المحلى
بالآثار شرح المجلى بالإختصار
كتاب الصيام
أحكام النية في الصوم
الصيام قسمان فرض و تطوع
...
بَسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ
كِتَابُ الصِّيَامِ
726 - مَسْأَلَةٌ: الصِّيَامُ قِسْمَانِ فَرْضٌ, وَتَطَوُّعٌ,
وَهَذَا إجْمَاعُ حَقٍّ مُتَيَقَّنٍ, وَلاَ سَبِيلَ فِي بِنْيَةِ
الْعَقْلِ إلَى قِسْمٍ ثَالِثٍ.
(6/160)
من الفروض صيام شهر رمضان
...
727 - مَسْأَلَةٌ: فَمِنْ الْفَرْضِ صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ,
الَّذِي بَيْنَ شَعْبَانَ, وَشَوَّالٍ, فَهُوَ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ
مُسْلِمٍ عَاقِلٍ بَالِغٍ صَحِيحٍ مُقِيمٍ, حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا,
ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى, إلاَّ الْحَائِضَ وَالنُّفَسَاءَ, فَلاَ
يَصُومَانِ أَيَّامَ حَيْضِهِمَا أَلْبَتَّةَ, وَلاَ أَيَّامَ
نَفَسِهِمَا, وَيَقْضِيَانِ صِيَامَ تِلْكَ الأَيَّامِ وَهَذَا كُلُّهُ
فَرْضٌ مُتَيَقَّنٌ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الإِسْلاَمِ.
(6/160)
لا يجزئ الصيام إلا بالنية
...
728 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يُجْزِئُ صِيَامٌ أَصْلاً رَمَضَانَ كَانَ
أَوْ غَيْرَهُ إلاَّ بِنِيَّةٍ
مُجَدَّدَةٍ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ لِصَوْمِ الْيَوْمِ الْمُقْبِلِ,
فَمَنْ تَعَمَّدَ تَرْكَ النِّيَّةِ بَطَلَ صَوْمُهُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إلاَّ
لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} فَصَحَّ أَنَّهُمْ
لَمْ يُؤْمَرُوا بِشَيْءٍ فِي الدِّينِ إلاَّ بِعِبَادَةِ اللَّهِ
تَعَالَى وَالإِخْلاَصِ لَهُ فِيهَا بِأَنَّهَا دِينُهُ الَّذِي أَمَرَ
بِهِ.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا الأَعْمَالُ
بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى". فَصَحَّ أَنَّهُ
لاَ عَمَلَ إلاَّ بِنِيَّةٍ لَهُ, وَأَنَّهُ لَيْسَ لاَِحَدٍ إلاَّ مَا
نَوَى. فَصَحَّ أَنَّ مَنْ نَوَى الصَّوْمَ فَلَهُ صَوْمٌ, وَمَنْ لَمْ
يَنْوِهِ فَلَيْسَ لَهُ صَوْمٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ: أَنَّ الصَّوْمَ إمْسَاكٌ، عَنِ الأَكْلِ
وَالشُّرْبِ; وَتَعَمُّدِ الْقَيْءِ, وَعَنِ الْجِمَاعِ, وَعَنِ
الْمَعَاصِي, فَكُلُّ مَنْ أَمْسَكَ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ لَوْ
أَجْزَأَهُ الصَّوْمُ بِلاَ نِيَّةٍ لِلصَّوْمِ لَكَانَ فِي كُلِّ
وَقْتٍ صَائِمًا, وَهَذَا مَا لاَ يَقُولُ أَحَدٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ الإِجْمَاعِ أَنَّهُ قَدْ صَحَّ الإِجْمَاعُ عَلَى
أَنَّ مَنْ صَامَ وَنَوَاهُ مِنْ اللَّيْلِ فَقَدْ أَدَّى مَا
عَلَيْهِ, وَلاَ نَصَّ، وَلاَ إجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ يُجْزِئُ
مَنْ لَمْ يَنْوِهِ مِنْ اللَّيْلِ.
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا.
(6/160)
من نسي أن ينوي من الليل في رمضان فينوي حين ذكر
...
729 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ نَسِيَ أَنْ يَنْوِيَ مِنْ اللَّيْلِ فِي
رَمَضَانَ
فَأَيُّ وَقْتٍ ذَكَرَ مِنْ النَّهَارِ التَّالِي لِتِلْكَ اللَّيْلَةِ
سَوَاءٌ أَكَلَ وَشَرِبَ وَوَطِئَ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ
ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَنْوِي الصَّوْمَ مِنْ وَقْتِهِ إذَا ذَكَرَ,
وَيُمْسِكُ عَمَّا يُمْسِكُ عَنْهُ الصَّائِمُ, وَيُجْزِئُهُ صَوْمُهُ
ذَلِكَ تَامًّا, وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ, وَلَوْ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ
مِنْ النَّهَارِ, إلاَّ مِقْدَارُ النِّيَّةِ فَقَطْ, فَإِنْ لَمْ
يَنْوِ كَذَلِكَ فَلاَ صَوْمَ لَهُ, وَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى
مُتَعَمِّدٌ لاِِبْطَالِ صَوْمِهِ, وَلاَ يَقْدِرُ عَلَى الْقَضَاءِ.
وَكَذَلِكَ مَنْ جَاءَهُ الْخَبَرُ بِأَنَّ هِلاَلَ رَمَضَانَ رُئِيَ
الْبَارِحَةَ فَسَوَاءٌ أَكَلَ وَشَرِبَ وَوَطِئَ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ
شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي أَيِّ وَقْتٍ جَاءَ الْخَبَرُ مِنْ ذَلِكَ
الْيَوْمِ وَلَوْ فِي آخِرِهِ كَمَا ذَكَرْنَا فَإِنْ يَنْوِيَ
الصَّوْمَ سَاعَةً صَحَّ الْخَبَرُ عِنْدَهُ, وَيُمْسِكُ عَمَّا
يُمْسِكُ عَنْهُ الصَّائِمُ, وَيُجْزِئُهُ صَوْمُهُ, وَلاَ قَضَاءَ
عَلَيْهِ, فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَصَوْمُهُ بَاطِلٌ, كَمَا قلنا فِي
الَّتِي قَبْلَهَا سَوَاءٌ سَوَاءٌ.
وَكَذَلِكَ أَيْضًا: مَنْ عَلَيْهِ صَوْمُ نَذْرٍ مُعَيَّنٍ فِي يَوْمٍ
بِعَيْنِهِ فَنَسِيَ النِّيَّةَ وَذَكَرَ بِالنَّهَارِ فَكَمَا قلنا،
وَلاَ فَرْقَ.
وَكَذَلِكَ مَنْ نَسِيَ النِّيَّةَ فِي لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي
الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ الْوَاجِبَيْنِ ثُمَّ ذَكَرَ
بِالنَّهَارِ، وَلاَ فَرْقَ.
وَكَذَلِكَ مَنْ نَامَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فِي رَمَضَانَ, أَوْ
فِي الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ, أَوْ فِي نَذْرٍ
(6/164)
مُعَيَّنٍ
فَلَمْ يَنْتَبِهْ إلاَّ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَوْ فِي شَيْءٍ
مِنْ نَهَارِ ذَلِكَ الْيَوْمِ, وَلَوْ فِي آخِرِهِ كَمَا قلنا فَكَمَا
قلنا أَيْضًا آنِفًا سَوَاءٌ سَوَاءٌ, وَلاَ فَرْقَ فِي شَيْءٍ
أَصْلاً.
فَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا,
وَلاَ اسْتَيْقَظَ حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ: فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ,
وَلَمْ يَصُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ.
بُرْهَانُ قَوْلِنَا: قَوْلُ اللَّهِ تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ
قُلُوبُكُمْ} وَكَذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"رُفِعَ، عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا
عَلَيْهِ". وَكُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا نَاسٍ, أَوْ مُخْطِئٌ غَيْرُ
عَامِدٍ, فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ،
حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ،
حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ
حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ الْعَبْدِيُّ، حدثنا بِشْرُ بْنُ
الْمُفَضَّلِ، حدثنا خَالِدُ بْنُ ذَكْوَانَ، عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ
مُعَوِّذِ ابْنِ عَفْرَاءَ قَالَتْ: "أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إلَى قُرَى الأَنْصَارِ الَّتِي
حَوْلَ الْمَدِينَةِ: مَنْ كَانَ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيُتِمَّ
صَوْمَهُ, وَمَنْ كَانَ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ
يَوْمِهِ".
وَبِهِ إلَى مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ: حدثنا قُتَيْبَةُ بْنُ
سَعِيدٍ، حدثنا حَاتِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي
عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ: "بَعَثَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً مِنْ أَسْلَمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ,
فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي النَّاسِ: مَنْ كَانَ لَمْ يَصُمْ
فَلْيَصُمْ, وَمَنْ كَانَ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ صِيَامَهُ إلَى الليل".
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ،
حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ الْبَلْخِيُّ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ،
حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا الْمَكِّيُّ بْنُ إبْرَاهِيمَ، حدثنا
يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ:
"أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً مِنْ أَسْلَمَ أَنْ
أَذِّنْ فِي النَّاسِ: إنَّ مَنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ
يَوْمِهِ, وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ, فَإِنَّ الْيَوْمَ
يَوْمُ عَاشُورَاءَ".
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ وَغَيْرِهِ مُسْنَدًا.
قال أبو محمد: وَيَوْمُ عَاشُورَاءَ هُوَ كَانَ الْفَرْضُ حِينَئِذٍ
صِيَامَهُ.
كَمَا رُوِّينَا بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ إلَى الْبُخَارِيِّ: حدثنا
أَبُو مَعْمَرٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَارِثِ، هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ
التَّنُّورِيُّ، حدثنا أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، حدثنا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ
(6/165)
ابْنِ
عَبَّاسٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَفِيهِ- "أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ".
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ،
حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ،
حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا
أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى
أَخْبَرَنَا شَيْبَانُ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنْ
جَعْفَرِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: "كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ بِصَوْمِ عَاشُورَاءَ
وَيَحُثُّنَا عَلَيْهِ وَيَتَعَاهَدُنَا عِنْدَهُ, فَلَمَّا فُرِضَ
رَمَضَانُ لَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا عَنْهُ وَلَمْ
يَتَعَاهَدْنَا عِنْدَهُ".
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ, وَهِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ,
وَعِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ كُلُّهُمْ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ،
عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم أَمَرَ بِصِيَامِ عَاشُورَاءَ, حَتَّى فُرِضَ رَمَضَانُ".
قَالَ عِرَاكٌ: فَقَالَ عليه السلام: "مَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ
شَاءَ فَلْيُفْطِرْهُ".
قال أبو محمد: فَكَانَ هَذَا حُكْمَ صَوْمِ الْفَرْضِ, وَمَا نُبَالِي
بِنَسْخِ فَرْضِ صَوْمِ عَاشُورَاءَ, فَقَدْ أُحِيلَ صِيَامُ رَمَضَانَ
أَحْوَالاً, فَقَدْ كَانَ مَرَّةً: مَنْ شَاءَ صَامَهُ, وَمَنْ شَاءَ
أَفْطَرَهُ وَأَطْعَمَ، عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا, إلاَّ أَنَّ
حُكْمَ مَا كَانَ فَرْضًا حُكْمٌ وَاحِدٌ; وَإِنَّمَا نَزَلَ هَذَا
الْحُكْمُ فِيمَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِ;
وَكُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ نَاسٍ, أَوْ جَاهِلٍ, أَوْ نَائِمٍ فَلَمْ
يَعْلَمُوا وُجُوبَ الصَّوْمِ عَلَيْهِمْ, فَحُكْمُهُمْ كُلِّهِمْ هُوَ
الْحُكْمُ الَّذِي جَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ
اسْتِدْرَاكِ النِّيَّةِ فِي الْيَوْمِ الْمَذْكُورِ مَتَى مَا
عَلِمُوا بِوُجُوبِ صَوْمِهِ عَلَيْهِمْ, وَسُمِّيَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ
صَائِمًا, وَجَعَلَ فِعْلَهُ صَوْمًا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ.
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ،
عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ: أَنَّ قَوْمًا شَهِدُوا عَلَى
الْهِلاَلِ بَعْدَمَا أَصْبَحُوا, فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ مَنْ أَكَلَ فَلْيُمْسِكْ، عَنِ الطَّعَامِ, وَمَنْ لَمْ
يَأْكُلْ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ.
وَعَنْ عَطَاءٍ: إذَا أَصْبَحَ رَجُلٌ مُفْطِرًا وَلَمْ يَذُقْ شَيْئًا
ثُمَّ عَلِمَ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَلِ أَوَّلَ النَّهَارِ أَوْ آخِرَهُ
فَلْيَصُمْ مَا بَقِيَ، وَلاَ يُبَدِّلْهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ أَبِي بَشِيرٍ،
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ:
مَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلْيَصُمْ, وَمَنْ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ
يَوْمِهِ.
(6/166)
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ
سِيرِينَ: أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: مَنْ أَكَلَ أَوَّلَ
النَّهَارِ فَلْيَأْكُلْ آخِرَهُ.
قَالَ عَلِيٌّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فِي
أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ الْهِلاَلَ رُئِيَ
الْبَارِحَةَ عَلَى أَقْوَالٍ.
مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَنْوِي صَوْمَ يَوْمِهِ وَيُجْزِئُهُ, وَهُوَ
قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَبِهِ نَأْخُذُ, وَبِهِ جَاءَ
النَّصُّ الَّذِي قَدَّمْنَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لاَ يَصُومُ, لاَِنَّهُ لَمْ يَنْوِ الصِّيَامَ
مِنْ اللَّيْلِ, وَلَمْ يَرَوْا فِيهِ قَضَاءً, وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ
مَسْعُودٍ كَمَا ذَكَرْنَا وَبِهِ يَقُولُ دَاوُد وَأَصْحَابُنَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَأْكُلُ بَقِيَّتَهُ وَيَقْضِيهِ, وَهُوَ
قَوْلٌ رُوِّينَاهُ، عَنْ عَطَاءٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُمْسِكُ فِيهِ عَمَّا يُمْسِكُ الصَّائِمُ,
وَلاَ يُجْزِئُهُ, وَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ,
وَالشَّافِعِيِّ.
وَقَالَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَنْ أَكَلَ خَاصَّةً, دُونَ مَنْ
لَمْ يَأْكُلْ; وَفِيمَنْ عَلِمَ الْخَبَرَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَقَطْ,
أَكَلَ أَوْ لَمْ يَأْكُلْ.
وَهَذَا أَسْقَطُ الأَقْوَالِ; لاَِنَّهُ لاَ نَصَّ فِيهِ, وَلاَ
قِيَاسَ, وَلاَ نَعْلَمُهُ مِنْ قَوْلِ صَاحِبٍ, وَلاَ يَخْلُو هَذَا
الإِمْسَاكُ الَّذِي أَمَرُوهُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَوْمًا
يُجْزِئُهُ, وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِهَذَا, أَوْ لاَ يَكُونُ صَوْمًا،
وَلاَ يُجْزِئُهُ, فَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَهُمْ أَنْ يَأْمُرُوهُ
بِعَمَلٍ يَتْعَبُ فِيهِ وَيَتَكَلَّفُهُ، وَلاَ يُجْزِئُهُ!
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ لاَ يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مُفْطِرًا أَوْ
صَائِمًا; فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلِمَ يَقْضِيهِ إذَنْ فَيَصُومُ
يَوْمَيْنِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إلاَّ وَاحِدٌ. وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا
فَلِمَ أَمَرُوهُ بِعَمَلِ الصَّوْمِ وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا,
وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
قال أبو محمد: احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ فِي تَصْحِيحِ تَخْلِيطِهِ
الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ فِي نِيَّةِ الصَّوْمِ بِخَبَرِ
الرُّبَيِّعِ, وَسَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ الَّذِي ذَكَرْنَا, وَهَذَا
عَجَبٌ جِدًّا أَنْ يَكُونُوا قَدْ خَالَفُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم فِي نَفْسِ مَا جَاءَ بِهِ الْخَبَرُ, فَقَالُوا: مَنْ
أَكَلَ لَمْ يُجْزِهِ صِيَامُ بَاقِي يَوْمِهِ, وَفِي تَخْصِيصِهِمْ
بِالنِّيَّةِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَلَيْسَ هَذَا فِي الْخَبَرِ, ثُمَّ
احْتَجُّوا بِهِ فِيمَا لَيْسَ مِنْهُ شَيْءٌ وَمِنْ عَادَتِهِمْ هَذَا
الْخُلُقُ الذَّمِيمُ, وَهَذَا قَبِيحٌ جِدًّا, وَتَمْوِيهٌ لاَ
يَسْتَجِيزُهُ مُحَقِّقٌ نَاصِحٌ لِنَفْسِهِ!
(6/167)
وقال
بعضهم: قَدْ رَوَى هَذَا الْخَبَرَ عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ،
عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
الْمِنْهَالِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَمِّهِ قَالَ: أَتَيْتُ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي فِي عَاشُورَاءَ فَقَالَ:
"صُمْتُمْ يَوْمَكُمْ هَذَا؟" قَالُوا: لاَ, قَالَ: "فَأَتِمُّوا
يَوْمَكُمْ هَذَا وَاقْضُوا".
قال أبو محمد: لَفْظَةُ "وَاقْضُوا" مَوْضُوعَةٌ بِلاَ شَكٍّ, وَعَبْدُ
الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ مَوْلَى بَنِي أَبِي الشَّوَارِبِ يُكَنَّى
أَبَا الْحُسَيْنِ, مَاتَ سَنَةَ 51 هـ إحْدَى وَخَمْسِينَ
وَثَلاَثِمِائَةٍ, وَقَدْ اخْتَلَطَ عَقْلُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ
بِسَنَةٍ, وَهُوَ بِالْجُمْلَةِ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ, وَتَرَكَهُ
أَصْحَابُ الْحَدِيثِ جُمْلَةً وَأَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُسْلِمٍ
مَجْهُولٌ.
(6/168)
وَقَدْ
رُوِّينَا هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ,
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ, وَلَيْسَتْ
فِيهِ هَذِهِ اللَّفْظَةُ.
كَمَا َحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حدثنا
عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ قَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ،
حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ، حدثنا مُحَمَّدُ
بْنُ الْمُثَنَّى، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ غُنْدَرٌ، حدثنا
شُعْبَةُ، حدثنا قَتَادَةُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ
الْمِنْهَالِ بْنِ سَلَمَةَ الْخُزَاعِيُّ، عَنْ عَمِّهِ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لاَِسْلَمَ: "صُومُوا الْيَوْمَ"
قَالُوا: إنَّا قَدْ أَكَلْنَا, قَالَ: "صُومُوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ
يَعْنِي عَاشُورَاءَ".
حدثنا عبد الله بن ربيع التَّمِيمِيُّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ
مُعَاوِيَةَ الْقُرَشِيُّ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، أَخْبَرَنَا
إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ، حدثنا مُحَمَّدُ
بْنُ بَكْرٍ هُوَ الْبُرْسَانِيُّ، حدثنا سَعِيدُ بْنُ أَبِي
عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ سَلَمَةَ
الْخُزَاعِيُّ، عَنْ عَمِّهِ قَالَ: غَدَوْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم صَبِيحَةَ عَاشُورَاءَ; فَقَالَ لَنَا:
"أَصْبَحْتُمْ صِيَامًا؟" قلنا: قَدْ تَغَدَّيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ
قَالَ: "فَصُومُوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ".
قال أبو محمد: وَمِنْ الْغَرَائِبِ تَمْوِيهُ الْحَنَفِيِّينَ بِهَذِهِ
اللَّفْظَةِ الْمَوْضُوعَةِ فِي حَدِيثِ ابْنِ قَانِعٍ مِنْ قَوْلِهِ:
وَاقْضُوا ثُمَّ خَالَفُوهَا فَلَمْ يَرَوْا الْقَضَاءَ إلاَّ عَلَى
مَنْ أَكَلَ دُونَ مَنْ لَمْ يَأْكُلْ, وَعَلَى مَنْ نَوَى بَعْدَ
الزَّوَالِ. وَهَذَا كُلُّهُ خِلاَفُ الْكِذْبَةِ الَّتِي اسْتَحَقُّوا
بِهَا الْمَقْتَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى, فَحَيْثُمَا تَوَجَّهُوا
عَثَرُوا, وَبِكُلِّ مَا احْتَجُّوا فَقَدْ خَالَفُوهُ, وَهَكَذَا
فَلْيَكُنْ الْخِذْلاَنُ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهُ.
وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِوُجُوبِ صَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ
عَلَيْهِ إلاَّ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَإِنْ لَمْ يَصُمْهُ كَمَا
أُمِرَ; وَلاَِنَّهُ لَمْ يَنْوِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ صَوْمًا, وَلَمْ
يَتَعَمَّدْ تَرْكَ النِّيَّةِ, فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ فِيمَا لَمْ
يَتَعَمَّدْ, وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ; لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ
بِإِيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ نَصٌّ، وَلاَ إجْمَاعٌ, وَلاَ يَجِبُ
فِي الدِّينِ حُكْمٌ إلاَّ بِأَحَدِهِمَا; وَإِنَّمَا أُمِرَ بِصِيَامِ
ذَلِكَ الْيَوْمِ, لاَ بِصَوْمِ غَيْرِهِ مَكَانَهُ, فَلاَ يُجْزِئُ
مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ مَكَانَ مَا أُمِرَ بِهِ.
(6/169)
730 -
مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يُجْزِئُ صَوْمُ التَّطَوُّعِ إلاَّ بِنِيَّةٍ مِنْ
اللَّيْلِ,
وَلاَ صَوْمُ قَضَاءِ رَمَضَانَ, أَوْ الْكَفَّارَاتِ إلاَّ كَذَلِكَ,
لإِنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِأَنْ لاَ صَوْمَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْهُ
مِنْ اللَّيْلِ كَمَا قَدَّمْنَا, وَلَمْ يَخُصَّ النَّصُّ مِنْ ذَلِكَ
إلاَّ مَا كَانَ فَرْضًا مُتَعَيِّنًا فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ, وَبَقِيَ
سَائِرُ ذَلِكَ عَلَى النَّصِّ الْعَامِّ.
وَقَوْلُنَا بِهَذَا فِي التَّطَوُّعِ, وَقَضَاءِ رَمَضَانَ,
وَالْكَفَّارَاتِ: هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ; وَأَبِي سُلَيْمَانَ
وَغَيْرِهِمَا.
فإن قال قائل: فَكَيْفَ اسْتَجَزْتُمْ خِلاَفَ الثَّابِتِ، عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ الَّذِي رَوَيْتُمُوهُ مِنْ طَرِيقِ طَلْحَةَ بْنِ
يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ مُجَاهِدٍ,
وَعَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ كِلاَهُمَا، عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ
عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا:
"هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ شَيْءٍ" وَقَالَ مَرَّةً: مِنْ غَدَاءٍ قلنا:
لاَ قَالَ: فَإِنِّي إذَنْ صَائِمٌ. وَقَالَ لَهَا مَرَّةً أُخْرَى:
"هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ شَيْءٍ" قلنا: نَعَمْ, أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ,
قَالَ: "أَمَا إنِّي أَصْبَحْتُ أُرِيدُ الصَّوْمَ فَأَكَلَ".
وَقَالَ بِهَذَا جُمْهُورُ السَّلَفِ.
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ
الْبُنَانِيِّ, وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عُتْبَةَ, قَالَ ثَابِتٌ:
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: إنَّ أَبَا طَلْحَةَ كَانَ يَأْتِي أَهْلَهُ
مِنْ الضُّحَى, فَيَقُولُ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ غَدَاءٍ فَإِنْ
قَالُوا: لاَ, قَالَ: فَأَنَا صَائِمٌ, وَقَالَ ابْنُ أَبِي عُتْبَةَ:
عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ بِمِثْلِ فِعْلِ أَبِي طَلْحَةَ
سَوَاءٌ سَوَاءٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ: حَدَّثَتْنِي أُمُّ شَبِيبٍ،
عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: إنِّي لاَُصْبِحُ يَوْمَ
طُهْرِي حَائِضًا وَأَنَا أُرِيدُ الصَّوْمَ, فَأَسْتَبِينُ طُهْرِي
فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ نِصْفِ النَّهَارِ فَأَغْتَسِلُ ثُمَّ
أَصُومُ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَمَعْمَرٍ,
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ; وَقَالَ مَعْمَرٌ: عَنِ
الزُّهْرِيِّ, وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ, قَالَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ
أَبِي إدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيِّ, وَقَالَ أَيُّوبُ: عَنْ أَبِي
قِلاَبَةَ, ثُمَّ اتَّفَقَ عَطَاءٌ, وَأَبُو إدْرِيسَ, وَأَبُو
قِلاَبَةَ كُلُّهُمْ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ, أَنَّ أَبَا
الدَّرْدَاءِ كَانَ إذَا أَصْبَحَ سَأَلَ أَهْلَهُ الْغَدَاءَ, فَإِنْ
لَمْ يَكُنْ; قَالَ: إنَّا صَائِمُونَ. وَقَالَ
(6/170)
عَطَاءٌ
فِي حَدِيثِهِ: إنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ كَانَ يَأْتِي أَهْلَهُ حِينَ
يَنْتَصِفُ النَّهَارُ, فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ غِذَاءٍ فَيَجِدُهُ, أَوْ
لاَ يَجِدُهُ, فَيَقُولُ: لاَُتِمَّنَّ صَوْمَ هَذَا الْيَوْمِ. قَالَ
عَطَاءٌ: وَأَنَا أَفْعَلُهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ: أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ كَانَ يَسْأَلُ
الْغَدَاءَ, فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ صَامَ يَوْمَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ: إنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ
يُصْبِحُ مُفْطِرًا, فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ طَعَامٍ فَيَجِدُهُ, أَوْ
لاَ يَجِدُهُ; فَيُتِمُّ ذَلِكَ الْيَوْمَ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ:
إذَا أَصْبَحْتَ وَأَنْتَ تُرِيدُ الصَّوْمَ فَأَنْتَ بِالْخِيَارِ:
إنْ شِئْتَ صُمْتَ وَإِنْ شِئْتَ أَفْطَرْتَ; إلاَّ أَنْ تَفْرِضَ
عَلَى نَفْسِكَ الصَّوْمَ مِنْ اللَّيْلِ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ،
عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ,
فَقَالَ: أَصْبَحْتُ، وَلاَ أُرِيدُ الصَّوْمَ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ:
أَنْتَ بِالْخِيَارِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ نِصْفِ النَّهَارِ, فَإِنْ
انْتَصَفَ النَّهَارُ فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تُفْطِرَ.
وَمِنْ طَرِيقِ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَمِنْ طَرِيقِ سَعْدِ
بْنِ عُبَيْدَةَ1، عَنِ ابْنِ عُمَرَ, قَالاَ جَمِيعًا: الصَّائِمُ
بِالْخِيَارِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ نِصْفِ النَّهَارِ; قَالَ ابْنُ
عُمَرَ: مَا لَمْ يُطْعِمْ, فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطْعِمَ طَعِمَ,
وَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ صَوْمًا كَانَ صَوْمًا.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ
سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
قَالَ: مَنْ حَدَّثَ نَفْسَهُ بِالصِّيَامِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ مَا
لَمْ يَتَكَلَّمْ, حَتَّى يَمْتَدَّ النَّهَارُ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنِ الأَعْمَشِ،
عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ قَالَ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ:
إنَّ أَحَدَكُمْ بِأَحَدِ2 النَّظَرَيْنِ مَا لَمْ يَأْكُلْ أَوْ
يَشْرَبْ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
الْقَطَّانِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ
طَلْحَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ
الرَّحْمَانِ هُوَ السُّلَمِيُّ، عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ بَدَا لَهُ
فِي الصَّوْمِ بَعْدَ أَنْ زَالَتْ الشَّمْسُ فَصَامَ.
وَعَنْ حُذَيْفَةَ أَيْضًا، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ بَدَا لَهُ فِي
الصِّيَامِ3 بَعْدَ أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ فَلْيَصُمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ: كُنْتُ فِي
سَفَرٍ وَكَانَ يَوْمَ فِطْرٍ; فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ نِصْفِ
النَّهَارِ قُلْتُ: لاََصُومَنَّ هَذَا الْيَوْمَ; فَصُمْتُ,
فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ, فَقَالَ: أَصَبْتَ,
قَالَ عَطَاءٌ: وَكُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَجَاءَهُ
أَعْرَابِيٌّ عِنْدَ الْعَصْرِ فَقَالَ:
ـــــــ
1 في النسخة رقم "16" "سعد بن عباد" وهو خطأ.
2 في النسخة رقم "16" "بآخر" وهو خطأ.
3 في النسخة رقم "16" "من بداله الصيام".
(6/171)
إنِّي
لَمْ آكُلْ الْيَوْمَ شَيْئًا أَفَأَصُومُ. قَالَ: نَعَمْ, قَالَ:
فَإِنَّ عَلَيَّ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ, أَفَأَجْعَلُهُ مَكَانَهُ
قَالَ نَعَمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي
سُلَيْمَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: إذَا عَزَمَ عَلَى
الصَّوْمِ مِنْ الضُّحَى فَلَهُ النَّهَارُ أَجْمَعُ; فَإِنْ عَزَمَ
مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ فَلَهُ مَا بَقِيَ مِنْ النَّهَارِ; وَإِنْ
أَصْبَحَ وَلَمْ يَعْزِمْ فَهُوَ بِالْخِيَارِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
نِصْفِ النَّهَارِ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ: سَأَلْتُ عَطَاءً، عَنْ رَجُلٍ كَانَ
عَلَيْهِ أَيَّامٌ مِنْ رَمَضَانَ, فَأَصْبَحَ وَلَيْسَ فِي نَفْسِهِ
أَنْ يَصُومَ, ثُمَّ بَدَا لَهُ بَعْدَمَا أَصْبَحَ أَنْ يَصُومَ
وَأَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ. فَقَالَ عَطَاءٌ: لَهُ
ذَلِكَ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ: الصَّائِمُ بِالْخِيَارِ مَا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ نِصْفِ النَّهَارِ, فَإِذَا جَاوَزَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا لَهُ
بِقَدْرِ مَا بَقِيَ مِنْ النَّهَارِ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ:
مَنْ أَرَادَ الصَّوْمَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
نِصْفِ النَّهَارِ.
وَمِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: إذَا
تَسَحَّرَ الرَّجُلُ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ, فَإِنْ
أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ, وَإِنْ هَمَّ بِالصَّوْمِ فَهُوَ
بِالْخِيَارِ, إنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ; فَإِنْ سَأَلَهُ
إنْسَانٌ فَقَالَ: أَصَائِمٌ أَنْتَ فَقَالَ: نَعَمْ, فَقَدْ وَجَبَ
عَلَيْهِ الصَّوْمُ إلاَّ أَنْ يَقُولَ: إنْ شَاءَ, فَإِنْ قَالَهَا
فَهُوَ بِالْخِيَارِ; إنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ.
فَهَؤُلاَءِ مِنْ الصَّحَابَةِ: عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ,
وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ, وَابْنُ عُمَرَ, وَابْنُ عَبَّاسٍ,
وَأَنَسٌ, وَأَبُو طَلْحَةَ, وَأَبُو أَيُّوبَ, وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ,
وَأَبُو الدَّرْدَاءِ, وَأَبُو هُرَيْرَةَ, وَابْنُ مَسْعُودٍ
وَحُذَيْفَةُ. وَمِنْ التَّابِعِينَ: ابْنُ الْمُسَيِّبِ, وَعَطَاءٌ
الْخُرَاسَانِيُّ, وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ, وَمُجَاهِدٌ
وَالنَّخَعِيُّ, وَالشَّعْبِيُّ, وَالْحَسَنُ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ, وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: مَنْ
أَصْبَحَ وَهُوَ يَنْوِي الْفِطْرَ إلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ، وَلاَ
شَرِبَ، وَلاَ وَطِئَ: فَلَهُ أَنْ يَنْوِيَ الصَّوْمَ مَا لَمْ تَغِبْ
الشَّمْسُ, وَيَصِحُّ صَوْمُهُ بِذَلِكَ.
قال أبو محمد: فَنَقُولُ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نُخَالِفَ شَيْئًا
صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ أَنْ نَصْرِفَهُ،
عَنْ ظَاهِرِهِ بِغَيْرِ نَصٍّ آخَرَ, وَهَذَا الْخَبَرُ صَحِيحٌ، عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ
أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يَكُنْ نَوَى الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ,
وَلاَ أَنَّهُ عليه السلام أَصْبَحَ مُفْطِرًا ثُمَّ نَوَى الصَّوْمَ
بَعْدَ ذَلِكَ, وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي ذَلِكَ الْخَبَرِ لَقُلْنَا
بِهِ, لَكِنْ فِيهِ
(6/172)
أَنَّهُ
عليه السلام, كَانَ يُصْبِحُ مُتَطَوِّعًا صَائِمًا ثُمَّ يُفْطِرُ,
وَهَذَا مُبَاحٌ عِنْدَنَا لاَ نَكْرَهُهُ, كَمَا فِي الْخَبَرِ,
فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي الْخَبَرِ مَا ذَكَرْنَا, وَكَانَ قَدْ صَحَّ
عَنْهُ عليه السلام: "لاَ صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْهُ مِنْ
اللَّيْلِ", لَمْ يَجُزْ أَنْ نَتْرُكَ هَذَا الْيَقِينَ لِظَنٍّ
كَاذِبٍ. وَلَوْ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَصْبَحَ مُفْطِرًا ثُمَّ
نَوَى الصَّوْمَ نَهَارًا لَبَيَّنَهُ, كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ فِي
صِيَامِ عَاشُورَاءَ إذْ كَانَ فَرْضًا, وَالتَّسَمُّحُ فِي الدِّينِ
لاَ يَحِلُّ.
