الموسوعة
الفقهية الكويتية إِرَادَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْرَادَةُ فِي اللُّغَةِ الْمَشِيئَةُ. وَيَسْتَعْمِلُهَا
الْفُقَهَاءُ بِمَعْنَى الْقَصْدِ إِلَى الشَّيْءِ وَالاِتِّجَاهِ إِلَيْهِ
(1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - النِّيَّةُ:
2 - إِذَا كَانَتِ الإِْرَادَةُ مَا سَبَقَ، فَإِنَّ النِّيَّةَ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ قَصْدُ الشَّيْءِ مُقْتَرِنًا بِفِعْلِهِ (2) ، وَعِنْدَ
الأَْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ: عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى إِيجَادِ الْفِعْل
جَزْمًا (3) وَعَلَى هَذَا فَإِنَّهُ يُلْحَظُ فِي النِّيَّةِ
ارْتِبَاطُهَا بِالْعَمَل، وَهِيَ بِغَيْرِ هَذَا الاِرْتِبَاطِ لاَ
تُسَمَّى نِيَّةً، بَيْنَمَا لاَ يُلاَحَظُ ذَلِكَ فِي الإِْرَادَةِ.
ب - الرِّضَا:
3 - الرِّضَا هُوَ الرَّغْبَةُ فِي الْفِعْل وَالاِرْتِيَاحُ إِلَيْهِ،
فَلاَ تَلاَزُمَ بَيْنَ الإِْرَادَةِ وَالرِّضَا، فَقَدْ يُرِيدُ الْمَرْءُ
شَيْئًا مَعَ أَنَّهُ لاَ يَرْضَاهُ - أَيْ لاَ يَرْتَاحُ إِلَيْهِ وَلاَ
يُحِبُّهُ - وَمِنْ هُنَا كَانَ تَفْرِيقُ عُلَمَاءِ الْعَقِيدَةِ بَيْنَ
إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى
__________
(1) المقنع 3 / 143 طبع المطبعة السلفية، والبحر الرائق 3 / 322 طبع
المطبعة العلمية، وحاشية البجيرمي على منهج الطلاب 4 / 5، طبع المكتبة
الإسلامية ديار بكر - تركيا.
(2) نهاية المحتاج 1 / 143، طبع مصطفى محمد.
(3) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 117، طبع المطبعة العثمانية، وحاشية
الصفتي على الجواهر الزكية ص 47 و 48 طبع مصطفى البابي الحلبي، والمغني مع
الشرح الكبير 3 / 26
(3/5)
وَرِضَاهُ، وَكَذَلِكَ تَفْرِقَةُ
الْفُقَهَاءِ بَيْنَهُمَا فِي بَابِ الإِْكْرَاهِ وَغَيْرِهِ.
ج - الاِخْتِيَارُ:
4 - الاِخْتِيَارُ لُغَةً: تَفْضِيل الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِهِ.
وَاصْطِلاَحًا: الْقَصْدُ إِلَى أَمْرٍ مُتَرَدِّدٍ بَيْنَ الْوُجُودِ
وَالْعَدَمِ بِتَرْجِيحِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الآْخَرِ.
فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الإِْرَادَةِ أَنَّهَا تُتَّجَهُ إِلَى
أَمْرٍ وَاحِدٍ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ، وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
5 - أ - لاَ تُعْتَبَرُ الإِْرَادَةُ صَحِيحَةً إِلاَّ إِذَا صَدَرَتْ عَنْ
ذِي أَهْلِيَّةٍ وَقَدْ تَنَاوَل الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ
الْحَجْرِ، عِنْدَمَا حَكَمُوا بِفَسَادِ تَبَرُّعَاتِ الصَّغِيرِ
وَالْمَجْنُونِ، وَالسَّفِيهِ وَالْمُفْلِسِ وَنَحْوِهِمْ، وَاعْتَبَرُوا
إِرَادَتَهُمْ الصَّادِرَةَ بِذَلِكَ لاَغِيَةً لِصُدُورِهَا عَنْ غَيْرِ
ذِي أَهْلِيَّةٍ، أَوْ عَنْ مُقَيَّدِ الأَْهْلِيَّةِ، أَوْ نَاقِصِهَا.
ب الأَْصْل فِي الإِْرَادَةِ أَنْ تَصْدُرَ عَنِ الأَْصِيل، وَلَكِنْ قَدْ
تَنُوبُ عَنْ إِرَادَةِ الأَْصِيل إِرَادَةُ غَيْرِهِ، كَمَا فِي
الْوَكَالَةِ، حَيْثُ تَنُوبُ إِرَادَةُ الْوَكِيل عَنْ إِرَادَةِ
الْمُوَكِّل، كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ فِي كُتُبِ
الْفِقْهِ.
وَقَدْ تَنُوبُ إِرَادَةُ غَيْرِ الأَْصِيل عَنْ الأَْصِيل جَبْرًا
كَالْوِلاَيَةِ أَوِ الْوِصَايَةِ فَيَلْزَمُ الأَْصِيل بِمَا أَمْضَاهُ
ذَلِكَ الْغَيْرُ مِنْ تَصَرُّفَاتٍ (1) فِي الْجُمْلَةِ، وَقَدْ سَبَقَ
الْكَلاَمُ عَنْهُ فِي مُصْطَلَحِ (إِجْبَار) .
مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الإِْرَادَةِ:
6 - الأَْصْل أَنْ يُعَبَّرَ عَنِ الإِْرَادَةِ بِاللَّفْظِ الصَّادِرِ
عَنْ
__________
(1) مواهب الجليل 4 / 248
(3/5)
أَهْلِهِ، وَتَقُومُ مَقَامَهُ
الإِْشَارَةُ مِنَ الْعَاجِزِ عَنِ اللَّفْظِ، أَوِ الرِّسَالَةُ، أَوِ
السُّكُوتُ، أَوِ التَّعَاطِي، أَوِ الْقَرَائِنُ الْقَوِيَّةُ (1) .
وَذَلِكَ مَنْثُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ فِي أَبْوَابٍ شَتَّى:
كَالطَّلاَقِ، وَالنِّكَاحِ، وَالْبُيُوعِ، وَمِنْ هُنَا اعْتَبَرَ
الْفُقَهَاءُ إِشَارَةَ الأَْخْرَسِ كَعِبَارَتِهِ فِي كَثِيرٍ مِنَ
الأُْمُورِ.
الإِْرَادَةُ وَالتَّصَرُّفَاتُ:
7 - هُنَاكَ تَصَرُّفَاتٌ لاَ تُنْتِجُ آثَارَهَا إِلاَّ بِمُطَابَقَةِ
الْقَبُول لِلإِْيجَابِ، كَالْعُقُودِ، لأَِنَّ الْعَقْدَ مَأْخُوذٌ مِنْ
عَقَدَ طَرَفَيِ الْحَبْل، وَقَدْ شَبَّهَ الْفُقَهَاءُ الْعَقْدَ
بِالْحَبْل، لاِحْتِيَاجِهِ إِلَى طَرَفَيْنِ، وَبِالتَّالِي إِلَى
إِرَادَتَيْنِ، نَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ الْبَيْعَ، وَالإِْجَارَةَ،
وَالرَّهْنَ، وَالصُّلْحَ، وَالشَّرِكَةَ، وَالْمُضَارَبَةَ،
وَالْمُزَارَعَةَ، وَالنِّكَاحَ، وَالْخُلْعَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَهُنَاكَ تَصَرُّفَاتٌ تُنْتِجُ آثَارَهَا بِالإِْرَادَةِ الْمُنْفَرِدَةِ
وَهِيَ عَلَى نَوْعَيْنِ:
النَّوْعُ الأَْوَّل: مَا لاَ تَرِدُ فِيهِ الإِْرَادَةُ بِالرَّدِّ
كَالْوَقْفِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي أَبْوَابِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مَا تَرِدُ فِيهِ الإِْرَادَةُ بِالرَّدِّ،
كَالإِْقْرَارِ (2) ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي أَبْوَابِهِ مِنْ كُتُبِ
الْفِقْهِ أَيْضًا.
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 135 و270 طبع شركة المطبوعات العلمية بمصر، وحاشية
ابن عابدين 4 / 13 طبعة بولاق الأولى، وحاشية الدسوقي 3 / 3 طبع عيسى
البابي الحلبي، ونهاية المحتاج 6 / 426 والكافي 2 / 802 الطبعة الأولى،
وفتح القدير 5 / 77 طبع بولاق 1316، والأشباه والنظائر لابن نجيم بحاشية
الحموي ص 184 وما بعدها طبع دار الطباعة العامرة، والمبسوط 11 / 150
(2) انظر المبسوط 13 / 12 - 13 وانظر المدخل الفقهي للزرقا ف / 183 وما
بعدها ومصادر الحق في الفقه الإسلامي للسنهوري 2 / 103 طبع لجنة البيان
العربي.
(3/6)
8 - إِنَّ إِرَادَةَ الْعَاقِدَيْنِ
تُنْشِئُ الْعَقْدَ، وَالإِْرَادَةُ الْمُنْفَرِدَةُ تُنْشِئُ
التَّصَرُّفَاتِ غَيْرَ الْعَقْدِيَّةِ. أَمَّا أَحْكَامُ الْعُقُودِ،
وَآثَارُهَا فَإِنَّهَا مِنْ تَرْتِيبِ الشَّارِعِ لاَ الْعَاقِدِ (1) .
9 - إِذَا وَقَعَ فِي تَصَرُّفٍ مَا الْغَلَطُ أَوِ التَّغْرِيرُ أَوِ
التَّدْلِيسُ أَوِ الإِْكْرَاهُ كَانَ هَذَا التَّصَرُّفُ قَابِلاً
لِلإِْبْطَال فِي الْجُمْلَةِ، بِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ لِمَنْ وَقَعَ
ذَلِكَ فِي إِرَادَتِهِ (2) .
إِرَاقَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْرَاقَةُ فِي اللُّغَةِ: الصَّبُّ، يُقَال: أَرَاقَ الْمَاءَ أَيْ
صَبَّهُ (3) . وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ كَلِمَةَ " إِرَاقَةٍ "
اسْتِعْمَالاَتٍ مُتَعَدِّدَةً، كُلُّهَا تَعُودُ لِمَعْنَى الصَّبِّ،
فَيَقُولُونَ: إِرَاقَةُ الْخَمْرِ، وَإِرَاقَةُ الدَّمِ، وَكُلُّهَا
بِمَعْنًى.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
أ - إِرَاقَةُ الدَّمِ:
2 - اعْتَبَرَ الشَّارِعُ إِرَاقَةَ دَمِ الأَْنْعَامِ قُرْبَةً بِذَاتِهَا
فِي الْهَدْيِ وَالأُْضْحِيَّةِ وَالْعَقِيقَةِ، قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: "
وَالذَّبَائِحُ الَّتِي هِيَ قُرْبَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَعِبَادَةٌ
ثَلاَثَةٌ: الْهَدْيُ وَالأُْضْحِيَّةُ وَالْعَقِيقَةُ (4) ". وَقَال
الْمَرْغِينَانِيُّ:
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 123
(2) المبسوط 13 / 12 - 13
(3) المغرب في ترتيب المعرب
(4) زاد المعاد في هدي خير العباد 1 / 245 طبع مصطفى البابي الحلبي سنة
1369
(3/6)
لاَ يَجُوزُ فِي الْهَدَايَا إِلاَّ مَا
جَازَ فِي الضَّحَايَا، لأَِنَّهُ قُرْبَةٌ تَعَلَّقَتْ بِإِرَاقَةِ
الدَّمِ (1) ".
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لاَ يَقُومُ مَقَامَ الإِْرَاقَةِ
غَيْرُهَا، حَتَّى لَوْ تَصَدَّقَ بِالأُْضْحِيَّةِ أَوِ الْهَدْيِ أَوْ
شَاةِ الْعَقِيقَةِ قَبْل ذَبْحِهَا لَمْ يُجْزِئْهُ ذَلِكَ عَنِ
الأُْضْحِيَّةِ أَوِ الْهَدْيِ أَوِ الْعَقِيقَةِ (2) . وَقَدْ تَحَدَّثَ
الْفُقَهَاءُ عَنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الأَْضَاحِيِّ، وَفِي الْحَجِّ.
كَمَا اعْتَبَرَ الشَّارِعُ إِرَاقَةَ الدَّمِ قُرْبَةً عِنْدَمَا تَكُونُ
وَسِيلَةً لِتَحْقِيقِ الْخَيْرِ، كَمَا هُوَ الْحَال فِي وُجُوبِ قِتَال
الْكَافِرِينَ وَالْبُغَاةِ، وَقَتْلِهِمْ إِزَالَةً لِطُغْيَانِهِمْ،
وَإِعْلاَءً لِكَلِمَةِ اللَّهِ فِي الأَْرْضِ، حَتَّى إِذَا مَا تَحَقَّقَ
ذَلِكَ الْخَيْرُ بِغَيْرِ إِرَاقَةِ الدِّمَاءِ وَجَبَ أَلاَّ يُلْجَأَ
إِلَيْهِ، وَلِذَلِكَ يَمْتَنِعُ الْقِتَال وَالْقَتْل إِذَا مَا أَجَابُوا
أَهْل الْحَقِّ إِلَى الاِنْضِوَاءِ تَحْتَ رَايَةِ الإِْسْلاَمِ.
وَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابَيِ الْجِهَادِ وَالْبُغَاةِ.
وَكَمَا هُوَ الْحَال فِي إِرَاقَةِ الدَّمِ قِصَاصًا أَوْ حَدًّا،
لِيَرْتَدِعَ النَّاسُ عَنِ الطُّغْيَانِ وَانْتِهَاكِ حُرُمَاتِ اللَّهِ،
قَال تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَْلْبَابِ}
. (3)
وَاعْتَبَرَ الشَّارِعُ إِرَاقَةَ الدَّمِ حَرَامًا إِذَا كَانَتْ بِغَيْرِ
حَقٍّ، وَلَمْ تَكُنْ لِغَرَضٍ مَشْرُوعٍ، وَلِذَلِكَ حَرَّمَ قَتْل
الْمُسْلِمِ أَوِ الذِّمِّيِّ ظُلْمًا، وَحَرَّمَ ذَبْحَ الْحَيَوَانِ
غَيْرِ الْمُؤْذِي لِغَيْرِ مَأْكَلَةٍ. وَحَرَّمَ ذَبْحَ الْحَيَوَانِ
الْمَأْكُول إِذَا أُهِل بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ (4) ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ
الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ
__________
(1) الهداية 1 / 185 طبع مصطفى البابي الحلبي.
(2) البدائع 5 / 66 مطبعة الجمالية بمصر سنة 1328
(3) سورة البقرة / 179
(4) جواهر الإكليل 1 / 209 وما بعدها، وحاشية ابن عابدين 5 / 169
(3/7)
الذَّبَائِحِ.
وَاعْتَبَرَ الشَّارِعُ إِرَاقَةَ الدَّمِ مُبَاحَةً لِدَفْعِ صِيَال
إِنْسَانٍ عَلَى إِنْسَانٍ (1) ، أَوْ لِحُصُولِهِ عَلَى مَا يَدْفَعُ
عَنْهُ الْمَوْتَ، إِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْحُصُول عَلَيْهِ إِلاَّ
بِإِرَاقَةِ دَمِ مَنْ يَمْنَعُهُ مَا يُحْيِي بِهِ نَفْسَهُ مِمَّا هُوَ
فَائِضٌ عَنْ حَاجَتِهِ (2) ، كَمَا تُبَاحُ إِرَاقَةُ دَمِ الْحَيَوَانِ
الْمُؤْذِي (3) . وَقَدْ تَحَدَّثَ الْفُقَهَاءُ عَنْ ذَلِكَ فِي أَبْوَابٍ
مُتَعَدِّدَةٍ، كَالصِّيَال، وَالْجِنَايَاتِ، وَالْحَجِّ عِنْدَ
حَدِيثِهِمْ عَلَى مَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ قَتْلُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ.
ب - إِرَاقَةُ النَّجَاسَاتِ:
3 - إِرَاقَةُ النَّجَاسَةِ إِتْلاَفٌ لَهَا، وَهُوَ مَطْلُوبٌ فِي
الْجُمْلَةِ إِنْ لَمْ تَكُنْ ثَمَّةَ حَاجَةٌ أَوِ اضْطِرَارٌ إِلَيْهَا،
وَجَمِيعُ الأَْحْكَامِ الَّتِي تَرِدُ عَلَى إِرَاقَتِهَا تَرِدُ عَلَى
إِتْلاَفِهَا، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلاَمُ عَنْهُ تَحْتَ مُصْطَلَحِ: "
إِتْلاَفٌ ".
ج - إِرَاقَةُ الْمَنِيِّ:
4 - يُعَبِّرُ الْفُقَهَاءُ عَنْ إِرَاقَةِ الْمَنِيِّ خَارِجَ الْفَرْجِ
عِنْدَ الْوَطْءِ بِالْعَزْل. وَهُوَ جَائِزٌ عَنِ الْحُرَّةِ بِإِذْنِهَا،
وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى الإِْذْنِ عَنِ الأَْمَةِ فِي الْجُمْلَةِ (4) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: " عَزْلٌ ". وَقَدْ تَحَدَّثَ
الْفُقَهَاءُ عَنْهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ.
__________
(1) انظر جواهر الإكليل 2 / 297 طبع مطبعة عباس، وحاشية قليوبي 2 / 206 طبع
مصطفى البابي الحلبي. وحاشية ابن عابدين 5 / 351 ط بولاق الأولى، والمغني 8
/ 329 وما بعدها
(2) المغني 8 / 602 وما بعدها.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 249، وموطأ الإمام مالك 1 / 353، ونيل الأوطار 5
/ 27 طبع المطبعة العثمانية المصرية، وعمدة القاري شرح البخاري في كتاب
الصيد، باب ما يقتل المحرم من الدواب.
(4) المغني 7 / 23 - 24 ط الرياض.
(3/7)
أَرَاكٌ
اُنْظُرِ: اسْتِيَاك
إِرْبَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْرْبَةُ لُغَةً: الْحَاجَةُ، وَالْجَمْعُ الإِْرَبُ. يُقَال:
أَرِبَ الرَّجُل إِلَى الشَّيْءِ إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ فَهُوَ آرِبٌ (1)
. وَاصْطِلاَحًا: الْحَاجَةُ إِلَى النِّسَاءِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
غَيْرِ أُولِي الإِْرْبَةِ:
2 - قَال الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: قِيل: هُمُ الَّذِينَ يَتْبَعُونَكُمْ
لِيَنَالُوا مِنْ فَضْل طَعَامِكُمْ، وَلاَ حَاجَةَ بِهِمْ إِلَى
النِّسَاءِ، لأَِنَّهُمْ بُلْهٌ لاَ يَعْرِفُونَ مِنْ أَمْرِهِنَّ شَيْئًا،
أَوْ شُيُوخٌ صُلَحَاءُ إِذَا كَانُوا مَعَهُنَّ غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ
. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَصِيَّ وَالْعِنِّينَ وَمَنْ شَاكَلَهُمَا قَدْ
لاَ يَكُونُ لَهُ إِرْبَةٌ فِي نَفْسِ الْجِمَاعِ، وَيَكُونُ لَهُ إِرْبَةٌ
قَوِيَّةٌ فِيمَا عَدَاهُ مِنَ التَّمَتُّعِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ
يَكُونَ هُوَ الْمُرَادَ. فَيَجِبُ أَنْ يُحْمَل الْمُرَادُ عَلَى مَنِ
الْمَعْلُومُ مِنْهُ أَنَّهُ لاَ إِرْبَةَ لَهُ فِي سَائِرِ وُجُوهِ
التَّمَتُّعِ، إِمَّا لِفَقْدِ
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب مادة (أرب)
(2) تفسير الفخر الرازي 23 / 208 ط عبد الرحمن محمد.
(3/8)
شَهْوَةٍ، وَإِمَّا لِفَقْدِ
الْمَعْرِفَةِ، وَإِمَّا لِلْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ، فَعَلَى هَذِهِ
الْوُجُوهِ الثَّلاَثَةِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فَقَال بَعْضُهُمْ: هُمُ
الْفُقَرَاءُ الَّذِينَ بِهِمُ الْفَاقَةُ، وَقَال بَعْضُهُمْ:
الْمَعْتُوهُ وَالأَْبْلَهُ وَالصَّبِيُّ، وَقَال بَعْضُهُمْ: الشَّيْخُ،
وَسَائِرُ مَنْ لاَ شَهْوَةَ لَهُ، وَلاَ يَمْتَنِعُ دُخُول الْكُل فِي
ذَلِكَ. عَلَى أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي - كَمَا قَال أَبُو بَكْرِ بْنُ
الْعَرَبِيِّ - أَنْ يَشْمَل ذَلِكَ (الصَّبِيَّ) ، لأَِنَّهُ أُفْرِدَ
بِحُكْمٍ يَخُصُّهُ. وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {مِنَ الرِّجَال أَوِ
الطِّفْل الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} . (1)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - الرَّأْيُ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْخَصِيَّ
وَالْمَجْبُوبَ وَالشَّيْخَ وَالْعَبْدَ وَالْفَقِيرَ وَالْمُخَنَّثَ
وَالْمَعْتُوهَ وَالأَْبْلَهَ فِي النَّظَرِ إِلَى الأَْجْنَبِيَّةِ
كَالْفَحْل (أَيْ كَصَاحِبِ الإِْرْبَةِ) لأَِنَّ الْخَصِيَّ قَدْ
يُجَامِعُ وَيَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهِ، وَالْمَجْبُوبُ يَتَمَتَّعُ
وَيُنْزِل، وَالْمُخَنَّثُ فَحْلٌ فَاسِقٌ، وَأَمَّا الْمَعْتُوهُ
وَالأَْبْلَهُ فَفِيهِمَا شَهْوَةٌ، وَقَدْ يَحْكِيَانِ مَا يَرَيَانِهِ
(2) . وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ
رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ: حُكْمُ غَيْرِ أُولِي الإِْرْبَةِ حُكْمُ
الْمَحَارِمِ فِي النَّظَرِ إِلَى النِّسَاءِ، يَرَوْنَ مِنْهُنَّ مَوْضِعَ
الزِّينَةِ مِثْل الشَّعْرِ وَالذِّرَاعَيْنِ، وَحُكْمُهُمْ فِي الدُّخُول
عَلَيْهِنَّ مِثْل الْمَحَارِمِ أَيْضًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوِ
التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِْرْبَةِ مِنَ الرِّجَال} . (3)
__________
(1) تفسير الفخر الرازي 23 / 208. وأحكام القرآن لابن العربي " 3 / 1362،
والآية من سورة النور / 31
(2) ابن عابدين 5 / 239 ط بولاق الأولى، والطحطاوي على الدر 4 / 186 ط
المعرفة، وروح المعاني 18 / 144 ط المنيرية.
(3) حاشية الطحطاوي على الدر 4 / 186. والحطاب 1 / 500 - 501 ط ليبيا،
والبجيرمي على الخطيب 3 / 314 ط المعرفة، والمغني 7 / 462 ط الأولى المنار.
والآية من سورة النور / 31
(3/8)
أَرَتُّ
اُنْظُرْ: أَلْثَغ
ارْتِثَاثٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِرْتِثَاثُ فِي اللُّغَةِ: أَنْ يُحْمَل الْجَرِيحُ مِنَ
الْمَعْرَكَةِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ قَدْ أَثْخَنَتْهُ الْجِرَاحُ (1) يُقَال:
ارْتَثَّ الرَّجُل - عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ - أَيْ حُمِل مِنَ
الْمَعْرَكَةِ رَثِيثًا أَيْ جَرِيحًا وَبِهِ رَمَقٌ، وَيَزِيدُ
الْفُقَهَاءُ فِي تَعْرِيفِهِ بَعْضَ الْقُيُودِ، فَهُوَ عِنْدَهُمْ:
الْخُرُوجُ عَنْ صِفَةِ الْقَتْلَى، وَالصَّيْرُورَةُ إِلَى حَال
الدُّنْيَا، وَالْمُرْتَثُّ هُوَ مَنْ حُمِل مِنَ الْمَعْرَكَةِ
مُسْتَقِرَّ الْحَيَاةِ، بِأَنْ تَكَلَّمَ، أَوْ أَكَل أَوْ شَرِبَ، أَوْ
نَامَ، أَوْ بَاعَ أَوِ ابْتَاعَ، أَوْ طَال بَقَاؤُهُ عُرْفًا، ثُمَّ
مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - الْمُرْتَثُّ يُغَسَّل وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ
__________
(1) لسان العرب وتاج العروس.
(2) بدائع الصنائع 1 / 321 ط شركة المطبوعات العلمية، وحاشية الدسوقي مع
الشرح الكبير 1 / 425 ط عيسى الحلبي، والمغني مع الشرح الكبير 2 / 403 ط
المنار الأولى، ونهاية المحتاج 2 / 490 ط مصطفى الحلبي.
(3/9)
شَهِيدًا فِي حُكْمِ الدُّنْيَا، فَلاَ
تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الشُّهَدَاءِ.
وَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَهِيدًا فِي حُكْمِ الدُّنْيَا فَهُوَ شَهِيدٌ
فِي حَقِّ الثَّوَابِ، حَتَّى إِنَّهُ يَنَال ثَوَابَ الشُّهَدَاءِ وَهَذَا
بِاتِّفَاقٍ فِيمَنْ مَاتَ بَعْدَ الْمَعْرَكَةِ مَعَ الْكُفَّارِ.
أَمَّا الْمُرْتَثُّ مِنَ الْبُغَاةِ، أَوْ أَهْل الْعَدْل فِي
الْمَعَارِكِ بَيْنَهُمْ، فَفِيهِ خِلاَفُ الْفُقَهَاءِ مِنْ حَيْثُ
الْغُسْل وَالصَّلاَةُ (1) . ر: بُغَاة.
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - يَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ الْمُرْتَثِّ فِي بَابِ الْجَنَائِزِ
وَفِي بَابِ الْبُغَاةِ.
ارْتِدَادٌ
اُنْظُرْ: رِدَّةٌ
ارْتِزَاقٌ
اُنْظُرْ: رِزْقٌ
ارْتِفَاقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الاِرْتِفَاقِ لُغَةً: الاِتِّكَاءُ. وَارْتَفَقَ
__________
(1) المراجع السابقة.
(3/9)
بِالشَّيْءِ انْتَفَعَ بِهِ. وَمَرَافِقُ
الدَّارِ: مَصَابُّ الْمَاءِ وَنَحْوُهَا، كَالْمَطْبَخِ وَالْكَنِيفِ (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ حَقٌّ مُقَرَّرٌ
عَلَى عَقَارٍ لِمَنْفَعَةِ عَقَارٍ آخَرَ. وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ
بِأَنَّهُ تَحْصِيل مَنَافِعَ تَتَعَلَّقُ بِالْعَقَارِ (2) ،
فَالاِرْتِفَاقُ عِنْدَهُمْ أَعَمُّ مِنْهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ،
لأَِنَّهُ يَشْمَل انْتِفَاعَ الشَّخْصِ بِالْعَقَارِ فَضْلاً عَنِ
انْتِفَاعِ الْعَقَارِ بِالْعَقَارِ. وَاَلَّذِي يُسْتَفَادُ مِمَّا
أَوْرَدَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي صُوَرِ الاِرْتِفَاقِ
أَنَّهُمْ يَتَّفِقُونَ مَعَ الْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِخْتِصَاصُ:
2 - الاِخْتِصَاصُ: مَصْدَرٌ، اخْتَصَصْتُهُ بِالشَّيْءِ فَاخْتَصَّ هُوَ
بِهِ (4) ، وَمَتَى اخْتَصَّ شَخْصٌ بِشَيْءٍ فَقَدِ امْتَنَعَ عَلَى
غَيْرِهِ الاِنْتِفَاعُ بِهِ إِلاَّ بِإِذْنٍ مِنْهُ، فَالْفَرْقُ، عَدَا
شَرْطِ الإِْذْنِ، هُوَ أَنَّ الاِرْتِفَاقَ تُتَصَوَّرُ فِيهِ
الْمُشَارَكَةُ فِي الاِنْتِفَاعِ، خِلاَفًا لِلاِخْتِصَاصِ، كَمَا أَنَّ
الاِرْتِفَاقَ تَغْلِبُ عَلَيْهِ الدَّيْمُومَةُ، أَمَّا الاِخْتِصَاصُ
فَيَغْلِبُ عَلَيْهِ عَدَمُهَا.
ب - الْحِيَازَةُ أَوِ الْحَوْزُ:
3 - مِنْ مَعَانِي الْحِيَازَةِ أَوِ الْحَوْزِ لُغَةً: الْجَمْعُ
وَالضَّمُّ.
__________
(1) القاموس والمصباح.
(2) البهجة شرح التحفة 2 / 251، 252 ط الحلبي، والبحر الرائق 6 / 148، 149
ط العلمية.
(3) الأحكام السلطانية للماوردي ص 187، ولأبي يعلى ص 208، وجامع الفصولين 1
/ 65
(4) المصباح
(3/10)
وَاصْطِلاَحًا: وَضْعُ الْيَدِ عَلَى
الشَّيْءِ وَالاِسْتِيلاَءُ عَلَيْهِ (1) .
ج - الْحُقُوقُ:
4 - الْحُقُوقُ جَمْعُ حَقٍّ، وَالْحَقُّ لُغَةً: الأَْمْرُ الثَّابِتُ
الْمَوْجُودُ. وَاصْطِلاَحًا يَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ فِيمَا ثَبَتَ
لإِِنْسَانٍ بِمُقْتَضَى الشَّرْعِ مِنْ أَجْل صَالِحِهِ.
وَمِمَّا فَرَّقَ بِهِ بَيْنَ الْحُقُوقِ وَالْمَرَافِقِ فِيمَا
يَتَعَلَّقُ بِالْعَقَارِ مَا نَقَلَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ عَنْ جَامِعِ
الْفُصُولَيْنِ وَمَا يُذْكَرُ فِي دَعْوَى الْعَقَارِ مِنْ قَوْلِهِ
بِحُقُوقِهِ وَمَرَافِقِهِ: فَحُقُوقُهُ عِبَارَةٌ عَنْ مَسِيل الْمَاءِ
وَطَرِيقِ غَيْرِهِ وِفَاقًا، وَمَرَافِقُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ
مَنَافِعُ الدَّارِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْمَرَافِقُ: هِيَ
الْحُقُوقُ (2) .
فَعَلَى قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ الْمَرَافِقُ وَالْحُقُوقُ سَوَاءٌ، وَعَلَى
قَوْل أَبِي يُوسُفَ الْمَرَافِقُ أَعَمُّ، لأَِنَّهَا تَوَابِعُ الدَّارِ
مِمَّا يُرْتَفَقُ بِهِ، كَالْمُتَوَضِّئِ، وَالْمَطْبَخِ كَمَا فِي
الْقُهُسْتَانِيِّ، وَحَقُّ الشَّيْءِ تَابِعٌ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْهُ،
كَالطَّرِيقِ وَالشُّرْبِ فَهُوَ أَخَصُّ (3) .
صِفَتُهُ (الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ) :
5 - الْحُكْمُ الأَْصْلِيُّ لِلاِرْتِفَاقِ الإِْبَاحَةُ، مَا لَمْ يَكُنْ
عَلَى الْمُرْتَفِقِ ضَرَرٌ، أَوْ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ لِدَفْعِ ضَرَرٍ،
أَمَّا الإِْرْفَاقُ فَهُوَ مَنْدُوبٌ لِحَضِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ، حَيْثُ قَال: لاَ يَمْنَعُ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ
__________
(1) البهجة على التحفة 2 / 252
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 187. ولأبي يعلى ص 7208 وجامع الفصولين 1
/ 65، والبحر الرائق 6 / 148 ط العلمية.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 292 ط بولاق
(3/10)
يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ (1)
وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَدْخُل الْجَنَّةَ مَنْ
خَافَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ. (2)
أَنْوَاعُهُ مِنْ حَيْثُ قَابِلِيَّةُ رُجُوعِ الْمُرْفِقِ:
6 - الإِْرْفَاقُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَحْدُودًا بِزَمَنٍ كَسَنَةٍ، أَوْ
عَشْرِ سِنِينَ، أَوْ إِلَى الأَْبَدِ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ اُتُّبِعَ،
وَكَانَ لاَزِمًا لِلْمُرْفِقِ، لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ قَبْل الْمُدَّةِ
الْمُحَدَّدَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الإِْرْفَاقُ مُطْلَقًا غَيْرَ
مُقَيَّدٍ بِأَجَلٍ، وَحِينَئِذٍ يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ قَدْرُ مَا يُعَدُّ
ارْتِفَاقًا بَيْنَ الْجِيرَانِ، بِأَنْ يَتْرُكَ مُدَّةً يَنْتَفِعُ
فِيهَا عَادَةً أَمْثَالُهُ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الإِْرْفَاقُ
بِالْغَرْزِ، أَوْ فَتْحِ بَابٍ، أَوْ سَقْيِ مَاءٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ،
كَإِعَادَةِ عَرْصَةٍ لِلْبِنَاءِ (3) .
وَيَأْتِي تَفْصِيل أَحْكَامِ الرُّجُوعِ فِي (ف 24)
أَسْبَابُ الاِرْتِفَاقِ:
7 - يَنْشَأُ الاِرْتِفَاقُ عَنْ إِذْنِ الشَّارِعِ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ
لِلأَْمْوَال الْعَامَّةِ، أَوِ الْمُبَاحَاتِ كَإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ
وَغَيْرِهِ، أَوْ إِذْنِ الْمَالِكِ بِالنِّسْبَةِ لِلأَْمْوَال
الْخَاصَّةِ، أَوْ بِاقْتِضَاءِ التَّصَرُّفِ بِثُبُوتِ الاِرْتِفَاقِ
كَمَا فِي الإِْجَارَةِ وَالْوَقْفِ، وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطِ الاِنْتِفَاعَ
بِحُقُوقِ الاِرْتِفَاقِ، وَقَدْ يَثْبُتُ بِاسْتِصْحَابِ الْحَال دُونَ
مَعْرِفَةِ سَبَبِ نُشُوئِهِ، وَذَلِكَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ عَلَيْهِ.
__________
(1) أخرجه البخاري - فتح الباري 5 / 110 - ط السلفية ومسلم 3 / 1230 - ط
عيسى الحلبي) واللفظ لمسلم.
(2) أخرجه أحمد (2 / 373 - ط الميمنية) وقال الهيثمي في المجمع (8 / 169 -
ط مكتبة القدسي) : " رجاله رجال الصحيح "
(3) البهجة على التحفة 2 / 251، 252
(3/11)
الاِرْتِفَاقُ بِالْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ
وَالأَْوْلَوِيَّةُ فِيهِ:
8 - صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ: يَجُوزُ الاِرْتِفَاقُ بِالْقُعُودِ
فِي الْوَاسِعِ مِنَ الشَّوَارِعِ وَالطُّرُقَاتِ وَالرِّحَابِ بَيْنَ
الْعُمْرَانِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عَلَى وَجْهٍ لاَ يَضِيقُ عَلَى
أَحَدٍ، وَلاَ يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ، لاِتِّفَاقِ أَهْل الأَْمْصَارِ فِي
جَمِيعِ الأَْعْصَارِ عَلَى إِقْرَارِ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ
إِنْكَارٍ، وَلأَِنَّهُ ارْتِفَاقٌ مُبَاحٌ مِنْ غَيْرِ إِضْرَارٍ، فَلَمْ
يُمْنَعْ مِنْهُ كَالاِجْتِيَازِ. قَال أَحْمَدُ فِي السَّابِقِ إِلَى
دَكَاكِينِ السُّوقِ (أَيِ الأَْمَاكِنِ الْمُعَدَّةِ لِلْبَاعَةِ غَيْرِ
الدَّائِمِينَ) غَدْوَةً: فَهُوَ لَهُ إِلَى اللَّيْل. وَكَانَ هَذَا فِي
سُوقِ الْمَدِينَةِ فِيمَا مَضَى. وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ (1) وَلَهُ أَنْ يُظَلِّل
عَلَى نَفْسِهِ بِمَا لاَ ضَرَرَ فِيهِ. . . فَإِنْ قَامَ وَتَرَكَ
مَتَاعَهُ فِيهِ لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ إِزَالَتُهُ، لأَِنَّ يَدَ
الأَْوَّل عَلَيْهِ، وَإِنْ نَقَل مَتَاعَهُ كَانَ لِغَيْرِهِ أَنْ
يَقْعُدَ فِيهِ، لأَِنَّ يَدَهُ قَدْ زَالَتْ، وَإِنْ قَعَدَ وَأَطَال
مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ، لأَِنَّهُ يَصِيرُ كَالْمُتَمَلِّكِ، وَيَخْتَصُّ
بِنَفْعٍ يُسَاوِيهِ فِيهِ غَيْرُهُ فِي اسْتِحْقَاقِهِ. وَيُحْتَمَل
أَنَّهُ لاَ يُزَال، لأَِنَّهُ سَبَقَ إِلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إِلَيْهِ
مُسْلِمٌ. وَإِنْ اسْتَبَقَ اثْنَانِ إِلَيْهِ احْتَمَل أَنْ يُقْرَعَ
بَيْنَهُمَا، وَاحْتَمَل أَنْ يُقَدِّمَ الإِْمَامُ مَنْ يَرَى مِنْهُمَا.
وَإِنْ كَانَ الْجَالِسُ يُضَيِّقُ عَلَى الْمَارَّةِ لَمْ يَحِل لَهُ
الْجُلُوسُ فِيهِ، وَلاَ يَحِل لِلإِْمَامِ تَمْكِينُهُ بِعِوَضٍ وَلاَ
غَيْرِهِ (2) .
وَبِنَحْوِ ذَلِكَ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ قَال الرَّمْلِيُّ: (وَمَنْ
أَلِفَ مِنْ مَسْجِدٍ أَوْ مَدْرَسَةٍ مَوْضِعًا يُفْتِي فِيهِ النَّاسَ،
__________
(1) حديث: " منى مناخ من سبق " أخرجه ابن ماجه (2 / 1000 - ط عيسى الحلبي)
والترمذي (3 / 228 - ط عيسى الحلبي)
(2) المغني 5 / 576، 577 ط مكتبة الرياض
(3/11)
أَوْ يُقْرِئُ فِيهِ قُرْآنًا، أَوْ
عِلْمًا شَرْعِيًّا، أَوْ آلَةً لَهُ، أَوْ لِتَعَلُّمِ مَا ذُكِرَ
كَسَمَاعِ دَرْسٍ بَيْنَ يَدَيْ مُدَرِّسٍ فَهُوَ كَالْجَالِسِ فِي
الشَّارِعِ لِمُعَامَلَةٍ، لَكِنَّ ذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِأَنْ يُفِيدَ أَوْ
يَسْتَفِيدَ. بَل هُوَ أَوْلَى مِمَّنْ يَجْلِسُ فِي الشَّارِعِ
لِمُعَامَلَةٍ، لأَِنَّ لَهُ غَرَضًا فِي مُلاَزَمَةِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ
لِيَأْلَفَهُ النَّاسُ. وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ
وَطَنًا. . . مَخْصُوصٌ بِمَا عَدَا ذَلِكَ، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ
إِذْنُ الإِْمَامِ، وَإِذَا غَابَ الْمُدَرِّسُ فَلِغَيْرِهِ الْجُلُوسُ
فِي مَكَانِهِ، حَتَّى لاَ تَتَعَطَّل مَنْفَعَتُهُ) .
وَلَوْ سَبَقَ رَجُلٌ إِلَى مَوْضِعٍ مِنْ رِبَاطٍ مُسَبَّلٍ (1)
وَانْطَبَقَ عَلَيْهِ شَرْطُهُ، أَوْ فَقِيهٌ إِلَى مَدْرَسَةٍ، أَوْ
مُتَعَلِّمُ قُرْآنٍ إِلَى مَا بُنِيَ لَهُ، أَوْ صُوفِيٌّ إِلَى
خَانِقَاهُ (2) لَمْ يُزْعَجْ وَلَمْ يَبْطُل حَقُّهُ مِنْهُ بِخُرُوجِهِ
لِشِرَاءِ حَاجَةٍ وَنَحْوِهِ مِنَ الأَْعْذَارِ، وَلَوْ لَمْ يَتْرُكْ
مَتَاعًا وَلاَ نَائِبًا. وَمَتَى عَيَّنَ الْوَاقِفُ مُدَّةً
لِلإِْقَامَةِ فَلَيْسَ لِلْمُرْتَفِقِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا، إِلاَّ
إِذَا لَمْ يُوجَدْ فِي الْبَلَدِ مَنْ يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ شَرْطُ
الْوَاقِفِ، لأَِنَّ الْعُرْفَ يَشْهَدُ بِأَنَّ الْوَاقِفَ لَمْ يُرِدْ
خُلُوَّ الْمَدْرَسَةِ، وَكَذَا يُعْمَل بِالْعُرْفِ فِي كُل شَرْطٍ
شَرَطَهُ الْوَاقِفُ، وَلاَ يُزَادُ فِي رِبَاطٍ مُدَّةٌ عَلَى ثَلاَثَةِ
أَيَّامٍ مَا لَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ (3)
9 - هَذَا وَقَدْ فَصَّل كُلٌّ مِنَ الْمَاوَرْدِيِّ وَأَبِي يَعْلَى
بَيَانَ الاِرْتِفَاقِ بِالْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ وَلاَ سِيَّمَا مِنْ
حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَى إِذْنِ السُّلْطَانِ أَوْ عَدَمُهَا فَقَالاَ:
وَأَمَّا الإِْرْفَاقُ فَهُوَ مِنِ ارْتِفَاقِ النَّاسِ بِمَقَاعِدِ
الأَْسْوَاقِ، وَأَفْنِيَةِ
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 345 بتصرف يسير.
(2) الفتاوى البزازية هامش الفتاوى الهندية 6 / 114 - 116 والبهجة في شرح
التحفة 2 / 335 - 342
(3) نهاية المحتاج 5 / 345
(3/12)
الشَّوَارِعِ، وَحَرِيمِ الأَْمْصَارِ،
وَمَنَازِل الأَْسْفَارِ فَتَنْقَسِمُ ثَلاَثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ
يَخْتَصُّ الاِرْتِفَاقُ فِيهِ بِالصَّحَارِيِ وَالْفَلَوَاتِ، وَقِسْمٌ
يَخْتَصُّ الاِرْتِفَاقُ فِيهِ بِأَفْنِيَةِ الأَْمْلاَكِ، وَقِسْمٌ
يَخْتَصُّ بِالشَّوَارِعِ وَالطُّرُقَاتِ.
وَالْقِسْمُ الأَْوَّل ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ لاِجْتِيَازِ
السَّابِلَةِ وَاسْتِرَاحَةِ الْمُسَافِرِينَ فِيهِ فَلاَ نَظَرَ
لِلسُّلْطَانِ فِيهِ لِبُعْدِهِ عَنْهُ وَضَرُورَةِ السَّابِلَةِ فِيهِ.
وَاَلَّذِي يَخْتَصُّ السُّلْطَانُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ إِصْلاَحُ عَوْرَتِهِ
" خَلَلِهِ " وَحِفْظُ مِيَاهِهِ، وَالتَّخْلِيَةُ بَيْنَ النَّاسِ
وَنُزُولُهُ، وَيَكُونُ السَّابِقُ إِلَى الْمَنْزِل أَحَقَّ بِحُلُولِهِ
مِنَ الْمَسْبُوقِ حَتَّى يَرْتَحِل. فَإِنْ وَرَدُوهُ عَلَى سَوَاءٍ
وَتَنَازَعُوا فِيهِ، نَظَرَ فِي التَّعْدِيل بَيْنَهُمْ بِمَا يُزِيل
تَنَازُعَهُمْ. وَكَذَلِكَ الْبَادِيَةُ إِذَا انْتَجَعُوا أَرْضًا طَلَبًا
لِلْكَلأَِ وَارْتِفَاقًا بِالْمَرْعَى وَانْتِقَالاً مِنْ أَرْضٍ إِلَى
أَرْضٍ كَانُوا فِيمَا تَرَكُوهُ وَارْتَحَلُوا عَنْهُ كَالسَّابِلَةِ لاَ
اعْتِرَاضَ عَلَيْهِمْ فِي تَنَقُّلِهِمْ وَرَعْيِهِمْ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي. أَنْ يَقْصِدُوا بِنُزُولِهِمْ بِهَا الإِْقَامَةَ
وَالاِسْتِيطَانَ، فَلِلسُّلْطَانِ فِي نُزُولِهِمْ بِهَا نَظَرٌ يُرَاعَى
فِيهِ الأَْصْلَحُ فَإِنْ كَانَ مُضِرًّا بِالسَّابِلَةِ مُنِعُوا مِنْهَا
قَبْل النُّزُول وَبَعْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ بِالسَّابِلَةِ رَاعَى
الأَْصْلَحَ فِي نُزُولِهِمْ بِهَا أَوْ مَنَعَهُمْ مِنْهَا وَنَقَل
غَيْرَهُمْ إِلَيْهَا، كَمَا فَعَل عُمَرُ حِينَ مَصَّرَ الْبَصْرَةَ
وَالْكُوفَةَ. نَقَل إِلَى كُل وَاحِدَةٍ مِنَ الْمِصْرَيْنِ مَنْ رَأَى
الْمَصْلَحَةَ فِيهِ، لِئَلاَّ يَجْتَمِعَ فِيهِ الْمُسَافِرُونَ،
فَيَكُونَ سَبَبًا لاِنْتِشَارِ الْفِتْنَةِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، كَمَا
يُفْعَل فِي إِقْطَاعِ الْمَوَاتِ مَا يُرَى، فَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنُوهُ
حَتَّى نَزَلُوا فِيهِ لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْهُ. كَمَا لاَ يَمْنَعُ مَنْ
أَحْيَا مَوَاتًا بِغَيْرِ إِذْنِهِ. وَدَبَّرَهُمْ بِمَا يَرَاهُ صَلاَحًا
لَهُمْ، وَنَهَاهُمْ عَنْ إِحْدَاثِ زِيَادَةٍ مِنْ بَعْدُ،
(3/12)
إِلاَّ عَنْ إِذْنِهِ. رَوَى كَثِيرُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَال: قَدِمْنَا مَعَ عُمَرَ
بْنِ الْخَطَّابِ فِي عُمْرَتِهِ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ، فَكَلَّمَهُ
أَهْل الْمِيَاهِ فِي الطَّرِيقِ أَنْ يَبْنُوا مَنَازِل فِيمَا بَيْنَ
مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ لَمْ تَكُنْ قَبْل ذَلِكَ فَأَذِنَ لَهُمْ،
وَاشْتَرَطَ أَنَّ ابْنَ السَّبِيل أَحَقُّ بِالْمَاءِ وَالظِّل.
الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا يَخْتَصُّ بِأَفْنِيَةِ الدُّورِ
وَالأَْمْلاَكِ. يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ مُضِرًّا بِأَرْبَابِهَا مُنِعَ
الْمُرْتَفِقُ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُضِرٍّ بِهِمْ فَفِي
إِبَاحَةِ ارْتِفَاقِهِمْ بِهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ قَوْلاَنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَهُمُ الاِرْتِفَاقَ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ
أَرْبَابُهَا، لأَِنَّ الْحَرِيمَ مِرْفَقٌ إِذَا وَصَل أَهْلُهُ إِلَى
حَقِّهِمْ مِنْهُ سَاوَاهُمْ النَّاسُ فِيمَا عَدَاهُ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الاِرْتِفَاقُ بِحَرِيمِهِمْ
إِلاَّ عَنْ إِذْنِهِمْ، لأَِنَّهُ تَبَعٌ لأَِمْلاَكِهِمْ فَكَانُوا بِهِ
أَحَقَّ وَبِالتَّصَرُّفِ فِيهِ أَخَصَّ.
وَأَمَّا حَرِيمُ الْمَسَاجِدِ وَالْجَوَامِعِ فَيُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ
الاِرْتِفَاقُ بِهَا مُضِرًّا بِأَهْل الْجَوَامِعِ وَالْمَسَاجِدِ
مُنِعُوا مِنْهُ، وَلَمْ يَجُزْ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَأْذَنَ فِيهِ،
لأَِنَّ الْمُصَلِّينَ بِهَا أَحَقُّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُضِرًّا جَازَ
ارْتِفَاقُهُمْ بِحَرِيمِهَا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَا اخْتَصَّ بِأَفْنِيَةِ الشَّوَارِعِ
وَالطُّرُقَاتِ فَكِلاَهُمَا فِيهِ لاَ يَخْرُجُ عَمَّا سَبَقَ (1) .
حُقُوقُ الاِرْتِفَاقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
10 - تَبَيَّنَ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يُطْلِقُونَ
الاِرْتِفَاقَ عَلَى مَا يَرْتَفِقُ بِهِ، وَيَخْتَصُّ بِمَا هُوَ مِنْ
التَّوَابِعِ،
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 187 وما بعدها ط الحلبي، ولأبي يعلى ص
208 وما بعدها ط الحلبي.
(3/13)
كَالشُّرْبِ وَمَسِيل الْمَاءِ
وَالطَّرِيقِ وَالْمُرُورِ وَالْمَجْرَى وَالْجِوَارِ، وَأَنَّ أَبَا
يُوسُفَ خَصَّ الاِرْتِفَاقَ بِمَنَافِعِ الدَّارِ. وَلِكُلٍّ مِنَ
الْمَرَافِقِ الْمَذْكُورَةِ مُصْطَلَحٌ خَاصٌّ بِهِ، وَلِذَلِكَ فَيَكْفِي
هُنَا أَنْ يَعْرِفَ كُل وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَرَافِقِ، وَيُبَيِّنَ
حُكْمَهُ، عَلَى أَنْ يَتْرُكَ التَّفْصِيل لِلْمُصْطَلَحَاتِ الْخَاصَّةِ.
الشُّرْبُ:
11 - الشُّرْبُ: لُغَةً النَّصِيبُ مِنَ الْمَاءِ (1) . وَفِي
الاِصْطِلاَحِ: هُوَ النَّصِيبُ مِنَ الْمَاءِ لِلأَْرَاضِيِ لاَ
لِغَيْرِهَا.
وَرُكْنُهُ الْمَاءُ لأَِنَّهُ يَقُومُ بِهِ.
وَشَرْطُ حِلِّهِ أَنْ يَكُونَ ذَا حَظٍّ مِنَ الشُّرْبِ.
وَحُكْمُهُ الإِْرْوَاءُ، لأَِنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ مَا يُفْعَل لأَِجْلِهِ
(2) .
مَسِيل الْمَاءِ:
12 - الْمَسِيل: الْمَجْرَى وَمَسِيل الْمَاءِ مَجْرَاهُ (3) ، وَإِذَا
كَانَ لِشَخْصٍ مَجْرَى مَاءٍ جَارٍ أَوْ سِيَاقِ مَاءٍ بِحَقٍّ قَدِيمٍ
فِي مِلْكِ شَخْصٍ آخَرَ فَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ مَنْعُهُ (4) . وَإِذَا
كَانَ لِدَارٍ مَسِيل مَطَرٍ عَلَى دَارِ جَارٍ مِنْ قَدِيمٍ فَلَيْسَ
لِلْجَارِ مَنْعُهُ، وَصُورَةُ حَقِّ الْمَسِيل أَنْ يَكُونَ لِرَجُلٍ
أَرْضٌ لَهَا مَجْرَى مَاءٍ فِي أَرْضٍ أُخْرَى (5) .
حَقُّ التَّسْيِيل:
13 - صُورَتُهُ أَنْ تَكُونَ لِشَخْصٍ دَارٌ لَهَا حَقُّ تَسْيِيل
__________
(1) المصباح
(2) الفتاوى الهندية 5 / 390 ط الإسلامية.
(3) المصباح
(4) مجلة الأحكام م (6)
(5) حاشية ابن عابدين 4 / 183
(3/13)
الْمَاءِ عَلَى أَسْطُحَةِ دَارٍ أُخْرَى،
أَوْ عَلَى أَرْضِ دَارٍ أُخْرَى (1)
الطَّرِيقُ:
14 - فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ أَنَّ الطُّرُقَ ثَلاَثَةٌ: طَرِيقٌ
إِلَى الطَّرِيقِ الأَْعْظَمِ، وَطَرِيقٌ إِلَى سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ،
وَطَرِيقٌ خَاصٌّ فِي مِلْكِ إِنْسَانٍ (2) ، وَسَيَأْتِي أَحْكَامُ
التَّصَرُّفِ فِيهَا.
حَقُّ الْمُرُورِ:
15 - هُوَ أَنْ يَكُونَ لِشَخْصٍ حَقُّ الْمُرُورِ فِي أَرْضِ شَخْصٍ
آخَرَ.
وَالْحُكْمُ فِيهِ مَا نَصَّتْ عَلَيْهِ الْمَادَّةُ (1225) مِنْ مَجَلَّةِ
الأَْحْكَامِ: " إِذَا كَانَ لأَِحَدٍ حَقُّ الْمُرُورِ فِي عَرْصَةِ
آخَرَ، فَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْعَرْصَةِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الْمُرُورِ
وَالْعُبُورِ ".
وَقَدْ نَصَّتِ الْمَادَّةُ (1224) عَلَى حُكْمٍ عَامٍّ يَتَعَلَّقُ
بِثُبُوتِ الْحُقُوقِ فِي الْمَرَافِقِ، هُوَ: " يُعْتَبَرُ الْقِدَمُ فِي
حَقِّ الْمُرُورِ وَحَقِّ الْمَجْرَى وَحَقِّ الْمَسِيل. يَعْنِي تُتْرَكُ
هَذِهِ الأَْشْيَاءُ وَتَبْقَى عَلَى وَجْهِهَا الْقَدِيمِ الَّذِي كَانَتْ
عَلَيْهِ، لأَِنَّ الشَّيْءَ الْقَدِيمَ يَبْقَى عَلَى حَالِهِ بِحُكْمِ
الْمَادَّةِ (6) وَلاَ يَتَغَيَّرُ إِلاَّ أَنْ يَقُومَ الدَّلِيل عَلَى
خِلاَفِهِ. أَمَّا الْقَدِيمُ الْمُخَالِفُ لِلشَّرْعِ فَلاَ اعْتِبَارَ
لَهُ. يَعْنِي إِذَا كَانَ الشَّيْءُ الْمَعْمُول بِهِ غَيْرَ مَشْرُوعٍ
فِي الأَْصْل فَلاَ اعْتِبَارَ لَهُ وَإِنْ كَانَ قَدِيمًا، وَيُزَال إِنْ
كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ فَاحِشٌ. مَثَلاً إِذَا كَانَ لِدَارٍ مَسِيلٌ قَذِرٌ
فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ، وَلَوْ مِنَ الْقَدِيمِ، وَكَانَ فِيهِ
__________
(1) المصدر السابق 4 / 183
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 180
(3/14)
ضَرَرٌ لِلْمَارَّةِ فَإِنَّ ضَرَرَهُ
يُرْفَعُ، وَلاَ اعْتِبَارَ لِقِدَمِهِ ".
وَفِي شَرْحِ الْمَادَّةِ قَال الأَْتَاسِيُّ: (وَكَذَا لاَ اعْتِبَارَ
لِقِدَمِهِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مَشْرُوعٍ،) وَإِنْ كَانَ ضَرَرُهُ خَاصًّا.
كَمَا إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ كَوَّةٌ تُشْرِفُ عَلَى مَقَرِّ نِسَاءِ
جَارِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ إِزَالَةُ الضَّرَرِ، وَإِنْ كَانَ قَدِيمًا،
كَمَا أَفْتَى فِي الْحَامِدِيَّةِ قَائِلاً: وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ
الْقَدِيمِ وَالْحَادِثِ حَيْثُ كَانَ الضَّرَرُ بَيِّنًا، فَلَوْ كَانَ
مَشْرُوعًا كَمَا إِذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّ
الْجَارَ أَحْدَثَ الْبِنَاءَ بَعْدَ أَنْ كَانَتِ الْكَوَّةُ تُشْرِفُ
عَلَى أَرْضٍ سَبْخَةٍ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِزَالَةُ الضَّرَرِ (1) .
حَقُّ التَّعَلِّي:
16 - نَصَّتِ الْمَادَّةُ (1198) مِنَ الْمَجَلَّةِ عَلَى أَنَّ (كُل
أَحَدٍ لَهُ التَّعَلِّي عَلَى حَائِطِهِ الْمِلْكِ، وَبِنَاءُ مَا
يُرِيدُ، وَلَيْسَ لِجَارِهِ مَنْعُهُ مَا لَمْ يَكُنْ ضَرَرًا فَاحِشًا) .
وَقَال الأَْتَاسِيُّ فِي شَرْحِ الْمَادَّةِ: (وَلاَ عِبْرَةَ بِزَعْمِهِ
أَنَّهُ يَسُدُّ عَنْهُ الرِّيحَ وَالشَّمْسَ، كَمَا أَفْتَى بِهِ فِي
الْحَامِدِيَّةِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الضَّرَرِ الْفَاحِشِ. وَفِي
الأَْنْقِرَوِيَّةِ: لَهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى حَائِطِ نَفْسِهِ أَزْيَدَ
مِمَّا كَانَ، وَلَيْسَ لِجَارِهِ مَنْعُهُ وَإِنْ بَلَغَ عَنَانَ
السَّمَاءِ) . أَقُول: هَذَا مُسَلَّمٌ إِذَا كَانَ التَّعَلِّي يَسُدُّ
الرِّيحَ وَالشَّمْسَ عَنْ مِثْل سَاحَةِ دَارِ الْجَارِ. أَمَّا إِذَا
كَانَ يَسُدُّهُمَا عَنْ سَطْحِ بَيْتِهِ الْمُسَقَّفِ بِالْخَشَبِ
فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْهُ عَلَى مَا أَفْتَى بِهِ
الْمُتَأَخِّرُونَ.
حَقُّ الْجِوَارِ:
17 - نَصَّتِ الْمَادَّةُ (1201) مِنَ الْمَجَلَّةِ عَلَى أَنَّ: (مَنْعَ
الْمَنَافِعِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنَ الْحَوَائِجِ الأَْصْلِيَّةِ، كَسَدِّ
__________
(1) شرح مجلة الأحكام العدلية 4 / 167 ط حمص.
(3/14)
الْهَوَاءِ وَالنَّظَّارَةِ، أَوْ مَنْعِ
دُخُول الشَّمْسِ لَيْسَ بِضَرَرٍ فَاحِشٍ، لَكِنْ سَدُّ الضِّيَاءِ
بِالْكُلِّيَّةِ ضَرَرٌ فَاحِشٌ. فَإِذَا أَحْدَثَ رَجُلٌ بِنَاءً فَسُدَّ
بِسَبَبِهِ شُبَّاكُ بَيْتِ جَارِهِ، وَصَارَ بِحَالٍ لاَ يَقْدِرُ عَلَى
الْقِرَاءَةِ مَعَهَا مِنَ الظُّلْمَةِ، فَلَهُ أَنْ يُكَلَّفَ رَفْعُهُ
لِلضَّرَرِ الْفَاحِشِ، وَلاَ يُقَال: الضِّيَاءُ مِنَ الْبَابِ كَافٍ،
لأَِنَّ بَابَ الْبَيْتِ يُحْتَاجُ إِلَى غَلْقِهِ لِلْبَرْدِ وَغَيْرِهِ
مِنَ الأَْسْبَابِ. وَإِنْ كَانَ لِهَذَا الْمَحَل شُبَّاكَانِ فَسُدَّ
أَحَدُهُمَا بِإِحْدَاثِ ذَلِكَ الْبِنَاءِ فَلاَ يَضُرُّ ضَرَرًا
فَاحِشًا) . (1)
وَالْعِلَّةُ فِي الْمَنْعِ هُوَ تَحَقُّقُ الضَّرَرِ الْفَاحِشِ، فَإِذَا
تَحَقَّقَ مُنِعَ الْعَمَل، وَإِلاَّ أُبِيحَ.
تِلْكَ هِيَ حُقُوقُ الاِرْتِفَاقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
18 - وَيُمْكِنُ إِنْشَاءُ حُقُوقِ ارْتِفَاقٍ أُخْرَى غَيْرِهَا حَسْبَمَا
يَجْرِي الْعُرْفُ وَاسْتِعْمَال النَّاسِ، فَإِنْ حَدَثَتْ حُقُوقُ
ارْتِفَاقٍ أُخْرَى بِالاِسْتِعْمَال تُطَبَّقُ عَلَيْهَا الأَْحْكَامُ
السَّابِقَةُ، فَفِي وَسَائِل الْمُوَاصَلاَتِ الْعَامَّةِ مَثَلاً
كَالْقِطَارَاتِ وَالطَّيَّارَاتِ وَالسَّيَّارَاتِ، وَالْمَقَاعِدِ فِي
الأَْمَاكِنِ الْعَامَّةِ وَغَيْرِهَا، إِمَّا أَنْ يُخَصَّصَ مَقْعَدٌ
مُعَيَّنٌ لِكُل رَاكِبٍ أَوْ لاَ، فَإِنْ خُصِّصَ لِكُل رَاكِبٍ مَقْعَدٌ
مُعَيَّنٌ فَلاَ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَجْلِسَ فِيهِ إِلاَّ
بِإِذْنِهِ. وَأَمَّا إِذَا لَمْ تُعَيَّنْ الْمَقَاعِدُ لِلرَّاكِبِينَ
فَلِكُل رَاكِبٍ أَنْ يَجْلِسَ فِي الْمَقْعَدِ الَّذِي سَبَقَ إِلَيْهِ،
وَهَكَذَا الأَْمْرُ فِي كُل مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْقَبِيل.
19 - هَذَا وَقَدْ أَوْرَدَ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
أَحْكَامَ الْمَرَافِقِ السَّابِقَةِ، لَكِنْ تَحْتَ عَنَاوِينَ أُخْرَى
غَيْرِ الاِرْتِفَاقِ، حَيْثُ أَوْرَدَهَا الْمَالِكِيَّةُ فِي بَابِ
(نَفْيُ الضَّرَرِ وَسَدُّ الذَّرَائِعِ) ، وَأَوْرَدَهَا الشَّافِعِيَّةُ
فِي بَابِ (تَزَاحُمُ الْحُقُوقِ) وَأَوْرَدَهَا الْحَنَابِلَةُ فِي بَابِ
(الصُّلْحُ)
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية
(3/15)
التَّصَرُّفُ فِي حُقُوقِ الاِرْتِفَاقِ:
20 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الطَّرِيقَ نَوْعَانِ:
نَافِذٌ، وَغَيْرُ نَافِذٍ. فَالطَّرِيقُ النَّافِذُ مُبَاحٌ لاَ يُمْلَكُ
لأَِحَدٍ مِنَ النَّاسِ، فَلِكُلٍّ مِنْهُمْ فَتْحُ بَابِ مِلْكِهِ فِيهِ
كَيْفَ شَاءَ، فَلِلْعَامَّةِ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِمَا لاَ يَضُرُّ
الْمَارَّةَ.
وَأَمَّا غَيْرُ النَّافِذِ فَهُوَ مِلْكُ مَنْ نَفَذَتْ أَبْوَابُهُمْ
إِلَيْهِ، لاَ مَنْ لاَصَقَهُ جُدْرَانُهُمْ مِنْ غَيْرِ نُفُوذِ
أَبْوَابِهِمْ إِلَيْهِ، فَمَنْ نَفَذَتْ أَبْوَابُهُمْ إِلَيْهِ فَهُمُ
الْمُلاَّكُ وَهُمْ شُرَكَاءُ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِغَيْرِهِمْ إِشْرَاعُ
جَنَاحٍ فِيهِ، أَوْ بَابٍ لِلاِسْتِطْرَاقِ إِلاَّ بِرِضَاهُمْ. وَهَذَا
فِي الْمَذَاهِبِ الثَّلاَثَةِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ.
21 - وَقَدْ أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
بَيْعَ الشُّرْبِ، أَوْ بَعْضَهُ، وَبَيْعَ حُقُوقِ الأَْمْلاَكِ، كَحَقِّ
الْمُرُورِ، وَحَقِّ الْمَجْرَى، وَحَقِّ التَّعَلِّي، لِمَسِيسِ
الْحَاجَةِ، وَجَوَّزُوا الْعَقْدَ عَلَى الْمَنَافِعِ، وَإِنْ كَانَتْ
مَعْدُومَةً، إِرْفَاقًا بِالنَّاسِ، لَكِنِ اشْتَرَطُوا فِي حَقِّ
إِجْرَاءِ الْمَاءِ عَلَى السُّطُوحِ وَإِجَارَتِهِ وَإِعَارَتِهِ أَنْ
تُعْرَفَ السُّطُوحُ الَّتِي يَجْرِي عَلَيْهَا وَمِنْهَا، كَمَا أَجَازُوا
إِعَارَةَ الْعُلُوِّ مِنْ جِدَارٍ وَنَحْوِهِ لِلْبِنَاءِ عَلَيْهِ،
وَإِجَارَتَهُ لِذَلِكَ كَسَائِرِ الأَْعْيَانِ الَّتِي تُعَارُ
وَتُؤْجَرُ، فَإِنْ بَاعَهُ حَقَّ الْبِنَاءِ أَوِ الْعُلُوِّ الْمَعْلُومِ
اسْتَحَقَّ الْمُشْتَرِي الْبِنَاءَ عَلَيْهِ (1) .
22 - أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ جَاءَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ
أَنَّ الطُّرُقَ ثَلاَثَةٌ:
طَرِيقٌ إِلَى الطَّرِيقِ الأَْعْظَمِ، وَطَرِيقٌ إِلَى سِكَّةٍ غَيْرِ
نَافِذَةٍ، وَطَرِيقٌ خَاصٌّ فِي مِلْكِ إِنْسَانٍ، فَالأَْخِيرُ لاَ
يَدْخُل فِي الْبَيْعِ بِلاَ ذِكْرِهِ أَوْ ذِكْرِ الْحُقُوقِ أَوِ
__________
(1) تبصرة الحكام 2 / 366، والمدونة 6 / 192، وأسنى المطالب والرملي 2 /
219 - 226، والمغني 4 / 547
(3/15)
الْمَرَافِقِ. وَالأَْوَّلاَنِ يَدْخُلاَنِ
بِلاَ ذِكْرٍ. وَالْمُرَادُ بَيْعُ رَقَبَةِ الطَّرِيقِ لاَ حَقِّ
الْمُرُورِ، فَإِذَا كَانَتْ دَارُهُ دَاخِل دَارِ رَجُلٍ، وَكَانَ لَهُ
طَرِيقٌ فِي دَارِ ذَلِكَ الرَّجُل إِلَى دَارِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ
لَهُ فِيهَا حَقُّ الْمُرُورِ فَقَطْ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ رَقَبَةُ
الطَّرِيقِ، فَإِذَا بَاعَ رَقَبَةَ الطَّرِيقِ صَحَّ، فَإِنْ حَدَّ
فَظَاهِرٌ، وَإِلاَّ فَلَهُ بِقَدْرِ عَرْضِ الْبَابِ الْعُظْمَى.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الطَّرِيقِ وَاَلَّذِي يَكُونُ فِي سِكَّةٍ
غَيْرِ نَافِذَةٍ أَنَّ الطَّرِيقَ الأَْوَّل مِلْكٌ لِلْبَائِعِ،
وَالثَّانِي مُشْتَرَكٌ بَيْنَ جَمِيعِ أَهْل السِّكَّةِ، وَفِيهِ أَيْضًا
حَقٌّ لِلْعَامَّةِ (1) .
وَلاَ يُبَاعُ الشُّرْبُ وَلاَ يُوهَبُ وَلاَ يُؤْجَرُ وَلاَ يُتَصَدَّقُ
بِهِ إِلاَّ تَبَعًا لِلأَْرْضِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي
ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَنُقِل عَنْ شَرْحِ
الْوَهْبَانِيَّةِ أَنَّ بَعْضَهُمْ جَوَّزَ بَيْعَهُ، ثُمَّ قَال:
وَيَنْفُذُ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ بَيْعِهِ (2) .
23 - أَمَّا حَقُّ الْمَسِيل فَإِذَا كَانَ مُحَدَّدًا بِبَيَانِ
الْمِقْدَارِ الَّذِي يَسِيل فِيهِ الْمَاءُ فَبَيْعُهُ جَائِزٌ، وَإِذَا
كَانَ غَيْرَ مُبَيَّنٍ فَلاَ يَجُوزُ لِلْجَهَالَةِ. أَمَّا بَيْعُ
الرَّقَبَةِ فَيَجُوزُ مِنْ غَيْرِ بَيْعِ حَقِّ الْمَسِيل مَعَهُ، لَكِنْ
يُشْتَرَطُ تَحْدِيدُهُ، وَيَصِحُّ بَيْعُ حَقِّ الْمُرُورِ تَبَعًا
لِلأَْرْضِ بِلاَ خَوْفٍ، وَيَصِحُّ بَيْعُهُ وَحْدَهُ فِي رِوَايَةٍ،
وَبِهِ أَخَذَ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ، قَال السَّائِحَانِيُّ: وَهُوَ
الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.
وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ حَقِّ التَّعَلِّي، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
حَقِّ الْمُرُورِ، أَنَّ حَقَّ الْمُرُورِ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ
الأَْرْضِ وَهِيَ مَالٌ هُوَ عَيْنٌ، أَمَّا حَقُّ التَّعَلِّي
فَمُتَعَلِّقٌ بِالْهَوَاءِ، وَهُوَ لَيْسَ بِعَيْنٍ، وَفِي رِوَايَةٍ
أُخْرَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُ حَقِّ الْمُرُورِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 180
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 183 ط الأميرية
(3/16)
وَحْدَهُ وَصَحَّحَهُ أَبُو اللَّيْثِ.
وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ حَقِّ الشُّرْبِ إِلاَّ تَبَعًا، وَهُوَ الصَّحِيحُ
كَمَا فِي الْفَتْحِ، وَظَاهِرُ كَلاَمِهِمْ أَنَّهُ بَاطِلٌ، قَال فِي
الْخَانِيَّةِ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فَاسِدًا لاَ بَاطِلاً، لأَِنَّ
بَيْعَهُ يَجُوزُ فِي رِوَايَةٍ، وَبِهِ أَخَذَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ (1) .
أَحْكَامُ رُجُوعِ الْمُرْفِقِ وَأَثَرِهِ عَلَى الاِرْتِفَاقِ:
24 - الْمُعْتَمَدُ فِي الإِْرْفَاقِ بِالْغَرْزِ أَنَّهُ لاَ رُجُوعَ
فِيهِ بَعْدَ الإِْذْنِ، طَال الزَّمَانُ أَوْ قَصُرَ، عَاشَ أَوْ مَاتَ
(الْمُرْتَفِقُ) ، إِلاَّ أَنْ يَنْهَدِمَ الْجِدَارُ فَلاَ يُعِيدُ
الْغَرْزَ إِلاَّ بِإِرْفَاقٍ جَدِيدٍ، وَأَمَّا إِعَادَةُ الْعَرْصَةِ
لِلْبِنَاءِ فَالرَّاجِحُ أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ حَيْثُ لَمْ يُقَيَّدْ
بِأَجَلٍ، وَلَوْ قَبْل أَنْ يَمْضِيَ مَا يُرْفَقُ وَيُعَارُ لِمِثْلِهِ
فِي الْعَادَةِ، وَلَكِنْ عَلَى الْمُرْفِقِ دَفْعُ مَا أَنْفَقَ
الْمُرْتَفِقُ أَوْ قِيمَتِهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَرْصَةِ وَالْجِدَارِ أَنَّ بَعْضَ أَهْل الْعِلْمِ
يَرَى الْقَضَاءَ بِإِعَارَةِ الْجِدَارِ إِذَا امْتَنَعَ صَاحِبُهُ مَتَى
لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي الإِْعَارَةِ ضَرَرٌ، وَهُوَ قَوْل الإِْمَامِ
الشَّافِعِيِّ وَابْنِ كِنَانَةَ وَابْنِ حَنْبَلٍ.
وَمَا ذُكِرَ بِالنِّسْبَةِ لِلْعَرْصَةِ مِنْ جَوَازِ الرُّجُوعِ هُوَ
مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ.
وَجَعَل ابْنُ رُشْدٍ وَابْنُ زَرْقُونٍ حُكْمَ الْعَرْصَةِ جَارِيًا فِي
الْجِدَارِ أَيْضًا، لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَنْفَعَةٌ، وَرَجَّحَهُ
ابْنُ رِجَالٍ فَقَال: قَدْ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمَذْهَبَ لاَ فَرْقَ
بَيْنَ الْجِدَارِ وَالْعَرْصَةِ فِي أَنَّ لِكُلٍّ مِنْ صَاحِبَيْهِمَا
الرُّجُوعَ حَيْثُ لَمْ يُقَيَّدْ بِأَجَلٍ بَعْدَ أَنْ يُعْطِيَ
الْمُرْفِقُ كُلًّا مِنْهُمَا مَا أَنْفَقَهُ، وَإِلاَّ فَلَيْسَ لَهُ
الرُّجُوعُ إِلاَّ بَعْدَ مُدَّةٍ يَرْتَفِقُ فِيهَا الْمُعَارُ، فَهُنَاكَ
إِذَنْ رَأْيَانِ فِي جَوَازِ الرُّجُوعِ فِي الْعَرْصَةِ (2)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 182 - 183
(2) البهجة على التحفة 2 / 3 ط الإسلامية.
(3/16)
إِرْثٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الإِْرْثِ فِي اللُّغَةِ: الأَْصْل، وَالأَْمْرُ
الْقَدِيمُ تَوَارَثَهُ الآْخَرُ عَنِ الأَْوَّل، وَالْبَقِيَّةُ مِنْ كُل
شَيْءٍ. وَهَمْزَتُهُ أَصْلُهَا وَاوٌ (1) . وَيُطْلَقُ الإِْرْثُ
وَيُرَادُ مِنْهُ انْتِقَال الشَّيْءِ مِنْ قَوْمٍ إِلَى قَوْمٍ آخَرِينَ.
وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ مِنْهُ الْمَوْرُوثُ (2) . وَيُقَارِبُهُ عَلَى هَذَا
الإِْطْلاَقِ فِي الْمَعْنَى التَّرِكَةُ. وَعِلْمُ الْمِيرَاثِ -
وَيُسَمَّى أَيْضًا عِلْمَ الْفَرَائِضِ - هُوَ عِلْمٌ بِأُصُولٍ مِنْ
فِقْهٍ وَحِسَابٍ تُعَرِّفُ حَقَّ كُلٍّ فِي التَّرِكَةِ (3) . وَالإِْرْثُ
اصْطِلاَحًا: عَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْقَاضِي أَفْضَل الدِّينِ
الْخُونَجِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّهُ حَقٌّ قَابِلٌ لِلتَّجَزُّؤِ
يَثْبُتُ لِمُسْتَحِقِّهِ بَعْدَ مَوْتِ مَنْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ
لِقَرَابَةٍ بَيْنَهُمَا أَوْ نَحْوِهَا (4) .
__________
(1) القاموس المحيط 1 / 167
(2) العذب الفائض 1 / 16 وحاشية البقري 10
(3) الدر، وحاشية ابن عابدين 5 / 499، والشرح الكبير 4 / 456، ونهاية
المحتاج 6 / 2، والعذب الفائض 1 / 62
(4) العذب الفائض 1 / 16، وحاشية البقري 10
(3/17)
أَهَمِّيَّةُ الإِْرْثِ:
2 - مَعْرِفَةُ الْفَرَائِضِ مِنْ أَهَمِّ الْعُلُومِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ
أَرْكَانِ الدِّينِ. وَقَدْ حَثَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى تَعْلِيمِهَا وَتَعَلُّمِهَا. فَقَدْ رَوَى ابْنُ
مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ،
وَتَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ، فَإِنِّي امْرُؤٌ
مَقْبُوضٌ، وَسَيُقْبَضُ هَذَا الْعِلْمُ مِنْ بَعْدِي حَتَّى يَتَنَازَعَ
الرَّجُلاَنِ فِي فَرِيضَةٍ فَلاَ يَجِدَانِ مَنْ يَفْصِل بَيْنَهُمَا. (1)
وَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ مُذَاكَرَةِ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِذَا اجْتَمَعُوا
فِي عِلْمِ الْفَرَائِضِ وَمُدِحُوا عَلَى ذَلِكَ.
عَلاَقَةُ الإِْرْثِ بِالْفِقْهِ:
3 - وَالْفُقَهَاءُ فِي الْمَذَاهِبِ الإِْسْلاَمِيَّةِ حِينَ
يَتَكَلَّمُونَ عَنِ الْمِيرَاثِ يُعَنْوِنَونَ لِذَلِكَ فِي كُتُبِهِمْ
بِكِتَابِ الْفَرَائِضِ (2) . وَقَدْ أَفْرَدَهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِكُتُبٍ
مُسْتَقِلَّةٍ عَنْ كُتُبِ الْفِقْهِ. وَابْتَدَأَ ذَلِكَ مِنَ الْقَرْنِ
الثَّانِي لِلْهِجْرَةِ مَعَ ابْتِدَاءِ تَدْوِينِ الأَْحْكَامِ
الْفِقْهِيَّةِ.
وَمِنْ أَوَّل مَنْ أَلَّفَ الْكُتُبَ الْخَاصَّةَ بِأَحْكَامِ
الْفَرَائِضِ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ ابْنُ شُبْرُمَةَ
وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَبُو ثَوْرٍ.
وَكَانَتْ كُتُبُ الْفِقْهِ الْمُدَوَّنَةُ فِي هَذَيْنِ الْقَرْنَيْنِ
خَالِيَةً مِنْ أَحْكَامِ الْفَرَائِضِ مِثْل الْمُدَوَّنَةِ لِسَحْنُونٍ
__________
(1) حديث " تعلموا القرآن. . " أخرجه الحاكم (4 / 333 - ط دائرة المعارف
العثمانية) ، وأخرجه الترمذي مختصرا. (6 / 265 - تحفة الأحوذي - نشر
المكتبة السلفية) وقال. " هذا حديث فيه اضطراب "
(2) العذب الفائض 1 / 8، ونهاية المحتاج 6 / 2 نشر المكتبة الإسلامية،
والمغني 6 / 165 ط الرياض.
(3/17)
وَالْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَالْجَامِعِ
الصَّغِيرِ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَالأُْمِّ لِلإِْمَامِ
الشَّافِعِيِّ.
وَعَلَى الْخِلاَفِ مِنْ ذَلِكَ كَانَتْ كُتُبُ السُّنَّةِ، فَقَدْ
شَمِلَتْ أَحْكَامَ الْفَرَائِضِ مَعَ أَحْكَامِ الْفِقْهِ كَالْمُوَطَّأِ
وَمُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَصَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَصَحِيحِ
مُسْلِمٍ.
وَلَمْ تَبْدَأْ كُتُبُ الْفِقْهِ تَشْمَل أَحْكَامَ الْفَرَائِضِ إِلاَّ
فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ، مِثْل رِسَالَةِ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ مِنَ
الْمَالِكِيَّةِ وَمُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ،
وَاسْتَمَرَّ الأَْمْرُ كَذَلِكَ.
