المحلى
بالآثار شرح المجلى بالإختصار
كتاب الاعتكاف
يجوز اعتكاف يوم دون ليلة و ليلة دون يوم و
ما أحب الرجل أو المرأة
...
كِتَابُ الاِعْتِكَافِ
الاِعْتِكَافُ: هُوَ الإِقَامَةُ فِي الْمَسْجِدِ بِنِيَّةِ
التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ سَاعَةً فَمَا فَوْقَهَا,
لَيْلاً, أَوْ نَهَارًا.
624 - مَسْأَلَةٌ: وَيَجُوزُ اعْتِكَافُ يَوْمٍ دُونَ لَيْلَةٍ,
وَلَيْلَةٍ دُونَ يَوْمٍ, وَمَا أَحَبَّ الرَّجُلُ, أَوْ الْمَرْأَةُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ
وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِد}.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ
التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ
عَوْفٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الأَوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ,
وَأَنَّهُ عليه السلام قَالَ: "مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي
فَلْيَعْتَكِفْ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ".
فَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ, وَبِالْعَرَبِيَّةِ
خَاطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَالاِعْتِكَافُ فِي
لُغَةِ الْعَرَبِ: الإِقَامَةُ, قَالَ تَعَالَى: {مَا هَذِهِ
التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} بِمَعْنَى
مُقِيمُونَ مُتَعَبِّدُونَ لَهَا. فَإِذْ لاَ شَكَّ فِي هَذَا, فَكُلُّ
إقَامَةٍ فِي مَسْجِدٍ لِلَّهِ تَعَالَى بِنِيَّةِ التَّقَرُّبِ
إلَيْهِ: اعْتِكَافٌ, وَعُكُوفٌ فَإِذْ لاَ شَكَّ فِي هَذَا,
فَالاِعْتِكَافُ يَقَعُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِمَّا قَلَّ مِنْ
الأَزْمَانِ أَوْ كَثُرَ, إذْ لَمْ يَخُصَّ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ
عَدَدًا مِنْ عَدَدٍ, وَلاَ وَقْتًا مِنْ وَقْتٍ, وَمُدَّعِي ذَلِكَ
مُخْطِئٌ; لاَِنَّهُ قَائِلٌ بِلاَ بُرْهَانٍ.
وَالاِعْتِكَافُ: فِعْلٌ حَسَنٌ, قَدْ اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم وَأَزْوَاجُهُ وَأَصْحَابُهُ، رضي الله عنهم، بَعْدَهُ
وَالتَّابِعُونَ.
وَمِمَّنْ قَالَ بِمِثْلِ هَذَا طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ.
كَمَا أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حدثنا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدٍ الْبُصَيْرِيُّ، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ،
حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ، حدثنا مُحَمَّدُ
بْنُ الْمُثَنَّى، حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ
زَائِدَةَ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ، عَنْ سُوَيْد بْنِ
غَفَلَةَ قَالَ: مَنْ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ طَاهِرٌ فَهُوَ
عَاكِفٌ فِيهِ, مَا لَمْ يُحْدِثْ: وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ،
عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: سَمِعْت عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ
يُخْبِرُ، عَنْ يَعْلَى
(5/179)
ابْنِ
أُمَيَّةَ قَالَ: إنِّي لاََمْكُثُ فِي الْمَسْجِدِ سَاعَةً وَمَا
أَمْكُثُ إلاَّ لاَِعْتَكِفَ. قَالَ عَطَاءٌ: حَسِبْت أَنَّ صَفْوَانَ
بْنَ يَعْلَى أَخْبَرَنِيهِ قَالَ عَطَاءٌ: هُوَ اعْتِكَافٌ مَا مَكَثَ
فِيهِ, وَإِنْ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ احْتِسَابَ الْخَيْرِ فَهُوَ
مُعْتَكِفٌ, وَإِلاَّ فَلاَ.
قال أبو محمد: يَعْلَى صَاحِبٌ, وَسُوَيْدٌ مِنْ كِبَارِ
التَّابِعِينَ, أَفْتَى أَيَّامَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, لاَ
يُعْرَفُ لِيَعْلَى فِي هَذَا مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ.
فإن قيل: قَدْ جَاءَ، عَنْ عَائِشَةَ, وَابْنِ عَبَّاسٍ, وَابْنِ
عُمَرَ: لاَ اعْتِكَافَ إلاَّ بِصَوْمٍ, وَهَذَا خِلاَفٌ لِقَوْلِ
يَعْلَى.
قلنا: لَيْسَ كَمَا تَقُولُ, لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ قَطُّ عَمَّنْ
ذَكَرْت: لاَ اعْتِكَافَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ كَامِلٍ, إنَّمَا جَاءَ
عَنْهُمْ: أَنَّ الصَّوْمَ وَاجِبٌ فِي حَالِ الاِعْتِكَافِ فَقَطْ,
وَلاَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَعْتَكِفَ الْمَرْءُ عَلَى هَذَا سَاعَةً فِي
يَوْمٍ هُوَ فِيهِ صَائِمٌ. وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ,
فَبَطَلَ مَا أَوْهَمْتُمْ بِهِ.
وَقَوْله تَعَالَى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} فَلَمْ
يَخُصَّ تَعَالَى مُدَّةً مِنْ مُدَّةٍ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ: حدثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حدثنا يَحْيَى
بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، هُوَ ابْنُ عُمَرَ
قَالَ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ, إنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ
أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَالَ: "فَأَوْفِ
بِنَذْرِكَ". فَهَذَا عُمُومٌ مِنْهُ عليه السلام بِالأَمْرِ
بِالْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ فِي الاِعْتِكَافِ, وَلَمْ يَخُصَّ عليه
السلام مُدَّةً مِنْ مُدَّةٍ, فَبَطَلَ قَوْلٌ خَالَفَ قَوْلَنَا
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَقُلْنَا: هَذَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
وقال أبو حنيفة: لاَ يَجُوزُ الاِعْتِكَافُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ.
وقال مالك: لاَ اعْتِكَافَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. ثُمَّ
رَجَعَ وَقَالَ: لاَ اعْتِكَافَ أَقَلَّ مِنْ عَشْرِ لَيَالٍ. وَلَهُ
قَوْلٌ: لاَ اعْتِكَافَ أَقَلَّ مِنْ سَبْعِ لَيَالٍ, مِنْ الْجُمُعَةِ
إلَى الْجُمُعَةِ. وَكُلُّ هَذَا قَوْلٌ بِلاَ دَلِيلٍ.
فإن قيل: لَمْ يَعْتَكِفْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقَلَّ
مِنْ عَشْرِ لَيَالٍ.
قلنا: نَعَمْ, وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ
أَيْضًا لَمْ يَعْتَكِفْ قَطُّ فِي غَيْرِ مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ,
فَلاَ تُجِيزُوا الاِعْتِكَافَ فِي غَيْرِ مَسْجِدِهِ عليه السلام,
وَلاَ اعْتَكَفَ قَطُّ إلاَّ فِي رَمَضَانَ, وَشَوَّالٍ, فَلاَ
تُجِيزُوا الاِعْتِكَافَ فِي غَيْرِ هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ.
وَالاِعْتِكَافُ فِي فِعْلِ خَيْرٍ, فَلاَ يَجُوزُ الْمَنْعُ مِنْهُ
إلاَّ بِنَصٍّ وَارِدٍ بِالْمَنْعِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ. فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَا عَلَى مَسْجِدِهِ عليه السلام
سَائِرَ الْمَسَاجِدِ.
(5/180)
قِيلَ
لَهُمْ: فَقِيسُوا عَلَى اعْتِكَافِهِ عَشْرًا, أَوْ عِشْرِينَ: مَا
دُونَ الْعَشْرِ. وَمَا فَوْقَ الْعِشْرِينَ, إذْ لَيْسَ مِنْهَا
سَاعَةٌ، وَلاَ يَوْمٌ إلاَّ وَهُوَ فِيهِ مُعْتَكِفٌ.
(5/181)
625 -
مَسْأَلَةٌ: وَلَيْسَ الصَّوْمُ مِنْ شُرُوطِ الاِعْتِكَافِ,
لَكِنْ إنْ شَاءَ الْمُعْتَكِفُ صَامَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَصُمْ.
وَ اعْتِكَافُ: يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ الأَضْحَى, وَأَيَّامِ
التَّشْرِيقِ: حَسَنٌ. وَكَذَلِكَ اعْتِكَافُ: لَيْلَةٍ بِلاَ يَوْمٍ,
وَيَوْمٍ بِلاَ لَيْلَةٍ.
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ, وَأَبِي
سُلَيْمَانَ. وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ: حدثنا عَبْدُ
الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ أَبِي
سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِي
اعْتِكَافٌ, فَسَأَلْت عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَالَ: لَيْسَ
عَلَيْهَا صِيَامٌ إلاَّ أَنْ تَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهَا. فَقَالَ
الزُّهْرِيُّ: لاَ اعْتِكَافَ إلاَّ بِصَوْمٍ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ:
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لاَ, قَالَ: فَعَنْ أَبِي
بَكْرٍ قَالَ: لاَ, قَالَ: فَعَنْ عُمَرَ قَالَ: لاَ, قَالَ:
فَأَظُنُّهُ قَالَ: فَعَنْ عُثْمَانَ قَالَ: لاَ قَالَ أَبُو سُهَيْلٍ:
لَقِيت طَاوُوسًا, وَعَطَاءً, فَسَأَلْتهمَا فَقَالَ طَاوُوس كَانَ
فُلاَنٌ لاَ يَرَى عَلَيْهَا صِيَامًا إلاَّ أَنْ تَجْعَلَهُ عَلَى
نَفْسِهَا وَقَالَ عَطَاءٌ: لَيْسَ عَلَيْهَا صِيَامٌ إلاَّ أَنْ
تَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهَا.