فإن قيل: قَدْ رَوَيْتُمْ مِنْ طَرِيقِ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ،
عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجِيءُ فَيَدْعُو
بِالطَّعَامِ فَلاَ يَجِدُهُ فَيَفْرِضُ الصَّوْمَ".
وَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ قَانِعٍ رَاوِي كُلِّ بَلِيَّةٍ، عَنْ مُوسَى
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ السُّلَمِيِّ الْبَلْخِيّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ
هَارُونَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصْبِحُ وَلَمْ
يَجْمَعْ الصَّوْمَ ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فَيَصُومُ".
قلنا: لَيْثٌ ضَعِيفٌ, وَيَعْقُوبُ بْنُ عَطَاءٍ: هَالِكٌ, وَمِنْ
دُونِهِ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ, وَاَللَّهِ لَوْ صَحَّ
لَقُلْنَا بِهِ.
قال أبو محمد: أَمَّا الْمَالِكِيُّونَ فَيُشَنِّعُونَ بِخِلاَفِ
الْجُمْهُورِ, وَخَالَفُوا هَاهُنَا الْجُمْهُورَ بِلاَ رِقْبَةٍ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيُّونَ فَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَبْلَهُمْ أَجَازَ
أَنْ يُصْبِحَ فِي رَمَضَانَ عَامِدًا لاِِرَادَةِ الْفِطْرِ, ثُمَّ
يَبْقَى كَذَلِكَ إلَى قَبْلِ زَوَالِ الشَّمْسِ ثُمَّ يَنْوِي
الصِّيَامَ حِينَئِذٍ وَيُجْزِئُهُ, وَادَّعَوْا الإِجْمَاعَ عَلَى
أَنَّهُ لاَ تُجْزِئُ النِّيَّةُ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ فِي ذَلِكَ
قَدْ كَذَبُوا, وَلاَ مُؤْنَةَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْكَذِبِ!!
وَقَدْ صَحَّ هَذَا، عَنْ حُذَيْفَةَ نَصًّا, وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ
بِإِطْلاَقٍ, وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ نَصًّا, وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ نَصًّا, وَعَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ كَذَلِكَ,
وَعَنِ الْحَسَنِ, وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَأَحْمَدَ بْنِ
حَنْبَلٍ. قال أبو محمد: وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(6/173)
من مزج نية صوم فرض بفرض آخر أو تطوع أو فعل ذلك في غيره من العبادات
...
731 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ مَزَجَ نِيَّةَ صَوْمٍ فُرِضَ بِفَرْضٍ آخَرَ
أَوْ بِتَطَوُّعٍ,
أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي صَلاَةٍ أَوْ زَكَاةٍ, أَوْ حَجٍّ, أَوْ
عُمْرَةٍ, أَوْ عِتْقٍ: لَمْ يُجْزِهِ لِشَيْءٍ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ
وَبَطَلَ ذَلِكَ الْعَمَلُ كُلُّهُ, صَوْمًا كَانَ أَوْ صَلاَةً, أَوْ
زَكَاةً, أَوْ حَجًّا, أَوْ عُمْرَةً أَوْ عِتْقًا, إلاَّ مَزْجُ
الْعُمْرَةِ بِالْحَجِّ لِمَنْ أَحْرَمَ وَمَعَهُ الْهَدْيُ فَقَطْ,
فَهُوَ حُكْمُهُ اللاَّزِمُ لَهُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إلاَّ
لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وَالإِخْلاَصُ هُوَ
أَنْ يَخْلُصَ الْعَمَلُ الْمَأْمُورُ بِهِ لِلْوَجْهِ الَّذِي
أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِيهِ فَقَطْ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا
فَهُوَ رَدٌّ" فَمَنْ مَزَجَ عَمَلاً بِآخَرَ فَقَدْ عَمِلَ عَمَلاً
لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَلاَ أَمْرُ رَسُولِهِ صلى
الله عليه وسلم فَهُوَ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ,
وَأَصْحَابِهِمْ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: مَنْ صَلَّى, وَهُوَ مُسَافِرٌ رَكْعَتَيْنِ
نَوَى بِهِمَا الظُّهْرَ وَالتَّطَوُّعَ مَعًا أَوْ صَامَ يَوْمًا مِنْ
قَضَاءِ رَمَضَانَ يَنْوِي بِهِ قَضَاءَ مَا عَلَيْهِ وَالتَّطَوُّعَ
مَعًا وَأَعْطَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي زَكَاةِ مَالِهِ وَنَوَى بِهِ
الزَّكَاةَ وَالتَّطَوُّعَ مَعًا, أَوْ أَحْرَمَ بِحَجَّةِ الإِسْلاَمِ
وَنَوَى بِهَا الْفَرِيضَةَ وَالتَّطَوُّعَ مَعًا: فَإِنَّ كُلَّ
ذَلِكَ يُجْزِئُهُ مِنْ صَلاَةِ الْفَرْضِ وَصَوْمِ الْفَرْضِ,
وَزَكَاةِ الْفَرْضِ, وَحَجَّةِ الْفَرْضِ, وَيَبْطُلُ التَّطَوُّعُ
فِي كُلِّ ذَلِكَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: أَمَّا الصَّلاَةُ فَتَبْطُلُ،
وَلاَ تُجْزِئُهُ, لاَ، عَنْ فَرْضٍ، وَلاَ عَنْ تَطَوُّعٍ وَأَمَّا
الزَّكَاةُ, وَالصَّوْمُ فَيَكُونُ فِعْلُهُ ذَلِكَ تَطَوُّعًا
فِيهِمَا جَمِيعًا, وَيَبْطُلُ الْفَرْضُ وَأَمَّا الْحَجُّ
فَيُجْزِئُهُ، عَنِ الْفَرْضِ وَيَبْطُلُ التَّطَوُّعُ.
فَهَلْ سُمِعَ بِأَسْقَطَ مِنْ هَذِهِ الأَقْوَالِ وَمَا نَدْرِي
مِمَّنْ الْعَجَبُ أَمِمَّنْ أَطْلَقَ لِسَانَهُ بِمِثْلِهَا فِي دِينِ
اللَّهِ تَعَالَى يَمْحُو مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ بِالإِهْذَارِ
وَيَخُصُّ مَا يَشَاءُ, وَيُبْطِلُ بِالتَّخَالِيطِ, أَوْ مِمَّنْ
قَلَّدَ قَائِلَهَا, وَأَفْنَى عُمُرَهُ فِي دَرْسِهَا وَنَصْرِهَا
مُتَدَيِّنًا بِهَا وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ;
وَنَسْأَلُهُ إدَامَةَ السَّلاَمَةِ وَالْعِصْمَةِ, وَنَحْمَدُهُ عَلَى
نِعَمِهِ بِذَلِكَ عَلَيْنَا كَثِيرًا.
وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ جَعَلَ
عَلَيْهِ صَوْمَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ: إنْ شَاءَ صَامَ
شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ, وَأَجْزَأَ عَنْهُ يَعْنِي مَنْ فَرَضَهُ
وَنَذَرَهُ; قَالَ مُجَاهِدٌ: وَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ
فَصَامَ تَطَوُّعًا فَهُوَ قَضَاؤُهُ وَإِنْ لَمْ يُرِدْهُ.
(6/174)
مبطلات الصوم
من نوى و هو صائم إبطال صومه بطل
...
732 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ نَوَى وَهُوَ صَائِمٌ إبْطَالَ صَوْمِهِ
بَطَلَ,
إذَا تَعَمَّدَ ذَلِكَذَاكِرًا لاَِنَّهُ فِي صَوْمٍ وَإِنْ لَمْ
يَأْكُلْ، وَلاَ شَرِبَ، وَلاَ وَطِئَ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم: "إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ
مَا نَوَى" فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّ مَنْ نَوَى إبْطَالَ مَا هُوَ فِيهِ
مِنْ الصَّوْمِ فَلَهُ مَا نَوَى بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام
الَّذِي لاَ تَحِلُّ مُعَارَضَتُهُ, وَهُوَ قَدْ نَوَى بُطْلاَنَ
الصَّوْمِ, فَلَهُ بُطْلاَنُهُ, فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَاكِرًا لاَِنَّهُ
فِي صَوْمٍ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْئًا, لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {لَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ
قُلُوبُكُمْ}.
وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِيمَنْ نَوَى إبْطَالَ صَلاَةٍ هُوَ فِيهَا, أَوْ
حَجٍّ هُوَ فِيهِ, وَسَائِرُ الأَعْمَالِ كُلِّهَا كَذَلِكَ, فَلَوْ
نَوَى ذَلِكَ بَعْدَ تَمَامِ صَوْمِهِ أَوْ أَعْمَالِهِ الْمَذْكُورَةِ
كَانَ آثِمًا, وَلَمْ يُبْطِلْ بِذَلِكَ شَيْئًا مِنْهَا; لاَِنَّهَا
كُلَّهَا قَدْ صَحَّتْ وَتَمَّتْ كَمَا أُمِرَ, وَمَا صَحَّ فَلاَ
يَجُوزُ أَنْ يُبْطِلَ بِغَيْرِ نَصٍّ فِي بُطْلاَنِهِ,
وَالْمَسْأَلَةُ الآُولَى لَمْ يُتِمَّ عَمَلَهُ فِيهَا كَمَا أُمِرَ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(6/175)
يبطل الصوم تعمد الأكل أو الشرب أو الوطء في الفرج أو القيء
...
733 - مَسْأَلَةٌ: وَيُبْطِلُ الصَّوْمَ: تَعَمُّدُ الأَكْلِ, أَوْ
تَعَمُّدُ الشُّرْبِ, أَوْ تَعَمُّدُ الْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ; أَوْ
تَعَمُّدُ الْقَيْءِ;
وَهُوَ فِي كُلِّ ذَلِكَ ذَاكِرٌ لِصَوْمِهِ, وَسَوَاءٌ قَلَّ مَا
أَكَلَ أَوْ كَثُرَ, أَخْرَجَهُ مِنْ بَيْنِ أَسْنَانِهِ أَوْ أَخَذَهُ
مِنْ خَارِجِ فَمِهِ فَأَكَلَهُ. وَهَذَا كُلُّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ
إجْمَاعًا مُتَيَقَّنًا, إلاَّ فِيمَا نَذْكُرُهُ, مَعَ قَوْلِ اللَّهِ
تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ
وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ
مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ
إلَى اللَّيْلِ}.
وَمَا حَدَّثَنَاهُ حُمَامٌ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْبَاجِيَّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ،
حدثنا حَبِيبُ بْنُ خَلَفٍ الْبُخَارِيُّ، حدثنا أَبُو ثَوْرٍ
إبْرَاهِيمُ بْنُ خَالِدٍ، حدثنا مُعَلَّى، حدثنا عِيسَى بْنُ يُونُسَ،
حدثنا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ وَهُوَ صَائِمٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ,
وَمَنْ اسْتَقَاءَ فَلْيَقْضِ".
(6/175)
وَرُوِّينَا هَذَا أَيْضًا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ, وَعَلِيٍّ
وَعَلْقَمَةَ.
قَالَ عَلِيٌّ: عِيسَى بْنُ يُونُسَ: ثِقَةٌ.
وَقَالَ الْحَنَفِيُّونَ مَنْ تَعَمَّدَ أَنْ يَتَقَيَّأَ أَقَلَّ مِنْ
مِلْءِ فِيهِ لَمْ يَبْطُلْ بِذَلِكَ صَوْمُهُ, فَإِنْ كَانَ مِلْءَ
فِيهِ فَأَكْثَرَ, بَطَلَ صَوْمُهُ, وَهَذَا خِلاَفٌ لِرَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم مَعَ سَخَافَةِ التَّحْدِيدِ!
وَقَالَ الْحَنَفِيُّونَ, وَالْمَالِكِيُّونَ: مَنْ خَرَجَ وَهُوَ
صَائِمٌ مِنْ بَيْنِ أَسْنَانِهِ شَيْءٌ مِنْ بَقِيَّةِ سَحُورِهِ
كَالْجَذِيذَةِ وَشَيْءٌ مِنْ اللَّحْمِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَبَلَعَهُ
عَامِدًا لِبَلْعِهِ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ فَصَوْمُهُ تَامٌّ, وَمَا
نَعْلَمُ هَذَا الْقَوْلَ لاَِحَدٍ قَبْلَهُمَا!
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ لِهَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّهُ شَيْءٌ قَدْ أُكِلَ
بَعْدُ, وَإِنَّمَا حَرُمَ مَا لَمْ يُؤْكَلْ!!
فَكَانَ الاِحْتِجَاجُ أَسْقَطَ وَأَوْحَشَ مِنْ الْقَوْلِ
الْمُحْتَجِّ لَهُ وَمَا عَلِمْنَا شَيْئًا أُكِلَ فَيُمْكِنُ
وُجُودُهُ بَعْدَ الأَكْلِ, إلاَّ أَنْ يَكُونَ قَيْئًا أَوْ عَذِرَةً
وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْبَلاَءِ.
وَحَدَّ بَعْضُ الْحَنَفِيِّينَ الْمِقْدَارَ الَّذِي لاَ يَضُرُّ
تَعَمُّدُ أَكْلِهِ فِي الصَّوْمِ مِنْ ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ دُونَ
مِقْدَارِ الْحِمَّصَةِ.
فَكَانَ هَذَا التَّحْدِيدُ طَرِيفًا جِدًّا ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ,
فَأَيُّ الْحِمَّصِ هُوَ الإِمْلِيسِيُّ الْفَاخِرُ, أَمْ الصَّغِيرُ!
فَإِنْ قَالُوا قِسْنَاهُ عَلَى الرِّيقِ.
قلنا لَهُمْ: فَمِنْ أَيْنَ فَرَّقْتُمْ بَيْنَ قَلِيلِ ذَلِكَ
وَكَثِيرِهِ بِخِلاَفِ الرِّيقِ؟!
وَنَسْأَلُهُمْ عَمَّنْ لَهُ مِطْحَنَةٌ كَبِيرَةٌ مَثْقُوبَةٌ
فَدَخَلَتْ فِيهَا مِنْ سَحُورِهِ زَبِيبَةٌ, أَوْ بَاقِلاَءُ
فَأَخْرَجَهَا يَوْمًا آخَرَ بِلِسَانِهِ وَهُوَ صَائِمٌ: أَلَهُ
تَعَمُّدُ بَلْعِهَا أَمْ لاَ فَإِنْ مَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ
تَنَاقَضُوا, وَإِنْ أَبَاحُوا سَأَلْنَاهُمْ، عَنْ جَمِيعِ
طَوَاحِينِهِ وَهِيَ ثِنْتَا عَشْرَةَ مِطْحَنَةً مَثْقُوبَةٌ كُلُّهَا
فَامْتَلاََتْ سِمْسِمًا أَوْ زَبِيبًا أَوْ قُنَّبًا أَوْ حِمَّصًا
أَوْ بَاقِلاً أَوْ خُبْزًا أَوْ زَرِيعَةَ كَتَّانٍ فَإِنْ أَبَاحُوا
تَعَمُّدَ أَكْلِ ذَلِكَ كُلِّهِ حَصَّلُوا أُعْجُوبَةً وَإِنْ
مَنَعُوا مِنْهُ تَنَاقَضُوا وَتَحَكَّمُوا فِي الدِّينِ بِالْبَاطِلِ.
(6/176)
وَإِنَّمَا الْحَقُّ الْوَاضِحُ فَإِنَّ كُلَّ مَا سُمِّيَ أَكْلاً
أَيُّ شَيْءٍ كَانَ فَتَعَمُّدُهُ يُبْطِلُ الصَّوْمَ, وَأَمَّا
الرِّيقُ فَقَلَّ أَوْ كَثُرَ فَلاَ خِلاَفَ فِي أَنْ تَعَمَّدَ
ابْتِلاَعَهُ لاَ يَنْقُضُ الصَّوْمَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
وَالْعَجَبُ كُلُّهُ مِمَّنْ قَلَّدَ أَبَا حَنِيفَةَ, وَمَالِكًا فِي
هَذَا, وَلَمْ يُقَلِّدْ مِنْ سَاعَةٍ مَنْ سَاعَاتِهِ خَيْرٌ مِنْ
دَهْرِهِمَا كُلِّهِ وَهُوَ أَبُو طَلْحَةَ, الَّذِي رُوِّينَا
بِأَصَحِّ طَرِيقٍ، عَنْ شُعْبَةَ, وَعِمْرَانَ الْقَطَّانِ
كِلاَهُمَا، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ كَانَ
يَأْكُلُ الْبَرْدَ وَهُوَ صَائِمٌ قَالَ عِمْرَانُ فِي حَدِيثِهِ:
وَيَقُولُ: لَيْسَ طَعَامًا، وَلاَ شَرَابًا وَقَدْ سَمِعَهُ شُعْبَةُ
مِنْ قَتَادَةَ, وَسَمِعَهُ قَتَادَةُ مِنْ أَنَسٍ; وَلَكِنَّهُمْ
قَوْمٌ لاَ يُحَصِّلُونَ!!
(6/177)
يبطل الصوم تعمد كل معصية
...
734 - مَسْأَلَةٌ: وَيُبْطِلُ الصَّوْمَ أَيْضًا تَعَمُّدُ كُلِّ
مَعْصِيَةٍ أَيِّ مَعْصِيَةٍ كَانَتْ,
لاَ نُحَاشِ شَيْئًا إذَا فَعَلَهَا عَامِدًا ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ,
كَمُبَاشَرَةِ مَنْ لاَ يَحِلُّ لَهُ مِنْ أُنْثَى أَوْ ذَكَرٍ, أَوْ
تَقْبِيلِ امْرَأَتِهِ وَأَمَتِهِ الْمُبَاحَتَيْنِ لَهُ مِنْ أُنْثَى
أَوْ ذَكَرٍ, أَوْ إتْيَانٍ فِي دُبُرِ امْرَأَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ أَوْ
غَيْرِهِمَا, أَوْ كَذِبٍ, أَوْ غِيبَةٍ, أَوْ نَمِيمَةٍ, أَوْ
تَعَمُّدِ تَرْكِ صَلاَةٍ, أَوْ ظُلْمٍ, أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ
مَا حَرُمَ عَلَى الْمَرْءِ فِعْلُهُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ،
حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى،
حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا
مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حدثنا
عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حدثنا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، عَنْ
أَبِي صَالِحٍ الزَّيَّاتِ هُوَ السَّمَّانُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا
هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ
يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ, وَلاَ يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ
قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِمٌ".
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ
الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم قَالَ: "الصِّيَامُ جُنَّةٌ, فَإِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ
صَائِمًا فَلاَ يَرْفُثْ، وَلاَ يَجْهَلْ, فَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ
أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِمٌ".
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ،
حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا
الْبُخَارِيُّ، حدثنا آدَم بْنُ أَبِي إيَاسٍ، حدثنا ابْنُ أَبِي
ذِئْبٍ، حدثنا سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: "مَنْ لَمْ
يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ
(6/177)
فِي أَنْ
يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ".
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
عُثْمَانَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ، حدثنا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، حدثنا حَمَّادُ بْنُ
سَلَمَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ عُبَيْدٍ مَوْلَى
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم أَتَى عَلَى امْرَأَتَيْنِ صَائِمَتَيْنِ تَغْتَابَانِ
النَّاسَ فَقَالَ لَهُمَا: "قِيئَا, فَقَاءَتَا قَيْحًا وَدَمًا
وَلَحْمًا عَبِيطًا", ثُمَّ قَالَ عليه السلام: "هَا إنَّ هَاتَيْنِ
صَامَتَا، عَنِ الْحَلاَلِ وَأَفْطَرَتَا عَلَى الْحَرَامِ".
قال أبو محمد: فَنَهَى عليه السلام، عَنِ الرَّفَثِ وَالْجَهْلِ فِي
الصَّوْمِ, فَكَانَ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَامِدًا ذَاكِرًا
لِصَوْمِهِ لَمْ يَصُمْ كَمَا أُمِرَ, وَمَنْ لَمْ يَصُمْ كَمَا
أُمِرَ, فَلَمْ يَصُمْ, لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالصِّيَامِ الَّذِي
أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ, وَهُوَ السَّالِمُ مِنْ الرَّفَثِ
وَالْجَهْلِ, وَهُمَا اسْمَانِ يَعُمَّانِ كُلَّ مَعْصِيَةٍ;
وَأَخْبَرَ عليه السلام أَنَّ مَنْ لَمْ يَدَعْ الْقَوْلَ بِالْبَاطِلِ
وَهُوَ الزُّورُ وَلَمْ يَدَعْ الْعَمَلَ بِهِ فَلاَ حَاجَةَ لِلَّهِ
تَعَالَى فِي تَرْكِ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ. فَصَحَّ أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى لاَ يَرْضَى صَوْمَهُ ذَلِكَ، وَلاَ يَتَقَبَّلُهُ, وَإِذَا
لَمْ يَرْضَهُ، وَلاَ قَبِلَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ سَاقِطٌ; وَأَخْبَرَ
عليه السلام أَنَّ الْمُغْتَابَةَ مُفْطِرَةٌ وَهَذَا مَا لاَ يَسَعُ
أَحَدًا خِلاَفُهُ.
وَقَدْ كَابَرَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: إنَّمَا يَبْطُلُ أَجْرُهُ لاَ
صَوْمُهُ.
قال أبو محمد: فَكَانَ هَذَا فِي غَايَةِ السَّخَافَةِ
وَبِالضَّرُورَةِ يَدْرِي كُلُّ ذِي حِسٍّ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ أَحْبَطَ
اللَّهُ تَعَالَى أَجْرَ عَامِلِهِ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَحْتَسِبْ
لَهُ بِذَلِكَ الْعَمَلَ، وَلاَ قَبِلَهُ, وَهَذَا هُوَ الْبُطْلاَنُ
بِعَيْنِهِ بِلاَ مِرْيَةٍ.
وَبِهَذَا يَقُولُ السَّلَفُ الطَّيِّبُ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا
حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ, وَهُشَيْمٌ كِلاَهُمَا، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ, قَالَ هُشَيْمٌ: عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ لَيْسَ الصِّيَامُ مِنْ الشَّرَابِ وَالطَّعَامِ وَحْدَهُ;
وَلَكِنَّهُ مِنْ الْكَذِبِ, وَالْبَاطِلِ وَاللَّغْوِ.
وَعَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِثْلُهُ نَصًّا.
(6/178)
وَمِنْ
طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، عَنِ
ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى قَالَ قَالَ جَابِرٌ،
هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ: إذَا صُمْت فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ,
وَبَصَرُكَ, وَلِسَانُكَ، عَنِ الْكَذِبِ وَالْمَأْثَمِ, وَدَعْ أَذَى
الْخَادِمِ وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ وَقَارٌ, وَسَكِينَةٌ يَوْمَ
صِيَامِكَ, وَلاَ تَجْعَلْ يَوْمَ فِطْرِكَ وَيَوْمَ صَوْمِكَ سَوَاءً.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ
أَبِي الْعُمَيْسِ هُوَ عُتْبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ
أَبِي صَالِحٍ الْحَنَفِيِّ، عَنْ أَخِيهِ طَلِيقِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ
قَالَ أَبُو ذَرٍّ: إذَا صُمْت فَتَحَفَّظْ مَا اسْتَطَعْت, فَكَانَ
طَلِيقٌ إذَا كَانَ يَوْمُ صِيَامِهِ دَخَلَ فَلَمْ يَخْرُجْ إلاَّ
إلَى صَلاَةٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ حَمَّادٍ الْبَكَّاءِ، عَنْ ثَابِتٍ
الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: إذَا اغْتَابَ
الصَّائِمُ أَفْطَرَ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمِ الْعَبْدِيِّ،
عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِي قَالَ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ
وَأَصْحَابُهُ إذَا صَامُوا جَلَسُوا فِي الْمَسْجِدِ وَقَالُوا:
نُطَهِّرُ صِيَامَنَا.
فَهَؤُلاَءِ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، عُمَرُ, وَأَبُو ذَرٍّ
وَأَبُو هُرَيْرَةَ, وَأَنَسٌ, وَجَابِرٌ, وَعَلِيٌّ: يَرَوْنَ
بُطْلاَنَ الصَّوْمِ بِالْمَعَاصِي, لأَنَّهُمْ خَصُّوا الصَّوْمَ
بِاجْتِنَابِهَا وَإِنْ كَانَتْ حَرَامًا عَلَى الْمُفْطِرِ, فَلَوْ
كَانَ الصِّيَامُ تَامًّا بِهَا مَا كَانَ لِتَخْصِيصِهِمْ الصَّوْمَ
بِالنَّهْيِ عَنْهَا مَعْنًى, وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مُخَالِفٌ مِنْ
الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم.
وَمِنْ التَّابِعِينَ: مَنْصُورٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: مَا أَصَابَ
الصَّائِمُ شَوًى إلاَّ الْغِيبَةَ, وَالْكَذِبَ.
وَعَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ: الصِّيَامُ جُنَّةٌ; مَا لَمْ
يَخْرِقْهَا صَاحِبُهَا, وَخَرْقُهَا: الْغِيبَةُ.
وَعَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ: إنَّ أَهْوَنَ الصَّوْمِ تَرْكُ
الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ.
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ: الْكَذِبُ
يُفْطِرُ الصَّائِمَ.
(6/179)
قال أبو
محمد: وَنَسْأَلُ مَنْ خَالَفَ هَذَا، عَنِ الأَكْلِ لِلَحْمِ
الْخِنْزِيرِ, وَالشُّرْبِ لِلْخَمْرِ عَمْدًا: أَيُفْطِرُ الصَّائِمَ
أَمْ لاَ فَمِنْ قَوْلِهِمْ: نَعَمْ.
فَنَقُولُ لَهُمْ: وَلِمَ ذَلِكَ؟
فَإِنْ قَالُوا: لاَِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُمَا فِيهِ.
قلنا لَهُمْ: وَكَذَلِكَ الْمَعَاصِي; لاَِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهَا فِي
الصَّوْمِ أَيْضًا بِالنَّصِّ الَّذِي ذَكَرْنَا.
فَإِنْ قَالُوا: وَغَيْرُ الصَّائِمِ أَيْضًا مَنْهِيٌّ، عَنِ
الْمَعَاصِي.
قلنا لَهُمْ: وَغَيْرُ الصَّائِمِ أَيْضًا مَنْهِيٌّ، عَنِ الْخَمْرِ,
وَالْخِنْزِيرِ, وَلاَ فَرْقَ.
فَإِنْ قَالُوا: إنَّمَا نُهِيَ، عَنِ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَلاَ
نُبَالِي أَيَّ شَيْءٍ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ.
قلنا: وَإِنَّمَا نُهِيَ، عَنِ الْمَعَاصِي فِي صَوْمِهِ، وَلاَ
نُبَالِي بِمَا عَصَى, أَبِأَكْلٍ وَشُرْبٍ, أَمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ.
فَإِنْ قَالُوا: إنَّمَا أَفْطَرَ بِالأَكْلِ وَالشُّرْبِ.لِلإِجْمَاعِ
عَلَى أَنَّهُ مُفْطِرٌ بِهِمَا.
قلنا: فَلاَ تُبْطِلُوا الصَّوْمَ إلاَّ بِمَا أُجْمِعَ عَلَى
بُطْلاَنِهِ بِهِ وَهَذَا يُوجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ لاَ تُبْطِلُوهُ
بِأَكْلِ الْبَرَدِ، وَلاَ بِكَثِيرٍ مِمَّا أَبْطَلْتُمُوهُ بِهِ
كَالسَّعُوطِ وَالْحُقْنَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ
فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَا ذَلِكَ عَلَى الأَكْلِ وَالشُّرْبِ.
قلنا: الْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ, ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ هَذَا
فَاسِدًا مِنْ الْقِيَاسِ وَكَانَ أَصَحُّ أُصُولِكُمْ أَنْ تَقِيسُوا
بُطْلاَنَ الصَّوْمِ بِجَمِيعِ الْمَعَاصِي عَلَى بُطْلاَنِهِ
بِالْمَعْصِيَةِ بِالأَكْلِ, وَالشُّرْبِ, وَهَذَا مَا لاَ مُخَلِّصَ
مِنْهُ.
فَإِنْ قَالُوا: لَيْسَ اجْتِنَابُ الْمَعَاصِي مِنْ شُرُوطِ
الصَّوْمِ.
قلنا: كَذَبْتُمْ لإِنَّ النَّصَّ قَدْ صَحَّ بِأَنَّهُ مِنْ شُرُوطِ
الصَّوْمِ كَمَا أَوْرَدْنَا.
فَإِنْ قَالُوا: تِلْكَ الأَخْبَارُ زَائِدَةٌ عَلَى مَا فِي
الْقُرْآنِ.
قلنا: وَإِبْطَالُكُمْ الصَّوْمَ بِالسَّعُوطِ وَالْحُقْنَةِ,
وَالإِمْنَاءِ مَعَ التَّقْبِيلِ زِيَادَةٌ فَاسِدَةٌ بَاطِلَةٌ عَلَى
مَا فِي الْقُرْآنِ فَتَرَكْتُمْ زِيَادَةَ الْحَقِّ, وَأَثْبَتُّمْ
زِيَادَةَ الْبَاطِلِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(6/180)
735 -
مَسْأَلَةٌ: فَمَنْ تَعَمَّدَ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ شَيْئًا مِمَّا
ذَكَرْنَا فَقَدْ بَطَلَ صَوْمُهُ,
وَلاَ يَقْدِرُ عَلَى قَضَائِهِ إنْ كَانَ فِي رَمَضَانَ أَوْ فِي
نَذْرٍ مُعَيَّنٍ, إلاَّ فِي تَعَمُّدِ الْقَيْءِ خَاصَّةً فَعَلَيْهِ
الْقَضَاءُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ فِي تَعَمُّدِ الْقَيْءِ
قَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا ذَكَرْنَا
قَبْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِمَسْأَلَتَيْنِ; وَلَمْ يَأْتِ فِي
فَسَادِ الصَّوْمِ بِالتَّعَمُّدِ لِلأَكْلِ أَوْ الشُّرْبِ
(6/180)
أَوْ
الْوَطْءِ: نَصٌّ بِإِيجَابِ الْقَضَاءِ, وَإِنَّمَا افْتَرَضَ
تَعَالَى رَمَضَانَ لاَ غَيْرَهُ عَلَى الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ
الْعَاقِلِ الْبَالِغِ, فَإِيجَابُ صِيَامِ غَيْرِهِ بَدَلاً مِنْهُ
إيجَابُ شَرْعٍ لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ, فَهُوَ بَاطِلٌ,
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُوجِبَ اللَّهُ تَعَالَى صَوْمَ شَهْرٍ
مُسَمًّى فَيَقُولُ قَائِلٌ: إنَّ صَوْمَ غَيْرِهِ يَنُوبُ عَنْهُ,
بِغَيْرِ نَصٍّ وَارِدٍ فِي ذَلِكَ: وَبَيْنَ مَنْ قَالَ: إنَّ
الْحَجَّ إلَى غَيْرِ مَكَّةَ يَنُوبُ، عَنِ الْحَجِّ إلَى مَكَّةَ,
وَالصَّلاَةَ إلَى غَيْرِ الْكَعْبَةِ تَنُوبُ، عَنِ الصَّلاَةِ إلَى
الْكَعْبَةِ, وَهَكَذَا فِي كُلِّ شَيْءٍ قَالَ اللَّهُ تعالى: {تِلْكَ
حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا}. وَقَالَ تعالى: {وَمَنْ
يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}.
فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَا كُلَّ مُفْطِرٍ بِعَمْدٍ فِي إيجَابِ
الْقَضَاءِ عَلَى الْمُتَّقِي عَمْدًا.
قلنا: الْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ, ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ
هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ; لأَنَّهُمْ أَوَّلُ مَنْ نَقَضَ هَذَا
الْقِيَاسَ فَأَكْثَرُهُمْ لَمْ يَقِسْ الْمُفْطِرَ عَمْدًا بِأَكْلٍ
أَوْ شُرْبٍ عَلَى الْمُفْطِرِ بِالْقَيْءِ عَمْدًا فِي إسْقَاطِ
الْكَفَّارَةِ عَنْهُمْ كَسُقُوطِهَا، عَنِ الْمُتَّقِي عَمْدًا,
وَهُمْ الْحَنَفِيُّونَ, وَالْمَالِكِيُّونَ, وَالشَّافِعِيُّونَ:
قَاسُوهُمْ عَلَى الْمُفْطِرِ بِالْقَيْءِ عَمْدًا, وَلَمْ
يَقِيسُوهُمْ كُلَّهُمْ عَلَى الْمُجَامِعِ عَمْدًا فِي وُجُوبِ
الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ; فَقَدْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ
الَّذِي يَدَّعُونَ فَإِنْ وُجِدَ مَنْ يُسَوِّي بَيْنَ الْكُلِّ فِي
إيجَابِ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ كُلِّمَ فِي إبْطَالِ الْقِيَاسِ
فَقَطْ.
فَإِنْ ذَكَرُوا أَخْبَارًا وَرَدَتْ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَى
الْمُتَعَمِّدِ لِلْوَطْءِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ قِيلَ: تِلْكَ آثَارٌ
لاَ يَصِحُّ فِيهَا شَيْءٌ.
