرَضُونَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ الآُمَّةِ فِي أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ عليه السلام فِيهَا عُشْرًا، وَلاَ خَرَاجًا.
فَإِنْ ذَكَرُوا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "رُفِعَ الْقَلَمُ، عَنْ ثَلاَثَةٍ" فَذَكَرَ الصَّبِيَّ حَتَّى يَبْلُغَ, وَالْمَجْنُونَ حَتَّى يُفِيقَ
قلنا: فَأَسْقَطُوا عَنْهُمَا بِهَذِهِ الْحُجَّةِ زَكَاةَ الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ, وَأُرُوشَ الْجِنَايَاتِ, الَّتِي هِيَ سَاقِطَةٌ بِهَا بِلاَ شَكٍّ, وَلَيْسَ فِي سُقُوطِ الْقَلَمِ سُقُوطُ حُقُوقِ الأَمْوَالِ, وَإِنَّمَا فِيهِ سُقُوطُ الْمَلاَمَةِ, وَسُقُوطُ فَرَائِضِ الأَبْدَانِ فَقَطْ, وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
فَإِنْ قَالُوا لاَ نِيَّةَ لِمَجْنُونٍ, وَلاَ لِمَنْ لَمْ يَبْلُغْ, وَالْفَرَائِضُ لاَ تُجْزِئُ إلاَّ بِنِيَّةٍ.
قلنا: نَعَمْ, وَإِنَّمَا أُمِرَ بِأَخْذِهَا الإِمَامُ وَالْمُسْلِمُونَ, بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} فَإِذَا أَخَذَهَا مَنْ أُمِرَ بِأَخْذِهَا بِنِيَّةِ أَنَّهَا الصَّدَقَةُ أَجْزَأَتْ، عَنِ الْغَائِبِ, وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالْمَجْنُونِ وَالصَّغِيرِ, وَمَنْ لاَ نِيَّةَ لَهُ.
وَالْعَجَبُ أَنَّ الْمَحْفُوظَ، عَنِ الصَّحَابَةِ رضي الله تعالى عنهم إيجَابُ الزَّكَاةِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: حدثنا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ

(5/207)


الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ, وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ, وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدِ الأَنْصَارِيِّ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ سَمِعُوا الْقَاسِمَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ يَقُولُ: كَانَتْ عَائِشَةُ تُزَكِّي أَمْوَالَنَا وَنَحْنُ أَيْتَامٌ فِي حِجْرِهَا; زَادَ يَحْيَى: وَإِنَّهُ لِيَتَّجِرَ بِهَا فِي الْبَحْرِ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: حدثنا وَكِيعٌ، حدثنا الْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ هُوَ الْحُدَّانِيُّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ قَالَ قَالَ لِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إنَّ عِنْدِي مَالَ يَتِيمٍ قَدْ كَادَتْ الصَّدَقَةُ أَنْ تَأْتِيَ عَلَيْهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَمُحَمَّدِ بْنِ بَكْرٍ قَالاَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ فِي الرَّجُلِ يَلِي مَالَ الْيَتِيمِ, قَالَ: يُعْطِي زَكَاتَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: بَاعَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَرْضًا لَنَا بِثَمَانِينَ أَلْفًا, وَكُنَّا يَتَامَى فِي حِجْرِهِ; فَلَمَّا قَبَضْنَا أَمْوَالَنَا نَقَصَتْ. فَقَالَ: إنِّي كُنْت أُزَكِّيهِ.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: احْصِ مَا فِي مَالِ الْيَتِيمِ مِنْ زَكَاةٍ, فَإِذَا بَلَغَ, فَإِنْ آنَسْت مِنْهُ رُشْدًا فَأَخْبِرْهُ, فَإِنْ شَاءَ زَكَّى وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ.
وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ, وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ, وطَاوُوس, وَمُجَاهِدٍ, وَالزُّهْرِيِّ, وَغَيْرِهِمْ, وَمَا نَعْلَمُ لِمَنْ ذَكَرْنَا مُخَالِفًا مِنْ الصَّحَابَةِ إلاَّ رِوَايَةً ضَعِيفَةً، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ; فِيهَا ابْنُ لَهِيعَةَ.
وَقَدْ حدثنا حمام، عَنِ ابْنِ مُفَرِّجٍ، عَنِ ابْنِ الأَعْرَابِيِّ، عَنِ الدَّبَرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ قَالَ يُوسُفُ بْنُ مَاهَكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "ابْتَغُوا فِي مَالِ الْيَتِيمِ لاَ تَأْكُلْهُ الزَّكَاةُ".
وَالْحَنَفِيُّونَ يَقُولُونَ: الْمُرْسَلُ كَالْمُسْنَدِ, وَقَدْ خَالَفُوا هَاهُنَا الْمُرْسَلَ وَجُمْهُورَ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم.

(5/208)


لا يجوز أخذ الزكاة من كافر
...
639- مَسْأَلَةٌ– ولا يجوز الزكاة من كافر.
قال أبو محمد: هي واجبة عليه وهو معذب علي منعها, إلا أنها لا تجزيء عنه إلا أن

(5/208)


يسلم وكذلك العلاة ولافرق, فاذا اسلم فقد تفضل عز وجل باسقاط ما سلف عنه من كل ذلك قال الله تعالي: {عَنْ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} قال عز وجل: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} وقال تعالي: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}.
قال ابو محمد: ولا خلاف في كل هذا, الا في وجوب الشرائع علي الكفار, فان طائفة عندت عن القان والسنن, وخالفوا في ذلك.

(5/209)


640 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَجِبُ الزَّكَاةُ إلاَّ فِي ثَمَانِيَةِ أَصْنَافٍ مِنْ الأَمْوَالِ فَقَطْ وَهِيَ:
الذَّهَبُ, وَالْفِضَّةُ, وَالْقَمْحُ, وَالشَّعِيرُ, وَالتَّمْرُ, وَالإِبِلُ, وَالْبَقَرُ, وَالْغَنَمُ ضَأْنُهَا وَمَاعِزُهَا فَقَطْ.
قال أبو محمد: لاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي هَذِهِ الأَنْوَاعِ, وَفِيهَا جَاءَتْ السُّنَّةُ, عَلَى مَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى; وَاخْتَلَفُوا فِي أَشْيَاءَ مِمَّا عَدَاهَا.

(5/209)


لا زكاة في شيء من الثمار و لا من الزرع و لا شيء من المعادن غير ما ذكرنا
...
641 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ زَكَاةَ فِي شَيْءٍ مِنْ الثِّمَارِ, وَلاَ مِنْ الزَّرْعِ, وَلاَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَعَادِنِ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا،
وَلاَ فِي الْخَيْلِ, وَلاَ فِي الرَّقِيقِ, وَلاَ فِي الْعَسَلِ, وَلاَ فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ, لاَ عَلَى مُدِيرٍ، وَلاَ غَيْرِهِ.
قال أبو محمد: اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي كَثِيرٍ مِمَّا ذَكَرْنَا; فَأَوْجَبَ بَعْضُهُمْ الزَّكَاةَ فِيهَا, وَلَمْ يُوجِبْهَا بَعْضُهُمْ وَاتَّفَقُوا فِي أَصْنَافٍ سِوَى هَذِهِ أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِيهَا.
فَمِمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِيهِ كُلُّ مَا اُكْتُسِبَ لِلْقُنْيَةِ لاَ لِلتِّجَارَةِ, مِنْ جَوْهَرٍ, وَيَاقُوتٍ, وَوِطَاءٍ, وَغِطَاءٍ, وَثِيَابٍ, وَآنِيَةِ نُحَاسٍ; أَوْ حَدِيدٍ, أَوْ رَصَاصٍ, أَوْ قَزْدِيرٍ, وَسِلاَحٍ, وَخَشَبٍ, وَدُرُوعٍ وَضِيَاعٍ, وَبِغَالٍ, وَصُوفٍ, وَحَرِيرٍ; وَغَيْرِ ذَلِكَ كُلِّهِ لاَ تَحَاشَ شَيْئًا.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: كُلُّ مَا عُمِلَ مِنْهُ خُبْزٌ أَوْ عَصِيدَةٌ: فَفِيهِ الزَّكَاةُ; وَمَا لَمْ يُؤْكَلْ إلاَّ تَفَكُّهًا فَلاَ زَكَاةَ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.

(5/209)


لا زكاة في تمر و لا بر و لا شعير حتى يبلغ ما يصيبه المرء الواحد من الصنف الواحد منها خمسة أوسق
...
642 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ زَكَاةَ فِي تَمْرٍ, وَلاَ بُرٍّ, وَلاَ شَعِيرٍ: حَتَّى يَبْلُغَ مَا يُصِيبُهُ الْمَرْءُ الْوَاحِدُ مِنْ الصِّنْفِ الْوَاحِدِ مِنْهَا خَمْسَةَ أَوْسُقٍ; وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا; وَالصَّاعُ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ بِمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَالْمُدُّ مِنْ رَطْلٍ وَنِصْفٍ إلَى رَطْلٍ وَرُبْعٍ عَلَى قَدْرِ رَزَانَةِ الْمُدِّ وَخِفَّتِهِ, وَسَوَاءٌ زَرَعَهُ فِي أَرْضٍ لَهُ أَوْ فِي أَرْضٍ لِغَيْرِهِ بِغَصْبِ أَوْ بِمُعَامَلَةٍ جَائِزَةٍ, أَوْ غَيْرِ جَائِزَةٍ, إذَا كَانَ النَّذْرُ غَيْرَ مَغْصُوبٍ, سَوَاءٌ أَرْضَ خَرَاجٍ كَانَتْ أَوْ أَرْضَ عُشْرٍ.
وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ النَّاسِ, وَبِهِ يَقُولُ: مَالِكٌ, وَالشَّافِعِيُّ, وَأَحْمَدُ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ.
وقال أبو حنيفة: يُزَكَّى مَا قَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَمَا كَثُرَ, فَإِنْ كَانَ فِي أَرْضِ خَرَاجٍ فَلاَ زَكَاةَ

(5/240)


فِيمَا أُصِيبَ فِيهَا, فَإِنْ كَانَتْ الأَرْضُ مُسْتَأْجَرَةً فَالزَّكَاةُ عَلَى رَبِّ الأَرْضِ لاَ عَلَى الزَّارِعِ, فَإِنْ كَانَ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ, فَإِنْ قُضِيَ لِصَاحِبِ الأَرْضِ بِمَا نَقَصَهَا الزَّرْعَ فَالزَّكَاةُ عَلَى صَاحِبِ الأَرْضِ, وَإِنْ لَمْ يُقْضَ لَهُ بِشَيْءٍ فَالزَّكَاةُ عَلَى الزَّارِعِ قَالَ: وَالْمُدُّ رَطْلاَنِ.
فَهَذِهِ خَمْسَةُ مَوَاضِعَ خَالَفَ فِيهَا الْحَقَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ حَبٍّ أَوْ ثَمَرٍ صَدَقَةٌ".
وَتَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ".
وَأَخْطَأَ فِي هَذَا, لاَِنَّهُ اسْتَعْمَلَ هَذَا الْخَبَرَ وَعَصَى الآخَرَ وَهَذَا لاَ يَحِلُّ.
وَنَحْنُ أَطَعْنَا مَا فِي الْخَبَرَيْنِ جَمِيعًا, وَهُوَ قَدْ خَالَفَ هَذَا الْخَبَرَ أَيْضًا, إذْ خَصَّ مِمَّا سَقَتْ السَّمَاءُ كَثِيرًا بِرَأْيِهِ, كَالْقَصَبِ, وَالْحَطَبِ, وَالْحَشِيشِ, وَوَرَقِ الشَّجَرِ وَمَا أُصِيبَ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ, وَلَمْ يَرَ أَنْ يَخُصَّهُ بِكَلاَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ كَلِفَ مِنْ ذَلِكَ مَا لاَ يُطَاقُ كَمَا قَدَّمْنَا وَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ بِرَأْيِهِ مَا أُصِيبَ فِي عَرَصَاتِ الدُّورِ, وَهَذِهِ تَخَالِيطُ لاَ نَظِيرَ لَهَا.
وَأَمَّا أَبُو سُلَيْمَانَ فَقَالَ: مَا كَانَ يَحْتَمِلُ التَّوْسِيقَ فَلاَ زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ, وَمَا كَانَ لاَ يَحْتَمِلُ التَّوْسِيقَ فَالزَّكَاةُ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ, وَقَدْ ذَكَرْنَا فَسَادَ هَذَا الْقَوْلِ قَبْلُ.
وَالْعَجَبُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَزْعُمُ أَنَّهُ صَاحِبُ قِيَاسٍ, وَهُوَ لَمْ يَرَ فِيمَا يُزَكَّى شَيْئًا قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ فَهَلاَّ قَاسَ الزَّرْعَ عَلَى الْمَاشِيَةِ وَالْعَيْنِ. فَلاَ النَّصَّ اتَّبَعَ, وَلاَ الْقِيَاسَ طَرَدَ.
وَأَمَّا الْمُدُّ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ احْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَبْرٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يُجْزِئُ فِي الْوُضُوءِ رَطْلاَنِ", مَعَ الأَثَرِ الصَّحِيحِ فِي أَنَّهُ عليه السلام كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ.
وَهَذَا لاَ حُجَّةَ فِيهِ, لإِنَّ شَرِيكًا مُطَّرِحٌ, مَشْهُورٌ بِتَدْلِيسِ الْمُنْكَرَاتِ إلَى الثِّقَاتِ, وَقَدْ أَسْقَطَ حَدِيثَهُ الإِمَامَانِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ; وَتَاللَّهِ لاَ أَفْلَحَ مَنْ شَهِدَا عَلَيْهِ بِالْجُرْحَةِ.
ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ; لاَِنَّهُ لاَ يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُدَّ رَطْلاَنِ, وَقَدْ صَحَّ

(5/241)


أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ بِثُلُثَيْ الْمُدِّ, وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يَكُنْ يُعَيِّرُ لَهُ الْمَاءَ لِلْوُضُوءِ بِكَيْلٍ كَكَيْلِ الزَّيْتِ لاَ يَزِيدُ، وَلاَ يَنْقُصُ.
أَيْضًا فَلَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ فِي قَوْلِهِ عليه السلام: "يُجْزِئُ فِي الْوُضُوءِ رَطْلاَنِ", مَانِعٌ مِنْ أَنْ يُجْزِئَ أَقَلُّ, وَهُمْ أَوَّلُ مُوَافِقٍ لَنَا فِي هَذَا, فَمَنْ تَوَضَّأَ عِنْدَهُمْ بِنِصْفِ رِطْلٍ أَجْزَأَهُ, فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الأَثَرِ.
وَاحْتَجُّوا بِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى الْجُهَنِيِّ: كُنْت عِنْدَ مُجَاهِدٍ فَأَتَى بِإِنَاءٍ يَسَعُ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ تِسْعَةَ أَرْطَالٍ, عَشَرَةَ أَرْطَالٍ, فَقَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَغْتَسِلُ بِمِثْلِ هَذَا", مَعَ الأَثَرِ الثَّابِتِ أَنَّهُ عليه السلام كَانَ يَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا لاَ حُجَّةَ فِيهِ, لإِنَّ مُوسَى قَدْ شَكَّ فِي ذَلِكَ الإِنَاءِ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَرْطَالٍ إلَى عَشَرَةٍ, وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ: إنَّ الصَّاعَ يَزِيدُ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَرْطَالٍ، وَلاَ فَلْسًا.
وَأَيْضًا فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ عليه السلام اغْتَسَلَ هُوَ وَعَائِشَة، رضي الله عنها، جَمِيعًا مِنْ إنَاءٍ يَسَعُ ثَلاَثَةَ أَمْدَادٍ; وَأَيْضًا مِنْ إنَاءٍ هُوَ الْفَرْقُ, وَالْفَرْقُ: اثْنَا عَشَرَ مُدًّا, وَأَيْضًا بِخَمْسَةِ أَمْدَادٍ, وَأَيْضًا بِخَمْسَةِ مَكَاكِيَّ. وَكُلُّ هَذِهِ الآثَارِ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ, وَالإِسْنَادِ الْوَثِيقِ الثَّابِتِ الْمُتَّصِلِ, وَالْخَمْسَةُ مَكَاكِيَّ: خَمْسُونَ مُدًّا. وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يُعَيِّرْ لَهُ الْمَاءَ لِلْغُسْلِ بِكَيْلٍ كَكَيْلِ الزَّيْتِ, وَلاَ تَوَضَّأَ وَاغْتَسَلَ بِإِنَاءَيْنِ مَخْصُوصَيْنِ بَلْ قَدْ تَوَضَّأَ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَر بِلاَ مُرَاعَاةٍ لِمِقْدَارِ الْمَاءِ. هُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لِهَذَا التَّحْدِيدِ فَلاَ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ امْرَأً لَوْ اغْتَسَلَ نِصْفَ صَاعٍ لاََجْزَأهُ فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذِهِ الآثَارِ الْوَاهِيَةِ.
وَاحْتَجُّوا بِرِوَايَتَيْنِ وَاهِيَتَيْنِ.
إحْدَاهُمَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ: أَنَّ الْقَفِيزَ الْحَجَّاجِيَّ قَفِيزُ عُمَرَ أَوْ صَاعُ عُمَرَ.