وَبِهِ إلَى سَعِيدٍ: حدثنا حِبَّانُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا لَيْثٌ، عَنِ
الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ: أَنَّ عَلِيًّا, وَابْنَ مَسْعُودٍ قَالاَ
جَمِيعًا: الْمُعْتَكِفُ لَيْسَ عَلَيْهِ صَوْمٌ إلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ
ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ.
وَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, كَمَا َحَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عُمَرَ مُحَمَّدٌ الْقَلَعِيُّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ
الصَّوَّافُ، حدثنا بِشْرُ بْنُ مُوسَى بْنِ صَالِحِ بْنِ عُمَيْرَةَ،
حدثنا أَبُو بَكْرٍ الْحُمَيْدِيُّ، حدثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ
مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ، حدثنا أَبُو سُهَيْلِ بْنُ مَالِكٍ
قَالَ: اجْتَمَعْت أَنَا، وَابْنُ شِهَابٍ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ, وَكَانَ عَلَى امْرَأَتِي اعْتِكَافُ ثَلاَثٍ فِي
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: لاَ يَكُونُ
اعْتِكَافٌ إلاَّ بِصَوْمٍ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ: أَمِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لاَ.
قَالَ: فَمِنْ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: لاَ, قَالَ: فَمِنْ عُمَرَ قَالَ:
لاَ, قَالَ: فَمِنْ عُثْمَانَ قَالَ: لاَ. قَالَ أَبُو سُهَيْلٍ:
فَانْصَرَفْت فَلَقِيت طَاوُوسًا, وَعَطَاءً, فَسَأَلْتهمَا، عَنْ
ذَلِكَ. فَقَالَ طَاوُوس: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ لاَ يَرَى عَلَى
الْمُعْتَكِفِ صِيَامًا إلاَّ أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ. قَالَ
عَطَاءٌ: ذَلِكَ رَأْيِي.
(5/181)
وَمِنْ
طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ
إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: الْمُعْتَكِفُ إنْ شَاءَ لَمْ يَصُمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا عَبْدَةُ، عَنْ سَعِيدِ
بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: لَيْسَ
عَلَى الْمُعْتَكِفِ صَوْمٌ لاَ أَنْ يُوجِبَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ.
وقال أبو حنيفة, وَسُفْيَانُ, وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ, وَمَالِكٌ,
وَاللَّيْثُ: لاَ اعْتِكَافَ إلاَّ بِصَوْمٍ. وَصَحَّ عَنْ عُرْوَةَ
بْنِ الزُّبَيْرِ, وَالزُّهْرِيِّ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ عَنْ طَاوُوس وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَصَحَّ
عَنْهُمَا كِلاَ الأَمْرَيْنِ.
كَتَبَ إلَى دَاوُد بْنِ بَابْشَاذَ بْنِ دَاوُد الْمَصْرِيِّ قَالَ:
حدثنا عَبْدُ الْغَنِيّ بْنُ سَعِيدٍ الْحَافِظُ، حدثنا هِشَامُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ قُرَّةَ الرُّعَيْنِيُّ، حدثنا أَبُو جَعْفَرٍ
الطَّحَاوِيُّ، حدثنا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمُؤَذِّنُ، حدثنا
ابْنُ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ, وَابْنِ عُمَرَ قَالاَ جَمِيعًا: لاَ اعْتِكَافَ إلاَّ
بِصَوْمٍ
وَرُوِيَ، عَنْ عَائِشَةَ: لاَ اعْتِكَافَ إلاَّ بِصَوْمٍ
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ
حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: مَنْ اعْتَكَفَ فَعَلَيْهِ الصَّوْمُ.
قال أبو محمد: شَغِبَ مَنْ قَلَّدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لاَ
اعْتِكَافَ إلاَّ بِصَوْمٍ بِأَنْ قَالُوا: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ
وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ
مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ
إلَى اللَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي
الْمَسَاجِدِ}. قَالُوا: فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الاِعْتِكَافَ
إثْرَ ذِكْرِهِ لِلصَّوْمِ, فَوَجَبَ أَنْ لاَ يَكُونَ الاِعْتِكَافُ
إلاَّ بِصَوْمٍ.
قال أبو محمد: مَا سُمِعَ بِأَقْبَحَ مِنْ هَذَا التَّحْرِيفِ
لِكَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى, وَالإِقْحَامِ فِيهِ مَا لَيْسَ فِيهِ
وَمَا عَلِمَ قَطُّ ذُو تَمْيِيزٍ: أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى
شَرِيعَةً إثْرَ ذِكْرِهِ أُخْرَى مُوجِبَةٌ عَقْدَ إحْدَاهُمَا
بِالآُخْرَى.، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ وَبَيْنَ مَنْ
قَالَ: بَلْ لَمَّا ذَكَرَ الصَّوْمَ ثُمَّ الاِعْتِكَافَ: وَجَبَ أَنْ
لاَ يُجْزِئَ صَوْمٌ إلاَّ بِاعْتِكَافٍ.
فَإِنْ قَالُوا: لَمْ يَقُلْ هَذَا أَحَدٌ.
قلنا: فَقَدْ أَقْرَرْتُمْ بِصِحَّةِ الإِجْمَاعِ عَلَى بُطْلاَنِ
حُجَّتِكُمْ, وَعَلَى أَنَّ ذِكْرَ شَرِيعَةٍ مَعَ ذِكْرِ أُخْرَى لاَ
يُوجِبُ أَنْ لاَ تَصِحَّ إحْدَاهُمَا إلاَّ بِالآُخْرَى.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ خُصُومَنَا مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَكِفَ
هُوَ بِاللَّيْلِ مُعْتَكِفٌ كَمَا هُوَ بِالنَّهَارِ, وَهُوَ
بِاللَّيْلِ غَيْرُ صَائِمٍ. فَلَوْ صَحَّ لَهُمْ هَذَا الاِسْتِدْلاَل
لَوَجَبَ أَنْ لاَ يُجْزِئَ الاِعْتِكَافُ إلاَّ
(5/182)
بِالنَّهَارِ الَّذِي لاَ يَكُونُ الصَّوْمُ إلاَّ فِيهِ فَبَطَلَ
تَمْوِيهُهُمْ بِإِيرَادِ هَذِهِ الآيَةِ, حَيْثُ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ
مِمَّا مَوَّهُوا بِهِ, لاَ بِنَصٍّ، وَلاَ بِدَلِيلٍ.
وَذَكَرُوا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد قَالَ: حدثنا
أَحْمَدُ بْنُ إبْرَاهِيم، حدثنا أَبُو دَاوُد هُوَ الطَّيَالِسِيُّ،
حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إنَّ عُمَرَ جَعَلَ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ
أَنْ يَعْتَكِفَ لَيْلَةً أَوْ يَوْمًا عِنْدَ الْكَعْبَةِ, فَسَأَلَ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "اعْتَكِفْ وَصُمْ".
قال أبو محمد: هَذَا خَبَرٌ لاَ يَصِحُّ, لإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
بُدَيْلٍ مَجْهُولٌ، وَلاَ يُعْرَفُ هَذَا الْخَبَرُ مِنْ مُسْنَدِ
عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَصْلاً, وَمَا نَعْرِفُ لِعَمْرِو بْنِ
دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ حَدِيثًا مُسْنَدًا إلاَّ ثَلاَثَةً,
لَيْسَ, هَذَا مِنْهَا: أَحَدُهَا: فِي الْعُمْرَةِ {لَقَدْ كَانَ
لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}. وَالثَّانِي: فِي
صِفَةِ الْحَجِّ. وَالثَّالِثُ: "لاَ تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ
مَسَاجِدَ اللَّهِ". فَسَقَطَ عَنَّا هَذَا الْخَبَرُ, لَبُطْلاَنِ
سَنَدِهِ.
ثُمَّ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى احْتِجَاجُهُمْ بِهِ فِي إيجَابِ
الصَّوْمِ فِي الاِعْتِكَافِ وَمُخَالَفَتُهُمْ إيَّاهُ فِي إيجَابِ
الْوَفَاءِ بِمَا نَذَرَهُ الْمَرْءُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ, فَهَذِهِ
عَظِيمَةٌ لاَ يَرْضَى بِهَا ذُو دِينٍ.
فَإِنْ قَالُوا: مَعْنَى قَوْلِهِ "فِي الْجَاهِلِيَّةِ" أَيْ أَيَّامِ
ظُهُورِ الْجَاهِلِيَّةِ بَعْدَ إسْلاَمِهِ.