لإِنَّ أَحَدَهَا: مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:
"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ الَّذِي أَفْطَرَ
فِي رَمَضَانَ بِالْكَفَّارَةِ وَأَنْ يَصُومَ يَوْمًا", وَأَبُو
أُوَيْسٍ ضَعِيفٌ, ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ.
وَالثَّانِي: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ بِأَنْ يَصُومَ يَوْمًا",
وَهِشَامُ بْنُ سَعْدٍ ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ ابْنُ حَنْبَلٍ, وَابْنُ
مَعِينٍ, وَغَيْرُهُمَا, وَلَمْ يَسْتَجِزْ الرِّوَايَةَ عَنْهُ
يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ.
(6/181)
وَالثَّالِثُ: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ
عُمَرَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه
وسلم قَالَ لِلْوَاطِئِ فِي رَمَضَانَ: "اقْضِ يَوْمًا مَكَانَهُ",
وَعَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عُمَرَ: ضَعِيفٌ, ضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ,
وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ بِشَيْءٍ, وَقَالَ أَبُو دَاوُد
السِّجِسْتَانِيُّ: هُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ.
وَالرَّابِعُ: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ،
عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّهُ أَمَرَ
الْوَاطِئَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا مَكَانَهُ",
وَهَذَا أَسْقَطَهَا كُلَّهَا لإِنَّ الْحَجَّاجَ لاَ شَيْءَ, ثُمَّ
هِيَ صَحِيفَةٌ.
وَرُوِّينَاهُ مُرْسَلاً مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ
السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ
مُطْعِمٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ الْمَدَنِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ; كُلِّهِمْ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
أَمَرَهُ بِقَضَاءِ يَوْمٍ". وَهَذَا كُلُّهُ مُرْسَلٌ, وَلاَ تَقُومُ
بِالْمُرْسَلِ حُجَّةٌ.
وَتَاللَّهِ لَوْ صَحَّ مِنْهَا خَبَرٌ وَاحِدٌ مُسْنَدٌ مِنْ طَرِيقِ
الثِّقَاتِ لَسَارَعْنَا إلَى الْقَوْلِ بِهِ.
فَإِنْ لَجُّوا وَقَالُوا: الْمُرْسَلُ حُجَّةٌ, وَلاَ نُضَعِّفُ
الْمُحَدِّثِينَ!!
قلنا لَهُمْ: فَلاَ عَلَيْكُمْ حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النَّمَرِيُّ. حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور، حدثنا قَاسِمُ بْنُ
أَصْبَغَ، حدثنا مُطَرِّفُ بْنُ قَيْسٍ، حدثنا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ،
حدثنا مَالِكٌ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم يَضْرِبُ نَحْرَهُ وَيَنْتِفُ شَعْرَهُ وَيَقُولُ: هَلَكَ
الأَبْعَدُ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَمَا
ذَاكَ؟" قَالَ: أَصَبْتُ أَهْلِي فِي رَمَضَانَ وَأَنَا صَائِمٌ
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "هَلْ تَسْتَطِيعُ
أَنْ تَعْتِقَ رَقَبَةً" قَالَ: لاَ, قَالَ: "تَسْتَطِيعُ أَنْ
تُهْدِيَ بَدَنَةً" قَالَ: لاَ, قَالَ: "فَاجْلِسْ!" فَأُتِيَ بِعَرَقِ
تَمْرٍ, وَذَكَرَ بَاقِيَ الْخَبَرِ. وَهَكَذَا رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَمَعْمَرٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ،
عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: فَلْيَأْخُذُوا بِالْبَدَنَةِ فِي
الْكَفَّارَةِ فِي ذَلِكَ; وَإِلاَّ فَالْقَوْمُ مُتَلاَعِبُونَ!!
وَقُلْنَا لَهُمْ: لَوْ أَرَدْنَا التَّعَلُّقَ بِمَا لاَ يَصِحُّ
لَوَجَدْنَا خَيْرًا مِنْ كُلِّ خَبَرٍ تَعَلَّقْتُمْ بِهِ هَاهُنَا,
كَمَا حَدَّثَنَا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ،
حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ،
حدثنا يَحْيَى، هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ وَعَبْدُ الرَّحْمَانِ
بْنُ مَهْدِيٍّ قَالاَ جَمِيعًا: حدثنا سُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ،
(6/182)
عَنْ
حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ حَدَّثَنِي أَبُو الْمُطَوِّسِ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم: "مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ
رُخْصَةٍ، وَلاَ مَرَضٍ لَمْ يَقْضِ عَنْهُ صِيَامُ الدَّهْرِ وَإِنْ
صَامَهُ".
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ: وَأَنْبَأَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ هِشَامٍ،
حدثنا إسْمَاعِيلُ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ،
عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي الْمُطَوِّسِ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ رُخْصَةٍ
رَخَّصَهَا اللَّهُ لَمْ يَقْضِ عَنْهُ صَوْمُ الدَّهْرِ".
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ: أَنْبَأَنَا مَحْمُودُ بْنُ غِيلاَنَ،
حدثنا أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ، حدثنا شُعْبَةُ, قَالَ:
أَخْبَرَنِي حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْت عُمَارَةَ بْنَ
عُمَيْرٍ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِي الْمُطَوِّسِ, قَالَ حَبِيبٌ: وَقَدْ
رَأَيْت أَبَا الْمُطَوِّسِ. فَصَحَّ لِقَاؤُهُ إيَّاهُ.
فَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ كُلِّ مَا تَعَلَّقُوا بِهِ.
وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ نَعْتَمِدُ عَلَيْهِ; لإِنَّ أَبَا الْمُطَوِّسِ
غَيْرُ مَشْهُورٍ بِالْعَدَالَةِ, وَيُعِيذُنَا اللَّهُ مِنْ أَنَّ
نَحْتَجَّ بِضَعِيفٍ إذَا وَافَقْنَا, وَنَرُدُّهُ إذَا خَالَفَنَا
وَقَالَ بِمِثْلِ قَوْلِنَا أَفَاضِلُ السَّلَفِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ
هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ
الصِّدِّيقَ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنهما فِيمَا
أَوْصَاهُ بِهِ: مَنْ صَامَ شَهْرَ رَمَضَانَ فِي غَيْرِهِ لَمْ
يُقْبَلْ مِنْهُ وَلَوْ صَامَ الدَّهْرَ أَجْمَعَ.
وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
سِنَانٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ,
(6/183)
عَنْ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ أُتِيَ بِشَيْخٍ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي
رَمَضَانَ, فَقَالَ لِلْمَنْخَرَيْنِ لِلْمَنْخَرَيْنِ وِلْدَانُنَا
صِيَامٌ ثُمَّ ضَرَبَهُ ثَمَانِينَ وَصَيَّرَهُ إلَى الشَّامِ.
قال أبو محمد: وَلَمْ يَذْكُرْ قَضَاءً، وَلاَ كَفَّارَةً.
وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَرْوَانَ، عَنْ
أَبِيهِ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أُتِيَ بِالنَّجَاشِيِّ
قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي رَمَضَانَ, فَضَرَبَهُ ثَمَانِينَ, ثُمَّ
ضَرَبَهُ مِنْ الْغَدِ عِشْرِينَ, وَقَالَ: ضَرَبْنَاكَ الْعِشْرِينَ
لِجُرْأَتِكَ عَلَى اللَّهِ وَإِفْطَارِكَ فِي رَمَضَانَ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَلَمْ يَذْكُرْ قَضَاءً, وَلاَ كَفَّارَةً.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ
عُمَرَ بْنِ يَعْلَى الثَّقَفِيِّ. عَنْ عَرْفَجَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ قَالَ: مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ
مُتَعَمِّدًا لَمْ يَقْضِهِ أَبَدًا طُولُ الدَّهْرِ. وَعَنِ ابْنِ
مَسْعُودٍ: مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ رُخْصَةٍ
لَمْ يُجْزِهِ صِيَامُ الدَّهْرِ وَإِنْ صَامَهُ.
وَبِأَصَحّ طَرِيقٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلاً أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ, فَقَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ: لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَوْمُ سَنَةٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ أَبِيهِ,
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِ رَمَضَانَ
لَمْ يَقْضِهِ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا.
قال أبو محمد: مِنْ أَصْلِ الْحَنَفِيِّينَ الَّذِينَ يُجَاحِشُونَ
عَنْهُ وَيَتْرُكُونَ لَهُ السُّنَنَ: أَنَّ الْخَبَرَ إذَا خَالَفَهُ
رَاوِيهِ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ دَلِيلاً عَلَى
ضَعْفِ ذَلِكَ الْخَبَرِ أَوْ نَسْخِهِ, قَالُوا ذَلِكَ فِي حَدِيثِ
ابْنِ مُغَفَّلٍ, وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي غَسْلِ الإِنَاءِ مِنْ
وُلُوغِ الْكَلْبِ سَبْعًا إحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ, فَتَرَكُوهُ;
لأَنَّهُمْ ادَّعَوْا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ خَالَفَهُ; وَقَدْ
كَذَبُوا فِي ذَلِكَ; بَلْ قَدْ صَحَّ عَنْهُ الْقَوْلُ بِهِ, وَهَذَا
مَكَانٌ قَدْ خَالَفَ فِيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ مَا رُوِيَ مِنْ هَذَا
الْقَضَاءِ. وَخَالَفَهُ أَيْضًا سَعِيدُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ عَلَى مَا
نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى, فَرَأَى عَلَى مَنْ
(6/184)
أَفْطَرَ
يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ صَوْمَ شَهْرٍ; فَيَنْبَغِي لَهُمْ إسْقَاطُ
الْقَضَاءِ الْمَذْكُورِ فِي الْخَبَرِ بِهَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ.
فَإِنْ قَالُوا قَدْ رَوَاهُ غَيْرُ أَبِي هُرَيْرَةَ, وَغَيْرُ
سَعِيدٍ.
قلنا: وَغَسْلُ الإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ سَبْعًا قَدْ رَوَاهُ
غَيْرُ أَبِي هُرَيْرَةَ.
فَإِنْ قَالُوا مُحَالٌ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا
الْخَبَرُ وَيُفْتِي بِخِلاَفِهِ.
قلنا: فَقُولُوا هَذَا فِي خَبَرِ غَسْلِ الإِنَاءِ: مُحَالٌ أَنْ
يَكُونَ عِنْدَهُ ذَلِكَ الْخَبَرُ وَيُخَالِفُهُ وَهَذَا مَا لاَ
مُخَلِّصَ لَهُمْ مِنْهُ.
(6/185)
مسائل في قضاء الصوم و الكفارة
لا قضاء إلا على خمسة فقط: و هم الحائض و
النفساء و المريض و المسافر و المتقيء عمدا
...
736 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ قَضَاءَ إلاَّ عَلَى خَمْسَةٍ فَقَطْ:
وَهُمْ الْحَائِضُ, وَالنُّفَسَاءُ فَإِنَّهُمَا يَقْضِيَانِ أَيَّامَ
الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ, لاَ خِلاَفَ فِي ذَلِكَ مِنْ أَحَدٍ,
وَالْمَرِيضُ, وَالْمُسَافِرُ سَفَرًا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ.
لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ
الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ
فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا
أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}. وَالْمُتَقَيِّئُ
عَمْدًا, بِالْخَبَرِ الَّذِي ذَكَرْنَا قَبْلُ, وَهَذَا كُلُّهُ
أَيْضًا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِي الْمَرِيضِ, وَالْمُسَافِرِ إذَا
أَفْطَرَا, وَكُلُّهُمْ مُطِيعٌ لِلَّهِ تَعَالَى, لاَ إثْمَ
عَلَيْهِمْ, إلاَّ الْمُتَقَيِّئَ, وَهُوَ ذَاكِرٌ; فَإِنَّهُ آثِمٌ،
وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.
(6/185)
لا كفارة على نت تعمد فطرا في رمضان
...
737 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَى مَنْ تَعَمَّدَ فِطْرًا فِي
رَمَضَانَ
بِمَا لَمْ يُبَحْ لَهُ, إلاَّ مَنْ وَطِئَ فِي الْفَرْجِ مِنْ
امْرَأَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ الْمُبَاحِ لَهُ وَطْؤُهُمَا إذَا لَمْ
يَكُنْ صَائِمًا فَقَطْ; فَإِنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ, عَلَى مَا
نَصِفُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى, وَلاَ يُقَدَّرُ
الْقَضَاءُ, لِمَا ذَكَرْنَا.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ
يُوجِبْ الْكَفَّارَةَ إلاَّ عَلَى وَاطِئِ امْرَأَتِهِ عَامِدًا,
وَاسْمُ امْرَأَتِهِ يَقَعُ عَلَى الأَمَةِ الْمُبَاحِ وَطْؤُهَا,
كَمَا يَقَعُ عَلَى الزَّوْجَةِ, وَلاَ جَمْعَ لِلْمَرْأَةِ مِنْ
لَفْظِهَا; لَكِنْ جَمْعُ الْمَرْأَةِ عَلَى نِسَاءٍ, وَلاَ وَاحِدَ
لِلنِّسَاءِ مِنْ لَفْظِهِ, قَالَ تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ}
فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ بِلاَ خِلاَفٍ. الأَمَةُ الْمُبَاحَةُ,
وَالزَّوْجَةُ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ،
حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ،
حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا
يَحْيَى بْنُ يَحْيَى, وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ, وَزُهَيْرُ
بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ,
كُلُّهُمْ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ
حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:
هَلَكْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ, قَالَ: "وَمَا أَهْلَكَكَ؟" قَالَ:
وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ, قَالَ:
(6/185)
738 -
مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ وَطِئَ عَمْدًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ ثُمَّ
سَافَرَ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ أَوْ جُنَّ, أَوْ مَرِضَ لاَ تَسْقُطُ
عَنْهُ الْكَفَّارَةُ,
لإِنَّ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَلاَ يَسْقُطُ بَعْدَ
وُجُوبِهِ إلاَّ بِنَصٍّ, وَلاَ نَصَّ فِي سُقُوطِهَا لِمَا ذَكَرْنَا.
وقال أبو حنيفة, وَأَصْحَابُهُ: تَسْقُطُ بِالْمَرَضِ، وَلاَ تَسْقُطُ
بِالسَّفَرِ.
(6/197)
صفة كفارة الواجبة
...
739 - مَسْأَلَةٌ: وَصِفَةُ الْكَفَّارَةِ الْوَاجِبَةِ:
هِيَ كَمَا ذَكَرْنَا فِي رِوَايَةِ جُمْهُورِ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ:
مِنْ عِتْقِ رَقَبَةٍ لاَ يُجْزِئُهُ غَيْرُهَا مَا دَامَ يَقْدِرُ
عَلَيْهَا, فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا لَزِمَهُ صَوْمُ شَهْرَيْنِ
مُتَتَابِعَيْنِ, فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا لَزِمَهُ حِينَئِذٍ
إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا.
فإن قيل: هَلاَّ قُلْتُمْ بِمَا رَوَاهُ يَحْيَى الأَنْصَارِيُّ،
وَابْنُ جُرَيْجٍ, وَمَالِكٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ مِنْ تَخْيِيرِهِ
بَيْنَ كُلِّ ذَلِكَ؟
قلنا: لِمَا قَدْ بَيَّنَّا مِنْ أَنَّ هَؤُلاَءِ اخْتَصَرُوا
الْحَدِيثَ, وَأَتَوْا بِأَلْفَاظِهِمْ, أَوْ بِلَفْظٍ مِنْ دُونِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَأَمَّا سَائِرُ أَصْحَابِ
الزُّهْرِيِّ فَأَتَوْا بِلَفْظِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ
الَّذِي لاَ يَحِلُّ تَعَدِّيهِ أَصْلاً, وَبِزِيَادَةِ حُكْمِ
التَّرْتِيبِ, وَلاَ يَحِلُّ تَرْكُ الزِّيَادَةِ.
وَبِقَوْلِنَا يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيُّ, وَأَبُو
سُلَيْمَانَ, وَأَحْمَدُ, وَجُمْهُورُ النَّاسِ.
وَأَمَّا مَالِكٌ فَقَالَ بِمَا رُوِيَ; إلاَّ أَنَّهُ اسْتَحَبَّ
الإِطْعَامَ, وَلَيْسَ لِهَذَا الاِسْتِحْبَابِ وَجْهٌ أَصْلاً.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ أَجَازَ فِي الإِطْعَامِ
الْمَذْكُورِ: أَنْ تُطْعِمَ مِسْكِينًا وَاحِدًا سِتِّينَ يَوْمًا,
وَهَذَا خِلاَفٌ مُجَرِّدٌ لاَِمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم، وَلاَ يَقَعُ اسْمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا عَلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ
أَصْلاً.
(6/197)
و يجزئ في الكفارة رقبة مؤمنة أو كافرة, صغيرة أو كبيرة ذكر أو أنثى,
معيب أو سليم
...
740 - مَسْأَلَةٌ: وَيُجْزِئُ فِي ذَلِكَ رَقَبَةٌ مُؤْمِنَةٌ أَوْ
كَافِرَةٌ, صَغِيرَةٌ, أَوْ كَبِيرَةٌ, ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى, مَعِيبٌ
أَوْ سَلِيمٌ;
لِعُمُومِ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَعْتِقْ
رَقَبَةً", فَلَوْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ الرِّقَابِ الَّتِي تُعْتَقُ لاَ
يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ لَبَيَّنَهُ عليه السلام, وَلَمَا أَهْمَلَهُ
حَتَّى يُبَيِّنَهُ لَهُ غَيْرُهُ.
وَيُجْزِئُ فِي ذَلِكَ: أُمُّ الْوَلَدِ, وَالْمُدَبَّرُ,
وَالْمُعْتَقُ بِصِفَةٍ, وَإِلَى أَجَلٍ, وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي لَمْ
يُؤَدِّ شَيْئًا مِنْ كِتَابَتِهِ, وَلاَ يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ
نِصْفَانِ مِنْ رَقَبَتَيْنِ, وَلاَ مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ.
وقال أبو حنيفة بِقَوْلِنَا فِي الْكَافِرِ وَالصَّغِيرِ.
وقال مالك, وَالشَّافِعِيُّ لاَ يُجْزِئُ إلاَّ مُؤْمِنَةٌ, قَالُوا:
قِسْنَا ذَلِكَ عَلَى الرَّقَبَةِ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ.
(6/197)
كل ما لا يجزئ في الكفارة فهو عتق مردود باطل لا ينفذ
...
741 - مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَا قلنا أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ; فَإِنَّهُ
عِتْقٌ مَرْدُودٌ بَاطِلٌ لاَ يَنْفُذُ,
لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً
لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ" وَلاَِنَّهُ لَمْ يُعْتِقْهُ
إلاَّ بِصِفَةٍ لَمْ تَصِحَّ, فَلَمْ يَصِحَّ عِتْقُهُ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ
(6/199)
يلزم في كفارة فطر رمضان صوم متتابع و دليل ذلك
...
742 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ فَرْضَهُ الصَّوْمُ, فَقَطَعَ صَوْمَهُ
عَلَيْهِ رَمَضَانُ,
أَوْ أَيَّامُ الأَضْحَى, أَوْ مَا لاَ يَحِلُّ صِيَامُهُ فَلَيْسَا
مُتَتَابِعِينَ, وَإِنَّمَا أُمِرَ بِهِمَا مُتَتَابِعِينَ.
وَقَالَ قَائِلٌ: يُجْزِئُهُ.
قال علي: وهذا خِلاَفُ أَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ كَوْنُهُ
مَعْذُورًا فِي إفْطَارِهِ غَيْرَ آثِمٍ، وَلاَ مَلُومٍ بِمُجِيزٍ لَهُ
مَا لَمْ يُجَوِّزْهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ عَدَمِ التَّتَابُعِ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ أَبِي
عَوَانَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ: مَنْ لَزِمَهُ
شَهْرَانِ مُتَتَابِعَانِ فَمَرِضَ فَأَفْطَرَ فَإِنَّهُ يَبْتَدِئُ
صَوْمَهُمَا.
(6/200)
فإن اعترض صائم الكفارة نذر بطل النذر و سقط عنه
...
743 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ اعْتَرَضَهُ فِيهِمَا يَوْمُ نَذْرٍ
نَذَرَهُ: بَطَلَ النَّذْرُ وَسَقَطَ عَنْهُ,
وَتَمَادَى فِي صَوْمِ الْكَفَّارَةِ, وَكَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ
سَوَاءٌ سَوَاءٌ, لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ". فَصَحَّ أَنَّهُ
لَيْسَ لاَِحَدٍ أَنْ يَلْتَزِمَ غَيْرَ مَا أَلْزَمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى, وَمَنْ نَذَرَ مَا يَبْطُلُ بِهِ فَرْضَ اللَّهِ تَعَالَى
فَنَذْرُهُ بَاطِلٌ; لاَِنَّهُ تَعَدٍّ لِحُدُودِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ.
(6/200)
إن بدأ بصوم الشهرين في أول يوم من الشهر صام إلى أن يرى الهلال الثالث
و لا بد و دليل ذلك
...
744 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ بَدَأَ بِصَوْمِهِمَا فِي أَوَّلِ يَوْمٍ
مِنْ الشَّهْرِ صَامَ إلَى أَنْ يَرَى الْهِلاَلَ الثَّالِثَ، وَلاَ
بُدَّ,
كَامِلَيْنِ كَانَا أَوْ نَاقِصَيْنِ, أَوْ كَامِلاً وَنَاقِصًا
لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ
اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ} فَمَنْ لَزِمَهُ صَوْمُ
شَهْرَيْنِ لَزِمَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِمَا مِنْ جُمْلَةِ الاِثْنَيْ
عَشَرَ شَهْرًا الْمَذْكُورَةِ.
(6/200)
إن بدأ بصوم الشهرين في بعض الشهر لزمه صوم ثمانية و خمسين يوما لا
أكثر
...
745 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ بَدَأَ بِهِمَا فِي بَعْضِ الشَّهْرِ وَلَوْ
لَمْ يَمْضِ مِنْهُ إلاَّ يَوْمٌ, أَوْ لَمْ يَبْقَ إلاَّ يَوْمٌ فَمَا
بَيْنَ ذَلِكَ: لَزِمَهُ صَوْمُ ثَمَانِيَةٍ وَخَمْسِينَ يَوْمًا لاَ
أَكْثَرَ.
لِمَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
خَالِدٍ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ،
حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حدثنا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ قَالَ: آلَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ
نِسَائِهِ فَأَقَامَ فِي مَشْرُبَةٍ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً
ثُمَّ نَزَلَ, فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, آلَيْتُ شَهْرًا,
فَقَالَ: "إنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ".
وَرُوِّينَاهُ مِنْ طُرُقٍ مُتَوَاتِرَةٍ جِدًّا كَذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ
ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا,
وَمِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ أُمِّ
سَلَمَةَ وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو
(6/200)
من كان فرضه الإطعام فإنه لا بد له من أن يطعمهم شبعهم و دليل ذلك
...
746 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ فَرْضُهُ الإِطْعَامَ فَإِنَّهُ لاَ
بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يُطْعِمَهُمْ شِبَعَهُمْ,
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَطْعَمَهُمْ, وَإِنْ اخْتَلَفَ, مِثْلُ: أَنْ
يُطْعِمَ بَعْضَهُمْ خُبْزًا, وَبَعْضَهُمْ تَمْرًا, وَبَعْضَهُمْ
ثَرِيدًا, وَبَعْضَهُمْ زَبِيبًا, وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَيُجْزِئُ فِي
ذَلِكَ مُدٌّ بِمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إنْ أَعْطَاهُمْ
حَبًّا أَوْ دَقِيقًا أَوْ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ,
مِمَّا يُؤْكَلُ وَيُكَالُ; فَإِنْ أَطْعَمَهُمْ طَعَامًا مَعْمُولاً
فَيُجْزِئُهُ مَا أَشْبَعَهُمْ أَكْلَةً وَاحِدَةً, أَقَلَّ كَانَ أَوْ
أَكْثَرَ.
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُسَيْنِ
بْنِ عِقَالٍ، حدثنا بَكَّارُ بْنُ قُتَيْبَةَ، حدثنا مُؤَمَّلٌ، هُوَ
ابْنُ إسْمَاعِيلَ الْحِمْيَرِيُّ، حدثنا سُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ،
عَنْ مَنْصُورٍ، هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ
حُمَيْدٍ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم"- فَذَكَرَ
خَبَرَ الْوَاطِئِ فِي رَمَضَانَ- قَالَ: قَالَ: فَأُتِيَ النَّبِيُّ
صلى الله عليه وسلم بِمِكْتَلٍ فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَعْنِي صَاعًا
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "خُذْهُ فَأَطْعِمْهُ
عَنْكَ".
قَالَ عَلِيٌّ: فَأَجْزَأَ هَذَا فِي الإِطْعَامِ.
وَكَانَ إشْبَاعُهُمْ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَشْبَعَهُمْ مِمَّا يَأْكُلُ
النَّاسُ: يُسَمَّى إطْعَامًا, وَالْبُرُّ
(6/201)
يُؤْكَلُ
مَقْلُوًّا; فَكُلُّ ذَلِكَ إطْعَامٌ. وَلاَ يَجُوزُ تَحْدِيدُ
إطْعَامٍ دُونَ إطْعَامٍ بِغَيْرِ نَصٍّ، وَلاَ إجْمَاعٍ, وَلَمْ
يُخْتَلَفْ فِيمَا دُونَ الشِّبَعِ فِي الأَكْلِ, وَفِيمَا دُونَ
الْمُدِّ فِي الإِعْطَاءِ أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ.
وقال أبو حنيفة: لاَ يُجْزِئُ إلاَّ نِصْفُ صَاعِ بُرٍّ, أَوْ مِثْلُهُ
مِنْ سَوِيقِهِ أَوْ دَقِيقِهِ, أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ
زَبِيبٍ, أَوْ تَمْرٍ, لِكُلِّ مِسْكِينٍ.، وَلاَ بُدَّ مِنْ غَدَاءٍ
وَعَشَاءٍ أَوْ غَدَاءٍ وَغَدَاءٍ, أَوْ عَشَاءٍ وَعَشَاءٍ, أَوْ
سُحُورٍ وَغَدَاءٍ, أَوْ سُحُورٍ وَعَشَاءٍ!
قال أبو محمد: وَهَذَا تَحَكُّمٌ وَشَرْعٌ لَمْ يُوجِبْهُ نَصٌّ، وَلاَ
إجْمَاعٌ، وَلاَ قِيَاسٌ، وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ!
(6/202)
لا يجوز إطعام رضيع لا يأكل الطعام و لا إهطاؤه من الزكاة
...
747 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يُجْزِئُ إطْعَامُ رَضِيعٍ لاَ يَأْكُلُ
الطَّعَامَ, وَلاَ إعْطَاؤُهُ مِنْ ذَلِكَ,
لاَِنَّهُ لاَ يُسَمَّى إطْعَامًا, فَإِنْ كَانَ يَأْكُلُ كَمَا
تَأْكُلُ الصِّبْيَانُ أَجْزَأَ إطْعَامُهُ وَإِشْبَاعُهُ, وَإِنْ
أَكَلَ قَلِيلاً, لاَِنَّهُ أَطْعَمَ كَمَا أُمِرَ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(6/202)
لا يجزئ إطعام أقل من ستين و لا صيام أقل من شهرين في الكفارة
...
748 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يُجْزِئُ إطْعَامُ أَقَلَّ مِنْ سِتِّينَ,
وَلاَ صِيَامُ أَقَلَّ مِنْ شَهْرَيْنِ,
لاَِنَّهُ خِلاَفُ مَا أُمِرَ بِهِ.
(6/202)
749 -
مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ قَادِرًا حِينَ وَطْئِهِ عَلَى الرَّقَبَةِ
لَمْ يُجْزِهِ غَيْرُهَا, افْتَقَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ
يَفْتَقِرْ,
وَمَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْهَا حِينَئِذٍ قَادِرًا عَلَى صِيَامِ
شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَمْ يُجْزِهِ شَيْءٌ غَيْرُ الصِّيَامِ,
أَيْسَرَ بَعْدَ ذَلِكَ وَوَجَدَ رَقَبَةً أَوْ لَمْ يُوسِرْ وَمَنْ
كَانَ عَاجِزًا حِينَ ذَلِكَ، عَنِ الرَّقَبَةِ وَعَنِ الصِّيَامِ
قَادِرًا عَلَى الإِطْعَامِ لَمْ يُجْزِهِ غَيْرُ الإِطْعَامِ, قَدَرَ
عَلَى الرَّقَبَةِ أَوْ الصَّوْمِ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَقْدِرْ;
لإِنَّ كُلَّ مَا ذَكَرْنَا هُوَ فَرْضُهُ بِالنَّصِّ, وَالإِجْمَاعِ;
فَلاَ يَجُوزُ سُقُوطُ فَرْضِهِ وَإِيجَابُ فَرْضٍ آخَرَ عَلَيْهِ
بِغَيْرِ نَصٍّ، وَلاَ إجْمَاعٍ.
وَقَالَ قَائِلُونَ: إنْ دَخَلَ فِي الصَّوْمِ فَأَيْسَرَ انْتَقَلَ
حُكْمُهُ إلَى الرَّقَبَةِ.
َهَذَا خَطَأٌ, وَقَوْلٌ بِلاَ بُرْهَانٍ.
(6/202)
من لم يجد إلا رقبة لا غنى به عنها الخ لم يلزمه عتقها
...
750 - مَسْأَلَةٌ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ إلاَّ رَقَبَةً لاَ غِنَى بِهِ
عَنْهَا,
لاَِنَّهُ يَضِيعُ بَعْدَهَا أَوْ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ
حُبِّهَا: لَمْ يَلْزَمْهُ عِتْقُهَا لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {لاَ
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا}. وَقَوْله تعالى: {وَمَا
جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}. وَقَوْله تعالى:
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ}.
وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَا حَرَجٌ وَعُسْرٌ لَمْ يَجْعَلْهُ تَعَالَى
عَلَيْنَا, وَلاَ أَرَادَهُ مِنَّا, وَفَرْضُهُ حِينَئِذٍ الصِّيَامُ,
فَإِنْ كَانَ فِي غِنًى عَنْهَا وَهُوَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، وَلاَ
مَالَ لَهُ فَعَلَيْهِ عِتْقُهَا; لاَِنَّهُ وَاجِدُ رَقَبَةٍ لاَ
حَرَجَ عَلَيْهِ فِي عِتْقِهَا.
(6/202)
من كان عاجزا عن ذلك كله ففرضه الإطعام و دليل ذلك
...
751 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ عَاجِزًا، عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ
فَفَرْضُهُ الإِطْعَامُ,
وَهُوَ بَاقٍ عَلَيْهِ, فَإِنْ وَجَدَ طَعَامًا وَهُوَ إلَيْهِ
مُحْتَاجٌ أَكَلَهُ هُوَ وَأَهْلُهُ وَبَقِيَ الإِطْعَامُ دَيْنًا
عَلَيْهِ; لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ
بِالإِطْعَامِ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ, فَأَتَاهُ
بِالتَّمْرِ فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ وَأَمَرَهُ بِأَنْ يُطْعِمَهُ، عَنْ
كَفَّارَتِهِ فَصَحَّ أَنَّ الإِطْعَامَ بَاقٍ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ
لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ, وَأَمَرَهُ عليه السلام بِأَكْلِهِ إذْ
أَخْبَرَهُ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى أَكْلِهِ, وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ
مَا قَدْ أَلْزَمَهُ إيَّاهُ مِنْ الإِطْعَامِ, وَلاَ يَجُوزُ سُقُوطُ
مَا افْتَرَضَهُ عليه السلام إلاَّ بِإِخْبَارٍ مِنْهُ عليه السلام
بِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(6/203)
الحر و العبد في كل ما ذكر سواء و دليل ذلك
...
752 - مَسْأَلَةٌ: وَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا
سَوَاءٌ وَيُطْعِمُ مِنْ ذَلِكَ الْحُرَّ وَالْعَبْدَ,
لإِنَّ حُكْمَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَ عُمُومًا,
لَمْ يُخَصَّ مِنْهُ حُرٌّ مِنْ عَبْدٍ, وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ
مِسْكِينًا فَهُوَ مِمَّنْ أُمِرَ بِإِطْعَامِهِ، وَلاَ تَجُوزُ
مُعَارَضَةُ أَمْرِهِ عليه السلام بِالدَّعَاوَى الْكَاذِبَةِ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ.
(6/203)
لا ينقض الصوم حجامة و لا احتلام و لا استمناء و لا مباشرة الرجل
امرأته فيما دون الفرج
...