(5/242)


وَالآُخْرَى مِنْ طَرِيقِ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: الْقَفِيزُ الْحَجَّاجِيُّ صَاعُ عُمَرَ.
وَبِرِوَايَةٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ: عَيَّرْنَا صَاعَ عُمَرَ فَوَجَدْنَاهُ حَجَّاجِيًّا. وَبِرِوَايَةٍ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ: "كَانَ صَاعُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ, وَمُدُّهُ رَطْلَيْنِ".
قال أبو محمد: هَذَا كُلُّهُ سَوَاءٌ, وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ.
أَمَّا حَدِيثُ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ فَبَيْنَ أَبِي إِسْحَاقَ وَبَيْنَهُ مَنْ لاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ; وَمُجَالِدٌ ضَعِيفٌ, أَوَّلُ مَنْ ضَعَّفَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَإِبْرَاهِيمُ لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ.
ثُمَّ لَوْ صَحَّ كُلُّ ذَلِكَ لَمَا انْتَفَعُوا بِهِ; لاَِنَّنَا لَمْ نُنَازِعْهُمْ فِي صَاعِ عُمَرَ رضي الله عنه، وَلاَ فِي قَفِيزِهِ, إنَّمَا نَازَعْنَاهُمْ فِي صَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَسْنَا نَدْفَعُ أَنْ يَكُونَ لِعُمَرَ: صَاعٌ, وَقَفِيزٌ, وَمُدٌّ. رَتَّبَهُ لاَِهْلِ الْعِرَاقِ لِنَفَقَاتِهِمْ وَأَرْزَاقِهِمْ; كَمَا بِمِصْرَ الْوَيْبَةُ وَالإِرْدَبُّ; وَبِالشَّامِ الْمُدُّ وَكَمَا كَانَ لِمَرْوَانَ بِالْمَدِينَةِ مُدٌّ اخْتَرَعَهُ, وَلِهِشَامِ بْنِ إسْمَاعِيلَ مُدٌّ اخْتَرَعَهُ, وَلاَ حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَأَمَّا قَوْلُ إبْرَاهِيمَ فِي صَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمُدِّهِ: فَقَوْلُ إبْرَاهِيمَ, وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ فِي الرَّغْبَةِ عَنْهُمَا إذَا خَالَفَا الصَّوَابَ.
وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ: حدثنا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا الْقَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ الْمُزَنِيّ، حدثنا الْجُعَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: "كَانَ الصَّاعُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُدًّا وَثُلُثًا بِمُدِّكُمْ الْيَوْمَ, فَزِيدَ فِيهِ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ".
وَرُوِّينَا، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي مَكِيلَةِ زَكَاةِ الْفِطْرِ بِالْمُدِّ الأَصْغَرِ مُدُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَنْهُ أَيْضًا فِي زَكَاةِ الْحُبُوبِ وَالزَّيْتُونِ بِالصَّاعِ الأَوَّلِ صَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

(5/243)


وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُعْطِي زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ بِمُدِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُدِّ الأَوَّلِ.
فَصَحَّ أَنَّ بِالْمَدِينَةِ صَاعًا, وَمُدًّا غَيْرَ مُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَلَوْ كَانَ صَاعُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ هُوَ صَاعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَا نُسِبَ إلَى عُمَرَ أَصْلاً دُونَ أَنْ يُنْسَبَ إلَى أَبِي بَكْرٍ, وَلاَ إلَى أَبِي بَكْرٍ أَيْضًا دُونَ أَنْ يُضَافَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَحَّ بِلاَ شَكٍّ أَنَّ مُدَّ هِشَامٍ إنَّمَا رَتَّبَهُ هِشَامٌ, وَأَنَّ صَاعَ عُمَرَ إنَّمَا رَتَّبَهُ عُمَرُ. هَذَا إنْ صَحَّ أَنَّهُ كَانَ هُنَالِكَ صَاعٌ يُقَالُ لَهُ "صَاعُ عُمَرَ" فَإِنَّ صَاعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمُدَّهُ مَنْسُوبَانِ إلَيْهِ لاَ إلَى غَيْرِهِ, بَاقِيَانِ بِحَسَبِهِمَا.
وَأَمَّا حَقِيقَةُ الصَّاعِ الْحَجَّاجِيِّ الَّذِي عَوَّلُوا عَلَيْهِ فَإِنَّنَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ يَقُولُ: صَاعِي هَذَا صَاعُ عُمَرَ أَعْطَتْنِيهِ عَجُوزٌ بِالْمَدِينَةِ.
فَإِنْ احْتَجُّوا بِرِوَايَةِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ فَرِوَايَتُهُ هَذِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ, وَهَذَا أَصْلُ صَاعِ الْحَجَّاجِ, فَلاَ كَثُرَ، وَلاَ طِيبَ، وَلاَ بُورِكَ فِي الْحَجَّاجِ، وَلاَ فِي صَاعِهِ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا جَرِيرٌ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحُمَيْدِ، عَنْ يَزِيدَ، هُوَ ابْنُ زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: الصَّاعُ يَزِيدُ عَلَى الْحَجَّاجِيِّ مِكْيَالاً.
فَبَطَلَ مَا مَوَّهُوا بِهِ مِنْ الْبَاطِلِ وَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى مَا صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
كَمَا حَدَّثَنَا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ, قَالَ إِسْحَاقُ، عَنِ الْمُلاَئِيِّ وَقَالَ ابْنُ عُلَيَّةَ: حدثنا أَبُو نُعَيْمٍ هُوَ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ كِلاَهُمَا، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ الْجُمَحِيِّ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمِكْيَالُ

(5/244)


عَلَى مِكْيَالِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ, وَالْوَزْنُ عَلَى وَزْنِ أَهْلِ مَكَّةَ".
فَلَمْ يَسَعْ أَحَدًا الْخُرُوجُ، عَنْ مِكْيَالِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمِقْدَارِهِ عِنْدَهُمْ, وَلاَ عَنْ مَوَازِينِ أَهْلِ مَكَّةَ, وَوَجَدْنَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ لاَ يَخْتَلِفُ مِنْهُمْ اثْنَانِ فِي أَنَّ مُدَّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي بِهِ تُؤَدَّى الصَّدَقَاتُ لَيْسَ أَكْثَرَ مِنْ رَطْلٍ وَنِصْفٍ, وَلاَ أَقَلَّ مِنْ رَطْلٍ وَرُبْعٍ". وقال بعضهم: رَطْلٌ وَثُلُثٌ, وَلَيْسَ هَذَا اخْتِلاَفًا; لَكِنَّهُ عَلَى حَسَبِ رَزَانَةِ الْمَكِيلِ مِنْ الْبُرِّ, وَالتَّمْرِ, وَالشَّعِيرِ.
حدثنا حمام، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا الدَّبَرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: "أَنَّ مُدَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي كَانَ يَأْخُذُ بِهِ الصَّدَقَاتِ: رَطْلٌ وَنِصْفٌ".
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ السُّلَيْمِ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا أَبُو دَاوُد، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: صَاعُ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ. قَالَ أَبُو دَاوُد: وَهُوَ صَاعُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
حدثنا حمام، حدثنا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: ذَكَرَ أَبِي أَنَّهُ عَيَّرَ مُدَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْحِنْطَةِ فَوَجَدَهَا رَطْلاً وَثُلُثًا فِي الْبُرِّ, قَالَ: وَلاَ يَبْلُغُ مِنْ التَّمْرِ هَذَا الْمِقْدَارُ.
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَسْعُودٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ دُحَيْمٍ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ حَمَّادٍ، حدثنا إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: دَفَعَ إلَيْنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ الْمُدَّ, وَقَالَ هَذَا مُدُّ مَالِكٍ, وَهُوَ عَلَى مِثَالِ مُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَهَبْت بِهِ إلَى السُّوقِ, وَخُرِطَ لِي عَلَيْهِ مُدٌّ وَحَمَلْته مَعِي إلَى الْبَصْرَةِ, فَوَجَدْته نِصْفَ كَيْلَجَةٍ بِكَيْلَجَةِ الْبَصْرَةِ, يَزِيدُ عَلَى كَيْلَجَةِ الْبَصْرَةِ شَيْئًا يَسِيرًا خَفِيفًا, إنَّمَا هُوَ شَبِيهٌ بِالرُّجْحَانِ الَّذِي لاَ يَقَعُ عَلَيْهِ جُزْءٌ مِنْ الأَجْزَاءِ, وَنِصْفُ كَيْلَجَةِ الْبَصْرَةِ هُوَ رُبْعُ كَيْلَجَةِ بَغْدَادَ فَالْمُدّ: رُبْعُ الصَّاعِ, وَالصَّاعُ مِقْدَارُ كَيْلَجَةٍ بَغْدَادِيَّةٍ يَزِيدُ الصَّاعُ عَلَيْهَا شَيْئًا يَسِيرًا.
قال أبو محمد: وَخُرِطَ لِي مُدٌّ عَلَى تَحْقِيقِ الْمُدِّ الْمُتَوَارَثِ عِنْدَ آلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاجِيَّ

(5/245)


وَهُوَ عِنْدَ أَكْبَرِهِمْ لاَ يُفَارِقُ دَارِهِ, أُخْرِجُهُ إلَى ثِقَتِي الَّذِي كَلَّفْته ذَلِكَ: عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ الْمَذْكُورِ وَذَكَرَ أَنَّهُ مُدُّ أَبِيهِ وَجَدِّهِ وَأَبِي جَدِّهِ أَخَذَهُ وَخَرَطَهُ عَلَى مُدِّ أَحْمَدَ بْنِ خَالِدٍ, وَأَخْبَرَهُ أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ أَنَّهُ خَرَطَهُ عَلَى مُدِّ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى, الَّذِي أَعْطَاهُ إيَّاهُ ابْنُهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى, وَخَرَطَهُ يَحْيَى عَلَى مُدِّ مَالِكٍ, وَلاَ أَشُكُّ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ خَالِدٍ صَحَّحَهُ أَيْضًا عَلَى مُدِّ مُحَمَّدِ بْنِ وَضَّاحٍ الَّذِي صَحَّحَهُ ابْنُ وَضَّاحٍ بِالْمَدِينَةِ.
قال أبو محمد: ثُمَّ كِلْته بِالْقَمْحِ الطَّيِّبِ, ثُمَّ وَزَنْته فَوَجَدَتْهُ رَطْلاً وَاحِدًا وَنِصْفَ رَطْلٍ بِالْفُلْفُلِيِّ, لاَ يَزِيدُ حَبَّةً, وَكِلْته بِالشَّعِيرِ, إلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِالطَّيِّبِ; فَوَجَدْتُهُ رَطْلاً وَاحِدًا وَنِصْفَ أُوقِيَّةً.
قال أبو محمد: وَهَذَا أَمْرٌ مَشْهُورٌ بِالْمَدِينَةِ مَنْقُولٌ نَقْلَ الْكَافَّةِ صَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ, وَصَالِحِهِمْ وَطَالِحِهِمْ, وَعَالِمِهِمْ وَجَاهِلِهِمْ, وَحَرَائِرِهِمْ وَإِمَائِهِمْ, كَمَا نَقَلَ أَهْلُ مَكَّةَ مَوْضِعَ الصَّفَا, وَالْمَرْوَةِ, وَالاِعْتِرَاضُ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي صَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ كَالْمُعْتَرِضِ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ فِي مَوْضِعِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلاَ فَرْقَ, وَكَمَنْ يَعْتَرِضُ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي الْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ وَالْبَقِيعِ, وَهَذَا خُرُوجٌ، عَنِ الدِّيَانَةِ وَالْمَعْقُولِ.
قال أبو محمد: وَبَحَثْت أَنَا غَايَةَ الْبَحْثِ عِنْدَ كُلِّ مَنْ وَثِقْت بِتَمْيِيزِهِ, فَكُلٌّ اتَّفَقَ لِي عَلَى أَنَّ دِينَارَ الذَّهَبِ بِمَكَّةَ وَزْنُهُ: اثْنَانِ وَثَمَانُونَ حَبَّةً وَثَلاَثَةُ أَعْشَارِ حَبَّةٍ بِالْحَبِّ مِنْ الشَّعِيرِ الْمُطْلَقِ, وَالدِّرْهَمَ سَبْعَةُ أَعْشَارِ الْمِثْقَالِ; فَوَزْنُ الدِّرْهَمِ الْمَكِّيِّ سَبْعٌ وَخَمْسُونَ حَبَّةً وَسِتَّةُ أَعْشَارِ حَبَّةٍ وَعُشْرُ حَبَّةٍ, فَالرَّطْلُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَاحِدَةٍ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا بِالدِّرْهَمِ الْمَذْكُورِ.
وَقَدْ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ إلَى الْحَقِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذْ دَخَلَ الْمَدِينَةَ وَوَقَفَ عَلَى أَمْدَادِ أَهْلِهَا.
وَقَدْ مَوَّهَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ إنَّمَا سُمِّيَ الْوَسْقُ; لاَِنَّهُ مِنْ وَسْقِ الْبَعِيرِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا طَرِيفٌ فِي الْهُوجِ جِدًّا وَلَيْتَ شِعْرِي مَنْ لَهُ بِذَلِكَ وَهَلاَّ قَالَ: لاَِنَّهُ وَسْقُ الْحِمَارِ.
ثُمَّ أَيْضًا فَإِنَّ الْوِسْقَ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ هُوَ عِنْدَهُمْ: سِتَّةَ عَشَرَ رُبْعًا بِالْقُرْطُبِيِّ, وَحِمْلُ الْبَعِيرِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا الْمِقْدَارِ بِنَحْوِ نِصْفِهِ.
وَأَمَّا إسْقَاطُهُمْ الزَّكَاةَ عَمَّا أُصِيبَ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ مِنْ بُرٍّ, وَتَمْرٍ, وَشَعِيرٍ; فَفَاحِشٌ جِدًّا, وَعَظِيمٌ مِنْ الْقَوْلِ. وَإِسْقَاطٌ لِلزَّكَاةِ الْمُفْتَرَضَةِ.

(5/246)


وَمَوَّهُوا فِي هَذَا بِطَوَامَّ, مِنْهَا: أَنْ قَالَ قَائِلُهُمْ: إنَّ عُمَرَ لَمْ يَأْخُذْ الزَّكَاةَ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا تَمْوِيهٌ بَارِدٌ; لإِنَّ عُمَرَ رضي الله عنه إنَّمَا ضَرَبَ الْخَرَاجَ عَلَى أَهْلِ الْكُفْرِ, وَلاَ زَكَاةَ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ. فَإِنْ ادَّعَى: أَنَّ عُمَرَ لَمْ يَأْخُذْ الزَّكَاةَ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ أَصْحَابِ أَرْضِ الْخَرَاجِ فَقَدْ كَذَبَ جِدًّا, وَلاَ يَجِدُ هَذَا أَبَدًا; وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ عُمَرَ أَسْقَطَ الزَّكَاةَ عَنْهُمْ كَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ أَسْقَطَ الصَّلاَةَ عَنْهُمْ، وَلاَ فَرْقَ.
وَمَوَّهَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ ذِكْرَ مَا قَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْلِهِ: "مَنَعَتْ الْعِرَاقُ قَفِيزَهَا وَدِرْهَمَهَا, وَمَنَعَتْ الشَّامُ مُدَّيْهَا وَدِينَارَهَا, وَمَنَعَتْ مِصْرُ إرْدَبَّهَا وَدِينَارَهَا, وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ", شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ لَحْمُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَدَمُهُ, قَالُوا: فَأَخْبَرَ عليه السلام بِمَا يَجِبُ فِي هَذِهِ الأَرَضِينَ, وَلَمْ يُخْبِرْ أَنَّ فِيهَا زَكَاةً; وَلَوْ كَانَ فِيهَا زَكَاةٌ لاََخْبَرَ بِهَا.
قال أبو محمد: مِثْلُ هَذَا لَيْسَ لاِِيرَادِهِ وَجْهٌ; إلاَّ لِيَحْمَدَ اللَّهَ تَعَالَى مَنْ سَمِعَهُ عَلَى خَلاَصِهِ مِنْ عَظِيمِ مَا اُبْتُلُوا بِهِ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ بِالْبَاطِلِ, وَمُعَارَضَةِ الْحَقِّ بِأَغَثِّ مَا يَكُونُ مِنْ الْكَلاَمِ. وَلَيْتَ شِعْرِي فِي أَيِّ مَعْقُولٍ وَجَدُوا أَنَّ كُلَّ شَرِيعَةٍ لَمْ تُذْكَرْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَهِيَ سَاقِطَةٌ. وَهَلْ يَقُولُ هَذَا مَنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ التَّمْيِيزِ. وَهَلْ بَيْنَ مَنْ أَسْقَطَ الزَّكَاةَ لاَِنَّهَا لَمْ تُذْكَرْ فِي هَذَا الْخَبَرِ فَرْقٌ, وَبَيْنَ مَنْ أَسْقَطَ الصَّلاَةَ وَالْحَجَّ لاَِنَّهُمَا لَمْ يُذْكَرَا فِي هَذَا الْخَبَرِ.
وَحَتَّى لَوْ صَحَّ لَهُمْ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَصَدَ بِهَذَا الْخَبَرِ ذِكْرَ مَا يَجِبُ فِي هَذِهِ الأَرَضِينَ وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يَصِحَّ هَذَا فَهُوَ الْكَذِبُ الْبَحْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَا كَانَ فِي ذَلِكَ إسْقَاطُ سَائِرِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، عَنْ أَهْلِهَا. وَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا حَدِيثٌ انْتَظَمَ ذِكْرَ جَمِيعِ الشَّرَائِعِ أَوَّلِهَا، عَنْ آخِرِهَا, نَعَمْ, وَلاَ سُورَةٌ أَيْضًا.
وَإِنَّمَا قَصَدَ عليه السلام فِي هَذَا الْحَدِيثِ الإِنْذَارَ بِخَلاَءِ أَيْدِي الْمُفْتَتِحِينَ لِهَذِهِ الْبِلاَدِ مِنْ أَخْذِ طَعَامِهَا وَدَرَاهِمِهَا وَدَنَانِيرِهَا فَقَطْ; وَقَدْ ظَهَرَ مَا أَنْذَرَ بِهِ عليه السلام.
وَمِنْ الْبَاطِلِ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يُرِيدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا زَعَمُوا; لاَِنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ, وَكَانَ أَرْبَابُ أَرَاضِي الشَّامِ, وَمِصْرَ, وَالْعِرَاقِ مُسْلِمِينَ; فَمَنْ هُمْ الْمُخَاطَبُونَ بِأَنَّهُمْ يَعُودُونَ كَمَا