قلنا لِمَنْ قَالَ هَذَا: إنْ كُنْت تَقُولُ هَذَا قَاطِعًا بِهِ
فَأَنْتَ أَحَدُ الْكَذَّابِينَ, لِقَطْعِك بِمَا لاَ دَلِيلَ لَك
عَلَيْهِ, وَلاَ وَجَدْت قَطُّ فِي شَيْءٍ مِنْ الأَخْبَارِ, وَإِنْ
كُنْت تَقُولُهُ ظَنًّا, فَإِنَّ الْحَقَائِقَ لاَ تُتْرَكُ
بِالظُّنُونِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ الظَّنَّ لاَ
يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا}. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم: "إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ
الْحَدِيثِ".
فَكَيْفَ وَقَدْ صَحَّ كَذِبُ هَذَا الْقَوْلِ, كَمَا رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ
عُمَرَ قَالَ: "نَذَرْتُ نَذْرًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَسَأَلْتُ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَا أَسْلَمْتُ, فَأَمَرَنِي
أَنْ أُوفِيَ بِنَذْرِي".
وَهَذَا فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ, لاَ كَحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
بُدَيْلٍ الذَّاهِبِ فِي الرِّيَاحِ.
(5/183)
فَهَلْ
سَمِعَ بِأَعْجَبَ مِنْ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ لاَ يَزَالُونَ يَأْتُونَ
بِالْخَبَرِ يَحْتَجُّونَ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ يُصَحِّحُهُ فِيمَا
وَافَقَ تَقْلِيدَهُمْ, وَهُمْ أَوَّلُ مُخَالِفِينَ لِذَلِكَ
الْخَبَرِ نَفْسِهِ فِيمَا خَالَفَ تَقْلِيدَهُمْ: فَكَيْفَ يَصْعَدُ
مَعَ هَذَا عَمَلٌ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الضَّلاَلِ, فَعَادَ
خَبَرُهُمْ حُجَّةً عَلَيْهِمْ لاَ عَلَيْنَا, وَلَوْ صَحَّ,
وَرَأَيْنَاهُ حُجَّةً لَقُلْنَا: بِهِ.
وَمَوَّهُوا بِأَنَّ هَذَا رُوِيَ، عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ, وَابْنِ
عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ. قَالُوا: وَمِثْلُ هَذَا لاَ يُقَالُ
بِالرَّأْيِ.
فَقُلْنَا: أَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَدْ اُخْتُلِفَ عَنْهُ فِي
ذَلِكَ. فَصَحَّ عَنْهُ مِثْلُ قَوْلِنَا. وَقَدْ رُوِّينَا عَنْهُ
مِنْ طَرِيقِ: عَبْدِ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ
عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ سَمِعْت عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ يَقُولُ: إنَّ أُمَّنَا مَاتَتْ
وَعَلَيْهَا اعْتِكَافٌ, فَسَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: اعْتَكِفْ
عَنْهَا وَصُمْ.
فَمِنْ أَيْنَ صَارَ ابْنُ عَبَّاسٍ حُجَّةً فِي إيجَابِ الصَّوْمِ
عَلَى الْمُعْتَكِفِ وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ خِلاَفُ ذَلِكَ. وَلَمْ
يَصِرْ حُجَّةً فِي إيجَابِهِ عَلَى الْوَلِيِّ قَضَاءُ الاِعْتِكَافِ،
عَنِ الْمَيِّتِ وَهَلاَّ قُلْتُمْ هَاهُنَا: مِثْلُ هَذَا لاَ
يُقَالُ: بِالرَّأْيِ وَعَهِدْنَاهُمْ يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ هَذَا
عِنْدَ فُلاَنٍ صَحِيحًا مَا تَرَكَهُ. أَوْ يَقُولُونَ: لَمْ يَتْرُكْ
مَا عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ إلاَّ لِمَا هُوَ أَصَحُّ عِنْدَهُ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا، عَنْ عَطَاءٍ آنِفًا أَنَّهُ لَمْ يَرَ الصَّوْمَ
عَلَى الْمُعْتَكِفِ, وَسَمِعَ طَاوُوسًا يَذْكُرُ ذَلِكَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِ. فَهَلاَّ قَالُوا: لَمْ
يَتْرُكْ عَطَاءٌ مَا رُوِيَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَابْنِ عُمَرَ
إلاَّ لِمَا هُوَ عِنْدَهُ أَقْوَى مِنْهُ, وَلَكِنَّ الْقَوْمَ
مُتَلاَعِبُونَ.
وَأَمَّا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ رُوِّينَا عَنْهَا مِنْ طَرِيقِ
أَبِي دَاوُد: حدثنا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ أَنَا خَالِدٌ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ يَعْنِي ابْنَ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ
عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا "قَالَتْ:
السُّنَّةُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ لاَ يَعُودُ مَرِيضًا, وَلاَ يَشْهَدُ
جِنَازَةً, وَلاَ يَمَسُّ امْرَأَةً، وَلاَ يُبَاشِرُهَا, وَلاَ
يَخْرُجُ لِحَاجَةٍ إلاَّ لِمَا لاَ بُدَّ مِنْهُ، وَلاَ اعْتِكَافَ
إلاَّ بِصَوْمٍ, وَلاَ اعْتِكَافَ
(5/184)
إلاَّ فِي
مَسْجِدٍ جَامِعٍ.
فَمِنْ أَيْنَ صَارَ قَوْلُهَا فِي إيجَابِ الاِعْتِكَافَ حُجَّةً,
وَلَمْ يَصِرْ قَوْلُهَا "لاَ اعْتِكَافَ إلاَّ فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ"
حُجَّةً.
وَرُوِّينَا عَنْهَا، عَنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ
جُرَيْجٍ, وَمَعْمَرٍ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ:
أَنَّ عَائِشَةَ نَذَرَتْ جِوَارًا فِي جُودِ ثَبِيرٍ مِمَّا يَلِي
مِنًى. وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنِ ابْنِ
أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: اعْتَكَفَتْ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ
بَيْنَ حِرَاءَ, وَثَبِيرٍ, فَكُنَّا نَأْتِيهَا هُنَالِكَ.
فَخَالَفُوا عَائِشَةَ فِي هَذَا أَيْضًا, وَهَذَا عَجَبٌ.
وَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَحَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ، حدثنا
أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ، حدثنا مُحَمَّدُ
بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ،
حدثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، حدثنا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ
أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ: أَنَّ ابْنَ
عُمَرَ كَانَ إذَا اعْتَكَفَ ضَرَبَ فُسْطَاطًا, أَوْ خِبَاءً يَقْضِي
فِيهِ حَاجَتَهُ, وَلاَ يُظِلُّهُ سَقْفُ بَيْتٍ.
فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ حُجَّةً فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لاَ
اعْتِكَافَ إلاَّ بِصَوْمٍ, وَلَمْ يَكُنْ حُجَّةً فِي أَنَّهُ كَانَ
إذَا اعْتَكَفَ لاَ يُظِلُّهُ سَقْفُ بَيْتٍ.
فَصَحَّ أَنَّ الْقَوْمَ إنَّمَا يُمَوِّهُونَ بِذِكْرِ مَنْ يَحْتَجُّ
بِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ إيهَامًا; لأَنَّهُمْ لاَ مُؤْنَةَ عَلَيْهِمْ
مِنْ خِلاَفِهِمْ فِيمَا لَمْ يُوَافِقْ مِنْ أَقْوَالِهِمْ رَأْيَ
أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ وَأَنَّهُمْ لاَ يَرَوْنَ أَقْوَالَ
الصَّحَابَةِ حُجَّةً إلاَّ إذَا وَافَقَتْ رَأْيَ أَبِي حَنِيفَةَ,
وَمَالِكٍ فَقَطْ, وَفِي هَذَا مَا فِيهِ. فَبَطَلَ قَوْلُهُمْ,
لِتَعَرِّيهِ مِنْ الْبُرْهَانِ.
وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا, وَمِنْ الْهَوَسِ قَوْلُهُمْ: لَمَّا
كَانَ الاِعْتِكَافُ لُبْثًا فِي مَوْضِعٍ: أَشْبَهَ الْوُقُوفَ
بِعَرَفَةَ, وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ لاَ يَصِحُّ إلاَّ مُحْرِمًا,
فَوَجَبَ أَنْ لاَ يَصِحَّ الاِعْتِكَافُ إلاَّ بِمَعْنًى آخَرَ,
وَهُوَ الصَّوْمُ.
(5/185)
فَقِيلَ
لَهُمْ: لَمَّا كَانَ اللُّبْثُ بِعَرَفَةَ لاَ يَقْتَضِي وُجُوبَ
الصَّوْمِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الاِعْتِكَافُ لاَ يَقْتَضِي وُجُوبَ
الصَّوْمِ.