753 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَنْقُضُ الصَّوْمَ حِجَامَةٌ، وَلاَ
احْتِلاَمٌ, وَلاَ اسْتِمْنَاءٌ, وَلاَ مُبَاشَرَةُ الرَّجُلِ
امْرَأَتَهُ
أَوْ أَمَتَهُ الْمُبَاحَةَ لَهُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ, تَعَمَّدَ
الإِمْنَاءَ أَمْ لَمْ يُمْنِ, أَمْذَى أَمْ لَمْ يُمْذِ، وَلاَ
قُبْلَةٌ كَذَلِكَ فِيهِمَا, وَلاَ قَيْءٌ غَالِبٌ, وَلاَ قَلْسٌ
خَارِجٌ مِنْ الْحَلْقِ, مَا لَمْ يَتَعَمَّدْ رَدَّهُ بَعْدَ
حُصُولِهِ فِي فَمِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى رَمْيِهِ, وَلاَ دَمٌ خَارِجٌ
مِنْ الأَسْنَانِ أَوْ الْجَوْفِ مَا لَمْ يَتَعَمَّدْ بَلْعَهُ, وَلاَ
حُقْنَةٌ، وَلاَ سَعُوطٌ، وَلاَ تَقْطِيرٌ فِي أُذُنٍ, أَوْ فِي
إحْلِيلٍ, أَوْ فِي أَنْفٍ، وَلاَ اسْتِنْشَاقٌ وَإِنْ بَلَغَ
الْحَلْقَ, وَلاَ مَضْمَضَةٌ دَخَلَتْ الْحَلْقَ مِنْ غَيْرِ
تَعَمُّدٍ, وَلاَ كُحْلٌ أَوْ إنْ بَلَغَ إلَى الْحَلْقِ نَهَارًا أَوْ
لَيْلاً بِعَقَاقِيرَ أَوْ بِغَيْرِهَا, وَلاَ غُبَارُ طَحْنٍ, أَوْ
غَرْبَلَةُ دَقِيقٍ, أَوْ حِنَّاءٍ, أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ, أَوْ عِطْرٌ,
أَوْ حَنْظَلٌ, أَوْ أَيُّ شَيْءٍ كَانَ, وَلاَ ذُبَابٌ دَخَلَ
الْحَلْقَ بِغَلَبَةٍ, وَلاَ مَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ فَوَقَعَ فِي
حَلْقِهِ نُقْطَةُ مَاءٍ بِغَيْرِ تَعَمُّدٍ لِذَلِكَ مِنْهُ; ، وَلاَ
مَضْغُ زِفْتٍ أَوْ مُصْطَكَى أَوْ عِلْكٍ; ، وَلاَ مَنْ تَعَمَّدَ
أَنْ يُصْبِحَ جُنُبًا,
(6/203)
اختلاف العلماء في المجنون و المغمي عليه في شهر رمضان هل عليهما
القضاء أم لا
...
754 - مَسْأَلَةٌ: قَالَ عَلِيٌّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي
الْمَجْنُونِ, وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ.
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَنْ جُنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ كُلَّهُ فَلاَ
قَضَاءَ عَلَيْهِ, فَإِنْ أَفَاقَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ1 قَضَى الشَّهْرَ
كُلَّهُ. قَالَ: وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ الشَّهْرَ كُلَّهُ
فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ كُلِّهِ, فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ
لَيْلَةٍ مِنْ الشَّهْرِ قَضَى الشَّهْرَ كُلَّهُ إلاَّ يَوْمَ تِلْكَ
اللَّيْلَةِ الَّتِي أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِيهَا; لاَِنَّهُ قَدْ نَوَى
صِيَامَهُ مِنْ اللَّيْلِ.
وقال مالك: مَنْ بَلَغَ وَهُوَ مَجْنُونٌ مُطْبَقٌ فَأَقَامَ وَهُوَ
كَذَلِكَ سِنِينَ ثُمَّ أَفَاقَ: فَإِنَّهُ يَقْضِي كُلَّ رَمَضَانَ
كَانَ فِي تِلْكَ السِّنِينَ, وَلاَ يَقْضِي شَيْئًا مِنْ
الصَّلَوَاتِ. قَالَ: فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَكْثَرَ النَّهَارِ
فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ, فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَقَلَّ النَّهَارِ
فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ إيجَابُ الْقَضَاءِ
عَلَيْهِ جُمْلَةً دُونَ تَقْسِيمٍ.
وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ: لاَ قَضَاءَ عَلَى
الْمَجْنُونِ إلاَّ عَلَى الَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ, وَلاَ قَضَاءَ
عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ.
وقال الشافعي: لاَ يَقْضِي الْمَجْنُونُ, وَيَقْضِي الْمُغْمَى
عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: لاَ قَضَاءَ عَلَيْهِمْ.
قال أبو محمد: كُنَّا نَذْهَبُ إلَى أَنَّ الْمَجْنُونَ, وَالْمُغْمَى
عَلَيْهِ يَبْطُلُ صَوْمُهُمَا، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِمَا, وَكَذَلِكَ
الصَّلاَةُ. وَنَقُولُ: إنَّ الْحُجَّةَ فِي ذَلِكَ: مَا حَدَّثَنَاهُ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ، حدثنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ
الْخَوْلاَنِيِّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، حدثنا أَبُو دَاوُد،
حدثنا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ، حدثنا وُهَيْبٍ، هُوَ ابْنُ خَالِدٍ،
عَنْ خَالِدٍ هُوَ الْحَذَّاءُ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ عَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"رُفِعَ الْقَلَمُ، عَنْ ثَلاَثٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى
يَسْتَيْقِظَ, وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ, وَعَنِ
الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ" وَكُنَّا نَقُولُ: إذَا رُفِعَ
الْقَلَمُ عَنْهُ فَهُوَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِصَوْمٍ، وَلاَ بِصَلاَةٍ.
ثُمَّ تَأَمَّلْنَا هَذَا الْخَبَرَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى
فَوَجَدْنَاهُ لَيْسَ فِيهِ إلاَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ غَيْرُ
مُخَاطَبٍ فِي حَالِ جُنُونِهِ حَتَّى يَعْقِلَ, وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ
بُطْلاَنُ صَوْمِهِ الَّذِي لَزِمَهُ قَبْلَ
ـــــــ
1 في النسخة رقم "16" "منها" وهو خطأ.
(6/226)
جُنُونِهِ, وَلاَ عَوْدَتُهُ عَلَيْهِ بَعْدَ إفَاقَتِهِ, وَكَذَلِكَ
الْمُغْمَى, فَوَجَبَ أَنَّ مَنْ جُنَّ بَعْدَ أَنْ نَوَى الصَّوْمَ
مِنْ اللَّيْلِ فَلاَ يَكُونُ مُفْطِرًا بِجُنُونِهِ; لَكِنَّهُ فِيهِ
غَيْرُ مُخَاطَبٍ, وَقَدْ كَانَ مُخَاطَبًا بِهِ; فَإِنْ أَفَاقَ فِي
ذَلِكَ الْيَوْمِ أَوْ فِي يَوْمٍ بَعْدَهُ مِنْ أَيَّامِ رَمَضَانَ
فَإِنَّهُ يَنْوِي الصَّوْمَ مِنْ حِينِهِ وَيَكُونُ صَائِمًا;
لاَِنَّهُ حِينَئِذٍ عَلِمَ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِ.
وَهَكَذَا مَنْ جَاءَهُ الْخَبَرُ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَلِ, أَوْ مَنْ
عَلِمَ بِأَنَّهُ يَوْمُ نَذْرِهِ أَوْ فَرْضِهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا
قَبْلُ, وَكَذَلِكَ مَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَا,
وَكَذَلِكَ مَنْ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ قَبْلَ غُرُوبِ
الشَّمْسِ, أَوْ مَنْ نَامَ, أَوْ سَكِرَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ
فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ، وَلاَ صَحَا إلاَّ مِنْ الْغَدِ وَقَدْ مَضَى
أَكْثَرُ النَّهَارِ, أَوْ أَقَلُّهُ.
وَوَجَدْنَا الْمَجْنُونَ لاَ يُبْطِلُ جُنُونُهُ إيمَانَهُ, وَلاَ
أَيْمَانَهُ، وَلاَ نِكَاحَهُ، وَلاَ طَلاَقَهُ, وَلاَ ظِهَارَهُ،
وَلاَ إيلاَءَهُ, وَلاَ حَجَّهُ, وَلاَ إحْرَامَهُ، وَلاَ بَيْعَهُ,
وَلاَ هِبَتَهُ, وَلاَ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِهِ اللاَّزِمَةِ لَهُ
قَبْلَ جُنُونِهِ, وَلاَ خِلاَفَتَهُ إنْ كَانَ خَلِيفَةً, وَلاَ
إمَارَتَهُ إنْ كَانَ أَمِيرًا، وَلاَ وِلاَيَتَهُ، وَلاَ وَكَالَتَهُ,
وَلاَ تَوْكِيلَهُ, وَلاَ كُفْرَهُ, وَلاَ فِسْقَهُ, وَلاَ
عَدَالَتَهُ, وَلاَ وَصَايَاهُ, وَلاَ اعْتِكَافَهُ, وَلاَ سَفَرَهُ,
وَلاَ إقَامَتَهُ, وَلاَ مِلْكَهُ, وَلاَ نَذْرَهُ, وَلاَ حِنْثَهُ,
وَلاَ حُكْمَ الْعَامِّ فِي الزَّكَاةِ عَلَيْهِ.
وَوَجَدْنَا ذُهُولَهُ، عَنْ كُلِّ ذَلِكَ لاَ يُوجِبُ بُطْلاَنَ
شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, فَقَدْ يَذْهَلُ الإِنْسَانُ، عَنِ الصَّوْمِ,
وَالصَّلاَةِ, حَتَّى يَظُنَّ أَنَّهُ لَيْسَ مُصَلِّيًا، وَلاَ
صَائِمًا; فَيَأْكُلَ, وَيَشْرَبَ, وَلاَ يَبْطُلُ بِذَلِكَ صَوْمُهُ،
وَلاَ صَلاَتُهُ, بِهَذَا جَاءَتْ السُّنَنُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي
الصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا, وَكَذَلِكَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَلاَ فَرْقَ
فِي كُلِّ ذَلِكَ, وَلاَ يُبْطِلُ الْجُنُونُ وَالإِغْمَاءُ إلاَّ مَا
يُبْطِلُ النَّوْمُ مِنْ الطَّهَارَةِ بِالْوُضُوءِ وَحْدَهُ فَقَطْ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْمَغْلُوبَ الْمُكْرَهَ عَلَى الْفِطْرِ لاَ
يَبْطُلُ صَوْمُهُ بِذَلِكَ عَلَى مَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى, وَالْمَجْنُونُ, وَالْمُكْرَهُ مَغْلُوبَانِ
مُكْرَهَانِ مُضْطَرَّانِ بِقَدَرٍ غَالِبٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
تَعَالَى مَا أَصَابَهُمَا, فَلاَ يُبْطِلُ ذَلِكَ صَوْمَهُمَا.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ مَنْ نَوَى الصَّوْمَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ ثُمَّ جُنَّ; أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَقَدْ صَحَّ صَوْمُهُ
بِيَقِينٍ مِنْ نَصٍّ وَإِجْمَاعٍ; فَلاَ يَجُوزُ بُطْلاَنُهُ بَعْدَ
صِحَّتِهِ إلاَّ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ; ، وَلاَ إجْمَاعَ فِي ذَلِكَ
أَصْلاً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا مَنْ بَلَغَ مَجْنُونًا مُطْبَقًا فَهَذَا لَمْ يَكُنْ قَطُّ
مُخَاطَبًا, وَلاَ لَزِمَتْهُ الشَّرَائِعُ, وَلاَ الأَحْكَامُ
(6/227)
وَلَمْ
يَزَلْ مَرْفُوعًا عَنْهُ الْقَلَمُ; فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ
صَوْمٍ أَصْلاً; بِخِلاَفِ قَوْلِ مَالِكٍ: فَإِذَا عَقَلَ فَحِينَئِذٍ
ابْتَدَأَ الْخِطَابُ بِلُزُومِهِ إيَّاهُ, لاَ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَأَمَّا مَنْ شَرِبَ حَتَّى سَكِرَ فِي لَيْلَةِ رَمَضَانَ وَكَانَ
نَوَى الصَّوْمَ فَصَحَا بَعْدَ صَدْرٍ مِنْ النَّهَارِ أَقَلِّهِ أَوْ
أَكْثَرِهِ أَوْ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ: فَصَوْمُهُ تَامٌّ,
وَلَيْسَ السُّكْرُ مَعْصِيَةً, إنَّمَا الْمَعْصِيَةُ شُرْبُ مَا
يُسْكِرُ سَوَاءٌ سَكِرَ أَمْ لَمْ يَسْكَرْ, وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ
مَنْ فُتِحَ فَمُهُ أَوْ أُمْسِكَتْ يَدُهُ وَجَسَدُهُ وَصُبَّ
الْخَمْرُ فِي حَلْقِهِ حَتَّى سَكِرَ أَنَّهُ لَيْسَ عَاصِيًا
بِسُكْرِهِ, لاَِنَّهُ لَمْ يَشْرَبْ مَا يُسْكِرُهُ بِاخْتِيَارِهِ,
وَالسُّكْرُ لَيْسَ هُوَ فِعْلُهُ, إنَّمَا هُوَ فِعْلُ اللَّهِ
تَعَالَى فِيهِ, وَإِنَّمَا يُنْهَى الْمَرْءُ، عَنْ فِعْلِهِ, لاَ،
عَنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ الَّذِي لاَ اخْتِيَارَ لَهُ
فِيهِ.
وَكَذَلِكَ مَنْ نَامَ وَلَمْ يَسْتَيْقِظْ إلاَّ فِي النَّهَارِ،
وَلاَ فَرْقَ; أَوْ مَنْ نَوَى الصَّوْمَ ثُمَّ لَمْ يَسْتَيْقِظْ
إلاَّ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ, فَصَوْمُهُ تَامٌّ.
وَبَقِيَ حُكْمُ مَنْ جُنَّ, أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ سَكِرَ, أَوْ
نَامَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَلَمْ يُفِقْ، وَلاَ صَحَا، وَلاَ
انْتَبَهَ لَيْلَتَهُ كُلَّهَا وَالْغَدَ كُلَّهُ إلَى بَعْدَ غُرُوبِ
الشَّمْسِ: أَيَقْضِيهِ أَمْ لاَ. فَوَجَدْنَا الْقَضَاءَ إيجَابَ
شَرْعٍ; وَالشَّرْعُ لاَ يَجِبُ إلاَّ بِنَصٍّ, فَلاَ نَجِدُ إيجَابَ
الْقَضَاءِ فِي النَّصِّ إلاَّ عَلَى أَرْبَعَةٍ: الْمُسَافِرُ,
وَالْمَرِيضُ بِالْقُرْآنِ وَالْحَائِضُ, وَالنُّفَسَاءُ,
وَالْمُتَعَمِّدُ لِلْقَيْءِ بِالسُّنَّةِ، وَلاَ مَزِيدَ. وَوَجَدْنَا
النَّائِمَ, وَالسَّكْرَانَ, وَالْمَجْنُونَ الْمُطْبَقَ عَلَيْهِ
لَيْسُوا مُسَافِرِينَ، وَلاَ مُتَعَمِّدِينَ لِلْقَيْءِ, وَلاَ
حُيَّضًا, وَلاَ مِنْ ذَوَاتِ النِّفَاسِ, وَلاَ مَرْضَى; فَلَمْ
يَجِبْ عَلَيْهِمْ الْقَضَاءُ أَصْلاً, وَلاَ خُوطِبُوا بِوُجُوبِ
الصَّوْمِ عَلَيْهِمْ فِي تِلْكَ الأَحْوَالِ; بَلْ الْقَلَمُ
مَرْفُوعٌ عَنْهُمْ بِالسُّنَّةِ. وَوَجَدْنَا الْمَصْرُوعَ,
وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ مَرِيضَيْنِ بِلاَ شَكٍّ, لإِنَّ الْمَرَضَ هِيَ
حَالٌ مُخْرِجَةٌ لِلْمَرْءِ، عَنْ حَالِ الاِعْتِدَالِ وَصِحَّةِ
الْجَوَارِحِ وَالْقُوَّةِ إلَى الاِضْطِرَابِ وَضَعْفِ الْجَوَارِحِ
وَاعْتِلاَلِهَا, وَهَذِهِ صِفَةُ الْمَصْرُوعِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ
بِلاَ شَكٍّ, وَيَبْقَى وَهْنُ ذَلِكَ وَضَعْفُهُ عَلَيْهِمَا بَعْدَ
الإِفَاقَةِ مُدَّةً; فَإِذْ هُمَا مَرِيضَانِ فَالْقَضَاءُ
عَلَيْهِمَا بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَلَيْسَ قَوْلُنَا بِسُقُوطِ الصَّلاَةِ، عَنِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ
إلاَّ مَا أَفَاقَ فِي وَقْتِهِ مِنْهَا وَبِقَضَاءِ النَّائِمِ
لِلصَّلاَةِ: مُخَالِفًا لِقَوْلِنَا هَاهُنَا; بَلْ هُوَ مُوَافِقٌ,
لإِنَّ مَا خَرَجَ وَقْتُهُ لِلْمُغْمَى عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ
(6/228)
مُخَاطَبًا بِالصَّلاَةِ فِيهِ, وَلاَ كَانَ أَيْضًا مُخَاطَبًا
بِالصَّوْمِ; وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى الْمَرِيضِ
عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ, وَلَمْ يُوجِبْ تَعَالَى عَلَى
الْمَرِيضِ: قَضَاءَ صَلاَةٍ, وَأَوْجَبَ قَضَاءَ الصَّلاَةِ عَلَى
النَّائِمِ, وَالنَّاسِي, وَلَمْ يُوجِبْ قَضَاءَ صِيَامٍ عَلَى
النَّائِمِ, وَالنَّاسِي بَلْ أَسْقَطَهُ تَعَالَى، عَنِ النَّاسِي,
وَالنَّائِمِ; إذْ لَمْ يُوجِبْهُ عَلَيْهِ. فَصَحَّ قَوْلُنَا
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَفِي غَايَةِ الْفَسَادِ; لاَِنَّهُ
دَعْوَى بِلاَ بُرْهَانٍ, وَلَمْ يَتَّبِعْ نَصًّا, وَلاَ قِيَاسًا;
لاَِنَّهُ رَأَى عَلَى مَنْ أَفَاقَ فِي شَيْءٍ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ
جُنُونِهِ: قَضَاءَ الشَّهْرِ كُلِّهِ, وَهُوَ لاَ يَرَاهُ عَلَى مَنْ
بَلَغَ, أَوْ أَسْلَمَ حِينَئِذٍ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيِّينَ: الْمَجْنُونُ بِمَنْزِلَةِ
الْحَائِضِ وَهَذَا كَلاَمٌ يُغْنِي ذِكْرُهُ، عَنْ تَكَلُّفِ
إبْطَالِهِ, وَمَا نَدْرِي فِيمَا يُشْبِهُ الْمَجْنُونُ الْحَائِضَ؟!!
(6/229)
755 -
مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ جَهَدَهُ الْجُوعُ, أَوْ الْعَطَشُ حَتَّى غَلَبَهُ
الأَمْرُ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يُفْطِرَ;
لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}. وَلِقَوْلِ
اللَّهِ تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ
بِكُمْ الْعُسْرَ}. وَقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ
فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}. وَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم: "َاذا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا
اسْتَطَعْتُمْ".
فَإِنْ كَانَ خَرَجَ بِذَلِكَ إلَى حَدِّ الْمَرَضِ فَعَلَيْهِ
الْقَضَاءُ, وَإِنْ كَانَ لَمْ يَخْرُجْ إلَى حَدِّ الْمَرَضِ
فَصَوْمُهُ صَحِيحٌ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ; لاَِنَّهُ مَغْلُوبٌ
مُكْرَهٌ مُضْطَرٌّ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَقَدْ فَصَّلَ
لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلاَّ مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ}.
وَلَمْ يَأْتِ الْقُرْآنُ، وَلاَ السُّنَّةُ بِإِيجَابِ قَضَاءٍ عَلَى
مُكْرَهٍ, أَوْ مَغْلُوبٍ; بَلْ قَدْ أَسْقَطَ اللَّهُ تَعَالَى
الْقَضَاءَ عَمَّنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ وَأَوْجَبَهُ عَلَى مَنْ
تَعَمَّدَهُ.
(6/229)
لا يلزم صوم في رمضان و لا في غيره إلا بتبين طلوع الفجر الثاني
...
756 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَلْزَمُ صَوْمٌ فِي رَمَضَانَ، وَلاَ فِي
غَيْرِهِ إلاَّ بِتَبَيُّنِ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي,
وَأَمَّا مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ فَالأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ
مُبَاحٌ كُلُّ ذَلِكَ, كَانَ عَلَى شَكٍّ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَوْ
عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَطْلُعْ.
فَمَنْ رَأَى الْفَجْرَ وَهُوَ يَأْكُلُ فَلْيَقْذِفْ مَا فِي فَمِهِ
مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ, وَلْيَصُمْ, وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ;
وَمَنْ رَأَى الْفَجْرَ وَهُوَ يُجَامِعُ فَلْيَتْرُكْ مِنْ وَقْتِهِ,
وَلْيَصُمْ, وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ; وَسَوَاءٌ فِي كُلِّ ذَلِكَ كَانَ
طُلُوعُ الْفَجْرِ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ أَوْ قَرِيبَةٍ, فَلَوْ
تَوَقَّفَ بَاهِتًا فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ, وَصَوْمُهُ تَامٌّ; وَلَوْ
أَقَامَ عَامِدًا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ.
(6/229)
من صح عنده بخبر من يصدقه أن الهلال قد رؤي البارحة في آخر شعبان ففرض
عليه الصوم
...
757 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ صَحَّ عِنْدَهُ بِخَبَرِ مَنْ يُصَدِّقُهُ
مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ, أَوْ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ: عَبْدٍ, أَوْ حُرٍّ,
أَوْ أَمَةٍ, أَوْ حُرَّةٍ, فَصَاعِدًا أَنَّ الْهِلاَلَ قَدْ رُئِيَ
الْبَارِحَةَ فِي آخِرِ شَعْبَانَ فَفُرِضَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ,
صَامَ النَّاسُ أَوْ لَمْ يَصُومُوا, وَكَذَلِكَ لَوْ رَآهُ هُوَ
وَحْدَهُ, وَلَوْ صَحَّ عِنْدَهُ بِخَبَرِ وَاحِدٍ أَيْضًا كَمَا
ذَكَرْنَا فَصَاعِدًا: أَنَّ هِلاَلَ شَوَّالٍ قَدْ رُئِيَ
فَلْيُفْطِرْ, أَفْطَرَ النَّاسُ أَوْ صَامُوا; وَكَذَلِكَ لَوْ رَآهُ
هُوَ وَحْدَهُ; فَإِنْ خَشِيَ فِي ذَلِكَ أَذًى فَلْيَسْتَتِرْ
بِذَلِكَ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ،
حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ،
حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا
يَحْيَى بْنُ يَحْيَى: قَرَأْت عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ ذَكَرَ
رَمَضَانَ فَقَالَ: "لاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلاَلَ, وَلاَ
تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ", فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا
لَهُ.
وَبِهِ إلَى مُسْلِمٍ: حدثنا ابْنُ الْمُثَنَّى، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ
جَعْفَرٍ، حدثنا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ سَمِعْت
أَبَا الْبَخْتَرِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم قَالَ: "فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا
الْعِدَّةَ".
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي ذَلِكَ.
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيُّ بِمِثْلِ قَوْلِنَا فِي
هِلاَلِ رَمَضَانَ, وَلَمْ يُجِيزُوا فِي هِلاَلِ شَوَّالٍ إلاَّ
رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ.
وقال مالك: لاَ أَقْبَلُ فِي كِلَيْهِمَا إلاَّ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ.
قال أبو محمد: أَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْهِلاَلَيْنِ فَمَا
نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً. وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَإِنَّهُمْ
قَاسُوهُ عَلَى سَائِرِ الأَحْكَامِ.
قال أبو محمد: وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ; ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا
لَكَانَ هَذَا مِنْهُ بَاطِلاً; لإِنَّ
(6/235)
الْحُقُوقَ تَخْتَلِفُ: فَمِنْهَا عِنْدَ الْمَالِكِيِّينَ مَا
يُقْبَلُ فِيهَا شَاهِدٌ وَيَمِينٌ, وَمِنْهَا مَا لاَ يُقْبَلُ فِيهِ
إلاَّ رَجُلاَنِ, أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ. وَمِنْهَا مَا لاَ
يُقْبَلُ فِيهِ إلاَّ رَجُلاَنِ فَقَطْ. وَمِنْهَا مَا لاَ يُقْبَلُ
فِيهِ إلاَّ أَرْبَعَةٌ. وَمِنْهَا مَا يُسْمَحُ فِيهِ حَتَّى
يُجِيزُوا فِيهِ النَّصْرَانِيَّ وَالْفَاسِقَ, كَالْعُيُوبِ فِي
الطِّبِّ, فَمِنْ أَيْنَ لَهُمْ أَنْ يَخُصُّوا بَعْضَ هَذِهِ
الْحُقُوقِ دُونَ بَعْضٍ بِقِيَاسِ الشَّهَادَةِ فِي الْهِلاَلِ
عَلَيْهِ. وَنَسْأَلُهُمْ، عَنْ قَرْيَةٍ لَيْسَ فِيهَا إلاَّ
فُسَّاقٌ, أَوْ نَصَارَى, أَوْ نِسَاءٌ وَفِيهِمْ عَدْلٌ يَضْعُفُ
بَصَرُهُ، عَنْ رُؤْيَةِ الْهِلاَلِ.
قال أبو محمد: فأما نَحْنُ فَخَبَرُ الْكَافَّةِ مَقْبُولٌ فِي ذَلِكَ,
وَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا أَوْ فُسَّاقًا; لاَِنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ
ضَرُورَةً.
فَإِنْ قَالُوا: قَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى قَبُولِ عَدْلَيْنِ فِي
ذَلِكَ.
قلنا: لاَ, بَلْ أَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي يَقُولُ: إنْ كَانَ الْجَوُّ
صَافِيًا لَمْ أَقْبَلْ فِي رُؤْيَةِ الْهِلاَلِ أَقَلَّ مِنْ
خَمْسِينَ.
فَإِنْ قَالُوا: كَلاَمُهُ سَاقِطٌ.
قلنا: نَعَمْ, وَقِيَاسُكُمْ أَسْقَطُ!
فَإِنْ قَالُوا: فَمِنْ أَيْنَ أَجَزْتُمْ فِيهِمَا خَبَرَ الْوَاحِدِ.
قلنا: لاَِنَّهُ مِنْ الدِّينِ; وَقَدْ صَحَّ فِي الدِّينِ قَبُولُ
خَبَرِ الْوَاحِدِ; فَهُوَ مَقْبُولٌ فِي كُلِّ مَكَان, إلاَّ حَيْثُ
أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ لاَ يُقْبَلَ إلاَّ عَدَدٌ سَمَّاهُ
لَنَا.
وَأَيْضًا: فَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم فِي أَذَانِ بِلاَلٍ: "كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى
يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ", فَأَمَرَ عليه السلام بِالْتِزَامِ
الصِّيَامِ بِأَذَانِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ بِالصُّبْحِ, وَهُوَ
خَبَرٌ وَاحِدٌ بِأَنَّ الْفَجْرَ قَدْ تَبَيَّنَ.
وَحدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حدثنا
مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، حدثنا أَبُو دَاوُد، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ السَّمَرْقَنْدِيُّ، حدثنا مَرْوَانُ بْنُ
مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ
نَافِعِ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "تَرَاءَى
النَّاسُ الْهِلاَلَ, فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
أَنِّي رَأَيْتُهُ, فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ".
وَهَذَا خَبَرٌ صَحِيحٌ.
(6/236)
وَقَدْ
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد: حدثنا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ،
حدثنا حُسَيْنٌ هُوَ الْجُعْفِيُّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ
عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ; إنِّي رَأَيْتُ
الْهِلاَلَ يَعْنِي رَمَضَانَ فَقَالَ: "أَتَشْهَدُ أَنْ لاَ إلَهَ
إلاَّ اللَّهُ" قَالَ: نَعَمْ, قَالَ; "أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
رَسُولُ اللَّهِ" قَالَ: نَعَمْ, قَالَ: "قُمْ يَا بِلاَلُ فَأَذِّنْ
فِي النَّاسِ فَلْيَصُومُوا غَدًا".
قال أبو محمد: رِوَايَةُ سِمَاكٍ لاَ نَحْتَجُّ بِهَا، وَلاَ
نَقْبَلُهَا مِنْهُمْ, وَهُمْ قَدْ احْتَجُّوا بِهَا فِي أَخْذِ
الدَّنَانِيرِ مِنْ الدَّرَاهِمِ, فَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَأْخُذُوهَا
هَاهُنَا, وَإِلاَّ فَهُمْ مُتَلاَعِبُونَ فِي الدِّينِ.
فَإِنْ تَعَلَّقَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ هِلاَلِ رَمَضَانَ وَهِلاَلِ
شَوَّالٍ بِهَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ, وَقَالَ: لَمْ يَرِدْ إلاَّ فِي
هِلاَلِ رَمَضَانَ.
قلنا: وَلاَ جَاءَ نَصٌّ قَطُّ بِالْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ فِي هِلاَلِ
رَمَضَانَ, وَأَنْتُمْ أَصْحَابُ قِيَاسٍ, فَهَلاَّ قِسْتُمْ هِلاَلَ
شَوَّالٍ عَلَى هِلاَلِ رَمَضَانَ؟
فَإِنْ قَالُوا: إنَّ الشَّاهِدَ فِي هِلاَلِ رَمَضَانَ لاَ يَجُرُّ
إلَى نَفْسِهِ, وَالشَّاهِدُ فِي هِلاَلِ شَوَّالٍ يَجُرُّ إلَى
نَفْسِهِ.
قلنا: فَرَدُّوا بِهَذَا الظَّنِّ بِعَيْنِهِ شَهَادَةَ الشَّاهِدَيْنِ
فِي شَوَّالٍ أَيْضًا; لاَِنَّهُمَا يَجُرَّانِ إلَى أَنْفُسِهِمَا,
كَمَا تَفْعَلُونَ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ مَنْ يَكْذِبُ فِي مِثْلِ هَذَا لاَ يُبَالِي
قُبِلَ أَوْ رُدَّ.
وَنَقُولُ لَهُمْ: إذَا صُمْتُمْ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ; فَغُمَّ
الْهِلاَلُ بَعْدَ الثَّلاَثِينَ, أَتَصُومُونَ أَحَدًا وَثَلاَثِينَ
فَهَذِهِ طَامَّةٌ, وَشَرِيعَةٌ لَيْسَتْ مِنْ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى
أَمْ تُفْطِرُونَ عِنْدَ تَمَامِ الثَّلاَثِينَ وَإِنْ لَمْ تَرَوْا
الْهِلاَلَ فَقَدْ أَفْطَرْتُمْ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ وَتَنَاقَضْتُمْ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد: فَإِنْ شَغَبُوا بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبَّادِ
بْنِ الْعَوَّامِ: حدثنا أَبُو مَالِكٍ الأَشْجَعِيُّ، حدثنا حُسَيْنُ
بْنُ الْحَارِثِ الْجَدَلِيُّ جَدِيلَةُ قَيْسٍ: أَنَّ أَمِيرَ مَكَّةَ
وَهُوَ الْحَارِثُ بْنُ حَاطِبٍ خَطَبَ فَقَالَ: "عَهِدَ إلَيْنَا
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَنْسُكَ لِرُؤْيَتِهِ,
فَإِنْ لَمْ نَرَهُ وَشَهِدَ شَاهِدَا عَدْلٍ نَسَكْنَا
بِشَهَادَتِهِمَا".
وَبِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ:
"قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْرَابِيَّانِ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمُسْلِمَانِ
أَنْتُمَا" قَالاَ: نَعَمْ فَأَمَرَ النَّاسُ فَأَفْطَرُوا أَوْ
صَامُوا".
وَعَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ: إذَا شَهِدَ رَجُلاَنِ عَلَى
رُؤْيَةِ الْهِلاَلِ أَفْطَرُوا.
(6/237)
وَعَنْ
عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: أَبِي عُثْمَانُ أَنْ يُجِيزَ شَهَادَةَ
هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ أَوْ غَيْرِهِ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلاَلِ.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ
أَبِي وَائِلٍ قَالَ: كَتَبَ إلَيْنَا عُمَرُ وَنَحْنُ بِخَانِقِينَ:
إذَا رَأَيْتُمْ الْهِلاَلَ نَهَارًا فَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى يَشْهَدَ
رَجُلاَنِ: لَرَأَيَاهُ بِالأَمْسِ.
قلنا: أَمَّا حَدِيثُ الْحَارِثِ بْنِ حَاطِبٍ فَإِنَّ رَاوِيَهُ
حُسَيْنُ بْنُ الْحَارِثِ وَهُوَ مَجْهُولٌ; ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمْ
يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ, لاَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلاَّ قَبُولُهُ
اثْنَيْنِ, وَنَحْنُ لاَ نُنْكِرُ هَذَا, وَلَيْسَ فِيهِ أَنْ لاَ
يَقْبَلَ وَاحِدٌ.
وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي عُثْمَانَ, عَلَى أَنَّهُ مُرْسَلٌ.
وَكَذَا الْقَوْلُ فِي فِعْلِ عَلِيٍّ سَوَاءٌ سَوَاءٌ.
وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عُثْمَانُ رضي الله عنه إنَّمَا رَدَّ
شَهَادَةَ هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ لاَِنَّهُ لَمْ يَرْضَهُ; لاَ
لاَِنَّهُ وَاحِدٌ; وَلَقَدْ كَانَ هَاشِمٌ أَحَدَ الْمُجَلِّبِينَ
عَلَى عُثْمَانَ رضي الله عنه.
وَأَمَّا خَبَرُ عُمَرَ: فَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ فِي هَذَا خِلاَفُ
ذَلِكَ, كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ
شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الأَعْلَى الثَّعْلَبِيِّ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ
عَازِبٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَنْظُرُ إلَى
الْهِلاَلِ, فَرَآهُ رَجُلٌ, فَقَالَ عُمَرُ: يَكْفِي الْمُسْلِمِينَ
أَحَدُهُمْ; فَأَمَرَهُمْ فَأَفْطَرُوا أَوْ صَامُوا فَهَذَا عُمَرُ
بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ.