دَلِيل مَشْرُوعِيَّتِهِ:
4 - الْمِيرَاثُ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَآيَاتُ الْمَوَارِيثِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ
فَأَحَادِيثُ مِثْل قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَلأَِوْلَى رَجُلٍ
ذَكَرٍ (1) وَمِثْل ثُبُوتِ مِيرَاثِ الْجَدَّةِ لأُِمٍّ بِشَهَادَةِ
الْمُغِيرَةِ وَابْنِ سَلَمَةَ لَدَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَلَى أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَّثَهَا، وَلَمْ يَرِدْ
تَوْرِيثُهَا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ (2)
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ فَمِثْل إِرْثِ الْجَدَّةِ لأَِبٍ بِاجْتِهَادِ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الدَّاخِل فِي عُمُومِ الإِْجْمَاعِ، وَلاَ
مَدْخَل لِلْقِيَاسِ فِي ذَلِكَ.
__________
(1) حديث " ألحقوا الفرائض بأهلها. . . " أخرجه البخاري 12 / 11 - فتح
الباري - ط السلفية) ومسلم (3 / 1233 - ط عيسى الحلبي) .
(2) حديث توريث الجدة لأم. . أخرجه أبو داود (3 / 81 - ط المطبعة الأنصارية
بدهلي) ، والترمذي (6 / 277 - 278 - تحفة الأحوذي - نشر المكتبة السلفية)
وقد أعله ابن حجر وغيره بالانقطاع. (التلخيص الحبير 3 / 82 - ط شركة
الطباعة الفنية المتحدة بالقاهرة) . وحاشية ابن عابدين 5 / 499 ط الأميرية
الثالثة.
(3/18)
التَّدَرُّجُ فِي تَشْرِيعِ الْمِيرَاثِ:
5 - كَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ يَتَوَارَثُونَ بِشَيْئَيْنِ: النَّسَبُ
وَالسَّبَبُ.
فَأَمَّا مَا يَسْتَحِقُّ بِالنَّسَبِ فَلَمْ يَكُونُوا يُوَرِّثُونَ
الصِّغَارَ وَلاَ الإِْنَاثَ، وَإِنَّمَا يُوَرِّثُونَ مَنْ قَاتَل وَحَازَ
الْغَنِيمَةَ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
وَآخَرِينَ إِلَى أَنْ أَنْزَل اللَّهُ تَعَالَى {وَيَسْتَفْتُونَك فِي
النِّسَاءِ قُل اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} : إِلَى قَوْله تَعَالَى:
{وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ} (1) وَأَنْزَل اللَّهُ تَعَالَى
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ
الأُْنْثَيَيْنِ} . (2)
وَقَدْ كَانُوا بَعْدَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي
الْمُنَاكَحَاتِ وَالطَّلاَقِ وَالْمِيرَاثِ إِلَى أَنْ نُقِلُوا عَنْهُ
إِلَى غَيْرِهِ بِالشَّرِيعَةِ.
قَال ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَبَلَغَكَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّ النَّاسَ عَلَى مَا
أَدْرَكَهُمْ مِنْ طَلاَقٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ مِيرَاثٍ؟ ، قَال: لَمْ
يَبْلُغْنَا إِلاَّ ذَلِكَ (3) .
وَرَوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَال: بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ عَلَى أَمْرِ
جَاهِلِيَّتِهِمْ إِلَى أَنْ يُؤْمَرُوا بِشَيْءٍ أَوْ يُنْهَوْا عَنْهُ،
وَإِلاَّ فَهُمْ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ جَاهِلِيَّتِهِمْ.
وَكَانَ السَّبَبُ الَّذِي يَتَوَارَثُونَ بِهِ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا
الْحَلِفُ وَالْمُعَاقَدَةُ، وَالآْخَرُ التَّبَنِّي. ثُمَّ جَاءَ
الإِْسْلاَمُ فَتُرِكُوا بُرْهَةً مِنَ الدَّهْرِ عَلَى مَا كَانُوا
عَلَيْهِ، ثُمَّ نُسِخَ. فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُول: إِنَّهُمْ كَانُوا
يَتَوَارَثُونَ بِالْحَلِفِ وَالْمُعَاقَدَةِ بِنَصِّ التَّنْزِيل ثُمَّ
نُسِخَ، وَقَال
__________
(1) سورة النساء / 127
(2) سورة النساء / 11
(3) الجصاص 2 / 90
(3/18)
شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله
تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ (1) أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ
نَصِيبَهُمْ} : كَانَ الرَّجُل فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُعَاقِدُ الرَّجُل
فَيَقُول: دَمِي دَمُكَ، وَهَدْمِي هَدْمُكَ، وَتَرِثُنِي وَأَرِثُكَ،
وَتُطْلَبُ بِي وَأُطْلَبُ بِكَ. قَال: فَوَرَّثُوا السُّدُسَ فِي
الإِْسْلاَمِ مِنْ جَمِيعِ الأَْمْوَال، ثُمَّ يَأْخُذُ أَهْل الْمِيرَاثِ
مِيرَاثَهُمْ، ثُمَّ نُسِخَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَال اللَّهُ تَعَالَى:
{وَأُولُو الأَْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} . (2)
الْحُقُوقُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالتَّرِكَةِ وَالتَّرْتِيبُ بَيْنَهَا:
6 - مِنْ إِطْلاَقَاتِ الإِْرْثِ لُغَةً: التَّرِكَةُ (3) . وَهِيَ فِي
الاِصْطِلاَحِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: مَا تَرَكَهُ الْمَيِّتُ مِنْ
أَمْوَالٍ وَحُقُوقٍ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: هِيَ مَا تَرَكَهُ
الْمَيِّتُ مِنَ الأَْمْوَال صَافِيًا عَنْ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ
بِعَيْنٍ مِنَ الأَْمْوَال، فَالأَْصْل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ
الْحُقُوقَ لاَ يُورَثُ مِنْهَا إِلاَّ مَا كَانَ تَابِعًا لِلْمَال أَوْ
فِي مَعْنَى الْمَال، كَحَقِّ التَّعَلِّي وَحُقُوقِ الاِرْتِفَاقِ، أَمَّا
حَقُّ الْخِيَارِ وَحَقُّ الشُّفْعَةِ وَحَقُّ الاِنْتِفَاعِ بِالْعَيْنِ
الْمُوصَى بِهَا فَلاَ تُورَثُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (4) ، وَيَدْخُل فِي
التَّرِكَةِ اتِّفَاقًا الدِّيَةُ الْوَاجِبَةُ بِالْقَتْل الْخَطَأِ، أَوْ
بِالصُّلْحِ عَنِ الْعَمْدِ، أَوْ بِانْقِلاَبِ الْقِصَاصِ مَالاً بِعَفْوِ
بَعْضِ الأَْوْلِيَاءِ فَتُقْضَى مِنْهُ دُيُونُ الْمَيِّتِ وَتَنْفُذُ
وَصَايَاهُ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يُبْدَأُ مِنَ التَّرِكَةِ بِالدُّيُونِ
الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَعْيَانِهَا
__________
(1) سورة النساء / 33، وقرأ السبعة ما عدا عاصما وحمزة والكسائي (عاقدت)
وقرأ الثلاثة المذكورون (عقدت) الجصاص 2 / 90 - 91 ط البهية.
(2) سورة الأحزاب / 6 والمصدر السابق.
(3) القاموس
(4) نهاية المحتاج 6 / 3، العذب الفائض 1 / 13، الشرح الكبير 4 / 457
(3/19)
قَبْل الْوَفَاةِ كَالأَْعْيَانِ
الْمَرْهُونَةِ، لأَِنَّ الْمُوَرِّثَ فِي حَال حَيَاتِهِ لاَ يَمْلِكُ
التَّصَرُّفَ فِي الأَْعْيَانِ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْغَيْرِ،
فَأَوْلَى أَلاَّ يَكُونَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ بَعْدَ وَفَاتِهِ.
فَإِذَا كَانَتْ التَّرِكَةُ كُلُّهَا مَرْهُونَةً فِي دَيْنٍ فَإِنَّ
الْمُوَرِّثَ (الْمَيِّتَ) لاَ يُجَهَّزُ إِلاَّ بَعْدَ سَدَادِ الدَّيْنِ،
أَوْ فِيمَا يَفْضُل بَعْدَ سَدَادِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْضُل شَيْءٌ مِنَ
التَّرِكَةِ بَعْدَ سَدَادِ الدَّيْنِ يَكُونُ تَجْهِيزُهُ عَلَى مَنْ
كَانَتْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ فِي حَيَاتِهِ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الإِْنْسَانُ بُدِئَ بِتَكْفِينِهِ وَتَجْهِيزِهِ
مُقَدَّمًا عَلَى غَيْرِهِ، كَمَا تُقَدَّمُ نَفَقَةُ الْمُفْلِسِ عَلَى
دُيُونِ غُرَمَائِهِ، ثُمَّ بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ تُقْضَى
دُيُونُهُ مِنْ جَمِيعِ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ (2) .
7 - لَكِنْ اُخْتُلِفَ فِي الدُّيُونِ الَّتِي تُقْضَى بَعْدَ التَّجْهِيزِ
وَالتَّكْفِينِ:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الدَّيْنَ إِنْ كَانَ لِلْعِبَادِ
فَالْبَاقِي بَعْدَ تَجْهِيزِ الْمَيِّتِ إِنْ وَفَى بِهِ فَذَاكَ، وَإِنْ
لَمْ يَفِ فَإِنْ كَانَ الْغَرِيمُ وَاحِدًا يُعْطِي لَهُ الْبَاقِيَ.
وَمَا بَقِيَ لَهُ عَلَى الْمَيِّتِ إِنْ شَاءَ عَفَا، وَإِنْ شَاءَ
تَرَكَهُ إِلَى دَارِ الْجَزَاءِ.
وَإِنْ كَانَ الْغَرِيمُ مُتَعَدِّدًا، فَإِنْ كَانَ الْكُل دَيْنَ
الصِّحَّةِ - وَهُوَ مَا كَانَ ثَابِتًا بِالْبَيِّنَةِ أَوِ الإِْقْرَارِ
فِي زَمَانِ صِحَّةِ الْمَدِينِ - أَوْ كَانَ الْكُل دَيْنَ الْمَرَضِ -
وَهُوَ مَا كَانَ ثَابِتًا بِإِقْرَارِهِ فِي مَرَضِهِ - فَإِنَّهُ
يُصْرَفُ الْبَاقِي إِلَيْهِمْ عَلَى حَسَبِ مَقَادِيرِ دُيُونِهِمْ.
وَإِنِ اجْتَمَعَ الدَّيْنَانِ مَعًا يُقَدَّمُ دَيْنُ الصِّحَّةِ
لِكَوْنِهِ أَقْوَى، لأَِنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ
عَنِ التَّبَرُّعِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 463، 483، وشرح السراجية ص 4، والشرح الكبير 4 /
457، ونهاية المحتاج 6 / 7
(2) العذب الفائض 1 / 13 ط مصطفى الحلبي
(3/19)
بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، فَفِي
إِقْرَارِهِ حِينَئِذٍ نَوْعُ ضَعْفٍ.
وَأَمَّا إِذَا أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بِدَيْنٍ عُلِمَ ثُبُوتُهُ بِطَرِيقِ
الْمُعَايَنَةِ، كَاَلَّذِي يَجِبُ بَدَلاً عَنْ مَال مِلْكِهِ أَوِ
اسْتَهْلَكَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ دَيْنِ الصِّحَّةِ، إِذْ قَدْ عُلِمَ
وُجُوبُهُ بِغَيْرِ إِقْرَارِهِ، فَلِذَلِكَ سَاوَاهُ فِي الْحُكْمِ.
وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ - تَعَالَى - كَالصَّوْمِ
وَالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَحِجَّةِ الإِْسْلاَمِ وَالنَّذْرِ
وَالْكَفَّارَةِ، فَإِنْ أَوْصَى بِهِ الْمَيِّتُ وَجَبَ تَنْفِيذُهُ مِنْ
ثُلُثِ مَالِهِ الْبَاقِي بَعْدَ دَيْنِ الْعِبَادِ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ
لَمْ يَجِبْ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ تُقْضَى
دُيُونُ الْمَيِّتِ الَّتِي لآِدَمِيٍّ كَانَتْ بِضَامِنٍ أَمْ لاَ.
حَالَّةً كَانَتْ أَوْ مُؤَجَّلَةً لأَِنَّ الْمُؤَجَّلَةَ تَحِل
بِالْمَوْتِ، ثُمَّ هَدْيُ تَمَتُّعٍ إِنْ مَاتَ بَعْدَ رَمْيِ الْعَقَبَةِ
أَوْصَى بِهِ أَمْ لاَ، ثُمَّ زَكَاةُ فِطْرٍ فَرَّطَ فِيهَا،
وَكَفَّارَاتٌ فَرَّطَ فِيهَا، مِثْل كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالصَّوْمِ
وَالظِّهَارِ وَالْقَتْل إِذَا أَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ أَنَّهَا
بِذِمَّتِهِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهَا يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ الْمَال.
سَوَاءٌ أَوْصَى بِإِخْرَاجِهَا أَمْ لَمْ يُوصِ، لأَِنَّ الْمُقَرَّرَ
عِنْدَهُمْ أَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ مَتَى أَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ بِهَا
خَرَجَتْ مِنْ رَأْسِ الْمَال، أَوْصَى بِهَا أَمْ لاَ، فَإِنْ أَوْصَى
بِهَا، وَلَمْ يُشْهِدْ فَمِنَ الثُّلُثِ، وَمِثْل الْكَفَّارَاتِ
عِنْدَهُمْ الَّتِي أَشْهَدَ بِهَا زَكَاةُ عَيْنٍ حَلَّتْ وَأَوْصَى
بِهَا، وَزَكَاةُ مَاشِيَةٍ حَلَّتْ وَلاَ سَاعِيَ، وَلَمْ تُوجَدِ
السِّنُّ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا، فَإِنْ وُجِدَ فَهُوَ كَالدَّيْنِ
الْمُتَعَلِّقِ بِحَقٍّ فَيَجِبُ إِخْرَاجُهُ قَبْل الْكَفَنِ
وَالتَّجْهِيزِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهُ بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ
تُقْضَى الدُّيُونُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِذِمَّةِ الْمَيِّتِ مِنْ رَأْسِ
الْمَال سَوَاءٌ أَكَانَتْ لِلَّهِ - تَعَالَى - أَمْ لآِدَمِيٍّ أَوْصَى
بِهَا أَمْ لاَ،
__________
(1) شرح السراجية ص 5 وما بعدها ط مصطفى الحلبي حاشية الدسوقي 4 / 408 ط
دار الفكر.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 408 ط دار الفكر
(3/20)
لأَِنَّهَا حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ،
وَيُقَدَّمُ دَيْنُ اللَّهِ - تَعَالَى - كَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا عَلَى
دَيْنِ الآْدَمِيِّ. وَذَلِكَ فِيمَا إِذَا تَلِفَ الْمَال. فَلَوْ كَانَ
بَاقِيًا فَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الزَّكَاةِ فَتَخْرُجُ قَبْل
التَّجْهِيزِ كَمَا قَال الْمَالِكِيَّةُ، وَإِنْ كَانَتِ الدُّيُونُ
مُتَعَلِّقَةً بِعَيْنٍ قُدِّمَتْ عَلَى التَّجْهِيزِ (1) كَمَا سَبَقَ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ يُوفَى
حَقُّ مُرْتَهِنٍ لَدَيْهِ، ثُمَّ إِنْ فَضَل لِلْمُرْتَهِنِ شَيْءٌ مِنْ
دَيْنِهِ شَارَكَ الْغُرَمَاءَ، لأَِنَّهُ سَاوَاهُمْ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ
فَضَل شَيْءٌ مِنْ ثَمَنِ الرَّهْنِ رُدَّ عَلَى الْمَال لِيُقْسَمَ بَيْنَ
الْغُرَمَاءِ، ثُمَّ بَعْدَمَا سَبَقَ تُسَدَّدُ الدُّيُونُ غَيْرُ
الْمُتَعَلِّقَةِ بِالأَْعْيَانِ وَهِيَ الَّتِي ثَبَتَتْ فِي الذِّمَّةِ.
وَيَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِالتَّرِكَةِ كُلِّهَا وَإِنْ لَمْ
يَسْتَغْرِقْهَا الدَّيْنُ سَوَاءٌ أَكَانَ الدَّيْنُ لِلَّهِ - تَعَالَى -
كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْحَجِّ الْوَاجِبِ، أَمْ كَانَ
لآِدَمِيٍّ كَالْقَرْضِ وَالثَّمَنِ وَالأُْجْرَةِ، فَإِنْ زَادَتِ
الدُّيُونُ عَنِ التَّرِكَةِ وَلَمْ تَفِ بِدَيْنِ اللَّهِ - تَعَالَى -
وَدَيْنِ الآْدَمِيِّ يَتَحَاصُّونَ عَلَى نِسْبَةِ دُيُونِهِمْ كَمَال
الْمُفْلِسِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الدُّيُونُ لِلَّهِ - تَعَالَى - أَمْ
لِلآْدَمِيِّينَ أَمْ مُخْتَلِفَةً، ثُمَّ بَعْدَ الدَّيْنِ الْوَصِيَّةُ
لِلأَْجْنَبِيِّ - وَهُوَ مَنْ لَيْسَ بِوَارِثٍ - مِنْ ثُلُثِ مَا يَفِي
مِنَ الْمَال بَعْدَ الْحُقُوقِ الثَّلاَثَةِ، فَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ
لِوَارِثٍ فَلاَ بُدَّ مِنْ إِجَازَةِ بَاقِي الْوَرَثَةِ، وَإِنْ كَانَتْ
لأَِجْنَبِيٍّ فَمَا يَزِيدُ عَنِ الثُّلُثِ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ
كُل الْوَرَثَةِ (2) .
8 - وَالْفُقَهَاءُ مُجْمِعُونَ - كَمَا سَبَقَ - عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ
مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ، لِمَا قَالَهُ عَلِيٌّ: إِنَّ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى أَنَّ الدَّيْنَ قَبْل
الْوَصِيَّةِ، وَلأَِنَّ الدَّيْنَ تَسْتَغْرِقُهُ حَاجَتُهُ فَقُدِّمَ
كَمَئُونَةِ تَجْهِيزِهِ، ثُمَّ تَنْفُذُ وَصَايَاهُ.
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 76 وما بعدها
(2) العذب الفائض شرح عمدة الفارص ص 1 / 13
(3/20)
9 - وَإِنَّمَا قُدِّمَتْ الْوَصِيَّةُ فِي
الذِّكْرِ عَلَى الدَّيْنِ فِي الآْيَةِ {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي
بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (1) لأَِنَّهَا تُشْبِهُ الْمِيرَاثَ، لِكَوْنِهَا
مَأْخُوذَةً بِلاَ عِوَضٍ، فَيَشُقُّ إِخْرَاجُهَا عَلَى الْوَرَثَةِ،
فَكَانَتْ لِذَلِكَ مَظِنَّةً فِي التَّفْرِيطِ فِيهَا بِخِلاَفِ الدَّيْنِ
فَإِنَّ نُفُوسَهُمْ مُطْمَئِنَّةٌ إِلَى أَدَائِهِ، فَقُدِّمَ ذِكْرُهَا
حَثًّا عَلَى أَدَائِهَا، وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهَا مِثْلُهُ فِي
وُجُوبِ الأَْدَاءِ، أَوِ الْمُسَارَعَةِ إِلَيْهِ، وَلِذَلِكَ جِيءَ
بَيْنَهُمَا بِكَلِمَةِ التَّسْوِيَةِ، وَأَيْضًا إِذَا كَانَتِ
الْوَصِيَّةُ بِالتَّبَرُّعَاتِ وَلَيْسَ فِي التَّرِكَةِ وَفَاءٌ بِالْكُل
فَتَقْدِيمُهُ عَلَيْهَا ظَاهِرٌ، لأَِنَّ أَدَاءَ الدَّيْنِ فَرْضٌ
عَلَيْهِ يُجْبَرُ عَلَى أَدَائِهِ فِي حَال حَيَاتِهِ، وَالْوَصِيَّةُ
الْمَذْكُورَةُ تَطَوُّعٌ، وَلاَ شَكَّ أَنَّ الْفَرْضَ أَقْوَى (2) .
10 - ثُمَّ بَعْدَ التَّكْفِينِ وَالدَّيْنِ تَنْفُذُ الْوَصَايَا مِنْ
ثُلُثِ مَا بَقِيَ، وَذَلِكَ فِي الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ - عَدَا
خُوَاهَرْ زَادَهْ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - لاَ مِنْ أَصْل الْمَال، لأَِنَّ
مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّكْفِينِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ قَدْ صَارَ
مَصْرُوفًا فِي ضَرُورَاتِهِ الَّتِي لاَ بُدَّ لَهُ مِنْهَا، فَالْبَاقِي
هُوَ مَالُهُ الَّذِي كَانَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي ثُلُثِهِ، وَأَيْضًا
رُبَّمَا اسْتَغْرَقَ ثُلُثُ الأَْصْل جَمِيعَ الْبَاقِي، فَيُؤَدِّي إِلَى
حِرْمَانِ الْوَرَثَةِ بِسَبَبِ الْوَصِيَّةِ، وَهَذَا سَوَاءٌ أَكَانَتِ
الْوَصِيَّةُ مُطْلَقَةً أَمْ مُعَيَّنَةً، وَهُوَ الصَّحِيحُ.
11 - وَقَال شَيْخُ الإِْسْلاَمِ خُوَاهَرْ زَادَهْ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ:
إِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مُعَيَّنَةً كَانَتْ مُقَدَّمَةً عَلَى
الإِْرْثِ. وَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً كَأَنْ يُوصِيَ بِثُلُثِ مَالِهِ
أَوْ رُبُعِهِ كَانَتْ فِي مَعْنَى الْمِيرَاثِ لِشُيُوعِهَا فِي
التَّرِكَةِ، فَيَكُونُ الْمُوصَى لَهُ شَرِيكًا لِلْوَرَثَةِ لاَ
مُقَدَّمًا عَلَيْهِمْ، وَيَدُل عَلَى شُيُوعِهِ فِيهَا كَحَقِّ الْوَارِثِ
أَنَّهُ إِذَا زَادَ الْمَال بَعْدَ
__________
(1) سورة النساء / 11
(2) السراجية ص 4، 5
(3/21)
الْوَصِيَّةِ زَادَ عَلَى الْحَقَّيْنِ،
وَإِذَا نَقَصَ نَقَصَ عَنْهُمَا، حَتَّى إِذَا كَانَ مَالُهُ حَال
الْوَصِيَّةِ أَلْفًا مَثَلاً فَصَارَ أَلْفَيْنِ، فَلَهُ ثُلُثُ
الأَْلْفَيْنِ. وَإِنِ انْعَكَسَ فَلَهُ ثُلُثُ الأَْلْفِ (1) .
ثُمَّ بَعْدَ التَّكْفِينِ وَالدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ يُقْسَمُ الْبَاقِي
مِنْ مَال الْمَيِّتِ بَيْنَ وَرَثَتِهِ الَّذِينَ ثَبَتَ إِرْثُهُمْ
بِالْكِتَابِ وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الآْيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، أَوِ
الَّذِينَ ثَبَتَ إِرْثُهُمْ بِالنِّسْبَةِ مِثْل قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَطْعِمُوا الْجَدَّاتِ السُّدُسَ، أَوِ الَّذِينَ
ثَبَتَ إِرْثُهُمْ بِالإِْجْمَاعِ كَالْجَدِّ وَابْنِ الاِبْنِ وَبِنْتِ
الاِبْنِ وَسَائِرِ مَنْ عُلِمَ تَوْرِيثُهُمْ بِالإِْجْمَاعِ (2) .
أَرْكَانُ الإِْرْثِ:
12 - الرُّكْنُ لُغَةً جَانِبُ الشَّيْءِ الأَْقْوَى، وَفِي الاِصْطِلاَحِ
عِبَارَةٌ عَنْ جُزْءِ الْمَاهِيَّةِ (3) .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الإِْرْثَ يُطْلَقُ وَيُرَادُ مِنْهُ
الاِسْتِحْقَاقُ وَبِهَذَا الإِْطْلاَقِ لَهُ أَرْكَانٌ ثَلاَثَةٌ إِنْ
وُجِدَتْ كُلُّهَا تَحَقَّقَتِ الْوِرَاثَةُ، وَإِنْ فُقِدَ رُكْنٌ مِنْهَا
فَلاَ إِرْثَ.
أَوَّلُهَا: الْمُورَثُ وَهُوَ الْمَيِّتُ أَوِ الْمُلْحَقُ
بِالأَْمْوَاتِ.
وَثَانِيهَا: الْوَارِثُ وَهُوَ الْحَيُّ بَعْدَ الْمُورَثِ أَوِ
الْمُلْحَقُ بِالأَْحْيَاءِ.
وَثَالِثُهَا: الْمَوْرُوثُ (أَيِ التَّرِكَةُ) وَهُوَ لاَ يَخْتَصُّ
__________
(1) السراجية ص 6، 7، والشرح الصغير 4 / 618، وحاشية الدسوقي 4 / 458،
ونهاية المحتاج 6 / 7، والعذب الفائض 1 / 15.
(2) المراجع السابقة. وحديث أطعموا الجدات أورده الجرجاني في شرح السراجية
ص 7 ط مصطفى الحلبي، وأخرجه مالك وأحمد والأربعة من حديث المغيرة ومحمد بن
مسلمة بلفظ " شهدت النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس وصححه ابن حبان
والحاكم (نصب الراية 4 / 428)
(3) القاموس والعذب الفائض 1 / 16
(3/21)
بِالْمَال، بَل يَشْمَل الْمَال
وَغَيْرَهُ.
وَعَلَى هَذَا فَمَنْ مَاتَ وَلَهُ وَارِثٌ وَلاَ مَال لَهُ فَلاَ إِرْثَ
(1) ، وَكَذَلِكَ مَنْ مَاتَ وَلاَ وَارِثَ لَهُ فَلاَ إِرْثَ أَيْضًا
عِنْدَ مَنْ لاَ يَرَى بَيْتَ الْمَال وَارِثًا، كَمَا سَيَأْتِي.
شُرُوطُ الْمِيرَاثِ:
13 - الشُّرُوطُ جَمْعُ شَرْطٍ وَهُوَ لُغَةً الْعَلاَمَةُ. وَاصْطِلاَحًا
مَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ
وُجُودٌ وَلاَ عَدَمٌ لِذَاتِهِ (2) ، وَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْمَاهِيَّةِ.
(وَلِلإِْرْثِ شُرُوطٌ ثَلاَثَةٌ) :
أَوَّلُهَا: تَحَقُّقُ مَوْتِ الْمُورَثِ أَوْ إِلْحَاقُهُ بِالْمَوْتَى
حُكْمًا كَمَا فِي الْمَفْقُودِ إِذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِمَوْتِهِ أَوْ
تَقْدِيرًا كَمَا فِي الْجَنِينِ الَّذِي انْفَصَل بِجِنَايَةٍ عَلَى
أُمِّهِ تُوجِبُ غُرَّةً.
ثَانِيهَا: تَحَقُّقُ حَيَاةِ الْوَارِثِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُورَثِ، أَوْ
إِلْحَاقُهُ بِالأَْحْيَاءِ تَقْدِيرًا، كَحَمْلٍ انْفَصَل حَيًّا حَيَاةً
مُسْتَقِرَّةً لِوَقْتٍ يَظْهَرُ مِنْهُ وُجُودُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَلَوْ
نُطْفَةً عَلَى تَفْصِيلٍ سَيَأْتِي فِي مِيرَاثِ الْحَمْل.
ثَالِثُهَا: الْعِلْمُ بِالْجِهَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلإِْرْثِ مِنْ
زَوْجِيَّةٍ أَوْ قَرَابَةٍ أَوْ وَلاَءٍ، وَتَعَيُّنُ جِهَةِ الْقَرَابَةِ
مِنْ بُنُوَّةٍ أَوْ أُبُوَّةٍ أَوْ أُمُومَةٍ أَوْ أُخُوَّةٍ أَوْ
عُمُومَةٍ، وَالْعِلْمُ بِالدَّرَجَةِ الَّتِي اجْتَمَعَ الْمَيِّتُ
وَالْوَارِثُ فِيهَا (3) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 482 ط بولاق الأولى، والتحفة الخيرية (الشنثورية) ص 47
ط الحلبي، والعذب الفائض 1 / 16 ط الحلبي.
(2) العذب الفائض 1 / 17
(3) ابن عابدين 5 / 483 ط بولاق، والتحفة ص 47 ط الحلبي والعذب الفائض 1 /
17، 18 ط الحلبي.
(3/22)
أَسْبَابُ الإِْرْثِ:
14 - السَّبَبُ لُغَةً مَا يُتَوَصَّل بِهِ إِلَى غَيْرِهِ. وَاصْطِلاَحًا:
مَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ وَمِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ
لِذَاتِهِ.
أَسْبَابُ الإِْرْثِ أَرْبَعَةٌ، ثَلاَثَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ
الأَْئِمَّةِ الأَْرْبَعَةِ، وَالرَّابِعُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
فَالثَّلاَثَةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا: النِّكَاحُ، وَالْوَلاَءُ،
وَالْقَرَابَةُ، وَيُعَبِّرُ عَنْهَا الْحَنَفِيَّةُ بِالرَّحِمِ،
وَالرَّابِعُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ هُوَ جِهَةُ الإِْسْلاَمِ، وَاَلَّذِي
يَرِثُ بِهَذَا السَّبَبِ - عِنْدَ مَنْ قَال بِهِ وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ - هُوَ بَيْتُ الْمَال عَلَى تَفْصِيلٍ فِيهِ (1) .
وَكُل سَبَبٍ مِنَ الأَْسْبَابِ الْمَذْكُورَةِ يُفِيدُ الإِْرْثَ عَلَى
الاِسْتِقْلاَل (2)
مَوَانِعُ الإِْرْثِ:
15 - الْمَانِعُ: مَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْعَدَمُ (3) .
وَمَوَانِعُ الإِْرْثِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا بَيْنَ الأَْئِمَّةِ
الأَْرْبَعَةِ ثَلاَثَةٌ: الرِّقُّ، وَالْقَتْل، وَاخْتِلاَفُ الدِّينِ،
وَاخْتَلَفُوا فِي ثَلاَثَةٍ أُخْرَى وَهِيَ: الرِّدَّةُ، وَاخْتِلاَفُ
الدَّارَيْنِ، وَالدَّوْرُ الْحُكْمِيُّ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مِنَ الْمَوَانِعِ جَهْل تَأَخُّرِ مَوْتِ
الْوَارِثِ عَنْ مَوْتِ الْمُورَثِ وَاللِّعَانُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ
عِنْدَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذِهِ الْمَوَانِعِ
كُلِّهَا (4) .
__________
(1) العذب الفائض 1 / 18، وشرح الرحبية للمارديني ص 18 ط صبيح
(2) ابن عابدين 5 / 486 ط الأميرية والتحفة ص 49 وما بعدها والعذب الفائض 1
/ 18 وما بعدها.
(3) العذب الفائض 1 / 23
(4) شرح الرحبية ص 23
(3/22)
الرِّقُّ:
16 - اتَّفَقَ الأَْئِمَّةُ الأَْرْبَعَةُ عَلَى أَنَّ الرِّقَّ الْكَامِل
يَمْنَعُ مِنَ الْمِيرَاثِ. وَذَلِكَ لأَِنَّ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ مِنَ
الْمَال فَهُوَ لِمَوْلاَهُ. فَلَوْ وَرَّثْنَاهُ مِنْ أَقْرِبَائِهِ
لَوَقَعَ الْمِلْكُ لِسَيِّدِهِ، فَيَكُونُ تَوْرِيثًا لِلأَْجْنَبِيِّ
بِلاَ سَبَبٍ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ إِجْمَاعًا (1) .
الْقَتْل:
17 - اتَّفَقَ الأَْئِمَّةُ الأَْرْبَعَةُ عَلَى أَنَّ الْقَتْل الَّذِي
يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقِصَاصُ يَمْنَعُ الْقَاتِل الْبَالِغَ الْعَاقِل مِنَ
الْمِيرَاثِ إِذَا كَانَ الْقَتْل مُبَاشِرًا (2) . وَاخْتَلَفُوا فِي
الْمُرَادِ بِالْقَتْل الَّذِي يُوجِبُ الْقِصَاصَ، كَمَا اخْتَلَفُوا
فِيمَا إِذَا كَانَ الْقَاتِل صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ غَيْرَ
مُبَاشِرٍ لِلْقَتْل أَوْ كَانَ الْقَتْل خَطَأً. فَذَهَبَ الأَْئِمَّةُ
الثَّلاَثَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ
الْقَتْل الْعُدْوَانَ الْعَمْدَ الْمُوجِبَ لِلْقِصَاصِ: هُوَ أَنْ
يَقْصِدَ الْجَانِي مَنْ يَعْلَمُهُ آدَمِيًّا مَعْصُومًا فَيَقْتُلَهُ
بِمَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ مَوْتُهُ بِهِ.
وَذَهَبَ الإِْمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْقَتْل الْعَمْدَ
الَّذِي يُوجِبُ الْقِصَاصَ: مَا يَكُونُ بِضَرْبَةِ سِلاَحٍ أَوْ مَا
يَجْرِي مَجْرَاهُ فِي تَفْرِيقِ الأَْجْزَاءِ كَالْمُحَدَّدِ مِنَ
الْخَشَبِ أَوِ الْحَجَرِ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْقَتْل شِبْهَ
الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ يَمْنَعُ مِنَ الْمِيرَاثِ، وَالْقَتْل شِبْهُ
الْعَمْدِ: كَأَنْ يَتَعَمَّدَ الْقَاتِل ضَرْبَ الْمَقْتُول بِمَا لاَ
يُقْتَل بِهِ غَالِبًا، وَمُوجِبُهُ عِنْدَ جَمِيعِ الْحَنَفِيَّةِ
الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَالإِْثْمُ وَالْكَفَّارَةُ.
وَالْخَطَأُ كَأَنْ رَمَى إِلَى الصَّيْدِ فَأَصَابَ إِنْسَانًا، أَوِ
__________
(1) السراجية ص 18 ط الحلبي، والشرح الكبير 4 / 485 ط الحلبي، والتحفة ص 57
ط الحلبي، والعذب الفائض 1 / 23
(2) السراجية ص 19، والعذب الفائض 1 / 28
(3/23)
انْقَلَبَ عَلَيْهِ فِي النَّوْمِ
فَقَتَلَهُ، أَوْ وَطِئَتْهُ دَابَّةٌ، وَهُوَ رَاكِبُهَا أَوْ سَقَطَ مِنْ
سَطْحٍ عَلَيْهِ، أَوْ سَقَطَ عَلَيْهِ حَجَرٌ مِنْ يَدِهِ فَمَاتَ.
وَمُوجِبُهُ الْكَفَّارَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَلاَ إِثْمَ
فِيهِ. وَفِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ كُلِّهَا يُحْرَمُ الْقَاتِل مِنَ
الْمِيرَاثِ عِنْدَهُمْ إِذَا لَمْ يَكُنْ الْقَتْل بِحَقٍّ (1) .
وَإِذَا كَانَ الْقَتْل بِالسَّبَبِ دُونَ الْمُبَاشَرَةِ كَحَافِرِ
الْبِئْرِ أَوْ وَاضِعِ الْحَجَرِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، أَوْ كَانَ
الْقَاتِل صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا فَلاَ حِرْمَانَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
بِالْقَتْل فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الأَْرْجَحِ إِلَى أَنَّ
الْقَاتِل عَمْدًا مُبَاشِرًا أَوْ مُتَسَبِّبًا يُمْنَعُ مِنَ الْمِيرَاثِ
مِنَ الْمَال وَالدِّيَةِ وَلَوْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا، وَإِنْ
أَتَى بِشُبْهَةٍ تَدْفَعُ الْقِصَاصَ كَرَمْيِ الْوَالِدِ وَلَدَهُ
بِحَجَرٍ فَمَاتَ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ رَأْيٌ آخَرُ هُوَ أَنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ
وَالْمَجْنُونِ كَالْخَطَأِ، فَيَرِثُ مِنَ الْمَال دُونَ الدِّيَةِ،
وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ عِنْدَهُمْ (3) . وَأَمَّا إِذَا قَتَل مُورَثُهُ
قِصَاصًا أَوْ حَدًّا أَوْ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ فَلاَ يُحْرَمُ مِنَ
الْمِيرَاثِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (4)
.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ كُل مَنْ لَهُ مَدْخَلٌ فِي الْقَتْل
يُمْنَعُ مِنَ الْمِيرَاثِ، وَلَوْ كَانَ الْقَتْل بِحَقٍّ كَمُقْتَصٍّ،
وَإِمَامٍ، وَقَاضٍ، وَجَلاَّدٍ بِأَمْرِ الإِْمَامِ وَالْقَاضِي وَشَاهِدٍ
وَمُزَكٍّ. وَيُحْرَمُ الْقَاتِل وَلَوْ قَتَل بِغَيْرِ قَصْدٍ كَنَائِمٍ
وَمَجْنُونٍ وَطِفْلٍ وَلَوْ قَصَدَ بِهِ مَصْلَحَةً كَضَرْبِ الأَْبِ
ابْنَهُ لِلتَّأْدِيبِ، وَفَتْحِهِ الْجَرْحَ
__________
(1) السراجية ص 18، والشرح الكبير 4 / 486، والعذب الفائض 1 / 29
(2) السراجية ص 18
(3) حاشية الدسوقي 4 / 486
(4) المراجع السابقة
(3/23)
لِلْمُعَالَجَةِ، وَقَالُوا: لَوْ قَال
الْمَقْتُول: وَرِّثُوهُ فَهُوَ وَصِيَّةٌ.
وَلَوْ سَقَطَ مُتَوَارِثَانِ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ وَأَحَدُهُمَا
فَوْقَ الآْخَرِ فَمَاتَ الأَْسْفَل لَمْ يَرِثْهُ الأَْعْلَى، لأَِنَّهُ
قَاتِلٌ. وَإِنْ مَاتَ الأَْعْلَى وَرِثَهُ الأَْسْفَل لأَِنَّهُ غَيْرُ
قَاتِلٍ لَهُ (1) .
اسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنْ عَدَمِ
الْحِرْمَانِ بِالْقَتْل بِالتَّسَبُّبِ، وَمِنْ عَدَمِ حِرْمَانِ
الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ بِأَنَّ الْقَاتِل بِالتَّسَبُّبِ لَيْسَ
بِقَاتِلٍ حَقِيقَةً، لأَِنَّهُ لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ وَوَقَعَ
فِيهَا مُورَثُهُ فَمَاتَ فَلاَ يُؤَاخَذُ عَلَى ذَلِكَ بِشَيْءٍ.
وَالْقَاتِل يُؤَاخَذُ بِفِعْلِهِ سَوَاءٌ أَكَانَ فِي مِلْكِهِ أَمْ فِي
غَيْرِ مِلْكِهِ كَالرَّامِي. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقَتْل لاَ يَتِمُّ
إِلاَّ بِمَقْتُولٍ وَقَدِ انْعَدَمَ حَال التَّسَبُّبِ. فَإِنَّ حَفْرَهُ
مَثَلاً قَدِ اتَّصَل بِالأَْرْضِ دُونَ الْحَيِّ، وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ
يُجْعَل قَاتِلاً حَال الْوُقُوعِ فِي الْبِئْرِ؛ إِذْ رُبَّمَا كَانَ
الْحَافِرُ حِينَئِذٍ مَيِّتًا. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَاتِلاً حَقِيقَةً
لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ جَزَاءُ الْقَتْل، وَهُوَ الْحِرْمَانُ مِنَ
الْمِيرَاثِ وَالْكَفَّارَةِ. وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لاَ يُحْرَمَانِ
مِنَ الْمِيرَاثِ بِالْقَتْل، لأَِنَّ الْحِرْمَانَ جَزَاءٌ لِلْقَتْل
الْمَحْظُورِ، وَفِعْلُهُمَا مِمَّا لاَ يَصْلُحُ أَنْ يُوصَفَ بِالْحَظْرِ
شَرْعًا، إِذْ لاَ يُتَصَوَّرُ تَوَجُّهُ خِطَابِ الشَّارِعِ إِلَيْهِمَا.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحِرْمَانَ بِاعْتِبَارِ التَّقْصِيرِ فِي
التَّحَرُّزِ، وَلاَ يُتَصَوَّرُ نِسْبَةُ التَّقْصِيرِ إِلَيْهِمَا (2) .
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ بِحَدِيثِ لَيْسَ لِلْقَاتِل مِنَ الْمِيرَاثِ
شَيْءٌ وَفَسَّرُوهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ لِمَنْ لَهُ مَدْخَلٌ فِي الْقَتْل
شَيْءٌ مِنَ الإِْرْثِ.
وَالْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ خَوْفُ اسْتِعْجَال الْوَارِثِ لِلإِْرْثِ
__________
(1) التحفة الخيرية ص 56
(2) السراجية ص 19 وما بعدما
(3/24)
بِقَتْل مُورَثِهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ،
وَهُوَ مَا إِذَا قَتَلَهُ عَمْدًا فَاقْتَضَتِ الْمَصْلَحَةُ حِرْمَانَهُ
مِنَ الإِْرْثِ، عَمَلاً بِقَاعِدَةِ: مَنَ اسْتَعْجَل بِشَيْءٍ قَبْل
أَوَانِهِ عُوقِبَ بِحِرْمَانِهِ، وَالاِسْتِعْجَال إِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ
ظَنِّهِ، وَبِالنَّظَرِ لِلظَّاهِرِ وَسَدِّ بَابِ الْقَتْل فِي بَاقِي
الصُّوَرِ، وَهُوَ مَا إِذَا كَانَ الْقَتْل بِغَيْرِ قَصْدٍ كَمَا فِي
النَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ وَالطِّفْل.
وَلاَ مَدْخَل لِلْمُفْتِي فِي الْقَتْل وَلَوْ أَخْطَأَ فِي الإِْفْتَاءِ
وَإِنْ كَانَ عَلَى مُعَيَّنٍ، لأَِنَّ إِفْتَاءَهُ غَيْرُ مُلْزِمٍ، وَلاَ
رَاوِي الْحَدِيثِ، وَلاَ الْقَاتِل بِالْعَيْنِ، وَلاَ مَنْ أَتَى
لاِمْرَأَتِهِ بِلَحْمٍ فَأَكَلَتْ مِنْهُ حَيَّةٌ ثُمَّ أَكَلَتْ مِنْهُ
الزَّوْجَةُ فَمَاتَتْ.
وَأَمَّا مَنْ شَهِدَ عَلَى مُورَثٍ بِمُقْتَضَى جَلْدٍ فَجُلِدَ فَمَاتَ
فَلِلنَّظَرِ فِيهِ مَجَالٌ، لَكِنْ ظَاهِرُ إِطْلاَقِهِمْ مَنْعُهُ
بِذَلِكَ (1) .
اخْتِلاَفُ الدِّينَيْنِ:
18 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ قَوْل أَبِي طَالِبٍ مِنَ
الْحَنَابِلَةِ وَقَوْل عَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَكْثَرِ
الصَّحَابَةِ إِلَى أَنَّ الْكَافِرَ لاَ يَرِثُ الْمُسْلِمَ حَتَّى وَلَوْ
أَسْلَمَ قَبْل قِسْمَةِ التَّرِكَةِ، لأَِنَّ الْمَوَارِيثَ قَدْ وَجَبَتْ
لأَِهْلِهَا بِمَوْتِ الْمُورَثِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الاِرْتِبَاطُ بَيْنَ
الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ بِالْقَرَابَةِ أَمْ بِالنِّكَاحِ أَمْ
بِالْوَلاَءِ.
وَذَهَبَ الإِْمَامُ أَحْمَدُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ
قَبْل قِسْمَةِ التَّرِكَةِ وَرِثَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: مَنْ أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ لَهُ (2) وَلأَِنَّ فِي
تَوْرِيثِهِ تَرْغِيبًا فِي الإِْسْلاَمِ.
__________
(1) التحفة الخيرية ص 56 وما بعدها
(2) حديث " من أسلم على شيء فهو له " أخرجه البيهقي (9 / 113 - ط دائرة
المعارف العثمانية) وسعيد بن منصور في سننه (رقم 189 مطبعة علي بريس الهند)
(3/24)
كَمَا ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْكَافِرَ
يَرِثُ عَتِيقَهُ الْمُسْلِمَ (1) .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لاَ
يَرِثُ الْكَافِرَ.
وَذَهَبَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ
وَالْحَسَنُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ
بْنِ الْحُسَيْنِ وَمَسْرُوقٌ إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ يَرِثُ الْكَافِرَ.
اسْتَدَل الأَْئِمَّةُ الأَْرْبَعَةُ عَلَى مَذْهَبِهِمْ بِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَتَوَارَثُ أَهْل مِلَلٍ شَتَّى (2)
وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لاَ يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ
وَلاَ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ. (3)
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِتَوْرِيثِ الْمُسْلِمِ مِنَ الْكَافِرِ
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: الإِْسْلاَمُ يَعْلُو وَلاَ
يُعْلَى (4) وَمِنَ الْعُلُوِّ أَنْ يَرِثَ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ.
وَفَسَّرَ الْمَانِعُونَ الْحَدِيثَ بِأَنَّ نَفْسَ الإِْسْلاَمِ هُوَ
الَّذِي يَعْلُو، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إِنْ ثَبَتَ الإِْسْلاَمُ عَلَى
وَجْهٍ وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ وَيَعْلُو.
أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ الْعُلُوُّ بِحَسَبِ الْحُجَّةِ أَوْ بِحَسَبِ
الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ. أَيِ النُّصْرَةِ فِي الْعَاقِبَةِ
لِلْمُسْلِمِينَ (5) .
إِرْثُ الْمُرْتَدِّ:
19 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ فِي أَنَّ الْمُرْتَدَّ -
وَهُوَ مَنْ تَرَكَ الإِْسْلاَمَ بِإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ - لاَ
يَرِثُ
__________
(1) العذب الفائض 1 / 31
(2) حديث (لا يتوارث أهل ملتين شتى) أخرجه أبو داود 3 / 85 - عون المعبود -
طبع المطبعة الأنصارية بدهلي) وابن ماجه (رقم 2731 ط عيسى الحلبي) وأحمد (2
/ 178، 195 - ط الميمنية) من حديث عبد الله بن عمرو
(3) رواه أحمد والبخاري ومسلم
(4) حديث (الإسلام يعلو ولا يعلى) . أخرجه الدارقطني (3 / 252 - ط دار
المحاسن بمصر) والبيهقي (6 / 205 - ط دائرة المعارف العثمانية) وحسنه
الحافظ ابن حجر وفتح الباري (3 / 220 - ط السلفية)
(5) السراجية ص 74، 75
(3/25)
أَحَدًا مِمَّنْ يَجْمَعُهُ وَإِيَّاهُمْ
سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْمِيرَاثِ، لاَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ مِنْ
أَهْل الدِّينِ الَّذِي انْتَقَل إِلَيْهِ، أَوْ أَيِّ دِينٍ آخَرَ
خِلاَفُهُ، لأَِنَّهُ لاَ يُقَرُّ عَلَى الدِّينِ الَّذِي انْتَقَل
إِلَيْهِ، وَلأَِنَّهُ صَارَ فِي حُكْمِ الْمَيِّتِ. وَكَذَلِكَ
الْمُرْتَدَّةُ لاَ تَرِثُ أَحَدًا، لأَِنَّ حُكْمَ الإِْسْلاَمِ فِي
الْمُرْتَدِّ إِنْ كَانَ رَجُلاً هُوَ أَنْ يَتُوبَ وَيَرْجِعَ إِلَى
الإِْسْلاَمِ أَوْ يُقْتَل إِنْ أَصَرَّ عَلَى رِدَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ
امْرَأَةً فَإِنَّهَا تُحْبَسُ حَتَّى تَتُوبَ أَوْ يُدْرِكَهَا الْمَوْتُ،
وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ مَعْنَى مُطْلَقًا لأََنْ يُقَال بِأَنَّهُ يَرِثُ
أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ.
أَمَّا كَوْنُهُ يُورَثُ فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ،
وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - قَال
الْقَاضِي: هِيَ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ - أَنَّ الْمُرْتَدَّ لاَ
يَرِثُهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرُهُمْ مِمَّنِ انْتَقَل
إِلَى دِينِهِمْ بَل مَالُهُ كُلُّهُ - إِنْ مَاتَ أَوْ قُتِل عَلَى
رِدَّتِهِ - يَكُونُ فَيْئًا وَحَقًّا لِبَيْتِ الْمَال.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ
أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ قَوْل أَبِي بَكْرٍ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ،
وَابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَالْحَسَنِ، وَعُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالشَّعْبِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالأَْوْزَاعِيِّ،
وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَاسْتَدَل لِهَذَا الْقَوْل بِفِعْل الْخَلِيفَتَيْنِ
الرَّاشِدَيْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَعَلِيٍّ، وَلأَِنَّ رِدَّتَهُ يَنْتَقِل
بِهَا مَالُهُ فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَقِل إِلَى وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ
كَمَا لَوِ انْتَقَل بِالْمَوْتِ (1) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُرْتَدِّ
وَالْمُرْتَدَّةِ، فَالْمُرْتَدَّةُ يَرِثُهَا أَقَارِبُهَا مِنَ
الْمُسْلِمِينَ وَيَرِثُونَ
__________
(1) الشرح الكبير 4 / 486، والتحفة ص 61، والعذب الفائض ص 34، والمغني 6 /
300 و 8 / 128
(3/25)
كُل مَالِهَا، سَوَاءٌ مَا اكْتَسَبَتْهُ
حَال إِسْلاَمِهَا أَوْ حَال رِدَّتِهَا.
أَمَّا الْمُرْتَدُّ فَإِنَّ وَرَثَتَهُ الْمُسْلِمِينَ يَرِثُونَ مِنْهُ
مَا اكْتَسَبَهُ فِي زَمَانِ إِسْلاَمِهِ. وَلاَ يَرِثُونَ مَا اكْتَسَبَهُ
فِي زَمَانِ رِدَّتِهِ. وَيَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ (1) لَكِنْ هَل
يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ كَانُوا مَوْجُودِينَ وَقْتَ
رِدَّتِهِ أَوْ وَقْتَ مَوْتِهِ أَوْ لَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ؟ أَوْ
مَنْ كَانُوا مَوْجُودِينَ وَقْتَ رِدَّتِهِ وَوَقْتَ مَوْتِهِ؟
اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنِ الإِْمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ.
فَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّ الْوَارِثَ لِلْمُرْتَدِّ مَنْ كَانَ
وَارِثًا لَهُ وَقْتَ رِدَّتِهِ وَبَقِيَ إِلَى مَوْتِ الْمُرْتَدِّ،
أَمَّا مَنْ حَدَثَتْ لَهُ صِفَةُ الْوِرَاثَةِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلاَ
يَرِثُهُ، فَلَوْ أَسْلَمَ بَعْضُ قَرَابَتِهِ بَعْدَ رِدَّتِهِ أَوْ
وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ مِنْ عُلُوقٍ حَادِثٍ بَعْدَ رِدَّتِهِ، فَإِنَّهُ لاَ
يَرِثُهُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، لأَِنَّ سَبَبَ التَّوْرِيثِ هُنَا
الرِّدَّةُ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ ذَلِكَ لَمْ يَنْعَقِدْ
لَهُ سَبَبُ الاِسْتِحْقَاقِ، وَتَمَامُ الاِسْتِحْقَاقِ بِالْمَوْتِ،
فَيُشْتَرَطُ بَقَاءُ الْوَارِثِ إِلَى حِينِ تَمَامِ السَّبَبِ.
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْهُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ وُجُودُ
الْوَارِثِ وَقْتَ الرِّدَّةِ، وَلاَ يَبْطُل اسْتِحْقَاقُهُ بِمَوْتِهِ
قَبْل مَوْتِ الْمُرْتَدِّ، لأَِنَّ الرِّدَّةَ فِي حُكْمِ التَّوْرِيثِ
كَالْمَوْتِ، وَمَنْ مَاتَ مِنَ الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُورَثِ
قَبْل قِسْمَةِ مِيرَاثِهِ لاَ يَبْطُل اسْتِحْقَاقُهُ وَيَحِل وَارِثُهُ
مَحَلَّهُ.
وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عَنْهُ، وَهُوَ الأَْصَحُّ، أَنَّهُ يُعْتَبَرُ
مَنْ يَكُونُ وَارِثًا لَهُ حِينَ مَاتَ أَوْ قُتِل، سَوَاءٌ أَكَانَ
مَوْجُودًا وَقْتَ الرِّدَّةِ أَمْ حَدَثَ بَعْدَهُ، لأَِنَّ الْحَادِثَ
بَعْدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ قَبْل تَمَامِهِ يُعْتَبَرُ كَالْمَوْجُودِ
عِنْدَ ابْتِدَاءِ
__________
(1) السراجية ص 75
(3/26)
السَّبَبِ، مِثْل الزِّيَادَةِ الَّتِي
تَحْدُثُ فِي الْمَبِيعِ قَبْل الْقَبْضِ؛ إِذْ تُجْعَل كَالْمَوْجُودِ
عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ فَتَكُونُ مَعْقُودًا عَلَيْهَا بِالْقَبْضِ،
وَيَكُونُ لَهَا حِصَّةٌ مِنَ الثَّمَنِ، فَكَذَلِكَ الأَْمْرُ هُنَا.
وَاعْتَبَرَ الإِْمَامُ مُحَمَّدٌ لَحَاقَ الْمُرْتَدِّ بِدَارِ الْحَرْبِ
بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ، فَتُقْسَمُ تَرِكَتُهُ مِنْ حِينِ اللَّحَاقِ.
وَاعْتَبَرَ الإِْمَامُ أَبُو يُوسُفَ مَنْ يَكُونُ وَارِثًا لَهُ حِينَ
قَضَاءِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ، وَتَرِثُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ إِنْ مَاتَ
حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ عَلَى رَأْيِ
الصَّاحِبَيْنِ، لأَِنَّ النِّكَاحَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُرْتَدِّ
وَإِنِ ارْتَفَعَ بِالرِّدَّةِ لَكِنَّهُ فَارٌّ عَنْ مِيرَاثِهَا.
وَامْرَأَةُ الْفَارِّ تَرِثُ إِذَا كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ وَقْتَ
مَوْتِهِ.
وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنِ الإِْمَامِ تَرِثُ وَإِنْ كَانَتْ
عِنْدَ مَوْتِهِ مُنْقَضِيَةَ الْعِدَّةِ، لأَِنَّ سَبَبَ التَّوْرِيثِ
كَانَ مَوْجُودًا فِي حَقِّهَا عِنْدَ رِدَّتِهِ؛ إِذْ عَلَى هَذِهِ
الرِّوَايَةِ يُعْتَبَرُ قِيَامُ السَّبَبِ عِنْدَ أَوَّل الرِّدَّةِ (1) .
اخْتِلاَفُ الدِّينِ بَيْنَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ:
20 - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
وَرِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الْكُفَّارَ يَتَوَارَثُونَ
فِيمَا بَيْنَهُمْ، لأَِنَّهُمْ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، فَيَرِثُ الْيَهُودِيُّ
النَّصْرَانِيَّ وَالْعَكْسُ، وَيَرِثُ الْمَجُوسِيُّ وَعَابِدُ الْوَثَنِ
النَّصْرَانِيَّ وَالْيَهُودِيَّ وَيَرِثُهُمَا الْمَجُوسِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُمْ مِلَلٌ، فَلاَ
يَتَوَارَثُ أَهْل الْمِلَل بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ فَلاَ يَرِثُ
الْيَهُودِيُّ النَّصْرَانِيَّ وَلاَ الْعَكْسُ (2) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي قَوْلٍ مُرَجَّحٍ وَنُسِبَ إِلَى الإِْمَامِ
__________
(1) المبسوط 10 / 102، 103 ط 2 دار المعرفة بلبنان
(2) الشنشورية وشرحها ص 60
(3/26)
أَحْمَدَ أَنَّ الْكُفْرَ ثَلاَثُ مِلَلٍ:
النَّصَارَى مِلَّةٌ، وَالْيَهُودُ مِلَّةٌ، وَمَنْ عَدَاهُمَا مِلَّةٌ،
وَهُوَ قَوْل الْقَاضِي شُرَيْحٍ وَعَطَاءٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ وَالضَّحَّاكِ وَالْحَكَمِ وَشَرِيكِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى
وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَوَكِيعٍ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ رَأْيٌ آخَرُ مُرَجَّحٌ أَيْضًا وَهُوَ ظَاهِرُ
الْمُدَوَّنَةِ، وَهُوَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى
مِلَّةٌ، وَأَنَّ مَا سِوَاهُمَا مِلَلٌ مُخْتَلِفَةٌ. وَذُكِرَ فِي بَعْضِ
كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ.
وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى
يَتَوَارَثُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَلاَ يَرِثُهُمُ الْمَجُوسُ وَلاَ
يَرِثُ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى الْمَجُوسَ.
وَاسْتَدَل الْمَانِعُونَ مِنَ الْمِيرَاثِ فِيمَا بَيْنَ الْكُفَّارِ
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لاَ يَتَوَارَثُ أَهْل
مِلَّتَيْنِ شَتَّى (1) وَهُمْ أَهْل مِلَلٍ مُخْتَلِفَةٍ بِدَلِيل قَوْله
تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى} (2) فَقَدْ عَطَفَ
النَّصَارَى عَلَى الَّذِينَ هَادُوا، وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي
الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَقَال
تَعَالَى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْك الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى
تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (3) وَالْيَهُودُ لاَ تَرْضَى إِلاَّ بِاتِّبَاعِ
الْيَهُودِيَّةِ مَعَهُمْ وَالنَّصَارَى كَذَلِكَ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى
أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ مِلَّةً عَلَى حِدَةٍ، وَلأَِنَّ
النَّصَارَى يُقِرُّونَ بِنُبُوَّةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَالإِْنْجِيل، وَالْيَهُودُ يَجْحَدُونَ ذَلِكَ.
وَاسْتَدَل ابْنُ أَبِي لَيْلَى بِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى
اتَّفَقُوا عَلَى دَعْوَى التَّوْحِيدِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ نِحَلُهُمْ
__________
(1) تقدم (هامش ف 18)
(2) سورة البقرة / 63
(3) سورة البقرة / 120
(3/27)
فِي ذَلِكَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى
الإِْقْرَارِ بِنُبُوَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالتَّوْرَاةِ،
بِخِلاَفِ الْمَجُوسِ فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْتَقِدُونَ التَّوْحِيدَ وَلاَ
يُقِرُّونَ بِنُبُوَّةِ مُوسَى وَلاَ بِكِتَابٍ مُنَزَّلٍ، وَلاَ
يُوَافِقُهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَلَى ذَلِكَ فَكَانُوا أَهْل
مِلَّتَيْنِ، وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ حِل الذَّبِيحَةِ وَالْمُنَاكَحَةِ
فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي ذَلِكَ شَيْءٌ وَاحِدٌ، إِذْ تَحِل
ذَبَائِحُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ بِخِلاَفِ الْمَجُوسِ.
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى
- جَعَل الدِّينَ دِينَيْنِ، الْحَقَّ وَالْبَاطِل فَقَال اللَّهُ عَزَّ
وَجَل {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينٌ} (1) وَجَعَل النَّاسَ فَرِيقَيْنِ
فَقَال: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} (2) .
وَفَرِيقُ الْجَنَّةِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَفَرِيقُ السَّعِيرِ هُمُ
الْكُفَّارُ جَمِيعُهُمْ، وَجَعَل الْخَصْمَ خَصْمَيْنِ فَقَال تَعَالَى:
{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} (3) وَالْمُرَادُ
الْكُفَّارُ جَمِيعًا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ
مِلَلٌ مُخْتَلِفَةٌ وَلَكِنَّهُمْ عِنْدَ مُقَابَلَتِهِمْ
بِالْمُسْلِمِينَ أَهْل مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ، لأَِنَّ الْمُسْلِمِينَ
يُقِرُّونَ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَبِالْقُرْآنِ وَجَمِيعُهُمْ يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَبِإِنْكَارِهِمْ
كَفَرُوا، فَكَانُوا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ مِلَّةً وَاحِدَةً فِي
الشِّرْكِ. وَيُشِيرُ إِلَى هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: لاَ يَتَوَارَثُ أَهْل مِلَّتَيْنِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ الْمِلَّتَيْنِ قَوْلُهُ: لاَ يَرِثُ
الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلاَ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ، إِذْ فِي
التَّنْصِيصِ عَلَى الْوَصْفِ الْعَامِّ وَهُوَ الْكُفْرُ بَيَانُ
أَنَّهُمْ فِي حُكْمِ التَّوْرِيثِ أَهْل مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ (4) .
__________
(1) سورة الكافرين / 6
(2) سورة الشورى / 7
(3) سورة الحج / 19
(4) المبسوط 30 / 30 وما بعدها ط السعادة، والحديث تقدم (هامش ف 18)
(3/27)
اخْتِلاَفُ الدَّارَيْنِ بَيْنَ غَيْرِ
الْمُسْلِمِينَ:
21 - يَقْصِدُ الْفُقَهَاءُ بِاخْتِلاَفِ الدَّارَيْنِ اخْتِلاَفَ
الْمَنَعَةِ، وَفَسَّرُوا الْمَنَعَةَ بِالْعَسْكَرِ وَاخْتِلاَفِ
الْمَلِكِ وَالسُّلْطَانِ، كَأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا بِالْهِنْدِ وَلَهُ
دَارٌ وَمَنَعَةٌ وَالآْخَرُ فِي التُّرْكِ وَلَهُ دَارٌ وَمَنَعَةٌ
أُخْرَى، وَانْقَطَعَتْ بَيْنَهُمَا الْعِصْمَةُ حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمَا
يَسْتَحِل قَتْل الآْخَرِ (1) .
وَمِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ
يَتَوَارَثُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مَهْمَا اخْتَلَفَتْ دِيَارُهُمْ
وَدُوَلُهُمْ وَجِنْسِيَّاتُهُمْ، لأَِنَّ دِيَارَ الإِْسْلاَمِ كُلَّهَا
دَارٌ وَاحِدَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}
(2) ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُسْلِمُ أَخُو
الْمُسْلِمِ (3) وَلأَِنَّ وِلاَيَةَ كُل مُسْلِمٍ هِيَ لِلإِْسْلاَمِ
وَتَنَاصُرُهُمْ يَكُونُ بِهِ وَلَهُ.
وَالْعِبْرَةُ فِي ذَلِكَ لاِخْتِلاَفِ الدَّارَيْنِ حُكْمًا لاَ
حَقِيقَةً، فَإِذَا مَاتَ الْمُسْلِمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَرِثَهُ
أَقَارِبُهُ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ وَإِنْ
وُجِدَ اخْتِلاَفُ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً، لأَِنَّ الْمُسْلِمَ الَّذِي
فِي دَارِ الْحَرْبِ هُوَ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ حُكْمًا، لأَِنَّهُ دَخَل
دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ لِيَقْضِيَ غَرَضَهُ ثُمَّ يَعُودَ إِلَى دَارِ
الإِْسْلاَمِ فَوُجِدَ اتِّحَادُ الدَّارَيْنِ حُكْمًا. وَالاِخْتِلاَفُ
الْحَقِيقِيُّ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ إِذَا لَمْ يُعَارِضْهُ اخْتِلاَفٌ
حُكْمِيٌّ (4) .
وَكَذَلِكَ لاَ يَمْنَعُ اخْتِلاَفُ الدَّارَيْنِ مِنَ الْمِيرَاثِ
بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ
الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَيَرِثُ غَيْرُ
الْمُسْلِمِ قَرِيبَهُ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 489
(2) سورة الحجرات / 10
(3) حديث (المسلم أخو المسلم) أخرجه البخاري (5 / 97 - فتح الباري - ط
السلفية) ومسلم (4 / 1996 - ط عيسى الحلبي)
(4) حاشية الفناري على السراجية ص 79 وما بعدها.
(3/28)
غَيْرَ الْمُسْلِمِ مَهْمَا اخْتَلَفَتْ
دُوَلُهُمْ وَجِنْسِيَّاتُهُمْ؛ إِذْ لاَ يُوجَدُ دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ
مِنَ الْمِيرَاثِ بَعْدَ تَحَقُّقِ سَبَبِهِ وَشَرْطِهِ (1) .
وَعِنْدَ الإِْمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الرَّاجِحُ فِي مَذْهَبِ
الشَّافِعِيَّةِ، وَعِنْدَ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّ اخْتِلاَفَ
الدَّارَيْنِ يَمْنَعُ مِنَ التَّوَارُثِ بَيْنَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ،
وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِعَدَمِ وُجُودِ التَّنَاصُرِ وَالْمُوَالاَةِ
بَيْنَهُمَا لاِخْتِلاَفِ دَوْلَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَالْمُوَالاَةُ
وَالتَّنَاصُرُ أَسَاسُ الْمِيرَاثِ (2) .
22 - وَهُنَاكَ مَوَانِعُ أُخْرَى فِي بَعْضِ الْمَذَاهِبِ، وَهِيَ
اللِّعَانُ وَالزِّنَى، وَلَكِنَّ هَذَيْنِ الْمَانِعَيْنِ يَدْخُلاَنِ فِي
عَدَمِ ثُبُوتِ النَّسَبِ، وَفِي انْتِفَاءِ الزَّوْجِيَّةِ بِاللِّعَانِ.
الدَّوْرُ الْحُكْمِيُّ:
23 - عِنْدَ الإِْمَامِ الشَّافِعِيِّ مِنْ مَوَانِعِ الإِْرْثِ، الدَّوْرُ
الْحُكْمِيُّ، وَهُوَ أَنْ يَلْزَمَ مِنَ التَّوْرِيثِ عَدَمُهُ، وَذَلِكَ
بِأَنْ يُقِرَّ حَائِزٌ لِلْمَال فِي ظَاهِرِ الْحَال بِمَنْ يَحْجُبُهُ
حِرْمَانًا، كَمَا إِذَا أَقَرَّ أَخٌ لأَِبٍ يَصِحُّ إِقْرَارُهُ بِابْنٍ
لِلْمُتَوَفَّى مَجْهُول النَّسَبِ؛ إِذْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَثْبُتُ
نَسَبُ الْقَرَابَةِ وَلَكِنْ لاَ يَرِثُ. إِذْ يَلْزَمُ مِنْ تَوْرِيثِهِ
الدَّوْرُ الْحُكْمِيُّ، لأَِنَّهُ لَوْ وَرِثَ الاِبْنُ لَحَجَبَ الأَْخَ.
فَلاَ يَكُونُ الأَْخُ وَارِثًا فَلاَ يَصِحُّ إِقْرَارُهُ، وَإِذَا لَمْ
يَصِحَّ إِقْرَارُهُ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ
النَّسَبُ، لَمْ يَثْبُتِ الإِْرْثُ. فَإِثْبَاتُ الإِْرْثِ يُؤَدِّي إِلَى
نَفْيِهِ، وَمَا أَدَّى بِإِثْبَاتِهِ إِلَى نَفْيِهِ انْتَفَى مِنْ
أَصْلِهِ، وَلاَ يَكُونُ
__________
(1) الشرح الكبير 4 / 486، والعذب الفائض 1 / 37، ونهاية المحتاج 6 / 37
(2) حاشية الفناري ص 79، ونهاية المحتاج 6 / 37، والعذب الفائض 1 / 37
(3/28)
الدَّوْرُ الْحُكْمِيُّ إِلاَّ إِذَا كَانَ
الْمُقِرُّ حَائِزًا لِلْمَال، وَأَقَرَّ بِمَنْ يَحْجُبُهُ حِرْمَانًا
وَإِلاَّ فَلاَ، كَمَا إِذَا أَقَرَّ بَنُونَ بِابْنٍ آخَرَ أَوْ إِخْوَةٌ
بِأَخٍ آخَرَ، أَوْ أَعْمَامٌ بِعَمٍّ آخَرَ، فَإِنَّ نَسَبَ الْمُقَرِّ
بِهِ يَثْبُتُ، وَكَذَلِكَ إِرْثُهُ، لأَِنَّ الإِْرْثَ فَرْعُ النَّسَبِ
وَقَدْ ثَبَتَ، وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُ الاِبْنَيْنِ الْحَائِزَيْنِ بِابْنٍ
ثَالِثٍ وَأَنْكَرَهُ الاِبْنُ الآْخَرُ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ الاِبْنِ
الثَّالِثِ الْمُقَرِّ بِهِ إِجْمَاعًا، وَلاَ يَرِثُ ظَاهِرًا لِعَدَمِ
النَّسَبِ، وَيُشَارِكُ الْمُقَرُّ بِهِ بَاطِنًا عَلَى الأَْظْهَرِ مِنْ
قَوْلَيِ الإِْمَامِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَال الأَْئِمَّةُ
الثَّلاَثَةُ: أَحْمَدُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ رَحِمَهُمْ اللَّهُ
تَعَالَى: يُشَارِكُهُ ظَاهِرًا مُؤَاخَذَةً لَهُ بِإِقْرَارِهِ،
وَالْقَوْل الثَّانِي مِنْ قَوْلَيِ الإِْمَامِ الشَّافِعِيِّ لاَ
يُشَارِكُهُ بَاطِنًا وَلاَ ظَاهِرًا، وَعَلَى الأَْظْهَرِ يُشَارِكُهُ فِي
ثُلُثِ مَا فِي يَدِهِ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ
مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، لأَِنَّهُ الَّذِي
اسْتَفْضَلَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ
يُشَارِكُهُ فِي نِصْفِ مَا فِي يَدِهِ، لأَِنَّ مُقْتَضَى إِقْرَارِهِ
التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ قَوْل الإِْمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ
وَرِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ (1) .
24 - الْمُسْتَحِقُّونَ لِلتَّرِكَةِ:
1 - أَصْحَابُ الْفُرُوضِ.
2 - الْعَصَبَاتُ النَّسَبِيَّةُ. ثُمَّ الْعَصَبَاتُ السَّبَبِيَّةُ -
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - عَلَى خِلاَفٍ فِي التَّرْتِيبِ وَالتَّفْصِيل.
3 - الْمُسْتَحِقُّونَ بِالرَّدِّ، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ فِيمَنْ
يُرَدُّ عَلَيْهِ وَمَنْ لاَ يُرَدُّ، وَفِي الرَّدِّ عَلَى أَحَدِ
الزَّوْجَيْنِ.
4 - ذَوُو الأَْرْحَامِ، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ فِي أَصْل
تَوْرِيثِهِمْ وَكَيْفِيَّتِهِ.
__________
(1) الخطيب الشربيني مع حاشية البجيرمي 3 / 261 - وفتح الجواد شرح الإرشاد
1 / 411 ط الحلبي، والعذب الفائض 1 / 38، 39
(3/29)
5 - مَوْلَى الْمُوَالاَةِ، عَلَى خِلاَفٍ
وَتَفْصِيلٍ فِيهِ.
6 - الْمُقَرُّ لَهُ بِالنَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ، عَلَى خِلاَفٍ
وَتَفْصِيلٍ.
7 - الْمُوصَى لَهُ بِمَا زَادَ عَنِ الثُّلُثِ.
8 - بَيْتُ الْمَال (1) :
الْفُرُوضُ الْمُقَدَّرَةُ:
25 - الْفُرُوضُ الْمُقَدَّرَةُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى سِتَّةٌ
هِيَ: النِّصْفُ، وَالرُّبُعُ، وَالثُّمُنُ، وَالثُّلُثَانِ، وَالثُّلُثُ،
وَالسُّدُسُ.
الأَْوَّل: النِّصْفُ: وَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ثَلاَثَةِ
مَوَاضِعَ: نَصِيبُ الْبِنْتِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَتْ
وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} (2) وَنَصِيبُ الزَّوْجِ فِي قَوْله
تَعَالَى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ
لَهُنَّ وَلَدٌ} (3) وَنَصِيبُ الأُْخْتِ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنِ
امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا
تَرَكَ} . (4)
الثَّانِي: الرُّبُعُ فِي مَوْضِعَيْنِ: فِي قَوْله تَعَالَى مِيرَاثِ
الأَْزْوَاجِ: {فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ} (5)
وَالزَّوْجَاتِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا
تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ} . (6)
الثَّالِثُ: الثُّمُنُ: ذُكِرَ فِي قَوْله تَعَالَى فِي نَصِيبِ
الزَّوْجَاتِ: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ} . (7)
__________
(1) شرح السراجية ص 11، وشرح الرحبية ص 10 ط محمد علي صبيح.
(2) سورة النساء / 11
(3) سورة النساء / 12
(4) سورة النساء / 17
(5) سورة النساء / 12
(6) سورة النساء / 12
(7) سورة النساء / 12
(3/29)
الرَّابِعُ: الثُّلُثَانِ: ذَكَرَهُ
اللَّهُ تَعَالَى فِي نَصِيبِ الْبَنَاتِ بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ كُنَّ
نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} . (1)
الْخَامِسُ: الثُّلُثُ: وَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي
قَوْله تَعَالَى: {فَلأُِمِّهِ الثُّلُثُ} (2) وَفِي أَوْلاَدِ الأُْمِّ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ
شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} . (3)
وَالسَّادِسُ: السُّدُسُ: وَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ثَلاَثَةِ
مَوَاضِعَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلأَِبَوَيْهِ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
السُّدُسُ} (4) وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُِمِّهِ
السُّدُسُ} (5) وَفِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ
كَلاَلَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا السُّدُسُ} . (6)
أَصْحَابُ الْفُرُوضِ:
26 - يَسْتَحِقُّ الْفُرُوضَ السَّابِقَةَ اثْنَا عَشَرَ شَخْصًا،
أَرْبَعَةٌ مِنَ الرِّجَال، وَثَمَانِيَةٌ مِنَ النِّسَاءِ.
فَالرِّجَال هُمْ: الأَْبُ، وَالْجَدُّ الصَّحِيحُ (أَبُو الأَْبِ) وَإِنْ
عَلاَ، وَالأَْخُ لأُِمٍّ، وَالزَّوْجُ.
وَالنِّسَاءُ هُنَّ: الزَّوْجَةُ، وَالْبِنْتُ، وَبِنْتُ الاِبْنِ وَإِنْ
نَزَلَتْ، وَالأُْخْتُ الشَّقِيقَةُ، وَالأُْخْتُ لأَِبٍ، وَالأُْخْتُ
لأُِمٍّ، وَالأُْمُّ، وَالْجَدَّةُ الصَّحِيحَةُ، وَهِيَ الَّتِي لاَ
يَدْخُل فِي نِسْبَتِهَا إِلَى الْمَيِّتِ جَدٌّ فَاسِدٌ أَيْ:
__________
(1) سورة النساء / 11
(2) سورة النساء / 11
(3) سورة النساء / 12
(4) سورة النساء / 11
(5) سورة النساء / 11
(6) سورة النساء / 12
(3/30)
رَحِمِيٌّ، وَهُوَ مَنْ يُدْلِي إِلَى
الْمَيِّتِ بِأُنْثَى.
وَيُسَمَّى الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ أَصْحَابَ الْفُرُوضِ السَّبَبِيَّةِ،
إِذْ إِنَّ مِيرَاثَهُمَا بِسَبَبِ الزَّوَاجِ لاَ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ.
وَيُسَمَّى مَنْ عَدَاهُمَا - وَهُمُ الأَْقَارِبُ - أَصْحَابَ الْفُرُوضِ
النَّسَبِيَّةِ، لأَِنَّ الْقَرَابَةَ تُسَمَّى نَسَبًا.
وَقَدْ يَجْتَمِعُ الإِْرْثُ بِالْفَرْضِ مَعَ الإِْرْثِ بِالتَّعْصِيبِ.
وَأَصْحَابُ الْفُرُوضِ يَرِثُونَ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَحْجُبُهُمْ
مِنَ الْمِيرَاثِ حَجْبَ حِرْمَانٍ.
أَحْوَال الأَْبِ فِي الْمِيرَاثِ:
27 - لِلأَْبِ فِي الْمِيرَاثِ ثَلاَثُ حَالاَتٍ:
الأُْولَى: أَنْ يَرِثَ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ فَقَطْ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ
لِلْمَيِّتِ فَرْعٌ وَارِثٌ مُذَكَّرٌ، وَهُوَ الاِبْنُ وَابْنُ الاِبْنِ
وَإِنْ نَزَل، وَمِيرَاثُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ السُّدُسُ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَرِثَ بِالْفَرْضِ وَبِالتَّعْصِيبِ مَعًا، وَذَلِكَ
إِذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ فَرْعٌ وَارِثٌ مُؤَنَّثٌ وَهُوَ الْبِنْتُ
وَبِنْتُ الاِبْنِ مَهْمَا نَزَل أَبُوهَا.
وَإِنَّمَا وَرِثَ الأَْبُ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ أَوَّلاً، ثُمَّ بِطَرِيقِ
التَّعْصِيبِ، لأَِنَّهُ لَوْ وَرِثَ بِطَرِيقِ التَّعْصِيبِ فَقَطْ لَمْ
يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، فَكَانَ لاَ بُدَّ مِنْ أَنْ
يَرِثَ أَوَّلاً بِطَرِيقِ الْفَرْضِ حَتَّى يَضْمَنَ السُّدُسَ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَرِثَ بِطَرِيقِ التَّعْصِيبِ فَقَطْ، وَذَلِكَ إِذَا
لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ فَرْعٌ وَارِثٌ مُطْلَقًا، فَيَأْخُذُ التَّرِكَةَ
كُلَّهَا، أَوِ الْبَاقِيَ مِنْهَا بَعْدَ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ.
وَالدَّلِيل عَلَى مَا ذُكِرَ قَوْله تَعَالَى: {وَلأَِبَوَيْهِ لِكُل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ
لَمْ
(3/30)
يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ
فَلأُِمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُِمِّهِ السُّدُسُ}
. (1)
فَإِنَّ الآْيَةَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ نَصِيبَ كُلٍّ مِنَ الأَْبِ
وَالأُْمِّ السُّدُسُ فِي تَرِكَةِ الْمُتَوَفَّى إِنْ كَانَ لَهُ
مَعَهُمَا وَلَدٌ سَوَاءٌ أَكَانَ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى، فَإِنْ كَانَ
هَذَا الْوَلَدُ ابْنًا كَانَ لَهُ الْبَاقِي بَعْدَ الأَْبَوَيْنِ،
لأَِنَّهُ أَقْرَبُ الْعَصَبَاتِ وَأَحَقُّهُمْ بِمِيرَاثِ الْبَاقِي
بَعْدَ سِهَامِ. ذَوِي الْفُرُوضِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ
فَلأَِوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ (2) وَعَلَى ذَلِكَ يَكُونُ مِيرَاثُ الأَْبِ
هُوَ السُّدُسَ فَرْضًا، وَهَذِهِ هِيَ الْحَالَةُ الأُْولَى مِنْ حَالاَتِ
الأَْبِ.