قال أبو محمد: مِنْ الْبُرْهَانِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا اعْتِكَافُ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ, فَلاَ يَخْلُو صَوْمُهُ
مِنْ أَنْ يَكُونَ لِرَمَضَانَ خَالِصًا. وَكَذَلِكَ هُوَ فَحَصَلَ
الاِعْتِكَافُ مُجَرَّدًا، عَنْ صَوْمٍ يَكُونُ مِنْ شَرْطِهِ, وَإِذَا
لَمْ يَحْتَجْ الاِعْتِكَافُ إلَى صَوْمٍ يَنْوِي بِهِ الاِعْتِكَافَ
فَقَدْ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ الصَّوْمُ مِنْ شُرُوطِ الاِعْتِكَافِ
وَصَحَّ أَنَّهُ جَائِزٌ بِلاَ صَوْمٍ, وَهَذَا بُرْهَانُ مَا قَدَرُوا
عَلَى اعْتِرَاضِهِ إلاَّ بِوَسَاوِسَ لاَ تُعْقَلُ. وَلَوْ قَالُوا:
إنَّهُ عليه السلام صَامَ لِلاِعْتِكَافِ لاَ لِرَمَضَانَ, أَوْ
لِرَمَضَانَ, وَالاِعْتِكَافِ لَمْ يَبْعُدُوا، عَنِ الاِنْسِلاَخِ
مِنْ الإِسْلاَمِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الاِعْتِكَافَ هُوَ بِاللَّيْلِ كَهُوَ
بِالنَّهَارِ, وَلاَ صَوْمَ بِاللَّيْلِ.فَصَحَّ أَنَّ الاِعْتِكَافَ
لاَ يَحْتَاجُ إلَى صَوْمٍ.
فَقَالَ مُهْلِكُوهُمْ هَهُنَا: إنَّمَا كَانَ الاِعْتِكَافُ
بِاللَّيْلِ تَبَعًا لِلنَّهَارِ.
فَقُلْنَا: كَذَبْتُمْ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ وَبَيْنَ
مَنْ قَالَ: بَلْ إنَّمَا كَانَ بِالنَّهَارِ تَبَعًا لِلَّيْلِ,
وَكِلاَ الْقَوْلَيْنِ فَاسِدٌ.
فَقَالُوا: إنَّمَا قلنا: إنَّ الاِعْتِكَافَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ
فِي حَالِ صَوْمٍ.
فَقُلْنَا: كَذَبْتُمْ لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
يَقُولُ: "إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا
نَوَى" فَلَمَّا كَانَ الاِعْتِكَافُ عِنْدَنَا وَعِنْدَكُمْ لاَ
يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَعَهُ صَوْمٌ يَنْوِي بِهِ الاِعْتِكَافَ
صَحَّ ضَرُورَةً أَنَّ الاِعْتِكَافَ لَيْسَ مِنْ شُرُوطِهِ, وَلاَ
مِنْ صِفَاتِهِ, وَلاَ مِنْ حُكْمِهِ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ صَوْمٌ,
وَقَدْ جَاءَ نَصٌّ صَحِيحٌ بِقَوْلِنَا.
كَأَنْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد: حدثنا عُثْمَانُ بْنُ
أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ وَيَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ
كِلاَهُمَا، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ عَمْرَةَ
بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ
قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَرَادَ أَنْ
يَعْتَكِفَ صَلَّى الْفَجْرَ ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ", قَالَتْ:
"وَإِنَّهُ أَرَادَ مَرَّةً أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ
مِنْ رَمَضَانَ", قَالَتْ: "فَأَمَرَ بِبِنَائِهِ فَضُرِبَ فَلَمَّا
رَأَيْتُ ذَلِكَ أَمَرْتُ بِبِنَائِي فَضُرِبَ, وَأَمَرَ غَيْرِي مِنْ
أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِبِنَائِهِنَّ فَضُرِبَ,
فَلَمَّا صَلَّى الْفَجْرَ نَظَرَ إلَى الأَبْنِيَةِ, فَقَالَ: مَا
هَذَا آلْبِرَّ تُرِدْنَ فَأَمَرَ بِبِنَائِهِ فَقُوِّضَ",
(5/186)
وَأَمَرَ
أَزْوَاجَهُ بِأَبْنِيَتِهِنَّ فَقَوَّضْنَ ثُمَّ أَخَّرَ
الاِعْتِكَافَ إلَى الْعَشْرِ الآُوَلِ, يَعْنِي مِنْ شَوَّالٍ".
قال أبو محمد: فَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ
اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الآُوَلَ مِنْ شَوَّالٍ وَفِيهَا يَوْمُ
الْفِطْرِ, وَلاَ صَوْمَ فِيهِ.
وَمَالِكٌ يَقُولُ: لاَ يَخْرُجُ الْمُعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ
الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ اعْتِكَافِهِ إلاَّ حَتَّى يَنْهَضَ
إلَى الْمُصَلَّى. فَنَسْأَلُهُمْ: أَمُعْتَكِفٌ هُوَ مَا لَمْ
يَنْهَضْ إلَى الْمُصَلَّى, أَمْ غَيْرُ مُعْتَكِفٍ فَإِنْ قَالُوا:
هُوَ مُعْتَكِفٌ, تَنَاقَضُوا, وَأَجَازُوا الاِعْتِكَافَ بِلاَ صَوْمٍ
بُرْهَةً مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ. وَإِنْ قَالُوا: لَيْسَ مُعْتَكِفًا
قلنا: فَلِمَ مَنَعْتُمُوهُ الْخُرُوجَ إذَنْ.
(5/187)
لا يحل للرجل مباشر المرأة و لا للمرأة مباشرة الرجل في حال الاعتكاف
بشيء من الجسم
...
626 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مُبَاشَرَةُ الْمَرْأَةِ,
وَلاَ لِلْمَرْأَةِ مُبَاشَرَةُ الرَّجُلِ فِي حَالِ الاِعْتِكَافِ
بِشَيْءٍ مِنْ الْجِسْمِ,
إلاَّ فِي تَرْجِيلِ الْمَرْأَةِ لِلْمُعْتَكِفِ خَاصَّةً, فَهُوَ
مُبَاحٌ, وَلَهُ إخْرَاجُ رَأْسِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ لِلتَّرْجِيلِ.
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ
عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}. فَصَحَّ أَنَّ مَنْ تَعَمَّدَ مَا
نُهِيَ عَنْهُ مِنْ عُمُومِ الْمُبَاشَرَةِ ذَاكِرًا لاِعْتِكَافِهِ
فَلَمْ يَعْتَكِفْ كَمَا أُمِرَ, فَلاَ اعْتِكَافَ لَهُ, فَإِنْ كَانَ
نَذْرًا قَضَاهُ, وَإِلاَّ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ. وَقَوْله تَعَالَى:
{وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} خِطَابٌ لِلْجَمِيعِ مِنْ
الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ, فَحُرِّمَتْ الْمُبَاشَرَةُ بَيْنَ
الصِّنْفَيْنِ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا
سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ
إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
يُخْرِجُ رَأْسَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ, فَأُرَجِّلُهُ
وَأَنَا حَائِضٌ". فَخَرَجَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْمُبَاشَرَةِ مِنْ
عُمُومِ نَهْيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
(5/187)
جائز للمعتكف أن يشترط ما شاء من المباح و الخروج له
...
627 - مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَشْتَرِطَ مَا شَاءَ
مِنْ الْمُبَاحِ وَالْخُرُوجِ لَهُ,
لاَِنَّهُ بِذَلِكَ إنَّمَا الْتَزَمَ الاِعْتِكَافَ فِي خِلاَلِ مَا
اسْتَثْنَاهُ, وَهَذَا مُبَاحٌ لَهُ, أَنْ يَعْتَكِفَ إذَا شَاءَ,
وَيَتْرُكَ إذَا شَاءَ, لإِنَّ الاِعْتِكَافَ طَاعَةٌ, وَتَرْكُهُ
مُبَاحٌ, فَإِنْ أَطَاعَ أُجِرَ, وَإِنْ تَرَكَ لَمْ يَقْضِ.
وَإِنَّ الْعَجَبَ لَيَكْثُرَ مِمَّنْ لاَ يُجِيزُ هَذَا الشَّرْطَ
وَالنُّصُوصُ كُلُّهَا مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مُوجِبَةٌ لِمَا
ذَكَرْنَا, ثُمَّ يَقُولُ: بِلُزُومِ الشُّرُوطِ الَّتِي أَبْطَلَهَا
الْقُرْآنُ وَالسُّنَنُ, مِنْ اشْتِرَاطِ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ إنْ
تَزَوَّجَ عَلَيْهَا, أَوْ تَسَرَّى فَأَمْرُهَا بِيَدِهَا,
وَالدَّاخِلَةُ بِنِكَاحٍ
(5/187)
و كل فرض على المسلم فإن الاعتكاف لا يمنع منه
...
628 - مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ فَرْضٍ عَلَى الْمُسْلِمِ فَإِنَّ
الاِعْتِكَافَ لاَ يَمْنَعُ مِنْهُ,
وَعَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ إلَيْهِ, وَلاَ يَضُرُّ ذَلِكَ
بِاعْتِكَافِهِ, وَكَذَلِكَ يَخْرُجُ لِحَاجَةِ الإِنْسَانِ, مِنْ
الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَغَسْلِ النَّجَاسَةِ, وَغُسْلِ
الاِحْتِلاَمِ, وَغُسْلِ الْجُمُعَةِ, وَمِنْ الْحَيْضِ, إنْ شَاءَ فِي
حَمَّامٍ أَوْ فِي غَيْرِ حَمَّامٍ. وَلاَ يَتَرَدَّدُ عَلَى أَكْثَرِ
مِنْ تَمَامِ غُسْلِهِ, وَقَضَاءِ حَاجَتِهِ, فَإِنْ فَعَلَ بَطَلَ
اعْتِكَافُهُ.