(5/247)


بَدَءُوا وَمِنْ الْمَانِعِ مَا ذَكَرَ مَنْعَهُ. هَذَا تَخْصِيصٌ مِنْهُمْ بِالْبَاطِلِ وَبِمَا لَيْسَ فِي الْخَبَرِ مِنْهُ نَصٌّ، وَلاَ دَلِيلٌ, وَلَوْ قِيلَ لَهُمْ: بَلْ فِي قَوْلِهِ عليه السلام: "فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ" دَلِيلٌ عَلَى سُقُوطِ الْخَرَاجِ وَبُطْلاَنِهِ, إذْ لَوْ كَانَ فِيهَا خَرَاجٌ لَذَكَرَهُ عليه السلام.
وَالْعَجَبُ أَيْضًا إسْقَاطُهُمْ الْجِزْيَةَ بِهَذَا الْخَبَرِ، عَنْ أَهْلِ الْخَرَاجِ فَأَسْقَطُوا فَرْضَيْنِ مِنْ فَرَائِضِ الإِسْلاَمِ بِرَأْيِ صَاحِبٍ, وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا. وَخَالَفُوا ذَلِكَ الصَّاحِبَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ نَفْسِهَا; لاَِنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْهُ إيجَابُ الْجِزْيَةِ مَعَ الْخَرَاجِ; فَمَرَّةً يَكُونُ فِعْلُهُ حُجَّةً يُخَالِفُ بِهَا الْقُرْآنَ, وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ كَاذِبُونَ عَلَيْهِ, فَمَا رُوِيَ عَنْهُ قَطُّ إسْقَاطُ الزَّكَاةِ عَمَّا أُصِيبَ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ; وَمَرَّةً لاَ يَرَوْنَهُ حُجَّةً أَصْلاً وَمَعَهُ الْحَقُّ.
فَإِنْ قَالُوا: إنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا عَلَى أَخْذِ الْخَرَاجِ.
قِيلَ لَهُمْ: وَالصَّحَابَةُ أَجْمَعُوا عَلَى أَخْذِ الزَّكَاةِ قَبْلَ إجْمَاعِهِمْ عَلَى الْخَرَاجِ وَمَعَهُ وَبَعْدَهُ بِلاَ شَكٍّ، وَلاَ عَجَبَ أَعْجَبُ مِنْ إيجَابِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْخَرَاجَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ إذَا مَلَكَهَا, وَإِسْقَاطُ الزَّكَاةِ عَنْهُ, وَإِيجَابُهُ الزَّكَاةَ عَلَى الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ إذَا مَلَكَا أَرْضَ الْعُشْرِ, وَإِسْقَاطُ الْخَرَاجِ عَنْهُمَا وَفَاعِلُ هَذَا مُتَّهَمٌ عَلَى الإِسْلاَمِ وَأَهْلِهِ.
وَقَالُوا: لاَ يَجْتَمِعُ حَقَّانِ فِي مَالٍ وَاحِدٍ.
قال أبو محمد: كَذَبُوا وَأَفِكُوا بَلْ تَجْتَمِعُ حُقُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى فِي مَالٍ وَاحِدٍ; وَلَوْ أَنَّهَا أَلْفُ حَقٍّ, وَمَا نَدْرِي مِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَهُمْ أَنَّهُ لاَ يَجْتَمِعُ حَقَّانِ فِي مَالٍ وَاحِدٍ; وَهُمْ يُوجِبُونَ الْخُمْسَ فِي مَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالزَّكَاةِ أَيْضًا; إمَّا عِنْدَ الْحَوْلِ,وَأَمَّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إنْ كَانَ بَلَغَ حَوْلَ مَا عِنْدَهُ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ; وَيُوجِبُونَ أَيْضًا الْخَرَاجَ فِي أَرْضِ الْمَعْدِنِ إنْ كَانَتْ أَرْضَ خَرَاجٍ.
وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا تَغْلِيبُهُمْ الْخَرَاجَ عَلَى الزَّكَاةِ فَأَسْقَطُوهَا بِهِ, ثُمَّ غَلَّبُوا زَكَاةَ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالْمَاشِيَةِ عَلَى زَكَاةِ التِّجَارَةِ, فَأَسْقَطُوهَا بِهَا; ثُمَّ غَلَّبُوا زَكَاةَ التِّجَارَةِ فِي الرَّقِيقِ عَلَى زَكَاةِ الْفِطْرِ, فَأَسْقَطُوهَا بِهَا; فَمَرَّةً رَأَوْا زَكَاةَ التِّجَارَةِ أَوْكَدَ مِنْ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ,

(5/248)


وَمَرَّةً رَأَوْا الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ أَوْلَى مِنْ زَكَاةِ التِّجَارَةِ.
وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: يَرَى أَنْ يُزَكَّى مَا زُرِعَ لِلتِّجَارَةِ زَكَاةَ التِّجَارَةِ لاَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةِ. وَذَكَرْنَا هَذَا لِئَلاَّ يَدَّعُوا فِي ذَلِكَ إجْمَاعًا, فَهَذَا أَخَفُّ شَيْءٍ عَلَيْهِمْ.
وَإِنَّ تَنَاقُضَ الْمَالِكِيِّينَ وَالشَّافِعِيِّينَ لَظَاهِرٍ فِي إسْقَاطِهِمْ الزَّكَاةَ، عَنْ عُرُوضِ التِّجَارَةِ لِلزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَإِبْقَائِهِمْ إيَّاهَا مَعَ زَكَاةِ الْفِطْرِ فِي الرَّقِيقِ.
وَكَذَلِكَ أَيْضًا تَنَاقَضَ الْحَنِيفِيُّونَ إذْ أَثْبَتُوا الإِجَارَةَ وَالزَّكَاةَ فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ.
وَمِمَّنْ صَحَّ عَنْهُ إيجَابُ الزَّكَاةِ فِي الْخَارِجِ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ: عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ, وَابْنُ أَبِي لَيْلَى, وَابْنُ شُبْرُمَةَ, وَشُرَيْكٌ, وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ.
وَقَالَ سُفْيَانُ, وَأَحْمَدُ: إنْ فَضَلَ بَعْدَ الْخَرَاجِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَصَاعِدًا فَفِيهِ الزَّكَاةُ.
وَلاَ يُحْفَظُ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ.
وَالْعَجَبُ كُلُّهُ مِنْ تَمْوِيهِهِمْ بِالثَّابِتِ، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه مِنْ قَوْلِهِ إذْ أَسْلَمَتْ دِهْقَانَةُ نَهَرَ الْمَلِكِ إنْ اخْتَارَتْ أَرْضَهَا أَوْ أَدَّتْ مَا عَلَى أَرْضِهَا فَخَلُّوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَرْضِهَا, وَإِلاَّ فَخَلُّوا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَرْضِهِمْ وَعَنْ عَلِيٍّ نَحْوُ هَذَا. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ إنْكَارُ الدُّخُولِ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ لِلْمُسْلِمِ. وَلَيْتَ شِعْرِي هَلْ عَقَلَ ذُو عَقْلٍ قَطُّ أَنَّ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا إسْقَاطَ الزَّكَاةِ عَمَّا أَخْرَجَتْ الأَرْضُ. وَهَذَا مَكَانٌ لاَ يُقَابَلُ إلاَّ بِالتَّعَجُّبِ, وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
وَيَكْفِي مِنْ هَذَا قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ" فَعَمَّ وَلَمْ يَخُصَّ. وَأَيْضًا فَإِنَّ مِنْ الْبُرْهَانِ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ عَلَى الرَّافِعِ لاَ عَلَى الأَرْضِ إجْمَاعُ الآُمَّةِ عَلَى أَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنْ يُعْطِيَ الْعُشْرَ مِنْ غَيْرِ الَّذِي أَصَابَ فِي تِلْكَ الأَرْضِ لَكَانَ ذَلِكَ لَهُ; وَلَمْ

(5/249)


يَجُزْ إجْبَارُهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَ مِنْ عَيْنِ مَا أَخْرَجَتْ الأَرْضُ. فَصَحَّ أَنَّ الزَّكَاةَ فِي ذِمَّةِ الْمُسْلِمِ الرَّافِعِ; لاَ فِي الأَرْضِ.

(5/250)


و كذلك ما أصيب في الأرض المغصوبة إذا كان البذر للغاصب و دليل ذلك
...
643 - مَسْأَلَةٌ: وَكَذَلِكَ مَا أُصِيبَ فِي الأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ إذَا كَانَ الْبَذْرُ لِلْغَاصِبِ;
لإِنَّ غَصْبَهُ الأَرْضِ لاَ يُبْطِلُ مِلْكَهُ، عَنْ بَذْرِهِ; فَالْبَذْرُ إذَا كَانَ لَهُ فَمَا تَوَلَّدَ عَنْهُ فَلَهُ; وَإِنَّمَا عَلَيْهِ حَقُّ الأَرْضِ فَقَطْ; فَفِي حِصَّتِهِ مِنْهُ الزَّكَاةُ, وَهِيَ لَهُ حَلاَلٌ وَمِلْكٌ صَحِيحٌ.
وَكَذَلِكَ الأَرْضُ الْمُسْتَأْجَرَةُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ, أَوْ الْمَأْخُوذَةُ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا, أَوْ الْمَمْنُوحَةُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه السلام: "فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ".
وَأَمَّا إنْ كَانَ الْبَذْرُ مَغْصُوبًا فَلاَ حَقَّ لَهُ، وَلاَ حُكْمَ فِي شَيْءٍ مِمَّا أَنْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ; سَوَاءٌ كَانَ فِي أَرْضِهِ نَفْسِهِ أَمْ فِي غَيْرِهَا, وَهُوَ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ; لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}، وَلاَ يَخْتَلِفُ اثْنَانِ فِي أَنَّ غَاصِبَ الْبَذْرِ إنَّمَا أَخَذَهُ بِالْبَاطِلِ, وَكَذَلِكَ كُلُّ بَذْرٍ أُخِذَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَمُحَرَّمٌ عَلَيْهِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ أَكْلُهُ, وَكُلُّ مَا تَوَلَّدَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ لِصَاحِبِ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُ بِلاَ خِلاَفٍ, وَلَيْسَ وُجُوبُ الضَّمَانِ بِمُبِيحٍ لَهُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ.
فَإِنْ مَوَّهُوا بِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ "الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ".
فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لِوُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّهُ خَبَرٌ لاَ يَصِحُّ, لإِنَّ رَاوِيَهُ مَخْلَدُ بْنُ خَفَّافٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَكَانَ وَرَدَ فِي عَبْدٍ بِيعَ بَيْعًا صَحِيحًا ثُمَّ وُجِدَ فِيهِ عَيْبٌ; وَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يُقَاسَ الْحَرَامُ عَلَى الْحَلاَلِ, لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا; فَكَيْفَ وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا أَوْلاَدَ الْمَغْصُوبَةِ مِنْ الإِمَاءِ وَالْحَيَوَانِ لِلْغَاصِبِ بِهَذَا الْخَبَرِ, وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِذَلِكَ.

(5/250)


إذا بلغ الصنف الواحد من البر أو التمر أو الشعير خمسة أوسق فصاعدا الخ
...
644 - مَسْأَلَةٌ: فَإِذَا بَلَغَ الصِّنْفُ الْوَاحِدُ - مِنْ الْبُرِّ, أَوْ التَّمْرِ, أَوْ الشَّعِيرِ – خَمْسَةَ أَوْسُقٍ كَمَا ذَكَرْنَا فَصَاعِدًا,
فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُسْقَى بِسَاقِيَةٍ مِنْ نَهْرٍ, أَوْ عَيْنٍ, أَوْ كَانَ بَعْلًا فَفِيهِ الْعُشْرُ. وَإِنْ كَانَ يُسْقَى بِسَاقِيَةٍ, أَوْ نَاعُورَةٍ, أَوْ دَلْوٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ, فَإِنْ نَقَصَ عَنِ الْخَمْسَةِ الأَُوْسُقِ - مَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ - فَلَا زَكَاةَ فِيهِ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَصْحَابِنَا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ الْعُشْرُ, أَوْ نِصْفُ الْعُشْرِ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا الْفَرَبْرِيُّ، حَدَّثَنَا الْبُخَارِيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ, وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ".
وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلَ قَوْلِهِ عليه السلام: "وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ, مِنْ حَبٍّ وَلَا تَمْرٍ صَدَقَةٌ".
فَصَحَّ أَنَّ مَا نَقَصَ عَنِ الْخَمْسَةِ الأَُوْسُقِ نُقْصَانًا - قَلَّ أَوْ كَثُرَ - فَلَا زَكَاةَ فِيهِ.
وَالْعَجَبُ مِنْ تَغْلِيبِ أَبِي حَنِيفَةَ الْخَبَرَ: "فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ", عَلَى حَدِيثِ الأَُوْسُقِ الْخَمْسَةِ, وَغَلَّبَ قَوْلَهُ عليه السلام: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقِيَّ مِنْ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ, وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ مِنْ الإِبِلِ صَدَقَةٌ" عَلَى قَوْلِهِ عليه السلام: "فِي الرِّقَّةِ رُبْعُ الْعُشْرِ", وَعَلَى قَوْلِهِ عليه السلام: "مَا مِنْ صَاحِبِ إبِلِ لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا" وَهَذَا تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(5/251)


لا يضم قمح إلى شعير و لا تمر إليهما
...
645 - مَسْأَلَةٌ: لاَ يُضَمُّ قَمْحٌ إلَى شَعِيرٍ, وَلاَ تَمْرٌ إلَيْهِمَا.
وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَأَصْحَابِنَا.
وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ, وَأَبُو يُوسُفَ: يُضَمُّ كُلُّ مَا أَخْرَجَتْ الأَرْضُ: مِنْ الْقَمْحِ, وَالشَّعِيرِ وَالآُرْزُ, وَالذُّرَةِ, وَالدَّخَنِ, وَجَمِيعِ الْقَطَانِيِّ, بَعْضُ ذَلِكَ إلَى بَعْضِ, فَإِذَا اجْتَمَعَ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَفِيهِ الزَّكَاةُ كَمَا ذَكَرْنَا, وَإِلاَّ فَلاَ.
وقال مالك: الْقَمْحُ, وَالشَّعِيرُ, وَالسُّلْتُ: صِنْفٌ وَاحِدٌ, يُضَمُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ فِي الزَّكَاةِ, فَإِذَا اجْتَمَعَ مِنْ جَمِيعِهَا خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَفِيهَا الزَّكَاةُ, وَإِلاَّ فَلاَ; وَيُجْمَعُ الْحِمَّصُ, وَالْفُولُ, وَاللُّوبِيَا, وَالْعَدَسُ, وَالْجُلُبَّانُ وَالْبَسِيلَةُ, بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ. وَلاَ يُضَمُّ إلَى الْقَمْحِ, وَلاَ إلَى الشَّعِيرِ

(5/251)