وَإِنْ كَانَ وَلَدُ الْمُتَوَفَّى بِنْتًا، أَوْ بِنْتَ ابْنٍ وَإِنْ
نَزَل وَلَمْ يَكُنْ مَعَهَا فَرْعٌ ذَكَرٌ يُعَصِّبُهَا كَانَ الْبَاقِي -
بَعْدَ نَصِيبِ الْبِنْتِ أَوْ بِنْتِ الاِبْنِ - لِلأَْبِ مَعَ السُّدُسِ
الَّذِي هُوَ فَرْضُهُ. وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِهِ أَقْرَبُ الْعَصَبَاتِ
إِلَى الْمُتَوَفَّى، وَهَذِهِ هِيَ الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُتَوَفَّى وَلَدٌ مُطْلَقًا وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ
فَقَطْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِخْوَةٌ كَانَ لأُِمِّهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ
الثُّلُثُ، وَيَكُونُ الْبَاقِي وَهُوَ الثُّلُثَانِ لِلأَْبِ بِطَرِيقِ
التَّعْصِيبِ وَهِيَ الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ، لأَِنَّ الآْيَةَ ذَكَرَتْ
فَرْضَ الأُْمِّ وَهُوَ الثُّلُثُ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ الإِْخْوَةِ،
وَالسُّدُسَ عِنْدَ وُجُودِ الإِْخْوَةِ، وَلَمْ تَذْكُرْ فَرْضًا لِلأَْبِ
عِنْدَ عَدَمِ الإِْخْوَةِ، فَكَانَ مَدْلُول ذَلِكَ أَنَّ الأَْبَ يَرِثُ
الْبَاقِيَ بَعْدَ نَصِيبِ الأُْمِّ، لأَِنَّ ذَلِكَ شَأْنُ الْعَصَبَاتِ،
وَالأَْحْكَامُ الْمَذْكُورَةُ مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ فُقَهَاءِ
الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ (3) .
__________
(1) سورة النساء / 11
(2) الحديث تقدم (هامش ف 4)
(3) الفناري على السراجية 89 وما بعدها
(3/31)
مِيرَاثُ الأُْمِّ:
28 - لِلأُْمِّ فِي الْمِيرَاثِ ثَلاَثُ حَالاَتٍ:
أَوَّلُهَا: أَنْ تَرِثَ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ وَيَكُونَ فَرْضُهَا
السُّدُسَ. وَذَلِكَ إِذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ فَرْعٌ يَرِثُ بِطَرِيقِ
الْفَرْضِ أَوِ التَّعْصِيبِ أَوْ جَمْعٌ مِنَ الإِْخْوَةِ.
وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَلأَِبَوَيْهِ لِكُل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} (1) ، وَلَفْظُ
الْوَلَدِ يَتَنَاوَل الذَّكَرَ وَالأُْنْثَى وَلاَ قَرِينَةَ تُخَصِّصُهُ
بِأَحَدِهِمَا، كَمَا يَتَنَاوَل الْوَاحِدَ وَالْجَمْعَ، وَفِي حُكْمِ
الْوَلَدِ وَلَدُ الاِبْنِ، وَإِنْ نَزَل، لأَِنَّ لَفْظَ الْوَلَدِ
يَتَنَاوَلُهُ، وَلأَِنَّ الإِْجْمَاعَ عَلَى أَنَّ وَلَدَ الاِبْنِ
يَقُومُ مَقَامَ وَلَدِ الصُّلْبِ فِي تَوْرِيثِ الأُْمِّ، وَالْمُرَادُ
مِنَ الإِْخْوَةِ الاِثْنَانِ مِنَ الإِْخْوَةِ أَوَ الأَْخَوَاتِ
فَأَكْثَرُ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَا مِنْ جِهَةِ الأَْبَوَيْنِ أَوْ مِنْ
جِهَةِ الأَْبِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الأُْمِّ وَلَوْ مَحْجُوبَيْنِ،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُِمِّهِ السُّدُسُ}
(2) وَلَفْظُ الإِْخْوَةِ يَتَنَاوَل الْكُل لِلاِشْتِرَاكِ فِي
الأُْخُوَّةِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورُ
الْفُقَهَاءِ، خِلاَفًا لاِبْنِ عَبَّاسٍ فَإِنَّهُ يَجْعَل الثَّلاَثَةَ
مِنَ الإِْخْوَةِ وَالأَْخَوَاتِ حَاجِبَةً لِلأُْمِّ دُونَ الاِثْنَيْنِ،
فَلَهَا مَعَهُمَا الثُّلُثُ عِنْدَهُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الآْيَةَ
نَصَّتْ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَحْجُبُ الأُْمَّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى
السُّدُسِ هُمُ الإِْخْوَةُ وَهُوَ جَمْعٌ يُطْلَقُ عَلَى الثَّلاَثَةِ
فَصَاعِدًا وَلاَ يُطْلَقُ عَلَى الاِثْنَيْنِ. وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ:
أَوَّلاً: أَنَّ حُكْمَ الاِثْنَيْنِ فِي الْمِيرَاثِ حُكْمُ الْجَمْعِ
بِدَلِيل أَنَّ الْبِنْتَيْنِ تَرِثَانِ الثُّلُثَيْنِ كَالْجَمْعِ مِنَ
الْبَنَاتِ، وَالأُْخْتَيْنِ تَرِثَانِ الثُّلُثَيْنِ كَالأَْخَوَاتِ
فَيَكُونُ الاِثْنَانِ مِنَ الإِْخْوَةِ كَالْجَمْعِ فِي الْحَجْبِ.
__________
(1) سورة النساء / 11
(2) سورة النساء / 11
(3/31)
ثَانِيًا: أَنَّ الْجَمْعَ قَدْ يُطْلَقُ
عَلَى الْمُثَنَّى وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ {وَهَل
أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُوا
عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى
بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} (1) فَقَدْ تَكَرَّرَ عَوْدُ الضَّمِيرِ - وَهُوَ
جَمْعٌ - عَلَى الْمُثَنَّى وَهُمَا الْخَصْمَانِ.
وَكَذَلِكَ عَبَّرَ بِالْجَمْعِ عَنِ الْمُثَنَّى فِي قَوْله تَعَالَى:
{إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (2) وَرُوِيَ
أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ دَخَل عَلَى عُثْمَانَ فَقَال لَهُ: لِمَ صَارَ
الأَْخَوَانِ يَرُدَّانِ الأُْمَّ إِلَى السُّدُسِ؟ وَقَدْ قَال اللَّهُ
تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} وَالأَْخَوَانِ فِي لِسَانِ
قَوْمِكَ لَيْسَا بِإِخْوَةٍ فَقَال عُثْمَانُ: هَل أَسْتَطِيعُ نَقْضَ
أَمْرٍ كَانَ قَبْلِي وَتَوَارَثَهُ النَّاسُ وَمَضَى فِي الأَْمْصَارِ (3)
. وَرُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ
الأُْمَّ لاَ تُحْجَبُ بِالإِْنَاثِ فَقَطْ، فَلاَ تُحْجَبُ مِنَ الثُّلُثِ
إِلَى السُّدُسِ إِلاَّ بِالإِْخْوَةِ الذُّكُورِ أَوِ الذُّكُورِ مَعَ
الإِْنَاثِ، لأَِنَّ (إِخْوَةٌ) فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ كَانَ لَهُ
إِخْوَةٌ} جَمْعُ ذُكُورٍ فَلاَ يَدْخُل فِيهِ الإِْنَاثُ وَحْدَهُنَّ.
وَقَال الْمُخَالِفُونَ: إِنَّ لَفْظَ الإِْخْوَةِ يَشْمَل الأَْخَوَاتِ
الْمُنْفَرِدَاتِ مِنْ بَابِ التَّغْلِيبِ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَرِثَ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ وَيَكُونَ
فَرْضُهَا هُوَ ثُلُثَ التَّرِكَةِ كُلِّهَا، وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ
لِلْمَيِّتِ فَرْعٌ وَارِثٌ، وَلاَ عَدَدٌ مِنَ الإِْخْوَةِ، وَلَيْسَ فِي
الْوَرَثَةِ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهَا إِلاَّ الأَْبُ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلأَِبَوَيْهِ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ
مِمَّا
__________
(1) سورة ص / 21، 22
(2) سورة التحريم / 4
(3) حاشية الفناري ص 128. والتحفة ص 83
(3/32)
تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ
يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُِمِّهِ الثُّلُثُ} . (1)
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَرِثَ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ وَيَكُونَ
فَرْضُهَا هُوَ ثُلُثَ الْبَاقِي مِنَ التَّرِكَةِ بَعْدَ فَرْضِ أَحَدِ
الزَّوْجَيْنِ وَلَيْسَ ثُلُثَ التَّرِكَةِ كُلِّهَا، وَذَلِكَ إِذَا
تُوُفِّيَ الْمَيِّتُ عَنِ الأُْمِّ وَالأَْبِ وَأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ
وَلَمْ يُوجَدْ جَمْعٌ مِنَ الإِْخْوَةِ.
وَتُسَمَّى الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ بِصُورَتَيْهَا بِالْمَسْأَلَتَيْنِ
الْعُمَرِيَّتَيْنِ، لأَِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ هُوَ الَّذِي قَضَى
فِيهِمَا بِمَا سَبَقَ.
وَتُسَمَّى أَيْضًا الْغَرَّاوِيَّةَ أَيِ الْمَشْهُورَةَ. نَظَرًا
لِشُهْرَتِهَا (2) .
وَتُسَمَّى أَيْضًا بِالْغَرْبِيَّةِ.
حَالاَتُ الْجَدِّ الصَّحِيحِ: أ - عِنْدَ عَدَمِ الإِْخْوَةِ:
29 - الْجَدُّ الصَّحِيحُ هُوَ الَّذِي لاَ تَدْخُل فِي نِسْبَتِهِ إِلَى
الْمَيِّتِ أُمٌّ كَأَبِي الأَْبِ، وَأَبِي أَبِي الأَْبِ مَهْمَا عَلاَ.
وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ وَمِنَ الْعَصَبَاتِ. وَيُحْجَبُ
بِالأَْبِ فَلاَ يَرِثُ مَعَ وُجُودِهِ فَإِنْ لَمْ يُوجَدِ الأَْبُ حَل
الْجَدُّ مَحَلَّهُ، وَوَرِثَ بِاعْتِبَارِهِ أَبًا، وَكَانَ لَهُ نَفْسُ
حَالاَتِ الأَْبِ الثَّلاَثِ السَّابِقَةِ: السُّدُسُ عِنْدَ وُجُودِ
الْفَرْعِ الْمُذَكَّرِ فَرْضًا، وَالْفَرْضُ مَعَ التَّعْصِيبِ عِنْدَ
وُجُودِ فَرْعٍ مُؤَنَّثٍ لِلْمُتَوَفَّى، وَالتَّعْصِيبُ فَقَطْ،
فَيَأْخُذُ التَّرِكَةَ أَوْ مَا بَقِيَ مِنْهَا إِذَا لَمْ يُوجَدْ فَرْعٌ
وَارِثٌ مُطْلَقًا.
وَالدَّلِيل عَلَى مِيرَاثِهِ فِي هَذِهِ الْحَالاَتِ هُوَ نَفْسُ دَلِيل
تَوْرِيثِ الأَْبِ. فَهُوَ أَبٌ فِي الْمِيرَاثِ وَفِي بَعْضِ
__________
(1) سورة النساء / 11
(2) التحفة ص 85 وما بعدها ط الحلبي. والسراجية ص 127 وما بعدها ط الكردي
(3/32)
الأَْحْكَامِ الأُْخْرَى. وَقَدْ سَمَّاهُ
اللَّهُ تَعَالَى أَبًا فِي قَوْله تَعَالَى: {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ
مِنَ الْجَنَّةِ} (1) وَهُمَا آدَم وَحَوَّاءُ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَلَى
لِسَانِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} . (2)
وَمِثَال هَذَا مِنَ السُّنَّةِ ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيل فَإِنَّ
أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا. (3)
وَهَذِهِ الأَْحْكَامُ، إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَعَ الْجَدِّ إِخْوَةٌ
لِلْمُتَوَفَّى.
30 - ب - الْجَدُّ مَعَ الإِْخْوَةِ:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ تَوْرِيثِ الإِْخْوَةِ أَوِ
الأَْخَوَاتِ لأُِمٍّ مَعَ الْجَدِّ. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلإِْخْوَةِ
الأَْشِقَّاءِ أَوْ لأَِبٍ فَإِنَّ الأَْئِمَّةَ: مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ
وَأَحْمَدَ وَصَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ ذَهَبُوا إِلَى تَوْرِيثِ
الإِْخْوَةِ الأَْشِقَّاءِ أَوْ لأَِبٍ مَعَ الْجَدِّ.
وَذَهَبَ الإِْمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْجَدَّ يَأْخُذُ حُكْمَ
الأَْبِ فَيَحْجُبُ الإِْخْوَةَ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ
الطَّبَرِيُّ وَالْمُزَنِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ،
وَاسْتَثْنَى الإِْمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ إِقَامَةِ الْجَدِّ مَقَامَ
الأَْبِ مَسْأَلَتَيْنِ يَأْتِي ذِكْرُهُمَا (ف: 32) .
وَاسْتَدَل أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ بِأَنَّ الْجَدَّ أَبٌ،
فَيَقُومُ مَقَامَهُ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِهِ، وَيَحْجُبُ الإِْخْوَةَ
كَمَا يَحْجُبُهُمْ الأَْبُ، وَقَدْ سُمِّيَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ
أَبًا، وَهُوَ يَأْخُذُ حُكْمَ الأَْبِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَْحْكَامِ،
فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الأَْبِ فِي حَجْبِ الإِْخْوَةِ، وَلأَِنَّ
الْجَدَّ الْمُبَاشِرَ فِي أَعْلَى عَمُودِ النَّسَبِ بِالنِّسْبَةِ
لِلْمَيِّتِ، وَابْنَ الاِبْنِ
__________
(1) سورة الأعراف / 27
(2) سورة يوسف / 38
(3) حديث " ارموا بني اسماعيل. . " أخرجه البخاري (6 / 91 - فتح الباري - ط
السلفية) .
(3/33)
الْمُبَاشِرِ فِي أَسْفَل الْعَمُودِ،
وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُدْلِي إِلَى الْمَيِّتِ بِدَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ ابْنَ الاِبْنِ يَحْجُبُ
الإِْخْوَةَ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْجَدُّ كَذَلِكَ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَلأَِوْلَى رَجُلٍ
ذَكَرٍ (1) وَالْجَدُّ أَقْرَبُ إِلَى الْمَيِّتِ مِنَ الأَْخِ. إِذْ لَهُ
قَرَابَةُ وَلاَءٍ وَجُزْئِيَّةٍ كَالأَْبِ، وَلاَ يَحْجُبُهُ عَنِ
الإِْرْثِ سِوَى الأَْبِ. بِخِلاَفِ الإِْخْوَةِ وَالأَْخَوَاتِ،
فَإِنَّهُمْ يُحْجَبُونَ بِثَلاَثَةٍ: بِالأَْبِ وَالاِبْنِ وَابْنِ
الاِبْنِ، وَالْجَدُّ يَرِثُ بِالْفَرْضِ وَالتَّعْصِيبِ كَالأَْبِ،
وَالإِْخْوَةُ يَنْفَرِدُونَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا.
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِتَوْرِيثِ الإِْخْوَةِ مَعَ الْجَدِّ
بِأَدِلَّةٍ هِيَ:
أَوَّلاً: أَنَّ مِيرَاثَ الإِْخْوَةِ أَشِقَّاءَ أَوْ لأَِبٍ قَدْ ثَبَتَ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً
فَلِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ} (2) وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ
يَمْنَعُهُمُ الإِْرْثَ، وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ.
ثَانِيًا: أَنَّ الْجَدَّ وَالإِْخْوَةَ يَتَسَاوُونَ فِي دَرَجَةِ
الْقُرْبِ مِنَ الْمَيِّتِ. فَإِنَّ كُلًّا مِنَ الْجَدِّ وَالإِْخْوَةِ
يُدْلِي إِلَى الْمَيِّتِ بِدَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا
يَتَّصِل بِهِ عَنْ طَرِيقِ الأَْبِ، فَالْجَدُّ أَبُو الأَْبِ، وَالأَْخُ
ابْنُ الأَْبِ، وَقَرَابَةُ الْبُنُوَّةِ لاَ تَقِل عَنْ قَرَابَةِ
الأُْبُوَّةِ.
ثَالِثًا: أَنَّ الْجَدَّ لاَ يَقُومُ مَقَامَ الأَْبِ فِي كُل حَالٍ بَل
يَخْتَلِفُ عَنْهُ فِي بَعْضِ الأَْحْكَامِ، فَالصَّغِيرُ لاَ يَكُونُ
مُسْلِمًا بِإِسْلاَمِ الْجَدِّ.
__________
(1) حديث " ألحقوا الفرائض. . . " تقدم (هامش ف 4)
(2) سورة النساء / 176
(3/33)
نَصِيبُ الْجَدِّ مَعَ الإِْخْوَةِ:
31 - لَمْ يَرِدْ نَصٌّ فِي الْكِتَابِ وَلاَ فِي السُّنَّةِ فِي مِقْدَارِ
مِيرَاثِ الْجَدِّ مَعَ الإِْخْوَةِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ الْحُكْمُ
بِاجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
فَمَذْهَبُ الإِْمَامِ عَلِيٍّ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ أَنَّ لِلْجَدِّ
الْبَاقِيَ بَعْدَ فَرْضِ الأَْخَوَاتِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ أَخٌ
مَا لَمْ يَنْقُصْ عَنِ السُّدُسِ، وَإِلاَّ قَاسَمَ مَا لَمْ تُنْقِصْهُ
الْمُقَاسَمَةُ عَنِ السُّدُسِ وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ أَحَدٌ مِنَ
الْبَنَاتِ أَوْ بَنَاتِ الاِبْنِ. فَإِنْ نَقَصْنَهُ عَنْهُ أَوْ كَانَ
الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِ الأَْخَوَاتِ أَقَل مِنْهُ، أَوْ كَانَ مَعَهُ
أَحَدٌ مِنَ الْبَنَاتِ أَوْ بَنَاتِ الاِبْنِ فُرِضَ لَهُ السُّدُسُ.
وَعَنْهُ أَنَّهُ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ أَبَدًا.
وَمَذْهَبُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ نَصِيبَ الْجَدِّ يَجِبُ إِلاَّ
يَنْقُصَ عَنْ ثُلُثِ التَّرِكَةِ إِنْ كَانَ مِيرَاثُهُ بِالْمُقَاسَمَةِ
بِاعْتِبَارِهِ عَاصِبًا مَعَ الإِْخْوَةِ وَالأَْخَوَاتِ؛ إِذْ عِنْدَهُ
أَنَّ الْجَدَّ يُعَصِّبُ الإِْخْوَةَ وَالأَْخَوَاتِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ
أَكَانُوا ذُكُورًا فَقَطْ، أَمْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، أَمْ إِنَاثًا
فَقَطْ.
فَإِنْ كَانَ مَعَ إِخْوَةٍ أَشِقَّاءَ قَاسَمَهُمْ عَلَى أَنَّهُ شَقِيقٌ،
وَإِنْ كَانَ مَعَ إِخْوَةٍ لأَِبٍ قَاسَمَهُمْ عَلَى أَنَّهُ أَخٌ لأَِبٍ،
عَلَى أَلاَّ يَقِل نَصِيبُهُ فِي أَيِّ حَالٍ عَنِ الثُّلُثِ، وَهَذَا مَا
ذَهَبَ إِلَيْهِ الأَْئِمَّةُ: مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَأَبُو
يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ
ذَلِكَ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ صَاحِبُ فَرْضٍ، فَإِنْ كَانَ
مَعَهُ صَاحِبُ فَرْضٍ، فَلَهُ خَيْرُ ثَلاَثَةِ أُمُورٍ: إِمَّا
الْمُقَاسَمَةُ، وَإِمَّا ثُلُثُ الْبَاقِي، وَإِمَّا ثُلُثُ جَمِيعِ
الْمَال.
وَيَضْرِبُ ابْنُ قُدَامَةَ مَثَلاً لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ
وَمَنْ مَعَهُمْ فَيَقُول: إِنْ كَانَ مَعَ الْجَدِّ اثْنَانِ مِنَ
الإِْخْوَةِ أَوْ أَرْبَعُ أَخَوَاتٍ أَوْ أَخٌ وَأُخْتَانِ. فَإِنَّ
الْجَدَّ
(3/34)
يُعْطَى الثُّلُثَ مِنْ جَمِيعِ الْمَال
لأَِنَّ الثُّلُثَ وَالْمُقَاسَمَةَ سَوَاءٌ. فَإِنْ نَقَصُوا عَنْ ذَلِكَ
فَالثُّلُثُ أَحَظُّ لَهُ فَقَاسَمَ بِهِ لاَ غَيْرُ، وَإِنْ زَادُوا
فَالثُّلُثُ خَيْرٌ لَهُ، فَأَعْطِهِ إِيَّاهُ وَسَوَاءٌ أَكَانُوا مِنْ
أَبٍ أَمْ أَبَوَيْنِ.
وَمَذْهَبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ حُكْمَ الْجَدِّ مَعَ
الأَْخَوَاتِ الْمُنْفَرِدَاتِ عَنْ أَخٍ أَوْ فَرْعٍ وَارِثٍ
يُعَصِّبُهُنَّ أَنَّهُ يَرِثُ الْبَاقِيَ بِاعْتِبَارِهِ عَصَبَةً بَعْدَ
أَنْصِبَةِ الأَْخَوَاتِ وَأَنْصِبَةِ مَنْ يُوجَدُ مَعَهُنَّ مِنْ
أَصْحَابِ الْفُرُوضِ، لَكِنْ عَلَى أَلاَّ يَقِل نَصِيبُهُ عَنِ
الثُّلُثِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ نَصِيبُهُ فِي هَذِهِ
الْحَالَةِ أَقَل مِنَ الثُّلُثِ أُعْطِيَ الثُّلُثَ.
وَحُجَّتُهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ نَصِيبَ الْجَدِّ مَعَ بَنَاتِ
الْمُتَوَفَّى وَحْدَهُنَّ لاَ يَقِل عَنِ الثُّلُثِ، فَيَنْبَغِي أَنْ
يَكُونَ كَذَلِكَ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْ جَدٍّ وَإِخْوَةٍ، لأَِنَّ
قَرَابَةَ الْفَرْعِ لَهَا صِلَةٌ أَقْوَى مِنْ قَرَابَةِ الأَْخِ
لأَِخِيهِ.
وَمَا دَامَ الْفَرْعُ لاَ يُنْقِصُ نَصِيبَ الْجَدِّ عَنِ الثُّلُثِ
فَبِالأَْوْلَى يَكُونُ الثُّلُثُ نَصِيبَهُ مَعَ الإِْخْوَةِ (1) .
32 - وَالْمَسْأَلَتَانِ اللَّتَانِ اسْتَثْنَاهُمَا الإِْمَامُ أَبُو
حَنِيفَةَ مِنْ إِقَامَةِ الْجَدِّ مَقَامَ الأَْبِ فِي الْمِيرَاثِ
وَالْحَجْبِ هُمَا:
أُولاَهُمَا: زَوْجٌ وَأُمٌّ وَجَدٌّ. فَإِنَّهُ قَال: إِنَّ لِلأُْمِّ فِي
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَال. وَلَوْ كَانَ مَكَانَ
الْجَدِّ أَبٌ كَانَ لَهَا ثُلُثُ مَا بَقِيَ.
وَثَانِيَتُهُمَا: زَوْجَةٌ وَأُمٌّ وَجَدٌّ، فَلِلأُْمِّ ثُلُثُ جَمِيعِ
الْمَال. وَذَكَرَ أَصْحَابُ الإِْمْلاَءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ عَلَى
قَوْل أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ لِلأُْمِّ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ
ثُلُثَ مَا بَقِيَ أَيْضًا. وَهَذَا مَا رَوَاهُ أَهْل الْكُوفَةِ عَنِ
ابْنِ مَسْعُودٍ. وَرَوَى أَهْل الْبَصْرَةِ عَنْ
__________
(1) التحفة الخيرية ص 130 وما بعدها ط الحلبي، والمغني / 218
(3/34)
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ
لِلزَّوْجِ النِّصْفَ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالأُْمِّ نِصْفَيْنِ.
وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ هَارُونَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ
لِلْمَرْأَةِ الرُّبُعَ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الأُْمِّ وَالْجَدِّ
نِصْفَيْنِ، وَقَدْ غَلَّطَ الرُّوَاةُ كُلُّهُمْ زَيْدًا فِي هَذِهِ
الرِّوَايَةِ، فَقَالُوا: إِنَّمَا قَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ
هَذَا فِي: زَوْجٍ وَأُمٍّ وَجَدٍّ (1) .
مِيرَاثُ الْجَدَّاتِ:
33 - الْجَدَّاتُ نَوْعَانِ: جَدَّاتٌ صَحِيحَاتٌ، وَجَدَّاتٌ غَيْرُ
صَحِيحَاتٍ.
فَالْجَدَّةُ الصَّحِيحَةُ: هِيَ الَّتِي لاَ يَدْخُل فِي نِسْبَتِهَا
إِلَى الْمَيِّتِ أَبٌ، أَوْ هِيَ الَّتِي تُدْلِي بِعَصَبَةٍ أَوْ
صَاحِبَةِ فَرِيضَةٍ كَأُمِّ الأُْمِّ.
وَغَيْرُ الصَّحِيحَةِ: هِيَ الَّتِي تُدْلِي بِمَنْ لَيْسَ بِعَصَبَةٍ،
وَلاَ صَاحِبَةِ فَرِيضَةٍ كَأُمِّ أَبِي الأُْمِّ.
وَمِيرَاثُ الْجَدَّةِ لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَإِنَّمَا
ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ
شُعْبَةَ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَعْطَاهَا السُّدُسَ، كَمَا ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ
وَالْخَلَفِ.
وَالْجَدَّةُ الصَّحِيحَةُ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ. وَالْجَدَّةُ غَيْرُ
الصَّحِيحَةِ مِنْ ذَوِي الأَْرْحَامِ.
34 - وَلِلْجَدَّةِ الصَّحِيحَةُ فِي الْمِيرَاثِ حَالَتَانِ:
الأُْولَى: أَنْ تَرِثَ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ، وَيَكُونَ فَرْضُهَا
السُّدُسَ، تَسْتَقِل بِهِ الْجَدَّةُ الْوَاحِدَةُ، وَتَشْتَرِكُ فِيهِ
الْجَدَّاتُ الْمُتَعَدِّدَاتُ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْجَدَّةُ مِنْ جِهَةِ
الأُْمِّ كَأُمِّ الأُْمِّ، أَمْ مِنْ جِهَةِ الأَْبِ كَأُمِّ الأَْبِ،
أَمْ مِنِ الْجِهَتَيْنِ مَعًا كَأُمِّ الأُْمِّ الَّتِي هِيَ أُمُّ أَبِي
الأَْبِ أَيْضًا.
وَإِذَا اجْتَمَعَتِ الْجَدَّةُ ذَاتُ الْقَرَابَتَيْنِ مَعَ الْجَدَّةِ
__________
(1) المبسوط 29 / 180 ط السعادة
(3/35)
ذَاتِ الْقَرَابَةِ الْوَاحِدَةِ
اشْتَرَكَتَا فِي السُّدُسِ مُنَاصَفَةً بَيْنَهُمَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ،
وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْقِيَاسُ فِي
مَذْهَبِ مَالِكٍ. لأَِنَّ تَعَدُّدَ جِهَةِ الْقَرَابَةِ فِي الْجَدَّةِ
ذَاتِ الْقَرَابَتَيْنِ لَمْ يُكْسِبْهَا اسْمًا جَدِيدًا تَرِثُ بِهِ، بَل
هِيَ فِي الْقَرَابَتَيْنِ جَدَّةٌ.
وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الصَّحِيحِ: إِلَى أَنَّ
السُّدُسَ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا أَثْلاَثًا: الثُّلُثَانِ لِذَاتِ
الْقَرَابَتَيْنِ. وَثُلُثُهُ لِذَاتِ الْقَرَابَةِ الْوَاحِدَةِ، لأَِنَّ
اسْتِحْقَاقَ الإِْرْثِ مُتَرَتِّبٌ عَلَى وُجُودِ سَبَبِهِ. فَإِذَا
اجْتَمَعَ فِي شَخْصٍ سَبَبَانِ، وَإِنْ كَانَا مُتَّفِقَيْنِ وَرِثَ
بِهِمَا، كَالْجَدَّةِ ذَاتِ الْقَرَابَتَيْنِ، وَكَانَتِ الْجَدَّةُ
الْوَاحِدَةُ كَأَنَّهَا جَدَّتَانِ، وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فِي
شَخْصِهَا حَقِيقَةً فَإِنَّهَا مُتَعَدِّدَةٌ حُكْمًا وَمَعْنَى،
فَتَسْتَحِقُّ بِالسَّبَبَيْنِ بِمُقْتَضَى هَذَا التَّعَدُّدِ. وَهَذَا
مِثْل مَا إِذَا اجْتَمَعَ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ سَبَبَانِ مُخْتَلِفَانِ
لِلإِْرْثِ فَإِنَّهُ يَرِثُ بِهِمَا اتِّفَاقًا، كَمَا إِذَا تُوُفِّيَتْ
امْرَأَةٌ عَنْ زَوْجٍ هُوَ ابْنُ عَمِّهَا الشَّقِيقِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ
النِّصْفَ فَرْضًا بِاعْتِبَارِهِ زَوْجًا، وَالْبَاقِيَ تَعْصِيبًا
بِاعْتِبَارِهِ ابْنَ عَمٍّ شَقِيقٍ (1) .
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ لِلْجَدَّةِ: حَجْبُ الْجَدَّاتِ كُلِّهِنَّ
بِالأُْمِّ، سَوَاءٌ أَكُنَّ لأَِبٍ أَمْ لأُِمٍّ، أَمَّا الأُْمِّيَّاتُ
فَلأَِنَّهُنَّ يُدْلِينَ بِالأُْمِّ. وَأَمَّا الأَْبَوِيَّاتُ
فَلأَِنَّهُنَّ مِثْل الْجَدَّاتِ لأُِمٍّ، بَل هُنَّ أَضْعَفُ، وَلِهَذَا
تُقَدَّمُ الْجَدَّةُ مِنْ قِبَل الأُْمِّ عَلَى الْجَدَّةِ لأَِبٍ فِي
الْحَضَانَةِ.
وَالْجَدَّاتُ الأَْبَوِيَّاتُ يَسْقُطْنَ بِالأَْبِ، وَهُوَ قَوْل
عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَغَيْرِهِمْ. وَنُقِل عَنْ
__________
(1) المبسوط 29 / 165 وما بعدها ط السعادة، والعذب الفائض 1 / 66، والتحفة
الخيرية ص 98، 99 ط الحلبي
(3/35)
عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي
مَسْعُودٍ: أَنَّ أُمَّ الأَْبِ تَرِثُ مَعَ الأَْبِ، وَاخْتَارَهُ
شُرَيْحٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ، لِمَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ
مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى أُمَّ الأَْبِ
السُّدُسَ مَعَ وُجُودِ الأَْبِ.
وَالْجَدَّةُ الْقُرْبَى مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ مِنْ قِبَل الأُْمِّ
أَوْ مِنْ قِبَل الأَْبِ تَحْجُبُ الْبُعْدَى مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ
الْبُعْدَى. وَهَذَا مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ
زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ. وَفِي رِوَايَةٍ
أُخْرَى عَنْ زَيْدٍ: أَنَّ الْقُرْبَى إِنْ كَانَتْ مِنْ قِبَل الأَْبِ
وَالْبُعْدَى مِنْ قِبَل الأُْمِّ فَهُمَا سَوَاءٌ، وَالْقَوْلاَنِ
مَنْصُوصٌ عَلَيْهِمَا فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ. وَالصَّحِيحُ
عِنْدَهُمْ أَنَّ الْقُرْبَى مِنْ جِهَةِ الأَْبِ لاَ تُسْقِطُ الْبُعْدَى
مِنْ جِهَةِ الأُْمِّ. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الأُْولَى يَكُونُ الْحَجْبُ
فِي أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ، وَعَلَى الثَّانِيَةِ يَكُونُ الْحَجْبُ فِي
ثَلاَثَةٍ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ
فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلَيْهِ، وَمَذْهَبُ الإِْمَامِ أَحْمَدَ (1) .
مِيرَاثُ الزَّوْجَيْنِ:
35 - مِيرَاثُ الزَّوْجَيْنِ نَصَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فِي
قَوْله تَعَالَى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ
يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ
مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ
وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ
فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ
بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} . (2)
__________
(1) حاشية الفناري على السراجية ص 140، 141 ط الكردي والتحفة الخيرية ص 100
ط الحلبي.
(2) سورة النساء / 12
(3/36)
فَالآْيَةُ تُبَيِّنُ أَنَّ كُلًّا مِنَ
الزَّوْجَيْنِ لاَ يَرِثُ إِلاَّ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ وَأَنَّ لِكُلٍّ
حَالَتَيْنِ:
أَحْوَال الزَّوْجِ:
36 - أ - يَرِثُ الزَّوْجُ نِصْفَ مِيرَاثِ زَوْجَتِهِ بِطَرِيقِ
الْفَرْضِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا فَرْعٌ وَارِثٌ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ
أَوِ التَّعْصِيبِ، وَهُوَ الاِبْنُ وَابْنُ الاِبْنِ وَإِنْ نَزَل،
وَالْبِنْتُ وَبِنْتُ الاِبْنِ وَإِنْ نَزَل، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا
الْفَرْعُ الْوَارِثُ مِنَ الزَّوْجِ أَمْ مِنْ غَيْرِهِ، وَتَشْمَل هَذِهِ
الْحَالَةُ مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجَةِ فَرْعٌ أَصْلاً وَمَا إِذَا
كَانَ لَهَا فَرْعٌ غَيْرُ وَارِثٍ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ أَوِ التَّعْصِيبِ،
وَهُوَ بِنْتُ الْبِنْتِ أَوِ ابْنُ الْبِنْتِ.
ب - أَنْ يَرِثَ الرُّبُعَ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ
لِلزَّوْجَةِ فَرْعٌ وَارِثٌ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ أَوِ التَّعْصِيبِ،
سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الْفَرْعُ الْوَارِثُ مِنْ هَذَا الزَّوْجِ أَمْ
مِنْ غَيْرِهِ.
حَالاَتُ الزَّوْجَةِ:
لاَ تَرِثُ الزَّوْجَةُ إِلاَّ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ، وَلَهَا حَالَتَانِ:
37 - (الأُْولَى) أَنْ يَكُونَ فَرْضُهَا الرُّبُعَ، وَذَلِكَ إِذَا لَمْ
يَكُنْ لِزَوْجِهَا فَرْعٌ وَارِثٌ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ أَوِ التَّعْصِيبِ،
وَهُوَ الاِبْنُ وَابْنُ الاِبْنِ وَإِنْ نَزَل، وَالْبِنْتُ وَبِنْتُ
الاِبْنِ وَإِنْ نَزَل، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الْفَرْعُ الْوَارِثُ
وَلَدًا لَهُ مِنْ هَذِهِ الزَّوْجَةِ أَمْ وَلَدًا لَهُ مِنْ غَيْرِهَا.
فَيَدْخُل فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ فَرْعٌ
أَصْلاً، وَمَا إِذَا كَانَ لَهُ فَرْعٌ غَيْرُ وَارِثٍ بِطَرِيقِ
الْفَرْضِ أَوِ التَّعْصِيبِ وَهُوَ بِنْتُ الْبِنْتِ أَوِ ابْنُ
الْبِنْتِ.
(الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ) أَنْ يَكُونَ فَرْضُهَا الثُّمُنَ، وَذَلِكَ
(3/36)
إِذَا كَانَ لِلزَّوْجِ فَرْعٌ وَارِثٌ
مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا.
38 - وَيُشْتَرَطُ لِلْمِيرَاثِ بِالزَّوْجِيَّةِ شَرْطَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الزَّوْجِيَّةُ صَحِيحَةً. . فَإِنْ كَانَ
الْعَقْدُ فَاسِدًا فَلاَ تَوَارُثَ وَلَوِ اسْتَمَرَّتِ الْعِشْرَةُ
بِمُقْتَضَاهُ إِلَى الْوَفَاةِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الأَْئِمَّةِ أَبِي
حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ.
وَقَال الإِْمَامُ مَالِكٌ: إِنَّ سَبَبَ الْفَسَادِ إِنْ كَانَ مُتَّفَقًا
عَلَيْهِ كَتَزَوُّجِ خَامِسَةٍ وَفِي عِصْمَتِهِ أَرْبَعٌ، أَوْ تَزَوُّجِ
الْمُحَرَّمَةِ رَضَاعًا جَاهِلاً بِسَبَبِ التَّحْرِيمِ فَإِنَّهُ لاَ
تَوَارُثَ، سَوَاءٌ أَمَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْل الْمُتَارَكَةِ وَالْفَسْخِ،
أَمْ مَاتَ بَعْدَهُمَا، وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْفَسَادِ
غَيْرَ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ كَعَدَمِ الْوَلِيِّ فِي النِّكَاحِ فِي زَوَاجِ
الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَأَمْثَالِهَا إِنْ
كَانَتِ الْوَفَاةُ بَعْدَ الْفَسْخِ فَلاَ تَوَارُثَ، لِعَدَمِ قِيَامِ
السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْمِيرَاثِ؛ إِذِ انْتَهَتِ الزَّوْجِيَّةُ. وَإِنْ
كَانَتِ الْوَفَاةُ قَبْل الْفَسْخِ فَيَكُونُ الْمِيرَاثُ ثَابِتًا،
لِقِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ عَلَى رَأْيِ مَنْ يَرَى صِحَّةَ الزَّوَاجِ.
ثَانِيهِمَا: أَنْ تَكُونَ الزَّوْجِيَّةُ قَائِمَةً وَقْتَ الْوَفَاةِ
حَقِيقَةً، أَوْ أَنْ تَكُونَ قَائِمَةً حُكْمًا، وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ
الزَّوْجَةُ مُطَلَّقَةً طَلاَقًا رَجْعِيًّا، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الطَّلاَقُ بَائِنًا فَإِنَّهُ لاَ تَوَارُثَ وَلَوْ
كَانَتِ الْوَفَاةُ فِي حَال الْعِدَّةِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ مَنْ تَوَلَّى
سَبَبَ الْفُرْقَةِ قَدْ اُعْتُبِرَ فَارًّا مِنَ الْمِيرَاثِ، وَذَلِكَ
إِذَا كَانَ مَرِيضًا مَرَضَ الْمَوْتِ.
وَتَنْفَرِدُ الْوَاحِدَةُ بِالرُّبُعِ وَالثُّمُنِ وَيَشْتَرِكُ فِيهِ
الأَْكْثَرُ مِنْ وَاحِدَةٍ: اثْنَتَانِ أَوْ ثَلاَثٌ أَوْ أَرْبَعٌ. (1)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 491 ط بولاق، والخرشي 5 / 442 ط الشرقية، والتحفة
ص 78 ط الحلبي، والعذب الفائض 1 / 51
(3/37)
أَحْوَال الْبَنَاتِ:
39 - جُمِعَتْ أَحْكَامُ مِيرَاثِ بَنَاتِ الْمُتَوَفَّى فِي قَوْله
تَعَالَى: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ
الأُْنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ
ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} . (1)
فَقَدْ دَلَّتِ الآْيَةُ عَلَى أَنَّ أَحْوَال الْبَنَاتِ الصُّلْبِيَّاتِ
ثَلاَثٌ:
الأُْولَى: أَنْ يَكُونَ مَعَهُنَّ ابْنٌ صُلْبِيٌّ أَوْ أَبْنَاءٌ، فَفِي
هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ الْجَمِيعُ عَصَبَةً لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ
الأُْنْثَيَيْنِ، وَيَأْخُذُونَ التَّرِكَةَ كُلَّهَا إِنْ لَمْ يَكُنِ
لِلْمُورَثِ أَصْحَابُ فَرْضٍ، أَوِ الْبَاقِي بَعْدَ أَصْحَابِ
الْفُرُوضِ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ لِلْمَيِّتِ بِنْتَانِ فَأَكْثَرُ، وَلَيْسَ
مَعَهُنَّ ابْنٌ لِلْمَيِّتِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُنَّ ثُلُثَا
التَّرِكَةِ بِالتَّسَاوِي.
أَمَّا الْبِنْتَانِ فَاسْتِحْقَاقُهُمَا الثُّلُثَانِ، وَدَلِيل ذَلِكَ
أَنَّهُ لَمَّا اُسْتُشْهِدَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
يَوْمَ أُحُدٍ (2) وَكَانَ خَلَّفَ ابْنَتَيْنِ وَزَوْجَةً، فَاسْتَوْلَى
أَخُوهُ عَلَى مَالِهِ، فَجَاءَتِ امْرَأَتُهُ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَتْ: إِنَّ سَعْدًا قُتِل مَعَكَ
وَخَلَفَ ابْنَتَيْنِ، وَقَدْ غَلَبَ عَمُّهُمَا عَلَى مَالِهِمَا وَلاَ
يُرْغَبُ فِي النِّسَاءِ إِلاَّ بِمَالٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: وَلاَ
يُنْكَحَانِ إِلاَّ وَلَهُمَا مَالٌ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمْ يُنْزِل اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ شَيْئًا.
ثُمَّ ظَهَرَ آثَارُ الْوَحْيِ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ قَال: قِفُوا مَال سَعْدٍ،
فَقَدْ أَنْزَل اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مَا إِنْ بَيَّنَهُ لِي
بَيَّنْتُهُ لَكُمْ، وَتَلاَ
__________
(1) سورة النساء / 11
(2)
(قتل يوم أحد) هكذا جاء في رواية التزمذي وأخرجه أيضا أحمد وأبو داود وابن
ماجه (تحفة الأحوذي 6 / 267 - 268 ط الفجالة) .
(3/37)
عَلَيْهِمْ قَوْله تَعَالَى: {لِلرِّجَال
نَصِيبُ مِمَّا تَرَكَ} الآْيَةَ ثُمَّ قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمْ
اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ}
فَدَعَا أَخَا سَعْدٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يُعْطِيَ الْبِنْتَيْنِ
الثُّلُثَيْنِ وَالْمَرْأَةَ الثُّمُنَ وَلَهُ مَا بَقِيَ. وَقِيل: هَذَا
أَوَّل مِيرَاثٍ فِي الإِْسْلاَمِ. (1)
كَمَا اسْتَدَل بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ
لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ} وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل أَنَّ
أَدْنَى مَرَاتِبِ الاِخْتِلاَطِ: ابْنٌ وَبِنْتٌ، فَلِلاِبْنِ حِينَئِذٍ
الثُّلُثَانِ بِالاِتِّفَاقِ، فَعُرِفَ بِهَذِهِ الإِْشَارَةِ أَنَّ
الْبِنْتَيْنِ لَهُمَا الثُّلُثَانِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ
إِلاَّ فِي حَالَةِ انْفِرَادِهِمَا فَلاَ حَاجَةَ إِلَى بَيَانِ
حَالِهِمَا، بَل إِلَى بَيَانِ حَال مَا فَوْقَهُمَا، فَلِذَلِكَ جَاءَتِ
الآْيَةُ {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} (2) أَيْ فَإِنْ كُنَّ
جَمَاعَةً بَالِغَاتٍ مَا بَلَغْنَ مِنَ الْعَدَدِ فَلَهُنَّ مَا
لِلاِثْنَتَيْنِ أَيِ الثُّلُثَانِ لاَ يَتَجَاوَزْنَهُ، وَبِأَنَّ
الْبِنْتَيْنِ أَمَسُّ رَحِمًا مِنَ الأُْخْتَيْنِ اللَّتَيْنِ تُحْرِزَانِ
الثُّلُثَيْنِ فَهُمَا أَوْلَى بِذَلِكَ الإِْحْرَازِ.
وَبِأَنَّ الأُْخْتَ إِذَا كَانَتْ مَعَ أَخِيهَا وَجَبَ لَهَا الثُّلُثُ،
فَبِالأَْوْلَى أَنْ يَجِبَ لَهَا ذَلِكَ مَعَ أُخْتٍ أُخْرَى. وَكَذَا
الْبِنْتُ يَجِبُ لَهَا مَعَ أُخْتِهَا مِثْل مَا كَانَ لَهَا لَوِ
انْفَرَدَتْ مَعَ أَخِيهَا فَوَجَبَ لَهُمَا ذَلِكَ.
وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الأَْئِمَّةِ الأَْرْبَعَةِ وَسَائِرِ
الصَّحَابَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْبِنْتَيْنِ
حُكْمُهُمَا حُكْمُ الْوَاحِدَةِ، أَيْ أَنَّ نَصِيبَهُمَا إِذَا
انْفَرَدَتَا
__________
(1) حديث (قفوا مال سعد. . . . .) أخرجه الترمذي (تحفة الأحوذي 6 / 267 نشر
المكتبة السلفية) وأبو داود (3 / 80 - ط المطبعة الأنصارية بدهلي) والحاكم
4 / 334 - ط دائرة المعارف العثمانية)
(2) سورة النساء / 11
(3/38)
عَنْ عَاصِبٍ هُوَ النِّصْفُ.
وَاسْتَدَل لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بِأَنَّ الآْيَةَ {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً
فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً
فَلَهَا النِّصْفُ} قَدْ نَصَّتْ عَلَى حُكْمِ الأَْكْثَرِ مِنَ
اثْنَتَيْنِ وَعَلَى الْوَاحِدَةِ. فَإِذَا أَعْطَيْتَ الثِّنْتَيْنِ
الثُّلُثَيْنِ فَقَدْ خَالَفْتَ الآْيَةَ، فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ أَنْ
تُعْطَيَا الأَْقَل. (1) لَكِنْ قَال الشَّرِيفُ الأُْرْمَوِيُّ: صَحَّ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رُجُوعُهُ عَنْ ذَلِكَ،
وَصَارَ إِجْمَاعًا؛ إِذِ الإِْجْمَاعُ بَعْدَ الاِخْتِلاَفِ حُجَّةٌ.
وَحَكَى الإِْجْمَاعَ الْعَلاَّمَةُ الشِّنْشَوَرِيُّ وَقَال: مَا رُوِيَ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَمُنْكَرٌ لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ (2)
الثَّالِثَةُ: أَنْ تَرِثَ النِّصْفَ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ وَذَلِكَ إِذَا
كَانَتْ وَاحِدَةً لَمْ يُوجَدْ مَعَهَا مَنْ يُعَصِّبُهَا، وَهُوَ ابْنُ
الْمُتَوَفَّى الْمُبَاشِرُ: وَدَلِيل ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ
كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} .
أَحْوَال بَنَاتِ الاِبْنِ (3) :
40 - بِنْتُ الاِبْنِ هِيَ كُل بِنْتٍ تَنْتَسِبُ إِلَى الْمُتَوَفَّى
بِطَرِيقِ الاِبْنِ مَهْمَا نَزَلَتْ دَرَجَةُ أَبِيهَا فَتَشْمَل بِنْتَ
الاِبْنِ وَبِنْتَ ابْنِ الاِبْنِ مَهْمَا نَزَل.
وَلَهَا فِي الْمِيرَاثِ سِتُّ حَالاَتٍ: ثَلاَثٌ مِنْهَا تَكُونُ لَهَا
إِذَا قَامَتْ مَقَامَ الْبِنْتِ الصُّلْبِيَّةِ، وَذَلِكَ إِذَا لَمْ
يُوجَدْ مَعَهَا فَرْعٌ وَارِثٌ لِلْمُتَوَفَّى أَقْرَبُ مِنْهَا دَرَجَةً
سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الْفَرْعُ مُذَكَّرًا أَمْ مُؤَنَّثًا. وَثَلاَثٌ
مِنْهَا تَكُونُ لَهَا إِذَا لَمْ تَقُمْ مَقَامَ الْبِنْتِ
الصُّلْبِيَّةِ.
__________
(1) حاشية الفناري على السراجية ص 102 وما بعدها ط الكردي.
(2) العذب الفائض 1 / 52
(3) السراجية مع حاشية الفناري ص 106
(3/38)
فَإِذَا قَامَتْ مَقَامَ الْبِنْتِ
الصُّلْبِيَّةِ كَانَتْ لَهَا الْحَالاَتُ الثَّلاَثُ الآْتِيَةُ:
الْحَالَةُ الأُْولَى: أَنْ تَرِثَ النِّصْفَ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ،
وَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ وَاحِدَةً وَلَيْسَ مَعَهَا مَنْ يَعْصِبُهَا.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَرِثَ بَنَاتُ الاِبْنِ الثُّلُثَيْنِ
بِطَرِيقِ الْفَرْضِ، وَذَلِكَ إِذَا كُنَّ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ وَلَمْ
يَكُنْ مَعَهُنَّ عَاصِبٌ. الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَرِثَ بِطَرِيقِ
التَّعْصِيبِ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ مَعَهَا أَوْ مَعَهُنَّ مَنْ
يُعَصِّبُ.
41 - فَإِذَا لَمْ تَقُمْ بِنْتُ الاِبْنِ مَقَامَ الْبِنْتِ
الصُّلْبِيَّةِ بِأَنْ وُجِدَ مَعَهَا فَرْعٌ وَارِثٌ لِلْمُتَوَفَّى
أَقْرَبُ دَرَجَةً مِنْهَا كَانَتْ لَهَا الأَْحْوَال الثَّلاَثَةُ
الآْتِيَةُ:
الْحَالَةُ الأُْولَى: أَنْ تَأْخُذَ السُّدُسَ فَرْضًا تَكْمِلَةً
لِلثُّلُثَيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ وَاحِدَةً أَمْ أَكْثَرَ، وَذَلِكَ
إِذَا كَانَ مَعَهَا بِنْتٌ أَعْلَى مِنْهَا دَرَجَةً، صُلْبِيَّةً كَانَتْ
أَمْ غَيْرَ صُلْبِيَّةٍ، بِشَرْطِ أَلاَّ يُوجَدَ مَعَ بِنْتِ الاِبْنِ
مَنْ يُعَصِّبُهَا، فَإِنْ كَانَ مَعَهَا مَنْ يُعَصِّبُهَا وَرِثَتْ
بِطَرِيقِ التَّعْصِيبِ لاَ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَلاَّ يَبْقَى لَهَا شَيْءٌ مِنْ فَرْضِ
الْبَنَاتِ، وَذَلِكَ إِذَا وُجِدَ مَعَهَا اثْنَتَانِ فَأَكْثَرُ مِنَ
الْبَنَاتِ الصُّلْبِيَّاتِ أَوْ مِنْ بَنَاتِ الاِبْنِ الأَْعْلَى
دَرَجَةً، عَلَى أَنَّهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَرِثُ بِطَرِيقِ
التَّعْصِيبِ إِنْ وُجِدَ مَعَهَا مَنْ يُعَصِّبُهَا، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ
فَلاَ شَيْءَ لَهَا. وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَنَّ بِنْتَ أَوْ
بَنَاتِ الاِبْنِ تَأْخُذُ أَوْ يَأْخُذْنَ السُّدُسَ تَكْمِلَةً
لِلثُّلُثَيْنِ، لأَِنَّ الْبِنْتَيْنِ عِنْدَهُ حُكْمُهُمَا حُكْمُ
الْوَاحِدَةِ. وَقَال ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ بَنَاتِ الاِبْنِ مَعَ
الْبِنْتَيْنِ لاَ يَرِثْنَ مَعَ ابْنِ الاِبْنِ أَوْ أَبْنَائِهِ، بَل
يَكُونُ الْبَاقِي لاِبْنِ الاِبْنِ، لأَِنَّهُ لَوْ أَعْطَى بَنَاتِ
الاِبْنِ لَزَادَ
(3/39)
حَقُّ الْبَنَاتِ عَلَى الثُّلُثَيْنِ،
وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ - لَمْ يَجْعَل لَهُنَّ إِلاَّ الثُّلُثَيْنِ.
وَحُجَّةُ مَنْ عَدَا ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَل
الثُّلُثَيْنِ لِلْبَنَاتِ بِطَرِيقَةِ الْفَرْضِ، وَاسْتِحْقَاقُ بَنَاتِ
الاِبْنِ بِطَرِيقِ التَّعْصِيبِ فَهُمَا مُخْتَلِفَانِ، فَلاَ يُضَمُّ
أَحَدُ الْحَقَّيْنِ إِلَى الآْخَرِ فَلاَ زِيَادَةَ عَلَى الثُّلُثَيْنِ.
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: لاَ تَرِثُ شَيْئًا، وَاحِدَةً كَانَتْ أَوْ
أَكْثَرَ، مَعَهَا مُعَصِّبٌ، أَوْ لَيْسَ مَعَهَا مُعَصِّبٌ، وَذَلِكَ
إِذَا وُجِدَ مَعَهَا ابْنٌ أَوِ ابْنُ ابْنٍ أَعْلَى دَرَجَةً
وَهَذِهِ الْحَالاَتُ هِيَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ عَامَّةُ الصَّحَابَةِ
عَدَا ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ. (1)
أَحْوَال الأَْخَوَاتِ الشَّقِيقَاتِ:
42 - لِلأَْخَوَاتِ الشَّقِيقَاتِ خَمْسَةُ أَحْوَالٍ. وَهَذِهِ
الأَْحْوَال مِنْهَا مَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ، وَمِنْهَا مَا ثَبَتَ
بِالسُّنَّةِ، وَمِنْهَا مَا ثَبَتَ بِالإِْجْمَاعِ.
الْحَالَتَانِ الأُْولَى وَالثَّانِيَةُ: النِّصْفُ لِلْوَاحِدَةِ إِذَا
انْفَرَدَتْ وَلَيْسَ فِي الْوَرَثَةِ مَنْ يَحْجُبُهَا، أَوْ أَخٌ
شَقِيقٌ. وَالثُّلُثَانِ لِلاِثْنَتَيْنِ فَأَكْثَرَ إِذَا لَمْ يَكُنْ
مَعَهُمَا أَخٌ شَقِيقٌ. وَدَلِيل ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى:
{يَسْتَفْتُونَكَ قُل اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ
هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ
يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ
فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً
وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ} . (2)
فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالأَْخَوَاتِ فِي الآْيَةِ: الشَّقِيقَاتُ، أَوْ
لأَِبٍ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُنَّ اللاَّئِي يَرِثْنَ بِطَرِيقِ التَّعْصِيبِ
__________
(1) شرح السراجة ص 109 ط الكردي
(2) سورة النساء / 176
(3/39)
فِي بَعْضِ الْحَالاَتِ. وَالأَْخَوَاتُ
لأُِمٍّ يَرِثْنَ بِالْفَرْضِ فَقَطْ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي
آيَةِ الْكَلاَلَةِ أَوَائِل السُّورَةِ، كَمَا بَيَّنَ فِي الآْيَةِ
الأَْخِيرَةِ مِنَ السُّورَةِ نَصِيبَ الأَْخَوَاتِ الشَّقِيقَاتِ أَوْ
لأَِبٍ.
وَإِذَا زَادَتِ الأَْخَوَاتُ عَنِ الاِثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ الثُّلُثَانِ،
وَدَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى فِي بَيَانِ نَصِيبِ الأَْوْلاَدِ:
{يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ
الأُْنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ
ثُلُثَا مَا تَرَكَ} لأَِنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْبَنَاتُ الثَّلاَثُ
فَأَكْثَرُ يَرِثْنَ الثُّلُثَيْنِ وَقَرَابَتُهُنَّ بِالْمُتَوَفَّى
أَكْثَرُ، فَمِنْ بَابِ أَوْلَى أَلاَّ تَأْخُذَ الأَْخَوَاتُ
الشَّقِيقَاتُ أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثَيْنِ، وَلَمْ يَنُصَّ فِي الآْيَةِ
عَلَى نَصِيبِ الأَْكْثَرِ مِنَ اثْنَتَيْنِ مِنَ الأَْخَوَاتِ لِدَلاَلَةِ
الآْيَةِ الْخَاصَّةِ بِنَصِيبِ الأَْوْلاَدِ عَلَيْهِ.
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ مَعَ الأُْخْتِ الشَّقِيقَةِ أَوِ
الأَْخَوَاتِ الشَّقِيقَاتِ أَخٌ شَقِيقٌ فَيَكُونُ لَهُنَّ مَعَهُ
الْبَاقِي بَعْدَ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ
الأُْنْثَيَيْنِ، لأَِنَّهُنَّ يَصِرْنَ عَصَبَةً بِهِ وَهَذَا مَا دَل
عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً
فَلِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ} وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الأُْخْتَ الشَّقِيقَةَ أَوْ لأَِبٍ تَصِيرُ
عَصَبَةً بِالْجَدِّ، مِنْ بَابِ الْعَصَبَةِ بِالْغَيْرِ إِذَا لَمْ
يُوجَدْ أَخٌ يُعَصِّبُهَا، وَيَكُونُ لَهُ ضِعْفُ نَصِيبِهَا. (1)
الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ تَكُونَ الأُْخْتُ الشَّقِيقَةُ أَوِ
الأَْخَوَاتُ الشَّقِيقَاتُ عَصَبَةً مَعَ الْغَيْرِ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ
لِلْمَيِّتِ أُخْتٌ شَقِيقَةٌ أَوْ أَخَوَاتٌ شَقِيقَاتٌ وَلَيْسَ
مَعَهُنَّ أَخٌ شَقِيقٌ وَقَدْ تَرَكَ الْمَيِّتُ فَرْعًا وَارِثًا
مُؤَنَّثًا، فَإِنَّ الْفَرْعَ الْوَارِثَ يَأْخُذُ نَصِيبَهُ وَالأُْخْتَ
أَوِ الأَْخَوَاتِ
__________
(1) الدسوقي 4 / 459، المواق 6 / 410، العذب 1 / 90
(3/40)
الشَّقِيقَاتِ يَأْخُذْنَ الْبَاقِيَ
بِاعْتِبَارِهِنَّ عَصَبَةً، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: اجْعَلُوا الأَْخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ عَصَبَةً. (1) وَهَذَا
مَا أَفْتَى بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ. وَقَال: إِنَّهُ قَضَاءُ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (2)
الْحَالَةُ الْخَامِسَةُ: الْحِرْمَانُ وَذَلِكَ إِنْ تَرَكَ الْمَيِّتُ
فَرْعًا وَارِثًا ذَكَرًا أَوْ أَبًا، وَفِي مِيرَاثِهِنَّ مَعَ الْجَدِّ
خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ.
أَحْوَال الأَْخَوَاتِ لأَِبٍ:
43 - لِلأَْخَوَاتِ لأَِبٍ سَبْعُ حَالاَتٍ:
(1) النِّصْفُ لِلْوَاحِدَةِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَعَهَا أُخْتٌ شَقِيقَةٌ
أَوْ أَخٌ لأَِبٍ يُعَصِّبُهَا.
(2) الثُّلُثَانِ لِلأُْخْتَيْنِ فَأَكْثَرَ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَعَهُنَّ
أُخْتٌ شَقِيقَةٌ أَوْ أَخٌ لأَِبٍ يُعَصِّبُهُنَّ. وَدَلِيل هَاتَيْنِ
الْحَالَتَيْنِ آيَةُ الْكَلاَلَةِ آخِرَ سُورَةِ النِّسَاءِ
{يَسْتَفْتُونَكَ قُل اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ} .
(3) السُّدُسُ لِلْوَاحِدَةِ أَوْ أَكْثَرَ مَعَ الأُْخْتِ الشَّقِيقَةِ
الْوَاحِدَةِ تَكْمِلَةً لِلثُّلُثَيْنِ، لأَِنَّ فَرْضَ الشَّقِيقَةِ
النِّصْفُ، وَالأُْخْتُ لأَِبٍ مَعَهَا كَبِنْتِ الاِبْنِ مَعَ الْبِنْتِ،
فَتَأْخُذُ السُّدُسَ تَكْمِلَةً لِلثُّلُثَيْنِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ
مَعَهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَخٌ لأَِبٍ فَإِنَّهُ يُعَصِّبُهَا، وَهِيَ
الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ الآْتِيَةُ، وَيَسْقُطَانِ مَعًا " الأَْخُ
وَالأُْخْتُ لأَِبٍ " لَوِ اسْتَغْرَقَتِ الْفُرُوضُ التَّرِكَةَ، لأَِنَّ
حَقَّ الأَْخَوَاتِ الثُّلُثَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَتَا
اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} .
__________
(1) حدبث (اجعلوا الأخوات مع البنات عصبة) جعله البخاري عنوانا (باب ميراث
الأخوات مع البنات عصبة) ، الفتح 8 / 448، والعذب الفائض 1 / 91
(2) المبسوط 29 / 151 وشرح الرحبية ص 32 وما بعدها
(3/40)
(4) التَّعْصِيبُ بِالأَْخِ لأَِبٍ
فَيُعْطَى الذَّكَرُ ضِعْفَ الأُْنْثَى.
(5) الإِْرْثُ بِالتَّعْصِيبِ مَعَ الْبَنَاتِ أَوْ بَنَاتِ الاِبْنِ
وَإِنْ نَزَل أَوْ مَعَهُمَا، فَتَأْخُذُ الْبَاقِيَ بَعْدَهُنَّ مِنَ
التَّرِكَةِ بِالْعُصُوبَةِ، وَاحِدَةً أَوْ أَكْثَرَ، وَتَسْقُطُ إِذَا
اسْتَغْرَقَتِ الْفُرُوضُ التَّرِكَةَ فَلاَ تَأْخُذُ شَيْئًا.
(6) تُحْجَبُ بِالأُْخْتَيْنِ الشَّقِيقَتَيْنِ إِلاَّ إِذَا كَانَ مَعَهَا
أَخٌ لأَِبٍ، فَيَأْخُذَانِ الْبَاقِيَ تَعْصِيبًا لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ
الأُْنْثَيَيْنِ.
(7) تُحْجَبُ بِالأَْبِ، وَالاِبْنِ، وَابْنِ الاِبْنِ، وَإِنْ نَزَل،
وَبِالأَْخِ الشَّقِيقِ، وَالأُْخْتِ الشَّقِيقَةِ إِذَا صَارَتْ عَصَبَةً
مَعَ الْبِنْتِ أَوْ بِنْتِ الاِبْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَعَ الأُْخْتِ
لأَِبٍ أَخٌ يُعَصِّبُهَا أَمْ لاَ. لأَِنَّ الأُْخْتَ الشَّقِيقَةَ فِي
هَذِهِ الْحَالَةِ كَأَنَّهَا أَخٌ شَقِيقٌ فِي كَوْنِهَا عَصَبَةً
أَقْرَبُ إِلَى الْمَيِّتِ. (1)
مِيرَاثُ أَوْلاَدِ الأُْمِّ:
44 - الْمُرَادُ بِأَوْلاَدِ الأُْمِّ، إِخْوَةُ الْمُتَوَفَّى
وَأَخَوَاتُهُ مِنْ جِهَةِ أُمِّهِ فَقَطْ.
وَأَوْلاَدُ الأُْمِّ يَرِثُونَ دَائِمًا بِطَرِيقِ الْفَرْضِ، وَلاَ
يَرِثُونَ بِالتَّعْصِيبِ وَلَوْ كَانَ الْمَوْجُودُ مِنْهُمْ أَخًا،
لأَِنَّهُمْ لَيْسُوا عَصَبَةً لإِِدْلاَئِهِمْ إِلَى الْمُتَوَفَّى
بِقَرَابَةِ الأُْمِّ وَحْدَهَا، وَلاَ يَصِيرُونَ عَصَبَةً بِالْغَيْرِ
وَلاَ مَعَ الْغَيْرِ. وَذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ سَوَاءٌ فِي
الْمِيرَاثِ عِنْدَ الاِنْفِرَادِ وَعِنْدَ الاِجْتِمَاعِ، فَلاَ يَفْضُل
الذَّكَرُ عَلَى الأُْنْثَى.
__________
(1) المبسوط 29 / 156 والشرح الكبير 4 / 459 - 460، والعذب الفائض 1 / 91
(3/41)
وَلَهُمْ ثَلاَثُ حَالاَتٍ:
الأُْولَى: السُّدُسُ فَرْضًا لِلْوَاحِدِ مِنْهُمْ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ
أُنْثَى، وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُتَوَفَّى فَرْعٌ وَارِثٌ
ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، أَوْ أَصْلٌ مُذَكَّرٌ وَارِثٌ كَالأَْبِ
وَالْجَدِّ وَإِنْ عَلاَ.
الثَّانِيَةُ: الثُّلُثُ فَرْضًا إِذَا كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ
ذُكُورًا أَوْ إِنَاثًا أَوْ مُخْتَلِفِينَ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ
بِالسَّوِيَّةِ، وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُتَوَفَّى فَرْعٌ وَارِثٌ
أَوْ أَصْلٌ مُذَكَّرٌ.
الثَّالِثَةُ: أَنَّهُمْ يُحْجَبُونَ بِالاِبْنِ وَابْنِ الاِبْنِ وَإِنْ
نَزَل، وَالْبِنْتِ وَبِنْتِ الاِبْنِ وَإِنْ نَزَل، وَبِالأَْبِ
وَالْجَدِّ وَإِنْ عَلاَ.
وَدَلِيل مَا ذُكِرَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ
كَلاَلَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا السُّدُسُ} (1)
إِذِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَوْلاَدُ الأُْمِّ إِجْمَاعًا. وَيَدُل عَلَيْهِ
قِرَاءَةُ أُبَيٍّ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ (وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ
مِنَ الأُْمِّ) .
وَدَلِيل التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى وَأَنَّ نَصِيبَهُمْ
لاَ يَزِيدُ عَلَى الثُّلُثِ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ
مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} لأَِنَّ الشَّرِكَةَ عِنْدَ
الإِْطْلاَقِ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ وَقَدْ حَصَرَتِ الآْيَةُ نَصِيبَ
الأَْكْثَرِ مِنَ الْوَاحِدِ فِي الثُّلُثِ. وَلأَِنَّ إِدْلاَءَ أَوْلاَدِ
الأُْمِّ إِلَى الْمَيِّتِ هُوَ بِالأُْمِّ، فَفُرِضَ لِلْوَاحِدِ مِنْهُمْ
أَقَل فَرْضِهَا وَهُوَ السُّدُسُ، وَفُرِضَ لِلأَْكْثَرِ مِنْ وَاحِدٍ
أَكْثَرُ فَرْضِهَا وَهُوَ الثُّلُثُ. وَلَمْ يُفْرَضْ لَهُمْ أَكْثَرُ
مِنْ ذَلِكَ كَيْ لاَ يُؤَدِّيَ إِلَى تَفْضِيل نَصِيبِ الْمُدْلِي عَلَى
نَصِيبِ الْمُدْلَى بِهِ. وَسُوِّيَ بَيْنَ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ
قِسْمَةً
__________
(1) سورة النساء / 12
(3/41)
وَاسْتِحْقَاقًا، لأَِنَّ تَفْضِيل
الذَّكَرِ عَلَى الأُْنْثَى إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ الْعُصُوبَةِ،
وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ فِي قَرَابَةِ الأُْمِّ، فَلاَ يَفْضُل الذَّكَرُ
مِنْهُمْ عَلَى الأُْنْثَى لاَ فِي الْقِسْمَةِ وَلاَ فِي الاِسْتِحْقَاقِ.
(1)
الإِْرْثُ بِالْعُصُوبَةِ:
45 - عَصَبَةُ الرَّجُل لُغَةً: بَنُوهُ وَقَرَابَتُهُ لأَِبِيهِ، سُمُّوا
بِذَلِكَ، لأَِنَّهُمْ عُصِّبُوا بِهِ، أَيْ أَحَاطُوا بِهِ. وَالأَْبُ
طَرَفٌ وَالاِبْنُ طَرَفٌ. وَالْعَمُّ جَانِبٌ، وَالأَْخُ جَانِبٌ. (2)
وَيُسَمَّى بِهَا الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ وَالْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ
لِلْغَلَبَةِ. وَقَالُوا فِي مَصْدَرِهَا الْعُصُوبَةَ. وَالذَّكَرُ
يُعَصِّبُ الأُْنْثَى أَيْ يَجْعَلُهَا عَصَبَةً. (3)
46 - وَالْعَاصِبُ بِنَفْسِهِ فِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ مَنْ يَرِثُ الْمَال
كُلَّهُ إِذَا انْفَرَدَ أَوِ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْفَرْضِ، وَهُوَ الَّذِي
يُرَادُ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ. (4) وَعَرَّفَهُ صَاحِبُ السِّرَاجِيَّةِ:
بِأَنَّهُ كُل ذَكَرٍ لاَ تَدْخُل فِي نِسْبَتِهِ إِلَى الْمَيِّتِ
أُنْثَى، فَإِنَّ مَنْ دَخَلَتِ الأُْنْثَى فِي نِسْبَتِهِ إِلَيْهِ لَمْ
يَكُنْ عَصَبَةً كَأَوْلاَدِ الأُْمِّ (5) .
47 -
__________
(1) الفناري على السراجة ص 94 وما بعدها، والعذب الفائض ص 54 - 63، والشرح
الكبير 4 / 411، والتحفة مع الشرواني 6 / 17
(2) مختار الصحاح ص 435 ط دار الكتاب
(3) السراجية ص 146، والعذب الفائض 1 / 74
(4) الشرح الكبير 4 / 414، والتحفة مع الحاشية 6 / 28، والعذب الفائض 1 /
75
(5) السراجة ص 146
(3/42)
وَالْعَصَبَةُ نَوْعَانِ، عَصَبَةٌ
نَسَبِيَّةٌ وَهِيَ مَا سَبَقَ تَعْرِيفُهُ.
وَعَصَبَةٌ سَبَبِيَّةٌ وَيُرَادُ بِهَا الْمُعْتَقُ وَعَصَبَتُهُ
الذُّكُورُ.
وَالْعَصَبَةُ النَّسَبِيَّةُ أَقْسَامٌ ثَلاَثَةٌ: عَصَبَةٌ بِنَفْسِهِ،
وَعَصَبَةٌ بِغَيْرِهِ، وَعَصَبَةٌ مَعَ غَيْرِهِ.
48 - وَالْعَصَبَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ:
الأَْوَّل: جُزْءُ الْمَيِّتِ، وَالثَّانِي أَصْلُهُ، وَالثَّالِثُ جُزْءُ
أَبِيهِ، وَالرَّابِعُ جُزْءُ جَدِّهِ.
فَيُقَدَّمُ فِي هَذِهِ الأَْصْنَافِ وَالْمُنْدَرِجِينَ فِيهَا
الأَْقْرَبُ فَالأَْقْرَبُ، أَيْ يُرَجَّحُونَ بِقُرْبِ الدَّرَجَةِ.
فَأَوْلاَهُمْ بِالْمِيرَاثِ بَنُو الْمَيِّتِ، ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ
سَفَلُوا، ثُمَّ أَصْل الْمَيِّتِ أَيِ الأَْبُ، ثُمَّ أَبُوهُ وَإِنْ
عَلاَ. وَقُدِّمَ الْبَنُونَ عَلَى الأَْبِ، لأَِنَّهُمْ فُرُوعُ
الْمَيِّتِ وَالأَْبُ أَصْلُهُ، وَاتِّصَال الْفَرْعِ بِأَصْلِهِ أَظْهَرُ
مِنْ اتِّصَال الأَْصْل بِفَرْعِهِ. فَإِنَّ الْفَرْعَ يَتْبَعُ أَصْلَهُ
وَيَصِيرُ مَذْكُورًا بِذِكْرِهِ دُونَ الْعَكْسِ، فَإِنَّ الْبِنَاءَ
وَالأَْشْجَارَ يَدْخُلاَنِ فِي بَيْعِ الأَْرْضِ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرَا
فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، وَلاَ يَدْخُلاَنِ فِي بَيْعِهَا إِلاَّ بِالنَّصِّ
عَلَيْهِمَا. وَقُدِّمَ بَنُو الْبَنِينَ وَإِنْ سَفَلُوا عَلَى الأَْبِ،
لأَِنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِهِمْ أَيْضًا الْبُنُوَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ
عَلَى الأُْبُوَّةِ. وَكَوْنُ الأَْبِ أَقْرَبَ مِنَ الْجَدِّ ظَاهِرٌ
كَظُهُورِهِ فِيمَا بَيْنَ الاِبْنِ وَابْنِ الاِبْنِ، وَإِذَا أُرِيدَ
بِالْجَدِّ أَبُو الأَْبِ فَيَخْرُجُ عَنْهُ أَبُو الأُْمِّ، ثُمَّ
يُقَدَّمُ بَعْدَ مَنْ ذُكِرُوا جُزْءُ الأَْبِ أَيِ الإِْخْوَةُ ثُمَّ
بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا. وَهَذَا (أَيْ تَأْخِيرُ الإِْخْوَةِ عَنِ
الْجَدِّ) عِنْدَ الإِْمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ خِلاَفًا لِلصَّاحِبَيْنِ،
ثُمَّ جُزْءُ جَدِّهِ أَيِ الأَْعْمَامُ، ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا.
وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ جِهَاتِ الْعُصُوبَةِ
سِتٌّ: الْبُنُوَّةُ ثُمَّ الأُْبُوَّةُ ثُمَّ الْجُدُودَةُ مَعَ
الأُْخُوَّةُ ثُمَّ بَنُو الإِْخْوَةِ ثُمَّ الْعُمُومَةُ ثُمَّ
الْوَلاَءُ، وَعِنْدَ الإِْمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ خَمْسُ
جِهَاتٍ فَقَطْ: الْبُنُوَّةُ ثُمَّ الأُْبُوَّةُ ثُمَّ الأُْخُوَّةُ ثُمَّ
الْعُمُومَةُ ثُمَّ الْوَلاَءُ،
(3/42)
بِإِدْخَال الْجَدِّ وَإِنْ عَلاَ فِي
الأُْبُوَّةِ وَإِدْخَال بَنِي الإِْخْوَةِ وَإِنْ نَزَلُوا بِمَحْضِ
الذُّكُورَةِ فِي الأُْخُوَّةِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ الْجِهَاتُ سَبْعٌ:
الْبُنُوَّةُ ثُمَّ الأُْبُوَّةُ ثُمَّ الْجُدُودَةُ مَعَ الأُْخُوَّةِ
ثُمَّ بَنُو الإِْخْوَةِ ثُمَّ الْعُمُومَةُ ثُمَّ الْوَلاَءُ ثُمَّ بَيْتُ
الْمَال (1)
وَمِمَّا تَقَدَّمَ يُعْلَمُ أَنَّ الْعَصَبَةَ إِذَا كَانَ وَاحِدًا مِنْ
أَيِّ جِهَةٍ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ كُل التَّرِكَةِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ
صَاحِبُ فَرْضٍ، فَإِنْ وُجِدَ كَانَ لَهُ الْبَاقِي، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
بَاقٍ فَلاَ شَيْءَ لَهُ.
وَإِذَا تَعَدَّدَتِ الْعَصَبَاتُ وَتَعَدَّدَتْ جِهَاتُهُمْ، فَإِنَّهُ
يُقَدَّمُ مَنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْبُنُوَّةِ كَمَا سَبَقَ. فَإِذَا
تَعَدَّدُوا وَكَانُوا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ قُدِّمَ أَقْرَبُهُمْ
دَرَجَةً، فَيُقَدَّمُ الاِبْنُ عَلَى ابْنِ الاِبْنِ، وَالأَْبُ عَلَى
الْجَدِّ، وَيُقَدَّمُ فُرُوعُ الْجَدِّ الأَْوَّل مَهْمَا نَزَلُوا عَلَى
فُرُوعِ الْجَدِّ الثَّانِي مَهْمَا عَلَوْا، لأَِنَّهُمْ أَقْرَبُ
دَرَجَةً.
وَإِنِ اتَّحَدَتِ الْجِهَةُ وَاتَّحَدَتِ الدَّرَجَةُ قُدِّمَ الأَْقْوَى
قَرَابَةً، وَهُوَ مَنْ تَكُونُ قَرَابَتُهُ لأَِبَوَيْنِ، فَإِنَّهُ
يُقَدَّمُ عَلَى مَنْ تَكُونُ قَرَابَتُهُ لأَِبٍ فَقَطْ، فَيُقَدَّمُ
الأَْخُ الشَّقِيقُ عَلَى الأَْخِ لأَِبٍ، وَابْنُ الأَْخِ الشَّقِيقِ
عَلَى ابْنِ الأَْخِ لأَِبٍ وَهَكَذَا.
وَإِنْ تَعَدَّدَتِ الْعَصَبَاتُ وَكَانُوا جَمِيعًا مِنْ جِهَةٍ
وَاحِدَةٍ، وَفِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقُوَّةُ قَرَابَتِهِمْ وَاحِدَةٌ،
اسْتَحَقُّوا جَمِيعًا فِي الْمِيرَاثِ؛ إِذْ لاَ تَفَاوُتَ بَيْنَهُمْ
وَلاَ وَجْهَ لِتَرْجِيحِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فَيَكُونُونَ فِي
التَّعْصِيبِ سَوَاءً.
__________
(1) السراجية ص 146 وما بعدها، والعذب الفائض 1 / 75 وما بعدها، والشرح
الكبير 4 / 414 وما بعدها، والتحفة مع الحاشية 6 / 28
(3/43)
الْعَصَبَةُ بِالْغَيْرِ:
49 - وَهُنَّ النِّسَاءُ اللاَّتِي يَصِرْنَ عَصَبَةً بِالْغَيْرِ
وَهُنَّ أَرْبَعٌ: بِنْتُ الصُّلْبِ، وَبِنْتُ الاِبْنِ إِذَا لَمْ تُوجَدِ
الْبِنْتُ، وَالأُْخْتُ الشَّقِيقَةُ، وَالأُْخْتُ لأَِبٍ عِنْدَ عَدَمِ
الشَّقِيقَةِ، فَإِنَّ هَؤُلاَءِ الأَْرْبَعَ يَصِرْنَ عَصَبَةً
بِإِخْوَتِهِنَّ الَّذِينَ فِي قُوَّتِهِنَّ، وَيُعَصَّبُ بَنَاتُ الاِبْنِ
أَيْضًا بِبَنِي عَمِّهِنَّ الَّذِينَ فِي دَرَجَتِهِنَّ، وَيُعَصِّبْنَ
كَذَلِكَ بِبَنِي إِخْوَتِهِنَّ، وَبَنِيَّ أَبْنَاءِ عَمِّهِنَّ إِذَا
احْتَجْنَ إِلَيْهِمْ فِي التَّوْرِيثِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأُْخْتَ الشَّقِيقَةَ أَوْ لأَِبٍ
تُعَصَّبُ أَيْضًا بِالْجَدِّ وَتَكُونُ عَصَبَةً بِالْغَيْرِ (1) .
وَكَذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ إِذَا لَمْ يُوجَدْ أَخٌ يُعَصِّبُهَا.
وَمَنْ لاَ فَرْضَ لَهَا مِنْهُنَّ يُعَصِّبُهَا أَيْضًا مَنْ دُونَهَا
مِنْ بَنِي الاِبْنِ.