وَكَذَلِكَ يَخْرُجُ لاِبْتِيَاعِ مَا لاَ بُدَّ لَهُ وَلاَِهْلِهِ
مِنْهُ, مِنْ الأَكْلِ وَاللِّبَاسِ, وَلاَ يَتَرَدَّدُ عَلَى غَيْرِ
ذَلِكَ, فَإِنْ تَرَدَّدَ بِلاَ ضَرُورَةٍ: بَطَلَ اعْتِكَافُهُ,
وَلَهُ أَنْ يُشَيِّعَ أَهْلَهُ إلَى مَنْزِلِهَا. وَإِنَّمَا يُبْطِلُ
الاِعْتِكَافَ: خُرُوجُهُ لِمَا لَيْسَ فَرْضًا عَلَيْهِ.
وَقَدْ افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمُسْلِمِ مَا رُوِّينَاهُ
مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ: حدثنا مُحَمَّدٌ، حدثنا عَمْرُو بْنُ
أَبِي سَلَمَةَ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ
أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ:
سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "حَقُّ
الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ, رَدُّ السَّلاَمِ, وَعِيَادَةُ
الْمَرِيضِ, وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ, وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ,
وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ".
وَأَمَرَ عليه السلام مَنْ دُعِيَ إنْ كَانَ مُفْطِرًا: فَلْيَأْكُلْ
وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ, بِمَعْنَى أَنْ يَدْعُوَ لَهُمْ.
وَقَالَ تَعَالَى: {إذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ
فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} وَقَالَ تَعَالَى:
{وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا}. وَقَالَ تَعَالَى:
{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً}. فَهَذِهِ فَرَائِضُ لاَ يَحِلُّ
تَرْكُهَا لِلاِعْتِكَافِ, وَبِلاَ شَكٍّ عِنْدَ كُلِّ مُسْلِمٍ أَنَّ
كُلَّ مَنْ أَدَّى مَا افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فَهُوَ
مُحْسِنٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ
سَبِيلٍ}.
فَفَرَضَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ أَنْ يَخْرُجَ لِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ
مَرَّةً وَاحِدَةً, يَسْأَلُ، عَنْ حَالِهِ وَاقِفًا وَيَنْصَرِفُ
لإِنَّ مَا زَادَ، عَنْ هَذَا فَلَيْسَ مِنْ الْفَرْضِ, وَإِنَّمَا
هُوَ تَطْوِيلٌ, فَهُوَ يُبْطِلُ الاِعْتِكَافَ.
وَكَذَلِكَ يَخْرُجُ لِشُهُودِ الْجِنَازَةِ, فَإِذَا صَلَّى عَلَيْهَا
انْصَرَفَ, لاَِنَّهُ قَدْ أَدَّى الْفَرْضَ, وَمَا زَادَ فَلَيْسَ
فَرْضًا, وَهُوَ بِهِ خَارِجٌ، عَنِ الاِعْتِكَافِ.
(5/188)
وَفَرْضٌ
عَلَيْهِ: أَنْ يَخْرُجَ إذَا دُعِيَ, فَإِنْ كَانَ صَائِمًا بَلَغَ
إلَى دَارِ الدَّاعِي وَدَعَا وَانْصَرَفَ, وَلاَ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ.
وَفَرْضٌ عَلَيْهِ: أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْجُمُعَةِ بِمِقْدَارِ مَا
يُدْرِكُ أَوَّلَ الْخُطْبَةِ, فَإِذَا سَلَّمَ رَجَعَ, فَإِنْ زَادَ
عَلَى ذَلِكَ خَرَجَ مِنْ الاِعْتِكَافِ, فَإِنْ خَرَجَ كَمَا
ذَكَرْنَا ثُمَّ رَأَى أَنَّ فِي الْوَقْتِ فُسْحَةً فَإِنْ عَلِمَ
أَنَّهُ إنْ رَجَعَ إلَى مُعْتَكَفِهِ ثُمَّ خَرَجَ أَدْرَكَ
الْخُطْبَةَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ, وَإِلاَّ فَلْيَتَمَادَ,
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَلَيْهِ فِي الرُّجُوعِ حَرَجٌ, لِقَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}.
وَكَذَلِكَ يَخْرُجُ لِلشَّهَادَةِ إذَا دُعِيَ سَوَاءٌ قَبِلَ أَوْ
لَمْ يَقْبَلْ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الشُّهَدَاءَ بِأَنْ
لاَ يَأْبَوْا إذَا دُعُوا, وَلَمْ يَشْتَرِطْ مَنْ يَقْبَلُ مِمَّا
لاَ يَقْبَلُ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًا} إذَا أَدَّاهَا رَجَعَ
إلَى مُعْتَكَفِهِ، وَلاَ يَتَرَدَّدُ, فَإِنْ تَرَدَّدَ: بَطَلَ
اعْتِكَافُهُ.
وَهُوَ كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ, وَأَصْحَابِنَا.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ: أَنَا أَبُو
الأَحْوَصِ أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ هُوَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَاصِمِ
بْنِ ضَمُرَةَ قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: إذَا
اعْتَكَفَ الرَّجُلُ فَلْيَشْهَدْ الْجُمُعَةَ وَلْيَحْضُرْ
الْجِنَازَةَ وَلْيَعُدْ الْمَرِيضَ وَلْيَأْتِ أَهْلَهُ يَأْمُرُهُمْ
بِحَاجَتِهِ وَهُوَ قَائِمٌ.
وَبِهِ إلَى سَعِيدٍ: حدثنا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ
عَمَّارِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ
عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَعَانَ ابْنَ أُخْتِهِ جَعْدَةَ بْنَ
هُبَيْرَةَ بِسَبْعِمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ عَطَائِهِ أَنْ يَشْتَرِيَ
بِهَا خَادِمًا, فَقَالَ: إنِّي كُنْت مُعْتَكِفًا, فَقَالَ لَهُ
عَلِيٌّ: وَمَا عَلَيْك لَوْ خَرَجَتْ إلَى السُّوقِ فَابْتَعْت؟
وَبِهِ إلَى سُفْيَانَ: حدثنا هُشَيْمٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ
عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: أَنَّهَا كَانَتْ
(5/189)
لاَ
تَعُودُ الْمَرِيضَ مِنْ أَهْلِهَا إذَا كَانَتْ مُعْتَكِفَةً إلاَّ
وَهِيَ مَارَّةٌ.
وَبِهِ إلَى سَعِيد: حدثنا هُشَيْمٌ أَنَا مُغِيرَةُ، عَنْ إبْرَاهِيمَ
النَّخَعِيِّ قَالَ: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ
يَشْتَرِطَ هَذِهِ الْخِصَالَ وَهُنَّ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ:
عِيَادَةَ الْمَرِيضِ, وَلاَ يَدْخَلُ سَقْفًا, وَيَأْتِي الْجُمُعَةَ,
وَيَشْهَدُ الْجِنَازَةَ, وَيَخْرُجُ إلَى الْحَاجَةِ قَالَ
إبْرَاهِيمُ: وَلاَ يَدْخَلُ الْمُعْتَكِفُ سَقِيفَةً إلاَّ لِحَاجَةٍ.
وَبِهِ إلَى هُشَيْمٍ: أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: الْمُعْتَكِفُ يَعُودُ الْمَرِيضَ,
وَيَشْهَدُ الْجِنَازَةَ, وَيُجِيبُ الإِمَامَ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ
أَنَّهُ كَانَ يُرَخِّصُ لِلْمُعْتَكِفِ: أَنْ يَتْبَعَ الْجِنَازَةَ,
وَيَعُودَ الْمَرِيضَ، وَلاَ يَجْلِسَ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ
أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ
عَوْفٍ، أَنَّهُ قَالَ: الْمُعْتَكِفُ يَدْخَلُ الْبَابَ فَيُسَلِّمُ،
وَلاَ يَقْعُدُ, يَعُودُ الْمَرِيضَ وَكَانَ لاَ يَرَى بَأْسًا إذَا
خَرَجَ الْمُعْتَكِفُ لِحَاجَتِهِ فَلَقِيَهُ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ أَنْ
يَقِفَ عَلَيْهِ فَيُسَائِلُهُ.
قال أبو محمد: إنْ اُضْطُرَّ إلَى ذَلِكَ, أَوْ سَأَلَهُ، عَنْ سُنَّةٍ
مِنْ الدِّينِ, وَإِلاَّ فَلاَ.
وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَعُودَ الْمَرِيضَ,
وَيَتْبَعَ الْجِنَازَةَ, وَيَأْتِيَ إلَى الْجُمُعَةِ, وَيُجِيبَ
الدَّاعِيَ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قُلْت
لِعَطَاءٍ: إنْ نَذَرَ جِوَارًا أَيَنْوِي1 فِي نَفْسِهِ أَنْ لاَ
يَصُومَ, وَأَنَّهُ يَبِيعُ وَيَبْتَاعُ, وَيَأْتِي الأَسْوَاقَ,
وَيَعُودُ الْمَرِيضَ, وَيَتْبَعُ الْجِنَازَةَ وَإِنْ كَانَ مَطَرٌ
فَإِنِّي أَسْتَكِنُ فِي الْبَيْتِ. وَإِنِّي أُجَاوِرُ جِوَارًا
مُنْقَطِعًا, أَوْ أَنْ يَعْتَكِفَ النَّهَارَ وَيَأْتِيَ الْبَيْتَ
بِاللَّيْلِ قَالَ عَطَاءٌ: ذَلِكَ عَلَى نِيَّتِهِ مَا كَانَتْ,
ذَلِكَ لَهُ وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ أَيْضًا.