وَلاَ إلَى السُّلْتِ. قَالَ: وَأَمَّا الآُرْزُ, وَالذُّرَةُ, وَالسِّمْسِمُ, فَهِيَ أَصْنَافٌ مُخْتَلِفَةٌ, لاَ يُضَمُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا إلَيَّ شَيْءٍ أَصْلاً.
وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي الْعَلَسِ, فَمَرَّةٌ قَالَ: يُضَمُّ إلَى الْقَمْحِ, وَالشَّعِيرِ; وَمَرَّةٌ قَالَ: لاَ يُضَمُّ إلَى شَيْءٍ أَصْلاً.
وَرَأَى الْقَطَانِيَّ فِي الْبُيُوعِ أَصْنَافًا مُخْتَلِفَةً, حَاشَا اللُّوبِيَا, وَالْحِمَّصَ; فَإِنَّهُ رَآهُمَا فِي الْبُيُوعِ صِنْفًا وَاحِدًا.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ; فَظَاهِرُ الْخَطَأِ جُمْلَةً, لاَ يَحْتَاجُ مِنْ إبْطَالِهِ إلَى أَكْثَرَ مِنْ إيرَادِهِ وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ قَسَّمَ هَذَا التَّقْسِيمَ, وَلاَ جَمَعَ هَذَا الْجَمْعَ, وَلاَ فَرَّقَ هَذَا التَّفْرِيقَ قَبْلَهُ، وَلاَ مَعَهُ، وَلاَ بَعْدَهُ, إلاَّ مَنْ قَلَّدَهُ, وَمَا لَهُ مُتَعَلَّقٌ, لاَ مِنْ قُرْآنٍ, وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ, وَلاَ مِنْ رِوَايَةٍ فَاسِدَةٍ, وَلاَ مِنْ قَوْلِ صَاحِبٍ، وَلاَ تَابِعٍ, وَلاَ مِنْ قِيَاسٍ، وَلاَ مِنْ رَأْيٍ يُعْرَفُ لَهُ وَجْهُ, وَلاَ مِنْ احْتِيَاطٍ أَصْلاً.
وَأَمَّا مَنْ رَأَى جَمْعَ الْبُرِّ وَغَيْرِهِ فِي الزَّكَاةِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَتَعَلَّقُوا بِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه السلام: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ".
قال أبو محمد: وَلَوْ لَمْ يَأْتِ إلاَّ هَذَا الْخَبَرُ لَكَانَ هَذَا هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي لاَ يَجُوزُ غَيْرُهُ. لَكِنْ قَدْ خَصَّهُ مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ رَبِيعٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ هُوَ الْجَحْدَرِيُّ، حدثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حدثنا رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ يَحِلُّ فِي الْبُرِّ وَالتَّمْرِ زَكَاةٌ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ, وَلاَ يَحِلُّ فِي الْوَرِقِ زَكَاةٌ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَ أَوَاقِيَ، وَلاَ يَحِلُّ فِي الإِبِلِ زَكَاةٌ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسَ ذَوْد"ٍ.
فَنَفَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ عَمَّا لَمْ يَبْلُغْ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ مِنْ الْبُرِّ, فَبَطَل بِهَذَا إيجَابُ الزَّكَاةِ فِيهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ; مَجْمُوعًا إلَى شَعِيرٍ أَوْ غَيْرَ مَجْمُوعٍ.
قال أبو محمد: وَكُلُّهُمْ مُتَّفِقٌ عَلَى أَنْ لاَ يُجْمَعَ التَّمْرُ إلَى الزَّبِيبِ, وَمَا نِسْبَةُ أَحَدِهِمَا مِنْ الآخَرِ إلاَّ كَنِسْبَةِ الْبُرِّ مِنْ الشَّعِيرِ; فَلاَ النَّصَّ اتَّبَعُوا, وَلاَ الْقِيَاسَ طَرَدُوا, وَلاَ خِلاَفَ

(5/252)


بَيْنَ كُلِّ مَنْ يَرَى الزَّكَاةَ فِي الْخَمْسَةِ الأَوْسُقِ فَصَاعِدًا لاَ فِي أَقَلَّ فِي أَنَّهُ لاَ يُجْمَعُ التَّمْرُ إلَى الْبُرِّ, وَلاَ إلَى الشَّعِيرِ.

(5/253)


و أما أصناف القمح فيضم بعضها إلى بعض
...
646 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا أَصْنَافُ الْقَمْحِ فَيُضَمُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ;
وَكَذَلِكَ تُضَمُّ أَصْنَافُ الشَّعِيرِ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ; وَكَذَلِكَ أَصْنَافُ التَّمْرِ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ الْعَجْوَةُ, وَالْبَرْنِيُّ, وَالصَّيْحَانِيُّ وَسَائِرُ أَصْنَافِهِ. وَهَذَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ; لإِنَّ اسْمَ بُرٍّ يَجْمَعُ أَصْنَافَ الْبُرِّ; وَاسْمَ تَمْرٍ يَجْمَعُ أَصْنَافَ التَّمْرِ; وَاسْمَ شَعِيرٍ يَجْمَعُ أَصْنَافَ الشَّعِيرِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(5/253)


من كانت له أرضون شتى في قرية واحدة أو في قرى شتى الخ
...
647 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضُونَ شَتَّى فِي قَرْيَةٍ وَاحِدَةٍ; أَوْ فِي قُرًى شَتَّى
فِي عَمَلِ مَدِينَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي أَعْمَالٍ شَتَّى وَلَوْ أَنَّ إحْدَى أَرْضَيْهِ فِي أَقْصَى الصِّينِ, وَالآُخْرَى إلَى أَقْصَى الأَنْدَلُسِ: فَإِنَّهُ يَضُمُّ كُلَّ قَمْحٍ أَصَابَ فِي جَمِيعِهَا بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ; وَكُلَّ شَعِيرٍ أَصَابَهُ فِي جَمِيعِهَا بَعْضِهِ إلَى بَعْضٍ, فَيُزَكِّيهِ; لاَِنَّهُ مُخَاطَبٌ بِالزَّكَاةِ فِي ذَاتِهِ, مُرَتَّبَةٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ فِي ذِمَّتِهِ وَمَالِهِ, دُونَ أَنْ يَخُصَّ اللَّهَ تَعَالَى; أَوْ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ مَا كَانَ فِي طُسُوجٍ وَاحِدًا, أَوْ رُسْتَاقٍ وَاحِدٍ: مِمَّا فِي طُسُّوجَيْنِ, أَوْ رُسْتَاقَيْنِ; وَتَخْصِيصُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بِالآرَاءِ الْفَاسِدَةِ بَاطِلٌ مَقْطُوعٌ بِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(5/253)


من لقط السنبل فاجتمع له من البر خمسة أوسق فصاعدا و من الشعير كذلك فعليه الزكاة فيها
...
648 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ لَقَطَ السُّنْبُلَ فَاجْتَمَعَ لَهُ مِنْ الْبُرِّ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَصَاعِدًا, وَمِنْ الشَّعِيرِ كَذَلِكَ: فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِيهَا,
الْعُشْرُ فِيمَا سُقِيَ بِالسَّمَاءِ, أَوْ بِالنَّهْرِ أَوْ بِالْعَيْنِ, أَوْ بِالسَّاقِيَّةِ, وَنِصْفُ الْعُشْرِ فِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ، وَلاَ زَكَاةَ عَلَى مَنْ الْتَقَطَ مِنْ التَّمْرِ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ وَبِإِيجَابِ الزَّكَاةِ فِي ذَلِكَ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ.

(5/253)


649 - مَسْأَلَةٌ: وَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ عَلَى مَنْ أَزْهَى التَّمْرُ فِي مِلْكِهِ
وَالإِزْهَاءُ: هُوَ احْمِرَارُهُ فِي ثِمَارِهِ وَعَلَى مَنْ مَلَكَ الْبُرَّ, وَالشَّعِيرَ قَبْلَ دِرَاسِهِمَا, وَإِمْكَانِ تَصْفِيَتِهِمَا مِنْ التِّبْنِ وَكَيْلِهِمَا بِأَيِّ وَجْهٍ مَلَكَ ذَلِكَ, مِنْ مِيرَاثٍ, أَوْ هِبَةٍ, أَوْ ابْتِيَاعٍ, أَوْ صَدَقَةٍ, أَوْ إصْدَاقٍ, أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَلاَ زَكَاةَ عَلَى مَنْ انْتَقَلَ مِلْكُهُ، عَنِ التَّمْرِ قَبْلَ الإِزْهَاءِ, وَلاَ عَلَى مَنْ مَلَكَهَا بَعْدَ الإِزْهَاءِ, وَلاَ عَلَى مَنْ انْتَقَلَ مِلْكُهُ، عَنِ الْبُرِّ, وَالشَّعِيرِ, قَبْلَ دِرَاسِهِمَا وَإِمْكَانِ تَصْفِيَتِهِمَا وَكَيْلِهِمَا;، وَلاَ عَلَى مَنْ مَلَكَهُمَا بَعْدَ إمْكَانِ تَصْفِيَتِهِمَا وَكَيْلِهِمَا.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ حَبٍّ، وَلاَ تَمْرٍ صَدَقَةٌ" فَلَمْ يُوجِبْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَبِّ صَدَقَةٌ إلاَّ بَعْدَ إمْكَانِ تَوْسِيقِهِ; فَإِنَّ صَاحِبَهُ حِينَئِذٍ مَأْمُورٌ بِكَيْلِهِ وَإِخْرَاجِ صَدَقَتِهِ; فَلَيْسَ تَأْخِيرُهُ الْكَيْلَ وَهُوَ لَهُ مُمْكِنٌ بِمُسْقِطٍ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ، وَلاَ سَبِيلَ إلَى التَّوْسِيقِ الَّذِي بِهِ تَجِبُ الزَّكَاةُ قَبْلَ الدِّرَاسِ أَصْلاً; فَلاَ زَكَاةَ فِيهِ قَبْلَ الدِّرَاسِ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْهَا، وَلاَ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم. فَمَنْ سَقَطَ مُلْكُهُ عَنْهُ قَبْلَ الدِّرَاسِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ, أَوْ إصْدَاقٍ: أَوْ مَوْتٍ, أَوْ جَائِحَةٍ, أَوْ نَارٍ, أَوْ غَرَقٍ, أَوْ غَصْبٍ فَلَمْ يُمْكِنْهُ إخْرَاجُ زَكَاتِهِ فِي وَقْتِ وُجُوبِهَا, وَلاَ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مِلْكِهِ. وَمَنْ أَمْكَنَهُ الْكَيْلُ وَهُوَ فِي مِلْكِهِ فَهُوَ الَّذِي خُوطِبَ بِزَكَاتِهِ; فَمَنْ مَلَكَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا مَلَكَهُ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَى غَيْرِهِ وَلَيْسَ التَّمْرُ كَذَلِكَ; لإِنَّ النَّصَّ جَاءَ بِإِيجَابِ الزَّكَاةِ فِيهِ إذَا بَدَا طِيبُهُ, كَمَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(5/254)


أما النخل إذا أزهى خرص و ألزم الزكاة
...
650 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا النَّخْلُ فَإِنَّهُ إذَا أَزْهَى خُرِصَ وَأُلْزِمَ الزَّكَاةَ
كَمَا ذَكَرْنَا, وَأُطْلِقَتْ يَدُهُ عَلَيْهِ يَفْعَلُ بِهِ مَا شَاءَ; وَالزَّكَاةُ فِي ذِمَّتِهِ.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حدثنا يَحْيَى، هُوَ ابْنُ سَعِيدِ الْقَطَّانِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ غُنْدَرٌ، حدثنا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْت خُبَيْبَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَانِ يُحَدِّثُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ نِيَارٍ قَالَ: أَتَانَا سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا خَرَصْتُمْ فَخُذُوا أَوْ دَعُوا الثُّلُثَ; فَإِنْ لَمْ تَأْخُذُوا فَدَعُوا الرُّبُعَ" شَكَّ شُعْبَةُ فِي لَفْظَةِ "تَأْخُذُوا" وَ "تَدَعُوا".
حدثنا حمام، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا الدَّبَرِيُّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ. وَهِيَ تَذْكُرُ شَأْنَ خَيْبَرَ قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ إلَى الْيَهُودِ فَيَخْرُصُ النَّخْلَ حِينَ يَطِيبُ أَوَّلُ الثَّمَرِ قَبْلَ أَنْ

(5/255)


يُؤْكَلَ, ثُمَّ يُخَيِّرُونَ الْيَهُودَ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذُوهَا بِذَلِكَ الْخَرْصِ أَوْ يَدْفَعُوهَا إلَيْهِمْ بِذَلِكَ" وَإِنَّمَا كَانَ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْخَرْصِ لِكَيْ تُحْصَى الزَّكَاةُ قَبْلَ أَنْ تُؤْكَلَ الثِّمَارُ وَتَفْتَرِقُ.

(5/256)


إذا خرص فسواء باع الثمرة أو أو وهبها أو تصدق بها أو أطعمها أو أجيح فيها كل ذلك لا يسقط الزكاة عنه
...
651 - مَسْأَلَةٌ: فَإِذَا خُرِصَ كَمَا ذَكَرْنَا فَسَوَاءٌ بَاعَ الثَّمَرَةَ صَاحِبُهَا أَوْ وَهَبَهَا أَوْ تَصَدَّقَ بِهَا أَوْ أَطْعَمَهَا أَوْ أَجِيحَ فِيهَا: كُلُّ ذَلِكَ لاَ يُسْقِطُ الزَّكَاةَ عَنْهُ;
لاَِنَّهَا قَدْ وَجَبَتْ, وَأَطْلَقَ عَلَى الثَّمَرَةِ وَأَمْكَنَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ, كَمَا لَوْ وَجَدَهَا, وَلاَ فَرْقَ.

(5/256)


652 - مَسْأَلَةٌ: فَإِذَا غَلِطَ الْخَارِصُ أَوْ ظَلَمَ فَزَادَ أَوْ نَقَصَ: رَدَّ الْوَاجِبَ إلَى الْحَقِّ,
فَأُعْطِيَ مَا زِيدَ عَلَيْهِ وَأَخَذَ مِنْهُ مَا نَقَصَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} وَالزِّيَادَةُ مِنْ الْخَارِصِ ظُلْمٌ لِصَاحِبِ الثَّمَرَةِ بِلاَ شَكٍّ, وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَعْتَدُوا} فَلَمْ يُوجِبْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى صَاحِبِ الثَّمَرَةِ إلاَّ الْعُشْرَ, لاَ أَقَلُّ، وَلاَ أَكْثَرُ, أَوْ نِصْفَ الْعُشْرِ, لاَ أَقَلُّ، وَلاَ أَكْثَرُ, وَنُقْصَانُ الْخَارِصِ ظُلْمٌ لاَِهْلِ الصَّدَقَاتِ وَإِسْقَاطٌ لِحَقِّهِمْ, وَكُلُّ ذَلِكَ إثْمٌ وَعُدْوَانٌ.

(5/256)


إن ادعى أن الخارص ظلمه أو أخطأ لم يصدق إلا بالبينة
...
653 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ ادَّعَى أَنَّ الْخَارِصَ ظَلَمَهُ أَوْ أَخْطَأَ؟ لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ
إنْ كَانَ الْخَارِصُ عَدْلًا عَالِمًا, فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا أَوْ جَائِرًا فَحُكْمُهُ مَرْدُودٌ؟
لِأَنَّهُ إنْ كَانَ جَائِرًا فَهُوَ فَاسِقٌ فَخَبَرُهُ مَرْدُودٌ.
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}.
وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا فَتَعَرُّضُ الْجَاهِلِ لِلْحُكْمِ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ بِمَا لَا يَدْرِي جُرْحَةٌ; وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ تَوْلِيَتُهُ; فَإِذْ هُوَ كَذَلِكَ فَتَوْلِيَتُهُ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ".

(5/256)


654 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ خَرْصُ الزَّرْعِ أَصْلاً;
لَكِنْ إذَا حُصِدَ, وَدُرِسَ, فَإِنْ جَاءَ الَّذِي يَقْبِضُ الزَّكَاةَ حِينَئِذٍ فَقَعَدَ عَلَى الدُّرُوسِ وَالتَّصْفِيَةِ وَالْكَيْلِ فَلَهُ ذَلِكَ, وَلاَ نَفَقَةَ لَهُ عَلَى صَاحِبِ الزَّرْعِ.