وَقَدْ رُوِّينَا أَيْضًا:، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله
عنه مِثْلَ هَذَا. وَبِهِ يَقُولُ أَبُو ثَوْرٍ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا أَنَّهُ يُبْنَى عَلَى رُؤْيَتِهِ فَقَدْ
رُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ خِلاَفَ ذَلِكَ; وَهُوَ أَنَّ مَنْ رَآهُ
وَحْدَهُ فِي اسْتِهْلاَلِ رَمَضَانَ فَلاَ يَصُمْ, وَمَنْ رَآهُ
وَحْدَهُ فِي اسْتِهْلاَلِ شَوَّالٍ فَلاَ يُفْطِرُ. وَبِهِ يَقُولُ
الْحَسَنُ.
رُوِّينَا ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ: أَنَّ
رَجُلَيْنِ رَأَيَا الْهِلاَلَ فِي سَفَرٍ; فَقَدِمَا الْمَدِينَةَ
ضُحَى الْغَدِ, فَأَخْبَرَا عُمَرَ, فَقَالَ لاَِحَدِهِمَا: أَصَائِمٌ
أَنْتَ قَالَ: نَعَمْ, كَرِهْت أَنْ يَكُونَ النَّاسُ صِيَامًا وَأَنَا
مُفْطِرٌ, كَرِهْت الْخِلاَفَ عَلَيْهِمْ, وَقَالَ لِلآخِرِ: فَأَنْتَ
قَالَ: أَصْبَحْت مُفْطِرًا; لاَِنِّي رَأَيْت الْهِلاَلَ, فَقَالَ
لَهُ عُمَرُ: لَوْلاَ هَذَا يَعْنِي الَّذِي صَامَ لاََوْجَعْنَا
رَأْسَكَ, وَرَدَدْنَا شَهَادَتَكَ; ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ
فَأَفْطَرُوا.
(6/238)
وَمِنْ
طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أُخْبِرْت، عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ التَّيْمِيِّ: أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِعُمَرَ: إنِّي
رَأَيْت هِلاَلَ رَمَضَانَ, قَالَ: أَرَآهُ مَعَكَ أَحَدٌ قَالَ: لاَ
قَالَ: فَكَيْف صَنَعْت قَالَ: صُمْت بِصِيَامِ النَّاسِ, فَقَالَ
عُمَرُ: يَا لَكَ فِيهَا. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ.
قال أبو محمد: يَنْبَغِي لِمَنْ قَلَّدَ عُمَرَ فِيمَا يَدْعُونَهُ
مِنْ مُخَالَفَةِ الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا
وَتَحْرِيمِ الْمَنْكُوحَةِ فِي الْعِدَّةِ: أَنْ يُقَلِّدَهُ
هَاهُنَا.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ, وَمَالِكٌ: يَصُومُ إنْ رَآهُ وَحْدَهُ, وَلاَ
يُفْطِرُ إنْ رَآهُ وَحْدَهُ وَهَذَا تَنَاقُضٌ وقال الشافعي كَمَا
قلنا.
وَخُصُومُنَا لاَ يَقُولُونَ بِهَذَا، وَلاَ نَقُولُ بِهِ; لإِنَّ
اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {لاَ تُكَلَّفُ إلاَّ نَفْسَكَ} وَقَالَ
تعالى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلاَّ عَلَيْهَا} وَقَالَ تعالى:
{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فَمَنْ رَآهُ فَقَدْ
شَهِدَهُ.وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "صُومُوا
لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ".
(6/239)
إذا رؤي الهلال قبل الزوال فهو من البارحة و يصوم الناس من حينئذ باقي
يومهم
...
758 - مَسْأَلَةٌ: وَإِذَا رُئِيَ الْهِلاَلُ قَبْلَ الزَّوَالِ فَهُوَ
مِنْ الْبَارِحَةِ وَيَصُومُ النَّاسُ مِنْ حِينَئِذٍ بَاقِيَ
يَوْمِهِمْ
إنْ كَانَ أَوَّلَ رَمَضَانَ وَيُفْطِرُونَ إنْ كَانَ آخِرَهُ, فَإِنْ
رُئِيَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُقْبِلَةِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ" فَخَرَجَ مِنْ هَذَا
الظَّاهِرُ إذَا رُئِيَ بَعْدَ الزَّوَالِ بِالإِجْمَاعِ
الْمُتَيَقِّنِ, وَلَمْ يَجِبْ الصَّوْمُ إلاَّ مِنْ الْغَدِ; وَبَقِيَ
حُكْمُ لَفْظِ الْحَدِيثِ إذَا رُئِيَ قَبْلَ الزَّوَالِ,
لِلاِخْتِلاَفِ فِي ذَلِكَ; فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى النَّصِّ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْهِلاَلَ إذَا رُئِيَ قَبْلَ الزَّوَالِ
فَإِنَّمَا يَرَاهُ النَّاظِرُ إلَيْهِ وَالشَّمْسُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهُ, وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْ رُؤْيَتُهُ مَعَ
حَوَالَةِ الشَّمْسِ دُونَهُ إلاَّ وَقَدْ أَهَلَّ مِنْ الْبَارِحَةِ
وَبَعُدَ عَنْهَا بُعْدًا كَثِيرًا.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ،
حدثنا أَبِي، حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ، حدثنا
سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ
سِمَاكٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
كَتَبَ إلَى النَّاسِ إذَا رَأَيْتُمُوهُ قَبْلَ زَوَالِ الشَّمْسِ
فَأَفْطِرُوا وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ بَعْدَ زَوَالِهَا فَلاَ
تُفْطِرُوا.
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا: مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ
سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بِمِثْلِهِ. وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ قَالَ رضي الله عنه
(6/239)
إذَا
رَأَيْتُمْ الْهِلاَلَ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ فَأَفْطِرُوا وَإِذَا
رَأَيْتُمُوهُ فِي آخِرِ النَّهَارِ فَلاَ تُفْطِرُوا فَإِنَّ
الشَّمْسَ تَزِيغُ عَنْهُ أَوْ تَمِيلُ عَنْهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ
بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الرُّكَيْنِ بْنِ
الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ
الْبَاهِلِيِّ بِبَلَنْجَرَ فَرَأَيْت الْهِلاَلَ ضُحًى فَأَتَيْت
سَلْمَانَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَامَ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَلَمَّا رَآهُ
أَمَرَ النَّاسَ فَأَفْطَرُوا. وَبِهِ يَقُولُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ
حَبِيبٍ الأَنْدَلُسِيُّ, وَأَبُو بَكْرِ بْنُ دَاوُد, وَغَيْرُهُ. فإن
قيل: قَدْ رُوِيَ، عَنْ عُمَرَ خِلاَفُ هَذَا قلنا: نَعَمْ وَإِذَا
صَحَّ التَّنَازُعُ وَجَبَ الرَّدُّ إلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا الآنَ وَجْهَ ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(6/240)
من السنة تعجيل الفطر و تأخير السحور
...
759 - مَسْأَلَةٌ: وَمِنْ السُّنَّةِ تَعْجِيلُ الْفِطْرِ وَتَأْخِيرُ
السُّحُورِ
وَإِنَّمَا هُوَ مَغِيبُ الشَّمْسِ، عَنْ أُفُقِ الصَّائِمِ، وَلاَ
مَزِيدَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ أَبِي
عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم قَالَ: "تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً".
وَمِنْ طَرِيقِ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُوسَى
بْنِ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي قَيْسٍ مَوْلَى
عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا
وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السُّحُور"ِ.
قال أبو محمد: لاَ يَضُرُّ الصَّوْمَ تَعَمُّدُ تَرْكِ السَّحُورِ;
لاَِنَّهُ مِنْ حُكْمِ اللَّيْلِ وَالصِّيَامُ مِنْ حُكْمِ النَّهَارِ,
وَلاَ يَبْطُلُ عَمَلٌ بِتَرْكِ عَمَلٍ غَيْرِهِ إلاَّ بِأَنْ يُوجِبَ
ذَلِكَ نَصٌّ فَيُوقَفُ عِنْدَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يُؤَخِّرُ السُّحُورَ
وَيُعَجِّلُ الإِفْطَارَ, فَقَالَتْ عَائِشَةُ: "هَكَذَا كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ".
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ
وَكِيعٍ، عَنْ هِشَامِ الدَّسْتُوَائِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ
أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ يَزَالُ
النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ".
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنْ عَبْدِ
الْوَاحِدِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم وَهُوَ صَائِمٌ فَلَمَّا غَرُبَتْ الشَّمْسُ قَالَ: "انْزِلْ
فَاجْدَحْ
(6/240)
لَنَا"
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَمْسَيْتُ قَالَ: "انْزِلْ
فَاجْدَحْ لَنَا" قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ عَلَيْكَ نَهَارًا
قَالَ: "انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا" فَنَزَلَ فَجَدَحَ, فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا رَأَيْتُمْ اللَّيْلَ قَدْ أَقْبَلَ
مِنْ هَاهُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ", وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ
قِبَلِ الْمَشْرِقِ.
وَرُوِّينَا، عَنْ أَبِي مُوسَى: تَأْخِيرَ الْفِطْرِ حَتَّى تَبْدُوَ
الْكَوَاكِبُ، وَلاَ نَقُولُ بِهَذَا لِمَا ذَكَرْنَا وَتَعْجِيلُ
الْفِطْرِ قَبْلَ الصَّلاَةِ وَالأَذَانِ أَفْضَلُ, كَذَلِكَ
رُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, وَأَبِي هُرَيْرَةَ,
وَجَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم.
(6/241)
من أسلم بعد ما تبين الفجر له أو بلغ كذلك الخ
...
760 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَسْلَمَ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ الْفَجْرُ
لَهُ, أَوْ بَلَغَ كَذَلِكَ,
أَوْ رَأَتْ الطُّهْرَ مِنْ الْحَيْضِ كَذَلِكَ, أَوْ مِنْ النِّفَاسِ
كَذَلِكَ, أَوْ أَفَاقَ مِنْ مَرَضِهِ كَذَلِكَ, أَوْ قَدِمَ مِنْ
سَفَرِهِ كَذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يَأْكُلُونَ بَاقِيَ نَهَارِهِمْ
وَيَطَئُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ مَنْ لَمْ تَبْلُغْ, أَوْ مَنْ طَهُرَتْ
فِي يَوْمِهَا ذَلِكَ, وَيَسْتَأْنِفُونَ الصَّوْمَ مِنْ غَدٍ، وَلاَ
قَضَاءَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ, أَوْ بَلَغَ; وَتَقْضِي الْحَائِضُ,
وَالْمُفِيقُ, وَالْقَادِمُ, وَالنُّفَسَاءُ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي بَعْضِ هَذَا: فَرُوِّينَا، عَنْ
إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَائِضِ تَطْهُرُ
بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ: لاَ تَأْكُلُ إلَى اللَّيْلِ, كَرَاهَةَ
التَّشَبُّهِ بِالْمُشْرِكِينَ. وَبِهِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ,
وَالأَوْزَاعِيُّ, وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ, وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
الْحَسَنِ, وَعَنْ عَطَاءٍ إنْ طَهُرَتْ أَوَّلَ النَّهَارِ
فَلْتُتِمَّ يَوْمَهَا, وَإِنْ طَهُرَتْ فِي آخِرِهِ أَكَلَتْ
وَشَرِبَتْ; وَبِمِثْلِ قَوْلِنَا يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ,
وَمَالِكٌ, وَالشَّافِعِيُّ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ.
وَأَمَّا الْكَافِرُ يُسْلِمُ: فَرُوِّينَا، عَنْ عَطَاءٍ إنْ أَسْلَمَ
الْكَافِرُ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ صَامَ مَا مَضَى مِنْ الشَّهْرِ
وَإِنْ أَسْلَمَ فِي آخِرِ النَّهَارِ صَامَ ذَلِكَ الْيَوْمَ.
وَعَنْ عِكْرِمَةَ مِثْلُ ذَلِكَ, وَقَالَ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ
الْمُسَافِرِ يَدْخُلُ فِي صَلاَةِ الْمُقِيمِينَ.
وَعَنِ الْحَسَنِ مِثْلُ ذَلِكَ.
وقال أبو حنيفة فِي الصَّبِيِّ يَبْلُغُ بَعْدَ الْفَجْرِ: أَنَّ
عَلَيْهِ صَوْمَ مَا بَقِيَ مِنْ يَوْمِهِ. وَكَذَلِكَ قَالَ فِي
الْمُسَافِرِ يَقْدُمُ بَعْدَ الْفَجْرِ.
قال أبو محمد: وَاحْتَجَّ مَنْ أَوْجَبَ صَوْمَ بَاقِي الْيَوْمِ
بِأَنْ قَالَ: قَدْ كَانَ الصَّبِيُّ قَبْلَ بُلُوغِهِ مَأْمُورًا
بِالصِّيَامِ فَكَيْف بَعْدَ بُلُوغِهِ. وَقَالُوا: هَلاَّ جَعَلْتُمْ
هَؤُلاَءِ بِمَنْزِلَةِ
(6/241)
مَنْ
بَلَغَهُ الْخَبَرُ أَنَّ الْهِلاَلَ رُئِيَ الْبَارِحَةَ قلنا: هَذَا
قِيَاسٌ, وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ, ثُمَّ لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ
حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ بَاطِلاً لإِنَّ الَّذِي جَاءَهُ خَبَرُ
الْهِلاَلِ كَانَ مَأْمُورًا بِصَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ لَوْ عَلِمَ
أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ أَنَّهُ فَرْضُهُ. وَكُلُّ مَنْ
ذَكَّرَنَا فَهُمْ عَالِمُونَ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى غَيْرِهِمْ,
وَبِدُخُولِ رَمَضَانَ, إلاَّ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ هُوَ مَنْهِيٌّ، عَنِ
الصَّوْمِ جُمْلَةً; وَلَوْ صَامَ كَانَ عَاصِيًا: كَالْحَائِضِ,
وَالنُّفَسَاءِ, وَالْمُسَافِرِ, وَالْمَرِيضِ الَّذِي يُؤْذِيهِ
الصَّوْمُ. وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِالصَّوْمِ, وَلَوْ
صَامَهُ لَمْ يُجِزْهُ وَهُوَ الصَّبِيُّ وَإِنَّمَا يَصُومُ إنْ صَامَ
تَطَوُّعًا لاَ فَرْضًا. وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ مُخَاطَبٌ بِالصَّوْمِ
بِشَرْطِ أَنْ يُقَدِّمَ الإِسْلاَمَ قَبْلَهُ, وَهُوَ الْكَافِرُ.
وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ مَفْسُوحٌ لَهُ فِي الصَّوْمِ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ
وَفِي الْفِطْرِ إنْ شَاءَ وَهُوَ الْمَرِيضُ الَّذِي لاَ يَشُقُّ
عَلَيْهِ الصَّوْمُ; فَكُلُّهُمْ غَيْرُ مُلْزَمٍ ابْتِدَاءً صَوْمَ
ذَلِكَ الْيَوْمِ بِحَالٍ بِخِلاَفِ مَنْ جَاءَهُ الْخَبَرُ بِرُؤْيَةِ
الْهِلاَلِ, وَاَلَّذِي جَاءَهُ الْخَبَرُ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَلِ
يُجْزِئْهُ صِيَامُ بَاقِي يَوْمِهِ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ وَيَعْصِي
إنْ أَكَلَ, وَإِنَّمَا اتَّبَعْنَا فِيمَنْ بَلَغَهُ أَنَّ الْيَوْمَ
مِنْ رَمَضَانَ الْخَبَرَ الْوَارِدَ فِي ذَلِكَ فَقَطْ. وَأَيْضًا:
فَإِنَّ مَنْ ذَكَرْنَا لاَ يَخْتَلِفُ الْحَاضِرُونَ الْمُخَالِفُونَ
لَنَا فِي أَنَّ الَّتِي طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضِ, وَالنِّفَاسِ,
وَالْقَادِمَ مِنْ السَّفَرِ, وَالْمُفِيقَ مِنْ الْمَرَضِ: لاَ
يُجْزِئُهُمْ صِيَامُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَعَلَيْهِمْ قَضَاؤُهُ. وَلاَ
يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ الَّذِي بَلَغَ, وَاَلَّذِي أَسْلَمَ إنْ
أَكَلاَ فَلَيْسَ عَلَيْهِمَا قَضَاؤُهُ. فَصَحَّ أَنَّهُمْ فِي هَذَا
الْيَوْمِ غَيْرُ صَائِمِينَ أَصْلاً, وَإِذَا كَانُوا غَيْرَ
صَائِمِينَ فَلاَ مَعْنَى لِصِيَامِهِمْ, وَلاَ أَنْ يُؤْمَرُوا
بِصَوْمٍ لَيْسَ صَوْمًا, وَلاَ هُمْ مُؤَدُّونَ بِهِ فَرْضًا لِلَّهِ
تَعَالَى, وَلاَ هُمْ عَاصُونَ لَهُ بِتَرْكِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا مَنْ رَأَى الْقَضَاءَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَى مَنْ
أَسْلَمَ فَقَوْلٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ, وَلَقَدْ كَانَ
يَلْزَمُ مَنْ رَأَى نِيَّةٌ وَاحِدَةٌ تُجْزِئُ لِلشَّهْرِ كُلِّهِ
فِي الصَّوْمِ أَنْ يَقُولَ بِهَذَا الْقَوْلِ, وَإِلاَّ فَهُمْ
مُتَنَاقِضُونَ. وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ:
مَنْ أَكَلَ أَوَّلَ النَّهَارِ فَلْيَأْكُلْ آخِرَهُ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(6/242)
من تعمد الفطر في يوم من رمضان عاصيا لله لم يحل له أن يأكل في باقيه و
لا أن يشرب و لا أن يجامع
...
761 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ تَعَمَّدَ الْفِطْرَ فِي يَوْمٍ مِنْ
رَمَضَانَ عَاصِيًا لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ
فِي بَاقِيهِ، وَلاَ أَنْ يَشْرَبَ, وَلاَ أَنْ يُجَامِعَ
وَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى إنْ فَعَلَ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ غَيْرُ
صَائِمٍ بِخِلاَفِ مَنْ ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا, لإِنَّ كُلَّ مَنْ
ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا إمَّا مَنْهِيٌّ، عَنِ الصَّوْمِ, وَأَمَّا
مُبَاحٌ لَهُ تَرْكُ الصَّوْمِ فَهُمْ فِي إفْطَارِهِمْ مُطِيعُونَ
لِلَّهِ تَعَالَى غَيْرُ عَاصِينَ
(6/242)
لَهُ
بِذَلِكَ. وَقَدْ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لاَ
صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْهُ مِنْ اللَّيْلِ" وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ
هَذِهِ الْجُمْلَةِ إلاَّ مَنْ جَهِلَ أَنَّهُ يَوْمُ فَرْضِهِ فَقَطْ
بِالنَّصِّ الْوَارِدِ فِيهِمْ, فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصُومُوا,
لأَنَّهُمْ لَمْ يَنْوُوهُ مِنْ اللَّيْلِ, وَلَمْ يَكُونُوا عُصَاةً
بِالْفِطْرِ فَهُمْ مُفْطِرُونَ لاَ صَائِمُونَ. وَأَمَّا مَنْ
تَعَمَّدَ الْفِطْرَ عَاصِيًا فَهُوَ مُفْتَرَضٌ عَلَيْهِ بِلاَ
خِلاَفٍ, صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ, وَمُحَرَّمٌ عَلَيْهِ فِيهِ كُلُّ
مَا يَحْرُمُ عَلَى الصَّائِمِ وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ, وَلاَ إجْمَاعٌ
بِإِبَاحَةِ الْفِطْرِ لَهُ إذَا عَصَى بِتَعَمُّدِ الْفِطْرِ, فَهُوَ
بَاقٍ عَلَى مَا كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِ, وَهُوَ مُتَزَيِّدٌ مِنْ
الْمَعْصِيَةِ مَتَى مَا تَزَيَّدَ فِطْرًا, وَلاَ صَوْمَ لَهُ مَعَ
ذَلِكَ. وَرُوِّينَا، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ نَحْوَ هَذَا, وَعَنِ
الْحَسَنِ, وَعَطَاءٍ: أَنَّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ.
(6/243)
من سافر في رمضان فرض عليه الفطر إذا تجاوز ميلا
...
762 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ سَافَرَ فِي رَمَضَانَ سَفَرَ طَاعَةٍ أَوْ
سَفَرَ مَعْصِيَةٍ, أَوْ لاَ طَاعَةَ، وَلاَ مَعْصِيَةَ فَفَرْضٌ
عَلَيْهِ الْفِطْرُ إذَا تَجَاوَزَ مِيلاً,
أَوْ بَلَغَهُ, أَوْ إزَاءَهُ, وَقَدْ بَطَلَ صَوْمُهُ حِينَئِذٍ لاَ
قَبْلَ ذَلِكَ, وَيَقْضِي بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَيَّامٍ أُخَرَ, وَلَهُ
أَنْ يَصُومَهُ تَطَوُّعًا, أَوْ، عَنْ وَاجِبٍ لَزِمَهُ, أَوْ
قَضَاءً، عَنْ رَمَضَانَ خَالٍ لَزِمَهُ, وَإِنْ وَافَقَ فِيهِ يَوْمَ
نَذْرِهِ صَامَهُ لِنَذْرِهِ.
وَقَدْ فَرَّقَ قَوْمٌ بَيْنَ سَفَرِ الطَّاعَةِ, وَسَفَرِ
الْمَعْصِيَةِ فَلَمْ يَرَوْا لَهُ الْفِطْرَ فِي سَفَرِ
الْمَعْصِيَةِ, وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ كُلِّ ذَلِكَ هُوَ قَوْلُ أَبِي
حَنِيفَةَ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَبُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا: قَوْلُ
اللَّهِ تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ
مِنْ أَيَّامِ أُخَرَ} فَعَمّ تَعَالَى الأَسْفَارَ كُلَّهَا وَلَمْ
يَخُصَّ سَفَرًا مِنْ سَفَرٍ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا. وَأَيْضًا
فَقَدْ أَتَيْنَا بِالْبَرَاهِينِ عَلَى بُطْلاَنِ الصَّوْمِ
بِالْمَعْصِيَةِ بِتَعَمُّدٍ, وَالسَّفَرُ فِي الْمَعْصِيَةِ
مَعْصِيَةٌ وَفُسُوقٌ, فَقَدْ بَطَلَ صَوْمُهُ بِهِمَا. وَالْقَوْمُ
أَصْحَابُ قِيَاسٍ بِزَعْمِهِمْ, وَلاَ يَخْتَلِفُونَ: أَنَّ مَنْ
قَطَعَ الطَّرِيقَ, أَوْ ضَارَبَ قَوْمًا ظَالِمًا لَهُمْ مُرِيدًا
قَتْلَهُمْ, وَأَخْذَ أَمْوَالِهِمْ فَدَفَعُوهُ، عَنْ أَنْفُسِهِمْ
وَأَثْخَنُوهُ ضَرْبًا فِي تِلْكَ الْمُدَافَعَةِ حَتَّى أَوْهَنُوهُ;
فَمَرِضَ مِنْ ذَلِكَ مَرَضًا لاَ يَقْدِرُ مَعَهُ عَلَى الصَّوْمِ,
وَلاَ عَلَى الصَّلاَةِ قَائِمًا; فَإِنَّهُ يُفْطِرُ وَيُصَلِّي
قَاعِدًا وَيَقْصُرُ فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ مَرَضِ الْمَعْصِيَةِ
وَسَفَرِ الْمَعْصِيَةِ. وَأَمَّا الْمِقْدَارُ الَّذِي يُفْطِرُ فِيهِ
فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ مُتَقَصَّى وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَنَذْكُرُ هَاهُنَا إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى مِنْهُ طَرَفًا.
وَهُوَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ حَدَّ السَّفَرَ الَّذِي يُفْطِرُ فِيهِ
مِنْ الزَّمَانِ بِمَسِيرِ ثَلاَثَةٍ أَيَّامٍ, وَمِنْ الْمَسَافَاتِ
بِمِقْدَارِ مَا بَيْنَ الْكُوفَةِ وَالْمَدَائِنِ; ذَكَرَ ذَلِكَ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.
(6/243)
وَحَدَّ
الشَّافِعِيِّ ذَلِكَ بِسِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ مِيلاً. وَحَّدَ مَالِكٌ
فِي ذَلِكَ, مَرَّةً يَوْمًا وَلَيْلَةً, وَمَرَّةً ثَمَانِيَةً
وَأَرْبَعِينَ مِيلاً, وَمَرَّةً خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ مِيلاً,
وَمَرَّةً اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ مِيلاً, وَمَرَّةً أَرْبَعِينَ
مِيلاً, وَمَرَّةً سِتَّةً وَثَلاَثِينَ مِيلاً; ذَكَرَ ذَلِكَ
إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي كِتَابِهِ الْمَعْرُوفِ
بِالْمَبْسُوطِ.
قال أبو محمد: وَكُلُّ هَذِهِ حُدُودٌ فَاسِدَةٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى
صِحَّةِ شَيْءٍ مِنْهَا لاَ مِنْ قُرْآنٍ, وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ
صَحِيحَةٍ. وَلاَ مِنْ رِوَايَةٍ فَاسِدَةٍ, وَلاَ إجْمَاعٍ قَدْ
جَاءَتْ فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ، عَنِ الصَّحَابَةِ، رضي
الله عنهم، لَيْسَ بَعْضُهَا أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ: فَرُوِيَ، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَقْصُرُ فِي أَقَلَّ مِمَّا بَيْنَ
خَيْبَرٍ وَالْمَدِينَةِ وَهُوَ سِتَّةٌ وَتِسْعُونَ مِيلاً; وَرُوِيَ
عَنْهُ أَنْ لاَ يَقْصُرَ فِي أَقَلَّ مِمَّا بَيْنَ الْمَدِينَةَ إلَى
السُّوَيْدَاءِ وَهُوَ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ مِيلاً, وَرُوِيَ عَنْهُ
لاَ يَكُونُ الْفِطْرُ إلاَّ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ; وَرُوِيَ عَنْهُ
لاَ يَكُونُ الْقَصْرُ إلاَّ فِي الْيَوْمِ التَّامِّ وَرُوِيَ عَنْهُ
الْقَصْرُ فِي ثَلاَثِينَ مِيلاً; وَرُوِيَ عَنْهُ الْقَصْرُ فِي
ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلاً; وَكُلُّ ذَلِكَ صَحِيحٌ عَنْهُ.
وَرُوِيَ عَنْهُ الْقَصْرُ فِي سَفَرِ سَاعَةٍ, وَفِي مِيلٍ وَفِي
سَفَرِ ثَلاَثَةِ أَمْيَالٍ بِإِسْنَادٍ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ,
وَهُوَ جَبَلَةُ بْنُ سُحَيْمٍ عَنْهُ, وَمُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ،
وَمُحَمَّدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ خَلْدَةَ عَنْهُ.
وَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ. وَرُوِيَ عَنْهُ
يَوْمٌ تَامٌّ, وَرُوِيَ عَنْهُ لاَ قَصْرَ فِي يَوْمٍ إلَى
الْعَتَمَةِ فَإِنْ زِدْت فَأَقْصِرْ, وَلاَ مُتَعَلَّقَ لَهُمْ
بِأَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، غَيْرَ مَنْ ذَكَرْنَا,
وَقَدْ اُخْتُلِفَ عَنْهُمْ, وَعَنِ الزُّهْرِيِّ, وَالْحَسَنِ
أَنَّهُمَا حَدَّا ذَلِكَ بِيَوْمَيْنِ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا وَكِيعٌ، حدثنا
مِسْعَرٌ، وَ، هُوَ ابْنُ كِدَامٍ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ قَالَ:
سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: إنِّي لاَُسَافِرُ السَّاعَةَ مِنْ
النَّهَارِ فَأَقْصُرُ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ،
عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ
بْنِ خَلْدَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: تُقْصَرُ الصَّلاَةُ فِي
مَسِيرَةِ ثَلاَثَةِ أَمْيَالٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ
بْنُ مَهْدِيٍّ، حدثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ قَالَ: سَمِعْت جَبَلَةَ
بْنَ سُحَيْمٍ يَقُولُ: سَمِعْت ابْنِ عُمَرَ يَقُولُ: لَوْ خَرَجْت
مِيلاً لَقَصَرْت الصَّلاَةَ. وَعَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ السَّمْطِ، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَصَرَ فِي أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ. وَعَنْ حَفْصِ
بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ
خَرَجَ مَعَهُ إلَى مَكَان عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلاً فَقَصَرَ
ابْنُ عُمَرَ الصَّلاَةَ وَهَذِهِ أَسَانِيدُ عَنْهُ كَالشَّمْسِ.
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْقَصْرُ فِي ثَلاَثَةِ أَمْيَالٍ.
وَعَنْ أَنَسٍ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ مِيلاً. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي
اثْنَيْ عَشَرَ مِيلاً. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ
(6/244)
حَاتِمِ
بْنِ إسْمَاعِيلَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ حَرْمَلَةَ قَالَ
سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ أَأَقْصُرُ وَأُفْطِرُ فِي
بَرِيدَيْنِ مِنْ الْمَدِينَةَ قَالَ: نَعَمْ.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حدثنا
مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، حدثنا أَبُو دَاوُد، حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ
بْنُ عُمَرَ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ هُوَ الْمُقْرِي، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، حدثنا يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ: أَنَّ
كُلَيْبَ بْنَ ذُهْلٍ الْحَضْرَمِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُبَيْدَ بْنَ
جَبْرٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ صَاحِبِ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفِينَةٍ مِنْ الْفُسْطَاطِ
فِي رَمَضَانَ فَرَفَعَ ثُمَّ قَرَّبَ غَدَاءَهُ قَالَ: اقْتَرِبْ
فَقُلْتُ: أَلَسْتَ تَرَى الْبُيُوتَ فَقَالَ: أَتَرْغَبُ، عَنْ
سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَكَلَ. وَالرِّوَايَاتُ
فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا.
فأما تَحْدِيدُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ, فَلاَ
مَعْنَى لَهُ أَصْلاً وَإِنَّمَا هِيَ دَعَاوَى بِلاَ بُرْهَانٍ,
وَمَوَّهَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ بِالْخَبَرِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم فِيمَا مَنَعَ مِنْ أَنْ تُسَافِرَ الْمَرْأَةُ
إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ.
قال أبو محمد: وَذَلِكَ خَبَرٌ صَحِيحٌ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ;
لاَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مِنْ حُكْمِ الْقَصْرِ وَالْفِطْرِ أَثَرٌ،
وَلاَ دَلِيلٌ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ جَاءَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ
فِي بَعْضِهَا: "لاَ تُسَافِرُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثٍ" وَفِي
بَعْضِهَا: "لاَ تُسَافِرُ ثَلاَثًا" وَفِي بَعْضِهَا: "لاَ تُسَافِرُ
لَيْلَتَيْنِ" وَفِي بَعْضِهَا: "لاَ تُسَافِرُ يَوْمًا وَلَيْلَةً"
وَفِي بَعْضِهَا: "لاَ تُسَافِرُ يَوْمًا" وَفِي بَعْضِهَا: "لاَ
تُسَافِرُ بَرِيدًا". وَهَذِهِ أَلْفَاظٌ اُخْتُلِفَ فِيهَا، عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ, وَأَبِي هُرَيْرَةَ, وَابْنِ عُمَرَ. وَصَحَّ مِنْ
طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا الْخَبَرُ: "لاَ تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ"
دُونَ تَحْدِيدٍ أَصْلاً وَلَمْ يُخْتَلَفْ عَنْهُ فِي ذَلِكَ أَصْلاً;
فَإِنْ عَزَمُوا عَلَى تَرْكِ مَنْ اخْتَلَفَ عَنْهُ وَالأَخْذِ
بِرِوَايَةِ مَنْ لَمْ يَخْتَلِفْ عَنْهُ فَابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ
يَخْتَلِفْ عَنْهُ; فَهُوَ أَوْلَى عَلَى هَذَا الأَصْلِ, وَإِنْ
أَخَذُوا بِالزِّيَادَةِ, فَرِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ هِيَ
الزَّائِدَةُ عَلَى سَائِرِ الرِّوَايَاتِ, لاَِنَّهَا تَعُمُّ كُلَّ
سَفَرٍ وَإِنْ أَخَذُوا بِالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فَأَكْثَرُ مِنْ
ثَلاَثٍ هُوَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ لاَ الثَّلاَثُ, كَمَا رَوَاهُ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ،
عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:
"لاَ تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ فَوْقَ ثَلاَثٍ إلاَّ وَمَعَهَا ذُو
مَحْرَمٍ". وَهَكَذَا رَوَاهُ هِشَامُ الدَّسْتُوَائِيُّ, وَسَعِيدُ
بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ كِلاَهُمَا، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ قَزَعَةَ، عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَوَكِيعٌ، عَنِ الأَعْمَشِ،
عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لاَِبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ,
وَالشَّافِعِيِّ مُتَعَلِّقٌ بِهَذَا الْخَبَرِ
(6/245)
أَصْلاً
إلاَّ كَتَعَلُّقِ الزُّهْرِيِّ, وَالْحَسَنِ بِذِكْرِ اللَّيْلَتَيْنِ
فِيهِ، وَلاَ فَرْقَ. وَمَا لَهُمْ بَعْدَ هَذَا حِيلَةٌ, عَلَى
أَنَّهُمْ قَدْ كَفَوْنَا الْمُؤْنَةَ, فَذَكَرَ مَالِكٌ فِي
الْمُدَوَّنَةِ: أَنَّ مَنْ تَأَوَّلَ مِنْ الرُّعَاةِ وَغَيْرِهِمْ
فَأَفْطَرَ فِي مَخْرَجِ ثَلاَثَةِ أَمْيَالٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلاَّ
الْقَضَاءُ, وَرَأَى الْقَصْرَ فِي مِنًى مِنْ مَكَّةَ, وَهَذَا
قَوْلُنَا, وَكَذَلِكَ رَأَى أَبُو حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيُّ فِي
الْمُتَأَوِّلِ، وَلاَ فَرْقَ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ
رَأَوْا لِمَنْ سَافَرَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ أَنْ يُفْطِرَ إذَا فَارَقَ
بُيُوتَ الْقَرْيَةِ; فَإِنْ رَجَعَ لِشَيْءٍ أُوجِبَ عَلَيْهِ تَرْكُ
السَّفَرِ; فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ إلاَّ الْقَضَاءُ, فَقَدْ أَوْجَبُوا
الْفِطْرَ فِي أَقَلَّ مِنْ مِيلٍ, وَيُغْنِي مِنْ هَذَا كُلِّهِ
قَوْلُ اللَّهِ تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فَلَمْ يَخُصَّ تَعَالَى سَفَرًا مِنْ
سَفَرٍ. وَوَجَدْنَا مَا دُونَ الْمِيلِ لَيْسَ لَهُ حُكْمُ السَّفَرِ;
لاَِنَّهُ قَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ
يَبْعُدُ لِلْغَائِطِ وَالْبَوْلِ فَلاَ يَقْصُرُ، وَلاَ يُفْطِرُ,
وَلَمْ نَجِدْ فِي أَقَلَّ مِنْ الْمِيلِ قَوْلاً، عَنْ أَحَدٍ مِنْ
أَهْلِ الْعِلْمِ بِالدِّينِ وَاللُّغَةِ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَيَلْزَمُ مَنْ تَعَلَّقَ مِنْ الْحَنَفِيِّينَ
بِحَدِيثِ: "لاَ تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ", أَنْ لاَ يَرَى الْقَصْرَ
وَالْفِطْرَ فِي سَفَرٍ مَعْصِيَةً; لاَِنَّهُ عليه السلام لَمْ يُبِحْ
لَهَا بِلاَ خِلاَفٍ سَفَرَ الْمَعْصِيَةِ أَصْلاً; وَإِنَّمَا أَبَاحَ
لَهَا بِلاَ شَكٍّ أَسْفَارَ الطَّاعَاتِ; وَهَذَا مِمَّا أَوْهَمُوا
فِيهِ مِنْ الأَخْبَارِ أَنَّهُمْ أَخَذُوا بِهِ وَهُمْ مُخَالِفُونَ
لَهُ.