وَرُوِّينَا، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ:
الْمُعْتَكِفُ يَعُودُ الْمَرْضَى2 وَيَخْرُجُ إلَى الْجُمُعَةِ,
وَيَشْهَدُ الْجَنَائِزَ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ.
وَرُوِّينَا، عَنْ مُجَاهِدٍ, وَعَطَاءٍ, وَعُرْوَةَ, وَالزُّهْرِيِّ:
لاَ يَعُودُ الْمُعْتَكِفُ مَرِيضًا, وَلاَ يَشْهَدُ الْجِنَازَةَ
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ, وَاللَّيْثِ.
قَالَ مَالِكٌ: لاَ يَخْرُجُ إلَى الْجُمُعَةِ.
ـــــــ
1 في النسخة رقم "16" "ينوي" بدون الهمزة.
2 في النسخة رقم "16" "للمعتكف أن يعود المريض".
(5/190)
قال أبو
محمد: هَذَا مَكَانٌ صَحَّ فِيهِ عَنْ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ مَا
أَوْرَدْنَا, وَلاَ مُخَالِفَ لَهُمَا يُعْرَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ,
وَهُمْ يُعَظِّمُونَ مِثْلَ هَذَا إذَا خَالَفَ تَقْلِيدَهُمْ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ صَفِيَّةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
مُعْتَكِفًا فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلاً, فَحَدَّثْتُهُ, ثُمَّ
قُمْتُ فَانْقَلَبْتُ, فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي وَكَانَ
مَسْكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ" وَذَكَرَ بَاقِيَ الْخَبَرِ.
قال أبو محمد: فِي هَذَا كِفَايَةٌ, وَمَا نَعْلَمُ لِمَنْ مَنَعَ مِنْ
كُلِّ مَا ذَكَرْنَا حُجَّةً, لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ،
وَلاَ مِنْ قَوْلِ صَاحِبٍ, وَلاَ قِيَاسٍ.
وَنَسْأَلُهُمْ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ مَا أَبَاحُوا لَهُ مِنْ
الْخُرُوجِ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ وَابْتِيَاعِ مَا لاَ بُدَّ مِنْهُ,
وَبَيْنَ خُرُوجِهِ لِمَا افْتَرَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ.
وقال أبو حنيفة: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعُودَ الْمَرِيضَ, وَلاَ أَنْ
يَشْهَدَ الْجِنَازَةَ, وَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْجُمُعَةِ
بِمِقْدَارِ مَا يُصَلِّي سِتَّ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الْخُطْبَةِ, وَلَهُ
أَنْ يَبْقَى فِي الْجَامِعِ بَعْدَ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ مِقْدَارَ مَا
يُصَلِّي سِتَّ رَكَعَاتٍ, فَإِنْ بَقِيَ أَكْثَرَ, أَوْ خَرَجَ
لاَِكْثَرَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ, فَإِنْ خَرَجَ لِجِنَازَةٍ, أَوْ
لِعِيَادَةِ مَرِيضٍ: بَطَلَ اعْتِكَافُهُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَهُ أَنْ
يَخْرُجَ لِكُلِّ ذَلِكَ, فَإِنْ كَانَ مِقْدَارُ لُبْثِهِ فِي
خُرُوجِهِ لِذَلِكَ نِصْفَ يَوْمٍ فَأَقَلَّ لَمْ يَضُرَّ اعْتِكَافَهُ
ذَلِكَ, فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ: بَطَلَ
اعْتِكَافُهُ.
قال أبو محمد: إنَّ فِي هَذِهِ التَّحْدِيدَاتِ لَعَجَبًا وَمَا
نَدْرِي كَيْفَ يَسْمَحُ ذُو عَقْلٍ أَنْ يُشَرِّعَ فِي دِينِ اللَّهِ
هَذِهِ الشَّرَائِعَ الْفَاسِدَةَ فَيَصِيرُ مُحَرِّمًا مُحَلِّلاً
مُوجِبًا دُونَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا هُوَ إلاَّ مَا جَاءَ النَّصُّ
بِإِبَاحَتِهِ فَهُوَ مُبَاحٌ, قَلَّ أَمَدُهُ أَوْ كَثُرَ أَوْ مَا
جَاءَ النَّصُّ بِتَحْرِيمِهِ فَهُوَ حَرَامٌ قَلَّ أَمَدُهُ أَوْ
كَثُرَ أَوْ مَا جَاءَ النَّصُّ بِإِيجَابِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ إلاَّ
أَنْ يَأْتِيَ نَصٌّ بِتَحْدِيدٍ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, فَسَمْعًا
وَطَاعَةً.
(5/191)
و يعمل المعتكف في المسجد كل ما أبيح له
...
629 - مَسْأَلَةٌ: وَيَعْمَلُ الْمُعْتَكِفُ فِي الْمَسْجِدِ كُلَّ مَا
أُبِيحَ لَهُ
مِنْ مُحَادَثَةٍ فِيمَا لاَ يَحْرُمُ, وَمِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ أَيِّ
عِلْمٍ كَانَ, وَمِنْ خِيَاطَةٍ, وَخِصَامٍ فِي حَقٍّ, وَنَسْخٍ,
وَبَيْعٍ وَشِرَاءٍ, وَتَزَوُّجٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ لاَ يَتَحَاشَ
شَيْئًا, لإِنَّ الاِعْتِكَافَ: هُوَ الإِقَامَةُ كَمَا ذَكَرْنَا,
فَهُوَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ فَلَمْ يَتْرُكْ
الاِعْتِكَافَ.
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
وَلَمْ يَرَ ذَلِكَ مَالِكٌ, وَمَا نَعْلَمُ لَهُ حُجَّةً فِي ذَلِكَ,
لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ لاَ صَحِيحَةٍ، وَلاَ سَقِيمَةٍ,
وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ, وَلاَ قَوْلِ مُتَقَدِّمٍ مِنْ التَّابِعِينَ,
وَلاَ قِيَاسٍ, وَلاَ رَأْيٍ لَهُ وَجْهٌ.
وأعجب مِنْ ذَلِكَ مَنْعُهُ طَلَبَ الْعِلْمِ فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ
ذَكَرْنَا قَبْلُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ
عَائِشَةُ، رضي الله عنها، تُرَجِّلُ شَعْرَهُ الْمُقَدَّسَ وَهُوَ فِي
الْمَسْجِدِ, وَكُلُّ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَلَيْسَ
مَعْصِيَةً, لَكِنَّهُ إمَّا طَاعَةً وَأَمَّا سَلاَمَةً.
(5/192)
و لا يبطل الاعتكاف شيء إلا خروجه عن المسجد لغير حاجة عامدا ذاكرا
...
630 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يُبْطِلُ الاِعْتِكَافَ شَيْءٌ إلاَّ
خُرُوجُهُ، عَنِ الْمَسْجِدِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ عَامِدًا ذَاكِرًا,
لاَِنَّهُ قَدْ فَارَقَ الْعُكُوفَ وَتَرَكَهُ, وَمُبَاشَرَةُ
الْمَرْأَةِ فِي غَيْرِ التَّرْجِيلِ, لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِد}.
وَتَعَمُّدُ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَيِّ مَعْصِيَةٍ كَانَتْ,
لإِنَّ الْعُكُوفَ الَّذِي نَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ هُوَ
الَّذِي لاَ يَكُونُ عَلَى مَعْصِيَةٍ, وَلاَ شَكَّ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ
أَهْلِ الإِسْلاَمِ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْعُكُوفَ
عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَمَنْ عَكَفَ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى مَعْصِيَةٍ
فَقَدْ تَرَكَ الْعُكُوفَ عَلَى الطَّاعَةِ فَبَطَلَ عُكُوفُهُ.
وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ, وَأَحَدُ قَوْلَيْ
الشَّافِعِيِّ.
وقال مالك: الْقُبْلَةُ تُبْطِلُ الاِعْتِكَافَ.
وقال أبو حنيفة: لاَ يُبْطِلُ الاِعْتِكَافَ مُبَاشَرَةٌ، وَلاَ
قُبْلَةٌ إلاَّ أَنْ يَنْزِلَ, وَهَذَا تَحْدِيدٌ فَاسِدٌ, قِيَاسٌ
لِلْبَاطِلِ عَلَى الْبَاطِلِ, وَقَوْلٌ بِلاَ بُرْهَانٍ.
(5/192)
و من عصى ناسيا أو خرج ناسيا أو مكرها أو باشر أو جامع ناسيا أو مكرها
فالاعتكاف تام
...
631 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ عَصَى نَاسِيًا, أَوْ خَرَجَ نَاسِيًا, أَوْ
مُكْرَهًا, أَوْ بَاشَرَ, أَوْ جَامَعَ نَاسِيًا, أَوْ مُكْرَهًا:
فَالاِعْتِكَافُ تَامٌّ
لاَ يَكْدَحُ كُلُّ ذَلِكَ فِيهِ شَيْئًا, لاَِنَّهُ لَمْ يَعْمِدْ
إبْطَالَ اعْتِكَافِهِ
(5/192)
و يؤذن في المئذنة إن كان بابها في المسجد أو في صحنه و يصعد على ظهر
المسجد
...