وَالأَْصْل فِي هَذَا قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي
أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ} . (2)
وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً
فَلِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ} . (3)
وَمَنْ لاَ فَرْضَ لَهَا وَأَخُوهَا عَصَبَةٌ لاَ تَصِيرُ عَصَبَةً
بِأَخِيهَا، وَذَلِكَ لأَِنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ فِي صَيْرُورَةِ
الإِْنَاثِ بِالذُّكُورِ عَصَبَةً إِنَّمَا هُوَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ:
الْبَنَاتِ بِالْبَنِينَ، وَالأَْخَوَاتِ بِالإِْخْوَةِ، وَالإِْنَاثُ فِي
كُلٍّ مِنْهُمَا ذَوَاتُ فُرُوضٍ. فَمَنْ لاَ فَرْضَ لَهَا مِنَ الإِْنَاثِ
كَبِنْتِ الأَْخِ مَعَ أَخِيهَا، وَالْعَمَّةِ مَعَ الْعَمِّ، لاَ
يَتَنَاوَلُهَا النَّصُّ، وَالأَْخُ يَنْقُل أُخْتَهُ مِنْ فَرْضِهَا
حَالَةَ
__________
(1) المواق 6 / 410، والدسوقي 4 / 449، والعذب الفائض 1 / 90
(2) سورة النساء / 11
(3) سورة النساء / 176
(3/43)
الاِنْفِرَادِ إِلَى الْعُصُوبَةِ، كَيْ
لاَ يَلْزَمَ تَفْضِيل الأُْنْثَى عَلَى الذَّكَرِ أَوِ الْمُسَاوَاةُ
بَيْنَهُمَا.
الْعَصَبَةُ مَعَ الْغَيْرِ:
50 - وَهِيَ كُل أُنْثَى تَصِيرُ عَصَبَةً مَعَ أُنْثَى غَيْرِهَا، وَهِيَ
الأُْخْتُ الشَّقِيقَةُ أَوْ لأَِبٍ مَعَ الْبِنْتِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ
صُلْبِيَّةً أَمْ بِنْتَ ابْنٍ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ وَاحِدَةً أَمْ
أَكْثَرَ
، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: اجْعَلُوا الأَْخَوَاتِ
مَعَ الْبَنَاتِ عَصَبَةً (1) وَالْمُرَادُ مِنَ الْجَمْعَيْنِ
(الأَْخَوَاتُ) (وَالْبَنَاتُ) هُوَ الْجِنْسُ وَاحِدًا كَانَ أَوْ
مُتَعَدِّدًا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَصَبَةِ بِالْغَيْرِ وَالْعَصَبَةِ مَعَ الْغَيْرِ،
أَنَّ الْمُعَصِّبَ لِغَيْرِهِ يَكُونُ عَصَبَةً بِنَفْسِهِ، فَتَتَعَدَّى
بِسَبَبِهِ الْعُصُوبَةُ إِلَى الأُْنْثَى. وَفِي الْعَصَبَةِ مَعَ
الْغَيْرِ لاَ يَكُونُ ثَمَّةَ عَاصِبٌ بِالنَّفْسِ أَصْلاً. (2)
الإِْرْثُ بِالْعُصُوبَةِ السَّبَبِيَّةِ:
51 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَتِيقَ رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً
يَرِثُ جَمِيعَ مَال مَنْ أَعْتَقَهُ أَوِ الْبَاقِيَ مِنْهُ إِذَا
اتَّفَقَا فِي الدِّينِ، وَلَمْ يَخْلُفِ الْعَتِيقُ مَنْ يَرِثُهُ، أَوْ
خَلَفَ مَنْ يَرِثُ الْبَعْضَ. أَمَّا إِذَا اخْتَلَفَا فِي الدِّينِ
فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لاَ تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا، وَذَهَبَ
الْحَنَابِلَةُ فِي الأَْصَحِّ إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ يَرِثُ عَتِيقَهُ
الْكَافِرَ بِالْوَلاَءِ وَعَكْسِهِ. (3)
__________
(1) تقدم (هامش ف 42)
(2) السراجية ص 154، 156، والعذب الفائض 1 / 88 - 93 والشرح الكبير 4 /
414، والتحفة على الحاشية 6 / 27
(3) منتهى الإرادات 2 / 625
(3/44)
وَلاَءُ الْمُوَالاَةِ:
52 - عَقْدُ الْمُوَالاَةِ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الإِْرْثِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ مَرْتَبَتُهُ بَعْدَ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ.
فَمَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ وَوَالاَهُ وَعَاقَدَهُ ثُمَّ مَاتَ
وَلاَ وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فَمِيرَاثُهُ لَهُ.
وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ
وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ
أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} وَعَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ
(عَاقَدَتْ) فَالآْيَةُ ثَابِتَةُ الْحُكْمِ مُسْتَعْمَلَةٌ عَلَى مَا
تَقْتَضِيهِ مِنْ إِثْبَاتِ الْمِيرَاثِ عِنْدَ فَقْدِ ذَوِي الأَْرْحَامِ.
وَقَدْ وَرَدَ الأَْثَرُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِثُبُوتِ هَذَا الْحُكْمِ وَبَقَائِهِ عِنْدَ عَدَمِ ذَوِي
الأَْرْحَامِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّهُ قَال: يَا
رَسُول اللَّهِ مَا السُّنَّةُ فِي الرَّجُل يُسْلِمُ عَلَى يَدَيِ
الرَّجُل مِنَ الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَال: هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِمَحْيَاهُ
وَمَمَاتِهِ فَقَوْلُهُ: هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِمَمَاتِهِ يَقْتَضِي أَنْ
يَكُونَ أَوْلاَهُمْ بِمِيرَاثِهِ، إِذْ لَيْسَ بَعْدَ الْمَوْتِ
بَيْنَهُمَا وِلاَيَةٌ إِلاَّ فِي الْمِيرَاثِ.
وَقَال مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَابْنُ شُبْرُمَةَ
وَالثَّوْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ: مِيرَاثُهُ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَقَال يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: إِذَا جَاءَ مِنْ أَرْضِ الْعَدُوِّ
فَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ فَإِنَّ وَلاَءَهُ لِمَنْ وَالاَهُ. وَمَنْ
أَسْلَمَ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
فَوَلاَؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً.
وَاسْتَدَل الْمَالِكِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَلأَِنَّ
أَسْبَابَ الإِْرْثِ مَحْصُورَةٌ فِي رَحِمٍ وَنِكَاحٍ وَوَلاَءٍ، وَلَيْسَ
هَذَا مِنْهَا، وَالآْيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، وَلِذَلِكَ
لاَ يَرِثُ مَعَ ذِي
(3/44)
رَحِمٍ شَيْئًا، وقَوْله تَعَالَى:
{وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} مَنْسُوخٌ.
وَقَال الْحَسَنُ: نَسَخَتْهَا {وَأُولُوا الأَْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى
بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} وَقَال مُجَاهِدٌ: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}
أَيْ مِنَ الْعَقْل - الدِّيَةِ - وَالنُّصْرَةِ وَالرِّفَادَةِ. وَلَيْسَ
هَذَا بِوَصِيَّةٍ، لأَِنَّ الْوَصِيَّ لاَ يُشَارِكُ فِي دِيَةٍ، فَلَهُ
الرُّجُوعُ (1)
بَيْتُ الْمَال:
53 - بَيْتُ الْمَال هُوَ الْجِهَةُ الَّتِي يَؤُول إِلَيْهَا كُل مَالٍ
اسْتَحَقَّهُ الْمُسْلِمُونَ وَلَمْ يَتَعَيَّنْ مَالِكُهُ مِنْهُمْ،
كَالْفَيْءِ (2) وَيُطْلِقُ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ جِهَةَ الإِْسْلاَمِ
أَيْضًا (3)
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَقَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ -
وَهُوَ شَاذٌّ - أَنَّ بَيْتَ الْمَال لَيْسَ وَارِثًا، وَإِنَّمَا تَئُول
إِلَيْهِ التَّرِكَةُ أَوْ مَا يَبْقَى مِنْهَا بِاعْتِبَارِهِ مَالاً لاَ
مُسْتَحِقَّ لَهُ، فَيَأْخُذُهُ بَيْتُ الْمَال كَمَا يَأْخُذُ كُل مَالٍ
ضَائِعٍ لاَ مِلْكَ فِيهِ لأَِحَدٍ كَاللُّقَطَةِ، وَيَصْرِفُهُ فِي
الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْمُزَنِيُّ
وَابْنُ سُرَيْجٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ أَنَّ بَيْتَ الْمَال مِنَ
الْعَصَبَةِ وَرُتْبَتُهُ تَلِي رُتْبَةَ الْمُعْتِقِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِبَيْتِ الْمَال: بَيْتُ
مَال وَطَنِهِ، مَاتَ فِيهِ أَوْ بِغَيْرِهِ مِنَ الْبِلاَدِ، كَانَ
مَالُهُ
__________
(1) المبسوط 30 / 43 - 46، وأحكام القرآن للجصاص 2 / 186 ط دار الكتاب،
والبهجة شرح التحفة ص 593، وشرح المحلي 3 / 137، هامش قليوبي وعميرة،
والمغني 6 / 381 ط الرياض.
(2) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 235
(3) التحفة هامش الشرواني 6 / 8
(3/45)
بِوَطَنِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ. فَإِذَا لَمْ
يَكُنْ لَهُ وَطَنٌ فَقِيل: الْمُعْتَبَرُ الْوَطَنُ الَّذِي بِهِ الْمَال،
وَقِيل الَّذِي مَاتَ بِهِ، وَهُمْ يَعُدُّونَ بَيْتَ الْمَال عَاصِبًا
فَهُوَ كَوَارِثٍ ثَابِتِ النَّسَبِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَشْهُورُ
عِنْدَهُمْ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُنْتَظِمًا أَمْ غَيْرَ مُنْتَظِمٍ.
وَقِيل: إِنَّهُ حَائِزٌ لِلأَْمْوَال الضَّائِعَةِ لاَ وَارِثٌ، وَهُوَ
شَاذٌّ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الْقَوْل: أَنَّهُ يَجُوزُ
لِلإِْنْسَانِ أَنْ يُوصِيَ بِجَمِيعِ مَالِهِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ
وَارِثٌ مِنَ النَّسَبِ، كَمَا يَجُوزُ الإِْقْرَارُ بِوَارِثٍ وَلَوْ لَمْ
يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ، بِخِلاَفِ الْقَوْل بِأَنَّ بَيْتَ الْمَال وَارِثٌ
فَلاَ يَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِكُل الْمَال وَلاَ الإِْقْرَارُ بِوَارِثٍ.
(1)
وَالشَّافِعِيَّةُ كَالْمَالِكِيَّةِ فِي أَنَّ بَيْتَ الْمَال يَلِي
الْعَصَبَةَ النَّسَبِيَّةَ وَالسَّبَبِيَّةَ، وَأَنَّهُ يَرِثُ كُل
الْمَال أَوِ الْبَاقِيَ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْتَظِمًا، بِأَنْ
كَانَ الْمُتَوَلِّي عَلَيْهِ جَائِرًا أَوْ غَيْرَ أَهْلٍ لِلْقِيَامِ
عَلَيْهِ، لأَِنَّ الإِْرْثَ لِجِهَةِ الإِْسْلاَمِ، وَلاَ ظُلْمَ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَبْطُل حَقُّهُمْ بِجَوْرِ الإِْمَامِ، وَهَذَا
هُوَ الأَْصْل عِنْدَهُمْ.
وَأَفْتَى الْمُتَأَخِّرُونَ: بِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَنْتَظِمْ أَمْرُ
بَيْتِ الْمَال، بِأَنْ فَقَدَ الإِْمَامَ أَوْ بَعْضَ شُرُوطِ
الإِْمَامَةِ، كَأَنْ جَارَ، فَإِنَّهُ يُرَدُّ عَلَى أَصْحَابِ
الْفُرُوضِ، لاِنْحِصَارِ مَصْرِفِ التَّرِكَةِ فِيهِمْ وَفِي بَيْتِ
الْمَال، فَإِذَا تَعَذَّرَ بَيْتُ الْمَال تَعَيَّنُوا.
الْحَجْبُ:
54 - الْحَجْبُ فِي اللُّغَةِ: الْمَنْعُ، بَابُهُ قَتَل، وَمِنْهُ قِيل
لِلسِّتْرِ حِجَابٌ، لأَِنَّهُ يَمْنَعُ الْمُشَاهَدَةَ، وَقِيل
لِلْبَوَّابِ حَاجِبٌ، لأَِنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ الدُّخُول. (2)
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 416
(2) المصباح
(3/45)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَهُ صَاحِبُ
السِّرَاجِيَّةِ: بِأَنَّهُ مَنْعُ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ عَنْ مِيرَاثِهِ
إِمَّا كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ بِوُجُودِ شَخْصٍ آخَرَ (1)
، وَلاَ تَخْرُجُ التَّعْرِيفَاتُ فِي الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى عَنْ هَذَا
التَّعْرِيفِ.
وَالْحَجْبُ مُطْلَقًا قِسْمَانِ:
حَجْبٌ بِوَصْفٍ، وَهُوَ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْهُ عُلَمَاءُ الْمِيرَاثِ
بِالْمَانِعِ، كَمَنْعِ الْقَاتِل مِنَ الْمِيرَاثِ.
وَحَجْبٌ بِشَخْصٍ، وَهُوَ الْمُرَادُ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ. وَهُوَ
قِسْمَانِ:
حَجْبُ حِرْمَانٍ، وَهُوَ أَنْ يُسْقِطَ الشَّخْصُ غَيْرَهُ
بِالْكُلِّيَّةِ. وَهُوَ لاَ يَدْخُل عَلَى سِتَّةٍ مِنَ الْوَرَثَةِ
إِجْمَاعًا، وَهُمْ: الأَْبَوَانِ وَالزَّوْجَانِ وَالْوَلَدَانِ (الاِبْنُ
وَالْبِنْتُ) وَضَابِطُهُمْ كُل مَنْ أَدْلَى بِنَفْسِهِ إِلَى الْمَيِّتِ
إِلاَّ الْمُعْتَقَ.
وَالثَّانِي حَجْبُ نُقْصَانٍ. وَهُوَ: حَجْبٌ عَنْ سَهْمٍ أَكْثَرَ إِلَى
سَهْمٍ أَقَل، وَهُوَ لِخَمْسَةٍ مِنَ الْوَرَثَةِ، لِلزَّوْجَيْنِ، إِذِ
الزَّوْجُ يُحْجَبُ مِنَ النِّصْفِ إِلَى الرُّبُعِ، وَالزَّوْجَةُ مِنَ
الرُّبُعِ إِلَى الثُّمُنِ بِوُجُودِ الْوَلَدِ أَوْ وَلَدِ الاِبْنِ،
وَالأُْمُّ تُحْجَبُ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ بِالْوَلَدِ، أَوْ
وَلَدِ الاِبْنِ، أَوَ الاِثْنَيْنِ مِنَ الإِْخْوَةِ وَالأَْخَوَاتِ،
وَبِنْتُ الاِبْنِ مَعَ بِنْتِ الصُّلْبِ مِنَ النِّصْفِ إِلَى السُّدُسِ
تَكْمِلَةً لِلثُّلُثَيْنِ، وَالأُْخْتُ لأَِبٍ تَحْجُبُ الشَّقِيقَةَ مِنَ
النِّصْفِ إِلَى السُّدُسِ.
وَالْمَحْرُومُ (الْمَمْنُوعُ) مِنَ الْمِيرَاثِ، لِوُجُودِ وَصْفٍ مَانِعٍ
بِهِ لاَ يَحْجُبُ غَيْرَهُ، لاَ حِرْمَانًا كَامِلاً وَلاَ نَاقِصًا
عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَمِنْهُمُ الأَْئِمَّةُ الأَْرْبَعَةُ،
لأَِنَّ وُجُودَهُ كَالْعَدَمِ، خِلاَفًا لاِبْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ فِي حَجْبِ الزَّوْجَيْنِ وَالأُْمِّ حَجْبَ نُقْصَانٍ بِالْوَلَدِ
__________
(1) السراجية ص171
(3/46)
وَالإِْخْوَةِ الْكُفَّارِ وَالأَْرِقَّاءِ
وَالْقَاتِلِينَ، وَتَبِعَهُ دَاوُد الظَّاهِرِيُّ فِي الثَّلاَثَةِ،
وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَابْنُ جَرِيرٍ
الطَّبَرِيُّ فِي الْقَاتِل خَاصَّةً.
فَإِنْ مَاتَ شَخْصٌ عَنِ ابْنِهِ الْكَافِرِ وَزَوْجَةٍ وَأَخٍ شَقِيقٍ،
فَلِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ وَالْبَاقِي لِلأَْخِ الشَّقِيقِ بِاتِّفَاقِ
الأَْئِمَّةِ الأَْرْبَعَةِ.
وَالْمَحْجُوبُ حَجْبَ حِرْمَانٍ قَدْ يَحْجُبُ غَيْرَهُ حَجْبَ نُقْصَانٍ.
فَإِذَا تُوُفِّيَ شَخْصٌ عَنْ أُمٍّ وَأَبٍ وَإِخْوَةٍ، فَإِنَّ
الإِْخْوَةَ وَإِنْ كَانُوا مَحْجُوبِينَ بِالأَْبِ يُصَيِّرُونَ نَصِيبَ
الأُْمِّ إِلَى السُّدُسِ.
55 - وَقَدْ وَضَعَ الْفُقَهَاءُ قَوَاعِدَ يَقُومُ عَلَيْهَا الْحَجْبُ
هِيَ:
الأُْولَى: أَنَّ مَنْ يُدْلِي إِلَى الْمَيِّتِ بِوَارِثٍ يُحْجَبُ حَجْبَ
حِرْمَانٍ عِنْدَ وُجُودِ ذَلِكَ الْوَارِثِ، لأَِنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ
هُوَ وَمَنْ يُدْلِي بِسَبَبِهِ كَانَ هُوَ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ مِنْهُ،
لأَِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْمَيِّتِ، وَلأَِنَّ الْبَعِيدَ إِنَّمَا
اتَّصَل بِالْمَيِّتِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْقَرِيبِ وَلِقِيَامِهِ مَقَامَهُ،
وَحَيْثُ وُجِدَ الأَْصْل لاَ يَسْتَحِقُّ مَنْ كَانَ بَدَلاً عَنْهُ.
وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ تَسْرِي عَلَى الْعَصَبَاتِ مِنْ غَيْرِ
اسْتِثْنَاءٍ، فَالأَْبُ يَحْجُبُ الْجَدَّ، وَالأَْخُ الشَّقِيقُ يَحْجُبُ
ابْنَهُ وَهَكَذَا.
وَتَسْرِي هَذِهِ الْقَاعِدَةُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ،
فَالأَْبُ يَحْجُبُ الْجَدَّ عَنْ فَرْضِهِ، وَالأُْمُّ تَحْجُبُ أُمَّ
الأُْمِّ، وَلاَ تَسْرِي هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي بَعْضِ أَحْوَال
أَصْحَابِ الْفُرُوضِ كَأَوْلاَدِ الأُْمِّ بِالنِّسْبَةِ لِلأُْمِّ،
فَإِنَّهُمْ يَرِثُونَ مَعَ وُجُودِهَا، لَكِنَّهُمْ يَحْجُبُونَهَا حَجْبَ
نُقْصَانٍ إِذَا تَعَدَّدُوا، وَيَحْجُبُهُمُ الأَْبُ وَالْجَدُّ مَعَ
أَنَّهُمْ لاَ يُدْلُونَ بِهِمَا، لأَِنَّ النَّصَّ قَيَّدَ مِيرَاثَهُمْ
بِأَنْ
(3/46)
يَكُونَ الْمَيِّتُ كَلاَلَةً لَيْسَ لَهُ
وَالِدٌ وَلاَ وَلَدٌ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّ الأَْقْرَبَ يَحْجُبُ الأَْبْعَدَ إِذَا كَانَ
يَسْتَحِقُّ بِوَصْفِهِ وَنَوْعِهِ. وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ أَعَمُّ مِنَ
السَّابِقَةِ، لأَِنَّهَا تَشْمَل الْبَعِيدَ الَّذِي يُدْلِي بِأَقْرَبَ
مِنْهُ، وَمَنْ لاَ يُدْلِي بِهِ، فَالاِبْنُ يَحْجُبُ ابْنَ الاِبْنِ
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَبَاهُ، وَالْبِنْتَانِ تَحْجُبَانِ بِنْتَ الاِبْنِ
فِي الاِسْتِحْقَاقِ بِالْفَرْضِ، وَالأَْخُ يَحْجُبُ الْعَمَّ وَلَوْ
كَانَ لاَ يُدْلِي بِهِ، وَالْقُرْبَى تَحْجُبُ الْبُعْدَى مِنَ
الْجَدَّاتِ وَإِنْ كَانَتْ لاَ تُدْلِي بِهَا، وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ
تَتَحَقَّقُ فِي الْعَصَبَاتِ وَأَصْحَابِ الْفُرُوضِ عَلَى السَّوَاءِ.
الثَّالِثَةُ: أَنَّ الأَْقْوَى قَرَابَةً يَحْجُبُ الأَْضْعَفَ مِنْهُ،
فَالأَْخُ الشَّقِيقُ يَحْجُبُ الأَْخَ لأَِبٍ، وَالأُْخْتُ لأَِبٍ لاَ
تَأْخُذُ النِّصْفَ مَعَ الأُْخْتِ الشَّقِيقَةِ، وَهَكَذَا فِي كُل
الأَْحْوَال الَّتِي تَتَّحِدُ فِيهَا الدَّرَجَةُ وَتَخْتَلِفُ قُوَّةُ
الْقَرَابَةِ، فَإِنِ اتَّحَدَتِ الدَّرَجَةُ اُعْتُبِرَ الْحَجْبُ
بِقُرْبِهَا. (1)
الْعَوْل:
56 - مِنْ مَعَانِي الْعَوْل فِي اللُّغَةِ: الزِّيَادَةُ، وَعَالَتِ
الْفَرِيضَةُ فِي الْحِسَابِ زَادَتْ. وَالْفِعْل عَال وَمُضَارِعُهُ
يَعُول وَتُعِيل. (2)
57 - وَفِي الاِصْطِلاَحِ: زِيَادَةُ سِهَامِ الْفُرُوضِ عَنْ أَصْل
الْمَسْأَلَةِ، بِزِيَادَةِ كُسُورِهَا عَنِ الْوَاحِدِ الصَّحِيحِ.
وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ نُقْصَانُ أَنْصِبَاءِ الْوَرَثَةِ فِي التَّرِكَةِ
بِنِسْبَةِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، كَمَا إِذَا مَاتَتِ امْرَأَةٌ عَنْ
زَوْجٍ وَأُمٍّ وَأُخْتٍ شَقِيقَةٍ، فَإِنَّ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ
__________
(1) السراجية ص 171 - 180، والعذب الفائض 1 / 93 - 100 والشرح الكبير 4 /
415، والتحفة على الشرواني 6 / 18 - 22
(2) القاموس 4 / 23
(3/47)
فَرْضًا، وَلِلأُْمِّ الثُّلُثَ فَرْضًا،
وَلِلأُْخْتِ الشَّقِيقَةِ النِّصْفَ فَرْضًا، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ
قَدْ زَادَتِ الْفُرُوضُ عَمَّا تَنْقَسِمُ إِلَيْهِ التَّرِكَةُ
الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْوَاحِدِ الصَّحِيحِ.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ كَانَتْ أَوَّل مَسْأَلَةٍ عَالَتْ فِي
الإِْسْلاَمِ - وَقِيل: إِنَّ أَوَّل مَسْأَلَةٍ عَالَتْ هِيَ امْرَأَةٌ
تُوُفِّيَتْ عَنْ زَوْجٍ وَأُخْتَيْنِ - وَقَدْ وَقَعَتْ فِي صَدْرِ
خِلاَفَةِ عُمَرَ، فَاسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ فِي ذَلِكَ وَقَال:
وَاَللَّهِ مَا أَدْرِي أَيُّكُمْ قَدَّمَ اللَّهُ وَأَيُّكُمْ أَخَّرَ؟
وَإِنِّي إِنْ بَدَأْتُ بِالزَّوْجِ فَأَعْطَيْتُهُ حَقَّهُ كَامِلاً لَمْ
يَبْقَ لِلأُْخْتَيْنِ حَقَّهُمَا، وَإِنْ بَدَأْتُ بِالأُْخْتَيْنِ
فَأَعْطَيْتُهُمَا حَقَّهُمَا كَامِلاً لَمْ يَبْقَ لِلزَّوْجِ حَقُّهُ.
فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالْعَوْل الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَلَى
الْمَشْهُورِ، أَوْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، أَوْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ
فِي رِوَايَاتٍ أُخْرَى.
وَيُرْوَى أَنَّ الْعَبَّاسَ قَال: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْتَ
لَوْ مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَك سِتَّةَ دَرَاهِمَ، لِرَجُلٍ عَلَيْهِ
ثَلاَثَةٌ، وَلآِخَرَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ كَيْفَ تَصْنَعُ؟ أَلَيْسَ
تَجْعَل الْمَال سَبْعَةَ أَجْزَاءٍ قَال: نَعَمْ، قَال الْعَبَّاسُ: هُوَ
ذَلِكَ فَقَضَى عُمَرُ بِالْعَوْل.
وَيُرْوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَال: أَوَّل مَنْ
أَعَال الْفَرَائِضَ عُمَرُ لَمَّا الْتَوَتْ عَلَيْهِ الْفَرَائِضُ
وَدَافَعَ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَقَال: مَا أَدْرِي أَيُّكُمْ قَدَّمَهُ
اللَّهُ وَلاَ أَيُّكُمْ أَخَّرَهُ، وَكَانَ امْرَأً وَرِعًا، فَقَال: مَا
أَجِدُ شَيْئًا أَوْسَعَ لِي مِنْ أَنْ أَقْسِمَ التَّرِكَةَ عَلَيْكُمْ
بِالْحِصَصِ، وَأُدْخِل عَلَى كُل ذِي حَقٍّ مَا دَخَل عَلَيْهِ مِنْ عَوْل
الْفَرِيضَةِ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ حَتَّى انْتَهَى أَمْرُ
الْخِلاَفَةِ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَظْهَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ خِلاَفَهُ فِي
ذَلِكَ، وَقَال: لَوْ أَنَّهُمْ قَدَّمُوا مَنْ قَدَّمَ اللَّهُ
وَأَخَّرُوا مَنْ أَخَّرَ اللَّهُ مَا عَالَتْ فَرِيضَةٌ قَطُّ. فَقِيل
(3/47)
لَهُ: مَنْ قَدَّمَهُ اللَّهُ وَمَنْ
أَخَّرَهُ اللَّهُ؟ فَقَال: قَدَّمَ اللَّهُ الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ
وَالأُْمَّ وَالْجَدَّةَ، وَأَمَّا مَنْ أَخَّرَهُ اللَّهُ فَالْبَنَاتُ،
وَبَنَاتُ الاِبْنِ، وَالأَْخَوَاتُ الشَّقِيقَاتُ، وَالأَْخَوَاتُ لأَِبٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ قَال: مَنْ أَهْبَطَهُ اللَّهُ مِنْ
فَرْضٍ إِلَى فَرْضٍ فَهُوَ الَّذِي قَدَّمَهُ، وَمَنْ أَهْبَطَهُ اللَّهُ
مِنْ فَرْضٍ إِلَى غَيْرِ فَرْضٍ فَهُوَ الَّذِي أَخَّرَهُ.
احْتَجَّ مَنْ قَال بِالْعَوْل بِأَنَّ الْوَرَثَةَ تَسَاوَوْا فِي سَبَبِ
الاِسْتِحْقَاقِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْمُسَاوَاةَ فِيهِ فَيَأْخُذُ كُل
وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَمِيعَ حَقِّهِ إِنِ اتَّسَعَ الْمَحَل، فَإِنْ ضَاقَ
تَحَاصَّوْا - كَالْغُرَمَاءِ - فِي التَّرِكَةِ، وَلاَ يَصِحُّ إِسْقَاطُ
حَقِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَرَثَةِ، لأَِنَّهُ اسْتَحَقَّ نَصِيبَهُ بِنَصٍّ
ثَابِتٍ. وَهَذَا هُوَ رَأْيُ الأَْئِمَّةِ الأَْرْبَعَةِ. (1)
وَيَحْتَجُّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِأَنَّ الْحُقُوقَ فِي الأَْمْوَال غَيْرُ
مُتَسَاوِيَةٍ، فَإِذَا تَعَلَّقَ بِهَا حَقٌّ لاَ يَفِي بِهَا يُقَدَّمُ
مِنْهَا مَا كَانَ أَقْوَى، فَفِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ يُقَدَّمُ
التَّجْهِيزُ، وَالدَّيْنُ، وَالْوَصِيَّةُ، وَالْمِيرَاثُ، فَإِذَا
ضَاقَتِ التَّرِكَةُ عَنِ الْفُرُوضِ يُقَدَّمُ الأَْقْوَى. وَلاَ شَكَّ
أَنَّ مَنْ يُنْقَل مِنْ فَرْضٍ مُقَدَّرٍ إِلَى فَرْضٍ آخَرَ مُقَدَّرٍ
يَكُونُ صَاحِبَ فَرْضٍ مِنْ كُل وَجْهٍ، فَيَكُونُ أَقْوَى مِمَّنْ
يُنْقَل مِنْ فَرْضٍ مُقَدَّرٍ إِلَى فَرْضٍ آخَرَ غَيْرِ مُقَدَّرٍ،
لأَِنَّهُ صَاحِبُ فَرْضٍ مِنْ وَجْهٍ وَعَصَبَةٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.
فَإِدْخَال النَّقْصِ عَلَيْهِ أَوِ الْحِرْمَانِ أَوْلَى، لأَِنَّ ذَوِي
الْفُرُوضِ مُقَدَّمُونَ عَلَى الْعَصَبَاتِ.
58 - وَلَقَدْ وُجِدَ بِالاِسْتِقْرَاءِ أَنَّ أُصُول الْمَسَائِل الَّتِي
تَعُول هِيَ: مَا كَانَ أَصْلُهُ سِتَّةً، وَاثْنَيْ عَشَرَ، وَأَرْبَعَةً
وَعِشْرِينَ.
__________
(1) السراجية ص 195 - 196، والمبسوط 29 / 161 - 162 ط دار المعرفة، والعذب
الفائض 1 / 165
(3/48)
59 - فَمَا أَصْلُهُ سِتَّةٌ قَدْ يَعُول
إِلَى سَبْعَةٍ وَإِلَى ثَمَانِيَةٍ وَإِلَى تِسْعَةٍ وَإِلَى عَشَرَةٍ.
فَالأَْوَّل، كَزَوْجٍ وَأُخْتَيْنِ شَقِيقَتَيْنِ: فَإِنَّ الزَّوْجَ
يَأْخُذُ النِّصْفَ وَهُوَ ثَلاَثَةُ أَسْهُمٍ، وَالأُْخْتَيْنِ
الثُّلُثَيْنِ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ، فَالْمَجْمُوعُ سَبْعَةٌ.
وَمِثَال الْعَوْل إِلَى ثَمَانِيَةٍ: زَوْجٌ، وَأُخْتَانِ لأَِبٍ،
وَأُمٌّ، فَإِنَّ الزَّوْجَ يَأْخُذُ النِّصْفَ ثَلاَثَةَ أَسْهُمٍ،
وَتَأْخُذُ الأُْخْتَانِ الثُّلُثَيْنِ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ، وَالأُْمُّ
السُّدُسَ سَهْمًا، فَالْمَجْمُوعُ ثَمَانِيَةٌ.
وَمِثَال الْعَوْل إِلَى تِسْعَةٍ: زَوْجٌ، وَأُخْتَانِ شَقِيقَتَانِ،
وَأَخَوَانِ لأُِمٍّ، فَإِنَّ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ ثَلاَثَةً،
وَلِلأُْخْتَيْنِ الشَّقِيقَتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ أَرْبَعَةً،
وَلِلأَْخَوَيْنِ لأُِمٍّ الثُّلُثَ سَهْمَيْنِ، فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ
تِسْعَةً.
وَمِثَال الْعَوْل إِلَى عَشَرَةٍ: زَوْجٌ، وَأُخْتٌ شَقِيقَةٌ، وَأُخْتٌ
لأَِبٍ، وَأَخَوَانِ لأُِمٍّ، وَأُمٌّ، فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ ثَلاَثَةُ
أَسْهُمٍ، وَلِلأُْخْتِ الشَّقِيقَةِ النِّصْفُ ثَلاَثَةٌ، وَلِلأُْخْتِ
لأَِبٍ السُّدُسُ سَهْمٌ، وَلِلأَْخَوَيْنِ لأُِمٍّ الثُّلُثُ سَهْمَانِ،
وَلِلأُْمِّ السُّدُسُ سَهْمٌ، فَالْمَجْمُوعُ عَشَرَةٌ.
60 - وَإِذَا كَانَ أَصْل الْمَسْأَلَةِ اثْنَيْ عَشَرَ فَقَدْ تَعُول
إِلَى ثَلاَثَةَ عَشَرَ، كَزَوْجَةٍ وَأُمٍّ وَأُخْتٍ لأَِبٍ، فَإِنَّ
لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعَ، وَلِلأُْمِّ الثُّلُثَ، وَلِلأُْخْتِ لأَِبٍ
النِّصْفَ، فَأَصْل الْمَسْأَلَةِ: اثْنَا عَشَرَ، لِلزَّوْجَةِ ثَلاَثَةُ
أَسْهُمٍ، وَلِلأُْخْتِ سِتَّةٌ، وَلِلأُْمِّ أَرْبَعَةٌ.
وَقَدْ تَعُول إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ، كَزَوْجٍ، وَبِنْتَيْنِ، وَأُمٍّ،
وَأَبٍ، لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ ثَلاَثَةٌ، وَلِلْبِنْتَيْنِ ثَمَانِيَةٌ،
وَلِكُلٍّ مِنْ الأَْبِ وَالأُْمِّ اثْنَانِ، فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ
خَمْسَةَ عَشَرَ.
(3/48)
وَقَدْ تَعُول إِلَى سَبْعَةَ عَشَرَ،
كَزَوْجَةٍ، وَأُمٍّ، وَأُخْتَيْنِ لأَِبٍ، وَأَخَوَيْنِ لأُِمٍّ.
لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ ثَلاَثَةٌ، وَلِلأُْمِّ السُّدُسُ اثْنَانِ،
وَلِلأُْخْتَيْنِ لأَِبٍ الثُّلُثَانِ ثَمَانِيَةٌ، وَلِلأَْخَوَيْنِ
لأُِمٍّ الثُّلُثُ أَرْبَعَةٌ، فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ سَبْعَةَ عَشَرَ.
61 - وَإِذَا كَانَ أَصْل الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ،
فَإِنَّهَا لاَ تَعُول إِلاَّ إِلَى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَذَلِكَ
كَزَوْجَةٍ، وَبِنْتَيْنِ، وَأُمٍّ، وَأَبٍ، لِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ
ثَلاَثَةٌ، وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ سِتَّةَ عَشَرَ، وَلِكُلٍّ مِنَ
الأَْبِ وَالأُْمِّ السُّدُسُ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ
سَبْعَةً وَعِشْرِينَ.
62 - وَمَا عَدَا مَا ذُكِرَ مِنْ أُصُول الْمَسَائِل فَلاَ تَعُول، وَهِيَ
الاِثْنَانِ، وَالثَّلاَثَةُ، وَالأَْرْبَعَةُ، وَالثَّمَانِيَةُ، فَلاَ
عَوْل فِي الاِثْنَيْنِ، لأَِنَّ الْمَسْأَلَةَ إِنَّمَا تَكُونُ مِنِ
اثْنَيْنِ إِذَا كَانَ فِيهَا نِصْفَانِ، كَزَوْجٍ وَأُخْتٍ شَقِيقَةٍ،
أَوْ نِصْفٌ وَمَا بَقِيَ، كَزَوْجٍ وَأَخٍ شَقِيقٍ.
كَمَا لاَ عَوْل فِي الثَّلاَثَةِ، لأَِنَّ الْخَارِجَ مِنْهَا إِمَّا
ثُلُثٌ وَمَا بَقِيَ، كَأُمٍّ وَأَخٍ لأَِبٍ وَأُمٍّ، وَإِمَّا ثُلُثَانِ
وَمَا بَقِيَ، كَبِنْتَيْنِ وَأَخٍ لأَِبٍ، وَإِمَّا ثُلُثٌ وَثُلُثَانِ،
كَأُخْتَيْنِ لأُِمٍّ وَأُخْتَيْنِ شَقِيقَتَيْنِ.
وَلاَ عَوْل فِي الأَْرْبَعَةِ، لأَِنَّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، إِمَّا
رُبُعٌ وَمَا بَقِيَ، كَزَوْجٍ وَابْنٍ، أَوْ رُبُعٌ وَنِصْفٌ وَمَا
بَقِيَ، كَزَوْجٍ وَبِنْتٍ وَأَخٍ شَقِيقٍ، أَوْ رُبُعٌ وَثُلُثُ مَا
بَقِيَ، كَزَوْجَةٍ وَأَبَوَيْنِ.
وَلاَ عَوْل فِي الثَّمَانِيَةِ، لأَِنَّ الْخَارِجَ مِنْهَا إِمَّا ثُمُنٌ
وَمَا بَقِيَ، كَزَوْجَةٍ وَابْنٍ، أَوْ ثُمُنٌ وَنِصْفٌ وَمَا بَقِيَ
كَزَوْجَةٍ وَبِنْتٍ وَأَخٍ لأَِبٍ وَأُمٍّ. (1)
__________
(1) السراجية ص 197 - 198
(3/49)
الإِْرْثُ بِالرَّدِّ:
63 - مِنْ مَعَانِي الرَّدِّ فِي اللُّغَةِ: الرَّجْعُ. يُقَال: رَجَعْتُ
بِمَعْنَى رَدَدْتُ. وَمِنْهُ رَدَدْتُ عَلَيْهِ الْوَدِيعَةَ وَرَدَدْتُهُ
إِلَى مَنْزِلِهِ فَارْتَدَّ إِلَيْهِ. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: دَفْعُ مَا فَضَل مِنْ فُرُوضِ ذَوِي الْفُرُوضِ
النَّسَبِيَّةِ إِلَيْهِمْ بِقَدْرِ حُقُوقِهِمْ، عِنْدَ عَدَمِ
اسْتِحْقَاقِ الْغَيْرِ (2) . فَالرَّدُّ لاَ يَتَحَقَّقُ إِلاَّ إِذَا
ثَبَتَ أَمْرَانِ:
أَوَّلُهُمَا: أَلاَّ تَسْتَغْرِقَ الْفُرُوضُ التَّرِكَةَ؛ إِذْ لَوِ
اسْتَغْرَقَتْهَا لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ حَتَّى يُرَدَّ.
ثَانِيهُمَا: أَلاَّ يُوجَدَ عَاصِبٌ نَسَبِيٌّ أَوْ سَبَبِيٌّ عَلَى
الْخِلاَفِ فِي ذَلِكَ. فَلَوْ وُجِدَ عَاصِبٌ نَسَبِيٌّ وَلَوْ كَانَ مِنْ
أَصْحَابِ الْفُرُوضِ، وَهُوَ الأَْبُ أَوِ الْجَدُّ أَخَذَ الْبَاقِيَ
تَعْصِيبًا بَعْدَ الْفَرْضِ.
64 - وَالرَّدُّ مَحَل خِلاَفٍ بَيْنَ الصَّحَابَةِ. فَقَدِ انْقَسَمُوا
فِيهِ إِلَى فَرِيقَيْنِ، وَتَبِعَ كُل فَرِيقٍ جَمَاعَةٌ مِنَ
التَّابِعِينَ وَالأَْئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ.
65 - فَذَهَبَ فَرِيقٌ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَى الرَّدِّ عَلَى ذَوِي
الْفُرُوضِ، وَتَبِعَهُمْ فِي ذَلِكَ الإِْمَامَانِ: أَبُو حَنِيفَةَ
وَأَحْمَدُ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا
فِيمَنْ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ.
فَذَهَبَ الإِْمَامُ عَلِيٌّ إِلَى: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَعَ ذَوِي
الْفُرُوضِ عَصَبَةٌ مِنَ النَّسَبِ، وَلاَ مِنَ السَّبَبِ يُرَدُّ عَلَى
ذَوِي الْفُرُوضِ بِقَدْرِ أَنْصِبَائِهِمْ إِلاَّ الزَّوْجَيْنِ، وَهُوَ
مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ. وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ.
وَذَهَبَ عُثْمَانُ إِلَى أَنَّهُ يُرَدُّ عَلَى الزَّوْجَيْنِ أَيْضًا،
__________
(1) المصباح المنير مادة (رد) .
(2) الفناري على السراجية ص 228
(3/49)
وَهُوَ قَوْل جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ.
وَاحْتَجَّ عُثْمَانُ لِلرَّدِّ عَلَى الزَّوْجَيْنِ بِأَنَّ الْغُنْمَ
بِالْغُرْمِ، فَكَمَا أَنَّ بِالْعَوْل تَنْقُصُ سِهَامُهُمَا، فَيَجِبُ
أَنْ تُزَادَ بِالرَّدِّ.
وَقَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: يُرَدُّ عَلَى ذَوِي الْفُرُوضِ
إِلاَّ عَلَى سِتَّةٍ: الزَّوْجَيْنِ، وَابْنَةِ الاِبْنِ مَعَ ابْنَةِ
الصُّلْبِ، وَالأُْخْتِ لأَِبٍ مَعَ الأُْخْتِ الشَّقِيقَةِ، وَأَوْلاَدِ
الأُْمِّ مَعَ الأُْمِّ، وَالْجَدَّةِ مَعَ ذِي سَهْمٍ أَيًّا كَانَ، وَفِي
رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ اسْتَثْنَى جِهَةَ
الرَّدِّ عَلَى الزَّوْجَيْنِ، وَأَوْلاَدِ الأُْمِّ مَعَ الأُْمِّ،
وَالْجَدَّةِ مَعَ ذِي سَهْمٍ فَقَطْ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يُرَدُّ عَلَى أَصْحَابِ
الْفُرُوضِ إِلاَّ ثَلاَثَةً: الزَّوْجَيْنِ وَالْجَدَّةَ. (1)
وَقَدْ أَجْمَعَ مُتَأَخِّرُو فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُمْ مَنْ
بَعْدِ الأَْرْبَعِمِائَةِ، عَلَى أَنَّهُ يُرَدُّ عَلَى ذَوِي الْفُرُوضِ،
وَيُورَثُ ذَوُو الأَْرْحَامِ إِذَا كَانَ بَيْتُ الْمَال غَيْرَ
مُنْتَظِمٍ، وَذَلِكَ بِأَلاَّ يَكُونَ هُنَاكَ إِمَامٌ أَصْلاً، أَوْ
وُجِدَ وَفَقَدَ بَعْضَ شُرُوطِهِ، وَقَال بَعْضُهُمْ: إِذَا فَقَدَ
الإِْمَامُ بَعْضَ الشُّرُوطِ لَكِنْ تَوَفَّرَتْ فِيهِ الْعَدَالَةُ،
وَأَوْصَل الْحُقُوقَ إِلَى أَصْحَابِهَا، كَانَ بَيْتُ الْمَال
مُنْتَظِمًا.
أَدِلَّةُ الْقَائِلِينَ بِالرَّدِّ:
66 - اسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِالرَّدِّ عَلَى غَيْرِ الزَّوْجَيْنِ:
أَوَّلاً: بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولُوا الأَْرْحَامِ بَعْضُهُمْ
أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (2) فَإِنَّ مَعْنَاهَا بَعْضُهُمْ
أَوْلَى بِمِيرَاثِ بَعْضٍ بِسَبَبِ الرَّحِمِ، فَقَدْ دَلَّتْ
__________
(1) السراجية ص 229، والمبسوط 29 / 192 ط دار المعرفة والمغني 6 / 296،
وحاشية الشرواني 6 / 12
(2) سورة الأنفال / 75
(3/50)
عَلَى أَنَّ ذَوِي الرَّحِمِ
يَسْتَحِقُّونَ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ بِصِلَةِ الرَّحِمِ. وَالْمُتَبَادِرُ
مِنَ الْمِيرَاثِ الْمُرَادُ فِي الآْيَةِ مَجْمُوعُهُ. وَإِرَادَةُ
الْبَعْضِ خِلاَفُ الظَّاهِرِ. وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يَرِدُ أَنَّ
الأَْوْلَوِيَّةَ الْمَفْهُومَةَ مِنَ الآْيَةِ تَحْصُل بِإِعْطَاءِ كُل
ذِي فَرْضٍ فَرْضَهُ، لأَِنَّ إِعْطَاءَ الْفَرْضِ حَصَل مِنْ آيَةٍ
أُخْرَى هِيَ آيَةُ النِّسَاءِ، وَحَمْل آيَةِ الأَْنْفَال عَلَى
التَّأْسِيسِ وَإِفَادَةُ حُكْمٍ جَدِيدٍ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى
تَأْكِيدِ مَا فِي آيَةِ الْفَرْضِ، فَيَجِبُ الْعَمَل بِمَا فِي
الآْيَتَيْنِ، وَمِنْ أَجْل ذَلِكَ فَلاَ يُرَدُّ عَلَى الزَّوْجَيْنِ،
لاِنْعِدَامِ الرَّحِمِ فِي حَقِّهِمَا.
ثَانِيًا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا
دَخَل عَلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ يَعُودُهُ فِي مَرَضِهِ قَال
سَعْدٌ: أَمَا إِنَّهُ لاَ يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَةٌ لِي، أَفَأُوصِي
بِجَمِيعِ مَالِي؟ إِلَى أَنْ قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
الثُّلُثُ خَيْرٌ. وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ. (1) لَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ سَعْدًا
اعْتَقَدَ أَنَّ الْبِنْتَ تَرِثُ جَمِيعَ الْمَال، وَلَمْ يُنْكِرْ
عَلَيْهِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَمَنَعَهُ عَنِ
الْوَصِيَّةِ بِمَا زَادَ عَنِ الثُّلُثِ، مَعَ أَنَّهُ لاَ وَارِثَ لَهُ
إِلاَّ ابْنَةٌ وَاحِدَةٌ، فَدَل ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْل
بِالرَّدِّ؛ إِذْ لَوْ لَمْ تَكُنِ ابْنَتُهُ تَسْتَحِقُّ مَا زَادَ عَلَى
فَرْضِهَا - وَهُوَ النِّصْفُ بِطَرِيقِ الرَّدِّ - لَجَوَّزَ لَهُ
الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَصِيَّةَ بِالنِّصْفِ.
ثَالِثًا: أَنَّ الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَرَّثَ
الْمُلاَعَنَةَ لِجَمِيعِ مَال وَلَدِهَا، وَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ إِلاَّ
بِطَرِيقِ الرَّدِّ.
وَفِي حَدِيثِ وَاثِلَةَ بْنِ الأَْسْقَعِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ قَال: تُحْرِزُ الْمَرْأَةُ مِيرَاثَ لَقِيطِهَا وَعَتِيقِهَا
__________
(1) حديث " الثلث خير. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 164، 9 / 497 ط
السلفية) ومسلم (3 / 1253 - ط عيسى الحلبي)
(3/50)
وَالاِبْنِ الَّذِي لُوعِنَتْ بِهِ. (1)
رَابِعًا: إِنَّ أَصْحَابَ الْفُرُوضِ قَدْ شَارَكُوا الْمُسْلِمِينَ فِي
الإِْسْلاَمِ، وَتَرَجَّحُوا عَلَى غَيْرِهِمْ بِالْقَرَابَةِ، وَمُجَرَّدُ
الْقَرَابَةِ فِي أَصْحَابِ الْفُرُوضِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عِلَّةَ
الْعُصُوبَةِ لَكِنْ يَثْبُتُ بِهَا التَّرْجِيحُ، بِمَنْزِلَةِ قَرَابَةِ
الأُْمِّ فِي حَقِّ الأَْخِ لأَِبٍ وَأُمٍّ، فَإِنَّ قَرَابَةَ الأُْمِّ،
وَإِنْ لَمْ تُوجِبْ بِانْفِرَادِهَا الْعُصُوبَةَ إِلاَّ أَنَّهُ يَحْصُل
بِهَا التَّرْجِيحُ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا التَّرْجِيحُ بِالسَّبَبِ
الَّذِي اسْتَحَقُّوا بِهِ الْفَرِيضَةَ كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى
الْفَرِيضَةِ، فَيُرَدُّ الْبَاقِي كُلُّهُ عَلَيْهِمْ بِنِسْبَةِ
أَنْصِبَائِهِمْ، وَكَمَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الأَْقْرَبِ وَالأَْقْوَى
فِي أَصْل الْفَرِيضَةِ يَسْقُطُ أَيْضًا فِي اعْتِبَارِ الرَّدِّ. (2)
67 - وَذَهَبَ فَرِيقٌ آخَرُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُرَدُّ عَلَى أَحَدٍ مِنْ
أَصْحَابِ الْفُرُوضِ، فَإِذَا لَمْ تَسْتَغْرِقِ الْفُرُوضُ التَّرِكَةَ،
وَبَقِيَ مِنْهَا شَيْءٌ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْوَرَثَةِ عَاصِبٌ يَرِثُ
الْبَاقِيَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لِبَيْتِ الْمَال، لأَِنَّ هَذَا الْفَرِيقَ
لاَ يَرَى تَوْرِيثَ ذَوِي الأَْرْحَامِ، وَلاَ الرَّدَّ عَلَى ذَوِي
الْفُرُوضِ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَبِهِ
أَخَذَ عُرْوَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَالإِْمَامَانِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ.
وَقَيَّدَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ الدَّفْعَ لِبَيْتِ الْمَال،
إِذَا لَمْ يُوجَدْ عَاصِبٌ نَسَبِيٌّ أَوْ سَبَبِيٌّ بِمَا إِذَا كَانَ
الإِْمَامُ عَدْلاً، يَصْرِفُ الْمَال فِي مَصَارِفِهِ الشَّرْعِيَّةِ،
فَإِنْ لَمْ
__________
(1) حديث " تحرز المرأة ميراث لقيطها. . . " ورد بلفظ: " المرأة تحوز ثلاثة
مواريث: عتيقها ولقيطها وولدها الذي لاعنت عنه ". أخرجه الترمذي (تحفة
الأحوذي 6 / 298 - 299 - نشر المكتبة السلفية) وأبو داود (3 / 84 - طبع
المطبعة الأنصارية بدهلي) ، والبيهقي (6 / 240 - ط دائرة المعارف
العثمانية) وقال البيهقي: " هذا غير ثابت ".
(2) شرح السراجية ص 239، 241
(3/51)
يَكُنْ عَدْلاً فَإِنَّهُ يُرَدُّ عَلَى
أَصْحَابِ الْفُرُوضِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدُوا فَلِبَيْتِ الْمَال. وَهُمْ
يَعْتَبِرُونَ بَيْتَ الْمَال عَاصِبًا يَلِي فِي الرُّتْبَةِ الْعَاصِبَ
النَّسَبِيَّ وَالسَّبَبِيَّ. (1)
68 - اسْتَدَل الْمَانِعُونَ مِنَ الرَّدِّ:
أَوَّلاً: بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، فَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - بَيَّنَ
فِيهَا نَصِيبَ كُل وَارِثٍ مِنْ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ.
وَالتَّقْدِيرُ الثَّابِتُ بِالنَّصِّ يَمْنَعُ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ.
لأَِنَّ فِي الزِّيَادَةِ مُجَاوَزَةَ الْحَدِّ الشَّرْعِيِّ، وَقَدْ قَال
اللَّهُ - تَعَالَى - بَعْدَ آيَةِ الْمَوَارِيثِ: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} (2) الآْيَةَ، فَقَدْ أَلْحَقَ
الْوَعِيدَ بِمَنْ جَاوَزَ الْحَدَّ الْمَشْرُوعَ.
ثَانِيًا: أَنَّ الزَّائِدَ عَلَى الْفُرُوضِ مَالٌ لاَ مُسْتَحِقَّ لَهُ،
فَيَكُونُ لِبَيْتِ الْمَال، كَمَا إِذَا لَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا أَصْلاً،
لأَِنَّ الرَّدَّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِاعْتِبَارِ الْفَرْضِيَّةِ، أَوِ
الْعُصُوبَةِ أَوِ الرَّحِمِ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِاعْتِبَارِ
الْفَرْضِيَّةِ، لأَِنَّ كُل ذِي فَرْضٍ قَدْ أَخَذَ فَرْضَهُ، وَلاَ
بِاعْتِبَارِ الْعُصُوبَةِ، لأَِنَّ بِاعْتِبَارِهَا يُقَدَّمُ الأَْقْرَبُ
فَالأَْقْرَبُ، وَلاَ بِاعْتِبَارِ الرَّحِمِ، لأَِنَّهُ فِي إِرْثِ ذَوِي
الأَْرْحَامِ يُقَدَّمُ الأَْقْرَبُ أَيْضًا. فَإِذَا بَطَلَتْ هَذِهِ
الْوُجُوهُ بَطَل الْقَوْل بِالرَّدِّ. (3)
أَقْسَامُ مَسَائِل الرَّدِّ:
69 - مَسَائِل الرَّدِّ أَقْسَامٌ أَرْبَعَةٌ، وَذَلِكَ لأَِنَّ
الْمَوْجُودَ فِي الْمَسْأَلَةِ إِمَّا صِنْفٌ وَاحِدٌ مِمَّنْ يُرَدُّ
عَلَيْهِ مَا فَضَل
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 416
(2) سورة النساء / 14
(3) السراجية ص 239، 240
(3/51)
وَإِمَّا أَكْثَرُ مِنْ صِنْفٍ، وَعَلَى
التَّقْدِيرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ مَنْ لاَ يُرَدُّ
عَلَيْهِ، أَوْ لاَ يَكُونُ، فَانْحَصَرَتِ الأَْقْسَامُ فِي أَرْبَعَةٍ:
(1)
70 - أَوَّلُهَا: أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ جِنْسٌ وَاحِدٌ مِمَّنْ
يُرَدُّ عَلَيْهِ مَا زَادَ عَلَى الْفُرُوضِ، عِنْدَ عَدَمِ مَنْ لاَ
يُرَدُّ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ أَصْل الْمَسْأَلَةِ عَدَدَ رُءُوسِهِمْ،
لأَِنَّ جَمِيعَ الْمَال لَهُمْ فَرْضًا وَرَدًّا، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا
تَرَكَ الْمَيِّتُ بِنْتَيْنِ، أَوْ أُخْتَيْنِ، أَوْ جَدَّتَيْنِ
فَتَكُونُ الْمَسْأَلَةُ مِنِ اثْنَيْنِ، وَتُعْطَى كُل وَاحِدَةٍ نِصْفَ
التَّرِكَةِ، لِتَسَاوِيهِمَا فِي الاِسْتِحْقَاقِ.
71 - ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ جِنْسَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ
مِمَّنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ مَنْ لاَ يُرَدُّ عَلَيْهِ، وَقَدْ
دَل الاِسْتِقْرَاءُ عَلَى أَنَّ أَجْنَاسَ مَنْ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ لاَ
تَزِيدُ عَنْ ثَلاَثَةٍ، فَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَصْل
الْمَسْأَلَةِ مَجْمُوعَ سِهَامِ الْمُجْتَمِعِينَ. فَإِذَا كَانَ فِي
الْمَسْأَلَةِ سُدُسَانِ، كَجَدَّةٍ وَأُخْتٍ لأُِمٍّ، فَالْمَسْأَلَةُ
حِينَئِذٍ مِنْ سِتَّةٍ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَرْضًا، فَيُجْعَل
الاِثْنَانِ أَصْل الْمَسْأَلَةِ، وَيُقْسَمُ الْمَال مُنَاصَفَةً بَيْنَ
الْجَدَّةِ وَالأُْخْتِ لأُِمٍّ، لِتَسَاوِي نَصِيبِهِمَا.
وَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ ثُلُثٌ وَسُدُسٌ، كَوَلَدَيِ الأُْمِّ
مَعَ الأُْمِّ، فَأَصْل الْمَسْأَلَةِ سِتَّةٌ، وَمَجْمُوعُ سِهَامِ
الْوَرَثَةِ ثَلاَثَةٌ، فَتُجْعَل أَصْل الْمَسْأَلَةِ، وَتُقْسَمُ
التَّرِكَةُ أَثْلاَثًا، لِوَلَدَيِ الأُْمِّ الثُّلُثَانِ، وَلِلأُْمِّ
الثُّلُثُ.
72 - ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ مَعَ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِمَّنْ يُرَدُّ
عَلَيْهِ، مَنْ لاَ يُرَدُّ عَلَيْهِ كَالزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ،
وَحِينَئِذٍ يُعْطَى فَرْضَ مَنْ لاَ يُرَدُّ عَلَيْهِ مِنْ أَقَل أَصْلٍ
لِلْمَسْأَلَةِ، وَيُقْسَمُ الْبَاقِي عَلَى عَدَدِ رُءُوسِ مَنْ يُرَدُّ
عَلَيْهِ، إِنِ اسْتَقَامَ الْبَاقِي عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ،
__________
(1) شرح السراجية 239 - 241
(3/52)
وَذَلِكَ كَزَوْجٍ وَثَلاَثِ بَنَاتٍ،
فَإِنَّ أَصْل الْمَسْأَلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ لاَ يُرَدُّ عَلَيْهِ
مِنْ أَرْبَعَةٍ، يُعْطَى الزَّوْجُ وَاحِدًا مِنْهَا، وَالْبَاقِي
لِلْبَنَاتِ بِالتَّسَاوِي.
وَإِنْ لَمْ يَسْتَقِمِ الْبَاقِي، فَيَضْرِبُ عَدَدَ رُءُوسِ مَنْ يُرَدُّ
عَلَيْهِمْ فِي أَصْل الْمَسْأَلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ لاَ يُرَدُّ
عَلَيْهِ إِنْ وَافَقَ رُءُوسَهُمْ ذَلِكَ الْبَاقِي، فَمَا حَصَل تَصِحُّ
مِنْهُ الْمَسْأَلَةُ، كَزَوْجٍ وَسِتِّ بَنَاتٍ. فَإِنَّ أَقَل أَصْلٍ
لِلْمَسْأَلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ لاَ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ،
يَبْقَى مِنْهَا ثَلاَثَةٌ بَعْدَ نَصِيبِ الزَّوْجِ، فَلاَ تَنْقَسِمُ
عَلَى عَدَدِ رُءُوسِ الْبَنَاتِ السِّتِّ، لَكِنْ بَيْنَهُمَا مُوَافَقَةٌ
بِالثُّلُثِ، فَيَضْرِبُ وَفْقَ عَدَدِ الرُّءُوسِ، وَهُوَ اثْنَانِ فِي
الأَْرْبَعَةِ، فَيَبْلُغُ ثَمَانِيَةً، لِلزَّوْجِ مِنْهَا اثْنَانِ
وَلِلْبَنَاتِ سِتٌّ.
وَإِنْ لَمْ يُوَافِقِ الْبَاقِي عَدَدَ الرُّءُوسِ، فَيَضْرِبُ كُل عَدَدِ
رُءُوسِهِمْ فِي أَصْل مَسْأَلَةِ مَنْ لاَ يُرَدُّ عَلَيْهِ،
فَالْمَبْلَغُ هُوَ الْحَاصِل مِنْ ضَرْبِ وَفْقِ عَدَدِ الرُّءُوسِ فِي
ذَلِكَ الأَْصْل عَلَى تَقْدِيرِ التَّوَافُقِ، أَوْ مِنْ ضَرْبِ كُل
عَدَدِ الرُّءُوسِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّبَايُنِ، وَذَلِكَ كَزَوْجٍ
وَخَمْسِ بَنَاتٍ. فَأَصْل الْمَسْأَلَةِ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ،
لاِجْتِمَاعِ الرُّبُعِ وَالثُّلُثَيْنِ، لَكِنْ مِثْلُهَا يُرَدُّ إِلَى
الأَْرْبَعَةِ الَّتِي هِيَ أَقَل أَصْل فَرْضِ مَنْ لاَ يُرَدُّ عَلَيْهِ،
فَإِذَا أَعْطَى الزَّوْجَ وَاحِدًا يَبْقَى ثَلاَثَةٌ، فَلاَ تَنْقَسِمُ
عَلَى خَمْسِ بَنَاتٍ، فَيَضْرِبُ الأَْصْل أَرْبَعَةً فِي عَدَدِ رُءُوسِ
الْبَنَاتِ، فَيَصِيرُ الْمَجْمُوعُ عِشْرِينَ، فَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ،
وَيَضْرِبُ نَصِيبَ الزَّوْجِ، وَهُوَ وَاحِدٌ فِي خَمْسَةٍ، فَيَصِيرُ
نَصِيبُهُ خَمْسَةً، وَيُقْسَمُ الْبَاقِي، وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ عَلَى
عَدَدِ رُءُوسِ الْبَنَاتِ، فَتَأْخُذُ كُل وَاحِدَةٍ ثَلاَثَةً.
73 - رَابِعُهَا: أَنْ يُوجَدَ أَكْثَرُ مِنْ نَوْعٍ مِنْ أَصْحَابِ
الْفُرُوضِ مِمَّنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ وَمَعَهُمْ مَنْ لاَ يُرَدُّ
عَلَيْهِ، وَفِي
(3/52)
هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ أَصْل
الْمَسْأَلَةِ هُوَ مَخْرَجَ فَرْضِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، فَيُعْطَى
نَصِيبُهُ مِنْهُ، ثُمَّ يُقْسَمُ الْبَاقِي عَلَى أَصْحَابِ الْفُرُوضِ
الَّذِينَ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ بِنِسْبَةِ فُرُوضِهِمْ، فَإِذَا احْتَاجَ
الأَْمْرُ إِلَى تَصْحِيحِ الْمَسْأَلَةِ صُحِّحَتْ عَلَى نَحْوِ مَا
سَبَقَ. فَإِذَا مَاتَ شَخْصٌ عَنْ زَوْجَةٍ وَأُمٍّ وَأَخَوَيْنِ لأُِمٍّ،
فَإِنَّ أَصْل الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةٌ، لِلزَّوْجَةِ مِنْهَا الرُّبُعُ
سَهْمٌ، وَلِلأُْمِّ وَالأَْخَوَيْنِ لأُِمٍّ الثَّلاَثَةُ الأَْسْهُمِ
الْبَاقِيَةُ. لِلأُْمِّ سَهْمٌ فَرْضًا وَرَدًّا وَلِلأَْخَوَيْنِ لأُِمٍّ
سَهْمَانِ فَرْضًا وَرَدًّا.
وَإِذَا مَاتَ شَخْصٌ عَنْ زَوْجَةٍ وَأُمٍّ وَبِنْتَيِ ابْنٍ، فَيَكُونُ
أَصْل الْمَسْأَلَةِ ثَمَانِيَةً، لِلزَّوْجَةِ مِنْهَا سَهْمٌ،
وَالْبَاقِي - وَهُوَ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ - يُقْسَمُ عَلَى بِنْتَيِ
الاِبْنِ وَالأُْمِّ بِنِسْبَةِ 3: 2 إِلَى 6: 1 أَيْ 4 إِلَى 1 فَيَكُونُ
الْمَجْمُوعُ خَمْسَةً، وَالسَّبْعَةُ لاَ تَنْقَسِمُ عَلَى خَمْسَةٍ،
فَيُصَحَّحُ أَصْل الْمَسْأَلَةِ بِضَرْبِ خَمْسَةٍ فِي ثَمَانِيَةٍ
فَيَصِيرُ أَرْبَعِينَ، لِلزَّوْجَةِ ثُمُنُهَا خَمْسَةٌ، وَلِلأُْمِّ
سَبْعَةٌ، وَلِبِنْتَيِ الاِبْنِ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ. (1)
مِيرَاثُ ذَوِي الأَْرْحَامِ:
74 - الرَّحِمُ لُغَةً: بَيْتُ مَنْبَتِ الْوَلَدِ وَوِعَاؤُهُ،
وَالْقَرَابَةُ، أَوْ أَصْلُهَا وَأَسْبَابُهَا، وَجَمْعُهُ أَرْحَامٌ، (2)
وَشَرْعًا: كُل قَرِيبٍ.
وَفِي عُرْفِ الْفَرْضِيِّينَ: كُل قَرِيبٍ لَيْسَ بِذِي فَرْضٍ مُقَدَّرٍ
فِي كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى، أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ إِجْمَاعِ الأُْمَّةِ، وَلاَ عَصَبَةَ تُحْرِزُ
الْمَال عِنْدَ الاِنْفِرَادِ (3) .
__________
(1) السراجية ص 241 - 248
(2) القاموس
(3) السراجية ص 265، والعذب الفائض 2 / 15
(3/53)
75 - وَفِي تَوْرِيثِ ذَوِي الأَْرْحَامِ
اخْتِلاَفٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ
بَعْدَهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَال بِتَوْرِيثِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ
ذَلِكَ.
فَمِمَّنْ قَال بِتَوْرِيثِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيٌّ وَابْنُ
مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ، وَمُعَاذُ
بْنُ جَبَلٍ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَأَبُو عُبَيْدَة بْنُ الْجَرَّاحِ،
وَمِنَ التَّابِعِينَ شُرَيْحٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءٌ
وَمُجَاهِدٌ.
وَمِمَّنْ قَال بِعَدَمِ تَوْرِيثِهِمْ: زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَابْنُ
عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَسَعِيدُ
بْنُ جُبَيْرٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ
وَعُثْمَانَ. وَلَكِنْ هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ. فَإِنَّهُ حُكِيَ أَنَّ
الْمُعْتَضِدَ سَأَل أَبَا حَازِمٍ الْقَاضِيَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
فَقَال أَبُو حَازِمٍ: أَجْمَعَ أَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَلَى تَوْرِيثِ ذَوِي
الأَْرْحَامِ، وَلاَ يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ بِمُقَابَلَةِ إِجْمَاعِهِمْ.
وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَمِمَّنْ قَال بِتَوْرِيثِهِمْ: الْحَنَفِيَّةُ
وَالإِْمَامُ أَحْمَدُ، وَمُتَأَخِّرُو الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَعِيسَى بْنُ أَبَانَ، وَأَهْل التَّنْزِيل رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَمِمَّنْ قَال بِأَنَّهُمْ لاَ يَرِثُونَ: سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ
وَمُتَقَدِّمُو الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.
أَدِلَّةُ الْمَانِعِينَ:
76 - اسْتَدَل مَنْ لاَ يَقُول بِتَوْرِيثِ ذَوِي الأَْرْحَامِ بِمَا
يَلِي:
أَوَّلاً: أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - نَصَّ فِي آيَاتِ الْمَوَارِيثِ
عَلَى بَيَانِ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ وَالْعَصَبَاتِ، وَلَمْ يَذْكُرْ
لِذَوِي الأَْرْحَامِ شَيْئًا، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًا} (1)
__________
(1) سورة مريم / 64
(3/53)
وَأَدْنَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَكُونَ
تَوْرِيثُ ذَوِي الأَْرْحَامِ زِيَادَةً عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَذَلِكَ
لاَ يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ أَوِ الْقِيَاسِ.
ثَانِيًا: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل
عَنْ مِيرَاثِ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ فَقَال: نَزَل جِبْرِيل عَلَيْهِ
السَّلَامُ وَأَخْبَرَنِي إِلاَّ مِيرَاثَ لِلْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ. (1)
أَدِلَّةُ الْقَائِلِينَ بِتَوْرِيثِ ذَوِي الأَْرْحَامِ:
77 - وَاسْتَدَل مَنْ قَال بِتَوْرِيثِ ذَوِي الأَْرْحَامِ بِمَا يَأْتِي:
أَوَّلاً: بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولُوا الأَْرْحَامِ بَعْضُهُمْ
أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (2)
إِذْ مَعْنَى الآْيَةِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، فَقَدْ أَثْبَتَتِ
اسْتِحْقَاقَ ذَوِي الأَْرْحَامِ بِوَصْفٍ عَامٍّ، هُوَ وَصْفُ الرَّحِمِ،
فَإِذَا انْعَدَمَ الْوَصْفُ الْخَاصُّ، وَهُوَ كَوْنُهُمْ أَصْحَابَ
فُرُوضٍ أَوْ عَصَبَاتٍ، اسْتَحَقُّوا بِالْوَصْفِ الْعَامِّ، وَهُوَ
كَوْنُهُمْ ذَوِي رَحِمٍ، وَلاَ مُنَافَاةَ بَيْنَ الاِسْتِحْقَاقِ
بِالْوَصْفِ الْعَامِّ وَالاِسْتِحْقَاقِ بِالْوَصْفِ الْخَاصِّ، فَلاَ
يَكُونُ ذَلِكَ زِيَادَةً عَلَى كِتَابِ اللَّهِ.
ثَانِيًا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
اللَّهُ وَرَسُولُهُ مَوْلَى مَنْ لاَ مَوْلَى لَهُ، وَالْخَال وَارِثُ
مَنْ لاَ وَارِثَ لَهُ. (3) وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ الْخَال وَارِثُ مَنْ لاَ
__________
(1) حديث " نزل جبريل عليه السلام وأخبرني. . . " أخرجه الدارقطني (4 / 80
- ط دار المحاسن بالقاهرة) والحاكم (4 / 343 - ط دائرة المعارف العثمانية)
وذكره ابن حجر في التلخيص (3 / 81 ط شركة الطباعة الفنية بالقاهرة) وضعف
طرقه.
(2) سورة الأنفال / 75
(3) حديث " الله ورسوله مولى. . . " أخرجه الترمذي (6 / 281 - نشر المكتبة
السلفية) وابن ماجه (2 / 914 - ط عيسى الحلبي) وابن حبان (رقم 1227 من
زوائده - ط السلفية)
(3/54)
وَارِثَ لَهُ، يَرِثُهُ وَيَعْقِل عَنْهُ
(1)
وَذَهَبَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ ذَوِي الأَْرْحَامِ
يَرِثُونَ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَصْحَابُ فُرُوضٍ، وَلاَ عَصَبَةٌ،
وَلَمْ يَكُنِ الإِْمَامُ عَدْلاً. (2)
وَأَجْمَعَ مُتَأَخِّرُو الشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ بَيْتُ
الْمَال غَيْرَ مُنْتَظِمٍ فَإِنَّ ذَوِي الأَْرْحَامِ يَرِثُونَ إِذَا
لَمْ يُوجَدْ أَصْحَابُ فُرُوضٍ أَوْ عَصَبَةٍ. وَالْمُرَادُ بِعَدَمِ
انْتِظَامِهِ أَلاَّ يَصْرِفَ الإِْمَامُ التَّرِكَةَ فِي مَصَارِفِهَا
الشَّرْعِيَّةِ.
78 - وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ كَالْحَنَفِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ، يُقَدِّمُونَ الرَّدَّ فِي حَال وُجُودِ أَصْحَابِ
فُرُوضٍ لَمْ يَسْتَغْرِقُوا التَّرِكَةَ عَلَى تَوْرِيثِ ذَوِي
الأَْرْحَامِ، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا، وَرِثَ ذَوُو الأَْرْحَامِ
بِالْقَيْدِ السَّابِقِ. (3)
وَمَنِ انْفَرَدَ مِنْ ذَوِي الأَْرْحَامِ أَخَذَ جَمِيعَ التَّرِكَةِ
ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، أَمَّا إِذَا تَعَدَّدُوا، فَقَدْ اُخْتُلِفَ
فِي كَيْفِيَّةِ تَوْرِيثِهِمْ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ عَلَى ثَلاَثَةِ
مَذَاهِبَ:
1 - مَذْهَبُ أَهْل الْقَرَابَةِ.
2 - مَذْهَبُ أَهْل الرَّحِمِ.
3 - مَذْهَبُ أَهْل التَّنْزِيل.
79 - وَأَهْل الْقَرَابَةِ هُمُ الَّذِينَ يَعْتَبِرُونَ قُوَّةَ
الْقَرَابَةِ فِي تَوْرِيثِ ذَوِي الأَْرْحَامِ، فَيُقَدِّمُونَ
الأَْقْرَبَ فَالأَْقْرَبَ كَمَا هُوَ الْحَال فِي إِرْثِ الْعَصَبَاتِ،
وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي تَسْمِيَتِهِمْ بِأَهْل الْقَرَابَةِ.
فَكَمَا أَنَّ لِلْعَصَبَاتِ النَّسَبِيَّةِ جِهَاتٍ أَرْبَعًا،
__________
(1) حديث " الخال وارث. . . " أخرجه أبو داود (3 / 82 - طبع المطبعة
الأنصارية بدهلي) وابن حبان (رقم 1225، 1226 من زوائده - ط المطبعة
السلفية) وأحمد (4 / 131 - ط الميمنية)
(2) الشرح الكبير 4 / 416
(3) حاشية البقري على الرحبية ص 11
(3/54)
فَكَذَلِكَ ذَوُو الأَْرْحَامِ، لأَِنَّ
الْقَرِيبَ الَّذِي لَيْسَ صَاحِبَ فَرْضٍ وَلاَ عَاصِبًا، إِمَّا أَنْ
يَكُونَ مِنْ فُرُوعِ الْمَيِّتِ، أَوْ مِنْ أُصُولِهِ، أَوْ مِنْ فُرُوعِ
أَبَوَيْهِ، أَوْ مِنْ فُرُوعِ أَجْدَادِهِ وَجَدَّاتِهِ.
وَتَقْدِيمُ الأَْقْرَبِ هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ. وَهُوَ رِوَايَةٌ
عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، وَبِهِ قَطَعَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ
الْبَغَوِيُّ وَالْمُتَوَلِّي.
80 - وَذَوُو الأَْرْحَامِ عِنْدَهُمْ أَصْنَافٌ أَرْبَعَةٌ:
الصِّنْفُ الأَْوَّل: مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَى الْمَيِّتِ، وَهُمْ أَوْلاَدُ
الْبَنَاتِ وَإِنْ نَزَلُوا، وَأَوْلاَدُ بَنَاتِ الاِبْنِ كَذَلِكَ.
الصِّنْفُ الثَّانِي: مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَيْهِمُ الْمَيِّتُ، وَهُمُ
الأَْجْدَادُ الرَّحِمِيُّونَ وَإِنْ عَلَوْا، كَأَبِي أُمِّ الْمَيِّتِ
وَأَبِي أَبِي أُمِّهِ، وَالْجَدَّاتِ الرَّحِمِيَّاتِ وَإِنْ عَلَوْنَ،
كَأُمِّ أَبِي أُمِّ الْمَيِّتِ، وَأُمِّ أُمِّ أَبِي أُمِّهِ.
الصِّنْفُ الثَّالِثُ: مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَى أَبَوَيِ الْمَيِّتِ أَوْ
أَحَدِهِمْ. وَهُمْ أَوْلاَدُ الأَْخَوَاتِ وَإِنْ نَزَلُوا، سَوَاءٌ
أَكَانُوا ذُكُورًا أَمْ إِنَاثًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الأَْخَوَاتُ لأَِبٍ
وَأُمٍّ، أَمْ لأَِبٍ، أَمْ لأُِمٍّ، وَبَنَاتِ الإِْخْوَةِ وَإِنْ
نَزَلُوا، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الأُْخُوَّةُ مِنَ الأَْبَوَيْنِ، أَمْ مِنَ
الأَْبِ، أَمْ مِنَ الأُْمِّ، وَبَنُو الإِْخْوَةِ لأُِمٍّ وَإِنْ
نَزَلُوا.
الصِّنْفُ الرَّابِعُ: مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَى جَدَّيِ الْمَيِّتِ، أَوْ
أَحَدِهِمَا، وَهُمَا أَيْ جَدَّا الْمَيِّتِ أَبُو الأَْبِ، وَأَبُو
الأُْمِّ، أَوْ يَنْتَسِبُ إِلَى جَدَّتَيْهِ أَوْ إِحْدَاهُمَا، وَهُمَا
أُمُّ الأَْبِ، وَأُمُّ الأُْمِّ، وَيَشْمَل ذَلِكَ الْعَمَّاتِ عَلَى
الإِْطْلاَقِ، وَالأَْعْمَامَ لأُِمٍّ، وَبَنَاتِ الأَْعْمَامِ
وَالأَْخْوَال وَالْخَالاَتِ وَإِنْ تَبَاعَدَ هَؤُلاَءِ، وَأَوْلاَدُهُمْ
وَإِنْ نَزَلُوا.
(3/55)
كَيْفِيَّةُ التَّوْرِيثِ بَيْنَ
الأَْصْنَافِ:
81 - اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنِ الإِْمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي
تَقْدِيمِ بَعْضِ هَذِهِ الأَْصْنَافِ عَلَى بَعْضٍ. فَرَوَى أَبُو
سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ
أَقْرَب الأَْصْنَافِ إِلَى الْمَيِّتِ وَأَوْلاَهُمْ بِالتَّقْدِيمِ فِي
الْوِرَاثَةِ عَنْهُ هُوَ الصِّنْفُ الثَّانِي، وَهُمُ الرَّحِمِيُّونَ
مِنَ الأَْجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ وَإِنْ عَلَوْا، ثُمَّ الصِّنْفُ
الأَْوَّل وَإِنْ نَزَلُوا، ثُمَّ الصِّنْفُ الثَّالِثُ وَإِنْ نَزَلُوا،
ثُمَّ الصِّنْفُ الرَّابِعُ وَإِنْ بَعُدُوا بِالْعُلُوِّ وَالنُّزُول.
وَتَابَعَهُ فِي ذَلِكَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ.
وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ،
وَابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ:
أَنَّ أَقْرَبَ الأَْصْنَافِ وَأَوْلاَهُمْ بِالتَّقْدِيمِ إِلَى
الْمَيِّتِ فِي الْمِيرَاثِ الصِّنْفُ الأَْوَّل، ثُمَّ الثَّانِي، ثُمَّ
الثَّالِثُ، ثُمَّ الرَّابِعُ، كَتَرْتِيبِ الْعَصَبَاتِ، إِذْ يُقَدَّمُ
مِنْهُمُ الاِبْنُ، ثُمَّ الأَْبُ، ثُمَّ الْجَدُّ، ثُمَّ الإِْخْوَةُ
ثُمَّ الأَْعْمَامُ، وَهُوَ الْمَأْخُوذُ لِلْفَتْوَى.
وَوَفَّقَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّ مَا رَوَاهُ أَبُو سُلَيْمَانَ
عَنْ مُحَمَّدٍ هُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ الأَْوَّل، وَمَا رَوَاهُ أَبُو
يُوسُفَ هُوَ قَوْلُهُ الثَّانِي.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الصِّنْفَ الثَّالِثَ، وَهُمْ
أَوْلاَدُ الأَْخَوَاتِ، وَبَنَاتُ الإِْخْوَةِ، وَبَنُو الإِْخْوَةِ
لأُِمٍّ، مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَدِّ أَبِي الأُْمِّ، وَإِنْ كَانَ قِيَاسُ
مَذْهَبِهِمَا فِي الْجَدِّ أَبِي الأَْبِ - وَهُوَ مُقَاسَمَةُ
الإِْخْوَةِ وَالأَْخَوَاتِ مَا دَامَتِ الْقِسْمَةُ خَيْرًا لَهُ مِنْ
ثُلُثِ جَمِيعِ الْمَال - يَقْتَضِي ألاَّ يُقَدَّمَ الصِّنْفُ الثَّالِثُ
عَلَى الْجَدِّ أَبِي الأُْمِّ.
وَتَوْجِيهُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الأُْولَى جَرَى
فِيهَا عَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِهِ فِي الْعَصَبَاتِ، حَيْثُ
(3/55)
قَدَّمَ هَا هُنَا الْجَدَّ أَبَا الأُْمِّ
الَّذِي هُوَ فِي دَرَجَةِ الْجَدِّ أَبِي الأَْبِ عَلَى أَوْلاَدِ أَبِي
الْمَيِّتِ، فَلاَ يَرِثُونَ مَعَهُ، أَمَّا الثَّانِيَةُ وَهِيَ
تَقْدِيمُهُ أَوْلاَدَ الْمَيِّتِ فِي ذَوِي الأَْرْحَامِ عَلَى الْجَدِّ
أَبِي الأُْمِّ فَهِيَ جَارِيَةٌ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي الْعَصَبَاتِ،
حَيْثُ كَانَ فِيهَا ابْنُ الاِبْنِ مُقَدَّمًا عَلَى الْجَدِّ أَبِي
الأَْبِ.
كَيْفِيَّةُ تَوْرِيثِ كُل صِنْفٍ:
82 - الصِّنْفُ الأَْوَّل: وَهُوَ أَوْلاَدُ الْبَنَاتِ وَأَوْلاَدُ
بَنَاتِ الاِبْنِ، أَوْلاَهُمْ بِالْمِيرَاثِ أَقْرَبُهُمْ إِلَى
الْمَيِّتِ، كَبِنْتِ الْبِنْتِ، فَإِنَّهَا أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ مِنْ
بِنْتِ بِنْتِ الاِبْنِ، لأَِنَّ بِنْتَ الْبِنْتِ تُدْلِي إِلَى
الْمَيِّتِ بِوَاسِطَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالثَّانِيَةُ بِوَاسِطَتَيْنِ.
وَإِنِ اسْتَوَوْا فِي الدَّرَجَةِ، بِأَنْ يُدْلُوا كُلُّهُمْ إِلَى
الْمَيِّتِ بِدَرَجَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثٍ، فَحِينَئِذٍ يُقَدَّمُ وَلَدُ
الْوَارِثِ عَلَى وَلَدِ ذِي الرَّحِمِ، كَبِنْتِ بِنْتِ الاِبْنِ،
فَإِنَّهَا أَوْلَى مِنِ ابْنِ بِنْتِ الْبِنْتِ، لأَِنَّ الأُْولَى وَلَدُ
بِنْتِ الاِبْنِ، وَهِيَ صَاحِبَةُ فَرْضٍ، وَالثَّانِيَةُ ذَاتُ رَحِمٍ،
وَسَبَبُ هَذِهِ الأَْوْلَوِيَّةِ أَنَّ وَلَدَ الْوَارِثِ أَقْرَبُ
حُكْمًا، وَالتَّرْجِيحُ يَكُونُ بِالْقُرْبِ الْحَقِيقِيِّ إِنْ وُجِدَ،
وَإِلاَّ فَبِالْقُرْبِ الْحُكْمِيِّ.
83 - وَإِنِ اسْتَوَتْ دَرَجَاتُهُمْ فِي الْقُرْبِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ
وَلَدٌ وَارِثٌ كَبِنْتِ ابْنِ الْبِنْتِ، وَابْنِ بِنْتِ الْبِنْتِ، أَوْ
كَانُوا كُلُّهُمْ يُدْلُونَ بِوَارِثٍ، كَابْنِ الْبِنْتِ وَبِنْتِ
الْبِنْتِ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ يُعْتَبَرُ
أَشْخَاصُ الْفُرُوعِ الْمُتَسَاوِيَةِ الدَّرَجَاتِ، وَيُقْسَمُ الْمَال
عَلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ حَال ذُكُورَتِهِمْ وَأُنُوثَتِهِمْ، سَوَاءٌ
أَكَانَ أُصُولُهُمْ مُتَّفِقِينَ فِي الذُّكُورَةِ أَوِ الأُْنُوثَةِ أَمْ
لاَ. فَإِنْ كَانَتِ الْفُرُوعُ ذُكُورًا فَقَطْ، أَوْ
(3/56)
إِنَاثًا فَقَطْ تَسَاوَوْا فِي
الْقِسْمَةِ. وَإِنْ كَانُوا ذُكُورًا وَإِنَاثًا فَلِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ
الأُْنْثَيَيْنِ. وَلاَ يُعْتَبَرُ فِي الْقِسْمَةِ حَال أُصُولِهِمْ مِنَ
الذُّكُورَةِ وَالأُْنُوثَةِ. وَهُوَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ عَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ.
وَيَعْتَبِرُ مُحَمَّدٌ أَشْخَاصَ الْفُرُوعِ إِنِ اتَّفَقَتْ صِفَةُ
الأُْصُول فِي الذُّكُورَةِ أَوِ الأُْنُوثَةِ، وَيَعْتَبِرُ الأُْصُول
إِنِ اخْتَلَفَتْ صِفَاتُهُمْ، وَيُعْطِي الْفُرُوعَ مِيرَاثَ الأُْصُول.
وَهُوَ الْقَوْل الأَْوَّل لأَِبِي يُوسُفَ وَأَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ
عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَجِهَةُ قَوْل أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْفُرُوعِ إِنَّمَا
يَكُونُ لِمَعْنًى فِيهِمْ، وَهُوَ الْقَرَابَةُ، لاَ لِمَعْنًى فِي
غَيْرِهِمْ، فَقَدِ اتَّحَدَتِ الْجِهَةُ، وَهِيَ الْوِلاَدَةُ،
فَيَتَسَاوَى الاِسْتِحْقَاقُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَإِنِ اخْتَلَفَتِ
الصِّفَةُ فِي الأُْصُول. وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَنَّ صِفَةَ الْكُفْرِ أَوِ
الرِّقِّ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي الْمُدْلَى بِهِ، وَإِنَّمَا الَّذِي
يُعْتَبَرُ صِفَةُ الْمُدْلِي، فَكَذَا تُعْتَبَرُ فِيهِ صِفَةُ
الذُّكُورَةِ أَوِ الأُْنُوثَةِ فَقَطْ.
وَوَجْهُ قَوْل مُحَمَّدٍ: أَنَّ الْمَيِّتَ لَوْ تَرَكَ عَمَّةً
وَخَالَةً، فَإِنَّ لِلْعَمَّةِ الثُّلُثَيْنِ، وَلِلْخَالَةِ الثُّلُثَ
بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ، وَلَوْ كَانَتِ الْعِبْرَةُ بِأَشْخَاصِ
الْفُرُوعِ لَكَانَ الْمَال بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ
الْمُعْتَبَرُ فِي الْقِسْمَةِ صِفَةَ الأَْصْل الْمُدْلَى بِهِ، وَهُوَ
الأَْبُ فِي الْعَمَّةِ، وَالأُْمُّ فِي الْخَالَةِ.
84 - وَلَوْ تَرَكَ بِنْتَ ابْنِ بِنْتٍ، وَابْنَ بِنْتِ بِنْتٍ فَالْمَال
عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالْحَسَنِ أَثْلاَثًا: ثُلُثَاهُ لاِبْنِ بِنْتِ
الْبِنْتِ، لِكَوْنِهِ ذَكَرًا، وَثُلُثُهُ لِلْبِنْتِ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَكُونُ الْمَال بَيْنَ الأُْصُول (الْبَطْنُ
الثَّانِي) ، وَهُوَ أَوَّل مَا وَقَعَ فِيهِ الاِخْتِلاَفُ بِالذُّكُورَةِ
وَالأُْنُوثَةِ، وَهُوَ بِنْتُ الْبِنْتِ وَابْنُ الْبِنْتِ أَثْلاَثًا:
(3/56)
لِبِنْتِ ابْنِ الْبِنْتِ ثُلُثَاهُ،
لأَِنَّهُ نَصِيبُ أَبِيهَا، وَثُلُثُهُ لاِبْنِ بِنْتِ الْبِنْتِ،
لأَِنَّهُ نَصِيبُ أُمِّهِ. وَكَمَا اُعْتُبِرَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ حَال
الأُْصُول فِي الْبَطْنِ الثَّانِي، فَكَذَلِكَ يُعْتَبَرُ عِنْدَهُ حَال
الأُْصُول الْمُتَعَدِّدَةِ، إِذَا كَانَ فِي أَوْلاَدِ الْبَنَاتِ
الْمُتَسَاوِيَةِ فِي الدَّرَجَةِ بُطُونٌ مُخْتَلِفَةٌ، فَحِينَئِذٍ
يُقْسَمُ الْمَال عَلَى أَوَّل بَطْنٍ اخْتَلَفَ فِي الأُْصُول
بِالذُّكُورَةِ وَالأُْنُوثَةِ: لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ،
ثُمَّ يَجْعَل الذُّكُورَ مِنْ أَوَّل بَطْنٍ اخْتَلَفَ فِيهِ عَلَى
حِدَةٍ، وَالإِْنَاثَ أَيْضًا طَائِفَةً أُخْرَى عَلَى حِدَةٍ، بَعْدَ
الْقِسْمَةِ عَلَى الذُّكُورِ وَالإِْنَاثِ، فَمَا أَصَابَ الذُّكُورَ مِنْ
أَوَّل بَطْنٍ وَقَعَ فِيهِ الاِخْتِلاَفُ يَجْمَعُ وَيُعْطِي فُرُوعَهُمْ
بِحَسَبِ صِفَاتِهِمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
فُرُوعِهِمْ مِنَ الأُْصُول اخْتِلاَفٌ فِي الذُّكُورَةِ وَالأُْنُوثَةِ،
بِأَنْ يَكُونَ جَمِيعُ مَا تَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا ذُكُورًا فَقَطْ أَوْ
إِنَاثًا فَقَطْ.
85 - وَإِنْ كَانَ مَا تَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا فِيهِ اخْتِلاَفٌ، بِأَنْ
كَانُوا ذُكُورًا وَإِنَاثًا يَجْمَعُ مَا أَصَابَ الذُّكُورَ وَيُقْسَمُ
عَلَى أَعْلَى أَوَّل دَرَجَةٍ اُخْتُلِفَ فِيهَا ذُكُورَةً وَأُنُوثَةً
فِي أَوْلاَدِهِمْ، وَيَجْعَل الذُّكُورَ طَائِفَةً وَالإِْنَاثَ طَائِفَةً
أُخْرَى حَسْبَمَا سَبَقَ، وَكَذَلِكَ مَا أَصَابَ الإِْنَاثَ يُعْطِي
فُرُوعَهُنَّ، إِنْ لَمْ تَخْتَلِفِ الأُْصُول الَّتِي بَيْنَهُمَا، فَإِنِ
اخْتَلَفَتْ يَجْمَعُ مَا أَصَابَهُنَّ وَيُقْسَمُ عَلَى نَحْوِ مَا سَبَقَ
وَهَكَذَا يَكُونُ الْحَال.
هَذَا وَإِنَّ مَشَايِخَ بُخَارَى أَخَذُوا بِقَوْل أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى فِي مَسَائِل ذَوِي الأَْرْحَامِ لأَِنَّهُ أَيْسَرُ. (1)
__________
(1) السراجية ص 274 - 282
(3/57)
الصِّنْفُ الثَّانِي:
86 - وَهُمُ الرَّحِمِيُّونَ مِنَ الأَْجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ، وَالْحُكْمُ
فِي تَوْرِيثِهِمْ أَنَّ أَوْلاَهُمْ بِالْمِيرَاثِ أَقْرَبُهُمْ إِلَى
الْمَيِّتِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَ، مِنْ جِهَةِ الأَْبِ أَوِ الأُْمِّ،
فَأَبُو الأُْمِّ أَوْلَى مِنْ أَبِي أُمِّ الأُْمِّ.
وَعِنْدَ الاِسْتِوَاءِ فِي دَرَجَاتِ الْقُرْبِ يُقَدَّمُ مَنْ يُدْلِي
بِوَارِثٍ عَلَى مَنْ لاَ يُدْلِي بِوَارِثٍ عِنْدَ أَبِي سَهْلٍ
الْفَرْضِيِّ وَأَبِي فَضْلٍ الْخِفَافِ وَعَلِيِّ بْنِ عِيسَى
الْبَصْرِيِّ؛ إِذْ عِنْدَهُمْ يَكُونُ أَبُو أُمِّ الأُْمِّ أَوْلَى مِنْ
أَبِي أَبِي الأُْمِّ، لأَِنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي الدَّرَجَةِ،
لَكِنَّ أَبَا أُمِّ الأُْمِّ يُدْلِي بِوَارِثٍ، وَهِيَ الْجَدَّةُ
الصَّحِيحَةُ (أُمُّ الأُْمِّ) وَالثَّانِي يُدْلِي بِغَيْرِ وَارِثٍ،
وَهُوَ الْجَدُّ الرَّحِمِيُّ أَبُو الأُْمِّ، وَهُوَ لاَ يَرِثُ مَعَ
الأُْمِّ.
وَعِنْدَ أَبِي سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيِّ وَأَبِي عَلِيٍّ الْبُسْتِيِّ
لاَ تَفْضِيل لِمَنْ يُدْلِي بِوَارِثٍ عَلَى مَنْ لاَ يُدْلِي بِوَارِثٍ،
وَيُقْسَمُ الْمَال فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ أَثْلاَثًا: ثُلُثَاهُ
لأَِبِي أَبِي الأُْمِّ، وَثُلُثُهُ لأَِبِي أُمِّ الأُْمِّ، مُحْتَجِّينَ
بِأَنَّ التَّرْجِيحَ فِي هَؤُلاَءِ بِالإِْدْلاَءِ بِوَارِثٍ يُؤَدِّي
إِلَى جَعْل الأَْصْل - وَهُوَ الْجَدُّ وَالْجَدَّةُ - تَابِعًا
لِلْفَرْعِ، وَهُوَ خِلاَفُ الْمَعْقُول.
87 - وَإِنِ اسْتَوَتْ دَرَجَاتُهُمْ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ، وَلَيْسَ
فِيهِمْ مَعَ ذَلِكَ مَنْ يُدْلِي بِوَارِثٍ كَأَبِي أَبِي أُمِّ الأَْبِ،
وَأُمِّ أَبِي أُمِّ الأَْبِ، أَوْ كَانُوا كُلُّهُمْ يُدْلُونَ بِوَارِثٍ،
كَأَبِي أُمِّ أَبِي أَبِي الأَْبِ، وَأَبِي أُمِّ أُمِّ أُمِّ الأَْبِ،
وَاتَّفَقَتْ صِفَةُ مَنْ يُدْلُونَ بِهِمْ فِي الذُّكُورَةِ
وَالأُْنُوثَةِ، فَإِنَّ الْجَدَّ وَالْجَدَّةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ
مُتَّحِدَانِ فِيمَنْ يُدْلِيَانِ بِهِ، فَلاَ يُتَصَوَّرُ اخْتِلاَفٌ فِي
صِفَةِ الْمُدْلَى بِهِ، فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ حِينَئِذٍ عَلَى
أَشْخَاصِهِمْ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ، فَيَكُونُ لأَِبِي
أَبِي أُمِّ
(3/57)
الأَْبِ الثُّلُثَانِ، وَلأَِبِي أَبِي
أُمِّ الأَْبِ الثُّلُثُ.
وَإِنِ اسْتَوَتِ الدَّرَجَةُ وَاخْتَلَفَتْ صِفَةُ مَنْ يُدْلُونَ بِهِمْ
فِي الذُّكُورَةِ وَالأُْنُوثَةِ، كَأَبِي أُمِّ أَبِي أَبِي الأَْبِ
وَأَبِي أُمِّ أُمِّ أُمِّ الأَْبِ، يُقْسَمُ الْمَال عَلَى أَوَّل بَطْنٍ
اُخْتُلِفَ فِيهِ، كَمَا فِي الصِّنْفِ الأَْوَّل، فَيَجْعَل لِلذَّكَرِ
مِثْل ضِعْفِ نَصِيبِ الأُْنْثَى، وَيَتْبَعُ مَا اتُّبَعَ فِي تَوْرِيثِ
الصِّنْفِ الأَْوَّل بَعْدَ الاِخْتِلاَفِ.
88 - وَإِنِ اخْتَلَفَتْ قَرَابَتُهُمْ مَعَ اسْتِوَاءِ دَرَجَاتِهِمْ،
كَمَا إِذَا تَرَكَ أُمَّ أَبِي أُمِّ أَبِي الأَْبِ، وَأُمَّ أَبِي أَبِي
أَبِي الأُْمِّ، فَالثُّلُثَانِ لِقَرَابَةِ الأَْبِ وَهُوَ نَصِيبُ
الأَْبِ، وَالثُّلُثُ لِقَرَابَةِ الأُْمِّ، لأَِنَّ الَّذِينَ يُدْلُونَ
بِالأَْبِ يَقُومُونَ مَقَامَهُ، وَالَّذِينَ يُدْلُونَ بِالأُْمِّ
يَقُومُونَ مَقَامَهَا، فَيَجْعَل الْمَال أَثْلاَثًا، كَأَنَّهُ تَرَكَ
أَبًا وَأُمًّا. ثُمَّ مَا أَصَابَ كُل فَرِيقٍ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ، كَمَا
لَوِ اتَّحَدَتْ قَرَابَتُهُمْ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يُقْسَمُ
الثُّلُثَانِ عَلَى قَرَابَةِ الأَْبِ، وَالثُّلُثُ عَلَى قَرَابَةِ
الأُْمِّ. وَالضَّابِطُ أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ اسْتِوَاءٌ
فِي الدَّرَجَةِ أَوْ لاَ. فَإِنْ لَمْ يَكُنِ اسْتِوَاءٌ فَالأَْقْرَبُ
هُوَ الأَْوْلَى بِالْمِيرَاثِ، وَإِنْ وُجِدَ اسْتِوَاءٌ فِي الدَّرَجَةِ
فَإِمَّا أَنْ تَتَّحِدَ الْقَرَابَةُ أَوْ تَخْتَلِفَ، فَإِنِ اخْتَلَفَتْ
يُقْسَمُ الْمَال أَثْلاَثًا. وَإِنِ اتَّحَدَتْ: فَإِنِ اتَّفَقَتْ صِفَةُ
الأُْصُول فَالْقِسْمَةُ عَلَى أَشْخَاصِ الْفُرُوعِ. وَإِنْ لَمْ
تَتَّفِقْ يُقْسَمُ الْمَال عَلَى الْخِلاَفِ كَمَا فِي الصِّنْفِ
الأَْوَّل.
الصِّنْفُ الثَّالِثُ:
89 - وَهُمْ أَوْلاَدُ الأَْخَوَاتِ، وَبَنَاتُ الإِْخْوَةِ مُطْلَقًا،
وَبَنُو الإِْخْوَةِ لأُِمٍّ.
وَالْحُكْمُ فِيهِمْ أَنَّ أَوْلاَهُمْ بِالْمِيرَاثِ أَقْرَبُهُمْ
دَرَجَةً إِلَى الْمَيِّتِ، فَبِنْتُ الأُْخْتِ أَوْلَى مِنِ ابْنِ بِنْتِ
(3/58)
الأَْخِ، لِقُرْبِهَا، وَإِنِ اسْتَوَوْا
فِي دَرَجَةِ الْقُرْبِ فَوَلَدُ الْعَصَبَةِ أَوْلَى مِنْ وَلَدِ ذَوِي
الأَْرْحَامِ، كَبِنْتِ ابْنِ الأَْخِ، وَابْنِ بِنْتِ الأُْخْتِ، سَوَاءٌ
أَكَانَ كِلاَهُمَا لأَِبٍ وَأُمٍّ، أَمْ لأَِبٍ، أَمْ مُخْتَلِفَيْنِ،
فَالْمَال كُلُّهُ لِبِنْتِ ابْنِ الأَْخِ، لأَِنَّهَا وَلَدُ الْعَصَبَةِ.
وَإِنْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِنْتَ ابْنِ الأَْخِ، وَابْنَ الأَْخِ
لأُِمٍّ، كَانَ الْمَال بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ
الأُْنْثَيَيْنِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِاعْتِبَارِ الأَْشْخَاصِ. لأَِنَّ
الأَْصْل فِي الْمَوَارِيثِ تَفْضِيل الذَّكَرِ عَلَى الأُْنْثَى،
وَإِنَّمَا تُرِكَ هَذَا الأَْصْل فِي أَوْلاَدِ الأُْمِّ بِالنَّصِّ عَلَى
خِلاَفِ الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي
الثُّلُثِ} (1) وَمَا كَانَ مَخْصُوصًا عَنِ الْقِيَاسِ لاَ يَلْحَقُ بِهِ
مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ. وَلَيْسَ أَوْلاَدُ
هَؤُلاَءِ فِي مَعْنَاهُمْ مِنْ كُل وَجْهٍ، إِذْ لاَ يَرِثُونَ
بِالْفَرْضِيَّةِ شَيْئًا، فَيَجْرِي فِيهِمْ ذَلِكَ الأَْصْل وَهُوَ أَنَّ
لِلذَّكَرِ ضِعْفَ الأُْنْثَى، وَأَيْضًا فَإِنَّ تَوْرِيثَ ذَوِي
الأَْرْحَامِ بِمَعْنَى الْعُصُوبَةِ، فَيَفْضُل فِيهِ الذَّكَرُ عَلَى
الأُْنْثَى، كَمَا فِي حَقِيقَةِ الْعُصُوبَةِ.
وَعِنْدَ الإِْمَامِ مُحَمَّدٍ: الْمَال بَيْنَهُمَا مُنَاصَفَةً
بِاعْتِبَارِ الأُْصُول، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَالْوَجْهُ فِيهِ
أَنَّ اسْتِحْقَاقَهُمَا لِلْمِيرَاثِ بِقَرَابَةِ الأُْمِّ، وَبِهَذَا
الاِعْتِبَارِ لاَ تَفْضِيل لِلذَّكَرِ عَلَى الأُْنْثَى أَصْلاً، بَل
رُبَّمَا تَفْضُل الأُْنْثَى عَلَيْهِ، فَإِنَّ أُمَّ الأُْمِّ صَاحِبَةُ
فَرْضٍ بِخِلاَفِ أَبِي الأُْمِّ، فَإِنْ لَمْ تَفْضُل الأُْنْثَى هُنَا
فَلاَ أَقَل مِنَ التَّسَاوِي.
90 - وَإِنِ اسْتَوَوْا فِي الْقُرْبِ وَلَيْسَ بَعْضُهُمْ وَلَدَ
الْعَصَبَةِ، وَبَعْضُهُمْ وَلَدُ ذَوِي الأَْرْحَامِ، كَأَنْ يَكُونَ
الْكُل أَوْلاَدَ الْعَصَبَةِ، كَبِنْتِ أَخٍ شَقِيقٍ، وَبِنْتِ أَخٍ
__________
(1) سورة النساء / 12
(3/58)
لأَِبٍ، أَوْ يَكُونَ الْكُل أَوْلاَدَ
أَصْحَابِ الْفُرُوضِ، كَثَلاَثَةِ أَوْلاَدِ ثَلاَثِ أَخَوَاتٍ
مُتَفَرِّقَاتٍ، أَوْ يَكُونَ الْكُل أَوْلاَدَ ذِي الرَّحِمِ كَبِنْتِ
بِنْتِ أَخٍ، وَابْنِ بِنْتِ أَخٍ آخَرَ، أَوْ يَكُونَ الْبَعْضُ وَلَدَ
الْعَصَبَةِ، وَالْبَعْضُ الآْخَرُ وَلَدَ صَاحِبِ الْفَرْضِ، كَثَلاَثِ
بَنَاتِ ثَلاَثَةِ إِخْوَةٍ مُفْتَرِقِينَ، فَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى يَعْتَبِرُ الأَْقْوَى فِي الْقَرَابَةِ، فَعِنْدَهُ
يَجْعَل الْمَال أَوَّلاً لأَِوْلاَدِ بَنِي الأَْعْيَانِ، ثُمَّ
لأَِوْلاَدِ بَنِي الْعَلاَّتِ إِنْ لَمْ يُوجَدْ أَوْلاَدُ بَنِي
الأَْعْيَانِ، ثُمَّ لأَِوْلاَدِ بَنِي الأَْخْيَافِ إِنْ لَمْ يُوجَدْ
أَوْلاَدُ بَنِي الْعَلاَّتِ، لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ.
91 - وَإِنْ لَمْ يُوجَدِ الأَْقْوَى بِأَنْ يَتَسَاوَوْا فِي الْقُوَّةِ،
يُقْسَمُ الْمَال بَيْنَ أَبْدَانِهِمْ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ
الأُْنْثَيَيْنِ، وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُقْسَمُ الْمَال
عَلَى الإِْخْوَةِ وَالأَْخَوَاتِ، كَمَا لَوْ كَانُوا هُمُ الْوَرَثَةَ
دُونَ فُرُوعِهِمْ، مَعَ اعْتِبَارِ عَدَدِ الْفُرُوعِ وَالْجِهَاتِ فِي
الأُْصُول، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْل الإِْمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ يُقْسَمُ مَا أَصَابَ كُل فَرِيقٍ مِنْ
تِلْكَ الأُْصُول بَيْنَ فُرُوعِهِمْ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الصِّنْفِ
الأَْوَّل، مِثَال ذَلِكَ: لَوْ تَرَكَ ثَلاَثَ بَنَاتِ إِخْوَةٍ
مُتَفَرِّقِينَ وَثَلاَثَ بَنِينَ وَثَلاَثَ بَنَاتٍ مِنْ أَخَوَاتٍ
مُفْتَرِقَاتٍ بِهَذِهِ الصُّورَةِ:
مَيِّتٌ
1 - بِنْتُ أَخٍ لأَِبَوَيْنِ
2 - ابْنٌ وَبِنْتُ أُخْتٍ لأَِبَوَيْنِ
3 - بِنْتُ أَخٍ لأَِبٍ
4 - ابْنٌ وَبِنْتُ أُخْتٍ لأَِبٍ
5 - بِنْتُ أَخٍ لأُِمٍّ
6 - ابْنٌ وَبِنْتُ أُخْتٍ لأُِمٍّ
عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُقْسَمُ كُل الْمَال
بَيْنَ فُرُوعِ بَنِي الأَْعْيَانِ، ثُمَّ بَيْنَ فُرُوعِ بَنِي
(3/59)
الْعَلاَّتِ، ثُمَّ بَيْنَ فُرُوعِ بَنِي
الأَْخْيَافِ، لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ أَرْبَاعًا،
بِاعْتِبَارِ أَبْدَانِ الْفُرُوعِ وَصِفَاتِهِمْ، فَيُعْطِي بِنْتَ
الأَْخِ لأَِبَوَيْنِ النِّصْفَ، وَبِنْتَ الأُْخْتِ لأَِبَوَيْنِ
الرُّبُعَ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فُرُوعُ بَنِي الأَْعْيَانِ، يُقْسَمُ
عَلَى فُرُوعِ بَنِي الْعَلاَّتِ. (1) أَرْبَاعًا أَيْضًا بِاعْتِبَارِ
أَبْدَانِهِمْ، لاِبْنِ الأُْخْتِ مِنَ الأَْبِ النِّصْفُ، وَلِبِنْتِ
الأَْخِ مِنَ الأَْبِ الرُّبُعُ، وَلِبِنْتِ الأُْخْتِ مِنَ الأَْبِ
الرُّبُعُ. فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فُرُوعُ بَنِي الْعَلاَّتِ يُقْسَمُ
الْمَال عَلَى فُرُوعِ بَنِي الأَْخْيَافِ أَرْبَاعًا أَيْضًا بِاعْتِبَارِ
الأَْبْدَانِ، وَقَدَّمَ أَوْلاَدَ بَنِي الْعَلاَّتِ عَلَى أَوْلاَدِ
بَنِي الأَْخْيَافِ، لأَِنَّ قَرَابَةَ الأَْبِ أَقْوَى مِنْ قَرَابَةِ
الأُْمِّ، فَأَصْل الْمَسْأَلَةِ عَلَى رَأْيِهِ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَمِنْهَا
تَصِحُّ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُقْسَمُ ثُلُثُ
الْمَال بَيْنَ فُرُوعِ بَنِي الأَْخْيَافِ عَلَى السَّوِيَّةِ أَثْلاَثًا،
لاِسْتِوَاءِ أُصُولِهِمْ فِي الْقِسْمَةِ، فَإِذَا اُعْتُبِرَ عَدَدُ
الْفُرُوعِ فِي الأُْخْتِ، صَارَتْ كَأَنَّهَا أُخْتَانِ لأُِمٍّ،
فَتَأْخُذُ هِيَ ثُلُثَيِ الْمَال وَيَأْخُذُ الأَْخُ لأُِمٍّ ثُلُثَهُ،
ثُمَّ يَنْتَقِل مَا أَصَابَ الأَْخَ، وَهُوَ تُسْعُ الْمَال لِبِنْتِهِ،
وَمَا أَصَابَ الأُْخْتَ وَهُوَ تُسْعُ الْمَال إِلَى ابْنِهَا
وَابْنَتِهَا بِالسَّوِيَّةِ، وَثُلُثَا الْمَال يُقْسَمُ بَيْنَ بَنِي
الأَْعْيَانِ أَنْصَافًا، بِاعْتِبَارِ عَدَدِ الْفُرُوعِ فِي الأُْصُول،
نِصْفُهُ لِبِنْتِ الأَْخِ نَصِيبُ أَبِيهَا، وَالنِّصْفُ الآْخَرُ بَيْنَ
وَلَدَيِ الأُْخْتِ الْمُقَدَّرَةِ بِأُخْتَيْنِ أَثْلاَثًا، لِلذَّكَرِ
مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ، بِاعْتِبَارِ الأَْبْدَانِ، وَلاَ شَيْءَ
لِفُرُوعِ بَنِي الْعَلاَّتِ، لأَِنَّهُمْ مَحْجُوبُونَ بِبَنِي
الأَْعْيَانِ كَمَا
__________
(1) أولاد الإخوة الأعيان هم: الإخوة الأشقاء متحدي الأب والأم - أولاد
الإخوة الأخياف هم: الإخوة من أم واحدة وآباء مختلفين. - أولاد العلات هم
الإخوة من أب واحد وأمهات شتى (المصباح المنير، مادة عين، خيف، عل) بتصرف.
(3/59)
سَبَقَ، فَتَصِحُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ
عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ تِسْعَةٍ، ثَلاَثَةٌ
مِنْهَا لِفُرُوعِ بَنِي الأَْخْيَافِ الثَّلاَثَةِ بِالسَّوِيَّةِ،
وَثَلاَثَةٌ لِبِنْتِ الأَْخِ لأَِبَوَيْنِ، وَثَلاَثَةٌ لِوَلَدَيِ
الأُْخْتِ لأَِبَوَيْنِ، لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ.
الصِّنْفُ الرَّابِعُ:
92 - هُوَ الَّذِي يَنْتَسِبُ إِلَى أَحَدِ جَدَّيِ الْمَيِّتِ أَوْ
جَدَّتَيْهِ، وَهُمُ الْعَمَّاتُ عَلَى الإِْطْلاَقِ، وَالأَْعْمَامُ
لأُِمٍّ، وَالأَْخْوَال وَالْخَالاَتُ مُطْلَقًا.
وَالْحُكْمُ فِيهِمْ: أَنَّهُ إِذَا انْفَرَدَ وَاحِدٌ مِنْهُمُ اسْتَحَقَّ
الْمَال كُلَّهُ، لِعَدَمِ الْمُزَاحِمِ. فَإِذَا تَرَكَ الْمَيِّتُ
عَمَّةً وَاحِدَةً، أَوْ عَمًّا وَاحِدًا لأُِمٍّ، أَوْ خَالاً وَاحِدًا،
أَوْ خَالَةً وَاحِدَةً، كَانَ الْمَال كُلُّهُ لِلْوَاحِدِ الْمُنْفَرِدِ
كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي كُل الأَْصْنَافِ.
فَإِذَا اجْتَمَعُوا، وَكَانُوا مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ، كَالأَْعْمَامِ
لأُِمٍّ، وَالْعَمَّاتِ (فَإِنَّهُمْ مِنْ جَانِبِ الأَْبِ) ، أَوِ
الأَْخْوَال وَالْخَالاَتِ (فَإِنَّهُمْ مِنْ جَانِبِ الأُْمِّ) ،
فَالْحُكْمُ فِيهِمْ: أَنَّ الأَْقْوَى مِنْهُمْ فِي الْقَرَابَةِ أَوْلَى
بِالْمِيرَاثِ إِجْمَاعًا، فَمَنْ كَانَ شَقِيقًا فَهُوَ أَوْلَى مِمَّنْ
كَانَ لأَِبٍ. وَمَنْ كَانَ لأَِبٍ فَهُوَ أَوْلَى مِمَّنْ كَانَ لأُِمٍّ.
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الأَْقْرَبُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى،
فَعَمَّةٌ شَقِيقَةٌ أَوْلَى مِنْ عَمَّةٍ لأَِبٍ أَوْ عَمَّةٍ لأُِمٍّ
أَوْ عَمٍّ لأُِمٍّ، لِقُوَّةِ قَرَابَتِهَا، وَكَذَا الْخَال أَوِ
الْخَالَةُ لأَِبٍ وَأُمٍّ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ.
93 - وَإِنْ كَانُوا ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَاتَّحَدَتْ جِهَةُ
الْقَرَابَةِ، وَاسْتَوَتْ قَرَابَتُهُمْ فِي الْقُوَّةِ، بِأَنْ يَكُونُوا
كُلُّهُمْ أَشِقَّاءَ أَوْ لأَِبٍ أَوْ لأُِمٍّ، كَانَ لِلذَّكَرِ مِثْل
حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ، كَعَمٍّ وَعَمَّةٍ كِلاَهُمَا لأُِمٍّ. أَوْ خَالٍ
وَخَالَةٍ كِلاَهُمَا شَقِيقٌ، أَوْ لأَِبٍ، أَوْ لأُِمٍّ، لأَِنَّ
الْعَمَّ وَالْعَمَّةَ مُتَّحِدَانِ فِي الأَْصْل الَّذِي هُوَ الأَْبُ،
وَكَذَلِكَ أَصْل
(3/60)
الْخَال وَالْخَالَةِ وَاحِدٌ، وَهُوَ
الأُْمُّ. وَمَتَى اتَّفَقَ الأَْصْل فَالْعِبْرَةُ فِي الْقِسْمَةِ
بِالأَْشْخَاصِ عِنْدَ الْجَمِيعِ.
94 - وَإِنِ اخْتَلَفَتْ جِهَةُ قَرَابَتِهِمْ، بِأَنْ كَانَتْ قَرَابَةُ
بَعْضِهِمْ مِنْ جَانِبِ الأَْبِ، وَقَرَابَةُ بَعْضِهِمْ مِنْ جَانِبِ
الأُْمِّ فَلاَ اعْتِبَارَ لِقُوَّةِ الْقَرَابَةِ. فَإِذَا تَرَكَ
الْمَيِّتُ عَمَّةً شَقِيقَةً وَخَالَةً لأُِمٍّ، أَوْ خَالاً شَقِيقًا
وَعَمَّةً لأُِمٍّ، فَالثُّلُثَانِ - وَهُوَ نَصِيبُ الأَْبِ - لِقَرَابَةِ
الأَْبِ، وَالثُّلُثُ - وَهُوَ نَصِيبُ الأُْمِّ - لِقَرَابَةِ الأُْمِّ.
كَيْفِيَّةُ تَوْرِيثِ أَوْلاَدِ الصِّنْفِ الرَّابِعِ:
95 - الْحُكْمُ السَّابِقُ فِي تَوْرِيثِ الصِّنْفِ الرَّابِعِ لاَ يَسْرِي
عَلَى أَوْلاَدِهِمْ، لأَِنَّ أَوْلَى الأَْوْلاَدِ بِالْمِيرَاثِ
أَقْرَبُهُمْ إِلَى الْمَيِّتِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَ، فَبِنْتُ
الْعَمَّةِ أَوِ ابْنُهَا أَوْلَى مِنْ بِنْتِ بِنْتِ الْعَمَّةِ وَابْنِ
بِنْتِهَا، لأَِنَّهُمَا أَقْرَبُ إِلَى الْمَيِّتِ.
وَإِنِ اسْتَوَوْا فِي الْقُرْبِ إِلَى الْمَيِّتِ، وَكَانَتْ جِهَةُ
قَرَابَتِهِمْ مُتَّحِدَةً، بِأَنْ تَكُونَ قَرَابَةُ الْكُل مِنْ جَانِبِ
أَبِي الْمَيِّتِ، أَوْ مِنْ جَانِبِ أُمِّهِ، فَمَنْ كَانَ لَهُ قُوَّةُ
الْقَرَابَةِ فَهُوَ أَوْلَى بِالإِْجْمَاعِ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ قُوَّةُ
الْقَرَابَةِ، فَإِذَا تَرَكَ الْمَيِّتُ ثَلاَثَةَ أَوْلاَدِ عَمَّاتٍ
مُتَفَرِّقَاتٍ، كَانَ الْمَال كُلُّهُ لِوَلَدِ الْعَمَّةِ الشَّقِيقَةِ،
فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَلِوَلَدِ الْعَمَّةِ لأَِبٍ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ
فَلِوَلَدِ الْعَمَّةِ لأُِمٍّ، وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ فِي أَوْلاَدِ
أَخْوَالٍ مُتَفَرِّقِينَ، أَوْ خَالاَتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ.
96 - وَإِنِ اسْتَوَوْا فِي الْقَرَابَةِ بِحَسَبِ الدَّرَجَةِ وَقُوَّةِ
الْقَرَابَةِ، وَكَانَتْ جِهَةُ الْقَرَابَةِ مُتَّحِدَةً، بِأَنْ
يَكُونُوا كُلُّهُمْ مِنْ جِهَةِ أَبِي الْمَيِّتِ أَوْ جِهَةِ أُمِّهِ،
فَوَلَدُ الْعَصَبَةِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، كَبِنْتِ الْعَمِّ وَابْنِ
الْعَمَّةِ الشَّقِيقَةِ، أَوْ لأَِبٍ، أَوْ لأُِمٍّ، فَالْمَال كُلُّهُ
لِبِنْتِ
(3/60)
الْعَمِّ، لأَِنَّهَا وَلَدُ الْعَصَبَةِ،
دُونَ ابْنِ الْعَمَّةِ، لأَِنَّهُ وَلَدُ رَحِمٍ.
وَإِنْ كَانَ الْعَمُّ أَوِ الْعَمَّةُ شَقِيقًا، وَالآْخَرُ لأَِبٍ، كَانَ
الْمَال كُلُّهُ لِبِنْتِ الْعَمِّ الشَّقِيقِ، لِقُوَّةِ الْقَرَابَةِ،
فَلَوْ تَرَكَ الْمَيِّتُ ابْنَ عَمَّةٍ شَقِيقَةٍ، وَبِنْتَ عَمٍّ لأَِبٍ،
فَالْمَال كُلُّهُ لاِبْنِ الْعَمَّةِ الشَّقِيقَةِ فِي ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لِقُوَّةِ قَرَابَتِهِ دُونَ بِنْتِ
الْعَمِّ، وَإِنْ كَانَتْ بِنْتَ وَارِثٍ.
وَقَال بَعْضُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ، بِنَاءً عَلَى رِوَايَةٍ غَيْرِ
ظَاهِرَةٍ، الْمَال كُلُّهُ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ لِبِنْتِ
الْعَمِّ لأَِبٍ، لأَِنَّهَا وَلَدُ الْعَصَبَةِ، بِخِلاَفِ ابْنِ
الْعَمَّةِ، فَإِنَّهُ وَلَدُ ذَاتِ رَحِمٍ.
97 - وَإِنِ اسْتَوَوْا فِي الْقُرْبِ، وَاخْتَلَفَتْ جِهَةُ
قَرَابَتِهِمْ، بِأَنْ كَانَ بَعْضُهُمْ مِنْ جِهَةِ الأَْبِ، وَبَعْضُهُمْ
مِنْ جِهَةِ الأُْمِّ، فَلاَ اعْتِبَارَ لِقُوَّةِ الْقَرَابَةِ وَلاَ
لِوَلَدِ الْعَصَبَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَلاَ يَكُونُ وَلَدُ
الْعَمَّةِ الشَّقِيقَةِ أَوْلَى مِنْ وَلَدِ الْخَال الشَّقِيقِ أَوِ
الْخَالَةِ الشَّقِيقَةِ، لِعَدَمِ اعْتِبَارِ قُوَّةِ قَرَابَةِ وَلَدِ
الْعَمَّةِ. وَكَذَا بِنْتُ الْعَمِّ الشَّقِيقِ لَيْسَتْ أَوْلَى مِنْ
بِنْتِ الْخَال أَوِ الْخَالَةِ الشَّقِيقَةِ، لِعَدَمِ اعْتِبَارِ كَوْنِ
بِنْتِ الْعَمِّ وَلَدَ عَصَبَةٍ، لَكِنْ يُقْسَمُ الْمِيرَاثُ
بِاعْتِبَارِ الثُّلُثَيْنِ لِقَرَابَةِ الأَْبِ، وَالثُّلُثِ لِقَرَابَةِ
الأُْمِّ، لِقِيَامِ قَرَابَةِ الأَْبِ مَقَامَهُ وَقَرَابَةِ الأُْمِّ
مَقَامَهَا.
ثُمَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مَا أَصَابَ كُل فَرِيقٍ مِنْ جِهَةِ الأَْبِ
أَوْ جِهَةِ الأُْمِّ، يُقْسَمُ عَلَى أَشْخَاصِ فُرُوعِهِمْ مَعَ
اعْتِبَارِ عَدَدِ الْجِهَاتِ فِي الْفُرُوعِ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُقْسَمُ الْمَال عَلَى أَوَّل بَطْنٍ اُخْتُلِفَ
فِيهِ، مَعَ اعْتِبَارِ عَدَدِ الْفُرُوعِ وَالْجِهَاتِ فِي الأُْصُول
(3/61)
كَمَا هُوَ الْحَال فِي الصِّنْفِ
الأَْوَّل وَهَكَذَا. (1)
هَذِهِ هِيَ أَحْكَامُ تَوْرِيثِ ذَوِي الأَْرْحَامِ فِي مَذْهَبِ أَهْل
الْقَرَابَةِ
مَذْهَبُ أَهْل التَّنْزِيل:
98 - مَعْنَى التَّنْزِيل:
أَنَّ مَنْ أَدْلَى مِنْ ذَوِي الأَْرْحَامِ إِلَى الْمَيِّتِ بِوَارِثٍ
قَامَ مَقَامَ ذَلِكَ الْوَارِثِ، فَوَلَدُ الْبَنَاتِ، وَوَلَدُ بَنَاتِ
الاِبْنِ، وَوَلَدُ الأَْخَوَاتِ مُطْلَقًا كَأُمَّهَاتِهِمْ. وَبَنَاتُ
الإِْخْوَةِ، وَبَنَاتُ الأَْعْمَامِ الأَْشِقَّاءِ، أَوْ لأَِبٍ،
وَبَنَاتُ بَنِيهِمْ، وَأَوْلاَدُ الإِْخْوَةِ مِنْ الأُْمِّ، وَأَوْلاَدُ
الأَْعْمَامِ لأُِمٍّ كَآبَائِهِمْ. وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِهِ عَلْقَمَةُ
وَالشَّعْبِيُّ وَمَسْرُوقٌ وَنُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ وَأَبُو نُعَيْمٍ
وَأَبُو عُبَيْدَةَ الْقَاسِمُ بْنُ سَلاَمٍ.
وَقَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ وَالإِْمَامُ أَحْمَدُ
فِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى عَنْهُ، وَاسْتَثْنَيَا مِنْ هَذَا الأَْصْل
مَسْأَلَتَيْنِ:
1 - أَنَّهُمَا نَزَّلاَ الْخَال وَالْخَالَةَ وَلَوْ مِنْ جِهَةِ الأَْبِ
مَنْزِلَةَ الأُْمِّ عَلَى الأَْصَحِّ، وَنَزَّلاَ جَدَّ الْمَيِّتِ
لأُِمٍّ مَنْزِلَةَ الأُْمِّ عَلَى الأَْصَحِّ.
2 - نَزَّلاَ الأَْعْمَامَ لأُِمٍّ وَالْعَمَّةَ مُطْلَقًا مَنْزِلَةَ
الأَْبِ عَلَى الأَْصَحِّ.
وَقَدْ رَجَّحَ الإِْمَامَانِ مَذْهَبَ أَهْل التَّنْزِيل، لأَِنَّهُ
مَذْهَبُ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْقَائِلِينَ بِتَوْرِيثِ
ذَوِي الأَْرْحَامِ، فَلَوْ تَرَكَ الْمَيِّتُ بِنْتَ بِنْتٍ، وَبِنْتَ
بِنْتِ ابْنٍ، فَعَلَى مَذْهَبِ أَهْل التَّنْزِيل الْمَال بَيْنَهُمَا:
ثَلاَثَةُ أَرْبَاعِهِ لِبِنْتِ الْبِنْتِ، وَرُبُعُهُ لِبِنْتِ بِنْتِ
الاِبْنِ فَرْضًا وَرَدًّا.
__________
(1) السراجية ص 265 - 300، والعذب الفائض 2 / 15 وما بعدها.
(3/61)
99 - وَمَذْهَبُ أَهْل التَّنْزِيل
كَمَذْهَبِ أَهْل الْقَرَابَةِ فِي أَنَّ مَنِ انْفَرَدَ مِنْ ذَوِي
الأَْرْحَامِ يَأْخُذُ جَمِيعَ التَّرِكَةِ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى.
لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ يَظْهَرُ فِي اجْتِمَاعِ ذَوِي
الأَْرْحَامِ، فَأَهْل التَّنْزِيل حِينَئِذٍ يَجْعَلُونَ الْفُرُوعَ
قَائِمِينَ مَقَامَ أُصُولِهِمْ، وَيَأْخُذُونَ أَنْصِبَتَهُمْ. فَإِنْ
أَدْلَوْا بِعَاصِبٍ أَخَذُوا نَصِيبَهُ تَعْصِيبًا. وَإِنْ أَدْلَوْا
بِذِي فَرْضٍ أَخَذُوا نَصِيبَهُ فَرْضًا وَرَدًّا، وَيُقْسَمُ عَلَى
الْجَمِيعِ بِالتَّسَاوِي بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى عِنْدَ الإِْمَامِ
أَحْمَدَ، لأَِنَّهُمْ يَرِثُونَ بِالرَّحِمِ الْمُجَرَّدِ، فَيَسْتَوُونَ
كَأَوْلاَدِ الأُْمِّ. وَذَهَبَ الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ
الذَّكَرَ يَأْخُذُ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ.
فَفِي بِنْتِ بِنْتٍ، وَابْنٍ، وَبِنْتٍ مِنْ بِنْتٍ أُخْرَى، إِذَا
رُفِعُوا دَرَجَةً صَارُوا فِي مَنْزِلَةِ بِنْتَيْنِ، فَتَكُونُ
التَّرِكَةُ مُنَاصَفَةً، تَأْخُذُ بِنْتُ الْبِنْتِ نِصْفَهَا، وَيَأْخُذُ
الاِبْنُ وَالْبِنْتُ النِّصْفَ الآْخَرَ، فَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ مِنْ
أَرْبَعَةٍ عَلَى مَذْهَبِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ. وَعِنْدَ الإِْمَامِ
الشَّافِعِيِّ تَصِحُّ مِنْ سِتَّةٍ، لأَِنَّ أَصْل الْمَسْأَلَةِ
ثَلاَثَةٌ. وَذَلِكَ فِي غَيْرِ أَوْلاَدِ الأُْمِّ لأَِنَّهُمْ
مُتَسَاوُونَ فِي النَّصِيبِ بِالنَّصِّ. (1)
مَذْهَبُ أَهْل الرَّحِمِ:
100 - هُمُ الَّذِينَ يُسَوُّونَ بَيْنَ ذَوِي الأَْرْحَامِ فِي
التَّوْرِيثِ، فَلاَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ صِنْفٍ وَصِنْفٍ، وَلاَ بَيْنَ
دَرَجَةٍ وَدَرَجَةٍ، وَلاَ بَيْنَ قَرَابَةٍ قَوِيَّةٍ وَأُخْرَى
ضَعِيفَةٍ.
فَلَوْ كَانَ لِلْمُتَوَفَّى بِنْتُ أُخْتٍ، وَبِنْتُ بِنْتٍ، فَإِنَّ
الْمِيرَاثَ بَيْنَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ، وَلَوْ تَرَكَ ابْنَ أُخْتٍ،
__________
(1) العذب الفائض 2 / 18 وما بعدها.
(3/62)
وَبِنْتَ ابْنِ أَخٍ، فَالْمِيرَاثُ
بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ، وَذَلِكَ لأَِنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْمِيرَاثِ
هُوَ الرَّحِمُ، وَهِيَ مُتَحَقِّقَةٌ فِي الْجَمِيعِ مِنْ غَيْرِ
تَفْرِقَةٍ، وَتَحَقُّقُهَا فِي الْجَمِيعِ بِقَدْرٍ مُشْتَرَكٍ، فَثَبَتَ
الْمِيرَاثُ لِلْجَمِيعِ بِالتَّسَاوِي. وَلَقَدْ كَانَ مِنْ أَنْصَارِ
هَذَا الرَّأْيِ حَسَنُ بْنُ مُيَسَّرٍ وَنُوحُ بْنُ ذُرَاحٍ، وَلَمْ
يَأْخُذْ هَذَا الرَّأْيَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ
الْمَشْهُورَةِ. (1)
إِرْثُ ذَوِي الأَْرْحَامِ مَعَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ:
101 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ مَنْ وَرَّثُوا ذَوِي الأَْرْحَامِ فِي أَنَّهُمْ
إِذَا اجْتَمَعُوا مَعَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا
نَصِيبُهُ كَامِلاً، فَلاَ يُحْجَبُ الزَّوْجُ مِنَ النِّصْفِ إِلَى
الرُّبُعِ، وَلاَ تُحْجَبُ الزَّوْجَةُ مِنَ الرُّبُعِ إِلَى الثُّمُنِ
بِأَحَدٍ مِنْ ذَوِي الأَْرْحَامِ. وَذَلِكَ لأَِنَّ فَرْضَ الزَّوْجَيْنِ
ثَبَتَ بِالنَّصِّ، وَإِرْثُ ذَوِي الأَْرْحَامِ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ
فَلاَ يُعَارِضُهُ. وَمَا بَقِيَ بَعْدَ فَرْضِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ
يَكُونُ لِذَوِي الأَْرْحَامِ.
102 - لَكِنِ اخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ تَوْرِيثِهِمْ: فَقَال أَهْل
الْقَرَابَةِ: يُخْرَجُ نَصِيبُ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ أَوَّلاً،
ثُمَّ يُقْسَمُ الْبَاقِي عَلَى ذَوِي الأَْرْحَامِ، كَمَا يُقْسَمُ عَلَى
الْجَمِيعِ لَوِ انْفَرَدُوا.
وَلأَِهْل التَّنْزِيل مَذْهَبَانِ: أَصَحُّهُمَا مَا قَالَهُ أَهْل
الْقَرَابَةِ: رُوِيَ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّهُمْ يَرِثُونَ مَا
فَضَل كَمَا يَرِثُونَ الْمَال إِذَا انْفَرَدُوا، وَهَذَا قَوْل أَبِي
عُبَيْدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ
اللُّؤْلُؤِيِّ وَعَامَّةِ مَنْ وَرَّثَهُمْ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ فَرْضِ أَحَدِ
الزَّوْجَيْنِ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ عَلَى نِسْبَةِ سِهَامِ الَّذِينَ
يُدْلِي
__________
(1) المبسوط 30 / 4 ط دار المعرفة.
(3/62)
بِهِمْ ذَوُو الأَْرْحَامِ مِنَ
الْوَرَثَةِ مَعَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، وَهَذَا قَوْل يَحْيَى بْنِ آدَمَ
وَضِرَارٍ. وَيُعْرَفُ الْقَائِلُونَ بِالأَْوَّل بِأَصْحَابِ: (اعْتِبَارِ
مَا بَقِيَ) . وَالْقَائِلُونَ بِالثَّانِي بِأَصْحَابِ: (اعْتِبَارِ
الأَْصْل) . وَلاَ خِلاَفَ فِي التَّوْرِيثِ إِذَا كَانَ ذَوُو
الأَْرْحَامِ يُدْلُونَ بِذِي فَرْضٍ فَقَطْ، أَوْ بِعَصَبَةٍ فَقَطْ،
وَإِنَّمَا يَقَعُ الْخِلاَفُ إِذَا كَانَ بَعْضُهُمْ يُدْلِي بِعَصَبَةٍ،
وَبَعْضُهُمْ يُدْلِي بِذِي فَرْضٍ. فَلَوْ مَاتَتِ امْرَأَةٌ، عَنْ
زَوْجٍ، وَبِنْتِ بِنْتٍ، وَخَالَةٍ، وَبِنْتِ عَمٍّ شَقِيقٍ أَوْ لأَِبٍ.
فَعِنْدَ أَهْل الْقَرَابَةِ: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي لِبِنْتِ
الْبِنْتِ وَحْدَهَا. وَعَلَى قَوْل أَهْل التَّنْزِيل: لِلزَّوْجِ
النِّصْفُ، وَلِبِنْتِ الْبِنْتِ نِصْفُ الْبَاقِي، وَلِلْخَالَةِ سُدُسُ
الْبَاقِي، وَلِبِنْتِ الْعَمِّ الْبَاقِي. فَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ مِنِ
اثْنَيْ عَشَرَ: لِلزَّوْجِ مِنْهَا سِتَّةٌ، وَلِبِنْتِ الْبِنْتِ
ثَلاَثَةٌ، وَلِلْخَالَةِ وَاحِدٌ، وَلِبِنْتِ الْعَمِّ اثْنَانِ. وَعَلَى
الْقَوْل الثَّانِي: إِذَا نَزَلُوا حَصَل مَعَ الزَّوْجِ أُمٌّ، وَعَمٌّ،
وَبِنْتٌ بِالتَّنْزِيل، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ بِنْتُ ابْنٍ وَهِيَ
كَالْبِنْتِ فِي التَّنْزِيل لاَ فِي الْحَجْبِ، فَتَكُونُ الْمَسْأَلَةُ
مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ. يَخْرُجُ نَصِيبُ الزَّوْجِ أَوَّلاً الرُّبُعُ،
ثَلاَثَةٌ، ثُمَّ يَخْرُجُ تَمَامُ نَصِيبِ النِّصْفِ لِلزَّوْجِ لِعَدَمِ
الْحَجْبِ الْحَقِيقِيِّ، فَيَبْقَى سِتَّةٌ، تُقْسَمُ عَلَى التِّسْعَةِ،
فَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، لِلزَّوْجِ تِسْعَةٌ،
وَلِبِنْتِ الْبِنْتِ سِتَّةٌ، وَلِلْخَالَةِ اثْنَانِ، وَلِبِنْتِ
الْعَمِّ وَاحِدٌ. (1)
الْمِيرَاثُ مِنْ جِهَتَيْنِ:
103 - قَدْ يَكُونُ لأَِحَدِ الْوَرَثَةِ جِهَتَانِ لِلْمِيرَاثِ. فَإِذَا
كَانَتِ الْجِهَتَانِ مَعًا مِنْ طَرِيقِ الْعُصُوبَةِ وَرِثَ
__________
(1) العذب الفائض 2 / 50، 51، والمغني 7 / 93 ط المنار الأولى.
(3/63)
بِأَقْوَاهِمَا. فَإِذَا مَاتَتِ امْرَأَةٌ
عَنِ ابْنٍ، هُوَ ابْنُ ابْنِ عَمٍّ. فَإِنَّ التَّرِكَةَ تَكُونُ لَهُ
بِاعْتِبَارِهِ ابْنًا وَلاَ شَيْءَ لَهُ بِالْقَرَابَةِ الأُْخْرَى،
لأَِنَّ الْبُنُوَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْعُمُومَةِ.
فَإِذَا اخْتَلَفَتْ جِهَتَا إِرْثٍ تَقْتَضِي كُلٌّ مِنْهُمَا
الْمِيرَاثَ، وَرِثَ بِالْجِهَتَيْنِ. فَإِذَا مَاتَ شَخْصٌ عَنْ
أَخَوَيْنِ لأُِمٍّ، أَحَدُهُمَا ابْنُ عَمٍّ شَقِيقٍ. فَإِنَّ
لِلأَْخَوَيْنِ لأُِمٍّ الثُّلُثَ فَرْضًا مُنَاصَفَةً بَيْنَهُمَا،
وَالْبَاقِي يَنْفَرِدُ بِهِ الأَْخُ لأُِمٍّ الَّذِي هُوَ ابْنُ عَمٍّ
شَقِيقٍ بِاعْتِبَارِهِ عَاصِبًا فَيَأْخُذُ الْبَاقِيَ.
وَقَدْ يُحْجَبُ الشَّخْصُ عَنِ الْمِيرَاثِ بِإِحْدَى الْجِهَتَيْنِ
فَيَرِثُ بِالأُْخْرَى، لِعَدَمِ وُجُودِ حَاجِبٍ لَهُ فِيهَا، كَمَا إِذَا
تُوُفِّيَ عَنْ بِنْتٍ، وَابْنَيْ عَمٍّ شَقِيقٍ أَحَدُهُمَا أَخٌ لأُِمٍّ،
فَإِنَّ لِلْبِنْتِ النِّصْفَ فَرْضًا، وَالْبَاقِي لاِبْنَيِ الْعَمِّ
الشَّقِيقِ تَعْصِيبًا مُنَاصَفَةً بَيْنَهُمَا، وَلاَ شَيْءَ لاِبْنِ
الْعَمِّ الثَّانِي بِاعْتِبَارِهِ أَخًا لأُِمٍّ، لأَِنَّهُ مَحْجُوبٌ
بِالْبِنْتِ.
مِيرَاثُ الْخُنْثَى:
104 - الْخُنْثَى لُغَةً: مَنْ لَهُ مَا لِلرِّجَال وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا،
جَمْعُهُ خَنَاثَى وَخَنَاثٌ. وَالْخَنِثُ كَكَتِفٍ مَنْ فِيهِ انْخِنَاثٌ،
أَيْ تَكَسُّرٌ وَتَثَنٍّ. وَقَدْ خَنِثَ كَفَرِحَ وَانْخَنَثَ. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: مَنْ لَهُ آلَةُ الرِّجَال وَآلَةُ النِّسَاءِ مَعًا.
أَوْ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مِنْهُمَا أَصْلاً (2)
، فَقَدْ سُئِل الشَّعْبِيُّ عَنْ مِيرَاثِ مَوْلُودٍ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ
مِنَ الآْلَتَيْنِ وَيَخْرُجُ مِنْ سُرَّتِهِ شِبْهُ بَوْلٍ غَلِيظٍ،
فَاعْتَبَرَهُ أُنْثَى.
__________
(1) القاموس المحيط.
(2) شرح السراجية ص 303 والعذب الفائض 2 / 53. والمغني 7 / 11 ط المنار
الأولى، والرحبية ص 41
(3/63)
وَهُوَ يَنْقَسِمُ إِلَى مُشْكِلٍ وَغَيْرِ
مُشْكِلٍ. فَاَلَّذِي يَتَبَيَّنُ فِيهِ عَلاَمَاتُ الذُّكُورِيَّةِ أَوِ
الأُْنُوثِيَّةِ، فَيُعْلَمُ أَنَّهُ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ فَلَيْسَ
بِمُشْكِلٍ، إِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ فِيهِ خِلْقَةٌ زَائِدَةٌ، أَوِ
امْرَأَةٌ فِيهَا خِلْقَةٌ زَائِدَةٌ.
105 - وَحُكْمُهُ فِي إِرْثِهِ وَسَائِرِ أَحْكَامِهِ: حُكْمُ مَا ظَهَرَتْ
عَلاَمَاتُهُ فِيهِ. وَيُعْتَبَرُ بِمَبَالِهِ فِي قَوْل الْفُقَهَاءِ،
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُل مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل
الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْخُنْثَى يُورَثُ مِنْ حَيْثُ يَبُول. فَإِنْ بَال
مِنْ حَيْثُ يَبُول الرَّجُل فَهُوَ رَجُلٌ، وَإِنْ بَال مِنْ حَيْثُ
تَبُول الْمَرْأَةُ فَهُوَ امْرَأَةٌ، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ ذَلِكَ:
عَلِيٌّ وَمُعَاوِيَةُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ
وَأَهْل الْكُوفَةِ وَسَائِرُ أَهْل الْعِلْمِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سُئِل عَنْ مَوْلُودٍ لَهُ قُبُلٌ وَذَكَرٌ: مِنْ أَيْنَ
يُورَثُ؟ قَال: مِنْ حَيْثُ يَبُول. وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
أُتِيَ بِخُنْثَى مِنَ الأَْنْصَارِ فَقَال: وَرِّثُوهُ مِنْ أَوَّل مَا
يَبُول مِنْهُ. (1)
وَلأَِنَّ خُرُوجَ الْبَوْل أَعَمُّ الْعَلاَمَاتِ، لِوُجُودِهَا مِنَ
الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ. وَسَائِرُ الْعَلاَمَاتِ إِنَّمَا تُوجَدُ بَعْدَ
الْكِبَرِ مِثْل نَبَاتِ اللِّحْيَةِ، وَتَفَلُّكِ الثَّدْيِ
(اسْتِدَارَتُهُ) ، وَخُرُوجِ الْمَنِيِّ، وَالْحَيْضِ، وَالْحَبَل، وَإِنْ
بَال مِنْهُمَا جَمِيعًا اُعْتُبِرَ أَسْبَقُهُمَا عِنْدَ جُمْهُورِ
الْفُقَهَاءِ.
فَإِنْ خَرَجَا مَعًا وَلَمْ يَسْبِقْ أَحَدُهُمَا، فَقَال الإِْمَامُ
أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: يَرِثُ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي يَنْزِل مِنْهُ
__________
(1) حديث " ورثوه من أول. . . " من حديث ابن عباس، أخرجه ابن عدى في الكامل
من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. وعنه البيهقي في سننه (6 / 261 -
ط حيدر أباد الدكن) وقال: " الكلبي لا يحتج به ". وأورده ابن الجوزي في
الموضوعات (3 / 230 - نشر المكتبة السلفية) .
(3/64)
أَكْثَرُ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنِ
الأَْوْزَاعِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. وَتَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ
الإِْمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ. وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ
فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ عَنْهُ، وَإِنِ اسْتَوَى الْمِقْدَارُ الْخَارِجُ
مِنَ الْمَحَلَّيْنِ فَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لاَ عِلْمَ لَنَا
بِذَلِكَ، وَقَال الْحَنَابِلَةُ: فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ
مُشْكِلاً.
106 - فَإِنْ مَاتَ لَهُ مَنْ يَرِثُهُ. فَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ:
يُوقَفُ الأَْمْرُ حَتَّى يَبْلُغَ، فَيَتَبَيَّنَ فِيهِ عَلاَمَاتُ
الرِّجَال مِنْ نَبَاتِ اللِّحْيَةِ، وَخُرُوجِ الْمَنِيِّ مِنْ ذَكَرِهِ،
وَكَوْنِهِ مَنِيَّ رَجُلٍ، أَوْ عَلاَمَاتُ النِّسَاءِ مِنَ الْحَيْضِ،
وَالْحَبَل، وَتَفَلُّكِ الثَّدْيَيْنِ. وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ
الإِْمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ.
فَإِنِ احْتِيجَ إِلَى قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ أُعْطِي هُوَ وَبَقِيَّةُ
الْوَرَثَةِ الْيَقِينَ، وَوُقِفَ الْبَاقِي إِلَى حِينِ بُلُوغِهِ،
فَتَعْمَل الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّهُ ذَكَرٌ ثُمَّ عَلَى أَنَّهُ
أُنْثَى، وَيَدْفَعُ إِلَى كُل وَارِثٍ أَقَل النَّصِيبَيْنِ، وَيُوقَفُ
الْبَاقِي حَتَّى يَبْلُغَ.
107 - وَإِنْ مَاتَ قَبْل بُلُوغِهِ، أَوْ بَلَغَ مُشْكِلاً فَلَمْ
تَظْهَرْ فِيهِ عَلاَمَةٌ. وَرِثَ نِصْفَ مِيرَاثِ ذَكَرٍ، وَنِصْفَ
مِيرَاثِ أُنْثَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ
وَالشَّعْبِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَهْل الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ
وَالثَّوْرِيِّ وَاللُّؤْلُؤِيِّ وَشَرِيكٍ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ
وَأَبِي يُوسُفَ وَيَحْيَى بْنِ آدَمَ وَضِرَارِ بْنِ صُرَدٍ وَنُعَيْمِ
بْنِ حَمَّادٍ. وَوَرَّثَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَسْوَأِ حَالاَتِهِ،
وَأَعْطَى الْبَاقِيَ لِسَائِرِ الْوَرَثَةِ، وَأَعْطَاهُ الإِْمَامُ
الشَّافِعِيُّ وَمَنْ مَعَهُ الْيَقِينَ، وَوَقَفَ الْبَاقِي حَتَّى
يَتَبَيَّنَ الأَْمْرُ أَوْ يَصْطَلِحَ الْوَرَثَةُ، وَبِهِ قَال أَبُو
ثَوْرٍ
(3/64)
وَدَاوُدُ وَابْنُ جَرِيرٍ. وَهُنَاكَ
أَقْوَالٌ شَاذَّةٌ غَيْرُ هَذِهِ. (1)
108 - وَإِذَا أَخْبَرَ الْخُنْثَى بِحَيْضٍ، أَوْ مَنِيٍّ، أَوْ مَيْلٍ
إِلَى الرِّجَال أَوِ النِّسَاءِ، فَإِنَّهُ يُقْبَل قَوْلُهُ، وَلاَ
يُقْبَل رُجُوعُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يَظْهَرَ كَذِبُهُ يَقِينًا،
مِثْل أَنْ يُخْبِرَ بِأَنَّهُ رَجُلٌ، ثُمَّ تَلِدَ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ
يُتْرَكُ الْعَمَل بِقَوْلِهِ السَّابِقِ. (2)
مِيرَاثُ الْحَمْل:
109 - الْحَمْل مِنْ جُمْلَةِ الْوَرَثَةِ إِذَا عُلِمَ بِأَنَّهُ كَانَ
مَوْجُودًا فِي الْبَطْنِ عِنْدَ مَوْتِ الْمُورَثِ وَانْفَصَل حَيًّا.
وَيُعْلَمُ وُجُودُهُ فِي الْبَطْنِ إِذَا جَاءَتْ بِهِ لأَِقَل مُدَّةِ
الْحَمْل، وَهِيَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ مُنْذُ مَوْتِ الْمُورَثِ، إِذَا كَانَ
النِّكَاحُ قَائِمًا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، لأَِنَّ أَقَل مُدَّةِ الْحَمْل
سِتَّةُ أَشْهُرٍ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ.
وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً، وَجَاءَتْ بِهِ لأَِقَل مِنْ سَنَتَيْنِ
مُنْذُ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِمَوْتٍ أَوْ طَلاَقٍ بَائِنٍ فَهُوَ مِنْ
جُمْلَةِ الْوَرَثَةِ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ
عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ. وَفِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُ أَنَّ أَكْثَرَ
مُدَّةِ الْحَمْل أَرْبَعُ سِنِينَ، وَذَلِكَ مَذْهَبُ الإِْمَامِ
الشَّافِعِيِّ، وَأَحَدُ قَوْلَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْقَوْل
الثَّانِي عِنْدَهُمْ: أَنَّ أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَمْل خَمْسُ سِنِينَ.
وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: سَنَةٌ.
وَدَلِيل الْحَنَفِيَّةِ فِي أَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَمْل حَدِيثُ عَائِشَةَ
فَإِنَّهَا قَالَتْ: " لاَ يَبْقَى الْوَلَدُ فِي رَحِمِ أُمِّهِ أَكْثَرَ
مِنْ
__________
(1) المغني 7 / 113 - 115 ط المنار، والسراجية ص 304 وما بعدها، والشرح
الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 435 وشرح الرحبية ص 41
(2) السراجية ص 306
(3/65)
سَنَتَيْنِ، وَلَوْ بِفَلْكَةِ مِغْزَلٍ
(1) . وَمِثْل هَذَا لاَ يُعْرَفُ قِيَاسًا بَل سَمَاعًا مِنْ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2)
وَدَلِيل الشَّافِعِيَّةِ فِي أَقْصَى الْمُدَّةِ الاِسْتِقْرَاءُ، وَأَنَّ
عُمَرَ قَال فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ: تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ،
ثُمَّ تَعْتَدُّ بَعْدَ ذَلِكَ. وَسَبَبُ التَّقْدِيرِ بِالأَْرْبَعِ
أَنَّهَا نِهَايَةُ مُدَّةِ الْحَمْل. (3)
وَقَال ابْنُ رُشْدٍ: (وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَرْجُوعٌ فِيهَا إِلَى
الْعَادَةِ وَالتَّجْرِبَةِ. وَقَوْل ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ أَقْرَبُ
إِلَى الْمُعْتَادِ. وَالْحُكْمُ إِنَّمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ
بِالْمُعْتَادِ لاَ بِالنَّادِرِ وَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِيلاً) .
(4)
110 - وَإِذَا مَاتَ الإِْنْسَانُ عَنْ حَمْلٍ يَرِثُهُ، وَقَفَ الأَْمْرُ
حَتَّى يَتَبَيَّنَ، فَإِنْ طَالَبَ الْوَرَثَةُ بِالْقِسْمَةِ لَمْ
يُعْطُوا كُل الْمَال بِغَيْرِ خِلاَفٍ. وَلَكِنْ يُدْفَعُ إِلَى مَنْ لاَ
يُنْقِصُهُ الْحَمْل كُل مِيرَاثِهِ، وَيُدْفَعُ إِلَى مَنْ يُنْقِصُ
الْحَمْل نَصِيبَهُ أَقَلُّهُ، وَلاَ يُدْفَعُ إِلَى مَنْ يُسْقِطُهُ
الْحَمْل شَيْءٌ.
111 - وَيَرِثُ الْحَمْل إِذَا وُلِدَ لأَِقَل مُدَّةِ الْحَمْل.
وَكَذَلِكَ يَرِثُ إِذَا وُلِدَ لأَِقْصَى مُدَّةِ الْحَمْل عَلَى
الْخِلاَفِ السَّابِقِ. فَإِنْ وُلِدَ بَعْدَهَا فَلاَ يَرِثُ إِلاَّ
بِإِقْرَارِ الْوَرَثَةِ.
__________
(1) حديث " قالت عائشة رضي الله عنها: لا يبقى الولد في رحم أمه. . . . "
أخرجه الدارقطني (3 / 322 - ط دار المحاسن بالقاهرة) بلفظ: " ما تزيد
المرأة في الحمل على سنتين ولا قدر ما يتحول ظل عود هذا المغزل ". وأخرجه
الدارقطني بلفظ مقارب له وعنه البيهقي (7 / 443 - ط دائرة المعارف
العثمانية)
(2) حديث " قالت عائشة رضي الله عنها: لا يبقى الولد في رحم أمه. . . . "
أخرجه الدارقطني (3 / 322 - ط دار المحاسن بالقاهرة) بلفظ: " ما تزيد
المرأة في الحمل على سنتين ولا قدر ما يتحول ظل عود هذا المغزل ". وأخرجه
الدارقطني بلفظ مقارب له وعنه البيهقي (7 / 443 - ط دائرة المعارف
العثمانية)
(3) شرح الروض 3 / 393 ط المكتبة الإسلامية
(4) ابن رشد 2 / 358 ط الحلبي. واللجنة ترى أن رأى ابن عبد الحكم أقرب إلى
ما يقرره الطب، ومثل هذه الأمور يرجع إلى أهل الخبرة.
(3/65)
112 - وَيَرِثُ الْحَمْل بِشَرْطَيْنِ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: أَنْ يُولَدَ حَيًّا، حَتَّى تُعْتَبَرَ حَيَاتُهُ
عِنْدَ الْوِلاَدَةِ امْتِدَادًا لِحَيَاتِهِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ،
وَدَلِيلاً عَلَيْهَا. يَقُول الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
إِذَا اسْتَهَل الْمَوْلُودُ وَرِثَ (1) وَيَرْوِي سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيِّبِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْمِسْوَرِ بْنِ
مَخْرَمَةَ قَوْلَهُمَا: قَضَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: لاَ يَرِثُ الصَّبِيُّ حَتَّى يَسْتَهِل. (2)
فَإِذَا وُلِدَ مَيِّتًا بِغَيْرِ جِنَايَةٍ عَلَى أُمِّهِ. وَلَمْ يَكُنْ
هُنَاكَ دَلِيلٌ عَلَى حَيَاتِهِ فِيمَا قَبْل، لاَ يَكُونُ وَارِثًا
بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّ شَرْطَ الْمِيرَاثِ حَيَاةُ الْوَارِثِ.
وَإِذَا نَزَل مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ بِجِنَايَةٍ عَلَيْهَا فَلاَ يَرِثُ
أَيْضًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لِعَدَمِ وُجُودِ دَلِيلٍ عَلَى
حَيَاتِهِ، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَرِثُ، لأَِنَّ
الشَّارِعَ اعْتَبَرَهُ حَيًّا قَبْل الْجِنَايَةِ؛ إِذْ أَوْجَبَ عَلَى
الْجَانِي (الْغُرَّةَ) وَوُجُوبُهَا لِلْجِنَايَةِ عَلَى الْحَيِّ دُونَ
الْمَيِّتِ، وَكَذَلِكَ يَرِثُ عِنْدَهُمْ مُورَثُهُ الَّذِي مَاتَ، وَهُوَ
فِي بَطْنِ أُمِّهِ، ثُمَّ يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ.
113 - وَيَكْفِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَخْرُجَ أَكْثَرُ الْحَمْل
حَيًّا. فَإِذَا ابْتَدَأَ نُزُولُهُ مُسْتَقِيمًا بِرَأْسِهِ وَبَقِيَ
حَيًّا حَتَّى خَرَجَ صَدْرُهُ كُلُّهُ، أَوِ ابْتَدَأَ نُزُولُهُ
مَنْكُوسًا بِرِجْلَيْهِ وَاسْتَمَرَّ حَيًّا حَتَّى ظَهَرَتْ سُرَّتُهُ
ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَرِثَ عِنْدَهُمْ، لأَِنَّ لِلأَْكْثَرِ
حُكْمَ الْكُل. (3)
__________
(1) حديث " إذا استهل المولود ورث " أخرجه أبو داود (3 / 87 - ط المطبعة
الأنصارية بدهلي) وعنه البيهقي (6 / 257 - ط دائرة المعارف العثمانية) .
(2) حديث " لا يرث الصبي حتى يستهل " أخرجه ابن ماجه (رقم 2751 - ط عيسى
الحلبي) . من حديث جابر والمسور بن مخرمة.
(3) السراجية ص 321، 322
(3/66)
وَاشْتَرَطَ الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ
أَنْ تَتِمَّ وِلاَدَتُهُ كُلُّهُ حَيًّا. وَتُعْرَفَ حَيَاتُهُ
بِالاِسْتِهْلاَل صَارِخًا. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا سِوَى
الاِسْتِهْلاَل. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ يَرِثُ حَتَّى يَسْتَهِل، وَلاَ
يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الاِسْتِهْلاَل مَا
هُوَ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ يَرِثُ حَتَّى يَسْتَهِل صَارِخًا، وَهُوَ
الْمَشْهُورُ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، وَرُوِيَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ
الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، مُسْتَدِلِّينَ بِأَنَّ مَفْهُومَ قَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا اسْتَهَل
الْمَوْلُودُ وَرِثَ (1) أَنَّهُ لاَ يَرِثُ بِغَيْرِ الاِسْتِهْلاَل،
وَلأَِنَّ الاِسْتِهْلاَل لاَ يَكُونُ إِلاَّ مِنْ حَيٍّ. وَالْحَرَكَةُ
تَكُونُ مِنْ غَيْرِ حَيٍّ. وَرُوِيَ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ
قَال: يَرِثُ السِّقْطُ وَيُورَثُ إِذَا اسْتَهَل. فَقِيل لَهُ مَا
اسْتِهْلاَلُهُ؟ قَال: إِذَا صَاحَ أَوْ عَطَسَ أَوْ بَكَى، فَعَلَى هَذَا
كُل صَوْتٍ يُوجَدُ مِنْهُ تُعْلَمُ بِهِ حَيَاتُهُ فَهُوَ اسْتِهْلاَلٌ،
وَهَذَا قَوْل الزُّهْرِيِّ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، لأَِنَّهُ صَوْتٌ
عُلِمَتْ بِهِ حَيَاتُهُ فَأَشْبَهَ الصُّرَاخَ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ
ثَالِثَةٌ: إِذَا عُلِمَتْ حَيَاتُهُ بِصَوْتٍ أَوْ حَرَكَةٍ أَوْ رَضَاعٍ
أَوْ غَيْرِهِ وَرِثَ وَثَبَتَتْ لَهُ أَحْكَامُ الْمُسْتَهِل، لأَِنَّهُ
حَيٌّ. وَبِهَذَا قَال الثَّوْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ
وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ. (2)
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تَأْتِيَ بِهِ فِي أَثْنَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ
أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَأَتَتْ بِهِ لأَِقَل مِنْ سِتَّةِ
أَشْهُرٍ كَذَبَتْ، وَوَرِثَ، وَتَبَيَّنَ أَنَّهَا كَاذِبَةٌ فِي دَعْوَى
انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَإِنْ لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ
وَأَتَتْ بِهِ لِتَمَامِ أَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَمْل، أَوْ لأَِقَل مِنْ
ذَلِكَ وَرِثَ، لأَِنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا كَانَتْ عَالِقَةً قَبْل
الْمَوْتِ.
وَإِنْ أَتَتْ بِهِ لأَِكْثَرَ مِنْ تَمَامِ مُدَّةِ الْحَمْل - عَلَى
__________
(1) الحديث تقدم تخريجه هامش (ف 112)
(2) المغني 7 / 197 - 200 ط أولى.
(3/66)
الْخِلاَفِ الْمُتَقَدِّمِ - فَلاَ يَرِثُ،
لأَِنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا عَلِقَتْ بِهِ بَعْدَ الْوَفَاةِ.
114 - وَإِذَا أُرِيدَ تَقْسِيمُ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ الَّذِي فِي
وَرَثَتِهِ حَمْلٌ، أُوقِفَ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ نَصِيبُ
أَرْبَعَةِ بَنِينَ أَوْ نَصِيبُ أَرْبَعِ بَنَاتٍ أَيُّهُمَا أَكْثَرُ.
وَيُعْطَى بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ أَقَل الأَْنْصِبَاءِ. وَهُوَ مَذْهَبُ
الْمَالِكِيَّةِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ إِذِ
الأَْصَحُّ أَنَّهُ لاَ ضَبْطَ لَهُ. وَمِثَال أَكْثَرِيَّةِ نَصِيبِ
الْبَنِينَ: إِذَا مَاتَ عَنْ زَوْجَةٍ حَامِلٍ وَعَمٍّ أَوْ أَخٍ.