قَالَ عَلِيٌّ: فأما مَا دُونَ الْمِيلِ فَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ
لَهُ حُكْمُ السَّفَرِ; فَلاَ يَجُوزُ الْفِطْرُ، وَلاَ الْقَصْرُ
فِيهِ أَصْلاً, وَإِنْ أَرَادَ مِيلاً فَصَاعِدًا; لإِنَّ نِيَّةَ
السَّفَرِ هِيَ غَيْرُ السَّفَرِ; وَقَدْ يَنْوِي السَّفَرَ مَنْ لاَ
يُسَافِرُ, وَقَدْ يُسَافِرُ مَنْ لاَ يَنْوِي السَّفَرَ. وَقَدْ
رُوِيَ، عَنْ أَنَسٍ الْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ فِي مَنْزِلِهِ إذَا
أَرَادَ السَّفَرَ.
وَرُوِيَ، عَنْ عَلِيٍّ: إذْ يُفَارِقُ بُيُوتَ الْقَرْيَةِ. وَرُوِيَ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ: تَرْكُ الْقَصْرِ حَتَّى يَبْلُغَ مَا يُقْصَرُ فِي
مِثْلِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَكَانَ هَذَا هُوَ النَّظَرُ لَوْلاَ حَدِيثُ أَنَسٍ: "خَرَجْنَا مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ
فَلَمْ يَزَلْ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعْنَا
إلَى الْمَدِينَةِ", فَهَذَا عَلَى عُمُومِهِ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ
مِنْهُ شَيْءٌ بِغَيْرِ نَصٍّ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: يَقْضِي بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَيَّامٍ أُخَرَ فَهُوَ
نَصُّ الْقُرْآنِ, وَجَائِزٌ أَنْ يَقْضِيَهُ
(6/246)
فِي
سَفَرٍ, وَفِي حَضَرٍ, لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَخُصَّ
بِأَيَّامٍ أُخَرَ حَضَرًا مِنْ سَفَرٍ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: لاَ يَجُوزُ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ فَإِنَّ
النَّاسَ اخْتَلَفُوا.
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَنْ سَافَرَ بَعْدَ دُخُولِ رَمَضَانَ
فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَهُ كُلَّهُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ هُوَ
مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ. وَقَالَتْ
طَائِفَةٌ: لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ الْفِطْرِ، وَلاَ يُجْزِئْهُ صَوْمُهُ.
ثُمَّ افْتَرَقَ الْقَائِلُونَ بِتَخْيِيرِهِ: فَقَالَتْ طَائِفَةٌ:
الصَّوْمُ أَفْضَلُ, وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْفِطْرُ أَفْضَلُ:
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُمَا سَوَاءٌ, وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ
يُجْزِئْهُ الصَّوْمُ، وَلاَ بُدَّ لَهُ مِنْ الْفِطْرِ.
فَرُوِّينَا الْقَوْلَ الأَوَّلَ: عَنْ عَلِيٍّ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ
بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ
عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ:
مَنْ أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ وَهُوَ مُقِيمٌ ثُمَّ سَافَرَ بَعْدُ
لَزِمَهُ الصَّوْمُ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.
وَعَنْ عَبِيدَةُ مِثْلُهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ; وَعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ: أَنَّهَا نَهَتْ عَنِ السَّفَرِ فِي رَمَضَانَ.
وَعَنْ خَيْثَمَةَ كَانُوا يَقُولُونَ: إذَا حَضَرَ رَمَضَانُ: فَلاَ
تُسَافِرْ حَتَّى تَصُومَ.
وَعَنْ أَبِي مِجْلَزٍ مِثْلُهُ قَالَ: فَإِنْ أَبَى أَنْ لاَ
يُسَافِرَ فَلْيَصُمْ.
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي مِجْلَزٍ.
وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سُئِلَ، عَنِ الْمُسَافِرِ
أَيَصُومُ أَمْ يُفْطِرُ فَقَالَ: يَصُومُ.
وَأَمَّا الطَّائِفَةُ الْمُجَوِّزَةُ لِلصَّوْمِ وَالْفِطْرِ; أَوْ
الْمُخْتَارَةُ لِلصَّوْمِ: فَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ
وَالشَّافِعِيِّ; فَشَغَبُوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْ
تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وَاحْتَجُّوا بِأَحَادِيثَ: مِنْهَا حَدِيثُ
سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبَّقِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
قَالَ: "مَنْ كَانَتْ لَهُ حَمُولَةٌ يَأْوِي إلَى شِبَعٍ فَلْيَصُمْ
رَمَضَانَ حَيْثُ أَدْرَكَهُ".
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ, وَأَبِي الدَّرْدَاءِ, وَجَابِرٍ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَصْحَابَهُ فِي السَّفَرِ
بِالْفِطْرِ وَهُوَ صَائِمٌ فَتَرَدَّدُوا وَفَطَرَ هُوَ عليه السلام.
وَذَكَرُوا، عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا كَانَتْ تَصُومُ فِي
السَّفَرِ وَتُتِمُّ الصَّلاَةَ.
وَعَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ.
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ إنْ أَفْطَرَتْ فَرُخْصَةُ اللَّهِ
تَعَالَى, وَإِنْ صُمْت فَالصَّوْمُ أَفْضَلُ. وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ
أَبِي الْعَاصِ, وَابْنِ عَبَّاسٍ: الصَّوْمُ أَفْضَلُ. وَعَنِ
الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ, وَعَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الأَسْوَدِ
بْنِ عَبْدِ يَغُوثِ مِثْلُهُ; وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ صَامَ فِي
سَفَرٍ; لاَِنَّهُ كَانَ رَاكِبًا, وَأَفْطَرَ سَعْدٌ مَوْلاَهُ,
لاَِنَّهُ كَانَ مَاشِيًا وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ:
صُمْهُ فِي الْيُسْرِ وَأَفْطِرْهُ فِي الْعُسْرِ. وَعَنْ طَاوُوس:
الصَّوْمُ أَفْضَلُ, وَعَنِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ مِثْلُهُ.
وَاحْتَجَّ مَنْ رَأَى الأَمْرَيْنِ سَوَاءً بِحَدِيثِ حَمْزَةَ بْنِ
عَمْرٍو الأَسْلَمِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
(6/247)
أَجِدُ
بِي قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم: "أَيُّ ذَلِكَ شِئْتَ يَا حَمْزَةُ". وَبِحَدِيثٍ
مُرْسَلٍ، عَنِ الْغِطْرِيفِ أَبِي هَارُونَ أَنَّ رَجُلَيْنِ
سَافَرَا, فَصَامَ أَحَدُهُمَا وَأَفْطَرَ الآخَرُ, فَذَكَرَا ذَلِكَ
لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "كِلاَكُمَا أَصَابَ".
وَبِحَدِيثٍ مُرْسَلٍ، عَنْ أَبِي عِيَاضٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم أَمَرَ أَنْ يُنَادَى فِي النَّاسِ: مَنْ شَاءَ صَامَ
وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ".
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ وَجَابِرٍ: "كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلاَ يَعِيبُ الصَّائِمُ عَلَى
الْمُفْطِرِ، وَلاَ الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ". وَعَنْ عَلْقَمَةَ,
وَالأَسْوَدِ, وَيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُمْ
سَافَرُوا فِي رَمَضَانَ فَصَامَ بَعْضُهُمْ, وَأَفْطَرَ بَعْضُهُمْ
فَلَمْ يَعِبْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَعَنْ عَطَاءٍ إنْ شِئْت
فَصُمْ وَإِنْ شِئْت فَأَفْطُرْ.
وَأَمَّا مَنْ رَأَى الْفِطْرَ أَفْضَلَ فَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ
حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو إذْ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،
عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ عليه السلام: "هِيَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ
فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلاَ
جُنَاحَ عَلَيْهِ".
وَمِمَّنْ رُوِّينَا عَنْهُ اخْتِيَارُ الْفِطْرِ عَلَى الصَّوْمِ:
سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ, رُوِّينَا أَنَّهُ سَافَرَ هُوَ, وَعَبْدُ
الرَّحْمَانِ بْنُ الأَسْوَدِ, وَالْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ فَصَامَا
وَأَفْطَرَ سَعْدٌ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: أَنَا أَفْقَهُ
مِنْهُمَا. وَصَحَّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَصُومُ فِي
السَّفَرِ وَكَانَ مَعَهُ رَقِيقٌ فَكَانَ يَقُولُ: يَا نَافِعُ ضَعْ
لَهُ سُحُورَهُ قَالَ نَافِعٌ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا سَافَرَ
أَحَبَّ إلَيْهِ أَنْ يُفْطِرَ يَقُولُ: رُخْصَةُ رَبِّي أَحَبُّ
إلَيَّ وَأَنْ آجَرَ لَكَ أَنْ تُفْطِرَ فِي السَّفَرِ. وَيَحْتَجُّ
أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِحَدِيثِ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الَّذِي
رُوِّينَا آنِفًا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "هِيَ رُخْصَةٌ
مِنْ اللَّهِ فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ, وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ
يَصُومَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ", فَحَسَّنَ الْفِطْرَ وَلَمْ يَزِدْ
فِي الصَّوْمِ عَلَى إسْقَاطِ الْجُنَاحِ.
قال علي: هذا مَا احْتَجَّتْ بِهِ كُلُّ طَائِفَةٍ مِمَّنْ رَأَتْ
الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ لَمْ نَدْعُ مِنْهُ شَيْئًا, وَلَسْنَا
نَقُولُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الأَقْوَالِ فَنَحْتَاجُ إلَى تَرْجِيحِ
بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ, إلاَّ أَنَّهَا كُلَّهَا مُتَّفِقَةٌ عَلَى
جَوَازِ الصَّوْمِ لِرَمَضَانَ فِي السَّفَرِ, وَهُوَ خِلاَفُ
قَوْلِنَا فَإِنَّمَا يَلْزَمُنَا دَفْعُهَا كُلُّهَا مِنْ أَجْلِ
ذَلِكَ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ وَنَسْتَعِينُ.
أَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} فَقَدْ
أَتَى كَبِيرَةً مِنْ الْكَبَائِرِ, وَكَذَبَ كَذِبًا فَاحِشًا مَنْ
احْتَجَّ بِهَا فِي إبَاحَةِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ; لاَِنَّهُ
حَرْفُ كَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى، عَنْ مَوْضِعِهِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ
تَعَالَى مِنْ مِثْلِ هَذَا. وَهَذَا عَارٌ لاَ يَرْضَى بِهِ
مُحَقِّقٌ; لإِنَّ نَصَّ الآيَةِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا
كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ
(6/248)
كَانَ
مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ
وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ
تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}
وَإِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي حَالِ الصَّوْمِ
الْمَنْسُوخَةِ; وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ الْحُكْمُ فِي أَوَّلِ نُزُولِ
صَوْمِ رَمَضَانَ: أَنَّ مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَهُ
وَأَطْعَمَ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا, وَكَانَ الصَّوْمُ
أَفْضَلَ, هَذَا نَصُّ الآيَةِ, وَلَيْسَ لِلسَّفَرِ فِيهَا مَدْخَلٌ
أَصْلاً، وَلاَ لِلإِطْعَامِ مَدْخَلٌ فِي الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ
أَصْلاً; فَكَيْف اسْتَجَازُوا هَذِهِ الطَّامَّةَ وَبِهَذَا جَاءَتْ
السُّنَنُ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَد بْنُ فَتْحٍ،
حدثنا عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ،
حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ
حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ سَوَادٍ أَنَّا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ وَهْبٍ
أَنَّا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ
يَزِيدَ مَوْلَى سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ
الأَكْوَعِ قَالَ: كُنَّا فِي رَمَضَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ فَافْتَدَى
بِطَعَامِ مِسْكِينٍ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}. وَبِهِ إلَى مُسْلِمٍ.
حدثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حدثنا بَكْرِ يَعْنِي ابْنَ مُضَرَ،
عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ
يَزِيدَ مَوْلَى سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ
الأَكْوَعِ قَالَ: لَمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {وَعَلَى الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ
يُفْطِرَ وَيَفْتَدِي حَتَّى نَزَلَتْ الآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا
فَنَسَخَتْهَا.
قال أبو محمد: فَحِينَئِذٍ كَانَ الصَّوْمُ أَفْضَلَ; فَظَهَرَتْ
فَضِيحَةُ مَنْ احْتَجَّ بِهَذِهِ الآيَةِ فِي الصَّوْمِ فِي
السَّفَرِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ الْمُحَبَّقِ: "مَنْ كَانَ يَأْوِي إلَى
حَمُولَةٍ أَوْ شِبَعٍ فَلْيَصُمْ", فَحَدِيثٌ سَاقِطٌ لإِنَّ
رَاوِيَهُ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ حَبِيبٍ وَهُوَ بَصْرِيٌّ لَيِّنُ
الْحَدِيثِ، عَنْ سِنَانِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبَّقِ وَهُوَ
مَجْهُولٌ ثُمَّ لَوْ صَحَّ هَذَا الْخَبَرُ لَمَا كَانَ فِيهِ حُجَّةٌ
لاَِحَدٍ مِنْ الطَّوَائِفِ الْمَذْكُورَةِ إلاَّ لِلْقَوْلِ
الْمَرْوِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ صُمْهُ فِي
الْيُسْرِ, وَأَفْطِرْهُ فِي الْعُسْرِ لاَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلاَّ
إيجَابُ الصَّوْمِ, وَلاَ بُدَّ عَلَى ذِي الْحَمُولَةِ وَالشِّبَعِ,
وَهَذَا خِلاَفُ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ الْمَذْكُورَةِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ الْغِطْرِيفِ, وَأَبِي عِيَاضٍ فَمُرْسَلاَنِ; ،
وَلاَ حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ.
وَأَمَّا حَدِيثُ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الَّذِي ذَكَرْنَا هَاهُنَا
الَّذِي فِيهِ إبَاحَةُ الصَّوْمِ فِي رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ
فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ
(6/249)
رِوَايَةِ
ابْنِ حَمْزَةَ ابْنِهِ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ,
وَأَبُوهُ كَذَلِكَ، وَأَمَّا الثَّابِتُ مِنْ حَدِيثِ حَمْزَةَ هُوَ
مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ, وَأَبِي الدَّرْدَاءِ, وَجَابِرٍ;
فَلاَ حَجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا:
لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ صَائِمًا
لِرَمَضَانَ, وَإِذْ لَيْسَ ذَلِكَ فِيهَا فَلاَ يَجُوزُ الْقَطْعُ
بِذَلِكَ, وَلاَ الاِحْتِجَاجُ بِاخْتِرَاعِ مَا لَيْسَ فِي الْخَبَرِ
عَلَى الْقُرْآنِ, وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صَائِمًا تَطَوُّعًا.
وَالثَّانِي أَنَّهُ حَتَّى لَوْ كَانَ ذَلِكَ فِيهَا نَصًّا لَمَا
كَانَ لَهُمْ فِيهَا حُجَّةٌ; لإِنَّ آخِرَ الأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إيجَابُ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ فِي
السَّفَرِ فَلَوْ كَانَ صَوْمُ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ قَبْلَ ذَلِكَ
مُبَاحًا لَكَانَ مَنْسُوخًا بِآخِرِ أَمْرِهِ عليه الصلاة والسلام
كَمَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا احْتِجَاجُ مَنْ أَوْجَبَ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ لِمَنْ
أَهَلَّ عَلَيْهِ الشَّهْرُ فِي الْحَضَرِ بِقَوْلِ اللَّهِ تعالى:
{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ
فِي هَذِهِ الآيَةِ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: فَمَنْ
شَهِدَ بَعْضَ الشَّهْرِ فَلْيَصُمْهُ وَإِنَّمَا أَوْجَبَ تَعَالَى
صِيَامَهُ عَلَى مَنْ شَهِدَ الشَّهْرَ لاَ عَلَى مَنْ شَهِدَ
بَعْضَهُ, ثُمَّ يُبْطِلُ قَوْلَهُمْ أَيْضًا قَوْلُ اللَّهِ تعالى:
{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ
أُخَرَ} فَجَعَلَ السَّفَرَ وَالْمَرَضَ. نَاقِلَيْنِ، عَنِ الصَّوْمِ
فِيهِ إلَى الْفِطْرِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ سَافَرَ فِي رَمَضَانَ عَامَ الْفَتْحِ
فَأَفْطَرَ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمُرَادِ رَبِّهِ تَعَالَى, وَالْبَلاَغُ
مِنْهُ نَأْخُذُهُ, وَعَنْهُ لاَ مِنْ غَيْرِهِ. فَلَمَّا بَطَلَ كُلُّ
مَا احْتَجُّوا بِهِ, وَجَبَ أَنْ نَأْتِيَ بِالْبُرْهَانِ عَلَى
صِحَّةِ قَوْلِنَا, بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُوَّتِهِ.
قَالَ عَلِيٌّ: نَذْكُرُ الآنَ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ, وَأَبِي
الدَّرْدَاءِ, وَجَابِرٍ; وَحَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو مِنْ الْوُجُوهِ
الصِّحَاحِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَنَرَى أَنَّهَا لاَ حُجَّةَ
لَهُمْ فِيهَا; ثُمَّ نُعَقِّبُ بِالْبُرْهَانِ عَلَى صِحَّةِ
قَوْلِنَا إنْ شَاءَ اللَّهُ, وَبِهِ نَتَأَيَّدُ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حدثنا مُؤَمَّلُ بْنُ الْفَضْلِ،
حدثنا الْوَلِيدِ، هُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ، حدثنا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ حَدَّثَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَتْنِي
أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ فِي حَرٍّ
شَدِيدٍ حَتَّى إنَّ أَحَدَنَا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ أَوْ
كَفَّهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ مَا فِينَا صَائِمٌ
إلاَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
رَوَاحَةَ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ
أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ
(6/250)
عَبْدِ
اللَّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي سَفَرٍ
فَأَتَى عَلَى غَدِيرٍ فَقَالَ لِلْقَوْمِ: "اشْرَبُوا" فَقَالُوا: يَا
رَسُولَ اللَّهِ أَنَشْرَبُ، وَلاَ تَشْرَبُ فَقَالَ: "إنِّي
أَيْسَرُكُمْ إنِّي رَاكِبٌ وَأَنْتُمْ مُشَاةٌ" فَشَرِبَ وَشَرِبُوا.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي
نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ فَمَرَّ بِمَاءٍ
فَقَالَ: " انْزِلُوا فَاشْرَبُوا"; فَتَلَكَّأَ الْقَوْمُ فَنَزَلَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَشَرِبَ وَشَرِبْنَا مَعَهُ.
وَقَدْ رُوِّينَا هَذَا الْخَبَرَ مِنْ طَرِيقٍ لاَ يُحْتَجُّ بِهَا
كَمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ
رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ حَدَّثَنِي قَزَعَةُ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا
سَعِيدٍ، عَنِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ فَقَالَ: سَافَرْنَا مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى مَكَّةَ وَنَحْنُ صِيَامٌ
فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"إنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى
لَكُمْ", فَكَانَتْ رُخْصَةً, فَمِنَّا مَنْ صَامَ وَمِنَّا مَنْ
أَفْطَرَ, ثُمَّ نَزَلْنَا مَنْزِلاً آخَرَ فَقَالَ: "إنَّكُمْ
تُصَبِّحُونَ عَدُوَّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ فَأَفْطِرُوا",
فَكَانَتْ عَزْمَةً فَأَفْطَرْنَا, ثُمَّ قَالَ: "لَقَدْ رَأَيْتُنَا
نَصُومُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ فِي
السَّفَرِ".
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ
السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
"خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَصَامَ
حَتَّى مَرَّ بِغَدِيرٍ فِي الطَّرِيقِ وَذَلِكَ فِي نَحْرِ
الظَّهِيرَةِ فَعَطِشَ النَّاسُ فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ فَأَمْسَكَهُ عَلَى يَدِهِ حَتَّى رَآهُ النَّاسُ
ثُمَّ شَرِبَ فَشَرِبَ النَّاسُ".
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ: حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ،
عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو
الأَسْلَمِيِّ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَأَصُومُ
فِي السَّفَرِ؟ وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ فَقَالَ: "إنْ شِئْتَ
فَصُمْ وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ".
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ: حدثنا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ
وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ أَبُو الرَّبِيعِ، حدثنا حَمَّادٌ، هُوَ
ابْنُ زَيْدٍ وَقَالَ يَحْيَى، حدثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ ثُمَّ اتَّفَقَ
أَبُو مُعَاوِيَةَ وَحَمَّادٌ كِلاَهُمَا، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ حَمْزَةَ
بْنَ عَمْرٍو الأَسْلَمِيَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي رَجُلٌ
أَسْرُدُ الصَّوْمَ أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ قَالَ: "صُمْ إنْ
شِئْتَ".
قَالَ عَلِيٌّ: كُلُّ هَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ; أَمَّا حَدِيثُ
أَبِي الدَّرْدَاءِ: فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي رَمَضَانَ
أَصْلاً, وَإِقْحَامُ مَا لَيْسَ فِي الْخَبَرِ كَذِبٌ; وَقَدْ
يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَطَوُّعًا فَلاَ نُنْكِرُهُ فَلاَ مُتَعَلَّقَ
لَهُمْ، وَلاَ لَنَا فِيهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فَطَرِيقُ
مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ لاَ يُحْتَجُّ بِهَا
(6/251)
ثُمَّ
هَبْكَ أَنَّهَا صَحِيحَةٌ فَهُوَ حُجَّةٌ لَنَا عَلَيْهِمْ; لإِنَّ
فِيهِ: أَنَّ آخِرَ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ
الْفِطْرُ, هَذَا إنْ صَحَّ أَنَّهُ كَانَ فِي رَمَضَانَ. وَفِي
حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ الْمَذْكُورِ; وَحَدِيثِ ابْنِ
عَبَّاسٍ بَيَانٌ أَنَّهُ كَانَ فِي رَمَضَانَ, وَفِيهِمَا عَلَى أَبِي
حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ: أَمْرٌ عَظِيمٌ, لأَنَّهُمْ
لاَ يُجِيزُونَ لِمَنْ صَامَ وَهُوَ مُسَافِرٌ فِي رَمَضَانَ أَنْ
يُفْطِرَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي ابْتَدَأَ صِيَامَهُ,
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مُخْطِئٌ وَمَا يَبْعُدُ عَنْهُمْ إطْلاَقُ
اسْمِ الْمَعْصِيَةِ عَلَيْهِ, وَمَالِكٌ يَرَى عَلَيْهِ
الْكَفَّارَةُ; فَلْيَنْظُرْ نَاصِرُ أَقْوَالِهِمْ فَبِمَاذَا
يَدْخُلُ فِي احْتِجَاجِهِ بِهَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ مِنْ إطْلاَقِ
اسْمِ الْخَطَأِ وَالْمَعْصِيَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم وَإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ فِي إفْطَارِهِ, وَهَذَا
خُرُوجٌ، عَنِ الإِسْلاَمِ مِمَّنْ أَقْدَمَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا نَحْنُ
فَنَقُولُ: لَوْ صَحَّ أَنَّهُ عليه السلام كَانَ صَائِمًا يَنْوِيه
مِنْ رَمَضَانَ لَكَانَ ذَلِكَ مَنْسُوخًا بِآخِرِ أَمْرِهِ, وَآخِرِ
فِعْلِهِ, وَإِذْ لَمْ يَأْتِ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ الأَخْبَارِ
فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صَامَ تَطَوُّعًا, وَالْفِطْرُ لِلصَّائِمِ
تَطَوُّعًا مُبَاحٌ مُطْلَقٌ لاَ كَرَاهَةَ فِيهِ كَمَا فَعَلَ عليه
السلام.
وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِمَّنْ يَقُولُ فِي الْخَبَرِ
الثَّابِتِ: "أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَسْتَعِيرُ الْحُلِيَّ
وَتَجْحَدُهُ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَطْعِ
يَدِهَا": لَعَلَّهُ إنَّمَا قَطَعَ يَدَهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ.
وَيَقُولُ فِي الْخَبَرِ الثَّابِتِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم رَأَى رَجُلاً يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ فَأَمَرَهُ
بِإِعَادَةِ الصَّلاَةِ": لَعَلَّهُ إنَّمَا أَمَرَهُ بِالإِعَادَةِ
لِغَيْرِ ذَلِكَ. وَيَقُولُ فِي الْخَبَرِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم رَأَى رَجُلاً يُصَلِّي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ
وَالصَّلاَةُ تُقَامُ فَقَالَ لَهُ: بِأَيِّ صَلاَتَيْكَ تَعْتَدُّ":
لَعَلَّهُ إنَّمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَنَّهُ صَلاَّهُمَا بَيْنَ
النَّاسِ مُكَابَرَةً لِلْبَاطِلِ: وَفِي الْخَبَرِ مَنْصُوصٌ أَنَّهُ
كَانَ يُصَلِّيهِمَا نَاحِيَةً. ثُمَّ لاَ يَقُولُ هَاهُنَا: لَعَلَّهُ
كَانَ يَصُومُ تَطَوُّعًا; وَهَاهُنَا يَجِبُ أَنْ يُقَالَ هَذَا;
لاَِنَّهُ لَيْسَ فِي الأَخْبَارِ دَلِيلٌ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ
وَأَمَّا تِلْكَ الأَخْبَارُ فَلَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ يَحْتَمِلُ مَا
تَأَوَّلُوهُ لإِنَّ نَصَّهَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ.
وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَحْتَجُّ بِقَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ: "ثُمَّ لَقَدْ
رَأَيْتُنَا نَصُومُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم", فِي إجَازَةِ مَا لَيْسَ فِي الْخَبَرِ مِنْهُ
أَثَرٌ، وَلاَ عَثْرٌ مِنْ إجَازَةِ الصَّوْمِ لِرَمَضَانَ فِي
السَّفَرِ وَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ عليه السلام عَلِمَ بِذَلِكَ
فَأَقَرَّهُ. وَهُمْ لاَ يَرَوْنَ قَوْلَ أَسْمَاءَ: ذَبَحْنَا عَلَى
عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ
حُجَّةً, وَلاَ يَرَوْنَ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ: "إنَّ طَلاَقَ
الثَّلاَثِ كَانَتْ تُجْعَلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم وَاحِدَةً", حُجَّةً.
(6/252)
وَهَذَا
عَجَبٌ عَجِيبٌ وَإِنَّمَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ إبَاحَةُ
الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ وَنَحْنُ لاَ نُنْكِرُهُ تَطَوُّعًا أَوْ
فَرْضًا غَيْرَ رَمَضَانَ; وَمِمَّا يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّهُ لاَ
يُعْلَمُ أَنَّهُ عليه السلام سَافَرَ فِي رَمَضَانَ بَعْدَ عَامِ
الْفَتْحِ. وَأَمَّا خَبَرُ حَمْزَةَ فَبَيَانٌ جَلِيٌّ فِي أَنَّهُ
إنَّمَا سَأَلَهُ عليه السلام، عَنِ التَّطَوُّعِ لِقَوْلِهِ فِي
الْخَبَرِ: "إنِّي امْرُؤٌ أَسْرُدُ الصَّوْمَ أَفَأَصُومُ فِي
السَّفَرِ؟ وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ" فَبَطَلَ كُلُّ مَا
تَأَوَّلُوهُ, وَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ
الأَخْبَارِ حُجَّةٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد: فَإِذْ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ حُجَّةٌ لاَ مِنْ قُرْآنٍ،
وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ فَلِنَذْكُرَ الآنَ الْبَرَاهِينَ عَلَى صِحَّةِ
قَوْلِنَا بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُوَّتِهِ: قَالَ اللَّهُ
تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ
مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَهَذِهِ
آيَةٌ مُحْكَمَةٌ بِإِجْمَاعٍ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ لاَ
مَنْسُوخَةٌ، وَلاَ مَخْصُوصَةٌ. فَصَحَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ
يَفْرِضْ صَوْمَ الشَّهْرِ إلاَّ عَلَى مَنْ شَهِدَهُ, وَلاَ فَرْضَ
عَلَى الْمَرِيضِ, وَالْمُسَافِرِ إلاَّ أَيَّامًا أُخَرَ غَيْرَ
رَمَضَانَ, وَهَذَا نَصٌّ جَلِيٌّ لاَ حِيلَةَ فِيهِ; ، وَلاَ يَجُوزُ
لِمَنْ قَالَ: إنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ إنْ أَفْطَرَا فِيهِ; لاَِنَّهَا
دَعْوَى مَوْضُوعَةٌ بِلاَ بُرْهَانٍ قَالَ اللَّهُ تعالى: {قُلْ
هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَد بْنُ فَتْحٍ، حدثنا
عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا
أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا
مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ، هُوَ ابْنُ
عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيِّ، حدثنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَامَ
الْفَتْحِ إلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ
الْغَمِيمِ فَصَامَ النَّاسُ ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ
فَرَفَعَهُ حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إلَيْهِ ثُمَّ شَرِبَ فَقِيلَ لَهُ
بَعْدَ ذَلِكَ: إنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ فَقَالَ: "أُولَئِكَ
الْعُصَاةُ أُولَئِكَ الْعُصَاةُ".
قال أبو محمد: إنْ كَانَ صِيَامُهُ عليه السلام لِرَمَضَانَ فَقَدْ
نَسَخَهُ بِقَوْلِهِ أُولَئِكَ الْعُصَاةُ وَصَارَ الْفِطْرُ فَرْضًا
وَالصَّوْمُ مَعْصِيَةً, وَلاَ سَبِيلَ إلَى خَبَرٍ نَاسِخٍ لِهَذَا
أَبَدًا, وَإِنْ كَانَ صِيَامُهُ عليه السلام تَطَوُّعًا فَهَذَا
أَحْرَى لِلْمَنْعِ مِنْ صِيَامِ رَمَضَانَ لِرَمَضَانَ فِي السَّفَرِ,
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ, وَمُسْلِمٍ.
(6/253)
قَالَ
الْبُخَارِيِّ، حدثنا آدَم, وَقَالَ مُسْلِمٌ: حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ
أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ثُمَّ اتَّفَقَ آدَم
وَمُحَمَّدٌ وَكِلاَهُمَا، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَرَأَى رَجُلاً قَدْ ظُلِّلَ
عَلَيْهِ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقِيلَ: صَائِمٌ, فَقَالَ: "لَيْسَ مِنْ
الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ", هَذَا لَفْظُ آدَمَ, وَلَفْظُ
غُنْدَرٍ: "لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ أَنْ تَصُومُوا فِي السَّفَرِ".