632 - مَسْأَلَةٌ: وَيُؤَذِّنُ فِي الْمِئْذَنَةِ إنْ كَانَ بَابُهَا
فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي صَحْنِهِ, وَيَصْعَدُ عَلَى ظَهْرِ
الْمَسْجِدِ,
لإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ الْمَسْجِدِ, فَإِنْ كَانَ بَابُ
الْمِئْذَنَةِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ إنْ تَعَمَّدَ
ذَلِكَ.
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
وقال أبو حنيفة: لاَ يَبْطُلُ.
وَهَذَا خَطَأٌ; لإِنَّ الْخُرُوجَ، عَنِ الْمَسْجِدِ قَلَّ أَوْ
كَثُرَ مُفَارَقَةٌ لِلْعُكُوفِ وَتَرْكٌ لَهُ, وَالتَّحْدِيدُ فِي
ذَلِكَ بِغَيْرِ نَصٍّ بَاطِلٌ, وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ خُطْوَةٍ
وَخُطْوَتَيْنِ إلَى مِائَةِ أَلْفِ خُطْوَةٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(5/193)
و الاعتكاف جائز في كل مسجد
...
633 - مَسْأَلَةٌ: وَالاِعْتِكَافُ جَائِزٌ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ
جُمِعَتْ فِيهِ الْجُمُعَةُ أَوْ لَمْ تُجْمَعْ, سَوَاءٌ كَانَ
مُسْقَفًا أَوْ مَكْشُوفًا, فَإِنْ كَانَ لاَ يُصَلَّى فِيهِ
جَمَاعَةً، وَلاَ لَهُ إمَامٌ: لَزِمَهُ فَرْضًا الْخُرُوجُ لِكُلِّ
صَلاَةٍ إلَى الْمَسْجِدِ تُصَلَّى فِيهِ جَمَاعَةً إلاَّ أَنْ
يَبْعُدَ مِنْهُ بُعْدًا يَكُونُ عَلَيْهِ فِيهِ حَرَجٌ فَلاَ
يَلْزَمُهُ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ الَّتِي لاَ يَلْزَمُهَا فَرْضُ
الْجَمَاعَةِ فَتَعْتَكِفُ فِيهِ، وَلاَ يَجُوزُ الاِعْتِكَافُ فِي
رَحْبَةِ الْمَسْجِدِ إلاَّ أَنْ تَكُونَ مِنْهُ. وَلاَ يَجُوزُ
لِلْمَرْأَةِ, وَلاَ لِلرَّجُلِ: أَنْ يَعْتَكِفَا أَوْ أَحَدُهُمَا
فِي مَسْجِدِ دَارِهِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ
فِي الْمَسَاجِدِ} فَعَمَّ اللَّهُ تَعَالَى وَلَمْ يَخُصَّ.
فإن قيل: قَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"جُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا".
قلنا: نَعَمْ, بِمَعْنَى أَنَّهُ تَجُوزُ الصَّلاَةُ فِيهِ, وَإِلاَّ
فَقَدْ جَاءَ النَّصُّ وَالإِجْمَاعُ بِأَنَّ الْبَوْلَ وَالْغَائِطَ
جَائِزٌ فِيمَا عَدَا الْمَسْجِدَ. فَصَحَّ أَنَّهُ لَيْسَ لِمَا عَدَا
الْمَسْجِدِ حُكْمُ الْمَسْجِدِ. فَصَحَّ أَنْ لاَ طَاعَةَ فِي
إقَامَةٍ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ. فَصَحَّ أَنْ لاَ اعْتِكَافَ إلاَّ
فِي مَسْجِدٍ, وَهَذَا يُوجِبُ مَا قلنا.
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا.
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ اعْتِكَافَ إلاَّ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم.
(5/193)
إذا حاضت معنكفة أقامت في المسجد كما هي تذكر الله تعالى
...
634 - مَسْأَلَةٌ: وَإِذَا حَاضَتْ الْمُعْتَكِفَةُ أَقَامَتْ فِي
الْمَسْجِدِ كَمَا هِيَ تَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى,
وَكَذَلِكَ إذَا وَلَدَتْ, فَإِنَّهَا إنْ اُضْطُرَّتْ إلَى الْخُرُوجِ
خَرَجَتْ ثُمَّ رَجَعَتْ إذَا قَدَرَتْ.
لِمَا قَدْ بَيَّنَّا قَبْلُ مِنْ أَنَّ الْحَائِضَ تَدْخُلُ
الْمَسْجِدَ, وَلاَ يَجُوزُ مَنْعُهَا مِنْهُ إذْ لَمْ يَأْتِ
بِالْمَنْعِ لَهَا مِنْهُ نَصٌّ، وَلاَ إجْمَاعٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي
سُلَيْمَانَ
(5/196)
رُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ: حدثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا يَزِيدُ بْنُ
زُرَيْعٍ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ
أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: "اعْتَكَفَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم امْرَأَةٌ مِنْ أَزْوَاجِهِ مُسْتَحَاضَةٌ, فَكَانَتْ
تَرَى الْحُمْرَةَ وَالصُّفْرَةَ, فَرُبَّمَا وَضَعَتْ الطَّسْتَ
تَحْتَهَا وَهِيَ تُصَلِّي".
(5/197)
من مات و عليه نذر اعتكاف قضاه عنه وليه
...
635 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرُ اعْتِكَافٍ: قَضَاهُ
عَنْهُ وَلِيُّهُ,
أَوْ اُسْتُؤْجِرَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ مَنْ يَقْضِيهِ عَنْهُ, لاَ
بُدَّ مِنْ ذَلِكَ.
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ
دَيْنٍ}. وَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كَانَ
عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ عَنْهَا فَدَيْنُ اللَّهِ
أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى".
وَلِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ
اسْتَفْتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنَّ أُمِّي
مَاتَتْ وَعَلَيْهَا نَذْرٌ لَمْ تَقْضِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم: "اقْضِهِ عَنْهَا" وَهَذَا عُمُومٌ لِكُلِّ نَذْرِ
طَاعَةٍ, فَلاَ يَحِلُّ لاَِحَدٍ خِلاَفُهُ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي بَابِ هَلْ عَلَى الْمُعْتَكِفِ صِيَامٌ أَمْ
لاَ, قَبْلَ فُتْيَا ابْنِ عَبَّاسٍ بِقَضَاءِ نَذْرِ الاِعْتِكَافِ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ: حدثنا أَبُو
الأَحْوَصِ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُهَاجِرٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ
مُصْعَبٍ قَالَ: "اعْتَكَفَتْ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، عَنْ
أَخِيهَا بَعْدَ مَا مَاتَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ اعْتِكَافٌ:
اعْتَكَفَ عَنْهُ وَلِيُّهُ.
وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ: يَعْتَكِفُ عَنْهُ وَلِيُّهُ إذَا لَمْ يَجِدْ
مَا يُطْعِمُ قَالَ: وَمَنْ نَذَرَ صَلاَةً فَمَاتَ: صَلاَّهَا عَنْهُ
وَلِيُّهُ.
قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: يَعْتَكِفُ عَنْهُ وَلِيُّهُ
وَيُصَلِّي عَنْهُ وَلِيُّهُ إذَا نَذَرَ صَلاَةً أَوْ اعْتِكَافًا
ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ ذَلِكَ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: الإِطْعَامُ عَنْهُ أَحَبُّ إلَيَّ
مِنْ أَنْ يَعْتَكِفَ عَنْهُ
(5/197)
قَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ: وَمَالِكٌ, وَالشَّافِعِيُّ: يُطْعَمُ عَنْهُ لِكُلِّ
يَوْمٍ مِسْكِينٌ.
وَقَالَ أبو محمد: هَذَا قَوْلٌ ظَاهِرُ الْفَسَادِ, وَمَا
لِلإِطْعَامِ مَدْخَلٌ فِي الاِعْتِكَافِ.
وَهُمْ يُعَظِّمُونَ خِلاَفَ الصَّاحِبِ إذَا وَافَقَ تَقْلِيدَهُمْ,
وَقَدْ خَالَفُوا هَهُنَا عَائِشَةَ, وَابْنَ عَبَّاسٍ, وَلاَ يُعْرَفُ
لَهُمَا فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله تعالى عنهم.
وَقَوْلُهُمْ فِي هَذَا قَوْلٌ لَمْ يَأْتِ بِهِ قُرْآنٌ، وَلاَ
سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ، وَلاَ سَقِيمَةٌ, وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ، وَلاَ
قِيَاسٌ, بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لِكُلِّ ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: مَنْ نَذَرَ
اعْتِكَافَ شَهْرٍ وَهُوَ مَرِيضٌ فَلَمْ يَصِحَّ فَلاَ شَيْءَ
عَلَيْهِ. فَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ وَهُوَ صَحِيحٌ فَلَمْ
يَعِشْ إثْرَ نَذْرِهِ إلاَّ عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَمَاتَ فَإِنَّهُ
يُطْعَمُ عَنْهُ ثَلاَثُونَ مِسْكِينًا, وَقَدْ لَزِمَهُ اعْتِكَافُ
شَهْرٍ. قَالَ: فَإِنْ نَذَرَ اعْتِكَافًا لَزِمَهُ يَوْمٌ بِلاَ
لَيْلَةٍ. فَإِنْ قَالَ عَلِيٌّ اعْتِكَافُ يَوْمَيْنِ لَزِمَهُ
يَوْمَانِ وَمَعَهُمَا لَيْلَتَانِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ نَذَرَ
اعْتِكَافَ لَيْلَتَيْنِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلاَّ يَوْمَانِ وَلَيْلَةٌ
وَاحِدَةٌ, كَمَا لَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمَيْنِ، وَلاَ فَرْقَ.