(5/256)


655 - مَسْأَلَةٌ: وَفُرِضَ عَلَى كُلِّ مَنْ لَهُ زَرْعٌ عِنْدَ حَصَادِهِ أَنْ يُعْطِيَ مِنْهُ مَنْ حَضَرَ مِنْ الْمَسَاكِينِ
مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُهُ; وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ قَبْلُ فِي بَابِ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ ذِكْرِنَا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(5/257)


من ساقى حائط نخل أو زارع أرضه بجزء مما يخرج منها فأيهما وقع في سهمه خمسة أوسق فصاعدا فعليه الزكاة
...
656 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ سَاقَى حَائِطَ نَخْلٍ أَوْ زَارِعَ أَرْضِهِ بِجُزْءٍ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا فَأَيُّهُمَا وَقَعَ فِي سَهْمِهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَصَاعِدًا مِنْ تَمْرٍ, أَوْ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ كَذَلِكَ مِنْ بُرٍّ, أَوْ شَعِيرٍ: فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ,
وَإِلاَّ فَلاَ, وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ لَهُ شَرِيكٌ فَصَاعِدًا فِي زَرْعٍ أَوْ فِي ثَمَرَةِ نَخْلٍ بِحَبْسٍ, أَوْ ابْتِيَاعٍ, أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْوُجُوهِ كُلِّهَا، وَلاَ فَرْقَ.
فَإِنْ كَانَتْ عَلَى الْمَسَاكِينِ, أَوْ الْعُمْيَانِ, أَوْ الْمَجْذُومِينَ, أَوْ فِي السَّبِيلِ, أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يَتَعَيَّنُ بِأَهْلِهِ أَوْ عَلَى مَسْجِد, أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ: فَلاَ زَكَاةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ.
لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ الزَّكَاةَ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِمَّا ذَكَرْنَا; وَلَمْ يُوجِبْهَا عَلَى شَرِيكٍ مِنْ أَجْلِ ضَمِّ زَرْعِهِ إلَى زَرْعِ شَرِيكِهِ, قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلاَّ عَلَيْهَا}، {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}.
وَأَمَّا مَنْ لاَ يَتَعَيَّنُ فَلَيْسَ يَصِحُّ أَنَّهُ يَقَعُ لاَِحَدِهِمْ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ، وَلاَ زَكَاةَ إلاَّ عَلَى مُسْلِمٍ يَقَعُ لَهُ مِمَّا يُصِيبُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ.
وقال أبو حنيفة: فِي كُلِّ ذَلِكَ الزَّكَاةُ.
وَهَذَا خَطَأٌ, لِمَا قَدْ ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ لاَ شَرِيعَةَ عَلَى أَرْضٍ, وَإِنَّمَا الشَّرِيعَةُ عَلَى النَّاسِ, وَالْجِنِّ; وَلَوْ كَانَ مَا قَالُوا لَوَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِي أَرَاضِي الْكُفَّارِ.
فَإِنْ قَالُوا: الْخَرَاجُ نَابَ عَنْهَا.
قلنا: كَانُوا فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لاَ خَرَاجَ عَلَيْهِمْ, فَكَانَ يَجِبُ عَلَى قَوْلِكُمْ أَنْ تَكُونَ الزَّكَاةُ فِيمَا أَخْرَجَتْ أَرْضُهُمْ; وَهَذَا بَاطِلٌ بِإِجْمَاعٍ مِنْ أَهْلِ النَّقْلِ, وَبِإِجْمَاعِهِمْ مَعَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ.
وقال الشافعي: إذَا اجْتَمَعَ لِلشُّرَكَاءِ كُلِّهِمْ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَعَلَيْهِمْ الزَّكَاةُ وَسَنَذْكُرُ

(5/257)


657 - مَسْأَلَةٌ:- وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعُدَّ الَّذِي لَهُ الزَّرْعُ أَوْ التَّمْرُ مَا أَنْفَقَ فِي حَرْثٍ أَوْ حَصَادٍ, أَوْ جَمْعٍ,
أَوْ دَرْسٍ, أَوْ تَزْبِيلٍ أَوْ جِدَادٍ أَوْ حَفْرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ -:فَيُسْقِطُهُ مِنْ الزَّكَاةِ وَسَوَاءٌ تَدَايَنَ فِي ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَتَدَايَنْ, أَتَتْ النَّفَقَةُ عَلَى جَمِيعِ قِيمَةِ الزَّرْعِ أَوْ الثَّمَرِ أَوْ لَمْ تَأْتِ, وَهَذَا مَكَانٌ قَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهِ.
حَدَّثَنَا حُمَامٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ هُوَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي وَحْشِيَّةَ - عَنْ عَمْرِو بْنِ هَرِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَابْنِ عُمَرَ, فِي الرَّجُلِ يُنْفِقُ عَلَى ثَمَرَتِهِ, قَالَ أَحَدُهُمَا: يُزَكِّيهَا, وَقَالَ الآخَرُ: يَرْفَعُ النَّفَقَةَ وَيُزَكِّي مَا بَقِيَ.
وَعَنْ عَطَاءٍ: أَنَّهُ يَسْقُطُ مِمَّا أَصَابَ النَّفَقَةَ, فَإِنْ بَقِيَ مِقْدَارُ مَا فِيهِ الزَّكَاةُ زَكَّى, وَإِلَّا فَلَا.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد: أَوْجَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي التَّمْرِ وَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ: الزَّكَاةُ جُمْلَةً إذَا بَلَغَ الصِّنْفُ مِنْهَا خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَصَاعِدًا; وَلَمْ يُسْقِطْ الزَّكَاةَ عَنْ ذَلِكَ بِنَفَقَةِ الزَّارِعِ وَصَاحِبِ النَّخْلِ; فَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُ حَقٍّ أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِغَيْرِ نَصِّ قُرْآنٍ وَلَا سُنَّةٍ ثَابِتَةٍ.
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي حَنِيفَةَ, وَأَصْحَابِنَا, إلَّا أَنَّ مَالِكًا, وَأَبَا حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ تَنَاقَضُوا وَأَسْقَطُوا الزَّكَاةَ عَنِ الأَُمْوَالِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا إذَا

(5/258)


كَانَ عَلَى صَاحِبِهَا دَيْنٌ يَسْتَغْرِقُهَا أَوْ يَسْتَغْرِقُ بَعْضَهَا; فَأَسْقَطُوهَا عَنْ مِقْدَارِ مَا اسْتَغْرَقَ الدَّيْنُ مِنْهَا.

(5/259)


لا يجوز أن يعد على صاحب الزرع في الزكاة ما أكل و أهله
...
658 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَعُدَّ عَلَى صَاحِبِ الزَّرْعِ فِي الزَّكَاةِ مَا أَكَلَ هُوَ وَأَهْلُهُ
فَرِيكًا أَوْ سَوِيقًا قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَلاَ السُّنْبُلَ الَّذِي يَسْقُطُ فَيَأْكُلُهُ الطَّيْرُ أَوْ الْمَاشِيَةُ أَوْ يَأْخُذُهُ الضُّعَفَاءُ, وَلاَ مَا تَصَدَّقَ بِهِ حِينَ الْحَصَادِ; لَكِنْ مَا صُفِّيَ فَزَكَاتُهُ عَلَيْهِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ أَنَّ الزَّكَاةَ لاَ تَجِبُ إلاَّ حِينَ إمْكَانِ الْكَيْلِ, فَمَا خَرَجَ، عَنْ يَدِهِ قَبْلَ ذَلِكَ فَقَدْ خَرَجَ قَبْلَ وُجُوبِ الصَّدَقَةِ فِيهِ. وقال الشافعي: وَاللَّيْثُ, كَذَلِكَ.
وقال مالك, وَأَبُو حَنِيفَةَ: يُعَدُّ عَلَيْهِ كُلُّ ذَلِكَ.
قال أبو محمد: هَذَا تَكْلِيفُ مَا لاَ يُطَاقُ, وَقَدْ يَسْقُطُ مِنْ السُّنْبُلِ مَا لَوْ بَقِيَ لاََتَمَّ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ, وَهَذَا لاَ يُمْكِنُ ضَبْطُهُ، وَلاَ الْمَنْعُ مِنْهُ أَصْلاً. وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا}.

(5/259)


فرض على الخارص أن يترك له ما يأكل هو و أهله رطبا على السعة
...
659 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا التَّمْرُ: فَفَرْضٌ عَلَى الْخَارِصِ أَنْ يَتْرُكَ لَهُ مَا يَأْكُلُ هُوَ وَأَهْلُهُ رُطَبًا عَلَى السَّعَةِ,
لاَ يُكَلَّفُ عَنْهُ زَكَاةٌ.وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ.
وقال مالك, وَأَبُو حَنِيفَةَ: لاَ يَتْرُكُ لَهُ شَيْئًا.
بُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ الَّذِي ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا خَرَصْتُمْ فَخُذُوا أَوْ دَعُوا الثُّلُثَ أَوْ الرُّبُعَ"، وَلاَ يَخْتَلِفُ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْخَبَرِ وَهُمْ أَهْلُ الْحَقِّ الَّذِينَ إجْمَاعُهُمْ الإِجْمَاعُ الْمُتَّبَعُ فِي أَنَّ هَذَا عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِمْ إلَى الأَكْلِ رُطَبًا.
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ رِفَاعَةَ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا أَبُو عُبَيْدٍ، حدثنا هُشَيْمٌ, وَزَيْدٌ كِلاَهُمَا: عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: بَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَبَا حَثْمَةَ الأَنْصَارِيِّ عَلَى خَرْصِ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ, فَقَالَ: إذَا وَجَدْت الْقَوْمَ فِي نَخْلِهِمْ قَدْ خَرَفُوا فَدَعْ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ, لاَ تَخْرُصُهُ عَلَيْهِمْ.

(5/259)


إن كان زرع أو نخل يسقى بعض العام بعين أو ساقية من نهر أو بماء السماء ..الخ
...
660 - مَسْأَلَةٌ: وَإِنْ كَانَ زَرْعٌ, أَوْ نَخْلٌ يُسْقَى بَعْضَ الْعَامِ بِعَيْنٍ, أَوْ سَاقِيَةٍ مِنْ نَهْرٍ أَوْ بِمَاءِ السَّمَاءِ,
وَبَعْضَ الْعَامِ بِنَضْحٍ, أَوْ سَانِيَةٍ, أَوْ خَطَّارَةٍ, أَوْ دَلْوٍ, فَإِنْ كَانَ النَّضْحُ زَادَ فِي ذَلِكَ زِيَادَةً ظَاهِرَةً وَأَصْلَحَهُ: فَزَكَاتُهُ نِصْفُ الْعُشْرِ فَقَطْ; وَإِنْ كَانَ لَمْ يَزِدْ فِيهِ شَيْئًا، وَلاَ أَصْلَحَ فَزَكَاتُهُ الْعُشْرُ.
قال أبو محمد: وقال أبو حنيفة, وَأَصْحَابُهُ: يُزَكِّي عَلَى الأَغْلَبِ مِنْ ذَلِكَ; وَهُوَ قَوْلٌ رُوِّينَاهُ، عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ.
حدثنا حمام، حدثنا أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَاجِيَّ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُونُسَ، حدثنا بَقِيٌّ، حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ قُلْت لِعَطَاءٍ: فِي الْمَالِ يَكُونُ عَلَى الْعَيْنِ أَوْ بَعْلاً عَامَّةَ الزَّمَانِ, ثُمَّ يَحْتَاجُ إلَى الْبِئْرِ يُسْقَى بِهَا فَقَالَ: إنْ كَانَ يُسْقَى بِالْعَيْنِ أَوْ الْبَعْلِ أَكْثَرُ مِمَّا يُسْقَى بِالدَّلْوِ: فَفِيهِ الْعُشْرُ, وَإِنْ كَانَ يُسْقَى بِالدَّلْوِ أَكْثَرُ مِمَّا يُسْقَى بِالْبَعْلِ: فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ: سَمِعْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ, وَعُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولاَنِ هَذَا الْقَوْلَ.
وقال مالك مَرَّةً: إنَّ زَكَاتَهُ بِاَلَّذِي غَذَّاهُ بِهِ وَتَمَّ بِهِ, لاَ أُبَالِي بِأَيِّ ذَلِكَ كَانَ أَكْثَرَ سَقْيِهِ فَزَكَاتُهُ عَلَيْهِ وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى: يُعْطِي نِصْفَ زَكَاتِهِ الْعُشْرُ وَنِصْفُهَا نِصْفُ الْعُشْرِ, وَهَكَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ.
قال أبو محمد: قَدْ حَكَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ بِنِصْفِ الْعُشْرِ, وَبِلاَ شَكٍّ أَنَّ السَّمَاءَ تَسْقِيه وَيُصْلِحُهُ مَاءُ السَّمَاءِ; بَلْ قَدْ شَاهَدْنَا جُمْهُورَ السِّقَاءِ بِالْعَيْنِ وَالنَّضْحِ إنْ لَمْ

(5/260)


يَقَعْ عَلَيْهِ مَاءٌ السَّمَاءِ تَغَيَّرَ، وَلاَ بُدَّ, فَلَمْ يَجْعَلْ عليه السلام لِذَلِكَ حُكْمًا, فَصَحَّ أَنَّ النَّضْحَ إذَا كَانَ مُصْلِحًا لِلزَّرْعِ أَوْ النَّخْلِ فَزَكَاتُهُ نِصْفُ الْعُشْرِ فَقَطْ. وَهَذَا مِمَّا تَرَكَ الشَّافِعِيُّونَ فِيهِ صَاحِبًا لاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْهُمْ.

(5/261)


661 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ زَرَعَ قَمْحًا أَوْ شَعِيرًا مَرَّتَيْنِ فِي الْعَامِ أَوْ أَكْثَرَ,
أَوْ حَمَلَتْ نَخْلَةٌ بَطْنَيْنِ فِي السَّنَةِ فَإِنَّهُ لاَ يَضُمُّ الْبُرَّ الثَّانِي، وَلاَ الشَّعِيرَ الثَّانِي، وَلاَ التَّمْرَ الثَّانِي إلَى الأَوَّلِ; وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا لَيْسَ فِيهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ لَمْ يُزَكِّهِ; وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَيْسَ فِيهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ بِانْفِرَادِهِ لَمْ يُزَكِّهِمَا.
قَالَ عَلِيٌّ: وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ جَمَعَا لَوَجَبَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الزَّرْعَيْنِ وَالتَّمْرَتَيْنِ وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا عَامَانِ أَوْ أَكْثَرُ; وَهَذَا بَاطِلٌ بِلاَ خِلاَفٍ, وَإِذْ صَحَّ نَفْيُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ عَمَّا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ رَاعَى الْمُجْتَمَعَ, لاَ زَرْعًا مُسْتَأْنَفًا لاَ يُدْرَى أَيَكُونُ أَمْ لاَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(5/261)


إن كان قمح بكير أو شعير بكير أو تمر بكير و آخر من جنس كل واحد منها مؤخر
...
662 - مَسْأَلَةٌ: وَإِنْ كَانَ قَمْحُ بِكِيرٍ أَوْ شَعِيرُ بِكِيرٍ أَوْ تَمْرُ بِكِيرٍ وَآخَرُ مِنْ جِنْسِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُؤَخَّرٌ,
فَإِنْ يَبِسَ الْمُؤَخَّرُ أَوْ أَزْهَى قَبْلَ تَمَامِ وَقْتِ حَصَادِ الْبَكِيرِ وَجِدَادِهِ فَهُوَ كُلُّهُ زَرْعٌ وَاحِدٌ وَتَمْرٌ وَاحِدٌ, يَضُمُّ بَعْضَهُ إلَى بَعْضٍ, وَتُزَكَّى مَعًا, إنْ لَمْ يَيْبَسْ الْمُؤَخَّرُ، وَلاَ أَزْهَى إلاَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ وَقْتِ حَصَادِ الْبَكِيرِ فَهُمَا زَرْعَانِ وَتَمْرَانِ, يَضُمُّ أَحَدَهُمَا إلَى الآخَرِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمُهُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ كُلَّ زَرْعٍ وَكُلَّ تَمْرٍ فَإِنَّ بَعْضَهُ يَتَقَدَّمُ بَعْضًا فِي الْيُبْسِ وَالإِزْهَاءِ; وَإِنَّ مَا زُرِعَ فِي تَشْرِينَ الأَوَّلِ يَبْدَأُ يُبْسُهُ قَبْلَ أَنْ يَيْبَسَ مَا زُرِعَ فِي شُبَاطَ, إلاَّ أَنَّهُ لاَ يَنْقَضِي وَقْتُ حَصَادِ الأَوَّلِ حَتَّى يُسْتَحْصَدَ الثَّانِي; لاَِنَّهَا صِيفَةٌ وَاحِدَةٌ وَكَذَلِكَ التَّمْرُ وَأَمَّا إذَا كَانَ لاَ يَجْتَمِعُ وَقْتُ حَصَادِهِمَا، وَلاَ يَتَّصِلُ وَقْتُ إزْهَائِهِمَا فَهُمَا زَمَنَانِ اثْنَانِ كَمَا قَدَّمْنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَبْكَرُ مَا صَحَّ عِنْدَنَا يَقِينًا أَنَّهُ يَبْدَأُ بِأَنْ يُزْرَعَ فِي بِلاَدٍ مِنْ شِنْتَ بَرِيَّةَ, وَهِيَ مِنْ

(5/261)


663 - مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ حُصِدَ قَمْحٌ أَوْ شَعِيرٌ ثُمَّ أُخْلِفَ فِي أُصُولِهِ زَرْعٌ
فَهُوَ زَرْعٌ آخَرُ, لاَ يُضَمُّ إلَى الأَوَّلِ; لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(5/262)


664 - مَسْأَلَةٌ: وَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ فِي ذِمَّةِ صَاحِبِ الْمَالِ لاَ فِي عَيْنِ الْمَالِ.
قال أبو محمد: وَقَدْ اضْطَرَبَتْ أَقْوَالُ الْمُخَالِفِينَ فِي هَذَا. وَبُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا: هُوَ أَنْ لاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ الآُمَّةِ مِنْ زَمَنِنَا إلَى زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَنَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةُ بُرٍّ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ أَوْ إبِلٍ أَوْ بَقَرٍ أَوْ غَنَمٍ فَأَعْطَى زَكَاتَهُ الْوَاجِبَةَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الزَّرْعِ وَمِنْ غَيْرِ ذَلِكَ التَّمْرِ وَمِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الذَّهَبِ وَمِنْ غَيْرِ تِلْكَ الْفِضَّةِ وَمِنْ غَيْرِ تِلْكَ الإِبِلِ وَمِنْ غَيْرِ تِلْكَ الْبَقَرِ وَمِنْ غَيْرِ تِلْكَ الْغَنَمِ: فَإِنَّهُ لاَ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ, وَلاَ يُكْرَهُ ذَلِكَ لَهُ, بَلْ سَوَاءٌ أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَيْنِ, أَوْ مِمَّا عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِهَا, أَوْ مِمَّا يَشْتَرِي, أَوْ مِمَّا يُوهَبُ, أَوْ مِمَّا يُسْتَقْرَضُ. فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّ الزَّكَاةَ فِي الذِّمَّةِ لاَ فِي الْعَيْنِ إذْ لَوْ كَانَتْ فِي الْعَيْنِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ

(5/262)


كل مال وجبت فيه زكاة من الأموال التي ذكرنا فسواء تلف ذلك أو بعضه فالزكاة كلها واجبة في ذمة صاحبه
...
665 - مَسْأَلَةٌ: فَكُلُّ مَالٍ وَجَبَتْ فِيهِ زَكَاةٌ مِنْ الأَمْوَالِ الَّتِي ذَكَرْنَا, فَسَوَاءٌ تَلَفَ ذَلِكَ أَوْ بَعْضُهُ
أَكْثَرُهُ أَوْ أَقَلُّهُ إثْرِ إمْكَانِ إخْرَاجِ الزَّكَاةِ مِنْهُ, إثْرِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ بِمَا قَلَّ مِنْ الزَّمَنِ أَوْ كَثُرَ, بِتَفْرِيطٍ تَلَفَ أَوْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ: فَالزَّكَاةُ كُلُّهَا وَاجِبَةٌ فِي ذِمَّةِ صَاحِبِهِ كَمَا كَانَتْ لَوْ لَمْ يَتْلَفْ, وَلاَ فَرْقَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الزَّكَاةَ فِي الذِّمَّةِ لاَ فِي عَيْنِ الْمَالِ.
وَإِنَّمَا قلنا: إثْرَ إمْكَانِ إخْرَاجِ الزَّكَاةِ مِنْهُ لاَِنَّهُ إنْ أَرَادَ إخْرَاجَ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ عَيْنِ الْمَالِ الْوَاجِبَةِ فِيهِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ, وَالإِبِلُ وَغَيْرُهَا فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ, إلاَّ أَنْ تَكُونَ مِمَّا يُزَكَّى بِالْغَنَمِ وَلَهُ غَنَمٌ حَاضِرَةٌ فَهَذَا تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ مِنْ الْغَنَمِ الْحَاضِرَةِ, وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْطُلَ بِالزَّكَاةِ حَتَّى يَبِيعَ مِنْ تِلْكَ الإِبِلِ, لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}.

(5/263)


و كذلك لو أخرج الزكاة و عزلها ليدفعها إلى المصدق فضاعت الزكاة كلها أو بعضها فعليه إعادتها
...
666 - مَسْأَلَةٌ: وَكَذَلِكَ لَوْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ وَعَزَلَهَا لِيَدْفَعَهَا إلَى الْمُصَدِّقِ أَوْ إلَى أَهْلِ الصَّدَقَاتِ فَضَاعَتْ الزَّكَاةُ كُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا فَعَلَيْهِ إعَادَتُهَا كُلِّهَا،
وَلاَ بُدَّ, لِمَا ذَكَرْنَا; وَلاَِنَّهُ فِي ذِمَّتِهِ حَتَّى يُوَصِّلَهَا إلَى مَنْ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِإِيصَالِهَا إلَيْهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ, وَظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي بَعْضِ أَقْوَالِهِ.
وقال أبو حنيفة: إنْ هَلَكَ الْمَالُ بَعْدَ الْحَوْلِ وَلَمْ يَحُدَّ لِذَلِكَ مُدَّةً فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ بِأَيِّ وَجْهٍ هَلَكَ فَلَوْ هَلَكَ بَعْضُهُ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ مَا بَقِيَ فَقَطْ, قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيمَا تَلَفَ, فَإِنْ كَانَ هُوَ اسْتَهْلَكَهُ فَعَلَيْهِ زَكَاتُهُ.

(5/263)


667 مَسْأَلَةٌ: وَأَيُّ بُرٍّ أَعْطَى, أَوْ أَيُّ شَعِيرٍ: فِي زَكَاتِهِ كَانَ أَدْنَى مِمَّا أَصَابَ أَوْ أَعْلَى: أَجْزَأَهُ,
مَا لَمْ يَكُنْ فَاسِدًا بِعَفَنٍ, أَوْ تَآكُلٍ, فَلاَ يُجْزِئُ، عَنْ صَحِيحٍ, أَوْ مَا كَانَ رَدِيئًا.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّهُ إنَّمَا عَلَيْهِ بِالنَّصِّ عُشْرُ مَكِيلَةِ مَا أَصَابَ أَوْ نِصْفُ عُشْرِهَا إذَا كَانَتْ

(5/264)


و كذلك القول في زكاة التمر, أي تمر أخرج أجزأه
...
668 - مَسْأَلَةٌ: وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي زَكَاةِ التَّمْرِ, أَيِّ تَمْرٍ أَخْرَجَ أَجْزَأَهُ,
سَوَاءٌ مِنْ جِنْسِ تَمْرِهِ, أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ, أَدْنَى مِنْ تَمْرِهِ أَوْ أَعْلَى, مَا لَمْ يَكُنْ رَدِيًّا كَمَا ذَكَرْنَا, أَوْ مَعْفُونًا أَوْ مُتَآكِلاً, أَوْ الْجُعْرُورُ, أَوْ لَوْنُ الْحُبَيْقِ فَلاَ يُجْزِئُ إخْرَاجُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَصْلاً, وَسَوَاءٌ كَانَ تَمْرُهُ كُلُّهُ مِنْ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا, وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِتَمْرٍ سَالِمٍ غَيْرِ رَدِيءٍ, وَلاَ مِنْ هَذَيْنِ اللَّوْنَيْنِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ}.
حدثنا حمام، حدثنا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ، حدثنا إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، حدثنا أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ، حدثنا سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ، حدثنا الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ أَبِيهِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنْ لَوْنَيْنِ مِنْ التَّمْرِ: الْجُعْرُورُ, وَلَوْنُ الْحُبَيْقِ, وَكَانَ النَّاسُ يَتَيَمَّمُونَ شِرَارَ ثِمَارِهِمْ فَيُخْرِجُونَهَا فِي الصَّدَقَةِ; فَنُهُوا، عَنْ ذَلِكَ, وَنَزَلَتْ، {وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}.
َحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْبَصِيرِ، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ

(5/265)


زكاة الغنم
تعريف الغنم في اللغة التي خاطبنا بها رسول الله صلى الله عليه و سلم
...
زَكَاةُ الْغَنَمِ.
669 - مَسْأَلَةٌ: الْغَنَمُ فِي اللُّغَةِ الَّتِي بِهَا خَاطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْمٌ
يَقَعُ عَلَى الضَّأْنِ وَالْمَاعِزِ, فَهِيَ مَجْمُوعٌ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ فِي الزَّكَاةِ. وَكَذَلِكَ أَصْنَافُ الْمَاعِزِ وَالضَّأْنِ, كَضَأْنِ بِلاَدِ السُّودَانِ وَمَاعِزِ الْبَصْرَةِ وَالنَّفَدِ وَبَنَاتِ حَذَفٍ وَغَيْرِهَا. وَكَذَلِكَ الْمَقْرُونُ الَّذِي نِصْفُهُ خِلْقَةُ مَاعِزٍ, وَنِصْفُهُ ضَأْنٍ, لإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ الْغَنَمِ, وَالذُّكُورِ وَالإِنَاثِ سَوَاءٌ. وَاسْمُ الشَّاءِ أَيْضًا: وَاقِعٌ عَلَى الْمَعْزِ وَالضَّأْنِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي اللُّغَةِ. وَلاَ وَاحِدَ لِلْغَنَمِ مِنْ لَفْظِهِ, إنَّمَا يُقَالُ لِلْوَاحِدِ: شَاةٌ, أَوْ مَاعِزَةٌ, أَوْ ضَانِيَةٌ, أَوْ كَبْشٌ, أَوْ تَيْسٌ: هَذَا مَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(5/267)


670 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ زَكَاةَ فِي الْغَنَمِ حَتَّى يَمْلِكَ الْمُسْلِمُ الْوَاحِدُ مِنْهَا أَرْبَعِينَ رَأْسًا حَوْلاً كَامِلاً مُتَّصِلاً عَرَبِيًّا قَمَرِيًّا.
وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي هَذَا, وَسَنَذْكُرُهُ فِي زَكَاةِ الْفَوَائِدِ, إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَيَكْفِي مِنْ هَذَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي الْمَاشِيَةِ, وَلَمْ يَحُدَّ وَقْتًا، وَلاَ نَدْرِي مِنْ هَذَا الْعُمُومِ مَتَى تَجِبُ الزَّكَاةُ, إلاَّ أَنَّهُ لَمْ يُوجِبْهَا عليه السلام فِي كُلِّ يَوْمٍ, وَلاَ فِي كُلِّ شَهْرٍ, وَلاَ مَرَّتَيْنِ فِي الْعَامِ فَصَاعِدًا, هَذَا مَنْقُولٌ بِإِجْمَاعٍ إلَيْهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذْ لاَ شَكَّ فِي أَنَّهَا مَرَّةٌ فِي الْحَوْلِ, فَلاَ يَجِبُ فَرْضٌ إلاَّ بِنَقْلٍ صَحِيحٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَوَجَدْنَا مَنْ أَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ, أَوْ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ بِنَقْلِ آحَادٍ، وَلاَ بِنَقْلِ تَوَاتُرٍ، وَلاَ بِنَقْلِ إجْمَاعٍ, وَوَجَدْنَا مَنْ أَوْجَبَهَا بِانْقِضَاءِ الْحَوْلِ قَدْ صَحَّ وُجُوبُهَا بِنَقْلِ الإِجْمَاعِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَئِذٍ بِلاَ شَكٍّ; فَالآنُ وَجَبَتْ, لاَ قَبْلَ ذَلِكَ.

(5/267)


إذا تمت في ملكه عاما ففيها شاة سواء كانت كلها ضأنا أو كلها ماعزا أو بعضها
...
671 - مَسْأَلَةٌ: فَإِذَا تَمَّتْ فِي مِلْكِهِ عَامًا كَمَا ذَكَرْنَا, سَوَاءٌ كَانَتْ كُلُّهَا مَاعِزًا, أَوْ بَعْضُهَا أَكْثَرُهَا أَوْ أَقَلُّهَا ضَأْنًا, وَسَائِرُهَا كَذَلِكَ مِعْزَى:- فَفِيهَا شَاةٌ وَاحِدَةٌ
لاَ نُبَالِي ضَانِيَةً كَانَتْ أَوْ مَاعِزَةً, كَبْشًا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى مِنْ كِلَيْهِمَا, كُلُّ رَأْسٍ تُجْزِئُ مِنْهُمَا، عَنِ الضَّأْنِ, وَعَنِ الْمَاعِزِ; وَهَكَذَا مَا زَادَتْ حَتَّى تَتِمَّ مِائَةً وَعِشْرِينَ كَمَا ذَكَرْنَا.
فَإِذَا أَتَمَّتْهَا وَزَادَتْ لَوْ بَعْضَ شَاةٍ كَذَلِكَ عَامًا كَامِلاً كَمَا ذَكَرْنَا فَفِيهَا شَاتَانِ كَمَا قلنا, إلَى أَنْ تَتِمَّ مِائَتَيْ شَاةٍ.
فَإِذَا أَتَمَّتْهَا وَزَادَتْ وَلَوْ بَعْضَ شَاةٍ كَذَلِكَ عَامًا كَامِلاً وَصَفْنَا فَفِيهَا ثَلاَثُ شِيَاهٍ كَمَا حَدَّدْنَا وَهَكَذَا إلَى أَنْ تُتِمَّ أَرْبَعمِائَةِ شَاةٍ كَمَا وَصَفْنَا فَإِذَا أَتَمَّتْهَا كَذَلِكَ عَامًا كَامِلاً كَمَا ذَكَرْنَا فَفِي كُلِّ مِائَةِ شَاةٍ شَاةٌ.
وَأَيَّ شَاةٍ أَعْطَى صَاحِبُ الْغَنَمِ فَلَيْسَ لِلْمُصَدِّقِ، وَلاَ لاَِهْلِ الصَّدَقَاتِ رَدُّهَا, مِنْ غَنَمِهِ كَانَتْ أَوْ مِنْ غَيْرِ غَنَمِهِ, مَا لَمْ تَكُنْ هَرِمَةً أَوْ مَعِيبَةً; فَإِنْ أَعْطَاهُ هَرِمَةً; أَوْ مَعِيبَةً فَالْمُصَدِّقُ مُخَيَّرٌ, إنْ شَاءَ أَخَذَهَا وَأَجْزَأَتْ عَنْهُ, وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَكَلَّفَهُ فَتِيَّةً سَلِيمَةً, وَلاَ نُبَالِي كَانَتْ تُجْزِئُ فِي الأَضَاحِيِّ أَوْ لاَ تُجْزِئُ.
وَالْمُصَدِّقُ هُوَ الَّذِي يَبْعَثُهُ الإِمَامُ الْوَاجِبَةُ طَاعَتُهُ أَوْ أَمِيرُهُ فِي قَبْضِ الصَّدَقَاتِ،

(5/268)


وَلاَ يَجُوزُ لِلْمُصَدِّقِ أَنْ يَأْخُذَ تَيْسًا ذَكَرًا إلاَّ أَنْ يَرْضَى صَاحِبُ الْغَنَمِ; فَيَجُوزُ لَهُ حِينَئِذٍ;، وَلاَ يَجُوزُ لِلْمُصَدِّقِ أَنْ يَأْخُذَ أَفْضَلَ الْغَنَمِ, فَإِنْ كَانَتْ الَّتِي تَرْبَى أَوْ السَّمِينَةُ لَيْسَتْ مِنْ أَفْضَلِ الْغَنَمِ جَازَ أَخْذُهَا; فَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا فَاضِلَةً أَخَذَ مِنْهَا إنْ أَعْطَاهُ صَاحِبُهَا, سَوَاءٌ فِيمَا ذَكَرْنَا كَانَ صَاحِبُهَا حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا إذَا أَخَذَ الْمُصَدِّقُ مَا ذَكَرْنَا أَجَزَّأَ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى الأَنْصَارِيُّ، حدثنا أَبِي، حدثنا ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ كَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابَ لَمَّا وَجَّهَهُ إلَى الْبَحْرَيْنِ: "هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمُسْلِمِينَ; فَمَنْ سَأَلَهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِهَا فَلْيُعْطِهَا, وَمَنْ سَأَلَ فَوْقَهَا فَلاَ يُعْطَ". ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: "فِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا إذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ شَاةٌ" فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ إلَى مِائَتَيْنِ فَشَاتَانِ; فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَتَيْنِ إلَى ثَلَثِمِائَةٍ فَفِيهَا ثَلاَثُ شِيَاهٍ; فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلاَثِمِائَةٍ فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ "فَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ نَاقِصَةً مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةٌ وَاحِدَةٌ فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا, وَلاَ يُخْرِجُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةً, وَلاَ ذَاتُ عَوَارٍ, وَلاَ تَيْسٌ إلاَّ مَا شَاءَ الْمُصَدِّقُ".
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ السَّلِيمِ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا أَبُو دَاوُد، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ النُّفَيْلِيِّ، حدثنا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كِتَابَ الصَّدَقَةِ فَلَمْ يُخْرِجْهُ إلَى عُمَّالِهِ حَتَّى قُبِضَ عليه السلام, فَعَمِلَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى قُبِضَ, ثُمَّ عَمِلَ بِهِ عُمَرُ حَتَّى قُبِضَ, فَكَانَ فِيهِ ذِكْرُ الْفَرَائِضِ: "وَفِي الْغَنَمِ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ, إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ, فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَشَاتَانِ إلَى مِائَتَيْنِ, فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةٌ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَفِيهَا ثَلاَثُ شِيَاهٍ إلَى ثَلَثِمِائَةٍ, فَإِنْ

(5/269)


كَانَتْ الْغَنَمُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَفِي كُلِّ مِائَةِ شَاةٍ شَاةٌ, وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ الْمِائَةَ".
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا مُحَمَّدٌ، هُوَ ابْنُ مُقَاتِلٍ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، حدثنا زَكَرِيَّا بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيِّ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: "فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ, فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ, وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ, فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ".
فَفِي هَذِهِ الأَخْبَارِ نَصُّ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا وَفِي بَعْضِ ذَلِكَ خِلاَفٌ.
فَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ قَوْمًا قَالُوا: لاَ يُؤْخَذُ مِنْ الضَّأْنِ إلاَّ ضَانِيَةٌ, وَمِنْ الْمَعْزِ إلاَّ مَاعِزَةٌ فَإِنْ كَانَا خَلِيطَيْنِ أُخِذَ مِنْ الأَكْثَرِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا قَوْلٌ بِلاَ بُرْهَانٍ, لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ، وَلاَ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ, وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ، وَلاَ قِيَاسٍ; بَلْ الَّذِي ذَكَرُوا خِلاَفٌ لِلسُّنَنِ الْمَذْكُورَةِ, وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى جَمْعِ الْمَعْزَى مَعَ الضَّأْنِ, وَعَلَى أَنَّ اسْمَ غَنَمٍ يَعُمُّهَا, وَأَنَّ اسْمَ الشَّاةِ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ مِنْ الْمَاعِزِ, وَمِنْ الضَّأْنِ; وَلَوْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ فِي حُكْمِهَا فَرْقًا لَبَيَّنَهُ, كَمَا خَصَّ التَّيْسَ, وَإِنْ وُجِدَ فِي اللُّغَةِ اسْمُ التَّيْسِ يَقَعُ عَلَى الْكَبْشِ وَجَبَ أَنْ لاَ يُؤْخَذَ فِي الصَّدَقَةِ إلاَّ بِرِضَا الْمُصَدِّقِ. وَالْعَجَبُ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ أَخْذِ الْمَاعِزَةِ، عَنِ الضَّأْنِ أَجَازَ أَخْذَ الذَّهَبِ، عَنِ الْفِضَّةِ وَالْفِضَّةَ، عَنِ الذَّهَبِ وَهُمَا عِنْدَهُ صِنْفَانِ, يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِمَا بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلاً.
وَالْخِلاَفُ أَيْضًا فِي مَكَان آخَرَ: وَهُوَ أَنَّ قَوْمًا قَالُوا: إنْ مَلَكَ مِائَةَ شَاةٍ وَعِشْرِينَ شَاةً وَبَعْضَ شَاةٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلاَّ شَاةٌ وَاحِدَةٌ حَتَّى يَتِمَّ فِي مِلْكِهِ مِائَةٌ وَإِحْدَى وَعِشْرُونَ, وَمَنْ مَلَكَ مِائَتَيْ شَاةٍ وَبَعْضَ شَاةٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلاَّ شَاتَانِ حَتَّى يَتِمَّ فِي مِلْكِهِ مِائَتَا شَاةٍ وَشَاةٌ. وَاحْتَجُّوا بِمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ "فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةٌ" كَمَا أَوْرَدْنَاهُ.