قال أبو محمد: وَهَذَا مَكْشُوفٌ وَاضِحٌ. فإن قيل: إنَّمَا مَنَعَ
عليه السلام فِي مِثْلِ حَالِ ذَلِكَ الرَّجُلِ قلنا: هَذَا بَاطِلٌ
لاَ يَجُوزُ لإِنَّ تِلْكَ الْحَالَ مُحَرَّمُ الْبُلُوغِ إلَيْهَا
بِاخْتِيَارِ الْمَرْءِ لِلصَّوْمِ فِي الْحَضَرِ كَمَا هُوَ فِي
السَّفَرِ فَتَخْصِيصُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَنْعِ مِنْ
الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ إبْطَالٌ لِهَذِهِ الدَّعْوَى الْمُفْتَرَاةِ
عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم وَوَاجِبٌ أَخْذُ كَلاَمِهِ عليه السلام
عَلَى عُمُومِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ
صَفْوَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ
الْجُمَحِيِّ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عَاصِمٍ
الأَشْعَرِيِّ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
يَقُولُ: "لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ". صَفْوَانُ
ثِقَةٌ مَشْهُورٌ مَكِّيٌّ كَانَ مُتَزَوِّجًا بِالدَّرْدَاءِ بِنْتِ
أَبِي الدَّرْدَاءِ. وَكَعْبُ بْنُ عَاصِمٍ مَشْهُورُ الصُّحْبَةِ
هَاجَرَ مَعَ أَبِي مُوسَى وَهُوَ مِنْ الأَشَاقِرِ حَيٌّ مِنْ
الأَزْدِ.
وَمِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ
حَدَّثَنِي يَحْيَى، هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ حَدَّثَنِي أَبُو
قِلاَبَةَ الْجَرْمِيُّ أَنَّ أَبَا أُمَيَّةَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ
الضَّمْرِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
قَالَ لَهُ وَقَدْ دَعَاهُ إلَى الْغَدَاءِ: أُخْبِرُكَ، عَنِ
الْمُسَافِرِ إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْهُ الصِّيَامَ وَنِصْفَ
الصَّلاَةِ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي زُرْعَةَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ
الْكَرِيمِ، حدثنا سَهْلُ بْنُ بَكَّارٍ، حدثنا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ
أَبِي بِشْرٍ، عَنْ هَانِئِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ،
عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ وَ
قد دَعَاهُ إلَى الْغَدَاءِ: "أَتَدْرِي مَا وَضَعَ اللَّهُ، عَنِ
الْمُسَافِرِ" قُلْتُ: مَا وَضَعَ اللَّهُ، عَنِ الْمُسَافِرِ قَالَ:
"الصَّوْمُ, وَشَطْرُ الصَّلاَةِ".
وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ ثَوْبَانَ حَدَّثَنِي جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِرَجُلٍ فِي
ظِلٍّ يُرَشُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ فَسَأَلَ عَنْهُ فَأُخْبِرَ أَنَّهُ
صَائِمٌ فَقَالَ: "لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ أَنْ تَصُومُوا فِي السَّفَرِ
وَعَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ
فَاقْبَلُوهَا"
(6/254)
فَهَذَا
أَمْرٌ بِقَبُولِهَا وَأَمْرُهُ عليه الصلاة والسلام فَرْضٌ فَهِيَ
رُخْصَةٌ مُفْتَرَضَةٌ; وَصَحَّ بِهَذِهِ الأَخْبَارِ أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى أَسْقَطَ، عَنِ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ وَنِصْفَ الصَّلاَةِ
وَهَذِهِ آثَارٌ مُتَوَاتِرَةٌ مُتَظَاهِرَةٌ لَمْ يَأْتِ شَيْءٌ
يُعَارِضُهَا فَلاَ يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَنْهَا. فإن قيل: فَإِنَّ
هَذِهِ الأَخْبَارَ مَانِعَةٌ كُلُّهَا بِعُمُومِهَا مِنْ كُلِّ صَوْمٍ
فِي السَّفَرِ وَأَنْتُمْ تُبِيحُونَ فِيهِ كُلَّ صَوْمٍ إلاَّ
رَمَضَانَ وَحْدَهُ قلنا: نَعَمْ, لإِنَّ النُّصُوصَ جَاءَتْ بِمِثْلِ
مَا قلنا; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَمَنْ تَمَتَّعَ
بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ
لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ
إذَا رَجَعْتُمْ} فَافْتَرَضَ تَعَالَى صَوْمَ الثَّلاَثَةِ الأَيَّامِ
فِي السَّفَرِ، وَلاَ بُدَّ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم فِي الْحَضِّ عَلَى صَوْمِ عَرَفَةَ مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ فِي السَّفَرِ لِمَنْ كَانَ حَاجًّا. وَقَالَ
عليه الصلاة والسلام: "إنَّ أَفْضَلَ الصِّيَامِ صِيَامُ دَاوُد
يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا" فَعَمَّ عليه الصلاة والسلام
وَلَمْ يَخُصَّ. وَقَالَ عليه الصلاة والسلام: "مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ بَاعَدَ اللَّهُ النَّارَ، عَنْ وَجْهِهِ" فَحَضَّ
عَلَى الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ. فَوَجَبَ الأَخْذُ بِجَمِيعِ
النُّصُوصِ فَخَرَجَ صَوْمُ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ بِالْمَنْعِ
وَحْدَهُ وَبَقِيَ سَائِرُ الصَّوْمِ وَاجِبُهُ وَتَطَوُّعُهُ عَلَى
جَوَازِهِ فِي السَّفَرِ، وَلاَ يَجُوزُ تَرْكُ نَصٍّ لاِخَرَ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالْجُرْأَةِ عَلَى الْقَوْلِ
بِالْبَاطِلِ فِي الدِّينِ: مَعْنَى قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:
"لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ" مِثْلُ قَوْلِهِ عليه
الصلاة والسلام: "لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ".
قال أبو محمد: هَذَا تَحْرِيفٌ لِلْكَلِمِ، عَنْ مَوَاضِعِهِ, وَكَذِبٌ
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَقْوِيلٌ لَهُ مَا لَمْ
يَقُلْ, وَفَاعِلُ هَذَا يَتَبَوَّأُ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ بِنَصِّ
قَوْلِهِ عليه السلام, وَلَيْسَ إذَا وُجِدَ نَصٌّ قَدْ جَاءَ نَصٌّ
آخَرُ أَوْ إجْمَاعٌ بِإِخْرَاجِهِ، عَنْ ظَاهِرِهِ وَجَبَ أَنْ
تَبْطُلَ جَمِيعُ النُّصُوصِ وَتَخْرُجَ، عَنْ ظَوَاهِرِهَا فَيَحْصُلُ
مِنْ فِعْلِ هَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْقَرَامِطَةِ فِي إحَالَةِ
الْقُرْآنِ، عَنْ مَفْهُومِهِ وَظَاهِرِهِ, وَمَنْ بَلَغَ إلَى
هَاهُنَا فَقَدْ كَفَى خَصْمَهُ مُؤْنَتَهُ. وَيُقَالُ لَهُ: إذَا
قُلْت هَذَا فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ
الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ" فَقُلْهُ أَيْضًا فِي قوله تعالى: {لَيْسَ
الْبِرُّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ} ، وَلاَ فَرْقَ.
قال أبو محمد: وَمَنْ سَلَكَ هَذَا السَّبِيلَ فَقَدْ أَبْطَلَ
الدِّينَ وَالْعَقْلَ وَالتَّفَاهُمَ جُمْلَةً. فإن قيل: فَكَيْف
تَقُولُونَ فِي صَوْمِهِ عليه الصلاة والسلام مَعَ قَوْلِ اللَّهِ
تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ
(6/255)
الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ
أَيَّامٍ أُخَرَ}. قلنا: هَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ لاَ تَخْلُو
هَذِهِ الآيَةُ مِنْ أَنْ يَكُونَ نُزُولُهَا تَأَخَّرَ إلَى وَقْتِ
فَتْحِ مَكَّةَ أَوْ بَعْدَهُ, وَتَقَدَّمَ فَرْضُ رَمَضَانَ بِوَحْيٍ
آخَرَ كَمَا كَانَ نُزُولُ آيَةِ الْوُضُوءِ فِي الْمَائِدَةِ
مُتَأَخِّرًا، عَنْ نُزُولِ فَرْضِهِ; فَإِنْ كَانَ تَأَخَّرَ
نُزُولُهَا فَسُؤَالُكُمْ سَاقِطٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبُّ
الْعَالَمِينَ. وَإِنْ كَانَ تَقَدَّمَ نُزُولُهَا فَلاَ يَخْلُو عليه
الصلاة والسلام فِي صَوْمِهِ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَامَهُ
لِرَمَضَانَ أَوْ تَطَوُّعًا, فَإِنْ كَانَ صَامَهُ تَطَوُّعًا
فَسُؤَالُكُمْ سَاقِطٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَإِنْ كَانَ صَامَهُ عليه
الصلاة والسلام لِرَمَضَانَ فَلاَ نُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ عليه الصلاة
والسلام نَسَخَ بِفِعْلِهِ حُكْمَ الآيَةِ ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ
الْفِعْلَ وَعَادَ حُكْمُ الآيَةِ, فَهَذَا كُلُّهُ حَسَنٌ فَكَيْف،
وَلاَ دَلِيلَ أَصْلاً عَلَى تَقَدُّمِ نُزُولِ الآيَةِ قَبْلَ
غَزْوَةِ الْفَتْحِ وَمَا نَزَلَ بَعْضُهَا إلاَّ بَعْدَ إسْلاَمِ
عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ بَعْدَ الْفَتْحِ بِمُدَّةٍ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد: وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْنَا إلاَّ أَنْ نَذْكُرَ مَنْ
قَالَ: بِمِثْلِ قَوْلِنَا لِئَلاَّ يَدَّعُوا عَلَيْنَا خِلاَفَ
الإِجْمَاعِ; فَالدَّعْوَى لِذَلِكَ مِنْهُمْ سَهْلَةٌ, وَهُمْ
أَكْثَرُ النَّاسِ خِلاَفًا لِلإِجْمَاعِ عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَّا فِي
كِتَابِنَا هَذَا وَفِي غَيْرِهِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، حدثنا حَمَّادُ بْنُ
سَلَمَةَ، عَنْ كُلْثُومِ بْنِ جَبْرٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي قَيْسٍ
أَنَّهُ صَامَ فِي السَّفَرِ فَأَمَرَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ
يُعِيدَ. وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ
عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ،
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ أَمَرَ رَجُلاً أَنْ يُعِيدَ
صِيَامَهُ فِي السَّفَرِ.
قال أبو محمد: إنَّ مَنْ احْتَجَّ فِي رَدِّ السُّنَنِ الثَّابِتَةِ
مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ بَيِّعَيْنِ
فَلاَ بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَتَفَرَّقَا" بِرِوَايَةِ شَيْخٍ
مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: الْبَيْعُ عَلَى
صَفْقَةٍ أَوْ تَخَايُرٍ; ثُمَّ رَدَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، عَنْ
عُمَرَ وَمَعَهُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَنُ: لاَُعْجُوبَةٌ وَأُخْلُوقَةٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ
عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ،
عَنْ أَبِيهِ قَالَ: نَهَتْنِي عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، عَنْ
أَنْ أَصُومَ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي
السَّفَرِ. وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ نَصْرِ بْنِ
عِمْرَانَ الضُّبَعِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، عَنِ
الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ فَقَالَ: يُسْرٌ وَعُسْرٌ خُذْ بِيُسْرِ
اللَّهِ تَعَالَى.
(6/256)
قال أبو
محمد: إخْبَارُهُ بِأَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ عُسْرٌ:
إيجَابٌ مِنْهُ لِفِطْرِهِ. وَعَنْهُ أَيْضًا: الإِفْطَارُ فِي
رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ عَزْمَةٌ.
رُوِّينَا هَذَا عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ, وَابْنِ
أَبِي شَيْبَةَ كِلاَهُمَا، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ
بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَبِي
الشَّعْثَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ عِمْرَانَ
الْقَطَّانِ، عَنْ عَمَّارٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، هُوَ ابْنُ أَبِي
عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ صَامَ رَمَضَانَ
فِي السَّفَرِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لاَ يُجْزِئْهُ يَعْنِي لاَ
يُجْزِئْهُ صِيَامُهُ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ، عَنِ
الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ فَقَالَ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا
أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}. وَمِنْ طَرِيقِ
شُعْبَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ الْحَكَمِ
الثَّقَفِيِّ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ سُئِلَ، عَنِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ
فَقَالَ: إنَّمَا هِيَ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكَ
أَرَأَيْت لَوْ تَصَدَّقْتَ بِصَدَقَةٍ فَرُدَّتْ عَلَيْكَ أَلَمْ
تَغْضَبْ؟
قال أبو محمد: هَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ كَانَ يَرَى الصَّوْمَ فِي
رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ مُغْضِبًا لِلَّهِ تَعَالَى, وَلاَ يُقَالُ
هَذَا فِي شَيْءٍ مُبَاحٍ أَصْلاً.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ كُلْثُومِ بْنِ جَبْرٍ
أَنَّ امْرَأَةً صَحِبَتْ ابْنَ عُمَرَ فِي سَفَرٍ فَوَضَعَ الطَّعَامَ
فَقَالَ لَهَا: كُلِّي قَالَتْ: إنِّي صَائِمَةٌ قَالَ: لاَ
تَصْحَبِينَا.
وَمِنْ طَرِيقِ مَعْنِ بْنِ عِيسَى الْقَزَّازِ، عَنِ ابْنِ أَبِي
ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: يُقَالُ: الصِّيَامُ
فِي السَّفَرِ كَالإِفْطَارِ فِي الْحَضَرِ. قال أبو محمد: هَذَا
إسْنَادٌ صَحِيحٌ, وَقَدْ صَحَّ سَمَاعُ أَبِي سَلَمَةَ مِنْ أَبِيهِ,
وَلاَ يَقُولُ عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَوْفٍ فِي الدِّينِ: يُقَالُ
كَذَا إلاَّ عَنِ الصَّحَابَةِ أَصْحَابِهِ، رضي الله عنهم،, وَأَمَّا
خُصُومُنَا فَلَوْ وَجَدُوا مِثْلَ هَذَا لَكَانَ أَسْهَلَ شَيْءٍ
عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُولُوا: لاَ يَقُولُ ذَلِكَ إلاَّ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، حدثنا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ،
عَنْ أَبِيهِ قَالَ: الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي
الْحَضَرِ, وَهَذَا سَنَدٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، عَنِ الْمُحَرَّرِ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ: صُمْت رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ فَأَمَرَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ
أَنْ أُعِيدَهُ فِي أَهْلِي, وَأَنْ أَقْضِيَهُ فَقَضَيْته. وَمِنْ
طَرِيقِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ
(6/257)
حَرْمَلَةَ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ أَأُتِمُّ
الصَّلاَةَ فِي السَّفَرِ وَأَصُومُ قَالَ: لاَ فَقَالَ: إنِّي أَقْوَى
عَلَى ذَلِكَ قَالَ سَعِيدٌ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ
أَقْوَى مِنْك قَدْ كَانَ يَقْصُرُ وَيُفْطِرُ. وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ
سُئِلَ، عَنِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ فَقَالَ: أَمَّا الْمَفْرُوضُ
فَلاَ وَأَمَّا التَّطَوُّعُ فَلاَ بَأْسَ بِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ عَاصِمٍ مَوْلَى قُرَيْبَةَ، عَنْ
عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ صَامَ فِي
السَّفَرِ: إنَّهُ يَقْضِيه فِي الْحَضَرِ, قَالَ شُعْبَةُ: لَوْ صُمْت
رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ لَكَانَ فِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْءٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَانَ الْفِطْرُ
آخِرَ الأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
بِالآخِرِ فَالآخِرِ. وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنَ أَبِي خَالِدٍ،
عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لاَ تَصُومُوا فِي السَّفَرِ. وَعَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِب أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يَنْهَى، عَنْ صِيَامِ رَمَضَانَ فِي
السَّفَرِ; وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ يَنْهَى، عَنْ ذَلِكَ
أَيْضًا. وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ:
لاَ يَصُومُ الْمُسَافِرُ أَفْطِرْ أَفْطِرْ وَعَنْ يُونُسَ بْنِ
عُبَيْدٍ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا صِيَامَ رَمَضَانَ فِي
السَّفَرِ.
قال أبو محمد: وَقَدْ جَاءَ خَبَرٌ لَوْ وَجَدُوا مِثْلَهُ لَعَظُمَ
الْخَطْبُ مَعَهُمْ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ
أَحْمَدَ بْنِ الْجَهْمِ، حدثنا مُوسَى بْنُ هَارُونَ، حدثنا
إبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حدثنا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى
التَّيْمِيِّ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ اللَّيْثِيِّ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ
عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ رَفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
قَالَ: "الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ فِي رَمَضَانَ كَالْمُفْطِرِ فِي
الْحَضَرِ".
قال أبو محمد: وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ نَحْتَجُّ بِأُسَامَةَ بْنِ
زَيْدٍ اللَّيْثِيِّ، وَلاَ نَرَاهُ حُجَّةً لَنَا، وَلاَ عَلَيْنَا
وَفِي الْقُرْآنِ وَصَحِيحِ السُّنَنِ كِفَايَةٌ, وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لاَ يُجْزِئُ
عِنْدَهُ إتْمَامُ الصَّلاَةِ فِي السَّفَرِ, وَمَالِكٌ يَرَى فِي
ذَلِكَ الإِعَادَةَ فِي الْوَقْتِ ثُمَّ يَخْتَارُونَ الصَّوْمَ فِي
السَّفَرِ عَلَى الْفِطْرِ, تَنَاقُضًا لاَ مَعْنَى لَهُ, وَخِلاَفًا
لِنَصِّ الْقُرْآنِ, وَلِلْقِيَاسِ الَّذِي يَدَّعُونَ لَهُ السُّنَنَ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَإِذْ قَدْ صَحَّ هَذَا فَمَنْ سَافَرَ فِي رَمَضَانَ
فَلَهُ أَنْ يَصُومَ تَطَوُّعًا, وَلَهُ أَنْ يَصُومَ فِيهِ قَضَاءَ
رَمَضَانَ أَفْطَرَهُ قَبْلُ أَوْ سَائِرَ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ
الصَّوْمِ نَذْرًا أَوْ غَيْرَهُ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} : وَلَمْ يَخُصَّ رَمَضَانَ آخَرَ
مِنْ غَيْرِهِ وَلَمْ يَمْنَعْ النَّصُّ مِنْ صِيَامِهِ إلاَّ
لِعَيْنِهِ فَقَطْ وَأَمَّا الْمَرِيضُ فَإِنْ كَانَ يُؤْذِيه
الصَّوْمُ فَتَكَلَّفَهُ لَمْ يُجْزِهِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَهُ
لاَِنَّهُ مَنْهِيٌّ
(6/258)
عَنِ
الْحَرَجِ وَالتَّكَلُّفِ, وَعَنْ أَذَى نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ لاَ
يَشُقُّ عَلَيْهِ أَجْزَأَهُ; لاَِنَّهُ لاَ خِلاَفَ فِي ذَلِكَ وَمَا
نَعْلَمُ مَرِيضًا لاَ حَرَجَ عَلَيْهِ فِي الصَّوْمِ قَالَ اللَّهُ
تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}
فَالْحَرَجُ لَمْ يَجْعَلْهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدِّينِ.
(6/259)
من أقام من قبل الفجر و لم يسافر إلى بعد غروب الشمس في سفره فعليه إذا
نوى الإقامة أن ينوي الصوم
...
763 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَقَامَ مِنْ قَبْلِ الْفَجْرِ وَلَمْ
يُسَافِرْ إلَى بَعْدِ غُرُوبِ الشَّمْسِ فِي سَفَرِهِ فَعَلَيْهِ إذَا
نَوَى الإِقَامَةَ الْمَذْكُورَةَ أَنْ يَنْوِيَ الصَّوْمَ،
وَلاَ بُدَّ, سَوَاءٌ كَانَ فِي جِهَادٍ, أَوْ عُمْرَةٍ, أَوْ غَيْرِ
ذَلِكَ, لاَِنَّهُ إنَّمَا أُلْزِمَ الْفِطْرَ إذَا كَانَ عَلَى سَفَرٍ
وَهَذَا مُقِيمٌ; فَإِنْ أَفْطَرَ عَامِدًا فَقَدْ أَخْطَأَ إنْ كَانَ
جَاهِلاً مُتَأَوِّلاً, وَعَصَى إنْ كَانَ عَالِمًا، وَلاَ قَضَاءَ
عَلَيْهِ; لاَِنَّهُ مُقِيمٌ صَحِيحٌ ظَنَّ أَنَّهُ مُسَافِرٌ; فَإِنْ
نَوَى مِنْ اللَّيْلِ وَهُوَ فِي سَفَرِهِ أَنْ يَرْحَلَ غَدًا فَلَمْ
يَنْوِ الصَّوْمَ فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ حَدَثَتْ لَهُ إقَامَةٌ
فَهُوَ مُفْطِرٌ; لاَِنَّهُ مَأْمُورٌ بِمَا فَعَلَ, وَهُوَ عَلَى
سَفَرٍ مَا لَمْ يَنْوِ الإِقَامَةَ الْمَذْكُورَةَ وَهَذَا بِخِلاَفِ
الصَّلاَةِ; لإِنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي الصَّلاَةِ بِقَصْرِ عِشْرِينَ
يَوْمًا يُقِيمُهَا فِي الْجِهَادِ, وَبِقَصْرِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ
يُقِيمُهَا فِي الْحَجِّ. وَبِقَصْرِ مَا يَكُونُ فِيهِ مِنْ
الصَّلَوَاتِ مُقِيمًا مَا بَيْنَ نُزُولِهِ إلَى رَحِيلِهِ مِنْ غَدٍ,
وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِأَنْ يُفْطِرَ فِي غَيْرِ يَوْمٍ لاَ يَكُونُ
فِيهِ مُسَافِرًا.
فإن قيل: قَالَ اللَّهُ تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ
عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فَهَذَا عَلَى سَفَرٍ
قلنا: لَوْ كَانَتْ "عَلَى" فِي هَذِهِ الآيَةِ مَعْنَاهَا مَا
ظَنَنْتُمْ مِنْ إرَادَةِ السَّفَرِ لاَ الدُّخُولِ فِي السَّفَرِ
لَوَجَبَ عَلَى مَنْ أَرَادَ السَّفَرَ وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ أَنْ
يُفْطِرَ وَإِنْ نَوَى السَّفَرَ بَعْدَ أَيَّامٍ; لاَِنَّهُ عَلَى
سَفَرٍ وَهَذَا مَا لاَ يُشَكُّ فِي أَنَّهُ لاَ يَقُولُهُ أَحَدٌ;
وَيُبْطِلُهُ أَيْضًا أَوَّلُ الآيَةِ إذْ يَقُولُ تعالى: {فَمَنْ
شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فَوَجَبَ عَلَى الشَّاهِدِ
صِيَامُهُ وَعَلَى الْمُسَافِرِ إفْطَارُهُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ"
وَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "إنَّ اللَّهَ وَضَعَ، عَنِ
الْمُسَافِرِ الصِّيَامَ وَشَطْرَ الصَّلاَةِ". فَصَحَّ أَنَّهُ لَيْسَ
إلاَّ مُسَافِرٌ أَوْ شَاهِدٌ; فَالشَّاهِدُ يَصُومُ وَالْمُسَافِرُ
يُفْطِرُ وَلَيْسَ الْمُسَافِرُ إلاَّ الْمُنْتَقِلُ لاَ الْمُقِيمُ;
فَلاَ يُفْطِرُ إلاَّ مَنْ انْتَقَلَ بِخِلاَفِ مَنْ لَمْ يَنْتَقِلْ,
وَمَنْ كَانَ مُقِيمًا صَائِمًا فَحَدَثَ لَهُ سَفَرٌ فَإِنَّهُ إذَا
بَرَزَ، عَنْ مَوْضِعِهِ فَقَدْ سَافَرَ فَقَدْ بَطَلَ صَوْمُهُ
وَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ; وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
فإن قيل: بَلْ نَقِيسَ الصَّوْمَ عَلَى الصَّلاَةِ قلنا: الْقِيَاسُ
بَاطِلٌ ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ بَاطِلاً;
لأَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ قَصْرَ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ لاَ
يُقَاسَ عَلَيْهِ قَصْرُ سَائِرِهَا, فَإِذَا لَمْ يَجُزْ عِنْدَهُمْ
قِيَاسُ قَصْرِ صَلاَةٍ عَلَى قَصْرِ صَلاَةٍ أُخْرَى فَأَبْطَلُ
وَأَبْعَدُ أَنْ يُقَاسَ فِطْرٌ عَلَى فِطْرٍ، وَأَيْضًا فَقَدْ
يَنْوِي فِي الصَّلاَةِ الْمُسَافِرُ إقَامَةً فَيَنْتَقِلُ إلَى
حُكْمِ الْمُقِيمِ، وَلاَ يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي الصَّوْمِ, فَبَطَلَ
عَلَى كُلِّ حَالٍ قِيَاسُ أَحَدِهِمَا عَلَى الآخِرِ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(6/259)
764 -
مَسْأَلَةٌ: وَالْحَيْضُ الَّذِي يُبْطِلُ الصَّوْمَ هُوَ الأَسْوَدُ
لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ دَمَ الْحَيْضِ
أَسْوَدُ يُعْرَفُ". وَقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "فَإِذَا جَاءَ
الآخَرُ فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي" وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ
الْحَيْضِ مِنْ الطَّهَارَةِ مِنْ دِيوَانِنَا هَذَا فَأَغْنَى، عَنْ
إعَادَتِهِ.
وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ, وَغَيْرِهَا: "كُنَّا لاَ نَعُدُّ الصُّفْرَةَ
وَالْكُدْرَةَ شَيْئًا".
(6/260)
إذا رأت الحائض الطهر قبل الفجر أو النفساء فأخرتا الغسل عمدا إلى طلوع
الفجر الخ
...
765 - مَسْأَلَةٌ: وَإِذَا رَأَتْ الْحَائِضُ الطُّهْرَ قَبْلَ
الْفَجْرِ أَوْ رَأَتْهُ النُّفَسَاءُ وَأَتَمَّتَا عِدَّةَ أَيَّامِ
الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ قَبْلَ الْفَجْرِ فَأَخَّرَتَا الْغُسْلَ
عَمْدًا إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ
ثُمَّ اغْتَسَلَتَا وَأَدْرَكَتَا الدُّخُولَ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ
قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لَمْ يَضُرَّهُمَا شَيْئًا وَصَوْمُهُمَا
تَامٌّ; لاَِنَّهُمَا فَعَلَتَا مَا هُوَ مُبَاحٌ لَهُمَا; فَإِنْ
تَعَمَّدَتَا تَرْكَ الْغُسْلِ حَتَّى تَفُوتَهُمَا الصَّلاَةُ بَطَلَ
صَوْمُهُمَا; لاَِنَّهُمَا عَاصِيَتَانِ بِتَرْكِ الصَّلاَةِ عَمْدًا,
فَلَوْ نَسِيَتَا ذَلِكَ أَوْ جَهِلَتَا فَصَوْمُهُمَا تَامٌّ;
لاَِنَّهُمَا لَمْ يَتَعَمَّدَا مَعْصِيَةً; وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(6/260)
766 -
مَسْأَلَةٌ: وَتَصُومُ الْمُسْتَحَاضَةُ كَمَا تُصَلِّي
عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْحَيْضِ مِنْ دِيوَانِنَا هَذَا
فَأَغْنَى، عَنْ إعَادَتِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(6/260)
من كانت عليه أيام من رمضان فأخر قضاءها عمدا أو لعذر حتى جاء رمضان
آخر
...
767 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَتْ عَلَيْهِ أَيَّامٌ مِنْ رَمَضَانَ
فَأَخَّرَ قَضَاءَهَا عَمْدًا, أَوْ لِعُذْرٍ,
أَوْ لِنِسْيَانٍ حَتَّى جَاءَ رَمَضَانُ آخَرُ فَإِنَّهُ يَصُومُ
رَمَضَانَ الَّذِي وَرَدَ عَلَيْهِ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى
فَإِذَا أَفْطَرَ فِي أَوَّلِ شَوَّالٍ قَضَى الأَيَّامَ الَّتِي
كَانَتْ عَلَيْهِ، وَلاَ مَزِيدَ, وَلاَ إطْعَامَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ
وَكَذَلِكَ لَوْ أَخَّرَهَا عِدَّةَ سِنِينَ، وَلاَ فَرْقَ إلاَّ
أَنَّهُ قَدْ أَسَاءَ فِي تَأْخِيرِهَا عَمْدًا سَوَاءٌ أَخَّرَهَا
إلَى رَمَضَانَ أَوْ مِقْدَارَ مَا كَانَ يُمْكِنُهُ قَضَاؤُهَا مِنْ
الأَيَّامِ لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ} فَالْمُسَارَعَةُ إلَى اللَّهِ الْمُفْتَرَضَةُ وَاجِبَةٌ.
وَقَالَ اللَّهُ تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى
سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله
عليه وسلم الْمُتَعَمِّدَ لِلْقَيْءِ, وَالْحَائِضَ, وَالنُّفَسَاءَ:
بِالْقَضَاءِ; وَلَمْ يَحُدَّ اللَّهُ تَعَالَى، وَلاَ رَسُولُهُ صلى
الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ وَقْتًا بِعَيْنِهِ, فَالْقَضَاءُ وَاجِبٌ
عَلَيْهِمْ أَبَدًا حَتَّى يُؤَدَّى أَبَدًا, وَلَمْ يَأْتِ نَصُّ
قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ بِإِيجَابِ إطْعَامٍ فِي ذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ
إلْزَامُ ذَلِكَ أَحَدًا لاَِنَّهُ شَرْعٌ وَالشَّرْعُ لاَ يُوجِبُهُ
فِي الدِّينِ إلاَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله
عليه وسلم فَقَطْ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَأَبِي
سُلَيْمَانَ. وقال مالك: يُطْعِمُ مَعَ الْقَضَاءِ، عَنْ كُلِّ يَوْمٍ
مِنْ الرَّمَضَانِ الآتِي مُدًّا مُدًّا عَدَدَهَا مَسَاكِينَ إنْ
تَعَمَّدَ
(6/260)
768 -
مَسْأَلَةٌ: وَالْمُتَابَعَةُ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ وَاجِبَةٌ:
لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}
فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَيَقْضِيهَا مُتَفَرِّقَةً وَتُجْزِئُهُ
لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَلَمْ
يَحُدَّ تَعَالَى فِي ذَلِكَ وَقْتًا يَبْطُلُ الْقَضَاءُ بِخُرُوجِهِ.
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي
سُلَيْمَانَ نَعْنِي أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ قَضَائِهَا
مُتَفَرِّقَةً. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: بِأَنَّهَا لاَ تُجْزِئُ إلاَّ
مُتَتَابِعَةً بِأَنَّ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ
أُخَرَ مُتَتَابِعَاتٍ}.
قَالَ عَلِيٌّ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ
مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ أُمُّ
الْمُؤْمِنِينَ: نَزَلَتْ: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ
مُتَتَابِعَاتٍ} فَسَقَطَتْ مُتَتَابِعَاتٌ.
قال أبو محمد: سُقُوطُهَا مُسْقِطٌ لِحُكْمِهَا, لاَِنَّهُ لاَ
يَسْقُطُ الْقُرْآنُ بَعْدَ نُزُولِهِ إلاَّ بِإِسْقَاطِ اللَّهِ
تَعَالَى إيَّاهُ قَالَ اللَّهُ تعالى: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا
الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وَقَالَ تعالى: {مَا نَنْسَخُ
مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}
وَقَالَ تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسَى إلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ}
فإن قيل: قَدْ يَسْقُطُ لَفْظُ الآيَةِ وَيَبْقَى حُكْمُهَا كَمَا
كَانَ فِي آيَةِ الرَّجْمِ. قلنا: لَوْلاَ إخْبَارُ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم بِبَقَاءِ حُكْمِ الرَّجْمِ لَمَا جَازَ الْعَمَلُ بِهِ
بَعْدَ إسْقَاطِ الآيَةِ النَّازِلَةِ بِهِ لإِنَّ مَا رَفَعَ اللَّهُ
تَعَالَى فَلاَ يَجُوزُ لَنَا إبْقَاءُ لَفْظِهِ، وَلاَ حُكْمِهِ إلاَّ
بِنَصٍّ آخَرَ.
(6/261)
769 -
مَسْأَلَةٌ: وَالأَسِيرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ إنْ عَرَفَ رَمَضَانَ
لَزِمَهُ صِيَامُهُ إنْ كَانَ مُقِيمًا;
لاَِنَّهُ مُخَاطَبٌ بِصَوْمِهِ فِي الْقُرْآنِ; فَإِنْ سُوفِرَ بِهِ
أَفْطَرَ، وَلاَ بُدَّ لاَِنَّهُ عَلَى سَفَرٍوَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ
لِمَا ذُكِرَ قَبْلُ; فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ الشَّهْرَ وَأَشْكَلَ
عَلَيْهِ سَقَطَ عَنْهُ صِيَامُهُ وَلَزِمَتْهُ أَيَّامٌ أُخَرُ إنْ
كَانَ مُسَافِرًا وَإِلاَّ فَلاَ. وَقَالَ قَوْمٌ: يَتَحَرَّى شَهْرًا
وَيُجْزِئُهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: إنْ وَافَقَ شَهْرًا قَبْلَ رَمَضَانَ
لَمْ يُجْزِهِ, وَإِنْ وَافَقَ شَهْرًا بَعْدَ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ,
لاَِنَّهُ يَكُونُ قَضَاءً، عَنْ رَمَضَانَ.
قَالَ عَلِيٌّ: أَمَّا تَحَرِّي شَهْرٍ فَيُجَزِّئُهُ أَوْ يَجْعَلُهُ
قَضَاءً فَحُكْمٌ لَمْ يَأْتِ بِهِ قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ,
وَلاَ رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ, وَلاَ إجْمَاعٌ, وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ,
وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ دَعْوَى فَاسِدَةٌ لاَ بُرْهَانَ عَلَى
صِحَّتِهَا. فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَاهُ عَلَى مَنْ جَهِلَ الْقِبْلَةَ.