وَمِثَال أَكْثَرِيَّةِ نَصِيبِ الْبَنَاتِ: إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ عَنْ
زَوْجَةٍ حَامِلٍ وَأَبَوَيْنِ، فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ تَكُونُ مِنْ
أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، فَلِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ، وَلِلأَْبَوَيْنِ
السُّدُسَانِ، فَيَبْقَى ثَلاَثَةَ عَشَرَ، وَذَلِكَ لِلْعَصَبَاتِ إِذَا
قُدِّرَ أَرْبَعَةُ بَنِينَ، وَإِذَا قُدِّرَتْ أَرْبَعُ بَنَاتٍ فَلَهُنَّ
الثُّلُثَانِ (سِتَّةَ عَشَرَ) .
فَإِذَا ظَهَرَ الْحَمْل، وَزَال الاِشْتِبَاهُ، فَإِنْ كَانَ الْحَمْل
مُسْتَحِقًّا لِجَمِيعِ الْمَوْقُوفِ أَخَذَهُ، وَانْتَهَى الأَْمْرُ.
وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْبَعْضِ فَيَأْخُذُ الْحَمْل هَذَا
الْبَعْضَ، وَيُقْسَمُ الْبَاقِي بَيْنَ الْوَرَثَةِ، فَيُعْطَى لِكُل
وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا كَانَ مَوْقُوفًا مِنْ نَصِيبِهِ.
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ مَعَهُ هُوَ مَذْهَبُ شَرِيكٍ
النَّخَعِيِّ، فَقَدْ قَال: رَأَيْتُ بِالْكُوفَةِ لأَِبِي إِسْمَاعِيل
أَرْبَعَةَ بَنِينَ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ. وَلَمْ يُنْقَل عَنِ
الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّ امْرَأَةً وَلَدَتْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُوقَفُ نَصِيبُ ثَلاَثَةِ بَنِينَ أَوْ ثَلاَثِ
بَنَاتٍ أَيُّهُمَا أَكْثَرُ. رَوَاهُ عَنْهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ. وَفِي
رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ، أَنَّهُ يُوقَفُ نَصِيبُ ابْنَيْنِ أَوْ
بِنْتَيْنِ أَيُّهُمَا أَكْثَرُ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ
أَبِي يُوسُفَ. وَذَلِكَ لأَِنَّ وِلاَدَةَ أَرْبَعَةٍ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ
فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ، فَلاَ يُبْنَى عَلَيْهِ حُكْمٌ بَل يُبْنَى عَلَى
مَا يُعْتَادُ
(3/67)
فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ وِلاَدَةُ
اثْنَيْنِ. وَرَوَى الْخَصَّافُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُوقَفُ
نَصِيبُ ابْنٍ وَاحِدٍ أَوْ بِنْتٍ وَاحِدَةٍ أَيُّهُمَا أَكْثَرُ،
وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمُعْتَادَ الْغَالِبَ إِلاَّ
تَلِدَ الْمَرْأَةُ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ إِلاَّ وَلَدًا وَاحِدًا فَيُبْنَى
عَلَيْهِ الْحُكْمُ مَا لَمْ يُعْلَمْ خِلاَفُهُ.
115 - وَذُكِرَ فِي فَتْوَى أَهْل سَمَرْقَنْدَ: أَنَّ الْوِلاَدَةَ إِنْ
كَانَتْ قَرِيبَةً تُوقَفُ الْقِسْمَةُ لِوُجُودِ الْحَمْل، إِذْ لَوْ
عُجِّلَتْ فَرُبَّمَا لَغَتْ بِظُهُورِ الْحَمْل عَلَى خِلاَفِ مَا
قُدِّرَ، وَإِنْ كَانَتْ بَعِيدَةً لَمْ تُوقَفْ، لأَِنَّ فِي ذَلِكَ
إِضْرَارًا بِبَاقِي الْوَرَثَةِ، وَلَمْ يُعَيَّنْ لِلْقُرْبِ مُدَّةٌ بَل
أُحِيل عَلَى الْعَادَةِ. وَقِيل: هُوَ مَا دُونَ الشَّهْرِ. وَعَلَى
رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ يَأْخُذُ الْقَاضِي مِنَ الْوَرَثَةِ كَفِيلاً
عَلَى مَا إِذَا كَانَ الْحَمْل أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ (1) .
وَمَذْهَبُ الإِْمَامِ أَحْمَدَ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ
كُلٍّ مِنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - كَمَا تَقَدَّمَ - أَنَّهُ يُوقَفُ
لِلْحَمْل نَصِيبُ ذَكَرَيْنِ أَوْ أُنْثَيَيْنِ أَيُّهُمَا أَكْثَرُ.
وَعُلِّل ذَلِكَ بِأَنَّ وِلاَدَةَ التَّوْأَمَيْنِ كَثِيرَةٌ مُعْتَادَةٌ،
وَمَا زَادَ عَلَيْهِمَا فَنَادِرٌ لاَ يُبْنَى عَلَيْهِ حُكْمٌ.
وَالْقَاعِدَةُ بِالنِّسْبَةِ لِحَجْزِ نَصِيبِ ذَكَرَيْنِ أَوْ
أُنْثَيَيْنِ أَيُّهُمَا أَكْثَرُ. أَنَّهُ مَتَى زَادَتِ الْفُرُوضُ عَلَى
الثُّلُثِ فَمِيرَاثُ الإِْنَاثِ أَكْثَرُ، لأَِنَّهُ يُفْرَضُ لَهُنَّ
الثُّلُثَانِ، وَيَدْخُل النَّقْصُ عَلَى الْكُل بِالْمُحَاصَّةِ، وَإِنْ
نَقَصَتْ عَنْهُ كَانَ مِيرَاثُ الذَّكَرَيْنِ أَكْثَرَ، وَإِنِ اسْتَوَتْ
كَأَبَوَيْنِ وَحَمْلٍ، اسْتَوَى مِيرَاثُ الذَّكَرَيْنِ
وَالأُْنْثَيَيْنِ.
__________
(1) السراجية ص 317، 318، والرهوني 8 / 343 ط بولاق، وروضة الطالبين 6 /
39، والعذب الفائض 2 / 89.
(3/67)
مِيرَاثُ الْمَفْقُودِ:
116 - الْمَفْقُودُ لُغَةً: هُوَ الْمَعْدُومُ (1) . وَفِي الاِصْطِلاَحِ:
هُوَ الْغَائِبُ الَّذِي انْقَطَعَ خَبَرُهُ، وَلاَ يُدْرَى حَيَاتُهُ مِنْ
مَوْتِهِ (2) . وَفَسَّرَهُ شَمْسُ الأَْئِمَّةِ بِأَنَّهُ: اسْمٌ
لِمَوْجُودٍ هُوَ حَيٌّ بِاعْتِبَارِ أَوَّل حَالِهِ، وَلَكِنَّهُ
كَالْمَيِّتِ بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ (3) . وَقِيل: إِنَّ هَذَا أَحْسَنُ
تَعْرِيفٍ.
117 وَالْحُكْمُ فِي مِيرَاثِهِ: أَنَّهُ حَيٌّ فِي حَقِّ مَالِهِ، فَلاَ
يَرِثُ مِنْهُ أَحَدٌ، وَمَيِّتٌ فِي مَال غَيْرِهِ فَلاَ يَرِثُ مِنْ
أَحَدٍ. وَذَلِكَ لأَِنَّ الأَْصْل ثُبُوتُ حَيَاتِهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ
خِلاَفُهُ، فَاعْتُبِرَ حَيًّا اسْتِصْحَابًا لِحَالِهِ، وَاسْتِصْحَابُ
الْحَال حُجَّةٌ تَدْفَعُ الاِسْتِحْقَاقَ، وَلِذَلِكَ فَلاَ يَسْتَحِقُّ
أَحَدٌ فِي مِيرَاثِهِ، لاِعْتِبَارِهِ حَيًّا، وَلاَ يَسْتَحِقُّ هُوَ فِي
مِيرَاثِ غَيْرِهِ. وَيُوقَفُ مَالُهُ حَتَّى يَصِحَّ مَوْتُهُ، أَوْ
يَمْضِيَ عَلَيْهِ مُدَّةٌ لاَ يَحْيَا إِلَى مِثْلِهَا مِثْلُهُ، وَهَذَا
مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحَدُ رَأْيَيْنِ لِلْحَنَفِيَّةِ.
118 - وَاخْتَلَفَتْ رِوَايَاتُ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي
يُحْكَمُ بَعْدَهَا بِمَوْتِ الْمَفْقُودِ. فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
عِنْدَهُمْ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ أَقْرَانِهِ فِي
بَلَدِهِ، وَقِيل أَقْرَانُهُ فِي جَمِيعِ الْبِلاَدِ. لَكِنِ الأَْوَّل
أَصَحُّ، لأَِنَّ فِي الْعَمَل بِالْقَوْل الثَّانِي حَرَجًا عَظِيمًا،
كَمَا أَنَّ الأَْعْمَارَ تَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ الأَْقَالِيمِ.
وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُدَّةَ
مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً مِنْ يَوْمِ وِلاَدَةِ الْمَفْقُودِ. وَقَال
مُحَمَّدٌ: مِائَةٌ وَعَشْرُ سِنِينَ. وَقَال أَبُو يُوسُفَ: مِائَةٌ
__________
(1) القاموس
(2) السراجية ص 326
(3) حاشية الفناري ص 326
(3/68)
وَخَمْسُ سِنِينَ. وَرُوِيَ عَنْهُ مِائَةُ
سَنَةٍ. وَقَال بَعْضُهُمْ: تِسْعُونَ سَنَةً، لأَِنَّ الزِّيَادَةَ
عَلَيْهَا فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ فَلاَ تُنَاطُ بِهَا الأَْحْكَامُ
الشَّرْعِيَّةُ، لأَِنَّهَا تُبْنَى عَلَى الأَْغْلَبِ. قَال الإِْمَامُ
التُّمُرْتَاشِيُّ: وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى
أَنَّهَا سَبْعُونَ سَنَةً، لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ فِي
أَعْمَارِ هَذِهِ الأُْمَّةِ أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ سِتِّينَ إِلَى
سَبْعِينَ. (1) وَقَال بَعْضُهُمْ: مَال الْمَفْقُودِ مَوْقُوفٌ إِلَى
اجْتِهَادِ الإِْمَامِ. وَنُقِل عَنْ شَرْحِ الْفَرَائِضِ
الْعُثْمَانِيَّةِ أَنَّ الإِْمَامَ أَبَا حَنِيفَةَ لَمْ يُقَدِّرْ فِي
ذَلِكَ تَقْدِيرًا، وَفَوَّضَ الْمُدَّةَ إِلَى اجْتِهَادِ الْقَاضِي فِي
كُل عَصْرٍ يَحْكُمُ بِمَوْتِهِ فِي أَيِّ مُدَّةٍ يَرَى فِيهَا مَصْلَحَةً
بِاجْتِهَادِهِ، وَيَقْسِمُ مَالَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ الْمَوْجُودِينَ فِي
ذَلِكَ الْوَقْتِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى (2) .
وَلَمْ يُحَدِّدِ الْمَالِكِيَّةُ مُدَّةً مُعَيَّنَةً بَل قَالُوا: (لاَ
يَقْسِمُ وَرَثَةُ الْمَفْقُودِ مَالَهُ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيْهِ مِنَ
الزَّمَنِ مَا لاَ يَحْيَا إِلَى مِثْلِهِ) . (3)
وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ، فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ: (مَنْ أُسِرَ
أَوْ فُقِدَ وَانْقَطَعَ خَبَرُهُ، تُرِكَ مَالُهُ حَتَّى تَقُومَ
بَيِّنَةٌ بِمَوْتِهِ، أَوْ تَمْضِيَ مُدَّةٌ يُظَنُّ أَنَّهُ لاَ يَعِيشُ
فَوْقَهَا، وَلاَ تَتَقَدَّرُ بِشَيْءٍ عَلَى الصَّحِيحِ، فَيَجْتَهِدُ
الْقَاضِي وَيَحْكُمُ بِمَوْتِهِ) وَقِيل تُقَدَّرُ (بِسَبْعِينَ
وَبِثَمَانِينَ وَبِتِسْعِينَ وَبِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ) . (4)
119 - أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: (إِنَّ الْمَفْقُودَ نَوْعَانِ:
__________
(1) حديث " أعمار أمتي. . . " أخرجه الترمذي (6 / 623 و 9 / 537 - نشر
المكتبة السلفية) وقال: " حسن غريب ". وحسنه ابن حجر في فتح الباري (11 /
240 - ط السلفية) .
(2) السراجية وحاشية الفناري ص 326 - 328
(3) الحطاب 6 / 423 ط مكتبة النجاح
(4) الشرواني على التحفة 6 / 42، 43 بتصرف يسير.
(3/68)
النَّوْعُ الأَْوَّل: مَنْ كَانَ
الْغَالِبُ مِنْ حَالِهِ الْهَلاَكَ، وَهُوَ مَنْ يُفْقَدُ فِي مُهْلِكَةٍ
كَاَلَّذِي يُفْقَدُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، أَوْ فِي مَفَازَةٍ يَهْلَكُ
فِيهَا النَّاسُ، أَوْ يُفْقَدُ مِنْ بَيْنِ أَهْلِهِ، أَوْ يَخْرُجُ
لِصَلاَةِ الْعِشَاءِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ، أَوْ لِحَاجَةٍ
قَرِيبَةٍ فَلاَ يَرْجِعُ، وَلاَ يُعْلَمُ خَبَرُهُ، فَهَذَا يُنْتَظَرُ
بِهِ أَرْبَعُ سِنِينَ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ خَبَرٌ قُسِمَ مَالُهُ،
وَاعْتَدَّتِ امْرَأَتُهُ عِدَّةَ الْوَفَاةِ، وَحَلَّتْ لِلأَْزْوَاجِ.
وَنَصَّ عَلَيْهِ الإِْمَامُ أَحْمَدُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي: أَنَّهُ لاَ يُقْسَمُ مَالُهُ حَتَّى تَمْضِيَ عِدَّةُ
الْوَفَاةِ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ. لأَِنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي يُبَاحُ
لاِمْرَأَتِهِ التَّزَوُّجُ فِيهِ، وَالأَْوَّل أَصَحُّ، لأَِنَّ
الْعِدَّةَ إِنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ الْوَفَاةِ. فَإِذَا حُكِمَ
بِوَفَاتِهِ فَلاَ وَجْهَ لِلْوُقُوفِ عَنْ قَسْمِ مَالِهِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مَنْ لَيْسَ الْغَالِبُ مِنْ حَالِهِ الْهَلاَكَ،
كَالْمُسَافِرِ لِتِجَارَةٍ، أَوْ طَلَبِ عِلْمٍ، أَوْ سِيَاحَةٍ وَنَحْوِ
ذَلِكَ، وَلَمْ يُعْلَمْ خَبَرُهُ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: لاَ يُقْسَمُ مَالُهُ، وَلاَ تَتَزَوَّجُ امْرَأَتُهُ،
حَتَّى يَتَيَقَّنَ مَوْتَهُ، أَوْ يَمْضِيَ عَلَيْهِ مُدَّةٌ لاَ يَعِيشُ
لِمِثْلِهَا، وَذَلِكَ مَرْجِعُهُ اجْتِهَادُ الْحَاكِمِ. قَال صَاحِبُ
الْمُغْنِي: (لأَِنَّ الأَْصْل حَيَاتُهُ، وَالتَّقْدِيرُ لاَ يُصَارُ
إِلَيْهِ إِلاَّ بِتَوْقِيفٍ، وَلاَ تَوْقِيفَ هُنَا، فَوَجَبَ
التَّوَقُّفُ عَنْهُ)
الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يُنْتَظَرُ بِهِ تَتِمَّةُ تِسْعِينَ
سَنَةً مُنْذُ وُلِدَ، لأَِنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ لاَ يَعِيشُ أَكْثَرَ
مِنْ هَذَا (1) .
120 - وَيُوقَفُ لِلْمَفْقُودِ حِصَّتُهُ مِنْ مَال مَوْرُوثِهِ الَّذِي
مَاتَ فِي مُدَّةِ الاِنْتِظَارِ، فَإِنْ مَضَتِ الْمُدَّةُ، وَلَمْ
__________
(1) مطالب أولي النهى 4 / 630، وكشاف القناع 4 / 391
(3/69)
يُعْلَمْ خَبَرُهُ، رُدَّ الْمَوْقُوفُ
إِلَى وَرَثَةِ مَوْرُوثِ الْمَفْقُودِ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَرِثُ الْمَفْقُودَ إِلاَّ
الأَْحْيَاءُ مِنْ وَرَثَتِهِ يَوْمَ قَسْمِ مَالِهِ، لاَ مَنْ مَاتَ قَبْل
ذَلِكَ، وَلَوْ بِيَوْمٍ.
121 - وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ مَاتَ وَفِي وَرَثَتِهِ مَفْقُودٌ، فَمَذْهَبُ
الإِْمَامِ أَحْمَدَ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ: أَنَّهُ يُعْطَى كُل وَارِثٍ
مِنْ وَرَثَتِهِ نَصِيبَهُ الْمُتَيَقَّنَ، وَيُوقَفُ الْبَاقِي حَتَّى
يَتَبَيَّنَ أَمْرُهُ، أَوْ تَمْضِي مُدَّةُ الاِنْتِظَارِ. وَذَلِكَ إِذَا
كَانَ وُجُودُ الْمَفْقُودِ يُنْقِصُ أَنْصِبَةَ الْوَرَثَةِ الآْخَرِينَ،
فَإِنْ كَانَ يَحْجُبُهُمْ حَجْبَ حِرْمَانٍ فَلاَ يُعْطَى أَحَدٌ مِنْهُمْ
شَيْئًا مِنَ التَّرِكَةِ، بَل تُوقَفُ كُلُّهَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ
مَوْتُهُ أَوْ حَيَاتُهُ (1) .
مِيرَاثُ الأَْسِيرِ:
122 - الأَْسِيرُ لُغَةً: الأَْخِيذُ وَالْمُقَيَّدُ وَالْمَسْجُونُ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: يُطْلَقُ عَلَى كُل مَنْ أُخِذَ سَوَاءٌ شُدَّ أَوْ
لَمْ يُشَدَّ (3) .
123 - وَالْحُكْمُ فِيهِ أَنَّهُ إِذَا عُلِمَتْ حَيَاتُهُ فَإِنَّهُ
يَرِثُ (4) .
فَإِنْ فَارَقَ دِينَهُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُرْتَدِّ؛ إِذْ لاَ فَرْقَ
بَيْنَ أَنْ يَرْتَدَّ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، ثُمَّ يَلْحَقَ بِدَارِ
الْحَرْبِ، وَبَيْنَ أَنْ يَرْتَدَّ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَيُقِيمَ
فِيهَا، فَهُوَ فِي الْحَالَيْنِ يَصِيرُ حَرْبِيًّا.
فَإِذَا لَمْ تُعْلَمْ رِدَّتُهُ وَلاَ حَيَاتُهُ وَلاَ مَوْتُهُ
فَحُكْمُهُ
__________
(1) السراجية ص 329، والحطاب 6 / 423، والتحفة 6 / 44، والمغني 6 / 205 -
208
(2) القاموس
(3) السراجية ص 335
(4) المغني 7 / 131 ط المنار.
(3/69)
حُكْمُ الْمَفْقُودِ، عَلَى التَّفْصِيل
وَالْخِلاَفِ الَّذِي سَبَقَ (ف: 121) . فَإِنِ ادَّعَى وَرَثَتُهُ أَنَّهُ
ارْتَدَّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يُقْبَل ذَلِكَ إِلاَّ بِشَهَادَةِ
مُسْلِمَيْنِ عَدْلَيْنِ، لأَِنَّ إِسْلاَمَهُ كَانَ مَعْلُومًا
بِاسْتِصْحَابِ الْحَال، فَلاَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِعَدَمِهِ بِشَهَادَةِ
غَيْرِ الْمُسْلِمِ، لأَِنَّ شَهَادَةَ غَيْرِ الْمُسْلِمِ عَلَى
الْمُسْلِمِ لاَ تُقْبَل فِي الأُْمُورِ الْجُزْئِيَّةِ، فَعَدَمُ
قَبُولِهَا فِي أَمْرِ الدِّينِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الأُْمُورِ مِنْ
بَابِ أَوْلَى. فَإِنْ جَاءَ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِرِدَّتِهِ، وَأَنْكَرَ
الرِّدَّةَ فَلاَ يَنْقُضُ الْقَاضِي حُكْمَهُ، فَلاَ يُرَدُّ عَلَيْهِ
امْرَأَتُهُ وَلاَ مَالُهُ إِلاَّ مَا كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ فِي يَدِ
وَارِثِهِ، كَمَا فِي الْمُرْتَدِّ الْمَعْرُوفِ إِذَا جَاءَ تَائِبًا (1)
.
مِيرَاثُ الْغَرْقَى وَالْحَرْقَى وَالْهَدْمَى:
124 - قَال السَّرَخْسِيُّ: اتَّفَقَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ
بْنُ الْخَطَّابِ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي
الْغَرْقَى وَالْحَرْقَى إِذَا لَمْ يُعْلَمْ أَيُّهُمْ مَاتَ أَوَّلاً
أَنَّهُ لاَ يَرِثُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا يُجْعَل مِيرَاثُ
كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِوَرَثَتِهِ الأَْحْيَاءِ، وَبِذَلِكَ قَضَى زَيْدٌ
فِي قَتْلَى الْيَمَامَةِ، وَفِيمَنْ مَاتَ فِي طَاعُونِ عَمَوَاسَ، وَفِي
قَتْلَى الْحَرَّةِ، وَنُقِل عَنِ الإِْمَامِ عَلِيٍّ فِي قَتْلَى الْجَمَل
وَصِفِّينَ، وَهُوَ قَوْل عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَبِهِ أَخَذَ
جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: أَنَّ
بَعْضَهُمْ يَرِثُ مِنْ بَعْضٍ إِلاَّ فِيمَا وَرِثَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ
مِنْ صَاحِبِهِ، لأَِنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ
مِيرَاثَ صَاحِبِهِ مَعْلُومٌ، وَهُوَ حَيَاتُهُ، وَسَبَبُ الْحِرْمَانِ
مَشْكُوكٌ فِيهِ، فَيَجِبُ التَّمَسُّكُ بِحَيَاتِهِ حَتَّى يَأْتِيَ
بِيَقِينٍ آخَرَ، وَسَبَبُ الْحِرْمَانِ مَوْتُهُ قَبْل
__________
(1) السراجية ص 335 - 337
(3/70)
مَوْتِ صَاحِبِهِ، وَذَلِكَ مَشْكُوكٌ
فِيهِ، فَلاَ يَثْبُتُ الْحِرْمَانُ بِالشَّكِّ إِلاَّ فِيمَا وَرِثَ كُل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ لأَِجْل الضَّرُورَةِ، لأَِنَّهُ إِذَا
أَعْطَيْنَا أَحَدَهُمَا مِيرَاثَ صَاحِبِهِ فَقَدْ حَكَمْنَا بِحَيَاتِهِ
فِيمَا وَرِثَ مِنْ صَاحِبِهِ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ الْحُكْمُ بِمَوْتِ
صَاحِبِهِ قَبْلَهُ، وَلَكِنِ الثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ لاَ يَعْدُو
مَوْضِعَ الضَّرُورَةِ، وَقَدْ تَحَقَّقَتِ الضَّرُورَةُ فِيمَا وَرِثَ
كُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ، وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ يَتَمَسَّكُ
بِالأَْصْل، وَذَلِكَ عَمَلاً بِالْقَاعِدَةِ الْقَائِلَةِ: (إِنَّ
الْيَقِينَ لاَ يَزُول بِالشَّكِّ) . وَهِيَ أَصْلٌ لأَِحْكَامٍ كَثِيرَةٍ.
وَوَجْهُ قَوْل الْمَانِعِينَ مِنَ الْمِيرَاثِ أَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ
كُلٍّ مِنْهُمَا مِيرَاثَ صَاحِبِهِ غَيْرُ مَعْلُومٍ يَقِينًا،
وَالاِسْتِحْقَاقُ يَنْبَنِي عَلَى السَّبَبِ، فَمَا لَمْ يَتَيَقَّنِ
السَّبَبَ لاَ يَثْبُتُ الاِسْتِحْقَاقُ، وَفِي الْفِقْهِ أَصْلٌ كَبِيرٌ:
أَنَّ الاِسْتِحْقَاقَ لاَ يَثْبُتُ بِالشَّكِّ (1) .
مِيرَاثُ وَلَدِ الزِّنَى:
125 - وَلَدُ الزِّنَى: وَهُوَ الْوَلَدُ الَّذِي تَأْتِي بِهِ أُمُّهُ
نَتِيجَةَ ارْتِكَابِهَا الْفَاحِشَةَ. وَالْحُكْمُ: فِيهِ ثُبُوتُ
نَسَبِهِ مِنْ أُمِّهِ. وَيَرِثُ بِجِهَتِهَا فَقَطْ، لأَِنَّ صِلَتَهُ
بِهَا حَقِيقَةٌ مَادِّيَّةٌ لاَ شَكَّ فِيهَا، أَمَّا نَسَبُهُ إِلَى
الزَّانِي فَلاَ يَثْبُتُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَلَوْ أَقَرَّ
بِبُنُوَّتِهِ لَهُ مِنَ الزِّنَى، لأَِنَّ النَّسَبَ نِعْمَةٌ، فَلاَ
يَتَرَتَّبُ عَلَى الزِّنَى الَّذِي هُوَ جَرِيمَةٌ، فَإِذَا لَمْ
يُصَرِّحْ بِأَنَّهُ ابْنُهُ مِنَ الزِّنَى، وَكَانَتْ أُمُّ الْوَلَدِ
غَيْرَ مُتَزَوِّجَةٍ، وَتَحَقَّقَتْ شُرُوطُ الإِْقْرَارِ ثَبَتَ نَسَبُهُ
مِنْهُ حَمْلاً لِحَالِهِ عَلَى الصَّلاَحِ، وَعَمَلاً بِالظَّاهِرِ.
وَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا وَرِثَهُ الآْخَرُ (2) .
__________
(1) المبسوط 30 / 27 - 28 ط دار المعرفة بتصرف يسير
(2) تبيين الحقائق 6 / 241
(3/70)
وَذَهَبَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ،
وَابْنُ تَيْمِيَّةَ وَغَيْرُهُمَا إِلَى ثُبُوتِ نَسَبِ وَلَدِ الزِّنَى
مِنَ الزَّانِي بِغَيْرِ صَاحِبَةِ فِرَاشِ الزَّوْجِيَّةِ، لأَِنَّ
زِنَاهُ حَقِيقَةٌ ثَابِتَةٌ، فَكَمَا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنَ الأُْمِّ
يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنَ الزَّانِي، كَيْ لاَ يَضِيعَ نَسَبُ الْوَلَدِ،
وَيُصِيبَهُ الضَّرَرُ وَالْعَارُ بِسَبَبِ جَرِيمَةٍ لَمْ يَرْتَكِبْهَا،
وَاَللَّهُ - تَعَالَى - يَقُول: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}
. (1)
وَمُقْتَضَى هَذَا الرَّأْيِ أَنَّ التَّوَارُثَ يَثْبُتُ بَيْنَهُمَا،
لأَِنَّ التَّوَارُثَ فَرْعُ ثُبُوتِ النَّسَبِ، وَهُمْ يُثْبِتُونَهُ
عَلَى الْوَضْعِ الْمَذْكُورِ.
مِيرَاتُ وَلَدِ اللِّعَانِ وَالْمُتَلاَعِنِينَ:
126 - وَلَدُ اللِّعَانِ لاَ تَوَارُثَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُلاَعِنِ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَبَاقِي الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا لاَعَنَ الرَّجُل امْرَأَتَهُ، وَنَفَى
وَلَدَهَا، وَفَرَّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا، انْتَفَى وَلَدُهَا عَنْهُ،
وَانْقَطَعَ تَعْصِيبُهُ مِنْ جِهَةِ الْمُلاَعِنِ، فَلَمْ يَرِثْهُ هُوَ
وَلاَ أَحَدٌ مِنْ عَصَبَتِهِ، وَتَرِثُهُ أُمُّهُ، وَذَوُو الْفُرُوضِ
مِنْهُ فُرُوضَهُمْ، وَيَنْقَطِعُ التَّوَارُثُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ،
وَلاَ نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ فِي هَذَا خِلاَفًا.
وَأَمَّا إِنْ مَاتَ أَحَدُهُمْ قَبْل تَمَامِ اللِّعَانِ مِنَ
الزَّوْجِيَّةِ، وَرِثَهُ الآْخَرَانِ فِي قَوْل الْجُمْهُورِ.
وَقَال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِذَا أَكْمَل الزَّوْجُ لِعَانَهُ
لَمْ يَتَوَارَثَا. وَقَال مَالِكٌ: إِنْ مَاتَ الزَّوْجُ بَعْدَ
لِعَانِهِ. فَإِنْ لاَعَنَتِ الْمَرْأَةُ لَمْ تَرِثْ وَلَمْ تُحَدَّ.
وَإِنْ لَمْ تُلاَعِنْ وَرِثَتْ وَحُدَّتْ. وَإِنْ مَاتَتْ هِيَ بَعْدَ
لِعَانِ الزَّوْجِ وَرِثَهَا فِي قَوْل جَمِيعِهِمْ إِلاَّ الشَّافِعِيَّ.
وَإِنْ تَمَّ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا فَمَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْل تَفْرِيقِ
__________
(1) سورة فاطر / 18
(3/71)
الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا فَفِيهِ
رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: لاَ يَتَوَارَثَانِ. وَهُوَ قَوْل مَالِكٍ وَزُفَرَ،
وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَرَبِيعَةَ وَالأَْوْزَاعِيِّ،
لأَِنَّ اللِّعَانَ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ الْمُؤَبَّدَ، فَلَمْ
يُعْتَبَرْ فِي حُصُول الْفُرْقَةِ بِهِ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا
كَالرَّضَاعِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: يَتَوَارَثَانِ مَا لَمْ يُفَرِّقِ
الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ؛
لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَ
الْمُتَلاَعِنَيْنِ، وَلَوْ حَصَل التَّفْرِيقُ بِاللِّعَانِ لَمْ يَحْتَجْ
إِلَى تَفْرِيقِهِ.
وَإِنْ فَرَّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا قَبْل تَمَامِ اللِّعَانِ لَمْ
تَقَعِ الْفُرْقَةُ، وَلَمْ يَنْقَطِعِ التَّوَارُثُ فِي قَوْل
الْجُمْهُورِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ: إِنْ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ
أَنْ تَلاَعَنَا ثَلاَثًا وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ، وَانْقَطَعَ التَّوَارُثُ،
لأَِنَّهُ وُجِدَ مِنْهُمَا مُعْظَمُ اللِّعَانِ، وَإِنْ فُرِّقَ
بَيْنَهُمَا قَبْل ذَلِكَ لَمْ تَقَعِ الْفُرْقَةُ وَلَمْ يَنْقَطِعِ
التَّوَارُثُ (1) .
وَرُوِيَ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ
التَّوَارُثَ لاَ يَنْقَطِعُ بِاللِّعَانِ بَيْنَ الْوَلَدِ
وَالْمُلاَعِنِ.
اسْتِحْقَاقُ الْمُقَرِّ لَهُ بِالنَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ:
127 - إِذَا لَمْ يُوجَدْ أَحَدٌ مِنَ الْوَرَثَةِ السَّابِقِ ذِكْرُهُمْ
بِتَرْتِيبِهِمْ، فَإِنَّ الْمَال يَئُول إِلَى بَيْتِ الْمَال عَلَى
رَأْيٍ، أَوْ إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ بِالنَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ، أَوِ
الْمُوصَى لَهُ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ حَسَبَ الْخِلاَفِ السَّابِقِ
ذِكْرُهُ.
128 - وَالإِْقْرَارُ بِالنَّسَبِ قِسْمَانِ، الأَْوَّل: إِقْرَارٌ
بِنَسَبٍ عَلَى الْمُقِرِّ، وَهُوَ الإِْقْرَارُ بِأَصْل النَّسَبِ:
__________
(1) المغني 7 / 121 - 122، والمبسوط 29 / 198 ط دار المعرفة، وروضة
الطالبين 6 / 43 ط المكتب الإسلامي، ومنح الجليل 4 / 752
(3/71)
الْبُنُوَّةُ وَالأُْبُوَّةُ
وَالأُْمُومَةُ مُبَاشَرَةً. فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الإِْقْرَارِ مَتَى
تَوَافَرَتْ فِيهِ الشُّرُوطُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ لِصِحَّتِهِ
صَحَّ الإِْقْرَارُ وَثَبَتَ نَسَبُ الْمُقَرِّ لَهُ بِالْبُنُوَّةِ أَوِ
الأُْبُوَّةِ لِلْمُقِرِّ، فَيَرِثُهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ كَسَائِرِ
أَبْنَائِهِ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ.
الثَّانِي: إِقْرَارٌ بِنَسَبٍ عَلَى غَيْرِ الْمُقِرِّ، وَهُوَ
الإِْقْرَارُ بِقَرَابَةٍ يَكُونُ فِيهَا وَاسِطَةً بَيْنَ الْمُقِرِّ
وَالْمُقَرِّ لَهُ، كَإِقْرَارِ شَخْصٍ لآِخَرَ بِأَنَّهُ أَخُوهُ أَوْ
عَمُّهُ أَوْ جَدُّهُ، فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الإِْقْرَارِ لاَ يَثْبُتُ
بِهِ النَّسَبُ، وَيَجُوزُ الرُّجُوعُ عَنْهُ، وَلَكِنْ يُعَامَل
الْمُقِرُّ بِمُقْتَضَى إِقْرَارِهِ، فَيَصِحُّ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فِي
الأُْمُورِ الْمَالِيَّةِ مَتَى تَحَقَّقَتْ شُرُوطُ صِحَّتِهِ؛ إِذْ
لَيْسَ فِيهِ إِلْحَاقُ ضَرَرٍ بِالْغَيْرِ.
فَإِذَا تُوُفِّيَ الْمَيِّتُ عَنِ ابْنَيْنِ، وَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا
بِثَالِثٍ وَأَنْكَرَ الثَّانِي. فَقَدْ قَال مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ
وَأَحْمَدُ: إِنَّ لِلْمُقَرِّ لَهُ حَقًّا عَلَى الْمُقِرِّ،
فَيُشَارِكُهُ فِي مِيرَاثِهِ، لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي الْقَدْرِ الَّذِي
يَجِبُ عَلَى الْمُقِرِّ إِعْطَاؤُهُ لِلْمُقَرِّ لَهُ، فَقَال مَالِكٌ
وَأَحْمَدُ: عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا زَادَ عَنْ نَصِيبِهِ فِيمَا
لَوْ ثَبَتَ نَسَبُ الْمُقَرِّ لَهُ أَيْ ثُلُثُ مَا فِي يَدِهِ. وَقَال
الإِْمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْطِيهِ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ، لأَِنَّ
الْمُقِرَّ بِمُقْتَضَى إِقْرَارِهِ يَقُول لِلْمُقَرِّ لَهُ: أَنَا
وَأَنْتَ سَوَاءٌ فِي مِيرَاثِ أَبِينَا، وَمَا أَخَذَهُ الْمُنْكِرُ،
فَكَأَنَّهُ تَلِفَ أَوْ أَخَذَتْهُ يَدٌ مُعْتَدِيَةٌ، فَنَسْتَوِي فِيمَا
بَقِيَ وَهُوَ الَّذِي بِيَدِيِّ.
وَاحْتَجَّ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بِأَنَّ الْمُقِرَّ أَقَرَّ بِالزَّائِدِ
عَنْ مِيرَاثِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ كَمَا
لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ الْمُقِرَّ شَيْءٌ
قَضَاءً. وَهَل يَلْزَمُهُ دِيَانَةً؟ قَوْلاَنِ: أَصَحُّهُمَا لاَ
يَلْزَمُهُ، لأَِنَّهُ لاَ يَثْبُتُ نَسَبُهُ بِهَذَا الإِْقْرَارِ،
وَإِذَا
(3/72)
كَانَ لاَ يَثْبُتُ نَسَبُهُ فَلاَ يَرِثُ.
وَالْقَوْل الآْخَرُ إِنَّهُ يَلْزَمُهُ، وَالْقَدْرُ الَّذِي يَجِبُ
عَلَيْهِ دَفْعُهُ دِيَانَةً فِيهِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ.
129 - وَإِذَا تَرَكَ الْمُتَوَفَّى ابْنًا وَاحِدًا فَأَقَرَّ بِأَخٍ لَهُ
فَلاَ يَثْبُتُ نَسَبُ الْمُقَرِّ لَهُ بِالإِْقْرَارِ، لأَِنَّ نِصَابَ
الشَّهَادَةِ لَمْ يَتِمَّ، وَلَكِنْ يُشَارِكُهُ فِي الْمِيرَاثِ،
وَعَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ لَهُ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ. وَعَنِ
الشَّافِعِيِّ قَوْلاَنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لاَ يَثْبُتُ النَّسَبُ
وَلاَ يَجِبُ الْمِيرَاثُ. وَالثَّانِي يَثْبُتُ النَّسَبُ وَيَجِبُ
الْمِيرَاثُ. وَالضَّابِطُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مَنْ يَسْتَحِقُّ
الْمَال كُلَّهُ مِيرَاثًا يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ النَّسَبُ وَيَتْبَعُهُ
الْمِيرَاثُ فِي الْحُكْمِ (1) .
الْمُوصَى لَهُ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ وَلاَ وَارِثَ لَهُ:
130 - إِذَا لَمْ يُوجَدْ وَارِثٌ لِلْمُتَوَفَّى حَسْبَمَا سَبَقَ، أَوْ
مُقَرٌّ لَهُ بِالنَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ، كَانَتْ تَرِكَتُهُ كُلُّهَا
لِلْمُوصَى لَهُ بِجَمِيعِ الْمَال عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّهُمْ يُقَدِّمُونَهُ هُنَا عَلَى بَيْتِ الْمَال،
وَإِنَّمَا أَجَازُوا الْوَصِيَّةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، لأَِنَّ عَدَمَ
تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ فِيمَا زَادَ عَنِ الثُّلُثِ كَانَ لِحَقِّ
الْوَرَثَةِ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَقَدْ زَال
الْمَانِعُ. أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّهُمْ فِي
هَذِهِ الْحَال لاَ يُجِيزُونَ الْوَصِيَّةَ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ
لِعَدَمِ وُجُودِ مَنْ لَهُ حَقُّ الإِْجَازَةِ (2) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 969 ط أولى، بداية المجتهد لابن رشد 2 / 256 ط الحلبي،
والروضة 4 / 423 ط المكتب الإسلامي والمغني 7 / 144 - 146، والمهذب
للشيرازي 2 / 353.
(2) السراجية ص 58، وبداية المجتهد 2 / 336 ط الحلبي 3، وشرح روض الطالب 3
/ 33 ط المكتبة الإسلامية، ابن عابدين 5 / 417، 418، ومنتهى الإرادات 2 /
37 ط دار العروبة.
(3/72)
التَّخَارُجُ:
131 - التَّخَارُجُ لُغَةً: أَنْ يَأْخُذَ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ الدَّارَ،
وَبَعْضُهُمُ الأَْرْضَ مَثَلاً (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: أَنْ يَتَصَالَحَ الْوَرَثَةُ عَلَى إِخْرَاجِ
بَعْضِهِمْ مِنَ الْمِيرَاثِ عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ
الشَّيْءُ الْمَعْلُومُ مِنْ تَرِكَةِ الْمُوَرِّثِ أَمْ مِنْ غَيْرِهَا
132 - حُكْمُهُ: أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ فِي جَمِيعِ الأَْحْوَال.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيُجِيزُونَهُ فِي الْمَوَارِيثِ الْقَدِيمَةِ،
أَمَّا فِي التَّرِكَاتِ الْحَاضِرَةِ، فَقَدْ صَرَّحَ الإِْمَامُ أَحْمَدُ
بِأَنَّهُ يَجُوزُ إِذَا عُلِمَ لِلطَّرَفَيْنِ، أَمَّا إِذَا جَهِل
صَاحِبُ الْحَقِّ الْمُتَصَالَحَ عَلَيْهِ فَيَمْتَنِعُ.
133 - وَإِذَا كَانَ فِي التَّرِكَةِ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ، أَوْ هُمَا مَعًا
فَلاَ بُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ أَحْكَامِ الصَّرْفِ، مِنْ وُجُوبِ
التَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ وَالْمُسَاوَاةِ إِنْ تَعَيَّنَتْ. كَمَا
أَنَّهُ عِنْدَ التَّخَارُجِ تُغْتَفَرُ الْجَهَالَةُ فِيهِ؛ لأَِنَّهُ
مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُسَامَحَةِ.
وَتَفْصِيل أَحْكَامِهِ وَالْخِلاَفُ فِيهِ وَتَخْرِيجُ مَسَائِلِهِ فِي
مُصْطَلَحِهِ (2) .
الْمُنَاسَخَةُ:
134 - التَّنَاسُخُ لُغَةً: التَّتَابُعُ وَالتَّدَاوُل، وَمِنْهُ
تَنَاسَخَ الْوَرَثَةُ؛ لأَِنَّ الْمِيرَاثَ لاَ يُقْسَمُ عَلَى حُكْمِ
__________
(1) القاموس
(2) البحر الرائق 5 / 190 ط العلمية، الدسوقي 4 / 468، 3 / 315، ونهاية
المحتاج 4 / 375، والقليوبي 3 / 137، والمغني 4 / 544 ط الرياض. والسراجية
236 - 237، والمبسوط 2 / 135، و 15 / 60
(3/73)
الْمَيِّتِ الأَْوَّل، بَل عَلَى حُكْمِ
الثَّانِي، وَكَذَا مَا بَعْدَهُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: انْتِقَال نَصِيبِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ بِمَوْتِهِ
قَبْل الْقِسْمَةِ إِلَى مَنْ يَرِثُ مِنْهُ.
135 - فَإِذَا مَاتَ إِنْسَانٌ وَلَمْ تُقْسَمْ تَرِكَتُهُ بَيْنَ
وَرَثَتِهِ حَتَّى مَاتَ بَعْضُهُمْ فَلاَ يَخْلُو الْحَال مِنْ أَحَدِ
أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَرَثَةُ الثَّانِي هُمْ وَرَثَةُ الأَْوَّل. أَوْ
يَكُونَ مِنْ بَيْنِهِمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا لِلأَْوَّل، فَإِذَا
كَانَ وَرَثَةُ الثَّانِي هُمْ وَرَثَةُ الأَْوَّل فَيُكْتَفَى بِقِسْمَةِ
التَّرِكَةِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ الْمَوْجُودِينَ، بِاعْتِبَارِ أَنَّ
الْمُتَوَفَّى الثَّانِيَ لَمْ يَكُنْ حَيًّا حِينَ وَفَاةِ الْمُتَوَفَّى
الأَْوَّل، وَلاَ دَاعِيَ لِقِسْمَةِ التَّرِكَةِ بَيْنَ وَرَثَةِ
الأَْوَّل، ثُمَّ وَرَثَةِ الثَّانِي؛ لأَِنَّهُمْ لَمْ يَتَغَيَّرُوا.
136 - فَلَوْ مَاتَ شَخْصٌ عَنْ بَنِينَ وَبَنَاتٍ مِنْ زَوْجَةٍ
وَاحِدَةٍ، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمْ قَبْل قِسْمَةِ التَّرِكَةِ، وَلاَ
وَارِثَ لَهُ سِوَى إِخْوَتِهِ الْبَاقِينَ، فَيُكْتَفَى بِقِسْمَةٍ
وَاحِدَةٍ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ.
137 - وَأَمَّا إِذَا كَانَ مِنْ وَرَثَةِ الْمُتَوَفَّى الثَّانِي مَنْ
لَمْ يَكُنْ وَارِثًا لِلأَْوَّل، فَإِنَّهُ يَجِبُ قِسْمَةُ تَرِكَةِ
الْمُتَوَفَّى الأَْوَّل بَيْنَ وَرَثَتِهِ، ثُمَّ يَقْسِمُ نَصِيبَ
الثَّانِي بَيْنَ وَرَثَتِهِ حَسَبَ أَحْكَامِ الْمِيرَاثِ. وَذَلِكَ
كَأَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ عَنِ ابْنِهِ وَبِنْتِهِ، ثُمَّ قَبْل قِسْمَةِ
التَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا مَاتَ الاِبْنُ عَنْ: بِنْتٍ وَأُخْتٍ، فَإِنَّ
تَرِكَةَ الأَْوَّل تُقْسَمُ بَيْنَ الاِبْنِ وَالْبِنْتِ، لِلذَّكَرِ
مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ، ثُمَّ يُقْسَمُ نَصِيبُ الاِبْنِ بَيْنَ
بِنْتِهِ وَأُخْتِهِ مُنَاصَفَةً بَيْنَهَا، وَهَكَذَا يَكُونُ الْحُكْمُ
فِي الْمُنَاسَخَاتِ (2) .
__________
(1) المصباح المنير
(2) السراجية ص 259
(3/73)
حِسَابُ الْمَوَارِيثِ:
138 - إِذَا اسْتَحَقَّ التَّرِكَةَ وَارِثٌ وَاحِدٌ فَلاَ حَاجَةَ إِلَى
تَقْسِيمِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ عَاصِبًا، أَمْ صَاحِبَ فَرْضٍ، أَمْ ذَا
رَحِمٍ.
أَمَّا إِذَا تَعَدَّدَ الْوَرَثَةُ فَلاَ بُدَّ مِنْ تَقْسِيمِ
التَّرِكَةِ بَيْنَهُمْ، فَيَأْخُذُ كُل وَارِثٍ نَصِيبَهُ الَّذِي
يَسْتَحِقُّهُ مِنْهَا، وَيَلْزَمُ لِتَقْسِيمِ التَّرِكَةِ عَلَى
الْوَرَثَةِ الأُْمُورُ الآْتِيَةُ:
139 - أَوَّلاً: مَعْرِفَةُ الْفُرُوضِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا أَصْحَابُ
الْفُرُوضِ مِنَ الْوَرَثَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَعْرُوضَةِ.
وَتَتَوَقَّفُ مَعْرِفَتُهَا عَلَى مَعْرِفَةِ أَحْوَال ذَوِي الْفُرُوضِ
فِي الْمِيرَاثِ مَعَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْوَرَثَةِ.
140 - ثَانِيًا: مَعْرِفَةُ أَصْل الْمَسْأَلَةِ الْمَعْرُوضَةِ، وَهُوَ
أَقَل عَدَدٍ يُمْكِنُ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُ سِهَامُ الْوَرَثَةِ بِدُونِ
كَسْرٍ، وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ مَنْ يُوجَدُ مِنَ الْوَرَثَةِ.
فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَصَبَاتِ النَّسَبِيَّةِ، أَوْ مِنْ
أَصْحَابِ الْفُرُوضِ، أَوْ مُشْتَرَكًا. فَإِذَا وُجِدَ عَصَبَةٌ فَقَطْ
يُعْتَبَرُ عَدَدُ رُءُوسِهِمْ أَصْل الْمَسْأَلَةِ، فَتُقْسَمُ
التَّرِكَةُ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ عَدَدِ الرُّءُوسِ. فَفِي ثَلاَثَةِ
أَبْنَاءٍ، أَوْ ثَلاَثَةِ إِخْوَةٍ أَشِقَّاءٍ، أَوْ لأَِبٍ، أَصْل
الْمَسْأَلَةِ ثَلاَثَةٌ، وَتُقْسَمُ عَلَيْهِمْ أَثْلاَثًا، يَأْخُذُ كُل
وَاحِدٍ ثُلُثَ التَّرِكَةِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ
ذَلِكَ. وَإِذَا وُجِدَتْ مَعَهُمْ أُنْثَى مُعَصَّبَةٌ بِهِمْ، عُدَّ كُل
ذَكَرٍ بِاثْنَتَيْنِ مِنَ الإِْنَاثِ، وَتُقْسَمُ التَّرِكَةُ عَلَى
عَدَدِ رُءُوسِهِمْ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ، فَفِي
ابْنَيْنِ وَثَلاَثِ بَنَاتٍ أَصْل الْمَسْأَلَةِ سَبْعَةٌ، لِكُل ابْنٍ
سُبُعَانِ، وَلِكُل بِنْتٍ سُبُعٌ. وَفِي ثَلاَثَةِ إِخْوَةٍ أَشِقَّاءٍ
وَأَرْبَعِ أَخَوَاتٍ شَقِيقَاتٍ. أَصْل الْمَسْأَلَةِ عَشَرَةٌ، لِكُل
أَخٍ عُشْرَانِ، وَلِكُل أُخْتٍ عَشْرٌ.
(3/74)
141 - وَإِذَا وُجِدَ وَاحِدٌ مِنْ
أَصْحَابِ الْفُرُوضِ مَعَ غَيْرِهِ مِنَ الْعَصَبَاتِ النَّسَبِيَّةِ.
فَأَصْل الْمَسْأَلَةِ مَقَامُ الْكَسْرِ الاِعْتِيَادِيِّ الدَّال عَلَى
فَرْضِ صَاحِبِ الْفَرْضِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْفُرُوضُ لاَ تَتَعَدَّى
الْكُسُورَ الآْتِيَةَ:
النِّصْفَ، الرُّبُعَ، الثُّمُنَ، الثُّلُثَيْنِ، الثُّلُثَ، السُّدُسَ.
فَلاَ يَخْرُجُ أَصْل الْمَسْأَلَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَنْ مَقَامَاتِ
هَذِهِ الْكُسُورِ.
142 - وَإِذَا وُجِدَ أَصْحَابُ فُرُوضٍ مُخْتَلِفَةٍ وَحْدَهُمْ، أَوْ
مَعَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْعَصَبَاتِ النَّسَبِيَّةِ، فَأَصْل الْمَسْأَلَةِ
الْمُضَاعَفُ الْبَسِيطُ لِمَقَامَاتِ الْكُسُورِ الاِعْتِيَادِيَّةِ
الدَّالَّةِ عَلَى الْفُرُوضِ، وَقَدْ دَل الاِسْتِقْرَاءُ عَلَى أَنَّ
الْمُضَاعَفَ الْبَسِيطَ لِمَقَامَاتِ الْكُسُورِ فِي أَيِّ مَسْأَلَةٍ لاَ
يَخْرُجُ أَوَّلاً عَنْ سَبْعَةِ أَعْدَادٍ، وَهِيَ: (2، 3، 4، 6، 8، 12،
24) .
143 - وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَائِلَةٌ، أَوْ فِيهَا
رَدٌّ، يَخْرُجُ أَصْل الْمَسْأَلَةِ عَنْ هَذِهِ الأَْعْدَادِ،
وَالْخَمْسَةُ الأُْولَى مِنْ هَذِهِ الأَْعْدَادِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ
مَقَامَاتِ الْكُسُورِ الاِعْتِيَادِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْفُرُوضِ،
وَالْعَدَدُ (12) مَأْخُوذٌ مِنِ اخْتِلاَطِ. 1: 4 بِالنَّوْعِ الثَّانِي
مِنَ الْفُرُوضِ وَهُوَ:
الثُّلُثَانِ الثُّلُثُ السُّدُسُ.
(3/74)
وَأَمَّا النَّوْعُ الأَْوَّل مِنَ
الْفُرُوضِ فَهُوَ:
النِّصْفُ الرُّبُعُ الثُّمُنُ
وَالْعَدَدُ (24) مَأْخُوذٌ مِنِ اخْتِلاَطِ الثُّمُنِ بِالنَّوْعِ
الثَّانِي الْمَذْكُورِ.
وَيُغْنِي عَمَّا تَقَدَّمَ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ (24) أَصْلاً لِمَسَائِل
الْمَوَارِيثِ، فَذَلِكَ أَيْسَرُ وَأَسْهَل.
وَلاَ بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ أَصْل الْمَسْأَلَةِ الْمَعْرُوضَةِ، حَتَّى
يُمْكِنَ مَعْرِفَةُ سِهَامِ كُل وَارِثٍ مِنَ الْوَرَثَةِ
الْمُسْتَحِقِّينَ لِلتَّرِكَةِ.
144 - ثَالِثًا: مَعْرِفَةُ عَدَدِ سِهَامِ كُل وَارِثٍ مِنَ الْوَرَثَةِ
الْمُسْتَحِقِّينَ لِلتَّرِكَةِ. فَإِذَا كَانَ الْوَارِثُ صَاحِبَ فَرْضٍ،
فَعَدَدُ سِهَامِهِ مِنَ التَّرِكَةِ هُوَ النَّاتِجُ مِنْ ضَرْبِ أَصْل
الْمَسْأَلَةِ فِي الْكَسْرِ الدَّال عَلَى فَرْضِهِ، فَإِذَا كَانَ فِي
الْمَسْأَلَةِ أَبٌ وَأُمٌّ، فَإِنَّ الأُْمَّ تَسْتَحِقُّ الثُّلُثَ،
وَيَكُونُ أَصْل الْمَسْأَلَةِ هُوَ ثَلاَثَةٌ، وَإِذَا كَانَ عَاصِبًا
وَبَقِيَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ التَّرِكَةِ. فَعَدَدُ سِهَامِهِ هُوَ الْبَاقِي
مِنْ أَصْل الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ طَرْحِ مَجْمُوعِ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ
مِنْ أَصْل الْمَسْأَلَةِ. فَإِنْ كَانَ الْوَرَثَةُ زَوْجَةً وَأَبًا،
فَأَصْل الْمَسْأَلَةِ يَكُونُ أَرْبَعَةً؛ لأَِنَّ الزَّوْجَةَ لَهَا
الرُّبُعُ، فَيَكُونُ لَهَا سَهْمٌ، وَلِلأَْبِ الْبَاقِي ثَلاَثَةُ
أَسْهُمٍ.
145 - رَابِعًا: مَعْرِفَةُ مِقْدَارِ السَّهْمِ الْوَاحِدِ مِنَ
التَّرِكَةِ، وَهُوَ النَّاتِجُ مِنْ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ عَلَى أَصْل
الْمَسْأَلَةِ إِنْ كَانَ مَجْمُوعُ السِّهَامِ مُسَاوِيًا لأَِصْل
الْمَسْأَلَةِ. فَفِي زَوْجٍ، وَابْنٍ، وَبِنْتٍ، يَكُونُ أَصْل
الْمَسْأَلَةِ مِنْ أَرْبَعَةٍ: لِلزَّوْجِ سَهْمٌ، وَلِلْبِنْتِ سَهْمٌ،
وَلِلاِبْنِ سَهْمَانِ.
(3/75)
146 - خَامِسًا: مَعْرِفَةُ مِقْدَارِ
نَصِيبِ كُل وَارِثٍ مِنَ التَّرِكَةِ، وَهُوَ النَّتِيجَةُ الْمَقْصُودَةُ
مِنَ التَّرِكَةِ. وَهُوَ النَّاتِجُ مِنْ ضَرْبِ مِقْدَارِ السَّهْمِ
الْوَاحِدِ مِنَ التَّرِكَةِ فِي عَدَدِ سِهَامِ كُل وَارِثٍ.
ثُمَّ إِذَا جَمَعْتَ سِهَامَ الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ عَدَدِ
سِهَامِ كُل وَارِثٍ مِنْ أَصْل الْمَسْأَلَةِ حَسَبَ الطَّرِيقَةِ
السَّابِقَةِ، وَقَارَنْتَ مَجْمُوعَ تِلْكَ السِّهَامِ بِأَصْل
الْمَسْأَلَةِ، فَلاَ يَخْلُو الْحَال مِنْ أَحَدِ أُمُورٍ ثَلاَثَةٍ:
أ - أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ السِّهَامِ مُسَاوِيًا لأَِصْل الْمَسْأَلَةِ،
وَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْمَسْأَلَةُ عَادِلَةً؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنَ
الْوَرَثَةِ يَأْخُذُ نَصِيبَهُ مِنَ التَّرِكَةِ بِلاَ زِيَادَةٍ وَلاَ
نَقْصٍ، كَمَا فِي زَوْجٍ، وَأُخْتٍ شَقِيقَةٍ.
ب - أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ أَكْثَرَ مِنْ أَصْل
الْمَسْأَلَةِ، وَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْمَسْأَلَةُ عَائِلَةً، كَمَا فِي
زَوْجٍ، وَأُخْتَيْنِ شَقِيقَتَيْنِ، أَوْ لأَِبٍ.
ج - أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ سِهَامِ الْفُرُوضِ أَقَل مِنْ أَصْل
الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ يُوجَدْ عَاصِبٌ نَسَبِيٌّ يَسْتَحِقُّ الْبَاقِيَ
مِنَ التَّرِكَةِ بَعْدَ سِهَامِ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ، وَيُقَال
لِلْمَسْأَلَةِ حِينَئِذٍ فِيهَا رَدٌّ. وَالأَْمْرَانِ: الثَّانِي
وَالثَّالِثِ، وَهُمَا الْعَوْل وَالرَّدُّ، بَيَانُهُمَا فِيمَا سَبَقَ.
الْمُلَقَّبَاتُ مِنْ مَسَائِل الْمِيرَاثِ:
فِي الْفَرَائِضِ مَسَائِل اشْتُهِرَتْ بِأَلْقَابٍ خَاصَّةٍ لِمَا
تَقَرَّرَ مِنَ الْقَوَاعِدِ وَالأَْحْكَامِ. مِنْهَا مَا اتَّفَقَ
الْفُقَهَاءُ عَلَى حُكْمِهَا، وَمِنْهَا مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ:
147 - أَوَّلاً: الْمُشَرَّكَةُ، أَوِ الْحِمَارِيَّةُ، أَوِ
الْحَجَرِيَّةُ، أَوِ الْيَمِّيَّةُ:
وَصُورَتُهَا: امْرَأَةٌ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ زَوْجًا وَأُمًّا
(3/75)
وَأَخَوَيْنِ لأُِمٍّ، أَوْ أُخْتَيْنِ
لأُِمٍّ، أَوْ أَخًا وَأُخْتًا لأُِمٍّ، وَأَخَوَيْنِ شَقِيقَيْنِ، فَقَدِ
اخْتَلَفَ فِيهَا الصَّحَابَةُ وَفُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ.
فَمَذْهَبُ الإِْمَامِ عَلِيٍّ، وَأَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ وَأُبَيِّ
بْنِ كَعْبٍ: أَنَّ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ، وَلِلأُْمِّ السُّدُسَ،
وَلِلأَْخَوَيْنِ لأُِمٍّ الثُّلُثَ، وَلاَ شَيْءَ لِلإِْخْوَةِ لأَِبٍ
وَأُمٍّ. وَهَذَا هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَالإِْمَامُ
أَحْمَدُ فِي الأَْصَحِّ عَنْهُ.
وَمَذْهَبُ عُثْمَانَ وَزَيْدٍ: أَنَّهُ يُشْرَكُ بَيْنَ الإِْخْوَةِ
لأُِمٍّ وَالأَْشِقَّاءِ، فَيُقْسَمُ الثُّلُثُ بَيْنَ الْجَمِيعِ
بِالسَّوِيَّةِ، كَمَا يُسَوَّى بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى، فِي
النَّصِيبِ.
وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ شُرَيْحٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ،
وَالشَّافِعِيُّ.
وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رَأْيِهِ الأَْوَّل يَنْفِي
التَّشْرِيكَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَتَانِ
أَظْهَرُهُمَا التَّشْرِيكُ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رِوَايَتَانِ
أَظْهَرُهُمَا عَدَمُ التَّشْرِيكِ.
148 - وَتُسَمَّى هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَسْأَلَةَ التَّشْرِيكِ؛
لِمُشَارَكَةِ أَوْلاَدِ الأَْبِ وَالأُْمِّ لأَِوْلاَدِ الأُْمِّ فِي
الْمِيرَاثِ. كَمَا تُسَمَّى، الْحِمَارِيَّةُ وَالْحَجَرِيَّةُ
وَالْيَمِّيَّةُ أَيْضًا. لأَِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا اُسْتُفْتِيَ
عُمَرُ فِي الْمَسْأَلَةِ، أَفْتَى بِعَدَمِ مُشَارَكَةِ الإِْخْوَةِ
لأَِبٍ وَأُمٍّ لِلإِْخْوَةِ لأُِمٍّ فِي الْمِيرَاثِ، فَقَال لَهُ
الإِْخْوَةُ لأَِبٍ وَأُمٍّ: هَبْ أَنَّ أَبَانَا كَانَ حِمَارًا، وَفِي
رِوَايَةٍ حَجَرًا مُلْقًى فِي الْيَمِّ. أَلَسْنَا مِنْ أُمٍّ وَاحِدَةٍ؟
فَرَجَعَ عَنْ رَأْيِهِ الأَْوَّل، وَأَفْتَى بِالتَّشْرِيكِ. وَقِيل لَهُ:
لَقَدْ أَفْتَيْتَ سَابِقًا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ. فَقَال: تِلْكَ عَلَى مَا
قَضَيْنَا، وَهَذِهِ عَلَى مَا نَقْضِي.
قَال صَاحِبُ الْمَبْسُوطِ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ الرَّأْيَ
(3/76)
بِالتَّشْرِيكِ: وَهُوَ " أَيِ الْقَوْل
بِالتَّشْرِيكِ " الْمَعْنَى الْفِقْهِيُّ. فَإِنَّ اسْتِحْقَاقَ
الْمِيرَاثِ بِاعْتِبَارِ الْقُرْبِ وَالإِْدْلاَءِ. وَقَدِ اسْتَوَوْا فِي
الإِْدْلاَءِ إِلَى الْمَيِّتِ بِالأُْمِّ وَرَجَحَ الإِْخْوَةُ لأُِمٍّ
وَأَب بِالإِْدْلاَءِ إِلَيْهِ بِالأَْبِ. فَإِنْ كَانُوا لاَ
يَتَقَدَّمُونَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ، فَلاَ أَقَل مِنْ أَنْ يَسْتَوُوا
بِهِمْ، وَإِنَّمَا لَمْ يَتَقَدَّمُوا لأَِنَّ الإِْدْلاَءَ بِالأَْبِ
بِسَبَبِ الْعُصُوبَةِ. وَاسْتِحْقَاقُ الْعَصَبَاتِ مُتَأَخِّرٌ عَنِ
الأَْبِ فِي حَقِّهِمْ. وَإِنَّمَا يَبْقَى الإِْدْلاَءُ بِقَرَابَةِ
الأُْمِّ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.
وَالْقَائِلُونَ بِالتَّشْرِيكِ سَوَّوْا فِي الْمِيرَاثِ بِالنِّسْبَةِ
لأَِوْلاَدِ الأُْمِّ، وَلأَِوْلاَدِ الأَْبِ وَالأُْمِّ بَيْنَ الذَّكَرِ
وَالأُْنْثَى؛ لأَِنَّ الْمِيرَاثَ ثَبَتَ لَهُمْ بِاعْتِبَارِهِمْ
أَوْلاَدَ أُمٍّ. وَالْحُكْمُ فِيهِمُ الْمُسَاوَاةُ. وَذَلِكَ بَعْدَ
قِسْمَةِ الثُّلُثِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مُنَاصَفَةً.
149 - وَاسْتَدَلُّوا لِلْقَوْل بِالتَّشْرِيكِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا:
أَوَّلاً: أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَعْضُ وَلَدِ الأُْمِّ ابْنَ عَمٍّ
يُشَارِكُ بِقَرَابَةِ الأُْمِّ وَإِنْ سَقَطَتْ عُصُوبَتُهُ،
فَبِالأَْوْلَى الأَْخُ مِنَ الأَْبَوَيْنِ.
ثَانِيًا: أَنَّهَا فَرِيضَةٌ جَمَعَتْ وَلَدَ الأَْبَوَيْنِ وَوَلَدَ
الأُْمِّ، وَهُمْ مِنْ أَهْل الْمِيرَاثِ. فَإِذَا وَرِثَ وَلَدُ الأُْمِّ
وَرِثَ وَلَدُ الأَْبَوَيْنِ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا زَوْجٌ.
ثَالِثًا: أَنَّ الإِْرْثَ مَبْنِيٌّ عَلَى تَقْدِيمِ الأَْقْوَى عَلَى
الأَْضْعَفِ. وَأَدْنَى أَحْوَال الأَْقْوَى مُشَارَكَتُهُ لِلأَْضْعَفِ،
وَلَيْسَ فِي أُصُول الْمِيرَاثِ سُقُوطُ الأَْقْوَى بِالأَْضْعَفِ،
وَوَلَدُ الأَْبِ وَالأُْمِّ أَقْوَى مِنْ وَلَدِ الأُْمِّ (1) .
150 - وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ التَّشْرِيكِ بِأَدِلَّةٍ
مِنْهَا:
__________
(1) السراجية ص241 - 248
(3/76)
أَوَّلاً: قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كَانَ
رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ
شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} . (1)
إِذْ لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالآْيَةِ أَوْلاَدُ الأُْمِّ
عَلَى الْخُصُوصِ، كَمَا أَجْمَعَ عَلَى ذَلِكَ الْمُفَسِّرُونَ. وَيَدُل
عَلَيْهِ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَلَهُ أَخٌ أَوْ
أُخْتٌ مِنْ أُمِّهِ. فَتَشْرِيكُ الأَْشِقَّاءِ مَعَ أَوْلاَدِ الأُْمِّ
مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الآْيَةِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ مُخَالَفَةُ الآْيَةِ
الأُْخْرَى {فَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ
مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ} . (2) ، إِذِ الْمُرَادُ مِنَ الإِْخْوَةِ
فِي الآْيَةِ كُل الإِْخْوَةِ، مَا عَدَا إِخْوَةَ الأُْمِّ. وَقَدْ جَعَل
اللَّهُ فِيهَا حَظَّ الذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ. وَلَكِنِ
الْقَائِلِينَ بِالتَّشْرِيكِ يُسَوُّونَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى
وَفِي ذَلِكَ مُخَالَفَةٌ لَهَا.
ثَانِيًا: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلْحِقُوا
الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَلأَِوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ (3)
وَإِلْحَاقُ الْفَرَائِضِ بِأَهْلِهَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لأَِوْلاَدِ
الأُْمِّ فِي الْمَسْأَلَةِ كُل الثُّلُثِ؛ لأَِنَّهُمْ مِنْ أَصْحَابِ
الْفُرُوضِ، فَمُشَارَكَةُ الإِْخْوَةِ لأَِبٍ وَأُمٍّ فِيهَا مُخَالَفَةٌ
لِلْحَدِيثِ.
ثَالِثًا: أَنَّ الإِْجْمَاعَ انْعَقَدَ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي
الْمَسْأَلَةِ وَاحِدٌ مِنْ أَوْلاَدِ الأُْمِّ، وَعَدَدٌ كَثِيرٌ مِنَ
الإِْخْوَةِ الأَْشِقَّاءِ، فَإِنَّ وَلَدَ الأُْمِّ يَأْخُذُ السُّدُسَ،
وَكُل الإِْخْوَةِ يَأْخُذُونَ الثُّلُثَ.
فَإِذَا كَانَ الْوَاحِدُ يَفْضُلُهُمْ هَذَا الْفَضْل، فَلِمَ لاَ يَجُوزُ
لِلاِثْنَيْنِ إِسْقَاطُهُمْ.
__________
(1) سورة النساء / 12
(2) سورة النساء / 176
(3) حديث تقدم (هامش ف 4)
(3/77)
الْغَرَّاوَانِ، أَوِ الْغَرِيمَتَانِ،
أَوِ الْغَرِيبَتَانِ، أَوِ الْعُمَرِيَّتَانِ:
151 - صُورَتُهَا امْرَأَةٌ تُوُفِّيَتْ عَنْ: زَوْجٍ وَأُمٍّ وَأَبٍ، أَوْ
رَجُلٌ تُوُفِّيَ عَنْ: زَوْجَةٍ وَأُمٍّ وَأَبٍ.
فَقَدِ اتَّفَقَ الأَْئِمَّةُ الأَْرْبَعَةُ فِي الأُْولَى عَلَى: أَنَّ
لِلزَّوْجِ نِصْفَ التَّرِكَةِ، وَلِلأُْمِّ ثُلُثَ الْبَاقِي بَعْدَ
فَرْضِ الزَّوْجِ. وَفِي الثَّانِيَةِ: لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعَ،
وَلِلأُْمِّ ثُلُثَ الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجَةِ، وَلِلأَْبِ فِي
كُلٍّ مِنْهُمَا الْبَاقِيَ، بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ
وَفَرْضِ الأُْمِّ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ كُل ذَكَرٍ وَأُنْثَى يَأْخُذَانِ الْمَال
أَثْلاَثًا يَجِبُ أَنْ يَأْخُذَا الْبَاقِيَ بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجِيَّةِ
كَذَلِكَ، كَالأَْخِ وَالأُْخْتِ لِغَيْرِ أُمٍّ. وَبِأَنَّ الأَْصْل
أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى مِنْ دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، أَنْ
يَكُونَ لِلذَّكَرِ ضِعْفُ مَا لِلأُْنْثَى، فَلَوْ جَعَل لِلأُْمِّ ثُلُثَ
كُل التَّرِكَةِ مَعَ الزَّوْجِ، لَفَضَلَتْ عَلَى الأَْبِ، وَمَعَ
الزَّوْجَةِ لَمْ يَكُنْ نَصِيبُ الأَْبِ ضِعْفَ نَصِيبِ الأُْمِّ، وَلاَ
يَرِدُ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمَا إِذَا اجْتَمَعَا مَعَ
الاِبْنِ تَسَاوَيَا؛ لأَِنَّهُمْ إِذَا قَالُوا: الأَْصْل كَذَا. فَذَلِكَ
لاَ يُنَافِي خُرُوجَ فَرْضٍ عَنْهُ لِدَلِيلٍ، كَمَا خَرَجَ عَنْهُ
الإِْخْوَةُ لأُِمٍّ فِي تَسَاوِي نَصِيبِ الذَّكَرِ بِنَصِيبِ الأُْنْثَى.
وَخَالَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَال: لِلأُْمِّ فِي الصُّورَتَيْنِ الثُّلُثُ
كَامِلاً. وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ
فَلأُِمِّهِ الثُّلُثُ} (1) : وَبِقَوْلِهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَلأَِوْلَى
رَجُلٍ ذَكَرٍ (2) وَالأَْبُ فِي الصُّورَةِ عَصَبَةٌ، فَلَهُ مَا بَقِيَ
بَعْدَ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ. قَال صَاحِبُ الْمُغْنِي - كَمَا نَقَل
عَنْهُ
__________
(1) سورة النساء / 11
(2) حديث تقدم (هامش ف 4)
(3/77)
صَاحِبُ الْعَذْبِ الْفَائِضِ:
وَالْحُجَّةُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ لَوْلاَ انْعِقَادُ الإِْجْمَاعِ مِنَ
الصَّحَابَةِ عَلَى خِلاَفِهِ فِيهِمَا.
152 - وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الأَْبِ فِي الصُّورَتَيْنِ جَدٌّ، لَكَانَ
لِلأُْمِّ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَال، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ.
وَرَوَى ذَلِكَ أَهْل الْكُوفَةِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي صُورَةِ
الزَّوْجِ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: إِنَّ لِلأُْمِّ مَعَ الْجَدِّ ثُلُثَ الْبَاقِي
أَيْضًا، كَمَا مَعَ الأَْبِ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عَنْ أَبِي
بَكْرٍ. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ جَعَل الْجَدَّ كَالأَْبِ.
وَالْوَجْهُ عَلَى الرِّوَايَةِ الأُْولَى هُوَ تَرْكُ ظَاهِرِ قَوْله
تَعَالَى: {فَلأُِمِّهِ الثُّلُثُ} فِي حَقِّ الأَْبِ كَيْ لاَ يَلْزَمَ
تَفْضِيلُهَا عَلَيْهِ مَعَ تَسَاوِيهِمَا فِي الْقُرْبِ. وَأَمَّا
بِالنِّسْبَةِ لِلْجَدِّ فَأُبْقِيَ النَّصُّ عَلَى ظَاهِرِهِ {وَوَرِثَهُ
أَبَوَاهُ فَلأُِمِّهِ الثُّلُثُ} لِعَدَمِ تَسَاوِي الأُْمِّ وَالْجَدِّ
فِي الْقُرْبِ.
153 - وَتُسَمَّى الْمَسْأَلَةُ الْمَذْكُورَةُ بِالْغَرَّاوَيْنِ؛
لِشُهْرَتِهَا كَالْكَوْكَبِ الأَْغَرِّ " الْمُضِيءِ "،
وَبِالْغَرِيمَتَيْنِ لأَِنَّ كُلًّا مِنَ الزَّوْجَيْنِ كَالْغَرِيمِ
صَاحِبِ الدَّيْنِ، وَالأَْبَوَانِ كَالْوَرَثَةِ يَأْخُذَانِ مَا فَضَل
بَعْدَ فَرْضِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَبِالْغَرِيبَتَيْنِ لِغَرَابَتِهِمَا
بَيْنَ مَسَائِل الْفَرَائِضِ، وَبِالْعُمَرِيَّتَيْنِ؛ لأَِنَّ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَوَّل مَنْ قَضَى فِيهِمَا
لِلأُْمِّ بِثُلُثِ الْبَاقِي، وَوَافَقَهُ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَمَنْ
بَعْدَهُمْ (1) . وَهُنَاكَ مَسَائِل أُخْرَى مُسْتَثْنَاةٌ،
__________
(1) السراجية 132 - 134، والعذب الفائض 1 / 55، والشرح الكبير 4 / 410، 411
ط دار الفكر، والتحفة مع الشرواني 1 / 4، 5
(3/78)
تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَهَاتَانِ
الْمَسْأَلَتَانِ سَبَقَ ذِكْرُهُمَا أَيْضًا لَكِنْ بِغَيْرِ تَفْصِيلٍ،
مِمَّا دَعَا إِلَى إِفْرَادِهِمَا وَلأَِهَمِّيَّتِهِمَا.
الْخَرْقَاءُ:
154 - صُورَتُهَا: أُمٌّ وَجَدٌّ وَأُخْتٌ، سُمِّيَتْ خَرْقَاءَ لأَِنَّ
أَقَاوِيل الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ تَخَرَّقَتْهَا.
قَال أَبُو بَكْرٍ: لِلأُْمِّ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ، وَقَال
زَيْدٌ: لِلأُْمِّ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالأُْخْتِ
أَثْلاَثًا. وَقَال عَلِيٌّ: لِلأُْمِّ الثُّلُثُ، وَلِلأُْخْتِ النِّصْفُ،
وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ
لِلأُْخْتِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي بَيْنَ الأُْمِّ وَالْجَدِّ نِصْفَانِ،
وَفِي رِوَايَةٍ وَهُوَ قَوْل عُمَرَ لِلأُْخْتِ النِّصْفُ، وَلِلأُْمِّ
الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ.
وَتُسَمَّى عُثْمَانِيَّةً، لأَِنَّ عُثْمَانَ انْفَرَدَ فِيهَا بِقَوْلٍ
خَرَقَ الإِْجْمَاعَ فَقَال: لِلأُْمِّ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ
الْجَدِّ وَالأُْخْتِ نِصْفَانِ قَالُوا: وَبِهِ سُمِّيَتْ خَرْقَاءَ.
وَتُسَمَّى مُثَلَّثَةَ عُثْمَانَ، وَمُرَبَّعَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ،
وَمُخَمَّسَةَ الشَّعْبِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، لأَِنَّ
الْحَجَّاجَ سَأَلَهُ عَنْهَا فَقَال: اخْتَلَفَ فِيهَا خَمْسَةٌ مِنَ
الصَّحَابَةِ، وَإِذَا أُضِيفَ إِلَيْهِمْ قَوْل الصِّدِّيقِ كَانَتْ
مُسَدَّسَةً.
الْمَرْوَانِيَّةُ:
155 - صُورَتُهَا: سِتُّ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ وَزَوْجٌ، لِلزَّوْجِ
النِّصْفُ، وَلِلأُْخْتَيْنِ لأَِبَوَيْنِ الثُّلُثَانِ، وَلِلأُْخْتَيْنِ
لأُِمٍّ الثُّلُثُ، وَسَقَطَ أَوْلاَدُ الأَْبِ، أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ،
وَتَعُول إِلَى تِسْعَةٍ، سُمِّيَتْ مَرْوَانِيَّةً؛ لِوُقُوعِهَا فِي
زَمَنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَتُسَمَّى الْغَرَّاءَ؛ لاِشْتِهَارِهَا
بَيْنَهُمْ.
(3/78)
الْحَمْزِيَّةُ:
156 - صُورَتُهَا: ثَلاَثُ جَدَّاتٍ مُتَحَاذِيَاتٍ، وَجَدٌّ، وَثَلاَثُ
أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ، قَال أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ:
لِلْجَدَّاتِ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ. أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ،
وَتَصِحُّ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ. وَقَال عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ:
لِلأُْخْتِ مِنَ الأَْبَوَيْنِ النِّصْفُ، وَمِنَ الأَْبِ السُّدُسُ
تَكْمِلَةً لِلثُّلُثَيْنِ، وَلِلْجَدَّاتِ السُّدُسُ، وَلِلْجَدِّ
السُّدُسُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ: لِلْجَدَّةِ أُمُّ
الأُْمِّ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ. وَقَال زَيْدٌ: لِلْجَدَّاتِ
السُّدُسُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالأُْخْتِ لأَِبَوَيْنِ
وَالأُْخْتِ لأَِبٍ عَلَى أَرْبَعَةٍ، ثُمَّ تَرُدُّ الأُْخْتُ مِنَ
الأَْبِ مَا أَخَذَتْ عَلَى الأُْخْتِ مِنَ الأَْبَوَيْنِ، أَصْلُهَا مِنْ
سِتَّةٍ، وَتَصِحُّ مِنِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَتَعُودُ بِالاِخْتِصَارِ
إِلَى سِتَّةٍ وَثَلاَثِينَ، لِلْجَدَّاتِ سِتَّةٌ، وَلِلأُْخْتِ مِنَ
الأَْبَوَيْنِ نَصِيبُهَا وَنَصِيبُ أُخْتِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ،
وَلِلْجَدِّ خَمْسَةَ عَشَرَ. سُمِّيَتْ حَمْزِيَّةً؛ لأَِنَّ حَمْزَةَ
الزَّيَّاتَ سُئِل عَنْهَا فَأَجَابَ بِهَذِهِ الأَْجْوِبَةِ.