(5/270)


قال أبو محمد: فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا ذَكَرُوا, وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الَّذِي أَوْرَدْنَا "فَإِنْ زَادَتْ" وَلَمْ يَقُلْ "وَاحِدَةٌ" فَوَجَدْنَا الْخَبَرَيْنِ جَمِيعًا مُتَّفِقَيْنِ عَلَى أَنَّهَا إنْ زَادَتْ وَاحِدَةٌ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ شَاةً أَوْ عَلَى مِائَتَيْ شَاةٍ فَقَدْ انْتَقَلَتْ الْفَرِيضَةُ. وَوَجَدْنَا حَدِيثَ أَبِي بَكْرٍ يُوجِبُ انْتِقَالَ الْفَرِيضَةِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْمِائَةِ وَعِشْرِينَ وَعَلَى الْمِائَتَيْنِ, فَكَانَ هَذَا عُمُومًا لِكُلِّ زِيَادَةٍ, وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ أَصْلاً, فَصَارَ مَنْ قَالَ بِقَوْلِنَا قَدْ أَخَذَ بِالْحَدِيثَيْنِ, فَلَمْ يُخَالِفْ وَاحِدًا مِنْهُمَا; وَصَارَ مَنْ قَالَ بِخِلاَفِ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِحَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ, مُخَصِّصًا لَهُ بِلاَ بُرْهَانٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَهَاهُنَا أَيْضًا خِلاَفٌ آخَرُ: وَهُوَ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ, ثُمَّ اتَّفَقَ شُعْبَةُ, وَسُفْيَانُ كِلاَهُمَا، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: إذَا زَادَتْ الْغَنَمُ وَاحِدَةٌ عَلَى ثَلَثِمِائَةٍ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ إلَى أَرْبَعِمِائَةٍ, فَكُلُّ مَا زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَهُوَ كَذَلِكَ.
قال أبو محمد: وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَقَدْ يَلْزَمُ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ لاَ سِيَّمَا الْمَالِكِيِّينَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْقِيَاسَ أَقْوَى مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ, وَالْحَنَفِيِّينَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ مَا عَظُمَتْ بِهِ الْبَلْوَى لاَ يُقْبَلُ فِيهِ خَبَرُ الْوَاحِد: أَنْ يَقُولُوا بِقَوْلِ إبْرَاهِيمَ; لأَنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمِائَتَيْ شَاةٍ إذَا زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَإِنَّ الْفَرِيضَةَ تَنْتَقِلُ وَيَجِبُ فِيهَا ثَلاَثُ شِيَاهٍ, فَكَذَلِكَ إذَا زَادَتْ عَلَى الثَّلاَثِمِائَةِ وَاحِدَةٌ أَيْضًا, فَيَجِبُ أَنْ تَنْتَقِلَ الْفَرِيضَةُ, وَلاَ سِيَّمَا وَالْحَنَفِيُّونَ قَدْ قَلَّدُوا إبْرَاهِيمَ فِي أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ الْبَقَرَةِ الْوَاحِدَةِ تَزِيدُ عَلَى أَرْبَعِينَ بَقَرَةً, وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا فِي الْبَقَرِ وَقْصًا مِنْ تِسْعَةَ عَشَرَ أَنْ يُقَلِّدُوهُ هَاهُنَا وَيَقُولُوا: لَمْ نَجِدْ فِي الْغَنَمِ وَقْصًا مِنْ مِائَةٍ وَثَمَانٍ وَتِسْعِينَ شَاةً; لاَ سِيَّمَا وَمَعَهُمْ هَاهُنَا فِي الْغَنَمِ قِيَاسٌ مُطَرَّدٌ, وَلَيْسَ مَعَهُمْ فِي الْبَقَرِ قِيَاسٌ أَصْلاً, وَكُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ فِي الْبَقَرِ فَهُوَ لاَزِمٌ لَهُمْ فِيمَا زَادَ عَلَى الثَّلاَثِمِائَةِ مِنْ الْغَنَمِ مِنْ قوله تعالى :{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَة} ًوَنَحْوُ ذَلِكَ وَهَلاَّ قَالُوا: هَذَا مِمَّا تَعْظُمُ بِهِ الْبَلْوَى فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَا جَهِلَهُ إبْرَاهِيمُ.

(5/271)


فَإِنْ قَالُوا: إنَّ خِلاَفَ قَوْلِ إبْرَاهِيمَ قَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ, وَخَبَرِ ابْنِ عُمَرَ, وَعَنْ عَلِيٍّ, وَعَنْ صَحِيفَةِ ابْنِ حَزْمٍ.
قلنا: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الأَخْبَارِ إلاَّ وَقَدْ خَالَفْتُمُوهَا, فَلَمْ تَكُنْ حُجَّةٌ فِيمَا خَالَفْتُمُوهُ فِيهِ, وَكَانَ حُجَّةٌ عِنْدَكُمْ فِيمَا اشْتَهَيْتُمْ, وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا!!
قال أبو محمد: كُلُّهُ خَبْطٌ لاَ مَعْنَى لَهُ وَإِنَّمَا نُرِيهِمْ تَنَاقُضَهُمْ وَتَحَكُّمَهُمْ فِي الدِّينِ بِتَرْكِ الْقِيَاسِ لِلسُّنَنِ إذَا وَافَقَتْ تَقْلِيدَهُمْ, وَبِتَرْكِ السُّنَنِ لِلْقِيَاسِ كَذَلِكَ, وَبِتَرْكِهِمَا جَمِيعًا كَذَلِكَ وَأَمَّا مَنْ رَاعَى فِي الشَّاةِ الْمَأْخُوذَةِ مَا تُجْزِئُ مِنْ الآُضْحِيَّةِ وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَدْ أَخْطَأَ; لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِمَا قَالَ نَصٌّ وَلاَ إجْمَاعٌ; فَكَيْفَ وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَخْذِ الْجَذَعَةِ فَمَا دُونَهَا فِي زَكَاةِ الإِبِلِ, وَلاَ تُجْزِئُ فِي الآُضْحِيَّةِ, وَإِنَّمَا قَالَ عليه السلام لاَِبِي بُرْدَةَ "وَلَنْ تُجْزِئَ جَذَعَةٌ لاَِحَدٍ بَعْدَكَ" يَعْنِي فِي الآُضْحِيَّةِ; لاَِنَّهُ عَنْهَا سَأَلَهُ, وَقَدْ صَحَّ النَّصُّ بِإِيجَابِ الْجَذَعَةِ فِي زَكَاةِ الإِبِلِ; فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يَعْنِ إلاَّ الآُضْحِيَّةَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا إنْ كَانَتْ الْغَنَمُ كُلُّهَا كَرَائِمُ أَخَذَ مِنْهَا بِرِضَا صَاحِبِهَا; فَلاَِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنْ كَرَائِمِ الْغَنَم, وَهَذَا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فِي الْغَنَمِ، وَلاَ بُدَّ مَا لَيْسَ بِكَرَائِمَ, وَأَمَّا إذَا كَانَتْ كُلُّهَا كَرَائِمُ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا: هَذِهِ كَرَائِمُ هَذِهِ الْغَنَمِ; لَكِنْ يُقَالُ هَذِهِ كَرِيمَةٌ مِنْ هَذِهِ الْغَنَمِ الْكَرَائِمِ.
وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: يُؤْمَرُ الْمُصَدِّقُ أَنْ يَصْدَعَ الْغَنَمَ صَدْعَيْنِ فَيَخْتَارُ صَاحِبُ الْغَنَمِ خَيْرَ الصَّدْعَيْنِ وَيَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ مِنْ الآخَرِ.
وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، أَنَّهُ قَالَ: يُفَرِّقُ الْغَنَمَ أَثْلاَثًا, ثُلُثُ خِيَارٍ, وَثُلُثُ رُذَالٍ, وَثُلُثُ وَسَطٍ; ثُمَّ تَكُونُ الصَّدَقَةُ فِي الْوَسَطِ.
قال أبو محمد: هَذَا لاَ نَصَّ فِيهِ، وَلَكِنْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: لاَ يَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ هَرِمَةً، وَلاَ ذَاتَ عَوَارٍ، وَلاَ تَيْسًا.

(5/272)


وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرِ الصِّدِّيقُ: "وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلْتهمْ عَلَيْهَا".
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنِي بِشْرُ بْنُ عَاصِم بْنِ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ سُفْيَانَ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لَهُ: قُلْ لَهُمْ: إنِّي لاَ آخُذُ الشَّاةَ الأَكُولَةَ، وَلاَ فَحْلَ الْغَنَمِ, وَلاَ الرُّبَى، وَلاَ الْمَاخِضَ, وَلَكِنِّي آخُذُ الْعَنَاقَ وَالْجَذَعَةَ، وَالثَّنِيَّةَ وَذَلِكَ عَدْلٌ بَيْنَ غِذَاءِ الْمَالِ وَخِيَارِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُحَارِبِيِّ أَنَّ عُمَرَ بَعَثَهُ مُصْدِقًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْجَذَعَةَ وَالثَّنِيَّةَ.

(5/273)


و ما صغر عن أن يسمى شاة لكن يسمى خروفا أو جديا أو سخلة لم يجز أن يؤخذ في الصدقة الواجبة
...
672 - مَسْأَلَةٌ: وَمَا صَغُرَ، عَنْ أَنْ يُسَمَّى: شَاةً, لَكِنْ يُسَمَّى خَرُوفًا, أَوْ جَدْيًا, أَوْ سَخْلَةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْخَذَ فِي الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ،
وَلاَ أَنْ يُعَدَّ فِيمَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الصَّدَقَةُ، إلاَّ أَنْ يُتِمَّ سَنَةً، فَإِذَا أَتَمَّهَا عُدَّ, وَأُخِذَتْ الزَّكَاةُ مِنْهُ.
قال أبو محمد: هَذَا مَكَانٌ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ.
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُضَمُّ الْفَوَائِدُ كُلُّهَا مِنْ الذَّهَبِ, وَالْفِضَّةِ, وَالْمَوَاشِي, إلَى مَا عِنْدَ صَاحِبِ الْمَالِ فَتُزَكَّى مَعَ مَا كَانَ عِنْدَهُ, وَلَوْ لَمْ يَفِدْهَا إلاَّ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ بِسَاعَةٍ. هَذَا إذَا كَانَ الَّذِي عِنْدَهُ تَجِبُ فِي مِقْدَارِ مَا مَعَهُ الزَّكَاةُ, وَإِلاَّ فَلاَ, وَإِنَّمَا يُرَاعَى فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ نِصَابٌ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ وَآخِرِهِ, وَلاَ يُبَالِي أَنَقَصَ فِي دَاخِلِ الْحَوْلِ، عَنِ النِّصَابِ أَمْ لاَ قَال: فَإِنْ مَاتَتْ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ كُلَّهَا وَبَقِيَ مِنْ عَدَدِ الْخِرْفَانِ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِينَ: فَلاَ زَكَاةَ فِيهَا.
وَكَذَلِكَ لَوْ مَلَكَ ثَلاَثِينَ عِجْلاً فَصَاعِدًا، أَوْ خَمْسًا مِنْ الْفُصْلاَنِ فَصَاعِدًا، عَامًا كَامِلاً دُونَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا مُسِنَّةٌ وَاحِدَةٌ فَمَا فَوْقَهَا، فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهَا. وقال مالك: لاَ تُضَمُّ فَوَائِدُ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، إلَى مَا عِنْدَ الْمُسْلِمِ مِنْهَا بَلْ يُزَكَّى كُلُّ مَالٍ بِحَوْلِهِ, حَاشَا رِبْحَ الْمَالِ وَفَوَائِدَ الْمَوَاشِي كُلِّهَا فَإِنَّهَا تُضَمُّ إلَى مَا عِنْدَهُ وَيُزَكَّى الْجَمِيعُ بِحَوْلِ مَا كَانَ عِنْدَهُ، وَلَوْ لَمْ يُفِدْهَا إلاَّ قَبْلَ الْحَوْلِ بِسَاعَةٍ، إلاَّ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ فَائِدَةِ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَالْمَاشِيَةِ, مِنْ غَيْرِ الْوِلاَدَةِ, فَلَمْ يَرَ أَنْ يُضَمَّ إلَى مَا عِنْدَ الْمَرْءِ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ إلاَّ إذَا كَانَ الَّذِي عِنْدَهُ مِنْهَا مِقْدَارًا تَجِبُ فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ وَإِلاَّ فَلاَ. وَرَأَى أَنْ تُضَمَّ وِلاَدَةُ الْمَاشِيَةِ خَاصَّةً إلَى مَا عِنْدَهُ مِنْهَا, سَوَاءٌ كَانَ الَّذِي عِنْدَهُ مِنْهَا تَجِبُ فِي مِقْدَارِهِ الزَّكَاةُ أَوْ لاَ تَجِبُ فِي مِقْدَارِهِ الزَّكَاةُ.
وقال الشافعي: لاَ تُضَمُّ فَائِدَةٌ أَصْلاً إلَى مَا عِنْدَهُ, إلاَّ أَوْلاَدَ الْمَاشِيَةِ فَقَطْ, فَإِنَّهَا تُعَدُّ مَعَ أُمَّهَاتِهَا, وَلَوْ لَمْ يَتِمَّ الْعَدَدُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ الزَّكَاةُ بِهَا إلاَّ قَبْلَ الْحَوْلِ بِسَاعَةٍ, هَذَا إذَا كَانَتْ الآُمَّهَاتُ نِصَابًا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَإِلاَّ فَلاَ, فَإِنْ نَقَصَتْ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ، عَنِ النِّصَابِ فَلاَ زَكَاةَ فِيهَا.
قال أبو محمد: أَمَّا تَنَاقُضُ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ وَتَقْسِيمِهِمَا فَلاَ خَفَاءَ بِهِ, لاَِنَّهُمَا قَسَّمَا تَقْسِيمًا لاَ بُرْهَانَ عَلَى صِحَّتِهِ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَلَهُ هَاهُنَا أَيْضًا تَنَاقُضٌ أَشْنَعُ مِنْ تَنَاقُضِ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَهُوَ

(5/274)