قلنا: هَذَا بَاطِلٌ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ
التَّحَرِّيَ عَلَى مَنْ جَهِلَ الْقِبْلَةَ; بَلْ مَنْ جَهِلَهَا
فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُهَا, فَيُصَلِّي كَيْفَ شَاءَ. فَإِنْ
قَالُوا: قِسْنَاهُ عَلَى مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلاَةِ.
قلنا: وَهَذَا بَاطِلٌ, أَيْضًا, لاَِنَّهُ لاَ يُجْزِئُهُ صَلاَةٌ
إلاَّ حَتَّى يُوقِنَ بِدُخُولِ وَقْتِهَا.
قال أبو محمد: وَبُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا: قَوْلُ اللَّهِ تعالى:
{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا
أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فَلَمْ يُوجِبْ
اللَّهُ تَعَالَى صِيَامَهُ إلاَّ عَلَى مَنْ شَهِدَهُ,
وَبِالضَّرُورَةِ نَدْرِي أَنَّ مَنْ جَهِلَ وَقْتَهُ فَلَمْ
يَشْهَدْهُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ
نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا} وَقَالَ تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي
الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} فَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِ مَعْرِفَةُ
دُخُولِ رَمَضَانَ فَلَمْ يُكَلِّفْهُ اللَّهُ تَعَالَى صِيَامَهُ
بِنَصِّ الْقُرْآنِ, وَمَنْ سَقَطَ عَنْهُ صَوْمُ الشَّهْرِ فَلاَ
قَضَاءَ عَلَيْهِ; لاَِنَّهُ صَوْمُ غَيْرِ مَا أَمَرَ اللَّهُ
تَعَالَى بِهِ.
فَإِنْ صَحَّ عِنْدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِيهِ مَرِيضًا
أَوْ مُسَافِرًا فَعَلَيْهِ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى
الْمَرِيضِ فِيهِ وَالْمُسَافِرِ فِيهِ وَهُوَ عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ
أُخَرَ, فَيَقْضِي الأَيَّامَ الَّتِي سَافَرَ, وَاَلَّتِي مَرِضَ
فَقَطْ، وَلاَ بُدَّ; وَإِنْ لَمْ يُوقِنْ بِأَنَّهُ مَرِضَ فِيهِ أَوْ
سَافَرَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(6/262)
الحامل و المرضع و الشيخ الكبير كلهم مخاطبون بالصوم
...
770 - مَسْأَلَةٌ: وَالْحَامِلُ, وَالْمُرْضِعُ, وَالشَّيْخُ
الْكَبِيرُ كُلُّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالصَّوْمِ
فَصَوْمُ رَمَضَانَ فَرْضٌ عَلَيْهِمْ, فَإِنْ خَافَتْ الْمُرْضِعُ
عَلَى الْمُرْضَعِ قِلَّةَ اللَّبَنِ وَضَيْعَتَهُ لِذَلِكَ وَلَمْ
يَكُنْ لَهُ غَيْرُهَا, أَوْ لَمْ يَقْبَلْ ثَدْيَ غَيْرِهَا, أَوْ
خَافَتْ الْحَامِلُ عَلَى الْجَنِينِ, أَوْ عَجَزَ الشَّيْخُ، عَنِ
الصَّوْمِ لِكِبَرِهِ: أَفْطَرُوا، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِمْ، وَلاَ
إطْعَامَ, فَإِنْ أَفْطَرُوا لِمَرَضٍ بِهِمْ عَارِضٍ فَعَلَيْهِمْ
الْقَضَاءُ. أَمَّا قَضَاؤُهُمْ لِمَرَضٍ فَلِقَوْلِ اللَّهِ تعالى:
{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ
أَيَّامٍ أُخَرَ}. وَأَمَّا وُجُوبُ الْفِطْرِ عَلَيْهِمَا فِي
الْخَوْفِ عَلَى الْجَنِينِ,
(6/262)
وَالرَّضِيعِ فَلِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ
قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}. وَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لاَ يَرْحَمْ لاَ يُرْحَمْ " فَإِذْ
رَحْمَةُ الْجَنِينِ, وَالرَّضِيعِ: فَرْضٌ, وَلاَ وُصُولَ إلَيْهَا
إلاَّ بِالْفِطْرِ: فَالْفِطْرُ فَرْضٌ; وَإِذْ هُوَ فَرْضٌ فَقَدْ
سَقَطَ عَنْهُمَا الصَّوْمُ, وَإِذَا سَقَطَ الصَّوْمُ فَإِيجَابُ
الْقَضَاءِ عَلَيْهِمَا شَرْعٌ لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ
وَلَمْ يُوجِبْ اللَّهُ تَعَالَى الْقَضَاءَ إلاَّ عَلَى الْمَرِيضِ,
وَالْمُسَافِرِ, وَالْحَائِضِ, وَالنُّفَسَاءِ, وَمُتَعَمِّدِ
الْقَيْءِ فَقَطْ, وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ
نَفْسَهُ. وَأَمَّا الشَّيْخُ الَّذِي لاَ يُطِيقُ الصَّوْمَ
لِكِبَرِهِ فَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا
إلاَّ وُسْعَهَا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الصَّوْمُ فِي وُسْعِهِ فَلَمْ
يُكَلِّفْهُ. وَأَمَّا تَكْلِيفُهُمْ إطْعَامًا فَقَدْ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ
عَلَيْكُمْ حَرَامٌ" فَلاَ يَجُوزُ لاَِحَدٍ إيجَابُ غَرَامَةٍ لَمْ
يَأْتِ بِهَا نَصٌّ، وَلاَ إجْمَاعٌ.
قال أبو محمد: رُوِّينَا، عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّ عَلْقَمَةَ جَاءَتْهُ
امْرَأَةٌ فَقَالَتْ لَهُ: إنِّي حُبْلَى وَأَنَا أُطِيقُ الصَّوْمَ
وَزَوْجِي يَأْمُرُنِي أَنْ أُفْطِرَ فَقَالَ لَهَا عَلْقَمَةُ:
أَطِيعِي رَبَّكِ وَأَعْصِي زَوْجَكِ. وَمِمَّنْ أَسْقَطَ عَنْهَا
الْقَضَاءَ: رُوِّينَا، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ
السِّخْتِيَانِيِّ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ كِلاَهُمَا، عَنْ
نَافِعٍ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ سَأَلَتْ ابْنَ عُمَرَ وَهِيَ
حُبْلَى فَقَالَ لَهَا: أَفْطِرِي وَأَطْعِمِي كُلَّ يَوْمٍ
مِسْكِينًا، وَلاَ تَقْضِي.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ
السِّخْتِيَانِيِّ, وَقَتَادَةَ كِلاَهُمَا، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ لاََمَةٍ لَهُ مُرْضِعٍ:
أَنْتِ بِمَنْزِلَةِ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ
مِسْكِينٍ} أَفْطِرِي وَأَطْعِمِي كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، وَلاَ
تَقْضِي.
رُوِّينَا كِلَيْهِمَا مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ
الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ حَمَّادٍ, وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ قَالَ: تُفْطِرُ الْحَامِلُ الَّتِي فِي شَهْرِهَا
وَالْمُرْضِعُ الَّتِي تَخَافُ عَلَى وَلَدِهَا وَتُطْعِمُ كُلُّ
وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، وَلاَ قَضَاءَ
عَلَيْهِمَا. وَبِهِ يَقُولُ قَتَادَةُ, وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ سَعِيدِ
بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَمِمَّنْ أَسْقَطَ الإِطْعَامَ كَمَا رُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تُفْطِرُ الْحَامِلُ, وَالْمُرْضِعُ فِي
رَمَضَانَ وَيَقْضِيَانِهِ صِيَامًا، وَلاَ إطْعَامَ عَلَيْهِمَا.
وَمِثْلُهُ، عَنْ عِكْرِمَةَ, وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَهُوَ
قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَسُفْيَانَ. وَمِمَّنْ رَأَى عَلَيْهِمَا
الأَمْرَيْنِ جَمِيعًا: عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ فَإِنَّهُ قَالَ:
إذَا خَافَتْ الْمُرْضِعُ وَالْحَامِلُ عَلَى وَلَدِهَا فَلْتُفْطِرْ
وَلْتُطْعِمْ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ وَلِتَقْضِ بَعْدَ
ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
(6/263)
قال أبو
محمد: فَلَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى إيجَابِ الْقَضَاءِ، وَلاَ عَلَى
إيجَابِ الإِطْعَامِ فَلاَ يَجِبُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ; إذْ لاَ نَصَّ
فِي وُجُوبِهِ، وَلاَ إجْمَاعَ, وَعَهْدُنَا بِهِمْ يَقُولُونَ فِي
قَوْلِ الصَّاحِبِ إذَا وَافَقَهُمْ. مِثْلُ هَذَا لاَ يُقَالُ
بِالرَّأْيِ, فَهَلاَّ قَالُوا هَاهُنَا فِي قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ فِي
إسْقَاطِ الْقَضَاءِ وَقَدْ رُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَ
قَوْلِنَا كَمَا رُوِّينَا، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ، حدثنا
إبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ الزُّبَيْرِيِّ، حدثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ
بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ بَكْرِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ
سُئِلَ، عَنْ مُرْضِعٍ فِي رَمَضَانَ خَشِيَتْ عَلَى وَلَدِهَا
فَرَخَّصَ لَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْفِطْرِ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَلَمْ يَذْكُرْ قَضَاءً، وَلاَ طَعَامًا, وقال مالك:
أَمَّا الْمُرْضِعُ فَتُفْطِرُ وَتُطْعِمُ، عَنْ كُلِّ يَوْمٍ
مِسْكِينًا وَتَقْضِي مَعَ ذَلِكَ, وَأَمَّا الْحَامِلُ فَتَقْضِي،
وَلاَ إطْعَامَ عَلَيْهَا, وَلاَ يُحْفَظْ هَذَا التَّقْسِيمُ، عَنْ
أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
قال أبو محمد: احْتَجَّ مَنْ رَأَى الإِطْعَامَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ
اللَّهِ تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ
مِسْكِينٍ}. وَذَكَرُوا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ
سَلَمَةَ، حدثنا قَتَادَةُ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: "نَزَلَتْ هَذِهِ
الآيَةُ فِي الْحُبْلَى وَالْمُرْضِعِ, وَالشَّيْخِ, وَالْعَجُوزِ".
وَاحْتَجَّ مَنْ رَأَى الْقَضَاءَ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ
يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ
مُزَاحِمٍ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُرَخِّصُ
لِلْحُبْلَى, وَالْمُرْضِعِ أَنْ يُفْطِرَا فِي رَمَضَانَ فَإِذَا
أَفْطَمَتْ الْمُرْضِعُ, وَوَضَعَتْ الْحُبْلَى جَدَّدَتَا
صَوْمَهُمَا".
قَالَ عَلِيٌّ: حَدِيثُ عِكْرِمَةَ مُرْسَلٌ; وَحَدِيثُ الضَّحَّاكِ
فِيهِ ثَلاَثُ بَلاَيَا, جُوَيْبِرٌ وَهُوَ سَاقِطٌ وَالضَّحَّاكُ
مِثْلُهُ وَالإِرْسَالُ مَعَ ذَلِكَ, لَكِنَّ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ مَا
رُوِّينَاهُ قَبْلُ فِي حُكْمِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ مِنْ طَرِيقِ
سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ, أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَنْسُوخَةٌ. وَمِنْ
طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ
الآيَةَ: {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} فَقَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ,
فَهَذَا هُوَ الْمُسْنَدُ الصَّحِيحُ الَّذِي لاَ يَجُوزُ خِلاَفُهُ.
وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنْ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ فَإِنَّهُمْ
يُصَرِّفُونَ هَذِهِ الآيَةَ تَصْرِيفَ الأَفْعَالِ فِي غَيْرِ مَا
أُنْزِلَتْ فِيهِ, فَمَرَّةً يَحْتَجُّونَ بِهَا فِي أَنَّ الصَّوْمَ
فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ, وَمَرَّةً يُصَرِّفُونَهَا فِي الْحَامِلِ,
وَالْمُرْضِعِ, وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ, وَكُلُّ هَذَا إحَالَةٌ
لِكَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى, وَتَحْرِيفٌ لِلْكَلِمِ، عَنْ
مَوَاضِعِهِ, وَمَا نَدْرِي كَيْفَ يَسْتَجِيزُ مَنْ يَعْلَمَ أَنَّ
وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ مِثْلَ هَذَا فِي الْقُرْآنِ وَفِي دِينِ اللَّهِ
تَعَالَى وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الضَّلاَلِ
(6/264)
وَأَمَّا
الشَّيْخُ الْكَبِيرُ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ
إطْعَامَ مِسْكِينٍ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ, وَلَمْ يَرَ مَالِكٌ
الإِطْعَامَ عَلَيْهِ وَاجِبًا. وقال الشافعي مَرَّةً كَقَوْلِ أَبِي
حَنِيفَةَ, وَمَرَّةً كَقَوْلِ مَالِكٍ.
قال أبو محمد: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ سُفْيَانَ, وَجَرِيرٍ قَالَ سُفْيَانُ قَالَ
عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ
عَبَّاسٍ يَقْرَؤُهَا: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ فِدْيَةٌ
طَعَامُ مِسْكِينٌ} يُكَلَّفُونَهُ، وَلاَ يُطِيقُونَهُ. قَالَ: هَذَا
الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الْهَرِمُ وَالْمَرْأَةُ الْكَبِيرَةُ
الْهَرِمَةُ لاَ يَسْتَطِيعُ الصَّوْمَ يُفْطِرُ وَيُطْعِمُ كُلَّ
يَوْمٍ مِسْكِينًا. وَقَالَ جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مِثْلَهُ.
قال علي: هذا صَحِيحٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَرُوِّينَا، عَنْ عَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي
لاَ يَسْتَطِيعُ الصَّوْمَ: إنَّهُ يُفْطِرُ وَيُطْعِمُ مَكَانَ كُلِّ
يَوْمٍ مِسْكِينًا, وَصَحَّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ ضَعُفَ، عَنِ
الصَّوْمِ إذْ كَبِرَ فَكَانَ يُفْطِرُ وَيُطْعِمُ مَكَانَ كُلِّ
يَوْمٍ مِسْكِينًا, قَالَ قَتَادَةُ: الْوَاحِدُ كَفَّارَةٌ,
وَالثَّلاَثَةُ تَطَوُّعٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ بْنِ حَرْمَلَةَ قَالَ: سَمِعْت سَعِيدَ بْنَ
الْمُسَيِّبِ يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} هُوَ الْكَبِيرُ الَّذِي
عَجَزَ، عَنِ الصَّوْمِ, وَالْحُبْلَى يَشُقُّ عَلَيْهَا الصَّوْمُ,
فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إطْعَامُ مِسْكِينٍ، عَنْ كُلِّ
يَوْمٍ. وَعَنِ الْحَسَنِ, وَقَتَادَةَ فِي الشَّيْخِ الْكَبِيرِ,
وَالْعَجُوزِ أَنَّهُمَا يُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا.
وَعَنْ عَطَاءٍ, وَالْحَسَنِ, وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلُ ذَلِكَ.
وَرُوِيَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ السَّائِبِ وَهُوَ مِنْ الصَّحَابَةِ
مِثْلُ ذَلِكَ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ، عَنْ
كُلِّ يَوْمٍ بِدِرْهَمٍ. وَعَنْ مَكْحُولٍ, وطَاوُوس, وَيَحْيَى بْنِ
أَبِي كَثِيرٍ فِيمَنْ مَنَعَهُ الْعُطَاشُ مِنْ الصَّوْمِ أَنَّهُ
يُفْطِرُ وَيُطْعِمُ، عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا.
قال أبو محمد: فَرَأَى أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى الشَّيْخِ الَّذِي لاَ
يُطِيقُ الصَّوْمَ لِهَرَمِهِ إطْعَامَ مِسْكِينٍ مَكَانَ كُلِّ
يَوْمٍ, وَلَمْ يَرَهُ عَلَى الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ. وَأَوْجَبَهُ
مَالِكٌ عَلَى الْمُرْضِعِ خَاصَّةً, وَلَمْ يُوجِبْهُ عَلَى
الْحَامِلِ، وَلاَ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ; وَهَذَا تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ.
وَاحْتَجَّ بَعْضُ الْحَنَفِيِّينَ بِأَنَّ الْحَامِلَ
(6/265)
وَالْمُرْضِعَ بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ; لأَنَّهُمْ
كُلَّهُمْ أُبِيحَ لَهُمْ الْفِطْرُ دُونَ إطْعَامٍ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَالشَّيْخُ كَذَلِكَ وَهُوَ أَشْبَهُ بِالْمَرِيضِ,
وَالْمُسَافِرِ, لاَِنَّهُ أُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ مِنْ أَجْلِ
نَفْسِهِ كَمَا أُبِيحَ لَهُمَا مِنْ أَجْلِ أَنْفُسِهِمَا وَأَمَّا
الْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ; فَإِنَّمَا أُبِيحَ لَهُمَا الْفِطْرُ مِنْ
أَجْلِ غَيْرِهِمَا.
قَالَ عَلِيٌّ: وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ فَيُشَنِّعُونَ بِخِلاَفِ
الصَّاحِبِ إذَا وَافَقَ تَقْلِيدَهُمْ. وَقَدْ خَالَفُوا هَاهُنَا:
عَلِيًّا, وَابْنَ عَبَّاسٍ, وَقَيْسَ بْنَ السَّائِبِ; وَأَبَا
هُرَيْرَةَ, وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ.
وَخَالَفُوا: عِكْرِمَةَ, وَسَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ, وَعَطَاءً,
وَقَتَادَةَ, وَسَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ, وَهُمْ يُشَنِّعُونَ بِمِثْلِ
هَذَا.
قال أبو محمد: وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ حُجَّةَ عِنْدَنَا فِي غَيْرِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا: {وَعَلَى الَّذِينَ
يُطَوَّقُونَهُ} فَقِرَاءَةٌ لاَ يَحِلُّ لاَِحَدٍ أَنْ يَقْرَأَ
بِهَا; لإِنَّ الْقُرْآنَ لاَ يُؤْخَذُ إلاَّ عَنْ لَفْظِ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَنْ احْتَجَّ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ
فَلْيَقْرَأْ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَحَاشَ اللَّهَ أَنْ يُطَوِّقَ
الشَّيْخَ مَا لاَ يُطِيقُهُ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ
الأَكْوَعِ, وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَسْخُ هَذِهِ الآيَةِ كَمَا
ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْبَابِ, وَفِي بَابِ صَوْمِ الْمُسَافِرِ,
وَأَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ قَطُّ فِي الشَّيْخِ, وَلاَ فِي الْحَامِلِ,
وَلاَ فِي الْمُرْضِعِ وَإِنَّمَا نَزَلَتْ فِي حَالٍ وَقَدْ نُسِخَتْ
وَبَطَلَتْ. وَالشَّيْخُ, وَالْعَجُوزُ اللَّذَانِ لاَ يُطِيقَانِ
الصَّوْمَ فَالصَّوْمُ لاَ يَلْزَمُهُمَا قَالَ اللَّهُ تعالى: {لاَ
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا} وَإِذَا لَمْ
يَلْزَمْهُمَا الصَّوْمُ فَالْكَفَّارَةُ لاَ تَلْزَمُهُمَا, لإِنَّ
اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُلْزِمْهُمَا إيَّاهَا، وَلاَ رَسُولُهُ صلى
الله عليه وسلم وَالأَمْوَالُ مُحَرَّمَةٌ إلاَّ بِنَصٍّ أَوْ
إجْمَاعٍ.
وَالْعَجَبُ كُلُّهُ مِنْ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ, وَمَالِكًا,
وَالشَّافِعِيَّ يُسْقِطُونَ الْكَفَّارَةَ عَمَّنْ أَفْطَرَ فِي
نَهَارِ رَمَضَانَ عَمْدًا وَقَصَدَ إبْطَالَ صَوْمِهِ عَاصِيًا,
لِلَّهِ تَعَالَى بِفِعْلِ قَوْمِ لُوطٍ, وَبِالأَكْلِ, وَشُرْبِ
الْخَمْرِ عَمْدًا وَبِتَعَمُّدِ الْقَيْءِ. نَعَمْ, وَبَعْضُهُمْ
يُسْقِطُ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ عَنْهُ فِيمَنْ أَخْرَجَ مِنْ
بَيْنِ أَسْنَانِهِ شَيْئًا مِنْ طَعَامِهِ فَتَعَمَّدَ أَكْلَهُ
ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ, ثُمَّ يُوجِبُونَ الْكَفَّارَةَ عَلَى مَنْ
أَفْطَرَ مِمَّنْ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالإِفْطَارِ وَأَبَاحَهُ
لَهُ مِنْ مُرْضِعٍ خَائِفَةٍ عَلَى رَضِيعِهَا التَّلَفَ, وَشَيْخٍ
كَبِيرٍ لاَ يُطِيقُ الصَّوْمَ ضَعْفًا, وَحَامِلٍ تَخَافُ عَلَى مَا
فِي1 بَطْنِهَا; وَحَسْبُكَ بِهَذَا تَخْلِيطًا; ، وَلاَ يَحِلُّ
قَبُولُ مِثْلِ هَذَا إلاَّ مِنْ الَّذِي لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ
وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
1 في النسخة رقم "16" "على ذي بطنها".
(6/266)
من وطئ في اليوم مرارا فكفارة واحدة فقط
...
771 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ وَطِئَ مِرَارًا فِي الْيَوْمِ عَامِدًا
فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَطْ,
وَمَنْ وَطِئَ فِي يَوْمَيْنِ عَامِدًا فَصَاعِدًا فَعَلَيْهِ لِكُلِّ
يَوْمٍ كَفَّارَةٌ, سَوَاءٌ كَفَّرَ قَبْلَ أَنْ يَطَأَ
الثَّانِيَةَ أَوْ لَمْ يُكَفِّرْ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ لِكُلِّ ذَلِكَ وَلَوْ أَنَّهُ
أَفْطَرَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ عَامِدًا كَفَّارَةٌ
وَاحِدَةٌ فَقَطْ إلاَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ كَفَّرَ ثُمَّ أَفْطَرَ
نَهَارًا آخَرَ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ
أَنَّهُ سَوَاءٌ كَفَّرَ أَوْ لَمْ يُكَفِّرْ لَيْسَ عَلَيْهِ إلاَّ
كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ إذَا كَانَتْ الأَيَّامُ مِنْ شَهْرٍ وَاحِدٍ;
فَإِنْ كَانَ الْيَوْمَانِ اللَّذَانِ أَفْطَرَ فِيهِمَا مِنْ شَهْرِ
رَمَضَانَ اثْنَيْنِ, فَلِكُلِّ يَوْمٍ مِنْهُمَا كَفَّارَةٌ غَيْرُ
كَفَّارَةِ الْيَوْمِ الآخَرِ. فَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ فِيمَنْ
تَعَمَّدَ الْفِطْرَ أَيَّامَ رَمَضَانَ كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا أَوْ
يَوْمًا وَاحِدًا مِنْهَا فِي أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إلاَّ
كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَطْ, إذَا لَمْ يُكَفِّرْ فِي خِلاَلِ ذَلِكَ,
وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ فِيمَنْ أَفْطَرَ يَوْمَيْنِ مِنْ
رَمَضَانَيْنِ أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَتَيْنِ كَفَّرَ بَيْنَهُمَا أَوْ
لَمْ يُكَفِّرْ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيمَنْ أَفْطَرَ يَوْمَيْنِ
فَصَاعِدًا مِنْ رَمَضَانَ وَاحِدٍ وَكَفَّرَ فِي خِلاَلِ ذَلِكَ;
فَمَرَّةٌ قَالَ: عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى, وَمَرَّةٌ قَالَ:
لَيْسَ عَلَيْهِ إلاَّ الْكَفَّارَةُ الَّتِي كَفَّرَ بَعْدُ. وقال
مالك وَاللَّيْثُ, وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ, وَالشَّافِعِيُّ: مِثْلَ
قَوْلِنَا وَهُوَ عَطَاءٍ, وَأَحَدُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
قال أبو محمد: وَهَذَا مِمَّا تَنَاقَضَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ
وَخَالَفَ فِيهِ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ.
بُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا: أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم الَّذِي وَطِئَ امْرَأَتَهُ فِي رَمَضَانَ
بِالْكَفَّارَةِ.فَصَحَّ أَنَّ لِذَلِكَ الْيَوْمِ الْكَفَّارَةُ
الْمَأْمُورُ بِهَا, وَكُلُّ يَوْمٍ فَلاَ فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
ذَلِكَ الْيَوْمِ; لإِنَّ الْخِطَابَ بِالْكَفَّارَةِ وَاقِعٌ عَلَيْهِ
فِيهِ كَمَا وَقَعَ فِي الْيَوْمِ الأَوَّلِ، وَلاَ فَرْقَ. فإن قيل:
هَلاَّ قِسْتُمْ هَذَا عَلَى الْحُدُودِ قلنا: الْقِيَاسُ بَاطِلٌ
ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ;
لإِنَّ الْحُدُودَ الَّتِي يُقِيمُهَا الإِمَامُ وَالْحَاكِمُ عَلَى
الْمَرْءِ كُرْهًا, وَلاَ يَحِلُّ لِلْمَرْءِ أَنْ يُقِيمَهَا عَلَى
نَفْسِهِ, بِخِلاَفِ الْكَفَّارَةِ الَّتِي إنَّمَا يُقِيمُهَا
الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ مُخَاطَبٌ بِهَا عَلَى نَفْسِهِ,
وَلَيْسَ مُخَاطَبًا بِالْحُدُودِ عَلَى نَفْسِهِ; وَفُرُوقٌ أُخَرُ
نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحُدُودِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَأَى إنْ كَانَ الْيَوْمَانِ مِنْ
رَمَضَانَيْنِ فَكَفَّارَتَانِ، وَلاَ بُدَّ; وَلاَ خِلاَفَ مِنْهُ فِي
أَنَّهُ لَوْ زَنَى بِامْرَأَتَيْنِ مِنْ بَلَدَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ
فِي عَامَيْنِ مُخْتَلِفِينَ فَحَدٌّ وَاحِدٌ, وَلَوْ شَرِبَ خَمْرًا
مِنْ عَصِيرِ عَامٍ وَاحِدٍ, وَخَمْرًا مِنْ عَصِيرِ عَامٍ آخَرَ
فَحَدٌّ وَاحِدٌ, وَلَوْ سَرَقَ فِي عَامَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَقَطْعٌ
وَاحِدٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَمِنْ أَعْجَبِ الأَشْيَاءِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ مَا
ذَكَرْنَا, وَرَأَى فِيمَنْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتَيْهِ بِلَفْظٍ
وَاحِدٍ أَنَّ عَلَيْهِ لِكُلِّ امْرَأَةٍ كَفَّارَةً أُخْرَى. وَقَالَ
فِيمَنْ قَالَ فِي مَجْلِسٍ:
(6/267)
وَاَللَّهِ لاَ كَلَّمْت زَيْدًا, ثُمَّ قَالَ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ:
وَاَللَّهِ لاَ كَلَّمْت زَيْدًا أَنَّهُمَا يَمِينَانِ يَجِبُ
عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ, وَمَنْ قَالَ: وَاَللَّهِ وَالرَّحْمَنِ لاَ
كَلَّمْت زَيْدًا: فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ إلاَّ أَنْ يَنْوِيَ
أَنَّهُمَا يَمِينٌ وَاحِدَةٌ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَأَمَّا إذَا كَرَّرَ الْوَطْءَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ
مِرَارًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْهُ إلاَّ
بِكَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَمْ يَسْأَلْهُ أَعَادَ أَمْ لاَ وَأَيْضًا:
فَإِنَّهُ إذَا وَطِئَ فَقَدْ أَفْطَرَ, فَالْوَطْءُ الثَّانِي وَقَعَ
فِي غَيْرِ صِيَامٍ فَلاَ كَفَّارَةَ فِيهِ, وَأَيْضًا: فَإِنَّ
الْوَاطِئَ بِأَوَّلِ إيلاَجِهِ مُتَعَمِّدًا ذَاكِرًا وَجَبَتْ
عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ عَاوَدَ أَوْ لَمْ يُعَاوِدْ, وَلاَ كَفَّارَةَ
فِي إيلاَجِهِ ثَانِيَةً بِالنَّصِّ, وَالإِجْمَاعِ.
(6/268)
من أفطر رمضان كله بسفر أو مرض فإنما عليه عدد الأيام التي أفطر و لا
يجزئه شهر ناقص مكان تام
...
772 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَفْطَرَ رَمَضَانَ كُلَّهُ بِسَفَرٍ أَوْ
مَرَضٍ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ عَدَدُ الأَيَّامِ الَّتِي أَفْطَرَ، وَلاَ
يُجْزِئُهُ شَهْرٌ نَاقِصٌ مَكَانَ تَامٍّ,
وَلاَ يَلْزَمُهُ شَهْرٌ تَامٌّ مَكَانَ نَاقِصٍ لِقَوْلِ اللَّهِ
تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ
حَيٍّ: يُجْزِئُ شَهْرٌ مَكَانَ شَهْرٍ إذَا صَامَ مَا بَيْنَ
الْهِلاَلَيْنِ، وَلاَ بُرْهَانَ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ.
(6/268)
773 -
مَسْأَلَةٌ: وَلِلْمَرْءِ أَنْ يُفْطِرَ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ إنْ
شَاءَ,
لاَ نَكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ, إلاَّ أَنَّ عَلَيْهِ إنْ أَفْطَرَ عَامِدًا
قَضَاءَ يَوْمٍ مَكَانَهُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الشَّرِيعَةَ كُلَّهَا فَرْضٌ وَتَطَوُّعٌ,
وَهَذَا مَعْلُومٌ بِنُصُوصِ الْقُرْآنِ, وَالسُّنَنِ, وَالإِجْمَاعِ,
وَضَرُورَةِ الْعَقْلِ, إذْ لاَ يُمْكِنُ قِسْمٌ ثَالِثٌ أَصْلاً;
فَالْفَرْضُ هُوَ الَّذِي يَعْصِي مَنْ تَرَكَهُ; وَالتَّطَوُّعُ هُوَ
الَّذِي لاَ يَعْصِي مَنْ تَرَكَهُ وَلَوْ عَصَى لَكَانَ فَرْضًا,
وَالْمُفَرِّطُ فِي التَّطَوُّعِ تَارِكٌ مَا لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ
فَرْضًا, فَلاَ حَرَجَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ أَخْبَرَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الأَعْرَابِيَّ الَّذِي سَأَلَهُ، عَنِ
الصَّوْمِ فَأَخْبَرَهُ عليه السلام بِرَمَضَانَ فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ
غَيْرُهُ؟ قَالَ: "لاَ إلاَّ أَنْ تَتَطَوَّعَ شَيْئًا" فَقَالَ
الأَعْرَابِيُّ: وَاَللَّهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، وَلاَ أَنْقُصُ
مِنْهُ; فَقَالَ عليه السلام: "أَفْلَحَ إنْ صَدَقَ, دَخَلَ الْجَنَّةَ
إنْ صَدَقَ", فَلَمْ يَجْعَلْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي
تَرْكِ التَّطَوُّعِ كَرَاهَةً أَصْلاً. وَهَكَذَا نَقُولُ فِيمَنْ
قَطَعَ صَلاَةَ تَطَوُّعٍ, أَوْ بَدَا لَهُ فِي صَدَقَةِ تَطَوُّعٍ,
أَوْ فَسَخَ عَمْدًا حَجَّ تَطَوُّعٍ, أَوْ اعْتِكَافَ تَطَوُّعٍ,
وَلاَ فَرْقَ لِمَا ذَكَرْنَا, وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَدَعْوَى لاَ
بُرْهَانَ عَلَيْهَا, وَإِيجَابُ مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ تَعَالَى،
وَلاَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم إلاَّ أَنَّهُ لاَ قَضَاءَ
عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا إلاَّ فِي فِطْرِ التَّطَوُّعِ
فَقَطْ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فإن قيل: إنَّكُمْ تُوجِبُونَ فَرْضًا فِي الصَّوْمِ غَيْرَ رَمَضَانَ
كَالنَّذْرِ وَصِيَامِ الْكَفَّارَاتِ قلنا:
(6/268)
774 -
مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَفْطَرَ عَامِدًا فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ فَلَيْسَ
عَلَيْهِ إلاَّ قَضَاءُ يَوْمٍ وَاحِدٍ فَقَطْ
لإِنَّ إيجَابَ الْقَضَاءِ إيجَابُ شَرْعٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ
تَعَالَى. وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ عليه السلام قَضَى ذَلِكَ الْيَوْمَ
مِنْ رَمَضَانَ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُزَادَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ بِغَيْرِ
نَصٍّ، وَلاَ إجْمَاعٍ.
وَرُوِّينَا، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ كَمَنْ
فَعَلَ ذَلِكَ فِي رَمَضَانَ; لاَِنَّهُ بَدَلٌ مِنْهُ.
قال أبو محمد: هَذَا أَصَحُّ مَا يَكُونُ مِنْ الْقِيَاسِ إنْ كَانَ
الْقِيَاسُ حَقًّا, وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ: عَلَيْهِ قَضَاءُ
يَوْمَيْنِ, يَوْمِ رَمَضَانَ, وَيَوْمِ الْقَضَاءِ.
(6/271)
|