الدِّينَارِيَّةُ:
157 - صُورَتُهَا: زَوْجَةٌ، وَجَدَّةٌ وَبِنْتَانِ وَاثْنَا عَشَرَ أَخًا
وَأُخْتٌ وَاحِدَةٌ لأَِبٍ وَأُمٍّ، وَالتَّرِكَةُ بَيْنَهُمْ سِتُّمِائَةِ
دِينَارٍ، لِلْجَدَّةِ السُّدُسُ مِائَةُ دِينَارٍ، وَلِلْبِنْتَيْنِ
الثُّلُثَانِ أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ، وَلِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ خَمْسَةٌ
وَسَبْعُونَ دِينَارًا، يَبْقَى خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِينَارًا لِكُل أَخٍ
دِينَارَانِ، وَلِلأُْخْتِ دِينَارٌ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ
الدِّينَارِيَّةَ، وَتُسَمَّى الدَّاوُدِيَّةَ، لأَِنَّ دَاوُد الطَّائِيَّ
سُئِل عَنْهَا، فَقَسَّمَهَا هَكَذَا، فَجَاءَتِ الأُْخْتُ إِلَى أَبِي
حَنِيفَةَ فَقَالَتْ: إِنَّ أَخِي مَاتَ وَتَرَكَ سِتَّمِائَةِ
(3/79)
دِينَارٍ، فَمَا أُعْطِيتُ مِنْهَا إِلاَّ
دِينَارًا وَاحِدًا، فَقَال: مَنْ قَسَمَ التَّرِكَةَ؟ فَقَالَتْ:
تِلْمِيذُكَ دَاوُدُ الطَّائِيُّ فَقَال: هُوَ لاَ يَظْلِمُ، هَل تَرَكَ
أَخُوكِ جَدَّةً؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَال: هَل تَرَكَ بِنْتَيْنِ؟ قَالَتْ:
نَعَمْ، قَال: هَل تَرَكَ زَوْجَةً؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَال: هَل تَرَكَ
مَعَكِ اثْنَيْ عَشَرَ أَخًا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَال: إِذَنْ حَقُّكِ
دِينَارٌ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنَ الْمُعَايَاةِ فَيُقَال: رَجُلٌ
خَلَّفَ سِتَّمِائَةِ دِينَارٍ وَسَبْعَةَ عَشَرَ وَارِثًا، ذُكُورًا
وَإِنَاثًا فَأَصَابَ أَحَدَهُمْ دِينَارٌ وَاحِدٌ.
الاِمْتِحَانُ:
158 - صُورَتُهَا: أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ، وَخَمْسُ جَدَّاتٍ، وَسَبْعُ
بَنَاتٍ، وَتِسْعُ أَخَوَاتٍ لأَِبٍ. أَصْلُهَا مِنْ أَرْبَعَةٍ
وَعِشْرِينَ، لِلزَّوْجَاتِ الثُّمُنُ ثَلاَثَةٌ، وَلِلْجَدَّاتِ السُّدُسُ
أَرْبَعَةٌ، وَلِلْبَنَاتِ الثُّلُثَانِ سِتَّةَ عَشَرَ، وَلِلأَْخَوَاتِ
مَا بَقِيَ سَهْمٌ، وَلاَ مُوَافَقَةَ بَيْنَ السِّهَامِ وَالرُّءُوسِ،
وَلاَ بَيْنَ الرُّءُوسِ وَالرُّءُوسِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى ضَرْبِ
الرُّءُوسِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ، فَاضْرِبْ أَرْبَعَةً فِي خَمْسَةٍ
يَكُنْ عِشْرِينَ، ثُمَّ اضْرِبْ عِشْرِينَ فِي سَبْعَةٍ يَكُنْ مِائَةً
وَأَرْبَعِينَ، ثُمَّ اضْرِبْ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ فِي تِسْعَةٍ يَكُنْ
أَلْفًا وَمِائَةً وَسِتِّينَ، فَاضْرِبْهَا فِي أَصْل الْمَسْأَلَةِ
أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ يَكُنْ ثَلاَثِينَ أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ
وَأَرْبَعِينَ، مِنْهَا تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ. وَجْهُ الاِمْتِحَانِ أَنْ
يُقَال: رَجُلٌ خَلَفَ أَصْنَافًا، عَدَدُ كُل صِنْفٍ أَقَل مِنْ عَشَرَةٍ،
وَلاَ تَصِحُّ مَسْأَلَتُهُ إِلاَّ مِمَّا يَزِيدُ عَلَى ثَلاَثِينَ
أَلْفًا.
الْمَأْمُونِيَّةُ:
159 - صُورَتُهَا: أَبَوَانِ وَبِنْتَانِ، مَاتَتْ إِحْدَى الْبِنْتَيْنِ
وَخَلَّفَتْ مَنْ خَلَّفَتْ. سُمِّيَتِ الْمَأْمُونِيَّةَ لأَِنَّ
(3/79)
الْمَأْمُونَ أَرَادَ أَنْ يُوَلِّيَ
قَضَاءَ الْبَصْرَةِ أَحَدًا، فَأَحْضَرَ بَيْنَ يَدَيْهِ يَحْيَى بْنَ
أَكْثَمَ فَاسْتَحْقَرَهُ (أَيْ لِصِغَرِ سِنِّهِ) فَسَأَلَهُ عَنْ هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ، فَقَال: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: أَخْبِرْنِي عَنِ
الْمَيِّتِ الأَْوَّل، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، فَعَلِمَ الْمَأْمُونُ
أَنَّهُ يَعْلَمُ الْمَسْأَلَةَ فَأَعْطَاهُ الْعَهْدَ، وَوَلاَّهُ
الْقَضَاءَ.
وَالْجَوَابُ فِيهَا يَخْتَلِفُ بِكَوْنِ الْمَيِّتِ الأَْوَّل ذَكَرًا
أَوْ أُنْثَى، فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا، فَالْمَسْأَلَةُ الأُْولَى مِنْ
سِتَّةٍ لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ، وَلِلأَْبَوَيْنِ السُّدُسَانِ،
فَإِذَا مَاتَتْ إِحْدَى الْبِنْتَيْنِ فَقَدْ خَلَّفَتْ أُخْتًا وَجَدًّا
صَحِيحًا أَبَا أَبٍ، وَجَدَّةً صَحِيحَةً أُمَّ أَبٍ، فَالسُّدُسُ
لِلْجَدَّةِ وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ، وَسَقَطَتِ الأُْخْتُ عَلَى قَوْل
أَبِي بَكْرٍ. وَقَال زَيْدٌ: لِلْجَدَّةِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي بَيْنَ
الْجَدِّ وَالأُْخْتِ أَثْلاَثًا، وَصَحَّحَ الْمُنَاسَخَةَ. وَإِنْ كَانَ
الْمَيِّتُ الأَْوَّل أُنْثَى، فَقَدْ مَاتَتِ الْبِنْتُ عَنْ أُخْتٍ،
وَجَدَّةٍ صَحِيحَةٍ أُمِّ أُمٍّ، وَجَدٍّ فَاسِدٍ أَبِي أُمٍّ،
فَلِلْجَدَّةِ السُّدُسُ وَلِلأُْخْتِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي يُرَدُّ
عَلَيْهِمَا، وَسَقَطَ الْجَدُّ الْفَاسِدُ بِالإِْجْمَاعِ. كَذَا فِي
الاِخْتِيَارِ شَرْحِ الْمُخْتَارِ (1) .
إِرْجَافٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْرْجَافُ فِي اللُّغَةِ: الاِضْطِرَابُ الشَّدِيدُ، وَيُطْلَقُ
أَيْضًا عَلَى: الْخَوْضِ فِي الأَْخْبَارِ السَّيِّئَةِ وَذِكْرِ
__________
(1) الفتاوى الهندية 6 / 477 - 478
(3/80)
الْفِتَنِ؛ لأَِنَّهُ يَنْشَأُ عَنْهُ
اضْطِرَابٌ بَيْنَ النَّاسِ (1) . وَالإِْرْجَافُ فِي اسْتِعْمَال
الْفُقَهَاءِ: الْتِمَاسُ الْفِتْنَةِ، وَإِشَاعَةُ الْكَذِبِ وَالْبَاطِل
لِلاِغْتِمَامِ بِهِ. (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّخْذِيل:
2 - التَّخْذِيل هُوَ: تَثْبِيطُ النَّاسِ عَنِ الْغَزْوِ، وَتَزْهِيدُهُمْ
فِي الْخُرُوجِ إِلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: الْوَقْتُ حَرٌّ شَدِيدٌ،
الْمَشَقَّةُ شَدِيدَةٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ فِي
التَّخْذِيل مَنْعَ النَّاسِ مِنَ النُّهُوضِ لِلْقِتَال، وَالإِْرْجَافُ
نَشْرُ الاِضْطِرَابِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. فَالإِْرْجَافُ أَعَمُّ مِنَ
التَّخْذِيل (3) .
ب - الإِْشَاعَةُ:
3 - الإِْشَاعَةُ: لُغَةً الإِْظْهَارُ، وَاصْطِلاَحًا: نَشْرُ
الأَْخْبَارِ الَّتِي يَنْبَغِي سَتْرُهَا، لِشَيْنِ النَّاسِ. وَمِنْهُ
الْحَدِيثُ: أَيُّمَا رَجُلٍ أَشَاعَ عَلَى رَجُلٍ عَوْرَةً لِيَشِينَهُ
بِهَا. . (4)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
4 - الإِْرْجَافُ حَرَامٌ، وَتَرْكُهُ وَاجِبٌ لِمَا فِيهِ مِنَ
الإِْضْرَارِ بِالْمُسْلِمِينَ، وَفَاعِلُهُ يَسْتَحِقُّ التَّعْزِيرَ (5)
.
__________
(1) لسان العرب مادة: رجف.
(2) تفسير القرطبي 14 / 245 ط دار الكتب في تفسير آية / 60 من سورة
الأحزاب، وحاشية الجمل على شرح المنهاج 4 / 95، طبع دار إحياء التراث
العربي - بيروت، والمغني 8 / 351 طبع مكتبة الرياض.
(3) لسان العرب مادة: (تخذيل) ، وأحكام القرآن للجصاص
(4) لسان العرب مادة: (شيع) .
(5) أحكام القرآن للجصاص 3 / 458 طبع المطبعة البهية المصرية، وعدة أرباب
الفتوى ص 82، طبع بولاق سنة 1304 هـ
(3/80)
قَال تَعَالَى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ
الْمُنَافِقُونَ وَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي
الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا
إِلاَّ قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا
تَقْتِيلاً} . (1)
قَال الْقُرْطُبِيُّ: لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ: لأَُسَلِّطَنَّكَ عَلَيْهِمْ
فَتَسْتَأْصِلُهُمْ بِالْقَتْل (2) .
وَبَلَغَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ نَاسًا
مِنَ الْمُنَافِقِينَ يُثَبِّطُونَ النَّاسَ عَنْهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ،
فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ فِي نَفَرٍ مِنْ
أَصْحَابِهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُحَرِّقُوا عَلَيْهِمُ الْبَيْتَ، فَفَعَل
طَلْحَةُ ذَلِكَ. (3)
5 - وَلاَ يَجُوزُ لِلأَْمِيرِ أَنْ يَسْتَصْحِبَ مَعَهُ إِلَى الْجِهَادِ
مُرْجِفًا، وَإِنْ كَانَ الأَْمِيرُ هُوَ أَحَدَ الْمُرْجِفِينَ لَمْ
يُسْتَحَبَّ الْخُرُوجُ مَعَهُ لِلْجِهَادِ (4) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى
{وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيل اقْعُدُوا
مَعَ الْقَاعِدِينَ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً
وَلأََوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} . (5)
وَلَوْ خَرَجَ مُرْجِفٌ مَعَ الْجَيْشِ لاَ يُسْهَمُ لَهُ فِي
الْغَنِيمَةِ، وَلاَ يُرْضَخُ لَهُ مِنْهَا (6) .
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ الإِْرْجَافِ فِي كِتَابِ
الْجِهَادِ، وَفِي قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ.
__________
(1) سورة الأحزاب / 60 - 61
(2) تفسير القرطبي 14 / 246
(3) معين الحكام ص 210 طبع المطبعة الميمنية. والحديث أخرجه ابن هشام في
السيرة 2 / 517، ط مصطفى الحلبي.
(4) حاشية قليوبي 3 / 192، والمغني 8 / 351، طبع مكتبة الرياض الحديثة.
(5) سورة التوبة / 46 - 47
(6) المغني 8 / 351، وحاشية الجمل على شرح المنهاج 4 / 95، وحاشية قليوبي 3
/ 193
(3/81)
أَرْحَامٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْرْحَامُ جَمْعُ رَحِمٍ، وَالرَّحِمُ وَالرَّحْمُ وَالرِّحْمُ
بَيْتُ مَنْبَتِ الْوَلَدِ وَوِعَاؤُهُ، وَمِنَ الْمَجَازِ: الرَّحِمُ
الْقَرَابَةُ، وَفِي التَّهْذِيبِ: بَيْنَهُمَا رَحِمٌ: أَيْ قَرَابَةٌ
قَرِيبَةٌ. وَقَال ابْنُ الأَْثِيرِ: ذَوُو الرَّحِمِ: هُمُ الأَْقَارِبُ
(1) . وَالرَّحِمُ يُوصَفُ بِهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ (2) .
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ - غَيْرُ الْفَرْضِيِّينَ مِنْهُمْ - يُرَادُ بِهِمْ
عِنْدَ الإِْطْلاَقِ الأَْقَارِبُ (3) ، غَيْرَ أَنَّهُ فِي فُرُوعِ بَعْضِ
الْمَذَاهِبِ بَيْنَ الأَْرْحَامِ وَالأَْقَارِبِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ
مُطْلَقٌ، فَمَثَلاً لاَ تَدْخُل قَرَابَةُ الأُْمِّ فِي الْوَقْفِ عَلَى
الْقَرَابَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، بَيْنَمَا لَوْ وَقَفَ عَلَى ذَوِي
رَحِمِهِ يَدْخُل الأَْقَارِبُ مِنَ الْجِهَتَيْنِ (4) . وَهُمْ عِنْدَ
أَهْل الْفَرَائِضِ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ، وَيُرَادُ بِهِمْ " مَنْ لَيْسُوا
بِذَوِي سَهْمٍ وَلاَ عَصَبَةٍ، ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا ". (5)
وَالأَْرْحَامُ وَذَوُو الأَْرْحَامِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ عَلَى أَلْسِنَةِ
الْفُقَهَاءِ (6) .
__________
(1) النهاية لابن الأثير.
(2) شرح الروض 3 / 52
(3) تهانوي 2 / 589، وشرح السراجية ص 265، والخرشي 8 / 176، وكفاية الطالب
الرباني 2 / 339، وبجيرمي على الخطيب 3 / 263، والعذب الفائض 2 / 15
(4) مطالب أولي النهى 4 / 359، 360
(5) شرح السراجية ص 265، وبجيرمي على الخطيب 3 / 263، والعذب الفائض 2 / 15
(6) البحر الرائق 8 / 508، وابن عابدين 5 / 439، وشرح السراجية ص 52،
والتاج والإكليل 6 / 373، وحاشية الرملي على شرح الروض 3 / 52
(3/81)
2 - الرَّحِمُ نَوْعَانِ:
رَحِمٌ مَحْرَمٌ، وَرَحِمُ غَيْرُ مَحْرَمٍ.
وَضَابِطُ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ: كُل شَخْصَيْنِ بَيْنَهُمَا قَرَابَةُ
لَوْ فُرِضَ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا وَالآْخَرُ أُنْثَى لَمْ يَحِل لَهُمَا
أَنْ يَتَنَاكَحَا، كَالآْبَاءِ وَالأُْمَّهَاتِ وَالإِْخْوَةِ
وَالأَْخَوَاتِ وَالأَْجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ وَإِنْ عَلَوْا،
وَالأَْوْلاَدِ وَأَوْلاَدِهِمْ وَإِنْ نَزَلُوا، وَالأَْعْمَامِ
وَالْعَمَّاتِ وَالأَْخْوَال وَالْخَالاَتِ، وَمَنْ عَدَا هَؤُلاَءِ مِنَ
الأَْرْحَامِ، فَلاَ تَتَحَقَّقُ فِيهِمُ الْمَحْرَمِيَّةُ، كَبَنَاتِ
الأَْعْمَامِ وَبَنَاتِ الْعَمَّاتِ وَبَنَاتِ الأَْخْوَال وَبَنَاتِ
الْخَالاَتِ (1) .
الصِّفَةُ (الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ) :
تَتَّصِل بِالأَْرْحَامِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ
مُتَعَلِّقِهَا. وَبَيَانُهَا فِيمَا يَأْتِي:
صِلَةُ الأَْرْحَامِ:
3 - الصِّلَةُ هِيَ فِعْل مَا يُعَدُّ بِهِ الإِْنْسَانُ وَاصِلاً، قَال
ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْثَمِيُّ: " الصِّلَةُ إِيصَال نَوْعٍ مِنَ
الإِْحْسَانِ (2) ".
وَصِلَةُ الرَّحِمِ بِالنِّسْبَةِ لِلأَْبَوَيْنِ، وَغَيْرِهِمَا وَاجِبَةٌ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ (3) ، وَهُوَ
مَا صَوَّبَهُ النَّوَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.
__________
(1) البدائع 5 / 122، والفروق 1 / 147، وكفاية الطالب الرباني 2 / 339،
وشرح الروض 3 / 110، والآداب الشرعية 1 / 507، وفتاوى ابن تيمية 29 / 282،
والفتاوى الهندية 2 / 8،7
(2) البحر الرائق 8 / 508، ونهاية المحتاج 5 / 419، ومغني المحتاج 2 / 405،
وبجيرمي على المنهج 3 / 219، والزواجر لابن حجر 2 / 65
(3) ابن عابدين 5 / 264، وكفاية الطالب الرباني 2 / 339، وفتاوى ابن تيمية
29 / 186، والآداب الشرعية 1 / 507
(3/82)
وَدَلِيل الْوُجُوبِ قَوْل اللَّهِ
سُبْحَانَهُ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ
وَالأَْرْحَامَ} . (1)
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ
بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ
يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ فَلْيَصِل رَحِمَهُ، وَمَنْ
كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ فَلْيَقُل خَيْرًا أَوْ
لِيَصْمُتْ. (2) وَفَصَّل الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ الأَْبَوَيْنِ
وَغَيْرِهِمَا، فَاتَّفَقُوا مَعَ غَيْرِهِمْ عَلَى وُجُوبِ بِرِّ
الْوَالِدَيْنِ وَأَنَّ عُقُوقَهُمَا كَبِيرَةٌ، وَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ
صِلَةَ غَيْرِهِمَا مِنَ الأَْقَارِبِ سُنَّةٌ. عَلَى أَنَّ
الشَّافِعِيَّةَ صَرَّحُوا بِأَنَّ ابْتِدَاءَ فِعْل الْمَعْرُوفِ مَعَ
الأَْقَارِبِ سُنَّةٌ، وَأَنَّ قَطْعَهُ بَعْدَ حُصُولِهِ كَبِيرَةٌ (3) .
صِلَةُ الأَْبَوَيْنِ:
4 - وَصِلَةُ الأُْمِّ مُقَدَّمَةٌ عَلَى صِلَةِ الأَْبِ بِالإِْجْمَاعِ
لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ سَأَلَهُ
مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ : أُمُّكَ ثُمَّ أُمُّكَ ثُمَّ
أُمُّكَ ثُمَّ أَبُوكَ. (4)
وَالتَّعْبِيرُ الْغَالِبُ لِلْفُقَهَاءِ عَنِ الإِْحْسَانِ لِلأَْبَوَيْنِ
بِالْبِرِّ، وَفِي غَيْرِهِمَا مِنَ الأَْقَارِبِ بِالصِّلَةِ، لَكِنَّهُ
قَدْ
__________
(1) سورة النساء / 1، وانظر القرطبي في تفسير هذه الآية، وكفاية الطالب
الرباني 2 / 339
(2) حديث " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه. . . " أخرجه
البخاري (فتح الباري 10 / 445 ط السلفية) ومسلم 1 / 68 (طبع عيسى الحلبي)
من حديث أبي هريرة مرفوعا. وانظر الزواجر 2 / 63، 67
(3) الجمل على المنهج 3 / 599، وبجيرمي على الخطيب 3 / 229، 230
(4) حديث " من أحق الناس بحسن صحابتي؟ . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 10
/ 401 ط السلفية) ومسلم (4 / 1974 - بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي (طبع عيسى
الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وانظر كذلك البجيرمي 3 / 228،
وتحفة المحتاج 6 / 308
(3/82)
يَحْدُثُ الْعَكْسُ فَيَقُولُونَ: صِلَةُ
الأَْبَوَيْنِ، وَبِرُّ الأَْرْحَامِ، وَلَمَّا كَانَتْ أَكْثَرُ أَحْكَامِ
صِلَةِ الْوَالِدَيْنِ مُعَبَّرًا عَنْهَا بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، فَإِنَّ
مَوْطِنَ تَفْصِيلِهَا فِي ذَلِكَ الْمُصْطَلَحِ، مَعَ الْبَيَانِ هُنَا
لِلتَّيْسِيرِ الَّذِي لاَ يُمْكِنُ الاِسْتِغْنَاءُ عَنْهُ مَعَ
التَّفْصِيل لأَِحْكَامِ بَقِيَّةِ الأَْرْحَامِ (1)
صِلَةُ الأَْقَارِبِ:
5 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - فِي قَوْلٍ لَهُمْ - إِلَى أَنَّ الأَْخَ
الأَْكْبَرَ كَالأَْبِ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي حُكْمِ الصِّلَةِ، وَكَذَا
الْجَدُّ، وَإِنْ عَلاَ، وَالأُْخْتُ الْكَبِيرَةُ، وَالْخَالَةُ
كَالأُْمِّ فِي الصِّلَةِ. وَقَرِيبٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ مَا اخْتَارَهُ
الزَّرْكَشِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْعَمِّ
وَالْخَالَةِ، إِذْ يَجْعَل الْعَمَّ بِمَثَابَةِ الأَْبِ، وَالْخَالَةَ
بِمَثَابَةِ الأُْمِّ، لِمَا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْخَالَةَ
بِمَنْزِلَةِ الأُْمِّ، وَأَنَّ عَمَّ الرَّجُل صِنْوُ أَبِيهِ (2) .
لَكِنْ كَلاَمُ الزَّرْكَشِيِّ مُخَالِفٌ لأَِئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ،
لأَِنَّ الْوَالِدَيْنِ اخْتَصَّا مِنَ الرِّعَايَةِ وَالاِحْتِرَامِ
وَالإِْحْسَانِ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ جِدًّا وَغَايَةٍ رَفِيعَةٍ لَمْ يَصِل
إِلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ بَقِيَّةِ الأَْرْحَامِ، وَأَجَابُوا عَمَّا صَحَّ
فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ يَكْفِي التَّشَابُهُ فِي أَمْرٍ مَا
كَالْحَضَانَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْخَالَةِ وَالأُْمِّ، وَالإِْكْرَامِ
بِالنِّسْبَةِ لِلأَْبِ وَالْعَمِّ (3) .
__________
(1) الزواجر 2 / 61، والفروق 1 / 147، وابن عابدين 5 / 264، وفتاوى ابن
تيمية 3 / 224
(2) حديث " عم الرجل صنو أبيه. . . " أخرجه مسلم (2 / 677 - ط عيسى الحلبي)
وأبو داود (عون المعبود 2 / 32 ط المطبعة الأنصارية بدهلي) من حديث أبي
هريرة. وحديث " الخالة بمنزلة الأم. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 /
304 ط السلفية) والترمذي (4 / 313 - ط مصطفى الحلبي) من حديث البراء بن
عازب.
(3) ابن عابدين 5 / 264، والزواجر 2 / 66
(3/83)
مَنْ تُطْلَبُ صِلَتُهُ مِنَ الأَْرْحَامِ:
6 - لِلْعُلَمَاءِ فِي الرَّحِمِ الَّتِي يُطْلَبُ وَصْلُهَا رَأْيَانِ:
الأَْوَّل: أَنَّ الصِّلَةَ خَاصَّةٌ بِالرَّحِمِ الْمَحْرَمِ دُونَ
غَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَغَيْرُ الْمَشْهُورِ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ (1)
،. قَالُوا: لأَِنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ لِجَمِيعِ الأَْقَارِبِ لَوَجَبَ
صِلَةُ جَمِيعِ بَنِي آدَمَ، وَذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ
مِنْ ضَبْطِ ذَلِكَ بِقَرَابَةٍ تَجِبُ صِلَتُهَا وَإِكْرَامُهَا
وَيَحْرُمُ قَطْعُهَا، وَتِلْكَ قَرَابَةُ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ.
وَقَدْ قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ
تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلاَ عَلَى خَالَتِهَا وَلاَ عَلَى
بِنْتِ أَخِيهَا وَأُخْتِهَا، فَإِنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ
قَطَعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ. (2)
الثَّانِي: أَنَّ الصِّلَةَ تُطْلَبُ لِكُل قَرِيبٍ، مَحْرَمًا كَانَ أَوْ
غَيْرَهُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ نَصُّ أَحْمَدَ، وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ
إِطْلاَقِ الشَّافِعِيَّةِ، فَلَمْ يُخَصِّصْهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ
بِالرَّحِمِ الْمَحْرَمِ (3) .
__________
(1) البحر الرائق 8 / 508، والطحطاوي على الدر 4 / 205، والفواكه الدواني 2
/ 385، وكفاية الطالب الرباني 2 / 339، والآداب الشرعية 1 / 507
(2) حديث " لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها. . . " أخرجه أبو داود
(عون المعبود 2 / 183 طبع المطبعة الأنصارية بدهلي) بلفظ مقارب دون "
فإنكم. . . . " إلخ الشطر الأخير، وأصله في الصحيحين. وأخرج الشطر الأخير
منه الطبراني في المعجم الكبير (11 / 337 - نشر وزارة الأوقاف العراقية) ،
وانظر الفروق للقرافي 1 / 147
(3) ابن عابدين 5 / 264، والطحطاوي على الدر 4 / 205، والفواكه الدواني 2 /
385، وكفاية الطالب الرباني 2 / 339، والآداب الشرعية 1 / 507، والبجيرمي 3
/ 229
(3/83)
الصِّلَةُ مَعَ اخْتِلاَفِ الدِّينِ:
7 - لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ صِلَةَ الاِبْنِ الْمُسْلِمِ لأَِبَوَيْهِ
الْكَافِرَيْنِ مَطْلُوبَةٌ (1) . أَمَّا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ
الأَْقَارِبِ الْكُفَّارِ فَلاَ تُطْلَبُ صِلَتُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِ؛
لِقَوْل اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآْخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (2) .
وَدَلِيل اسْتِثْنَاءِ الأَْبَوَيْنِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ
عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا
وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} . (3) ذَهَبَ إِلَى هَذَا
الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (4)
، لَكِنْ نَقَل السَّمَرْقَنْدِيُّ عَنْ سَحْنُونِ بْنِ مُهَمَّدَانَ
التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ فِي الصِّلَةِ.
دَرَجَاتُ الصِّلَةِ:
8 - ذَهَبَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ
دَرَجَاتِ الصِّلَةِ تَتَفَاوَتُ بِالنِّسْبَةِ لِلأَْقَارِبِ، فَهِيَ فِي
الْوَالِدَيْنِ أَشَدُّ مِنَ الْمَحَارِمِ، وَفِيهِمْ أَشَدُّ مِنْ
غَيْرِهِمْ (5) . وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالصِّلَةِ أَنْ تَصِلَهُمْ إِنْ
وَصَلُوكَ؛ لأَِنَّ هَذَا مُكَافَأَةٌ، بَل أَنْ تَصِلَهُمْ وَإِنْ
قَطَعُوكَ (6) . فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ لَيْسَ الْوَاصِل
بِالْمُكَافِئِ وَلَكِنَّ الْوَاصِل الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ
وَصَلَهَا (7)
__________
(1) الفروق 1 / 145، والزواجر 2 / 62، والآداب الشرعية 1 / 487، وتنبيه
الغافلين ص 48، وعمدة القاري 13 / 174
(2) سورة المجادلة / 22
(3) سورة لقمان / 15
(4) الطحطاوي على الدر 4 / 205، والفواكه الدواني 2 / 286، وبجيرمي على
الخطيب 4 / 245، وتنبيه الغافلين ص 48، والعيني 13 / 173، والآداب الشرعية
1 / 487
(5) ابن عابدين 5 / 264، والزواجر 2 / 73
(6) ابن عابدين 5 / 264، وكفاية الطالب الرباني 2 / 339، والزواجر 2 / 76،
وفتاوى ابن تيمية 15 / 349، 350
(7) حديث " ليس الواصل بالمكافئ. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 /
423 ط السلفية) وأبو داود (عون المعبود 2 / 61 طبع المطبعة الأنصارية
بدهلي) من حديث عبد الله بن عمر
(3/84)
بِمَ تَحْصُل الصِّلَةُ؟
9 - تَحْصُل صِلَةُ الأَْرْحَامِ بِأُمُورٍ عَدِيدَةٍ مِنْهَا:
الزِّيَارَةُ، وَالْمُعَاوَنَةُ، وَقَضَاءُ الْحَوَائِجِ، وَالسَّلاَمُ،
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بُلُّوا أَرْحَامَكُمْ
وَلَوْ بِالسَّلاَمِ (1) وَلاَ يَكْفِي مُجَرَّدُ السَّلاَمِ عِنْدَ أَبِي
الْخَطَّابِ (2)
كَمَا تَحْصُل الصِّلَةُ بِالْكِتَابَةِ إِنْ كَانَ غَائِبًا، نَصَّ عَلَى
ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهَذَا فِي
غَيْرِ الأَْبَوَيْنِ، أَمَّا هُمَا فَلاَ تَكْفِي الْكِتَابَةُ إِنْ
طَلَبَا حُضُورَهُ (3) .
وَكَذَلِكَ بَذْل الْمَال لِلأَْقَارِبِ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ صِلَةٌ
لَهُمْ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الصَّدَقَةُ عَلَى
الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ: صَدَقَةٌ،
وَصِلَةٌ (4)
وَظَاهِرُ عِبَارَةِ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْغَنِيَّ
لاَ تَحْصُل صِلَتُهُ بِالزِّيَارَةِ لِقَرِيبِهِ الْمُحْتَاجِ إِنْ كَانَ
قَادِرًا
__________
(1) حديث " بلوا أرحامكم ولو بالسلام " أخرجه البزار والطبراني كما في مجمع
الزوائد (8 / 152 - ط القدسي) . وقال السخاوي في المقاصد الحسنة: طرقه يقوي
بعضها بعضا.
(2) الطحطاوي على الدر 4 / 205، وكفاية الطالب الرباني 2 / 339، ونهاية
المحتاج 2 / 76، والآداب الشرعية 1 / 507 والفواكه الدواني 2 / 386
(3) الطحطاوي على الدر 4 / 206، الفواكه الدواني 2 / 386، وكفاية الطالب
الرباني 2 / 339، والبجيرمي على الخطيب 3 / 229
(4) حديث: " الصدقة على المسكين. . . " أخرجه الترمذي (3 / 38 - طبع مصطفى
الحلبي) وحسنه، وأحمد (4 / 17 - ط الميمنية) ، والحاكم (1 / 407 ط حيدر
آباد الدكن) وصححه، من حديث كمال بن عامر.
(3/84)
عَلَى بَذْل الْمَال لَهُ (1) . وَيَدْخُل
فِي الصِّلَةِ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الإِْحْسَانِ مِمَّا تَتَأَتَّى بِهِ
الصِّلَةُ (2)
حِكْمَةُ تَشْرِيعِ الصِّلَةِ:
10 - فِي صِلَةِ الرَّحِمِ حِكَمٌ جَلِيلَةٌ، عَبَّرَ عَنْ أَهَمِّهَا
حَدِيثُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَرَّهُ
أَنْ يُبْسَطَ لَهُ رِزْقُهُ، أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِل
رَحِمَهُ (3) وَمِنَ الْفَوَائِدِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا
الْفُقَهَاءُ: رَضِيَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْهُمْ؛ لأَِنَّهُ
أَمَرَ بِصِلَةِ الرَّحِمِ، وَإِدْخَال السُّرُورِ عَلَى الأَْرْحَامِ.
وَمِنْهَا زِيَادَةُ الْمُرُوءَةِ، وَزِيَادَةُ الأَْجْرِ بَعْدَ
الْمَوْتِ؛ لأَِنَّهُمْ يَدْعُونَ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ كُلَّمَا ذَكَرُوا
إِحْسَانَهُ (4) .
قَطْعُ الرَّحِمِ:
11 - بَيَّنَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْثَمِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ مَا
يَكُونُ بِهِ قَطْعُ الرَّحِمِ، وَوَافَقَهُ صَاحِبُ تَهْذِيبِ الْفُرُوقِ
مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.
__________
(1) الطحطاوي على الدر 4 / 205، والفواكه الدواني 2 / 385، وكفاية الطالب
الرباني 2 / 339، وحاشية الجمل على المنهج 3 / 599، وبجيرمي على الخطيب 3 /
229، والمغني مع الشرح الكبير 2 / 705، وكشاف القناع 4 / 252
(2) شرح روض الطالب 2 / 486، وكفاية الطالب 2 / 339، وابن عابدين 5 / 264
(3) حديث " من سره أن يبسط له رزقه. . . " أخرجه مسلم (4 / 1982 ط - عيسى
الحلبي) من حديث أنس، وأخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 415 ط السلفية) من
حديثه كذلك بلفظ مقارب.
(4) ابن عابدين 5 / 264، وكفاية الطالب الرباني 2 / 339، وحاشية الطحطاوي
على الدر 4 / 206، وبجيرمي على الخطيب 3 / 230، وتنبيه الغافلين ص 49،
والفروق للقرافي 1 / 147، والفواكه الدواني 2 / 276
(3/85)
وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ حَجَرٍ فِيهِ
رَأْيَيْنِ:
أَحَدَهُمَا: الإِْسَاءَةُ إِلَى الأَْرْحَامِ.
الثَّانِيَ: يَتَعَدَّى إِلَى تَرْكِ الإِْحْسَانِ، فَقَطْعُ الْمُكَلَّفِ
مَا أَلِفَهُ قَرِيبُهُ مِنْهُ مِنْ سَابِقِ الصِّلَةِ وَالإِْحْسَانِ
لِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَطَعَ رَحِمَهُ،
وَقَدْ عَدَّهُ بَعْضُهُمْ كَبِيرَةً كَمَا سَبَقَ (1) .
وَالأَْعْذَارُ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ نَوْعِ الصِّلَةِ، فَعُذْرُ تَرْكِ
الزِّيَارَةِ ضَبَطَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِالْعُذْرِ
الَّذِي تُتْرَكُ بِهِ صَلاَةُ الْجُمُعَةِ، بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا
مِنْهُمَا فَرْضُ عَيْنٍ وَتَرْكُهُ كَبِيرَةٌ، وَإِنْ كَانَتِ الصِّلَةُ
بِبَذْل الْمَال، فَلَمْ يَبْذُلْهُ لِشِدَّةِ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ، أَوْ
فَقْدِهِ، أَوْ قَدَّمَ غَيْرَ الْقَرِيبِ امْتِثَالاً لأَِمْرِ الشَّرْعِ،
كَانَ ذَلِكَ عُذْرًا (2) . وَعُذْرُ الْمُرَاسَلَةِ وَالْكِتَابَةِ أَلاَّ
يَجِدَ مَنْ يَثِقُ بِهِ فِي أَدَاءِ الرِّسَالَةِ (3) .
وَمِنَ الأَْعْذَارِ الَّتِي زَادَهَا الْمَالِكِيَّةُ تَكَبُّرُ
الْقَرِيبِ الْغَنِيِّ عَلَى قَرِيبِهِ الْفَقِيرِ، فَلاَ صِلَةَ عَلَى
الْفَقِيرِ حِينَئِذٍ (4) .
حُكْمُ قَطْعِ الرَّحِمِ:
12 - قَطْعُ الرَّحِمِ الْمَأْمُورِ بِوَصْلِهَا حَرَامٌ بِاتِّفَاقٍ (5) ،
لِقَوْل اللَّهِ سُبْحَانَهُ {وَاَلَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ
مِنْ
__________
(1) الزواجر 2 / 78، 79، وتهذيب الفروق 1 / 159، وتحفة المحتاج 6 / 308
(2) الزواجر 2 / 79، وتهذيب الفروق 1 / 160، وما بعدها، والطحطاوي على الدر
4 / 205
(3) الزواجر 2 / 80، والفواكه الدواني 2 / 386، وتهذيب الفروق 1 / 160
(4) الفواكه الدواني 2 / 386
(5) تنبيه الغافلين ص 47، والفواكه الدواني 2 / 386، وحاشية الشربيني على
شرح البهجة 3 / 393، وتهذيب الفروق 1 / 160، والزواجر 2 / 62، وفتاوى ابن
تيمية 3 / 425، وحاشية ابن عابدين 5 / 264
(3/85)
بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا
أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَل وَيُفْسِدُونَ فِي الأَْرْضِ أُولَئِكَ
لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} . (1)
تَقْدِيمُ الأَْرْحَامِ فِيمَا يَلْزَمُ الْمَيِّتَ:
13 - أَغْلَبُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ ذَوِي الأَْرْحَامِ يُقَدَّمُونَ
عَلَى غَيْرِهِمْ فِي الأُْمُورِ الَّتِي تَجِبُ لِلْمَيِّتِ مِنْ غُسْلٍ
وَصَلاَةٍ عَلَيْهِ، وَدَفْنٍ. إِلاَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ يُقَدِّمُ
الزَّوْجَيْنِ عَلَى الأَْقَارِبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَدِّمُ الْوَصِيَّ
عَلَيْهِمْ (2) ، وَقَدْ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي الصَّلاَةِ عَلَيْهِ
وَفِي الْغُسْل وَالدَّفْنِ، وَتَفْصِيل هَذِهِ الأَْحْكَامِ يَذْكُرُهُ
الْفُقَهَاءُ فِي مُصْطَلَحِ الْجَنَائِزِ.
الْهِبَةُ لِلأَْرْحَامِ:
14 - لَوْ وَهَبَ إِنْسَانٌ لِرَحِمِهِ، وَأَرَادَ الرُّجُوعَ فِيمَا
وَهَبَهُ بَعْدَ قَبْضِهِ، فَفِي غَيْرِ الْفُرُوعِ يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ
بِاتِّفَاقٍ، أَمَّا الْفُرُوعُ فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِمْ ثَلاَثَةُ آرَاءٍ:
أ - مَنْعُ الرُّجُوعِ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ
عَنْ أَحْمَدَ (3) ، لِحَدِيثِ الْحَاكِمِ مَرْفُوعًا: إِذَا كَانَتِ
الْهِبَةُ لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ لَمْ يَرْجِعْ فِيهَا وَصَحَّحَهُ وَقَال
عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ (4) .
__________
(1) سورة الرعد / 25
(2) انظر الفتاوى الهندية 1 / 160 وما بعدها، وابن عابدين 1 / 806، ومواهب
الجليل 2 / 212، ومغني المحتاج 1 / 329، وكشاف القناع 1 / 379
(3) البحر 7 / 320، والعناية على الهداية 7 / 134، والفتاوى المهدية 4 /
582، والمغني مع الشرح الكبير 6 / 271
(4) حديث: " إذا كانت الهبة لذي رحم محرم لم يرجع فيها " أخرجه الدارقطني
(3 / 44 - ط دار المحاسن بالقاهرة) والحاكم (2 / 52 ط حيدر آباد الدكن) ،
والبيهقي (6 / 181 - ط حيدر آباد الدكن) من حديث سحرة، وقال البيهقي: " لم
نكتبه إلا بهذا الإسناد وليس بالقوي "
(3/86)
ب - جَوَازُ الرُّجُوعِ لِلأَْبِ
وَلِسَائِرِ الأُْصُول، إِذَا بَقِيَ الْمَوْهُوبُ فِي سُلْطَةِ
الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ (1) ، لِلْحَدِيثِ
الصَّحِيحِ: لاَ يَحِل لِرَجُلٍ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً أَوْ يَهَبَ
هِبَةً فَيَرْجِعَ فِيهَا إِلاَّ الْوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ. (2)
وَفِي شَرْحِ الرَّوْضِ كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ، إِنْ سَوَّى بَيْنَ
أَوْلاَدِهِ فِي الْعَطِيَّةِ.
ج - جَوَازُ الرُّجُوعِ بِالنِّسْبَةِ لِلأَْبِ وَالأُْمِّ دُونَ
غَيْرِهِمَا، وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّ الأُْمَّ لاَ
تَعْتَصِرُ (تَرْجِعُ) إِلاَّ مِنَ الْكَبِيرِ الْبَالِغِ، وَمِنَ
الصَّغِيرِ إِنْ كَانَ أَبُوهُ حَيًّا، فَإِنْ تَيَتَّمَ بَعْدَ الْهِبَةِ
فَفِي الرُّجُوعِ وَجْهَانِ، وَهَذَا مَا لَمْ يَقُل الْوَاهِبُ: هِيَ
لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ يَجْعَلُهَا صِلَةَ رَحِمٍ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ
امْتَنَعَ الرُّجُوعُ (3) . وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ كَالْمَالِكِيَّةِ
بِالنِّسْبَةِ لِلأَْبِ، وَظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ كَذَلِكَ
بِالنِّسْبَةِ لِلأُْمِّ، لَكِنِ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ
لَيْسَ لَهَا الرُّجُوعُ (4) . وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلاَتٌ أُخْرَى فِي
أَصْل الْحُكْمِ وَمُسْتَثْنَيَاتِهِ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي (الْهِبَةِ) .
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 414، 415، والشرواني على التحفة 6 / 309، وشرح الروض
2 / 483
(2) حديث: " لا يحل لرجل أن يعطي عطية. . . " أخرجه أبو داود (عون المعبود
3 / 315 - ط المطبعة الأنصارية بدهلي) وابن ماجه (2237 - ط عيسى الحلبي) من
حديث ابن عباس وعبد الله بن عمرو. وقال ابن حجر: " رجاله ثقات " (فتح
الباري 5 / 211 - ط السلفية)
(3) بلغة السالك 2 / 317، واقتصر الرهوني والخرشي على المنع بالنسبة لليتيم
(الرهوني 7 / 331، والخرشي 7 / 113، 114)
(4) المغني مع الشرح 6 / 1 27 - 273
(3/86)
إِرْثُ الأَْرْحَامِ:
15 - الرَّحِمُ فِي الْفَرَائِضِ: هِيَ كُل قَرِيبٍ لَيْسَ بِذِي فَرْضٍ
وَلاَ عَصَبَةٍ (1) . وَيَرِثُونَ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ عَاصِبٍ أَوْ
صَاحِبِ فَرْضٍ يُرَدُّ عَلَيْهِ، وَيُقَدَّمُونَ عَلَى بَيْتِ الْمَال
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مَا أَخَذَ بِهِ
مُتَأَخِّرُو كُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِنْ لَمْ
يَنْتَظِمْ بَيْتُ الْمَال (2) .
وَلِلْعُلَمَاءِ فِي تَوْرِيثِهِمْ مَذْهَبَانِ مَشْهُورَانِ: مَذْهَبُ
أَهْل التَّنْزِيل، وَمَذْهَبُ أَهْل الْقَرَابَةِ. وَهُنَاكَ مَذْهَبٌ
ثَالِثٌ يُسَمَّى أَهْل الرَّحِمِ، وَقَدْ هَجَرَهُ الْفُقَهَاءُ.
وَكَيْفِيَّةُ تَوْرِيثِهِمْ ذُكِرَتْ فِي مُصْطَلَحِ (إِرْث) . (3)
الْوَصِيَّةُ لِلأَْرْحَامِ:
16 - الْوَصِيَّةُ لِذَوِي الأَْرْحَامِ غَيْرِ الْوَارِثِينَ جَائِزَةٌ
اتِّفَاقًا.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مَنْ أَوْصَى لأَِرْحَامِهِ غَيْرِ
الْوَارِثِينَ يَدْخُل الْوَالِدَانِ وَالْوَلَدُ إِذَا كَانُوا
مَمْنُوعِينَ مِنَ الْمِيرَاثِ؛ لأَِنَّ الْمَمْنُوعَ شَرْعًا هُوَ
الْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يَدْخُلُونَ؛
لأَِنَّ كُلًّا مِنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدِ لاَ يُطْلَقُ عَلَيْهِمْ
(عُرْفًا) أَنَّهُمْ أَقَارِبُ، وَلَوْ أُطْلِقَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ كَانَ
عُقُوقًا.
__________
(1) شرح السراجية ص 265، والشرح الصغير 4 / 430، والدسوقي 4 / 468
(2) حاشية الجمل على المنهج 4 / 10، والبجيرمي على الخطيب 3 / 263، وكشاف
القناع 4 / 383، والعذب الفائض 2 / 15، وشرح السراجية ص 52 والدسوقي على
الدردير 4 / 468، والشرح الصغير 4 / 430
(3) البجيرمي على الخطيب 3 / 263، والعذب الفائض 2 / 17، 18، الدسوقي على
الدردير 4 / 468، والشرح الصغير 4 / 430
(3/87)
وَيَدْخُل الْجَدُّ مُطْلَقًا عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) غَيْرَ أَنَّ الْقَائِلِينَ
بِدُخُول الْجَدِّ اخْتَلَفُوا فِي حَدِّهِ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ ثَلاَثَةُ
آرَاءٍ.
أ - دُخُول أَقْرَبِ جَدٍّ يُنْسَبُ إِلَيْهِ الإِْنْسَانُ، وَهُوَ قَوْل
الشَّافِعِيَّةِ (2) .
ب - دُخُول جَدِّ الأَْبِ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مَا صَرَفَ
إِلَيْهِ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، إِذْ
قَالاَ: تُصْرَفُ إِلَى أَقْصَى جَدٍّ لَهُ فِي الإِْسْلاَمِ. وَقَال
فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي الزَّمَانِ، حِينَ لَمْ
يَكُنْ فِي أَقْرِبَاءِ الإِْنْسَانِ الَّذِينَ يُنْسَبُونَ إِلَى أَقْرَبِ
أَبٍ لَهُ فِي الإِْسْلاَمِ كَثْرَةٌ، وَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَفِيهِمْ
كَثْرَةٌ لاَ يُمْكِنُ إِحْصَاؤُهُمْ، فَتُصْرَفُ الْوَصِيَّةُ إِلَى
أَوْلاَدِ أَبِيهِ وَجَدِّهِ وَجَدِّ أَبِيهِ وَأَوْلاَدِ أُمِّهِ وَجَدِّ
أُمِّهِ وَجَدَّتِهِ وَجَدَّةِ أُمِّهِ. وَلاَ يُصْرَفُ إِلَى أَكْثَرَ
مِنْ ذَلِكَ.
ج - تَجَاوُزُ الْجَدِّ الرَّابِعِ وَهُوَ رِوَايَةٌ لِلْحَنَابِلَةِ (3) .
وَأَوْلاَدُ مَنْ ذُكِرَ مِنَ الأَْجْدَادِ يَدْخُلُونَ فِي الأَْرْحَامِ
(4) .
وَالأَْحْفَادُ كَالأَْجْدَادِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - عَلَى الْخِلاَفِ
السَّابِقِ - وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ
كَلاَمِ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 439، والبحر الرائق 8 / 508، والحطاب 6 / 373، الفواكه
الدواني 2 / 331، وشرح الروض 3 / 52، والشرواني على التحفة 7 / 58، والخرشي
5 / 418، والطحطاوي على الدر 4 / 331
(2) تحفة المحتاج مع حاشيتي الشرواني وابن قاسم العبادي 7 / 58
(3) المغني مع الشرح الكبير 6 / 549، 550، والبحر الرائق 8 / 508
(4) البحر الرائق 8 / 508، والخرشي 5 / 418، وشرح الروض 3 / 53، والمغني مع
الشرح الكبير 6 / 549، ومطالب أولي النهى 4 / 359
(3/87)
الْمَالِكِيَّةِ عَدَمُ دُخُولِهِمْ فِي
الأَْرْحَامِ (1) .
17 - وَيَسْتَوِي فِي الْوَصِيَّةِ لِلأَْرْحَامِ - إِنْ كَانُوا
مَحْصُورِينَ - الذَّكَرُ وَالأُْنْثَى مَعَ وُجُوبِ اسْتِيعَابِهِمْ
بِاتِّفَاقٍ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُونُوا مَحْصُورِينَ فَفِي ذَلِكَ
خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي الْوَصِيَّةِ.
وَلاَ فَرْقَ فِيهَا بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ
الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: يُقَدَّمُ الأَْقْرَبُ فَالأَْقْرَبُ مِنَ
الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، وَلَوْ عَدِمَ رَحِمَهُ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ
عِنْدَهُ، وَلَوْ وُجِدَ وَاحِدٌ أَخَذَ نِصْفَهَا.
وَالْغَنِيُّ كَالْفَقِيرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ،
وَالْحَنَابِلَةِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ كَانَ فِيهِمْ مُحْتَاجٌ، أَوْ أَحْوَجُ
وَجَبَ إِيثَارُهُ، أَيْ زِيَادَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ وَسَوَاءٌ أَكَانَ
ذَلِكَ الْمُحْتَاجُ أَقْرَبَ أَمْ أَبْعَدَ (2) .
18 - وَإِذَا وُجِدَتْ قَرَابَةُ الأُْمِّ مَعَ قَرَابَةِ الأَْبِ
فَالْفُقَهَاءُ فِي الاِسْتِوَاءِ وَعَدَمِهِ عَلَى رَأْيَيْنِ:
الأَْوَّل: اسْتِوَاؤُهُمَا مَعَ قَرَابَةِ الأَْبِ، وَهُوَ قَوْل
الْحَنَفِيَّةِ، وَأَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل
الشَّافِعِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِوَصِيَّةِ غَيْرِ الْعَرَبِ،
وَالْمُعْتَمَدُ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِهِمْ بِالنِّسْبَةِ لِوَصِيَّةِ
الْعَرَبِ؛ لأَِنَّ الْعَرَبَ يَفْتَخِرُونَ بِالأُْمِّ، فَقَدْ صَحَّ
أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال عَنْ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 264، والتاج والإكليل 6 / 373، وشرح الروض 3 / 53
والمغني مع الشرح الكبير 6 / 549، ومطالب أولي النهى 4 / 359
(2) الطحطاوي على الدر 4 / 331، والبحر الرائق 8 / 508، وبلغة السالك 4 /
470، والدسوقي على الدردير 4 / 426، 432، وشرح الروض 3 / 52، وكشاف القناع
4 / 243، ابن عابدين 5 / 439، والحطاب 6 / 373، والشرح الصغير 4 / 592،
والمغني مع الشرح الكبير 6 / 533، 549.
(3/88)
سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: سَعْدٌ خَالِي
فَلْيُرِنِي امْرُؤٌ خَالَهُ. (1)
وَاسْتِوَاءُ قَرَابَةِ الأُْمِّ قَوْل الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا، إِنْ كَانَ
يَصِلُهُمْ فِي حَيَاتِهِ.
الثَّانِي: الْمَنْعُ مِنْ دُخُول قَرَابَةِ الأُْمِّ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ
الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ وُجِدَتْ قَرَابَةٌ لِلْمُوصِي مِنْ
جِهَةِ الأَْبِ غَيْرُ وَارِثَةٍ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ بَعْضِ
الشَّافِعِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِوَصِيَّةِ الْعَرَبِ؛ لأَِنَّ الْعَرَبَ
لاَ يَفْتَخِرُونَ بِالأُْمِّ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَابِلَةِ إِنْ كَانَ
يَصِلُهُمْ فِي حَيَاتِهِ (2) .
وَلاَ يَدْخُل الْوَارِثُ بِالْفِعْل إِنْ أَوْصَى لأَِرْحَامِ نَفْسِهِ
(3) ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ،
وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ، وَقِيل يَدْخُل؛ لِوُقُوعِ الاِسْمِ
عَلَيْهِ ثُمَّ يَبْطُل نَصِيبُهُ لِتَعَذُّرِ إِجَازَتِهِ لِنَفْسِهِ،
وَيُصْبِحُ الْبَاقِي لِغَيْرِهِ، وَقِيل يَدْخُل وَيُعْطَى نَصِيبُهُ،
فَإِنْ مَنَعَ فَلاَ يَدْخُل أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَيَدْخُل
عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ
كَلاَمِ الشَّافِعِيَّةِ السَّابِقِ (4) .
__________
(1) حديث " سعد خالي، فليرني امرؤ خاله " أخرجه الترمذي (تحفة الأحوذي 10 /
254 - ط مطبعة الاعتماد بمصر) والحاكم (3 / 498 - ط حيدر آباد الدكن)
وصححه.
(2) البحر الرائق 8 / 508، والدسوقي على الدردير 4 / 432، والشرواني على
التحفة 7 / 58، وشرح الروض 3 / 52، والمغني مع الشرح الكبير 6 / 549
(3) طحطاوي على الدر 4 / 330، والبحر الرائق 8 / 507، وابن عابدين 5 / 439،
والخرشي 5 / 418، والدسوقي على الدردير 4 / 432، وشرح الروض 3 / 54، ومطالب
أولي النهى 4 / 482، وكشاف القناع 4 / 306، والشرواني على التحفة 7 / 57
(4) ابن عابدين 5 / 439، والخرشي 5 / 418، والجمل على المنهج 4 / 61،
ومطالب أولي النهى 4 / 482، وكشاف القناع 4 / 306
(3/88)
الْمُحَرَّمَاتُ مِنَ الأَْرْحَامِ:
19 - الْقَرَابَةُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ تَحْرِيمِ النِّكَاحِ فِي
الْجُمْلَةِ، وَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل أَقَارِبُهُ إِلاَّ أَرْبَعَةً.
بَنَاتَ كُلٍّ مِنْ أَعْمَامِهِ، وَأَخْوَالِهِ، وَعَمَّاتِهِ،
وَخَالاَتِهِ (1) . وَبَيَانُ الْمُحَرَّمَاتِ تَفْصِيلاً، وَأَدِلَّةُ
التَّحْرِيمِ يَأْتِي ذِكْرُهَا فِي (نِكَاحِ) الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ
النِّكَاحِ.
نَفَقَةُ الأَْرْحَامِ:
20 - تَجِبُ نَفَقَةُ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الأَْوْلاَدِ، وَنَفَقَةُ
الأَْوْلاَدِ عَلَى الْوَالِدَيْنِ بِاتِّفَاقٍ، وَكَذَلِكَ تَجِبُ
لِلأَْجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ وَالأَْحْفَادِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَصَرَهَا الْمَالِكِيَّةُ عَلَى
الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ فَقَطْ؛ لأَِنَّ الْجَدَّ لَيْسَ بِأَبٍ حَقِيقِيٍّ
وَكَذَلِكَ وَلَدُ الْوَلَدِ. أَمَّا بَقِيَّةُ الأَْرْحَامِ غَيْرِ
الأُْصُول وَالْفُرُوعِ، فَلاَ تَجِبُ لَهُمْ نَفَقَةٌ وَلاَ تَلْزَمُهُمْ
إِلاَّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، غَيْرَ أَنَّ
الْحَنَفِيَّةَ أَوْجَبُوهَا لِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ دُونَ غَيْرِهِ،
وَتَوَسَّعَ الْحَنَابِلَةُ فِي ذَلِكَ فَأَوْجَبُوهَا لِكُل وَارِثٍ،
وَفِي غَيْرِ الْوَارِثِ رِوَايَتَانِ، هَذَا إِنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِ
ذَوِي الأَْرْحَامِ الَّذِينَ لاَ يَرِثُونَ بِفَرْضٍ وَلاَ تَعْصِيبٍ،
فَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ فَلاَ تَجِبُ لَهُ نَفَقَةٌ، وَلاَ تَلْزَمُهُ
إِلاَّ عِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ عِنْدَ عَدَمِ
الْعَصَبَةِ وَأَصْحَابِ الْفُرُوضِ (2) .
وَأَدِلَّةُ نَفَقَةِ الأَْرْحَامِ وَشُرُوطُهَا وَمِقْدَارُهَا
وَسُقُوطُهَا
__________
(1) فتاوى ابن تيمية 29 / 282، وابن عابدين 2 / 276، والحطاب 4 / 211
(2) ابن عابدين 2 / 644، والحطاب 4 / 211، وبلغة السالك 1 / 525، 526،
والبجيرمي على الخطيب 4 / 66، وكشاف القناع 3 / 310، والمغني 7 / 582 وما
بعدها نشر مكتبة الرياض.
(3/89)
وَبَقِيَّةُ أَحْكَامِهَا تَأْتِي فِي
مُصْطَلَحِ (نَفَقَةِ الأَْقَارِبِ) .
النَّظَرُ وَاللَّمْسُ وَالْخَلْوَةُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَحَارِمِ:
21 - الرَّحِمُ غَيْرُ الْمَحْرَمِ كَالأَْجْنَبِيِّ فِي النَّظَرِ
وَاللَّمْسِ وَالْخَلْوَةِ (ر: أَجْنَبِيٌّ) .
أَمَّا الْمَحَارِمُ مِنَ الأَْرْحَامِ فَلِلْفُقَهَاءِ فِي نَظَرِ
الرِّجَال إِلَى النِّسَاءِ - مَا لَمْ يَكُنْ بِشَهْوَةٍ - ثَلاَثَةُ
آرَاءٍ:
أ - جَوَازُ النَّظَرِ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِ الْمَرْأَةِ، عَدَا مَا بَيْنَ
السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ،
وَلِلْحَنَابِلَةِ فِيهِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ (1) .
ب - جَوَازُ النَّظَرِ إِلَى الذِّرَاعَيْنِ وَالشَّعْرِ وَمَا فَوْقَ
النَّحْرِ، وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ (2)
ج - جَوَازُ النَّظَرِ إِلَى الْوَجْهِ وَالرَّقَبَةِ وَالْيَدِ
وَالْقَدَمِ وَالرَّأْسِ وَالسَّاقِ، وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَابِلَةِ (3) ،
وَيُكْرَهُ عِنْدَهُمْ النَّظَرُ إِلَى السَّاقِ وَالصَّدْرِ لِلتَّوَقِّي
لاَ لِلتَّحْرِيمِ.
د - جَوَازُ النَّظَرِ إِلَى الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ وَالصَّدْرِ وَالسَّاقِ
وَالْعَضُدِ وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ (4) .
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنَ الرَّجُل
فَهُوَ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ. وَلِكُلٍّ مِنَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ قَوْلٌ آخَرُ، هُوَ الصَّحِيحُ
عِنْدَهُمَا، أَنَّهَا لاَ يَجُوزُ أَنْ تَنْظُرَ مِنْهُ إِلاَّ مَا
يَجُوزُ لِلرَّجُل أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ
__________
(1) شرح الروض 3 / 110، 111، فتاوى ابن تيمية 15 / 413، والمغني 7 / 455
(2) الحطاب 1 / 500
(3) المغني مع الشرح الكبير 7 / 455، مطالب أولي النهى 5 / 12
(4) ابن عابدين 5 / 235، والبدائع 5 / 120
(3/89)
مِنْ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، وَيَجُوزُ
النَّظَرُ إِلَى مَا دُونَ ذَلِكَ (1) .
وَكُل مَا حَرُمَ نَظَرُهُ حَرُمَ مَسُّهُ، لأَِنَّهُ أَبْلَغُ فِي
اللَّذَّةِ (2) . وَتَجُوزُ الْخَلْوَةُ بِالْمَحَارِمِ بِاتِّفَاقٍ (3) .
وَتَفَاصِيل هَذِهِ الأَْحْكَامِ تَأْتِي فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.
وِلاَيَةُ الأَْرْحَامِ لِلنِّكَاحِ:
22 - الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَمُحَمَّدُ
بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ الأَْرْحَامَ - غَيْرَ
الْعَصَبَةِ - لَيْسَ لَهُمْ حَقٌّ فِي وِلاَيَةِ النِّكَاحِ.
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُمْ يَلُونَ
عَقْدَ النِّكَاحِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَصَبَةِ (4) .
وَبَيَانُهُمْ وَتَرْتِيبُهُمْ فِي الْوِلاَيَةِ يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ
نِكَاح (وِلاَيَتُهُ) .
الرَّحِمِيَّةُ فِي الْحُدُودِ وَالتَّعَازِيرِ:
23 - أَحْيَانًا تَكُونُ الرَّحِمِيَّةُ سَبَبًا فِي تَشْدِيدِ
الْعُقُوبَةِ، كَمَا فِي قَتْل ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، وَأَحْيَانًا
تَكُونُ سَبَبًا فِي رَفْعِهَا، كَمَا لَوْ قَتَل الأَْبُ وَلَدَهُ أَوْ
قَذَفَهُ، وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ اُنْظُرْ: (قِصَاص، زِنا، قَذْف، سَرِقَة) .
__________
(1) البدائع 5 / 122، وشرح الروض 3 / 110، ومطالب أولي النهى 5 / 15، وبلغة
السالك 1 / 106، والحطاب 1 / 501، والمغني 6 / 563 ط الرياض.
(2) المراجع السابقة.
(3) بلغة السالك 1 / 106، وشرح الروض 3 / 110، ومطالب أولي النهى 5 / 22
(4) ابن عابدين 2 / 312، 313، والفواكه الدواني 2 / 31، وكفاية الطالب
الرباني 2 / 39، والبجيرمي على الخطيب 3 / 342، ومطالب أولي النهى 5 / 261
(3/90)
شَهَادَةُ ذَوِي الأَْرْحَامِ وَالْقَضَاءُ
لَهُمْ:
24 - لاَ تُقْبَل شَهَادَةُ أَصْلٍ لِفَرْعِهِ، وَلاَ فَرْعٍ لأَِصْلِهِ؛
لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَمِيل بِطَبْعِهِ لِلآْخَرِ، وَلِحَدِيثِ:
فَاطِمَةُ بِضْعَةٌ مِنِّي، يَرِيبُنِي مَا أَرَابَهَا. (1)
أَمَّا بَقِيَّةُ الأَْرْحَامِ فَتُقْبَل شَهَادَتُهُمْ، غَيْرَ أَنَّ
الْمَالِكِيَّةَ اشْتَرَطُوا لِقَبُول شَهَادَةِ الأَْخِ أَنْ يَكُونَ
مُبْرِزًا فِي الْعَدَالَةِ، وَأَلاَّ يَكُونَ فِي عِيَال مَنْ يَشْهَدُ
لَهُ، وَأَلاَّ تَكُونَ الشَّهَادَةُ فِي جُرْحٍ فِيهِ قِصَاصٌ (2) .
وَلاَ يَقْضِي الْقَاضِي لِمَنْ لاَ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ، نَصَّ عَلَى
ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ
الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَيَجُوزُ قَضَاؤُهُ لِبَاقِي
أَقَارِبِهِ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: لاَ يَقْضِي
لِلْعَمِّ، إِلاَّ إِنْ كَانَ مُبْرِزًا فِي الْعَدَالَةِ (3) . وَمُقَابِل
الصَّحِيحِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ جَوَازُ الْقَضَاءِ لِمَنْ يَشْهَدُ
لَهُ، قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ. وَقِيل: يَجُوزُ بَيْنَ وَالِدَيْهِ
وَوَلَدِهِ (4) .
عِتْقُ الأَْرْحَامِ
25 - الْمَذَاهِبُ الأَْرْبَعَةُ عَلَى أَنَّ الْوَالِدَيْنِ - وَإِنْ
عَلَوْا - يُعْتَقُونَ عَلَى الْمَوْلُودِينَ بِالتَّمَلُّكِ، وَأَنَّ
الْمَوْلُودِينَ - وَإِنْ نَزَلُوا - يُعْتَقُونَ عَلَى الْوَالِدَيْنِ،
وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الذَّكَرُ وَالأُْنْثَى، وَالْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ
__________
(1) حديث " فاطمة بضعة مني، يريبني ما أرابها " أخرجه البخاري (فتح الباري
9 / 327 ط السلفية) .
(2) ابن عابدين 4 / 380، والفتاوى الهندية 3 / 370، والدسوقي 4 / 168، 169،
ونهاية المحتاج 8 / 244، والمحرر 2 / 303، ومطالب أولي النهى 6 / 625
(3) المراجع السابقة، وتبصرة الحكام 1 / 81
(4) الإنصاف 11 / 216
(3/90)
؛ لأَِنَّهُ حُكْمٌ مُتَعَلِّقٌ
بِالْقَرَابَةِ، فَاسْتَوَى فِيهِ الْجَمِيعُ (1) . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى
وُجُوبِ إِعْتَاقِ الْوَالِدَيْنِ بِقَوْل اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {وَاخْفِضْ
لَهُمَا جَنَاحَ الذُّل مِنَ الرَّحْمَةِ} (2) الآْيَةَ، وَلاَ يَتَأَتَّى
خَفْضُ الْجَنَاحِ مَعَ الاِسْتِرْقَاقِ، وَعَلَى عِتْقِ الْمَوْلُودِينَ
بِقَوْل اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ
يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُل مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضِ إِلاَّ آتِي
الرَّحْمَنِ عَبْدًا} (3) الآْيَةَ.
وَيَقُول سُبْحَانَهُ: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} (4)
الآْيَةَ، دَل كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى نَفْيِ اجْتِمَاعِ الْوَلَدِيَّةِ
وَالْعَبْدِيَّةِ (5) .
أَمَّا بَقِيَّةُ الأَْرْحَامِ غَيْرِ الأُْصُول وَالْفُرُوعِ
فَلِلْعُلَمَاءِ فِي عِتْقِهِمْ عِنْدَ تَمَلُّكِهِمْ ثَلاَثَةُ آرَاءٍ.
الأَْوَّل: عِتْقُ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، وَهُوَ مَذْهَبُ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَمَنْ مَلَكَ قَرِيبًا ذَا رَحِمٍ
مَحْرَمٍ عَتَقَ عَلَيْهِ. وَصِفَةُ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ أَنْ
يَكُونَ قَرِيبًا حَرُمَ نِكَاحُهُ (6) . وَالْمَحْرَمُ بِلاَ رَحِمٍ
كَأَنْ يَمْلِكَ زَوْجَةَ ابْنِهِ أَوْ أَبِيهِ لاَ يُعْتَقُ عَلَيْهِ،
وَكَذَا الرَّحِمُ بِلاَ مَحْرَمٍ، كَبَنِي الأَْعْمَامِ وَالأَْخْوَال.
الثَّانِي: الاِقْتِصَارُ عَلَى الإِْخْوَةِ وَالأَْخَوَاتِ، وَأَمَّا مَا
عَدَا ذَلِكَ مِنْ أَوْلاَدِ الإِْخْوَةِ وَالأَْخَوَاتِ وَالأَْعْمَامِ
وَالْعَمَّاتِ وَالأَْخْوَال وَالْخَالاَتِ، فَإِنَّهُ لاَ يُعْتَقُ أَحَدٌ
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 8، والخرشي 8 / 121، ومغني المحتاج 4 / 499، 500،
وشرح الروض 4 / 446، ومطالب أولي النهى 4 / 696
(2) سورة الإسراء / 24
(3) سورة مريم / 92، 93
(4) سورة مريم / 88
(5) شرح الروض 4 / 446
(6) الفتاوى الهندية 2 / 807
(3/91)
مِنْ هَؤُلاَءِ بِالْمِلْكِ، وَهَذَا هُوَ
مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ (1) .
الثَّالِثُ: الاِقْتِصَارُ عَلَى الأُْصُول وَالْفُرُوعِ، وَهُوَ مَذْهَبُ
الشَّافِعِيَّةِ (2) .
إِرْدَافٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْرْدَافُ: مَصْدَرُ أَرْدَفَ، وَأَرْدَفَهُ: أَرْكَبَهُ خَلْفَهُ.
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى (3) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - يَجُوزُ إِرْدَافُ الرَّجُل لِلرَّجُل، وَالْمَرْأَةِ لِلْمَرْأَةِ
إِذَا لَمْ يُؤَدِّ إِلَى فَسَادٍ أَوْ إِثَارَةِ شَهْوَةٍ؛ لإِِرْدَافِ
الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْفَضْل بْنِ الْعَبَّاسِ
(4) .
وَيَجُوزُ إِرْدَافُ الرَّجُل لاِمْرَأَتِهِ، وَالْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا،
لإِِرْدَافِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَوْجَتِهِ
صَفِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (5) . وَإِرْدَافُ الرَّجُل لِلْمَرْأَةِ
ذَاتِ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ جَائِزٌ مَعَ أَمْنِ الشَّهْوَةِ. وَأَمَّا
إِرْدَافُ الْمَرْأَةِ لِلرَّجُل الأَْجْنَبِيِّ، وَالرَّجُل لِلْمَرْأَةِ
الأَْجْنَبِيَّةِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، سَدًّا لِلذَّرَائِعِ، وَاتِّقَاءً
لِلشَّهْوَةِ الْمُحَرَّمَةِ.
__________
(1) الخرشي 8 / 121
(2) شرح الروض 4 / 446، ومغني المحتاج 4 / 499، 500
(3) المصباح ولسان العرب (ردف)
(4) حديث " إردافه الفضل " أخرجه
البخاري ومسلم في كتاب الحج من صحيحيهما (اللؤلؤ والمرجان ص 295)
(5) حديث " إردافه صفية " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 569 ط السلفية)
(3/91)
الضَّمَانُ بِالإِْرْدَافِ.
3 - إِذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلٌ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا، وَأَرْدَفَ خَلْفَهُ
آخَرَ بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهَا، فَهَلَكَتْ الدَّابَّةُ بِسَبَبِ
الإِْرْدَافِ، ضَمِنَ نِصْفَ قِيمَتِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ
رَأْيٌ لِلْحَنَابِلَةِ، وَيَضْمَنُ الْكُل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (1) .
إِرْسَالٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْرْسَال لُغَةً: مَصْدَرُ (أَرْسَل) يُقَال: أَرْسَل الشَّيْءَ:
أَطْلَقَهُ وَأَهْمَلَهُ، وَيُقَال: أَرْسَل الْكَلاَمَ أَيْ أَطْلَقَهُ
مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ، وَأَرْسَل الرَّسُول: بَعَثَهُ بِرِسَالَةٍ،
وَأَرْسَل عَلَيْهِ شَيْئًا: سَلَّطَهُ عَلَيْهِ، وَفِي الْقُرْآنِ
الْكَرِيمِ قَوْله تَعَالَى {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ
عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} (2) .
وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ كَلِمَةَ الإِْرْسَال بِإِطْلاَقَاتٍ
مُتَعَدِّدَةٍ مِنْهَا مَا يَلِي:
الإِْرْخَاءُ، كَإِرْسَال الْيَدَيْنِ فِي الصَّلاَةِ، وَإِرْسَال طَرَفِ
الْعِمَامَةِ، وَإِرْسَال الشَّعْرِ بِعَدَمِ رَبْطِهِ. وَالتَّوْجِيهُ،
كَإِرْسَال شَخْصٍ إِلَى آخَرَ بِمَالٍ أَوْ رِسَالَةٍ أَوْ
__________
(1) فتح القدير 7 / 169 ط دار صادر، وتحفة المحتاج 6 / 183 - 184 ط دار
صادر، والإنصاف 6 / 54 ط حامد الفقي، وحاشية الدسوقي 4 / 37 - 38 - ط دار
الفكر، والبخاري وشرحه فتح الباري10 / 327، والقرطبي 5 / 214 ط دار الكتب،
وابن عابدين 1 / 272 ط الأولى، والقليوبي 3 / 82، وابن عابدين 5 / 235،
238، والمجموع للنووي 2 / 28، 31
(2) سورة مريم / 83
(3/92)
نَحْوِ ذَلِكَ. وَالتَّخْلِيَةُ، وَذَلِكَ
كَإِرْسَال الْمُحْرِمِ مَا تَحْتَ يَدِهِ مِنْ صَيْدٍ. وَالإِْهْمَال،
كَإِرْسَال الْمَاءِ وَالنَّارِ وَالْحَيَوَانِ. وَالتَّسْلِيطُ،
كَإِرْسَال الْحَيَوَانِ أَوِ السَّهْمِ عَلَى الصَّيْدِ.
وَبِمَعْنَى عَدَمِ الإِْضَافَةِ وَعَدَمِ الإِْطْلاَقِ، وَمِثَال ذَلِكَ
مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ فِيمَا إِذَا جَرَى الْخُلْعُ بَيْنَ
الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ فَإِلَيْهَا الْقَبُول، سَوَاءٌ أَكَانَ الْبَدَل
مُرْسَلاً أَمْ مُطْلَقًا، أَمْ مُضَافًا إِلَى الْمَرْأَةِ أَوِ
الأَْجْنَبِيِّ إِضَافَةَ مِلْكٍ أَوْ ضَمَانٍ. وَمَتَى جَرَى الْخُلْعُ
بَيْنَ الأَْجْنَبِيِّ وَالزَّوْجِ، فَإِنْ كَانَ الْبَدَل مُرْسَلاً (أَيْ
مُعَيَّنًا بِغَيْرِ الإِْضَافَةِ) فَالْقَبُول إِلَيْهَا كَقَوْلِهَا:
اخْلَعْنِي عَلَى هَذِهِ الدَّارِ، فَإِنْ قَدَرَتْ عَلَى تَسْلِيمِهَا
سَلَّمَتْهَا، وَإِلاَّ فَالْمِثْل فِيمَا لَهُ مِثْلٌ، وَالْقِيمَةُ فِي
الْقِيَمِيِّ، وَتَتِمَّةُ هَذَا فِي الْخُلْعِ (1) . وَالْمُطْلَقُ
كَقَوْلِهَا: خَالَعَنِي عَلَى ثَوْبٍ. وَالْمُضَافُ كَقَوْلِهَا:
خَالَعَنِي عَلَى دَارِي (2) .
وَيَسْتَعْمِل عُلَمَاءُ الأُْصُول الإِْرْسَال فِي الْمَصْلَحَةِ
الْمُرْسَلَةِ؛ لأَِنَّهَا كُل مَصْلَحَةٍ أَطْلَقَهَا الشَّارِعُ فَلَمْ
يَعْتَبِرْهَا وَلَمْ يُلْغِهَا.
وَالإِْرْسَال فِي الْحَدِيثِ لَهُ إِطْلاَقٌ خَاصٌّ سَيَأْتِي فِيمَا
يَلِي:
الإِْرْسَال فِي الْحَدِيثِ:
2 - يُطْلَقُ لَفْظُ الإِْرْسَال عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُحَدِّثِينَ عَلَى
تَرْكِ التَّابِعِيِّ الْوَاسِطَةَ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّسُول
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ رَفَعَ التَّابِعِيُّ الْحَدِيثَ
لِلرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوَاءٌ أَكَانَ
__________
(1) البحر الرائق شرح كنز الدقائق 4 / 101 للعلامة زين الدين بن نجيم، دار
المعرفة. بيروت.
(2) حاشية منحة الخالق على البحر الرائق 4 / 101 للعلامة محمد أمين الشهير
بابن عابدين.
(3/92)
كَبِيرًا أَمْ صَغِيرًا، بِأَنْ قَال: قَال
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا، أَوْ فَعَل
كَذَا، أَوْ فُعِل بِحَضْرَتِهِ كَذَا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَبَعْضُهُمْ
خَصَّهُ بِرَفْعِ التَّابِعِيِّ الْكَبِيرِ، وَهُوَ الَّذِي رَأَى
جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ وَجَالَسَهُمْ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيٍّ،
وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَأَمْثَالِهِمَا.
أَمَّا إِذَا انْقَطَعَ الإِْسْنَادُ قَبْل الْوُصُول إِلَى التَّابِعِيِّ،
بِأَنْ كَانَ فِيهِ رَاوٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ الْمَذْكُورِينَ فَوْقَهُ،
فَلَيْسَ بِمُرْسَلٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْل الْحَدِيثِ،
بَل يُسَمَّى مُنْقَطِعًا، إِنْ كَانَ السَّاقِطُ وَاحِدًا فَحَسْبُ،
وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ سُمِّيَ مُعْضَلاً، وَأَمَّا عِنْدَ أَهْل الأُْصُول
فَكُل ذَلِكَ يُسَمَّى مُرْسَلاً. وَذَهَبَ إِلَيْهِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ
الْخَطِيبُ وَقَطَعَ بِهِ. (1) وَجَاءَ فِي مُسْلِمِ الثُّبُوتِ:
الأَْوْلَى أَنْ يُقَال: مَا رَوَاهُ الْعَدْل مِنْ غَيْرِ إِسْنَادٍ
مُتَّصِلٍ لِيَشْمَل الْمُنْقَطِعَ. وَأَمَّا عِنْدَ أَهْل الْحَدِيثِ
فَالْمُرْسَل قَوْل التَّابِعِيِّ: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ كَذَا، وَالْمُعْضَل مَا سَقَطَ
مِنْ إِسْنَادِهِ اثْنَانِ مِنَ الرُّوَاةِ، وَالْمُنْقَطِعُ مَا سَقَطَ
وَاحِدٌ مِنْهَا، وَالْمُعَلَّقُ مَا رَوَاهُ مَنْ دُونَ التَّابِعِيِّ
مِنْ غَيْرِ سَنَدٍ، وَالْكُل دَاخِلٌ فِي الْمُرْسَل عِنْدَ أَهْل
الأُْصُول، وَلَمْ يَظْهَرْ لِكَثِيرِ الاِصْطِلاَحِ وَالأَْسَامِي
فَائِدَةٌ.
أَقْسَامُ وَحُكْمُ الْحَدِيثِ الْمُرْسَل:
3 - يَنْقَسِمُ الْمُرْسَل إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ هِيَ:
الْقِسْمُ الأَْوَّل: مَا أَرْسَلَهُ الصَّحَابِيُّ: حُكْمُهُ أَنَّهُ
مَقْبُولٌ بِالإِْجْمَاعِ، وَذَلِكَ لِلإِْجْمَاعِ عَلَى عَدَالَةِ
__________
(1) حاشية الرهاوي على المنار ص643 - 644 ليحيى الرهاوي المصري المطبعة
العثمانية.
(3/93)
الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ (1) .
الْقِسْمُ الثَّانِي: إِرْسَال الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ أَيِ
التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ، وَقَدْ اخْتَلَفَتْ آرَاءُ الْعُلَمَاءِ فِي
الاِحْتِجَاجِ بِهِ، إِذْ أَنَّهُ حُجَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ وَأَشْهَرِ رِوَايَتَيِ الْحَنَابِلَةِ، إِذَا كَانَ
الْمُرْسِل عَدْلاً.
أَمَّا الشَّافِعِيُّ فَلاَ يَعْتَبِرُهُ حُجَّةً إِلاَّ إِذَا تَأَيَّدَ
بِآيَةٍ، أَوْ سُنَّةٍ مَشْهُورَةٍ، أَوْ مُوَافَقَةِ قِيَاسٍ صَحِيحٍ،
أَوْ قَوْل صَحَابِيٍّ، أَوْ تَلَقَّتْهُ الأُْمَّةُ بِالْقَبُول، أَوِ
اشْتَرَكَ فِي إِرْسَالِهِ عَدْلاَنِ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ شَيْخَاهُمَا
مُخْتَلِفَيْنِ، أَوْ ثَبَتَ اتِّصَالُهُ بِوَجْهٍ آخَرَ، بِأَنْ
أَسْنَدَهُ غَيْرُ مُرْسِلِهِ، أَوْ أَسْنَدَهُ مُرْسِلُهُ مُرَّةً
أُخْرَى.
وَلِثُبُوتِ الاِتِّصَال بِوَجْهٍ آخَرَ قُبِلَتْ مَرَاسِيل سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ؛ لأَِنَّهَا بِالتَّتَبُّعِ وُجِدَتْ مُسْنَدَةً (أَيْ
مُتَّصِلَةً مَرْفُوعَةً إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ) وَأَكْثَرُهَا مِمَّا سَمِعَهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.