أَنَّهُ رَأَى أَنْ يُرَاعَى أَوَّلُ الْحَوْلِ وَآخِرِهِ دُونَ وَسَطٍ, وَرَأَى أَنْ تُعَدَّ أَوْلاَدُ الْمَاشِيَةِ مَعَ أُمَّهَاتِهَا وَلَوْ لَمْ تَضَعْهَا إلاَّ قَبْلَ مَجِيءِ السَّاعِي بِسَاعَةٍ, ثُمَّ رَأَى فِي أَرْبَعِينَ خَرُوفًا صِغَارًا وَمَعَهَا شَاةٌ وَاحِدَةٌ مُسِنَّةٌ أَنَّ فِيهَا الزَّكَاةَ, وَهِيَ تِلْكَ الْمُسِنَّةُ فَقَطْ; فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا مُسِنَّةٌ فَلاَ زَكَاةَ فِيهَا, فَإِنْ كَانَتْ مَعَهُ مِائَةُ خَرُوفٍ وَعِشْرُونَ خَرُوفًا صِغَارًا كُلَّهَا وَمَعَهَا مُسِنَّةٌ وَاحِدَةٌ. قَالَ: إنْ كَانَ فِيهَا مُسِنَّتَانِ فَصَدَقَتُهَا تَانِكَ الْمُسِنَّتَانِ مَعًا, وَإِنْ كَانَ لَيْسَ مَعَهُمَا إلاَّ مُسِنَّةٌ وَاحِدَةٌ فَلَيْسَ فِيهَا إلاَّ تِلْكَ الْمُسِنَّةِ وَحْدَهَا فَقَطْ, فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا مُسِنَّةٌ فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ أَصْلاً. وَهَكَذَا قَالَ فِي الْعَجَاجِيلِ وَالْفُصْلاَنِ أَيْضًا, وَلَوْ مَلَكَهَا سَنَةً فَأَكْثَرَ!!
قال أبو محمد: وَهَذِهِ شَرِيعَةُ إبْلِيسَ لاَ شَرِيعَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَعْنِي قَوْلَهُ: إنْ كَانَ مَعَ الْمِائَةِ خَرُوفٌ وَالْعِشْرُونَ خَرُوفًا: مُسِنَّتَانِ زَائِدَتَانِ أُخِذَتَا، عَنْ زَكَاةِ الْخِرْفَانِ كِلْتَاهُمَا, فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا إلاَّ مُسِنَّةٌ وَاحِدَةٌ: أُخِذَتْ وَحْدُهَا، عَنْ زَكَاةِ الْخِرْفَانِ، وَلاَ مَزِيدَ وَمَا جَاءَ بِهَذَا قَطُّ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ، وَلاَ رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ وَلاَ قَوْلُ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلاَ مِنْ التَّابِعِينَ, وَلاَ أَحَدُ نَعْلَمُهُ قَبْلَ أَبِي حَنِيفَةَ, وَلاَ قِيَاسٌ، وَلاَ رَأْيٌ سَدِيدٌ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ مَرَّةً فِي أَرْبَعِينَ خَرُوفًا: يُؤْخَذُ، عَنْ زَكَاتِهَا شَاةٌ مُسِنَّةٌ, وَبِهِ يَأْخُذُ زُفَرُ, ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَنْ قَالَ: بَلْ يُؤْخَذُ، عَنْ زَكَاتِهَا خَرُوفٌ مِنْهَا; وَبِهِ يَأْخُذُ أَبُو يُوسُفَ; ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَنْ قَالَ: لاَ زَكَاةَ فِيهَا; وَبِهِ يَأْخُذُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ.
وقال مالك كَقَوْلِ زُفَرَ, وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ, وَالشَّافِعِيُّ, كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ, وَقَالَ الشَّعْبِيُّ, وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ كَقَوْلِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ.
قال أبو محمد: احْتَجَّ مَنْ رَأَى أَنْ تُعَدَّ الْخِرْفَانُ مَعَ أُمَّهَاتِهَا بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ كَانَ مُصَدِّقًا فِي مَخَالِيفِ الطَّائِفِ, فَشَكَا إلَيْهِ أَهْلُ الْمَاشِيَةِ تَصْدِيقَ الْغِذَاءِ, وَقَالُوا: إنْ

(5/275)


كُنْت مُعْتَدًّا بِالْغِذَاءِ فَخُذْ مِنْهُ صَدَقَتَهُ. قَالَ عُمَرُ: فَقُلْ لَهُمْ: إنَّا نَعْتَدُّ بِالْغِذَاءِ كُلِّهَا حَتَّى السَّخْلَةُ يَرُوحُ بِهَا الرَّاعِي عَلَى يَدِهِ وَقُلْ لَهُمْ: إنِّي لاَ آخُذُ الشَّاةَ الأَكُولَةَ، وَلاَ فَحْلَ الْغَنَمِ, وَلاَ الرُّبَى, وَلاَ الْمَاخِضَ، وَلَكِنِّي آخُذُ الْعَنَاقُ, وَالْجَذَعَةَ, وَالثَّنِيَّةَ: وَذَلِكَ عَدْلٌ بَيْنَ غِذَاءِ الْمَالِ, وَخِيَارِهِ.
وَرُوِّينَا هَذَا أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُفْيَانَ وَمِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ سُفْيَانَ. مَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً غَيْرَ هَذَا.
قال أبو محمد: وَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لِوُجُوهٍ.
أَوَّلُهَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلاَ حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَهُ.
وَالثَّانِي أَنَّهُ قَدْ خَالَفَ عُمَرُ رضي الله عنه فِي هَذَا غَيْرَهُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا حَدَّثَنَا حمام، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا الدَّبَرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ كَانَ لاَ يَأْخُذُ مِنْ مَالِ زَكَاةٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ.
َحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَصْرٍ، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ، حدثنا مُوسَى بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ حَارِثَةَ بْنِ أَبِي الرِّجَالِ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: لاَ يُزَكَّى حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ: تَعْنِي الْمَالَ الْمُسْتَفَادَ.
وَبِهِ إلَى سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: مَنْ اسْتَفَادَ مَالاً فَلاَ زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ.
وَبِهِ إلَى سُفْيَانَ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَنْ اسْتَفَادَ مَالاً فَلاَ زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ.
فَهَذَا عُمُومٌ مِنْ أَبِي بَكْرٍ, وَعَائِشَةَ, وَعَلِيٍّ, وَابْنِ عُمَرَ، رضي الله عنهم،, لَمْ يَخُصُّوا فَائِدَةَ مَاشِيَةٍ بِوِلاَدَةٍ مِنْ سَائِرِ مَا يُسْتَفَادُ; وَلَيْسَ لاَِحَدٍ أَنْ يَقُولَ إنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ أَوْلاَدَ الْمَاشِيَةِ إلاَّ كَانَ كَاذِبًا عَلَيْهِمْ, وَقَائِلاً بِالْبَاطِلِ الَّذِي لَمْ يَقُولُوهُ قَطُّ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الَّذِينَ حَكَى عَنْهُمْ سُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا أَنْ يَعُدَّ عَلَيْهِمْ أَوْلاَدَ

(5/276)


الْمَاشِيَةِ مَعَ أُمَّهَاتِهَا: قَدْ كَانَ فِيهِمْ بِلاَ شَكٍّ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لإِنَّ سُفْيَانَ ذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ أَيَّامَ عُمَرَ رضي الله عنه وَلِيَ الأَمْرَ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِسَنَتَيْنِ وَنِصْفٍ, وَبَقِيَ عَشْرَ سِنِينَ, وَمَاتَ بَعْدَ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِثَلاَثَ عَشْرَةَ سَنَةً, وَكَانُوا بِالطَّائِفِ, وَأَهْلُ الطَّائِفِ أَسْلَمُوا قَبْلَ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِ عَامٍ وَنِصْفٍ وَرَأَوْهُ عَلَيْهِ فَقَدْ صَحَّ الْخِلاَفُ فِي هَذَا مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، بِلاَ شَكٍّ, وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَلَيْسَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ بَعْضٍ; وَالْوَاجِبُ فِي ذَلِكَ مَا افْتَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذْ يَقُولُ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}.
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لَمْ يُرْوَ هَذَا، عَنْ عُمَرَ مِنْ طَرِيقٍ مُتَّصِلَةٍ إلاَّ مِنْ طَرِيقَيْنِ: إحْدَاهُمَا: مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ, وَكِلاَهُمَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ أَوْ مِنْ طَرِيقِ ابْنٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُفْيَانَ لَمْ يُسَمَّ. وَالثَّانِيَةُ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ, وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَالرَّابِعُ أَنَّ الْحَنَفِيِّينَ, وَالشَّافِعِيِّينَ: خَالَفُوا قَوْلَ عُمَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَفْسِهَا, فَقَالُوا: لاَ يُعْتَدُّ بِمَا وَلَدَتْ الْمَاشِيَةُ إلاَّ أَنْ تَكُونَ الآُمَّهَاتُ دُونَ الأَوْلاَدِ عَدَدًا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَإِلاَّ فَلاَ تُعَدُّ عَلَيْهِمْ الأَوْلاَدُ, وَلَيْسَ هَذَا فِي حَدِيثِ عُمَرَ.
وَالْخَامِسُ أَنَّهُمْ لاَ يَلْتَفِتُونَ مَا قَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه بِأَصَحِّ مِنْ هَذَا الإِسْنَادِ, أَشْيَاءَ لاَ يُعْرَفُ لَهُ فِيهَا مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،, إذَا خَالَفَ رَأْيَ مَالِكٍ, وَأَبِي حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ: كَتَرْكِ الْحَنَفِيِّينَ, وَالشَّافِعِيِّينَ قَوْلَ عُمَرَ: الْمَاءُ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ. وَتَرْكِ الْحَنَفِيِّينَ, وَالْمَالِكِيِّينَ, وَالشَّافِعِيِّينَ: أَخْذَ عُمَرَ الزَّكَاةَ مِنْ الرَّقِيقِ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ, وَصِفَةِ أَخْذِهِ الزَّكَاةَ مِنْ الْخَيْلِ. وَتَرْكِ الْحَنَفِيِّينَ إيجَابَ عُمَرَ الزَّكَاةَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ, وَلاَ يَصِحُّ خِلاَفُهُ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،. وَتَرْكِ الْحَنَفِيِّينَ, وَالْمَالِكِيِّينَ: أَمْرَ عُمَرَ الْخَارِصَ بِأَنْ يَتْرُكَ لاَِصْحَابِ النَّخْلِ مَا يَأْكُلُونَهُ لاَ يَخْرُصُهُ عَلَيْهِمْ, وَغَيْرِ هَذَا كَثِيرٌ جِدًّا فَقَدْ وَضَحَ أَنَّ احْتِجَاجَهُمْ

(5/277)


بِعُمَرَ إنَّمَا هُوَ حَيْثُ وَافَقَ شَهَوَاتِهِمْ لاَ حَيْثُ صَحَّ عَنْ عُمَرَ مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ وَهَذَا عَظِيمٌ فِي الدِّينِ جِدًّا.
قال أبو محمد: الْمَرْجُوعُ إلَيْهِ عِنْدَ التَّنَازُعِ هُوَ الْقُرْآنُ وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَظَرْنَا فِي ذَلِكَ فَوَجَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا أَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي أَرْبَعِينَ شَاةٍ فَصَاعِدًا كَمَا وَصَفْنَا, وَأَوْجَبَ فِيهَا شَاةً أَوْ شَاتَيْنِ أَوْ فِي كُلِّ مِائَةِ شَاةٍ شَاةً, وَأَسْقَطَهَا عَمَّا عَدَا ذَلِكَ. وَوَجَدْنَا الْخِرْفَانَ وَالْجِدْيَانَ لاَ يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ شَاةٍ، وَلاَ اسْمُ شَاءٍ فِي اللُّغَةِ الَّتِي أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا بِهَا دِينَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَخَرَجَتْ الْخِرْفَانُ, وَالْجِدْيَانُ، عَنْ أَنْ تَجِبَ فِيهَا زَكَاةٌ. وَأَيْضًا فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنْ لاَ يُؤْخَذَ خَرُوفٌ، وَلاَ جَدْيٌ فِي الْوَاجِبِ فِي الزَّكَاةِ، عَنِ الشَّاءِ فَأَقَرُّوا بِأَنَّهُ لاَ يُسَمَّى شَاةً، وَلاَ لَهُ حُكْمُ الشَّاءِ, فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهَا زَكَاةٌ, فَلاَ تَجُوزُ هِيَ فِي الزَّكَاةِ بِغَيْرِ نَصٍّ فِي ذَلِكَ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ زَكَاةَ مَاشِيَةٍ لَمْ يَحُلْ عَلَيْهَا حَوْلٌ لَمْ يَأْتِ بِهِ قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ, وَلاَ إجْمَاعٌ.
وَأَمَّا مَنْ مَلَكَ خِرْفَانًا أَوْ عُجُولاً أَوْ فُصْلاَنًا سَنَةً كَامِلَةً فَالزَّكَاةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ عِنْدَ تَمَامِ الْعَامِ، لإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ يُسَمَّى غَنَمًا, وَبَقَرًا وَإِبِلاً.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، حدثنا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ هِلاَلِ بْنِ خَبَّابٍ، عَنْ مَيْسَرَةَ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: "أَتَانَا مُصَدِّقُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَلَسْتُ إلَيْهِ, فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: "إنَّ فِي عَهْدِي أَنْ لاَ نَأْخُذَ مِنْ رَاضِعِ لَبَنٍ".
قال أبو محمد: لَوْ أَرَادَ أَنْ لاَ يُؤْخَذَ هُوَ فِي الزَّكَاةِ لَقَالَ: "أَنْ لاَ نَأْخُذَ رَاضِعَ لَبَنٍ" لَكِنْ لَمَّا مُنِعَ مِنْ أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ رَاضِعِ لَبَنٍ وَرَاضِعُ لَبَنٍ اسْمٌ لِلْجِنْسِ صَحَّ بِذَلِكَ

(5/278)


أَنْ لاَ تُعَدَّ الرَّوَاضِعُ فِيمَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الزَّكَاةُ.
وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا عَابَ هِلاَلَ بْنَ خَبَّابٍ, إلاَّ أَنَّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ قَالَ: لَقِيته وَقَدْ تَغَيَّرَ, وَهَذَا لَيْسَ جُرْحَةٌ, لإِنَّ هُشَيْمًا أَسَنُّ مِنْ يَحْيَى بِنَحْوِ عِشْرِينَ سَنَةً, فَكَانَ لِقَاءُ هُشَيْمٍ لِهِلاَلٍ قَبْلَ تَغَيُّرِهِ بِلاَ شَكٍّ.
وَأَمَّا سُوَيْدٌ فَأَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَتَى إلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ عليه السلام بِنَحْوِ خَمْسِ لَيَالٍ, وَأَفْتَى أَيَّامَ عُمَرَ رضي الله عنه.
قال أبو محمد: وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ, وَأَبُو يُوسُفَ فَطَرَدَا قَوْلَهُمَا, إذْ أَوْجَبَا أَخْذَ خَرُوفٍ صَغِيرٍ فِي الزَّكَاةِ، عَنْ أَرْبَعِينَ خَرُوفًا فَصَاعِدًا, وُلِدَتْ قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ مَاتَتْ أُمَّهَاتُهَا.
وَأَخْذُ مِثْلِ هَذَا فِي الزَّكَاةِ عَجَبٌ جِدًّا.
وَأَمَّا إذَا أَتَمَّتْ سَنَةً فَاسْمُ شَاةٍ يَقَعُ عَلَيْهَا فَهِيَ مَعْدُودَةٌ وَمَأْخُوذَةٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَحَصَلُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنْ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ قَلَّدُوا عُمَرَ رضي الله عنه، وَهُمْ قَدْ خَالَفُوهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَفْسِهَا, فَلَمْ يَرَ أَبُو حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ أَنْ تُعَدَّ الأَوْلاَدُ مَعَ الآُمَّهَاتِ إلاَّ إذَا كَانَتْ الآُمَّهَاتُ نِصَابًا; وَلَمْ يَقُلْ عُمَرُ كَذَلِكَ.
وَحَصَلَ مَالِكٌ عَلَى قِيَاسٍ فَاسِدٍ مُتَنَاقِضٍ; لاَِنَّهُ قَاسَ فَائِدَةَ الْمَاشِيَةِ خَاصَّةً دُونَ سَائِرِ الْفَوَائِدِ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ عُمَرَ مِنْ عَدِّ أَوْلاَدِهَا مَعَهَا, ثُمَّ نَقَضَ قِيَاسَهُ فَرَأَى أَنْ لاَ تُضَمَّ فَائِدَةُ الْمَاشِيَةِ بِهِبَةٍ, أَوْ مِيرَاثٍ, أَوْ شِرَاءِ إلَى مَا عِنْدَهُ مِنْهَا إلاَّ إنْ كَانَ مَا عِنْدَهُ نِصَابًا تَجِبُ فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ وَإِلاَّ فَلاَ وَرَأَى أَنْ تُضَمَّ أَوْلاَدُهَا إلَيْهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الآُمَّهَاتُ نِصَابًا تَجِبُ فِي الزَّكَاةِ.
وَهَذِهِ تَقَاسِيمَ لاَ يُعْرَفُ أَحَدُ قَالَ بِهَا قَبْلَهُمْ, وَلاَ هُمْ اتَّبَعُوا عُمَرَ, وَلاَ طَرَدُوا الْقِيَاسَ, وَلاَ اتَّبَعُوا نَصَّ السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ.
"تم الجزء الخامس من كتاب المحلى للإمام العلامة أبي محمد على المشهور بابن حزم ولله الحمد ويتلوه إن شاء الله تعالى الجزء السادس مفتتحا "بزكاة البقر" فنسأل الله التوفيق لاتمامه أنه على ما يشاء قدير وبالاجابة جدير"

(5/279)