فَهَلْ فِي التَّخْلِيطِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا وَنَسْأَلُ اللَّهَ
الْعَافِيَةَ.
(5/198)
636 -
مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ أَوْ أَيَّامٍ
مُسَمَّاةٍ, أَوْ أَرَادَ ذَلِكَ تَطَوُّعًا: فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي
اعْتِكَافِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ طُلُوعُ الْفَجْرِ,
وَيَخْرُجُ إذَا غَابَ جَمِيعُ قُرْصِ الشَّمْسِ, سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ
فِي رَمَضَانَ أَوْ غَيْرِهِ.
وَمَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ لَيْلَةٍ أَوْ لَيَالٍ مُسَمَّاةٍ أَوْ
أَرَادَ ذَلِكَ تَطَوُّعًا: فَإِنَّهُ يَدْخُلُ قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ
غُرُوبُ جَمِيعِ قُرْصِ الشَّمْسِ, وَيَخْرُجُ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ
طُلُوعُ الْفَجْرِ.
لإِنَّ مَبْدَأَ اللَّيْلِ إثْرَ غُرُوبِ الشَّمْسِ, وَتَمَامُهُ
بِطُلُوعِ الْفَجْرِ, وَمَبْدَأُ الْيَوْمِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ,
وَتَمَامُهُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ كُلِّهَا, وَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ
إلاَّ مَا الْتَزَمَ أَوْ مَا نَوَى.
فَإِنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ أَوْ أَرَادَهُ تَطَوُّعًا:
فَمَبْدَأُ الشَّهْرِ مِنْ أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْهُ فَيَدْخُلُ قَبْلَ
أَنْ يَتِمَّ غُرُوبُ جَمِيعِ قُرْصِ الشَّمْسِ, وَيَخْرُجُ إذَا
غَابَتْ الشَّمْسُ كُلُّهَا مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ, سَوَاءٌ رَمَضَانُ
وَغَيْرُهُ.
لإِنَّ اللَّيْلَةَ الْمُسْتَأْنَفَةَ لَيْسَتْ مِنْ ذَلِكَ الشَّهْرِ
الَّذِي نَذَرَ اعْتِكَافَهُ أَوْ نَوَى اعْتِكَافَهُ.
(5/198)
فَإِنْ
نَذَرَ اعْتِكَافَ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ: دَخَلَ
قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ الْيَوْمِ التَّاسِعِ عَشْرَ.
لإِنَّ الشَّهْرَ قَدْ يَكُونُ مِنْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً,
فَلاَ يَصِحُّ لَهُ اعْتِكَافُ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ إلاَّ كَمَا
قلنا, وَإِلاَّ فَإِنَّمَا اعْتَكَفَ تِسْعَ لَيَالٍ فَقَطْ, فَإِنْ
كَانَ الشَّهْرُ ثَلاَثِينَ عَلِمَ أَنَّهُ اعْتَكَفَ لَيْلَةً
زَائِدَةً, وَعَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ اعْتِكَافَ اللَّيْلَةِ الآخِرَةِ
لِيَفِيَ بِنَذْرِهِ, إلاَّ مَنْ عَلِمَ بِانْتِقَالِ الْقَمَرِ,
فَيَدْخُلُ بِقَدْرِ مَا يَدْرِي أَنَّهُ يَفِي بِنَذْرِهِ.
وَاَلَّذِي قلنا مِنْ وَقْتِ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ هُوَ قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ: حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مُنِيرٍ سَمِعَ هَارُونَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ
الْمُبَارَكِ، حدثنا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ سَمِعَ أَبَا سَلَمَةَ
بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ قَالَ لَهُ: "اعْتَكَفْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم الْعَشْرَ الأَوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ, فَخَرَجْنَا صَبِيحَةَ
عِشْرِينَ".
وَهَذَا نَصُّ قَوْلِنَا.
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ: حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ هُوَ
الزُّبَيْدِيُّ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَازِمٍ, والدَّراوَرْدِيُّ,
كِلاَهُمَا، عَنْ يَزِيدَ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ:
"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُجَاوِرُ فِي رَمَضَانَ
الْعَشْرَ الَّتِي فِي وَسَطِ الشَّهْرِ, فَإِذَا كَانَ حِينَ يُمْسِي
مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً وَيَسْتَقْبِلُ إحْدَى وَعِشْرِينَ رَجَعَ
إلَى مَسْكَنِهِ, وَرَجَعَ مَنْ كَانَ يُجَاوِرُ مَعَهُ".
وَهَذَا نَصُّ قَوْلِنَا, إلاَّ أَنَّ فِيهِ أَنَّهُ عليه السلام كَانَ
يَبْقَى يَوْمَهُ إلَى أَنْ يُمْسِيَ وَهَذَا يُخَرَّجُ عَلَى أَحَدِ
وَجْهَيْنِ إمَّا أَنَّهُ تَنَفُّلٌ مِنْهُ عليه السلام. وَأَمَّا
أَنَّهُ عليه السلام نَوَى أَنْ يَعْتَكِفَ الْعَشْرَ اللَّيَالِيَ
بِعَشْرَةِ أَيَّامِهَا.
وَهَذَا حَدِيثٌ رَوَاهُ مَالِكٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ, فَوَقَعَ فِي
لَفْظِهِ تَخْلِيطٌ وَإِشْكَالٌ لَمْ يَقَعَا فِي رِوَايَةِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ
الدَّرَاوَرْدِيِّ إلاَّ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لَهُمَا فِي الْمَعْنَى.
وَهُوَ أَنَّنَا رُوِّينَا هَذَا الْخَبَرَ نَفْسَهُ، عَنْ مَالِكٍ،
عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ:
(5/199)
"أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ
الأَوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ, فَاعْتَكَفَ عَامًا حَتَّى إذَا كَانَ
لَيْلَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْ
صَبِيحَتِهَا مِنْ اعْتِكَافِهِ قَالَ: مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي
فَلْيَعْتَكِفْ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ, فَقَدْ رَأَيْتُ هَذِهِ
اللَّيْلَةَ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا, وَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي
مَاءٍ وَطِينٍ مِنْ صَبِيحَتِهَا, فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ
الأَوَاخِرِ, وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ, فَمَطَرَتْ السَّمَاءُ
تِلْكَ اللَّيْلَةَ, وَكَانَ الْمَسْجِدُ عَلَى عَرِيشٍ, فَبَصُرَتْ
عَيْنَايَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جَبْهَتِهِ أَثَرُ
الْمَاءِ وَالطِّينِ مِنْ صُبْحِ إحْدَى وَعِشْرِينَ".
قال أبو محمد: مِنْ الْمُحَالِ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ عليه السلام
يَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ بَعْدَ انْقِضَاءِ لَيْلَةِ إحْدَى
وَعِشْرِينَ, وَيُنْذِرُ بِسُجُودِهِ فِي مَاءٍ وَطِينٍ فِيمَا
يَسْتَأْنِفُ, وَيَكُونَ ذَلِكَ لَيْلَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ الَّتِي
مَضَتْ.فَصَحَّ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ الرَّاوِي, "حَتَّى إذَا كَانَ
لَيْلَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ" أَرَادَ اسْتِقْبَالَ لَيْلَةِ إحْدَى
وَعِشْرِينَ, وَبِهَذَا تَتَّفِقُ رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ أَبِي
كَثِيرٍ مَعَ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ, كِلاَهُمَا، عَنْ
أَبِي سَلَمَةَ, وَرِوَايَةُ الدَّرَاوَرْدِيِّ, وَابْنِ أَبِي
حَازِمٍ, وَمَالِكٍ, كُلُّهُمْ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمِ التَّيْمِيِّ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ: حدثنا أَبُو النُّعْمَانِ
هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ، حدثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حدثنا
يَحْيَى، هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ:
"كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ
الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ, فَكُنْتُ أَضْرِبُ لَهُ خِبَاءً
فَيُصَلِّي الصُّبْحَ ثُمَّ يَدْخُلُه"ُ.
قال أبو محمد: هَذَا تَطَوُّعٌ مِنْهُ عليه السلام, وَلَيْسَ أَمْرًا
مِنْهُ وَمَنْ زَادَ فِي الْبِرِّ زَادَ خَيْرًا. وَيُسْتَحَبُّ
لِلْمُعْتَكِفِ وَالْمُعْتَكِفَةِ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ أَحَدٍ خِبَاءٌ
فِي صَحْنِ الْمَسْجِدِ, ائْتِسَاءً بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
وَلَيْسَ ذَلِكَ وَاجِبًا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
تم كتاب الاعتكاف وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين والحمد لله رب
العالمين
(5/200)
|