وَهَذَا مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي احْتِجَاجِهِ بِالْمُرْسَل أَوْ
عَدَمِهِ (2) .
وَأَمَّا رَأْيُ الإِْمَامِ أَحْمَدَ فَيَتَّضِحُ بِمَا نَقَلَهُ صَاحِبُ
شَرْحِ رَوْضَةِ النَّاظِرِ، وَمُفَادُهُ أَنَّ لِلإِْمَامِ رِوَايَتَيْنِ
أَشْهَرُهُمَا أَنَّهُ حُجَّةٌ (3) .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا أَرْسَلَهُ الْعَدْل مِنْ غَيْرِ الْقُرُونِ
الثَّلاَثَةِ: وَيُعْتَبَرُ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمَرَاسِيل حُجَّةً
عِنْدَ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ؛ لأَِنَّ إِرْسَال الْعَدْل يُقْبَل
فِي كُل عَصْرٍ، إِذْ أَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي تُوجِبُ قَبُول مَرَاسِيل
__________
(1) أنوار الحلك على شرح المنار لابن ملك ص 644 لشيخ الإسلام محمد بن
إبراهيم الشهير بابن الحلبي / المطبعة العثمانية.
(2) شرح المنار ص 644 لعز الدين عبد اللطيف بن عبد العزيز بن الملك /
المطبعة العثمانية.
(3) نزهة الخاطر العاطر في شرح روضة الناظر وجنة المناظر 1 / 323 لعبد
القادر بن بدران الحنبلي / المطبعة السلفية.
(3/93)
الْقُرُونِ الثَّلاَثَةِ وَهِيَ
الْعَدَالَةُ وَالضَّبْطُ، تَشْمَل سَائِرَ الْقُرُونِ (1) .
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا أُرْسِل مِنْ وَجْهٍ وَاتَّصَل مِنْ وَجْهٍ
آخَرَ، فَهُوَ مَقْبُولٌ عِنْدَ الأَْكْثَرِ؛ لأَِنَّ الْمُرْسِل سَاكِتٌ
عَنْ حَال الرَّاوِي، وَالْمُسْنِدُ نَاطِقٌ، وَالسَّاكِتُ لاَ يُعَارِضُ
النَّاطِقَ، مِثْل حَدِيثِ: لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ رَوَاهُ
إِسْرَائِيل بْنُ يُونُسَ مُسْنَدًا، وَرَوَاهُ شُعْبَةُ مُرْسَلاً. وَقَال
بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لاَ يُقْبَل هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمَرَاسِيل؛
لأَِنَّ سُكُوتَ الرَّاوِي عَنْ ذِكْرِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ
الْجَرْحِ فِيهِ، وَإِسْنَادُ الآْخَرِ بِمَنْزِلَةِ التَّعْدِيل، وَإِذَا
اجْتَمَعَ الْجُرْحُ وَالتَّعْدِيل يُعْمَل بِالْجَرْحِ (2) .
أَوَّلاً: الإِْرْسَال بِمَعْنَى الإِْرْخَاءِ
كَيْفِيَّةُ وَضْعِ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلاَةِ:
4 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: أَنْ يَضَعَ الْمُصَلِّي يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى يَدِهِ
الْيُسْرَى، وَهُوَ اخْتِيَارُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ رِوَايَةُ مُطَرِّفٍ وَابْنِ
الْمَاجِشُونِ عَنْ مَالِكٍ، وَقَالُوا: إِنَّهُ السُّنَّةُ (3)
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا يَلِي:
أ - مَا رَوَاهُ سَهْل بْنُ سَعْدٍ قَال: كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ أَنْ
يَضَعَ الْمُصَلِّي الْيَدَ الْيُمْنَى عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى فِي
الصَّلاَةِ. قَال أَبُو حَازِمٍ: لاَ أَعْلَمُهُ إِلاَّ يَنْمِي (4)
__________
(1) كشف الأسرار 3 / 7
(2) شرح المنار ص 644
(3) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 2 / 533 للعلامة علاء الدين أبي بكر بن
مسعود الكاساني الحنفي - مطبعة الإمام بالقاهرة، ومغني المحتاج 1 / 152
للخطيب الشربيني - دار الفكر بيروت، وكشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 333
للعلامة منصور بن يونس بن إدريس البهوتي، الناشر مكتبة النصر الحديثة /
الرياض.
(4) أي يسند ذلك ويرفعه.
(3/94)
ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (1)
ب - مَا رُوِيَ عَنْ وَائِل بْنِ حُجْرٍ فِي صِفَةِ صَلاَةِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى
كَفِّهِ الْيُسْرَى وَالرُّسْغِ وَالسَّاعِدِ. (2)
ج - مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَال: مَرَّ
بِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا وَاضِعٌ يَدِي
الْيُسْرَى عَلَى الْيُمْنَى فَأَخَذَ بِيَدِي الْيُمْنَى فَوَضَعَهَا
عَلَى الْيُسْرَى. (3)
الثَّانِي: اسْتِحْبَابُ الإِْرْسَال وَكَرَاهِيَةُ الْقَبْضِ فِي
الْفَرْضِ، وَالْجَوَازُ فِي النَّفْل، قِيل: مُطْلَقًا، وَقِيل: إِنْ
طَوَّل. وَهَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي
الْمُدَوَّنَةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّيْخُ خَلِيلٌ وَشُرَّاحُ مَتْنِهِ
كَالدَّرْدِيرِ وَالدُّسُوقِيِّ، وَعُلِّلَتِ الْكَرَاهَةُ فِي الْفَرْضِ
بِأَنَّ الْقَبْضَ فِيهِ اعْتِمَادٌ عَلَى الْيَدَيْنِ فَأَشْبَهَ
الاِسْتِنَادَ، وَلِذَلِكَ قَال الدَّرْدِيرُ: فَلَوْ فَعَلَهُ لاَ
لِلاِعْتِمَادِ بَل اسْتِنَانًا لَمْ يُكْرَهْ، ثُمَّ قَال: وَهَذَا
التَّعْلِيل هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَعَلَيْهِ فَيَجُوزُ فِي النَّفْل
مُطْلَقًا، بِجَوَازِ الاِعْتِمَادِ فِيهِ بِلاَ ضَرُورَةٍ.
الثَّالِثُ: إِبَاحَةُ الْقَبْضِ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفَل، وَهُوَ قَوْل
مَالِكٍ فِي سَمَاعِ أَشْهَبَ وَابْنِ نَافِعٍ.
وَذَكَرَ الْحَطَّابُ نَقْلاً عَنِ ابْنِ فَرْحُونَ: وَأَمَّا
إِرْسَالُهُمَا " أَيِ الْيَدَيْنِ " بَعْدَ رَفْعِهِمَا فَقَال سَنَدٌ:
لَمْ أَرَ فِيهِ نَصًّا، وَالأَْظْهَرُ عِنْدِي أَنْ يُرْسِلَهُمَا حَال
التَّكْبِيرِ،
__________
(1) صحيح البخاري 1 / 296 للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري نشر
دار الطباعة المنيرة / بالقاهرة.
(2) صحيح مسلم 1 / 301 للإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري
النيسابوري / طبع دار إحياء الكتب العربية - عيسى الحلبي / القاهرة، ونيل
الأوطار 2 / 207، 208 للشيخ محمد ابن علي الشوكاني / مطبعة مصطفى الحلبي.
(3) سنن ابن ماجه 1 / 266 للحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني /
مطبعة عيسى الحلبي / القاهرة.
(3/94)
لِيَكُونَ مُقَارِنًا لِلْحَرَكَةِ،
وَيَنْبَغِي أَنْ يُرْسِلَهُمَا بِرِفْقٍ (1) .
هَذَا، وَقَدْ ذُكِرَ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ مَا يُؤَيِّدُ قَوْل
الْمَالِكِيَّةِ إِذْ قَال الشِّرْبِينِيُّ مَا نَصُّهُ: " وَالْقَصْدُ
مِنَ الْقَبْضِ الْمَذْكُورِ - يَعْنِي قَبْضَ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلاَةِ
- تَسْكِينُ الْيَدَيْنِ فَإِنْ أَرْسَلَهُمَا وَلَمْ يَعْبَثْ فَلاَ
بَأْسَ (2) "
الرَّابِعُ: مَنْعُ الْقَبْضِ فِيهِمَا، حَكَاهُ الْبَاجِيُّ، وَتَبِعَهُ
ابْنُ عَرَفَةَ، وَلَكِنْ قَال الْمِسْنَاوِيُّ: هَذَا مِنَ الشُّذُوذِ (3)
.
إِرْسَال الْعَذَبَةِ مِنَ الْعِمَامَةِ وَالتَّحْنِيكُ بِهَا (4) :
5 - أَوْرَدَ الْحَطَّابُ نَقْلاً عَنِ الْمَدْخَل لاِبْنِ الْحَاجِّ أَنَّ
الْعِمَامَةَ بِغَيْرِ عَذَبَةٍ وَلاَ تَحْنِيكٍ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ،
فَإِنْ فَعَلَهُمَا فَهُوَ الأَْكْمَل، وَإِنْ فَعَل أَحَدَهُمَا فَقَدْ
خَرَجَ بِهِ مِنَ الْمَكْرُوهِ، وَقَدْ نُقِل عَنْ عَبْدِ الْحَقِّ
الإِْشْبِيلِيِّ أَنَّهُ قَال: وَسُنَّةُ الْعِمَامَةِ بَعْدَ فِعْلِهَا
أَنْ يُرْخِيَ طَرَفَهَا وَيَتَحَنَّكَ، فَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ طَرَفٍ
وَلاَ تَحْنِيكٍ فَيُكْرَهُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ.
أَمَّا النَّوَوِيُّ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: لاَ كَرَاهَةَ فِي
إِرْسَال الْعَذَبَةِ وَلاَ عَدَمِ إِرْسَالِهَا، إِلاَّ أَنَّ الشَّيْخَ
الْكَمَال ابْنَ أَبِي شَرِيفٍ قَدْ تَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: بِأَنَّ
ظَاهِرَ كَلاَمِهِ أَنَّهُ مِنَ الْمُبَاحِ الْمُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ،
قَال: وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَل الإِْرْسَال مُسْتَحَبٌّ وَتَرْكُهُ خِلاَفُ
الأَْوْلَى.
__________
(1) مواهب الجليل 1 / 537 لأبي عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن
المغربي المعروف بالحطاب. مكتبة النجاح - ليبيا.
(2) الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 1 / 131
(3) الدسوقي 1 / 250، والمدونة 1 / 74، وبداية المجتهد 1 / 137، والمنتقى
شرح الموطأ 1 / 281، والزرقاني 1 / 214
(4) التحنيك، هو إدارة العمامة من تحت الحنك.
(3/95)
وَبِالنِّسْبَةِ لِلْحَنَفِيَّةِ
فَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُنْدَبُ إِرْسَال ذَنَبِ الْعِمَامَةِ
بِسِنِّ الْكَتِفَيْنِ إِلَى وَسَطِ الظَّهْرِ، وَقِيل لِمَوْضِعِ
الْجُلُوسِ، وَقِيل شِبْرًا (1) .
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَلاَ خِلاَفَ فِي اسْتِحْبَابِ الْعِمَامَةِ
الْمُحَنَّكَةِ وَكَرَاهَةِ الصَّمَّاءِ، قَال صَاحِبُ النَّظْمِ: يَحْسُنُ
أَنْ يُرْخِيَ الذُّؤَابَةَ خَلْفَهُ وَلَوْ شِبْرًا عَلَى نَصِّ أَحْمَدَ.
وَقَدْ ذَكَرَ السَّخَاوِيُّ عَنْ مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الْكَبِيرِ
بِسَنَدٍ حَسَنٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ
عَلِيًّا إِلَى خَيْبَرَ فَعَمَّمَهُ بِعِمَامَةٍ سَوْدَاءَ، ثُمَّ
أَرْسَلَهَا مِنْ وَرَائِهِ أَوْ قَال عَلَى كَتِفِهِ الأَْيْسَرِ،
وَتَرَدَّدَ رَاوِيهِ فِيهِ، وَرُبَّمَا جَزَمَ بِالثَّانِي (2) .
ثَانِيًا: الإِْرْسَال بِمَعْنَى بَعْثِ الرَّسُول
الإِْرْسَال فِي النِّكَاحِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى صِحَّةِ الإِْرْسَال فِي
النِّكَاحِ وَتَرَتُّبِ آثَارِهِ، وَهُنَاكَ تَفْرِيعَاتٌ فِي الْمَذَاهِبِ
مِنْهَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، أَنَّهُ لَوْ أَرْسَل
الرَّجُل إِلَى امْرَأَةٍ رَسُولاً، أَوْ كَتَبَ إِلَيْهَا كِتَابًا قَال
فِيهِ: تَزَوَّجْتُكِ، فَقَبِلَتْ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ، سَمِعَا كَلاَمَ
الرَّسُول أَوْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ جَازَ ذَلِكَ، لاِتِّحَادِ
الْمَجْلِسِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لأَِنَّ كَلاَمَ الرَّسُول هُوَ
كَلاَمُ الْمُرْسَل لأَِنَّهُ يَنْقُل عِبَارَتَهُ، وَكَذَا الْكِتَابُ
بِمَنْزِلَةِ الرَّسُول، فَكَانَ سَمَاعُ قَوْل الرَّسُول أَوْ قِرَاءَةُ
الْكِتَابِ سَمَاعَ قَوْل الْمُرْسِل أَوْ كَلاَمِ الْكَاتِبِ مَعْنًى.
وَإِنْ لَمْ يَسْمَعَا كَلاَمَ الرَّسُول أَوْ قِرَاءَةَ الْكِتَابِ لاَ
يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى،
وَقَال
__________
(1) ابن عابدين 5 / 481، والآداب الشرعية 3 / 536
(2) مواهب الجليل 1 / 541
(3/95)
أَبُو يُوسُفَ: إِذَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ:
زَوَّجْتُ نَفْسِي يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعَا كَلاَمَ الرَّسُول أَوْ
قِرَاءَةَ الْكِتَابِ. بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَهَا: زَوَّجْتُ نَفْسِي
شَطْرُ الْعَقْدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَالشَّهَادَةُ فِي
شَطْرَيِ الْعَقْدِ شَرْطٌ؛ لأَِنَّهُ يَصِيرُ عَقْدًا بِالشَّطْرَيْنِ،
فَإِذَا لَمْ يَسْمَعَا كَلاَمَ الرَّسُول وَقِرَاءَةَ الْكِتَابِ فَلَمْ
يُوجَدْ شَطْرُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْعَقْدِ. وَقَوْل الزَّوْجِ
بِانْفِرَادِهِ عَقْدٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَقَدْ حَضَرَ الشَّاهِدَانِ
(1) . هَذَا، وَقَدْ وَافَقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ أَبَا حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدًا فِي قَوْلِهِمَا هَذَا (2)
.
الإِْرْسَال لِنَظَرِ الْمَخْطُوبَةِ:
7 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى:
أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَيَسَّرْ لِلرَّجُل أَنْ يَنْظُرَ إِلَى
الْمَخْطُوبَةِ فَلَهُ أَنْ يُرْسِل مَنْ يَثِقُ بِهَا مِنَ النِّسَاءِ
لِتَنْظُرَ لَهُ الْمَخْطُوبَةَ، ثُمَّ تَصِفَهَا لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ،
اسْتِدْلاَلاً بِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ رُوِيَ
أَنَّهُ بَعَثَ أُمَّ سُلَيْمٍ إِلَى امْرَأَةٍ وَقَال: اُنْظُرِي
عُرْقُوبَيْهَا وَشُمِّي مَعَاطِفَهَا. (3) رَوَاهُ الْحَاكِمُ
وَصَحَّحَهُ. هَذَا، وَقَدْ نُقِل عَنِ الشُّبْرَامَلْسِيِّ فِي
حَاشِيَتِهِ عَلَى نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ تَعْلِيقًا عَلَى هَذِهِ
الْحَالَةِ. قَوْلُهُ: لَوْ أَمْكَنَهُ إِرْسَال امْرَأَةٍ تَنْظُرُهَا
لَهُ وَتَصِفُهَا لَهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ
يَتَوَقَّفُ، إِذْ أَنَّ الْخَبَرَ لَيْسَ كَالْعِيَانِ، فَقَدْ يُدْرِكُ
النَّاظِرُ مِنْ نَفْسِهِ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ مَا تَقْصُرُ الْعِبَارَةُ
عَنْهُ (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 1335 نشر زكريا علي يوسف.
(2) الأم 5 / 73 للإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي - كتاب الشعب /
القاهرة، والمدونة الكبرى 4 / 24 لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس
رواية سحنون التنوخي / مطبعة الصادق / القاهرة وكشاف القناع 5 / 10
(3) نيل الأوطار للشوكاني 6 / 125
(4) حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 6 / 193 مطبعة مصطفى الحلبي.
(3/96)
الإِْرْسَال فِي الطَّلاَقِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا أَرْسَل إِلَى
زَوْجَتِهِ كِتَابًا ضَمَّنَهُ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ، فَالْحُكْمُ
أَنَّهَا تَطْلُقُ فِي الْحَال، سَوَاءٌ وَصَل إِلَيْهَا الْكِتَابُ أَمْ
لَمْ يَصِل، وَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ عِدَّتِهَا مِنْ حِينِ كِتَابَتِهِ
الْكِتَابَ.
أَمَّا إِذَا كَتَبَ إِلَيْهَا مَا مُفَادُهُ: إِذَا وَصَلَكِ كِتَابِي
فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَأَتَاهَا الْكِتَابُ طَلُقَتْ مِنْ تَارِيخِ
الْوُصُول؛ لأَِنَّ شَرْطَ وُقُوعِ الطَّلاَقِ هُوَ وُصُول الْكِتَابِ
إِلَيْهَا (1) .
الإِْرْسَال فِي التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ:
الإِْرْسَال فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَرْسَل شَخْصٌ إِلَى
غَيْرِهِ رَسُولاً أَوْ كِتَابًا يَطْلُبُ مِنْهُ فِيهِ أَنْ يَبِيعَهُ
شَيْئًا مَا، وَقَبِل الْمُرْسَل إِلَيْهِ خِلاَل الْمَجْلِسِ الَّذِي
تُلِيَ فِيهِ الْكِتَابُ الْمُرْسَل، أَوْ سَمَاعُ أَقْوَال الرَّسُول
فَقَدْ تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، لأَِنَّ الرَّسُول
سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ عَنْ كَلاَمِ الْمُرْسِل، نَاقِلٌ كَلاَمَهُ إِلَى
الْمُرْسَل إِلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ حَضَرَ بِنَفْسِهِ، فَأَوْجَبَ
الْبَيْعَ، وَقَبِل الآْخَرُ فِي الْمَجْلِسِ.
وَهَذَا الْحُكْمُ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ يَسْرِي عَلَى عَقْدِ
الإِْجَارَةِ، وَالْمُكَاتَبَةِ (2) ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ
يُفَرِّقُونَ فِي
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 8 / 414 للإمام موفق الدين بن قدامة / دار
الكتاب العربي - بيروت، وفتح القدير 3 / 93، والبدائع 4 / 1850، والبجيرمي
4 / 9، ومواهب الجليل 4 / 91، 92، والتاج والإكليل 4 / 98
(2) كشاف القناع 2 / 4، وحاشية البجيرمي على شرح منهج الطلاب 2 / 169،
والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 382 لأبي البركات سيدي أحمد الدردير -
مطبعة عيسى الحلبي - وبدائع الصنائع 6 / 2994
(3/96)
حُكْمِ الإِْرْسَال بِالشِّرَاءِ تَبَعًا
لِلَفْظِ الرَّسُول، فَإِذَا أَسْنَدَ الرَّسُول الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ
طُولِبَ بِالثَّمَنِ، لَكِنْ إِذَا أَقَرَّ الْمُرْسِل بِأَنَّهُ
أَرْسَلَهُ كَانَ لِلْبَائِعِ غَرِيمَانِ، فَيَتْبَعُ أَيَّهُمَا شَاءَ،
إِلاَّ أَنْ يَحْلِفَ الْمُرْسِل أَنَّهُ دَفَعَ الثَّمَنَ لِلرَّسُول
فَإِنَّهُ يَبْرَأُ، وَيَتْبَعُ الرَّسُول، أَمَّا إِذَا أَسْنَدَ
الشِّرَاءَ لِمَنْ أَرْسَلَهُ فَإِنَّهُ لاَ يُطَالَبُ بِالثَّمَنِ،
وَإِنَّمَا الَّذِي يُطَالَبُ بِهِ الْمُرْسِل (1) .
هَذَا، وَقَدْ ذَكَرَ الدَّرْدِيرُ فِي شَرْحِهِ الْكَبِيرِ أَنَّ
الرَّسُول إِذَا قَال: بَعَثَنِي فُلاَنٌ لِتَبِيعَهُ كَذَا بِمِائَةٍ،
أَوْ لِيَشْتَرِيَ مِنْكَ كَذَا بِمِائَةٍ مَثَلاً، فَرَضِيَ صَاحِبُ
السِّلْعَةِ، لاَ يُطَالَبُ الرَّسُول بِالثَّمَنِ، فَإِنْ أَنْكَرَ
فُلاَنٌ هَذَا أَنَّهُ أَرْسَلَهُ فَالثَّمَنُ عَلَى الرَّسُول. أَمَّا
إِذَا قَال: بَعَثَنِي فُلاَنٌ لأَِشْتَرِيَ لَهُ مِنْكَ، فَيُطَالَبُ
الرَّسُول بِالثَّمَنِ؛ لأَِنَّهُ فِي الْحَالَةِ الأُْولَى أَسْنَدَ
الشِّرَاءَ لِغَيْرِهِ، وَفِي الْحَال الأَْخِيرَةِ أَسْنَدَ الشِّرَاءَ
إِلَى نَفْسِهِ (2) .
كَمَا أَجْمَعَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الرَّسُول بِالشِّرَاءِ لاَ
يَمْلِكُ إِبْطَال الْخِيَارِ، وَلاَ تَكُونُ رُؤْيَتُهُ رُؤْيَةَ
الْمُرْسِل، وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمُرْسِل إِذَا لَمْ يَرَهُ (3) .
وَقَدْ عَقَّبَ الإِْمَامُ السَّرَخْسِيُّ فِي الْمَبْسُوطِ عَلَى هَذَا
الأَْمْرِ بِأَنَّ رُؤْيَةَ الرَّسُول وَقَبْضَهُ لاَ يَلْزَمُ الْمُرْسِل
الْمَتَاعُ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ عِلْمُ الْعَاقِدِ بِأَوْصَافِ
الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لِيَتِمَّ رِضَاهُ، وَذَلِكَ لاَ يَحْصُل بِرُؤْيَةِ
الرَّسُول، فَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّ قَبْضَ رَسُولِهِ كَقَبْضِهِ
بِنَفْسِهِ، وَلَوْ قَبَضَ بِنَفْسِهِ قَبْل الرُّؤْيَةِ كَانَ
بِالْخِيَارِ إِذَا رَآهُ، فَكَذَلِكَ إِذَا أَرْسَل
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 382 للعلامة شمس الدين الشيخ محمد
عرفه الدسوقي - مطبعة عيسى الحلبي.
(2) الشرح الكبير للدردير 3 / 382
(3) الفتاوى الهندية 3 / 65 تأليف العلامة الشيخ نظام وجماعة من علماء
الهند الأعلام / المكتبة الإسلامية بتركيا.
(3/97)
رَسُولاً فَقَبَضَهُ لَهُ. (1)
مِلْكِيَّةُ الشَّيْءِ الْمُرْسَل:
10 - قَرَّرَ الأَْئِمَّةُ أَنَّ الشَّيْءَ الْمُرْسَل بَاقٍ عَلَى مِلْكِ
مُرْسِلِهِ، حَتَّى يَقْبِضَهُ الْمُرْسَل إِلَيْهِ، وَمَا دَامَ لَمْ
يَقْبِضْهُ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ مُرْسِلِهِ، وَقَدْ عَيَّنَهُ
لإِِنْسَانٍ فَلَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ أَخْذُهُ مُطْلَقًا (2) .
الضَّمَانُ فِي الإِْرْسَال:
11 - ذَكَرَ الدَّرْدِيرُ أَنَّهُ إِنْ زَعَمَ شَخْصٌ أَنَّهُ مُرْسَلٌ
مِنْ زَيْدٍ لاِسْتِعَارَةِ حُلِيٍّ لَهُ مِنْ بَكْرٍ، فَدَفَعَ لَهُ
بَكْرٌ مَا طَلَبَ، وَزَعَمَ الرَّسُول أَنَّهُ تَلِفَ مِنْهُ، ضَمِنَهُ
زَيْدٌ (الْمُرْسِل) إِنْ صَدَّقَهُ فِي الإِْرْسَال، وَإِنْ لَمْ
يُصَدِّقْهُ حَلَفَ أَنَّهُ لَمْ يُرْسِلْهُ وَبَرِئَ، ثُمَّ حَلَفَ
الرَّسُول: لَقَدْ أَرْسَلَنِي وَأَنَّهُ تَلِفَ لاَ تَفْرِيطَ مِنِّي
وَبَرِئَ أَيْضًا، وَضَاعَ الْحُلِيُّ هَدَرًا.
لَكِنِ الرَّاجِحُ أَنَّ الرَّسُول يَضْمَنُ - وَلاَ يَبْرَأُ بِالْحَلِفِ
- إِلاَّ لِبَيِّنَةٍ بِالإِْرْسَال، فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُرْسِل (3) .
أَمَّا قَاضِي خَانْ فَقَدْ قَال فِي فَتَاوِيهِ: رَجُلٌ بَعَثَ رَسُولاً
إِلَى بَزَّازٍ أَنِ ابْعَثْ إِلَيَّ بِثَوْبِ كَذَا وَكَذَا بِثَمَنِ
كَذَا وَكَذَا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْبَزَّازُ مَعَ رَسُولِهِ أَوْ مَعَ
غَيْرِهِ، فَضَاعَ الثَّوْبُ قَبْل أَنْ يَصِل إِلَى الآْمِرِ،
وَتَصَادَقُوا عَلَى ذَلِكَ وَأَقَرُّوا بِهِ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَى
الرَّسُول فِي شَيْءٍ، وَإِنْ بَعَثَ الْبَزَّازُ مَعَ رَسُول الآْمِرِ
فَالضَّمَانُ عَلَى الآْمِرِ؛ لأَِنَّ رَسُولَهُ قَبَضَ الثَّوْبَ عَلَى
الْمُسَاوَمَةِ،
__________
(1) المبسوط 13 / 73 لشمس الدين السرخسي - دار المعرفة للطباعة والنشر /
بيروت.
(2) الفتاوى الكبرى الفقهية 3 / 370
(3) حاشية الدسوقي 3 / 441
(3/97)
وَإِنْ كَانَ رَسُول رَبِّ الثَّوْبِ
مَعَهُ. فَإِذَا وَصَل الثَّوْبُ إِلَى الآْمِرِ يَكُونُ ضَامِنًا (1) .
قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَلَوْ أَرْسَل رَجُلٌ رَسُولاً إِلَى رَجُلٍ آخَرَ
وَقَال لَهُ: ابْعَثْ إِلَيَّ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ قَرْضًا فَقَال:
نَعَمْ، وَبَعَثَ بِهَا مَعَ رَسُولِهِ، كَانَ الآْمِرُ ضَامِنًا لَهَا،
إِذَا أَقَرَّ أَنَّ رَسُولَهُ قَبَضَهَا.
وَلَوْ بَعَثَ رَجُلاً لِيَسْتَقْرِضَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَقْرَضَهُ
فَضَاعَ فِي يَدِهِ، إِنْ قَال الرَّسُول أَقْرِضْ فُلاَنًا الْمُرْسَل.
فَهِيَ لِلْمُرْسِل وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَإِنْ قَال الرَّسُول:
أَقْرِضْنِي لِفُلاَنٍ الْمُرْسِل فَأَقْرَضَهُ، وَضَاعَ فِي يَدِهِ،
فَعَلَى الرَّسُول الضَّمَانُ. فَحَاصِل الْمَسْأَلَةِ أَنَّ التَّوْكِيل
بِالإِْقْرَاضِ يَجُوزُ، وَبِالاِسْتِقْرَاضِ لاَ يَجُوزُ، وَالرِّسَالَةُ
بِالاِسْتِقْرَاضِ لِلآْمِرِ جَائِزَةٌ، وَإِنْ أَخْرَجَ الْوَكِيل
بِالاِسْتِقْرَاضِ الْكَلاَمَ مَخْرَجَ الرِّسَالَةِ يَقَعُ الْقَرْضُ
لِلآْمِرِ، وَإِنْ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْوَكَالَةِ بِأَنْ أَضَافَ إِلَى
نَفْسِهِ يَصِيرُ مُسْتَقْرِضًا لِنَفْسِهِ، وَيَكُونُ مَا اسْتَقْرَضَ
مِنَ الدَّرَاهِمِ لَهُ، وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنَ الْمُوَكِّل (2) .
وَحَاصِل الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الرَّسُول إِنْ كَانَ رَسُول رَبِّ الْمَال
فَالْوَدِيعُ يَبْرَأُ بِالدَّفْعِ إِلَى الرَّسُول وَلَوْ مَاتَ الرَّسُول
قَبْل الْوُصُول، وَيَرْجِعُ الْكَلاَمُ بَيْنَ رَبِّ الْمَال وَوَرَثَةِ
الرَّسُول، فَإِنْ مَاتَ الرَّسُول قَبْل الْوُصُول كَانَ الضَّمَانُ فِي
تَرِكَتِهِ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْوُصُول فَلاَ رُجُوعَ، حَمْلاً عَلَى
أَنَّهُ أَوْصَلَهُ لِرَبِّ الْمَال.
وَإِنْ كَانَ الرَّسُول رَسُول الْوَدِيعِ فَلاَ يَبْرَأُ إِلاَّ
بِوُصُولِهِ لِرَبِّ الْمَال بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ، فَإِنْ مَاتَ
الرَّسُول
__________
(1) هكذا، ولعل المراد ضمان الثمن، انظر الفتاوى الخانية بهامش الهندية 3 /
6
(2) الفتاوى الهندية 3 / 206
(3/98)
قَبْل الْوُصُول رَجَعَ الْوَدِيعُ فِي
تَرِكَتِهِ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْوُصُول فَلاَ رُجُوعَ وَهِيَ مُصِيبَةٌ
عَلَى الْوَدِيعِ (1) .
قَال الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الْوَكِيل
وَالْمُودَعَ وَالرَّسُول مُؤْتَمَنُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
الْمُوَكِّل وَالْمُودِعِ وَالْمُرْسِل، فَإِذَا ذَكَرُوا أَنَّهُمْ
رَدُّوا مَا دُفِعَ إِلَيْهِمْ إِلَى أَرْبَابِهِ قُبِل ذَلِكَ مِنْهُمْ؛
لأَِنَّ أَرْبَابَ الأَْمْوَال قَدِ ائْتَمَنُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَكَانَ
قَوْلُهُمْ مَقْبُولاً فِيمَا بَيْنَهُمْ (2) .
كَمَا لَوْ أَرْسَل رَسُولاً إِلَى رَجُلٍ وَقَال: ابْعَثْ إِلَيَّ
بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ قَرْضًا، فَقَال: نَعَمْ، وَبَعَثَ بِهَا مَعَ رَسُول
الآْمِرِ، فَالآْمِرُ ضَامِنٌ لَهَا إِذَا أَقَرَّ بِأَنَّ رَسُولَهُ قَدْ
قَبَضَهَا، وَإِنْ بَعَثَ بِهَا مَعَ غَيْرِهِ فَلاَ ضَمَانَ عَلَى
الآْمِرِ حَتَّى تَصِل إِلَيْهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ رَجُلاً لَهُ عَلَى
رَجُلٍ دَيْنٌ فَبَعَثَ إِلَى الْمَدْيُونِ رَسُولاً أَنِ ابْعَثْ إِلَيَّ
بِالدَّيْنِ الَّذِي لِي عَلَيْكَ، فَإِنْ بَعَثَ بِهِ مَعَ رَسُول
الآْمِرِ فَهُوَ مِنْ مَال الآْمِرِ.
أَمَّا لَوْ بَعَثَ رَجُلٌ إِلَى رَجُلٍ بِكِتَابٍ مَعَ رَسُولٍ أَنِ
ابْعَثْ إِلَيَّ ثَوْبَ كَذَا بِثَمَنِ كَذَا، فَفَعَل، وَبَعَثَ بِهِ مَعَ
الَّذِي أَتَاهُ بِالْكِتَابِ، لَمْ يَكُنْ مِنْ مَال الآْمِرِ حَتَّى
يَصِل إِلَيْهِ، وَفِي هَذَا إِنَّمَا الرَّسُول رَسُولٌ بِالْكِتَابِ (3)
.
وَإِذَا أَرْسَل الْمُودَعُ (بِفَتْحِ الدَّال) الْوَدِيعَةَ لِلْمُودِعِ
(بِكَسْرِ الدَّال) بِإِذْنِهِ صَحَّ هَذَا الإِْرْسَال، أَمَّا إِنْ
أَرْسَلَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَتَلِفَتْ أَوْ ضَاعَتْ مِنَ الرَّسُول
فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا، إِلاَّ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، هِيَ فِيمَا إِذَا
عَرَضَتْ لِلْمُودَعِ إِقَامَةٌ طَوِيلَةٌ فِي الطَّرِيقِ، كَالسَّنَةِ
مَثَلاً فَالْحَقُّ أَنَّ لَهُ أَنْ يَبْعَثَهَا مَعَ غَيْرِهِ - وَلَوْ
بِغَيْرِ إِذْنٍ
__________
(1) الدسوقي بتصرف يسير 4 / 427
(2) مواهب الجليل 5 / 210
(3) الفتاوى الخانية بهامش الهندية 3 / 6
(3/98)
وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ إِذَا تَلِفَتْ
أَوْ أَخَذَهَا اللِّصُّ، بَل بَعْثُهَا إِلَيْهِ فِي مِثْل هَذِهِ
الْحَالَةِ وَاجِبٌ وَيَضْمَنُ إِنْ حَبَسَهَا، أَمَّا إِنْ كَانَتِ
الإِْقَامَةُ الَّتِي عَرَضَتْ لَهُ قَصِيرَةً كَالأَْيَّامِ فَالْوَاجِبُ
عَلَيْهِ إِبْقَاؤُهَا مَعَهُ، فَإِنْ بَعَثَهَا - بِغَيْرِ إِذْنٍ -
ضَمِنَهَا إِنْ تَلِفَتْ، وَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الإِْقَامَةُ الَّتِي
عَرَضَتْ لَهُ مُتَوَسِّطَةً، كَالشَّهْرَيْنِ مَثَلاً خُيِّرَ فِي
إِرْسَالِهَا وَفِي إِبْقَائِهَا، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ إِنْ أَرْسَلَهَا
وَتَلِفَتْ، أَوْ حَبَسَهَا (1) أَيْ وَتَلِفَتْ.
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي وَصِيِّ رَبِّ الْمَال، إِذَا أَرْسَل الْمَال
لِلْوَرَثَةِ، أَوْ سَافَرَ هُوَ بِهِ إِلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِمْ،
فَإِنَّهُ يَضْمَنُ الْمَال إِذَا ضَاعَ أَوْ تَلِفَ (2) . وَكَذَا
الْقَاضِي إِذَا بَعَثَ الْمَال لِمُسْتَحِقِّهِ مِنْ وَرَثَةٍ أَوْ
غَيْرِهِمْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَضَاعَ أَوْ تَلِفَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ
عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ، خِلاَفًا لِقَوْل أَصْبَغَ بِعَدَمِ الضَّمَانِ
عَلَيْهِ. وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ قَوْلَهُ فِي
رَجُلٍ لَهُ عَلَى آخَرَ دَرَاهِمُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَسُولاً
يَقْبِضُهَا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ مَعَ الرَّسُول دِينَارًا، فَضَاعَ مِنَ
الرَّسُول، فَهُوَ مِنْ مَال الْبَاعِثِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ
بِمُصَارَفَتِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ ضَمَانِ الْبَاعِثِ لأَِنَّهُ
دَفَعَ إِلَى الرَّسُول غَيْرَ مَا أَمَرَهُ بِهِ الْمُرْسِل. فَإِنَّ
الْمُرْسِل إِنَّمَا أَمَرَهُ بِقَبْضِ مَا لَهُ فِي ذِمَّتِهِ، وَهِيَ
الدَّرَاهِمُ، وَلَمْ يَدْفَعْهَا، وَإِنَّمَا دَفَعَ دِينَارًا عِوَضًا
عَنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَهَذَا صَرْفٌ يَفْتَقِرُ إِلَى رِضَى صَاحِبِ
الدَّيْنِ وَإِذْنِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ، فَصَارَ الرَّسُول وَكِيلاً
لِلْبَاعِثِ فِي تَأْدِيَتِهِ إِلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ وَمُصَارَفَتِهِ
بِهِ، فَإِذَا تَلِفَ فِي يَدِ وَكِيلِهِ كَانَ مِنْ ضَمَانِهِ، اللَّهُمَّ
إِلاَّ أَنْ يُخْبِرَ الرَّسُول الْغَرِيمَ أَنَّ رَبَّ الدَّيْنِ أَذِنَ
لَهُ فِي قَبْضِ الدِّينَارِ عَنِ الدَّرَاهِمِ فَيَكُونُ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 424
(2) المصدر السابق 3 / 425
(3/99)
حِينَئِذٍ مِنْ ضَمَانِ الرَّسُول؛
لأَِنَّهُ غَرَّهُ وَأَخَذَ الدِّينَارَ عَلَى أَنَّهُ وَكِيلٌ
لِلْمُرْسِل. وَإِنْ قَبَضَ مِنْهُ الدَّرَاهِمَ الَّتِي أُمِرَ
بِقَبْضِهَا فَضَاعَتْ مِنَ الرَّسُول فَهِيَ مِنْ ضَمَانِ صَاحِبِ
الدَّيْنِ؛ لأَِنَّهَا تَلِفَتْ مِنْ يَدِ وَكِيلِهِ (1) .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلُهُ
فِي رَجُلٍ لَهُ عِنْدَ آخَرَ دَنَانِيرُ وَثِيَابٌ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ
رَسُولاً وَقَال: خُذْ دِينَارًا وَثَوْبًا، فَأَخَذَ دِينَارَيْنِ
وَثَوْبَيْنِ، فَضَاعَتْ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْبَاعِثِ، يَعْنِي الَّذِي
أَعْطَاهُ الدِّينَارَيْنِ وَالثَّوْبَيْنِ، وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى
الرَّسُول، يَعْنِي عَلَيْهِ ضَمَانُ الدِّينَارِ وَالثَّوْبِ
الزَّائِدَيْنِ، وَإِنَّمَا جَعَل عَلَيْهِ الضَّمَانَ لأَِنَّهُ
دَفَعَهُمَا إِلَى مَنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِدَفْعِهِمَا إِلَيْهِ، وَيَرْجِعُ
بِهِمَا عَلَى الرَّسُول لأَِنَّهُ غَرَّهُ وَجَعَل التَّلَفَ فِي يَدِهِ
فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَلِلْمُوَكِّل تَضْمِينُ الْوَكِيل؛
لأَِنَّهُ تَعَدَّى بِقَبْضِ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِقَبْضِهِ، فَإِذَا
ضَمِنَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ؛ لأَِنَّ التَّلَفَ حَصَل فِي يَدِهِ
فَاسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ (2) .
أَثَرُ الإِْرْسَال فِي قَبُول الشَّهَادَةِ لِلْمُرْسِل أَوْ عَلَيْهِ:
12 - يَتَبَيَّنُ أَثَرُ الإِْرْسَال فِي قَبُول الشَّهَادَةِ لِلْمُرْسِل،
أَوْ عَلَيْهِ مِنْ خِلاَل مَا ذُكِرَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَقْوَالٍ،
فَالإِْمَامُ الْكَاسَانِيُّ يُبَيِّنُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَوْ أَنَّ
رَجُلاً أَرْسَل رَسُولاً إِلَى امْرَأَةٍ يُرِيدُ الزَّوَاجَ مِنْهَا
فَكَتَبَ إِلَيْهَا بِذَلِكَ كِتَابًا، فَقَبِلَتْ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ
سَمِعَا كَلاَمَ الرَّسُول وَقِرَاءَةَ الْكِتَابِ جَازَ ذَلِكَ؛
لاِتِّحَادِ الْمَجْلِسِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لأَِنَّ كَلاَمَ
الرَّسُول كَلاَمُ الْمُرْسِل،
__________
(1) هذا الرأي إنما كان عندما كانت الرغبة في الدنانير غير الرغبة في
الدراهم، والعكس، أما الآن وقد استقرت النسبة بين الدرهم والدينار، إذا كان
النقد في بلد واحد، فلا يختلف الحكم في قبض الدراهم بدلا عن الدنانير،
والعكس.
(2) المغني لابن قدامة 5 / 230 - 231
(3/99)
لأَِنَّهُ يَنْقُل عِبَارَةَ الْمُرْسِل.
وَكَذَا الْكِتَابُ بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ مِنَ الْكَاتِبِ، فَكَانَ
سَمَاعُ قَوْل الرَّسُول وَقِرَاءَةُ الْكِتَابِ سَمَاعَ قَوْل الْمُرْسِل
وَكَلاَمَ الْكَاتِبِ مَعْنًى، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعَا كَلاَمَ الرَّسُول
وَقِرَاءَةَ الْكِتَابِ لاَ يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، بَيْنَمَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إِذَا
قَالَتْ: زَوَّجْتُ نَفْسِي يَجُوزُ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعَا كَلاَمَ
الرَّسُول وَقِرَاءَةَ الْكِتَابِ، إِذْ أَنَّ قَوْل الزَّوْجِ
بِانْفِرَادِهِ عَقْدٌ عِنْدَهُ وَقَدْ حَضَرَ الشَّاهِدَانِ (1) .
فَيَتَّضِحُ أَنَّ الشَّهَادَةَ هُنَا مَأْخُوذٌ بِهَا عِنْدَ السَّمَاعِ
لِكَلاَمِ الْمُرْسِل. هَذَا وَقَدْ أَيَّدَ الدُّسُوقِيُّ الْكَاسَانِيَّ
فِي اعْتِبَارِ الشَّهَادَةِ لِلْمُرْسِل، إِذْ ذَكَرَ فِي حَاشِيَةِ
الدُّسُوقِيِّ عَلَى الشَّرْحِ الْكَبِيرِ أَنَّ الْمُودَعَ يَضْمَنُ
الْوَدِيعَةَ إِنْ دَفَعَهَا لِلرَّسُول مِنْ غَيْرِ إِشْهَادٍ؛ لأَِنَّهُ
لَمَّا دَفَعَ لِغَيْرِ الْيَدِ الَّتِي ائْتَمَنَتْهُ كَانَ عَلَيْهِ
الإِْشْهَادُ، فَلَمَّا تَرَكَهُ صَارَ مُفَرِّطًا، وَأَمَّا إِنْ دَفَعَ
لَهُ بِإِشْهَادٍ فَقَدْ بَرِئَ، وَيَرْجِعُ الْمُرْسَل إِلَيْهِ عَلَى
الرَّسُول عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ (2) .
ثَالِثًا: الإِْرْسَال بِمَعْنَى الإِْهْمَال
حُكْمُ ضَمَانِ مَا أَتْلَفَتْهُ الْحَيَوَانَاتُ وَالْمَوَاشِي
الْمُرْسَلَةُ:
13 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي مَعْرِضِ بَيَانِهِمْ لِحُكْمِ هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ إِلَى التَّفْرِيقِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ بَيْنَ
الدَّابَّةِ الَّتِي تُتْلِفُ أَمْوَال الْغَيْرِ وَمَعَهَا رَاكِبٌ،
وَالدَّابَّةِ الَّتِي تُتْلِفُهَا مِنْ غَيْرِ قَائِدٍ.
وَبِنَاءً عَلَى هَذَا التَّفْرِيقِ فَقَدْ قَالُوا: إِذَا أَتْلَفَتِ
الدَّابَّةُ مَالاً أَوْ نَفْسًا، لَيْلاً أَوْ نَهَارًا، وَكَانَ مَعَهَا
رَاكِبُهَا
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 1335 للعلامة علاء الدين أبي بكر الكاساني الحنفي
مطبعة الإمام / بالقاهرة
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 426 للعلامة شمس الدين محمد عرفة
الدسوقي - مطبعة الحلبي / بالقاهرة.
(3/100)
فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لأَِنَّهَا فِي
يَدِهِ، وَعَلَيْهِ تَعَهُّدُهَا وَحِفْظُهَا، وَلأَِنَّهُ إِذَا كَانَ
مَعَهَا كَانَ فِعْلُهَا مَنْسُوبًا إِلَيْهِ.
وَلَوْ كَانَ مَعَهَا سَائِقٌ وَقَائِدٌ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا
نِصْفَيْنِ، وَلَوْ كَانَ مَعَهَا سَائِقٌ وَقَائِدٌ مَعَ رَاكِبٍ فَهَل
يَخْتَصُّ الضَّمَانُ بِالرَّاكِبِ أَوْ يَجِبُ أَثْلاَثًا؟ وَجْهَانِ:
أَرْجَحُهُمَا الأَْوَّل، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهَا رَاكِبَانِ فَهَل يَجِبُ
الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا أَوْ يَخْتَصُّ بِالأَْوَّل، دُونَ الرَّدِيفِ؟
وَجْهَانِ: أَوْجَهُهُمَا الأَْوَّل لأَِنَّ الْيَدَ لَهُمَا (1) .
أَمَّا إِذَا أَتْلَفَتِ الدَّابَّةُ أَمْوَال الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ
يَكُونَ مَعَهَا رَاكِبٌ فَهُنَا يُنْظَرُ إِلَى الزَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ
فِيهِ الإِْتْلاَفُ، فَإِنْ كَانَ نَهَارًا فَلاَ ضَمَانَ عَلَى
صَاحِبِهَا، وَإِنْ كَانَ لَيْلاً ضَمِنَ، لِتَقْصِيرِهِ بِإِرْسَالِهَا
لَيْلاً، بِخِلاَفِ الإِْرْسَال نَهَارًا، لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ الَّذِي
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ. وَهُوَ عَلَى وَفْقِ الْعَادَةِ فِي
حِفْظِ الزَّرْعِ وَنَحْوِهِ نَهَارًا وَالدَّابَّةِ لَيْلاً، وَلَوْ
تَعَوَّدَ أَهْل الْبَلَدِ إِرْسَال الدَّوَابِّ وَحِفْظَ الزَّرْعِ
لَيْلاً دُونَ النَّهَارِ انْعَكَسَ الْحُكْمُ، فَيَضْمَنُ مُرْسِلُهَا مَا
أَتْلَفَتْهُ نَهَارًا دُونَ اللَّيْل، اتِّبَاعًا لِمَعْنَى الْخَبَرِ
وَالْعَادَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ يُؤْخَذُ مَا بَحَثَهُ الْبُلْقِينِيُّ
أَنَّهُ لَوْ جَرَتْ عَادَةٌ بِحِفْظِهَا لَيْلاً وَنَهَارًا ضَمِنَ
مُرْسِلُهَا مَا أَتْلَفَتْهُ مُطْلَقًا.
هَذَا، وَقَدِ اسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنَ الدَّوَابِّ الَّتِي
يَلْزَمُ الضَّمَانُ بِإِتْلاَفِهَا الْحَمَامَ وَغَيْرَهُ مِنَ الطُّيُورِ
وَالنَّحْل، إِذْ أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ بِإِتْلاَفِهَا مُطْلَقًا، وَهَذَا
الْحُكْمُ حَكَاهُ فِي أَصْل الرَّوْضَةِ عَنِ ابْنِ الصَّبَّاغِ،
وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ الْعَادَةَ إِرْسَالُهَا (2) .
هَذَا، وَقَدْ وَافَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الشَّافِعِيَّةَ
فِي
__________
(1) الإقناع 2 / 201
(2) الإقناع 2 / 201 - 202
(3/100)
أَنَّ الضَّمَانَ لاَزِمٌ فِي إِتْلاَفِ
الدَّوَابِّ إِنْ كَانَ لَيْلاً، أَمَّا إِنْ كَانَ نَهَارًا فَلاَ ضَمَانَ
فِيهِ (1) . بَيْنَمَا لِلْحَنَفِيَّةِ قَوْلٌ آخَرُ نَذْكُرُهُ بَعْدَ
قَلِيلٍ بِإِذْنِ اللَّهِ.
هَذَا، وَقَدْ وَافَقَ الْمَالِكِيَّةُ الشَّافِعِيَّةَ فِي قَوْلِهِمْ
بِتَضْمِينِ رَاكِبِهَا وَقَائِدِهَا وَسَائِقِهَا.
أَمَّا حُكْمُ مَا أَتْلَفَهُ الْحَمَامُ وَالنَّحْل وَالدَّجَاجُ فَجَاءَ
عَنِ الْمَالِكِيَّةِ فِيهِ رِوَايَتَانِ:
الأُْولَى: تُوَافِقُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ حُكْمَهَا كَالْمَاشِيَةِ فِي الإِْتْلاَفِ،
وَهَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ، إِلاَّ أَنَّ ابْنَ عَرَفَةَ قَدْ
قَال بِصَوَابِ الرِّوَايَةِ الأُْولَى (2) . أَمَّا الْبَاجِيُّ مِنَ
الْمَالِكِيَّةِ فَقَدْ ذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: فِي الْمَوَاضِعِ
ضَرْبٌ تَنْفَرِدُ فِيهِ الْمَزَارِعُ وَالْحَوَائِطُ، لَيْسَ بِمَكَانِ
سَرْحٍ، فَهَذَا لاَ يَجُوزُ إِرْسَال الْمَوَاشِي فِيهِ، وَمَا أَفْسَدَتْ
فِيهِ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَعَلَى أَرْبَابِهَا الضَّمَانُ. وَضَرْبٌ
آخَرُ جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ بِإِرْسَال مَوَاشِيهِمْ فِيهِ لَيْلاً أَوْ
نَهَارًا، فَأَحْدَثَ رَجُلٌ فِيهِ زَرْعًا فَأَتْلَفَتْهُ الْمَوَاشِي،
فَلاَ ضَمَانَ فِيهِ عَلَى أَهْل الْمَوَاشِي، سَوَاءٌ وَقَعَ الإِْتْلاَفُ
لَيْلاً أَوْ نَهَارًا (3) .
وَمِنَ الْمُفِيدِ جِدًّا أَنْ نُشِيرَ إِلَى مَا ذَكَرَهُ مُؤَلِّفُ
التَّاجِ وَالإِْكْلِيل إِذْ قَال: بِأَنَّ الرَّجُل إِذَا أَرْسَل فِي
أَرْضِهِ نَارًا أَوْ مَاءً فَوَصَل إِلَى أَرْضِ جَارِهِ فَأَتْلَفَ
زَرْعَهَا، يُنْظَرُ فِي الأَْمْرِ عَلَى ضَوْءِ قُرْبِ الأَْرْضِ
وَبُعْدِهَا، فَإِنْ كَانَتِ الأَْرْضُ قَرِيبَةً فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ،
وَإِنْ كَانَتْ بَعِيدَةً إِلاَّ أَنَّ النَّارَ وَصَلَتْهَا بِسَبَبِ
رِيحٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلاَ ضَمَانَ (4) .
__________
(1) التاج والإكليل 3 / 323 وكشاف القناع 2 / 438
(2) التاج والإكليل 6 / 324
(3) التاج والإكليل 6 / 323
(4) التاج والإكليل 6 / 321
(3/101)
وَهَذَا الرَّأْيُ قَدْ قَال بِهِ
الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا (1) ، إِلاَّ أَنَّ لَهُمْ رَأْيًا فِيمَا
يَتَعَلَّقُ بِإِرْسَال الدَّابَّةِ وَالْكَلْبِ أَرَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ
مِنْ ذِكْرِهِ هُنَا، وَمُفَادُ هَذَا الرَّأْيِ هُوَ أَنَّهُمْ فَرَّقُوا
بَيْنَ الدَّابَّةِ وَالْكَلْبِ عِنْدَ الإِْرْسَال، حَيْثُ إِنَّهُ إِذَا
أَرْسَل الْكَلْبَ وَلَمْ يَكُنْ سَائِقًا لَهُ فَلاَ ضَمَانَ فِيمَا
يُتْلِفُهُ، وَإِنْ أَصَابَ الْمُتْلَفَ مِنْ فَوْرِهِ لأَِنَّهُ لَيْسَ
بِمُتَعَدٍّ، إِذْ لاَ يُمْكِنُهُ اتِّبَاعُهُ، وَالْمُتَسَبِّبُ لاَ
يَضْمَنُ إِلاَّ إِذَا تَعَدَّى، بَيْنَمَا إِذَا أَرْسَل الدَّابَّةَ
فَأَتْلَفَتْ أَمْوَال الْغَيْرِ عَلَى الْفَوْرِ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ؛
لأَِنَّهُ مُتَعَدٍّ بِإِرْسَالِهَا فِي الطَّرِيقِ مَعَ إِمْكَانِ
اتِّبَاعِهَا، إِلاَّ أَنَّ الإِْمَامَ أَبَا يُوسُفَ لَمْ يُفَرِّقْ فِي
لُزُومِ الضَّمَانِ بَيْنَ مَا يُتْلِفُهُ الْكَلْبُ بِإِرْسَالِهِ وَمَا
تُتْلِفُهُ الدَّابَّةُ بِإِرْسَالِهَا (2) .
هَذَا، وَقَدْ جَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ أَنَّ الرَّجُل إِذَا
أَرْسَل طَيْرًا سَاقَهُ (أَيْ سَارَ خَلْفَهُ) أَوْ لاَ، أَوْ أَرْسَل
دَابَّةً أَوْ كَلْبًا وَلَمْ يَكُنْ سَائِقًا لَهُ، أَوِ انْفَلَتَتْ
دَابَّةٌ بِنَفْسِهَا فَأَصَابَتْ مَالاً أَوْ آدَمِيًّا نَهَارًا أَوْ
لَيْلاً فَلاَ ضَمَانَ فِي الْكُل، لِقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ أَيِ الْمُنْفَلِتَةُ هَدَرٌ (3)
.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُرْسَل مَاءً، فَالْحُكْمُ يَخْتَلِفُ تَبَعًا
لِحَالَةِ الْمَاءِ الْمُرْسَل وَطَبِيعَةِ الأَْرْضِ، فَلَوْ أَرْسَل
مَاءً فِي أَرْضِهِ فَخَرَجَ الْمَاءُ إِلَى أَرْضِ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ
مَا أَرْسَلَهُ تَحْتَمِلُهُ أَرْضُهُ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَإِنْ
أَرْسَل مَا لاَ تَحْتَمِلُهُ الأَْرْضُ كَانَ ضَامِنًا (4) ، فَإِنْ سَقَى
أَرْضَهُ ثُمَّ أَرْسَل الْمَاءَ فِي النَّهْرِ حَتَّى جَاوَزَ عَنْ
أَرْضِهِ وَقَدْ كَانَ رَجُلٌ أَسْفَل مِنْهُ طَرَحَ فِي النَّهْرِ
تُرَابًا، فَمَال الْمَاءُ عَنِ النَّهْرِ حَتَّى غَرِقَ قَصْرُ إِنْسَانٍ،
فَلاَ ضَمَانَ
__________
(1) الفتاوى الخانية على هامش الفتاوى الهندية 3 / 221
(2) حاشية ابن عابدين 6 / 607
(3) الدر المختار بهامش حاشية ابن عابدين 6 / 608
(4) الفتاوى الخانية على هامش الفتاوى الهندية 3 / 221
(3/101)
عَلَى الْمُرْسِل؛ لأَِنَّهُ أَرْسَل
الْمَاءَ فِي النَّهْرِ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي ذَلِكَ، وَيَجِبُ
الضَّمَانُ عَلَى مَنْ طَرَحَ التُّرَابَ فِي النَّهْرِ وَمَنَعَ الْمَاءَ
عَنِ السَّيَلاَنِ؛ لأَِنَّهُ مُتَعَدٍّ. وَلَوْ فَتَحَ فُوَّهَةَ
النَّهْرِ وَأَرْسَل مَاءً قَدْرَ مَا يَحْتَمِلُهُ النَّهْرُ، فَدَخَل
الْمَاءُ مِنْ فَوْرِهِ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ قَبْل أَنْ يَدْخُل فِي
أَرْضِهِ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ (1) .
هَذَا، وَمِمَّا يَجْدُرُ الإِْشَارَةُ إِلَيْهِ هُوَ أَنْ نَذْكُرَ
الدَّلِيل الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْحَنَابِلَةُ فِي مُوَافَقَتِهِمْ
لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي أَنَّ الضَّمَانَ فِي الْمُتْلَفِ
لَيْلاً لاَ نَهَارًا، وَالدَّلِيل هُوَ رِوَايَةُ الإِْمَامِ مَالِكٍ عَنِ
الزُّهْرِيِّ عَنْ حِزَامِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُحَيِّصَةَ أَنَّ نَاقَةً
لِلْبَرَاءِ دَخَلَتْ حَائِطَ قَوْمٍ فَأَفْسَدَتْ - أَيْ مَا فِيهِ مِنْ
أَمْوَالٍ - فَقَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ
عَلَى أَهْل الأَْمْوَال حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ، وَمَا أَفْسَدَتْ فَهُوَ
مَضْمُونٌ عَلَيْهِمْ.
وَلأَِنَّ الْعَادَةَ مِنْ أَهْل الْمَوَاشِي إِرْسَالُهَا نَهَارًا
لِلرَّعْيِ وَحِفْظُهَا لَيْلاً، وَعَادَةُ أَهْل الْحَوَائِطِ حِفْظُهَا
نَهَارًا، فَإِذَا أَفْسَدَتْ شَيْئًا لَيْلاً كَانَ مِنْ ضَمَانِ مَنْ
هِيَ بِيَدِهِ إِنْ فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا، مِثْل مَا إِذَا لَمْ
يَضُمَّهَا وَنَحْوَهُ لَيْلاً، أَوْ ضَمَّهَا بِحَيْثُ يُمْكِنُهَا
الْخُرُوجُ. أَمَّا إِذَا ضَمَّهَا مَنْ هِيَ بِيَدِهِ لَيْلاً
فَأَخْرَجَهَا غَيْرُهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ أَوْ فَتْحَ غَيْرُهُ عَلَيْهَا
بَابَهَا فَأَتْلَفَتْ شَيْئًا، فَالضَّمَانُ عَلَى مُخْرِجِهَا أَوْ
فَاتِحِ بَابِهَا؛ لأَِنَّهُ السَّبَبُ وَلاَ ضَمَانَ عَلَى مَنْ كَانَتْ
بِيَدِهِ لِعَدَمِ تَفْرِيطِهِ. ثُمَّ أَضَافَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى مَا
تَقَدَّمَ، بِأَنَّ الْحُكْمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَحْمُولٌ عَلَى
الْمَوَاضِعِ الَّتِي فِيهَا زَرْعٌ وَمَرَاعِي. أَمَّا الْقُرَى
الْعَامِرَةُ الَّتِي لاَ مَرْعَى فِيهَا إِلاَّ بَيْنَ مَرَاحَيْنِ
كَسَاقِيَةٍ وَطُرُقِ زَرْعٍ فَلَيْسَ لَهُ إِرْسَالُهَا بِغَيْرِ حَافِظٍ،
فَإِنْ فَعَل لَزِمَهُ الضَّمَانُ لِتَفْرِيطِهِ.
__________
(1) المصدر السابق 3 / 222
(3/102)
وَقَدْ خَالَفَ الْحَنَابِلَةُ مَا قَال
بِهِ الْمَالِكِيَّةُ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْعَادَةَ تُرَاعَى فِي
أَحْكَامِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، إِذْ قَال الْحَارِثِيُّ مِنَ
الْحَنَابِلَةِ: لَوْ جَرَتْ عَادَةُ بَعْضِ أَهْل النَّوَاحِي رَبْطُهَا
نَهَارًا وَإِرْسَالُهَا لَيْلاً وَحِفْظُ الزَّرْعِ لَيْلاً، فَالْحُكْمُ
هُوَ وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى مَالِكِهَا فِيمَا أَفْسَدَتْهُ لَيْلاً
إِنْ فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا، لاَ نَهَارًا (1) .
ثُمَّ اسْتَطْرَدَ الْحَنَابِلَةُ فِي ضَرْبِ الأَْمْثِلَةِ بِقَوْلِهِمْ:
لَوْ أَنَّ الرَّجُل أَرْسَل صَيْدًا وَقَال: أَعْتَقْتُكَ، لَمْ يَزُل
مِلْكُهُ عَنْهُ، كَمَا لَوْ أَرْسَل الْبَعِيرَ وَالْبَقَرَةَ،
وَنَحْوَهُمَا مِنَ الْبَهَائِمِ الْمَمْلُوكَةِ، إِذْ أَنَّ مِلْكَهُ لاَ
يَزُول عَنْهَا بِذَلِكَ (2) .
الإِْرْسَال فِي الْقَبْضِ وَالْعَزْل:
14 - قَال السَّرَخْسِيُّ: (إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا ثُمَّ أَرْسَل رَسُولاً
يَقْبِضُهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِذَا رَآهُ، وَرُؤْيَةُ الرَّسُول
وَقَبْضُهُ لاَ يُلْزِمُهُ الْمَتَاعَ) لأَِنَّ الْمَقْصُودَ عِلْمُ
الْعَاقِدِ بِأَوْصَافِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، لِيَتِمَّ رِضَاهُ،
وَذَلِكَ لاَ يَحْصُل بِرُؤْيَةِ الرَّسُول، فَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّ
قَبْضَ رَسُولِهِ كَقَبْضِهِ بِنَفْسِهِ، وَلَوْ قَبَضَ بِنَفْسِهِ قَبْل
الرُّؤْيَةِ كَانَ بِالْخِيَارِ إِذَا رَآهُ، فَكَذَلِكَ إِذَا أَرْسَل
رَسُولاً فَقَبَضَهُ لَهُ، فَأَمَّا إِذَا وَكَّل وَكِيلاً يَقْبِضُهُ
فَرَآهُ الْوَكِيل وَقَبَضَهُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُوَكِّل فِيهِ خِيَارٌ
بَعْدَ ذَلِكَ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَال
أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَهُ الْخِيَارُ إِذَا
رَآهُ؛ لأَِنَّ الْقَبْضَ فِعْلٌ، وَالرَّسُول وَالْوَكِيل فِيهِ سَوَاءٌ،
وَكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَأْمُورٌ بِإِحْرَازِ الْعَيْنِ وَالْحَمْل
إِلَيْهِ وَالنَّقْل إِلَى ضَمَانِهِ بِفِعْلِهِ، ثُمَّ خِيَارُهُ لاَ
__________
(1) كشاف القناع 4 / 128
(2) المصدر السابق 4 / 134 هذا ويؤخذ مما تقدم أن الفروع التي مثل بها في
المذاهب المختلفة ترجع كلها من حيث الضمان وعدمه إلى ثلاثة أمور: الإهمال،
أو التعدي أو العرف.
(3/102)
يَسْقُطُ بِرُؤْيَةِ الرَّسُول فَكَذَلِكَ
بِرُؤْيَةِ الْوَكِيل، وَكَيْفَ يَسْقُطُ خِيَارُهُ بِرُؤْيَتِهِ وَهُوَ
لَوْ أَسْقَطَ الْخِيَارَ نَصًّا لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ مِنْهُ لأَِنَّهُ
لَمْ يُوَكِّلْهُ بِهِ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا قَبَضَ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ،
وَقَاسَا بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَالْعَيْبِ فَإِنَّهُ لاَ يَسْقُطُ بِقَبْضِ
الْوَكِيل وَرِضَاهُ بِهِ. فَكَذَلِكَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ. وَأَبُو
حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُول: التَّوْكِيل بِمُطْلَقِ الْقَبْضِ
يُثْبِتُ لِلْوَكِيل وِلاَيَةَ إِتْمَامِ الْقَبْضِ، كَالتَّوْكِيل
بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يُثْبِتُ لِلْوَكِيل وِلاَيَةَ إِتْمَامِهِ،
وَتَمَامُ الْقَبْضِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ تَمَامِ الصَّفْقَةِ، وَلاَ
تَتِمُّ مَعَ بَقَاءِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ، فَيَضْمَنُ التَّوْكِيل
بِالْقَبْضِ إِنَابَةَ الْوَكِيل مَنَابَ نَفْسِهِ فِي الرُّؤْيَةِ
الْمُسْقِطَةِ لِخِيَارِهِ، وَبِخِلاَفِ الرَّسُول فَإِنَّ الرَّسُول
لَيْسَ إِلَيْهِ إِلاَّ تَبْلِيغُ الرِّسَالَةِ، فَأَمَّا إِتْمَامُ مَا
أُرْسِل بِهِ فَلَيْسَ إِلَيْهِ، كَالرَّسُول بِالْعَقْدِ لَيْسَ إِلَيْهِ
مِنَ الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ شَيْءٌ.
وَالدَّلِيل عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْوَكَالَةِ وَالرِّسَالَةِ أَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ صِفَةَ الرِّسَالَةِ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَفَى الْوَكَالَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُل لَسْتُ
عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} . (1) وَهَذَا بِخِلاَفِ خِيَارِ الْعَيْبِ فَإِنَّ
بَقَاءَهُ لاَ يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ وَالْقَبْضِ، وَلِهَذَا مَلَكَ
بَعْدَ الْقَبْضِ رَدَّ الْمَعِيبِ خَاصَّةً (2) . وَلَوْ أَرْسَل إِلَى
وَكِيلِهِ رَسُولاً بِعَزْلِهِ فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ وَقَال لَهُ: إِنَّ
فُلاَنًا أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ وَيَقُول: إِنِّي عَزَلْتُكَ عَنِ
الْوَكَالَةِ، فَإِنَّهُ يَنْعَزِل كَائِنًا مَا كَانَ الرَّسُول، عَدْلاً
كَانَ أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، بَعْدَ أَنْ
تَكُونَ عِبَارَتُهُ مُعْتَبَرَةً، إِنْ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ عَلَى
الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا؛ لأَِنَّ الرَّسُول قَائِمٌ مَقَامَ
الْمُرْسِل، مُعَبِّرٌ وَسَفِيرٌ عَنْهُ، فَتَصِحُّ سِفَارَتُهُ بَعْدَ
__________
(1) سورة الأنعام / 66
(2) المبسوط 13 / 73 - 74
(3/103)
أَنْ صَحَّتْ عِبَارَتُهُ عَلَى أَيِّ
صِفَةٍ كَانَ (1) .
الرُّجُوعُ عَنِ الإِْرْسَال:
15 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمُرْسِل لَوْ أَرْسَل رَسُولاً ثُمَّ
رَجَعَ عَنْ رَأْيِهِ صَحَّ رُجُوعُهُ، لأَِنَّ الْخِطَابَ بِالرِّسَالَةِ
لاَ يَكُونُ وَفْقَ الْمُشَافَهَةِ، وَذَا مُحْتَمِلٌ لِلرُّجُوعِ، فَهَا
هُنَا أَوْلَى، وَسَوَاءٌ أَعَلِمَ الرَّسُول رُجُوعَ الْمُرْسِل أَمْ لَمْ
يَعْلَمْ بِهِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا وَكَّل إِنْسَانًا ثُمَّ عَزَلَهُ
بِغَيْرِ عِلْمِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ عَزْلُهُ؛ لأَِنَّ الرَّسُول
يَحْكِي كَلاَمَ الْمُرْسِل وَيَنْقُلُهُ إِلَى الْمُرْسَل إِلَيْهِ،
فَكَانَ سَفِيرًا وَمُعَبِّرًا مَحْضًا، فَلَمْ يُشْتَرَطْ عِلْمُ
الرَّسُول بِذَلِكَ، فَأَمَّا الْوَكِيل فَإِنَّمَا يَتَصَرَّفُ عَنْ
تَفْوِيضِ الْمُوَكِّل إِلَيْهِ، فَشَرَطَ عِلْمَهُ بِالْعَزْل، صِيَانَةً
عَنِ التَّغْرِيرِ (2) .
وَذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْثَمِيُّ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ قَال:
لَوْ أَنَّ شَخْصًا أَرْسَل صَدَقَةً مَعَ رَسُولِهِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ
فَاسْتَرَدَّهَا مِنَ الطَّرِيقِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِذَا مَاتَ
الْمُرْسِل قَبْل وُصُولِهَا كَانَتْ تَرِكَةً لِوَرَثَتِهِ (3) .
الإِْرْسَال بِمَعْنَى التَّسْلِيطِ:
16 - إِرْسَال كَلْبِ الصَّيْدِ، أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ
الْحَيَوَانَاتِ الْمُعَلَّمَةِ، إِنْ كَانَ الْحَيَوَانُ يَنْطَلِقُ
وَرَاءَ الصَّيْدِ بِإِرْسَال صَاحِبِهِ وَيَقِفُ بِأَمْرِهِ، فَيَكُونُ
الصَّيْدُ مُبَاحَ الأَْكْل وَلَوْ لَمْ تُدْرَكْ ذَكَاتُهُ.
أَمَّا إِذَا انْطَلَقَ الْحَيَوَانُ الصَّائِدُ بِنَفْسِهِ فَصَادَ
حَيَوَانًا، فَلاَ يُؤْكَل إِلاَّ إِذَا أُدْرِكَتْ تَذْكِيَتُهُ؛ لأَِنَّ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 2486
(2) بدائع الصنائع 6 / 2994
(3) الفتاوى الكبرى الفقهية للعلامة ابن حجر الهيثمي 3 / 367 - المكتبة
الإسلامية بتركيا.
(3/103)
الْحَيَوَانَ إِنَّمَا صَادَهُ لِنَفْسِهِ
لاَ لِصَاحِبِهِ. وَتَفْصِيل أَحْكَامِ الصَّيْدِ فِي مُصْطَلَحِهِ (1) .
رَابِعًا: الإِْرْسَال بِمَعْنَى التَّخْلِيَةِ
17 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ إِرْسَال الْمُحْرِمِ الصَّيْدَ
الَّذِي فِي يَدِهِ حَقِيقَةً إِذَا كَانَ مَعَهُ قَبْل الإِْحْرَامِ،
وَكَذَلِكَ غَيْرُ الْمُحْرِمِ إِذَا صَادَهُ فِي الْحِل وَدَخَل بِهِ
الْحَرَمَ. أَمَّا إِذَا كَانَ فِي بَيْتِهِ فَلاَ يَجِبُ إِرْسَالُهُ،
وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الصَّيْدُ فِي قَفَصٍ مَعَهُ، خِلاَفًا
لِلْحَنَفِيَّةِ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ (2) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي
الإِْحْرَامِ.
وَأَمَّا صَاحِبُ كِتَابِ الْهِدَايَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّهُ
يَذْكُرُ رَأْيًا مُخَالِفًا لِمَا قَالَهُ الأَْئِمَّةُ مِمَّا لَهُمْ
مِنْ قَوْلٍ مُتَقَدِّمٍ. إِذْ أَنَّهُ قَال بِعَدَمِ إِرْسَال الصَّيْدِ
بَعْدَ الإِْحْرَامِ فِيمَا إِذَا كَانَ فِي بَيْتِ الْمُحْرِمِ، أَوْ فِي
قَفَصٍ مَعَهُ، وَاسْتَدَل عَلَى رَأْيِهِ هَذَا بِأَنَّ الصَّحَابَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يُحْرِمُونَ وَفِي بُيُوتِهِمْ صُيُودٌ
وَدَوَاجِنُ، وَلَمْ يُنْقَل عَنْهُمْ إِرْسَالُهَا، ثُمَّ أَضَافَ
قَائِلاً بِأَنَّ مَنْ أَرْسَل صَيْدَهُ فِي مَفَازَةٍ فَهُوَ عَلَى
مِلْكِهِ، فَلاَ مُعْتَبَرَ بِبَقَاءِ الْمِلْكِ، وَقِيل إِذَا كَانَ
الْقَفَصُ فِي يَدِهِ لَزِمَهُ إِرْسَالُهُ لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ لاَ
يَضِيعُ، بِأَنْ يُخَلِّيَهُ فِي بَيْتِهِ لأَِنَّ إِضَاعَةَ الْمَال
مَنْهِيٌّ عَنْهُ (3) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 2898، والتاج والإكليل 3 / 7216، والإقناع 2 / 232 -
233، وكشاف القناع 6 / 224
(2) الهداية 2 / 278، والمبسوط 4 / 188 - 189، والخرشي 2 / 364 - 365،
ومغني المحتاج 1 / 521، وكشاف القناع 2 / 438
(3) الهداية 2 / 278
(3/104)
أَرْشٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الأَْرْشِ فِي اللُّغَةِ: الدِّيَةُ وَالْخَدْشُ، وَمَا
نَقَصَ الْعَيْبُ مِنَ الثَّوْبِ، لأَِنَّهُ سَبَبٌ لِلأَْرْشِ.
وَاصْطِلاَحًا: هُوَ الْمَال الْوَاجِبُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ
النَّفْسِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى بَدَل النَّفْسِ، وَهُوَ الدِّيَةُ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - حُكُومَةُ الْعَدْل:
2 - حُكُومَةُ الْعَدْل: هِيَ مَا يَجِبُ فِي جِنَايَةٍ لَيْسَ فِيهَا
مِقْدَارٌ مُعَيَّنٌ مِنَ الْمَال. وَهِيَ نَوْعٌ مِنَ الأَْرْشِ،
فَالأَْرْشُ أَعَمُّ مِنْهَا.
ب - الدِّيَةُ:
3 - الدِّيَةُ: هِيَ بَدَل النَّفْسِ لِسُقُوطِ الْقِصَاصِ بِأَسْبَابِهِ،
وَقَدْ يُسَمَّى أَرْشُ مَا دُونَ النَّفْسِ الدِّيَةَ. الْحُكْمُ
الإِْجْمَالِيُّ:
4 - جَعَل الشَّارِعُ لِكُل نَقْصٍ جَبْرًا، حَتَّى لاَ تَذْهَبَ
الْجِنَايَةُ هَدْرًا، فَإِذَا لَمْ يَجِبِ الْقِصَاصُ، وَذَلِكَ فِي
حَالَتَيِ الْجِنَايَةِ بِالْخَطَأِ، أَوْ سُقُوطِ الْقِصَاصِ لِسَبَبٍ
مَا، وَجَبَ الأَْرْشُ بِحَسَبِ نَوْعِ الْجِنَايَةِ، فَإِذَا جَاءَ فِيهِ
نَصٌّ بِسَهْمٍ مُعَيَّنٍ الْتَزَمَ فِيهِ ذَلِكَ.
مِنْ هَذَا مَا جَاءَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي كِتَابِهِ إِلَى
(3/104)
أَهْل الْيَمَنِ: فِي الرِّجْل
الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَفِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ،
وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَةَ
عَشَرَ مِنَ الإِْبِل، وَفِي كُل أُصْبُعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدِ أَوِ
الرِّجْل عَشَرَةٌ مِنَ الإِْبِل، وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل،
وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل الْحَدِيثَ (1) .
فَإِذَا كَانَ الْفَائِتُ بِالْجِنَايَةِ جِنْسَ الْمَنْفَعَةِ عَلَى
الْكَمَال، أَوْ زَال بِهَا جَمَالٌ مَقْصُودٌ، كَانَ الْوَاجِبُ فِيهَا
دِيَةً كَامِلَةً. فَإِذَا تَعَدَّدَ الْعُضْوُ مَرَّتَيْنِ فِي جِسْمِ
الإِْنْسَانِ كَانَ فِي فَوَاتِ مَنْفَعَتِهِ نِصْفُ الدِّيَةِ،
كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَإِذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ
الْوَاجِبُ فِيهِ بِحِسَابِهِ، كَالأَْصَابِعِ؛ لِقَوْل رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي كُل أُصْبُعٍ عَشَرَةٌ مِنَ
الإِْبِل، وَفِي كُل سِنٍّ خَمْسَةٌ مِنَ الإِْبِل، وَالأَْصَابِعُ
سَوَاءٌ، وَالأَْسْنَانُ سَوَاءٌ. (2)
وَمَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَصٌّ مُقَدَّرٌ مِنَ الشَّارِعِ، فَفِيهِ
حُكُومَةُ عَدْلٍ.
أَنْوَاعُ الأُْرُوشِ:
أ - أَرْشُ جِرَاحِ الْحُرَّةِ:
5 - قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ مَا يَجِبُ فِيهِ دِيَةٌ
كَامِلَةٌ فِي الْحُرِّ يَجِبُ فِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي الْحُرَّةِ.
__________
(1) حديث: " في الرجل الواحدة. . . " أخرجه النسائي، وهذا لفظه، وصححه كل
من ابن حبان والحاكم والدارقطني، وأخرجه أبو داود في مراسيله من حديث كتاب
عمرو بن حزم، (الدراية 2 / 276، ونصب الراية 2 / 367، وجامع الأصول 4 /
422) ، وانظر الدر المختار 5 / 370 ط بولاق الطبعة الأولى، والجمل 5 / 67
وما بعدها ط إحياء التراث، وكشاف القناع 6 / 15 ط السنة المحمدية، وفتح
القدير على الهداية 8 / 268 - 273 ط دار صادر، والشرح الكبير على خليل 4 /
238 - 243 ط دار الفكر.
(2) حديث " في كل إصبع عشرة. . . " رواه الخمسة إلا الترمذي، ونيل الأوطار
7 / 72
(3/105)
وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ كُلٌّ مِنَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، إِذَا بَلَغَ الأَْرْشُ ثُلُثَ
الدِّيَةِ أَوْ أَكْثَرَ، أَمَّا إِذَا كَانَ أَقَل مِنَ الثُّلُثِ
فَإِنَّهَا تَتَسَاوَى مَعَهُ (1) .
ب - أَرْشُ جِرَاحِ الذِّمِّيِّ:
6 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى تَسَاوِي الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي
الأُْرُوشِ وَالدِّيَاتِ، وَكَذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُ. وَقَال
الْمَالِكِيَّةُ: دِيَةُ الذِّمِّيِّ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ
الْمُسْلِمِ. أَمَّا الْمَجُوسِيُّ وَالْمُعَاهَدُ وَالْمُرْتَدُّ، فَفِيهِ
ثُلُثُ خُمُسِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ: كُل هَؤُلاَءِ
عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ:
كُلُّهُمْ عَلَى الثُّلُثِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ (2)
تَعَدُّدُ الأُْرُوشِ:
7 - الأَْصْل عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ: الْقَوْل بِتَعَدُّدِ الأُْرُوشِ بِتَعَدُّدِ
الْجِنَايَاتِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلاَتٌ، يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي
الدِّيَاتِ وَالْمَعَاقِل (3) . .
__________
(1) الهداية وفتح القدير 8 / 306 ط دار صادر، والدر المختار 5 / 368،
والبدائع 7 / 322 ط الجمالية، والنهاية 7 / 303 ط مصطفى الحلبي، والجمل 5 /
63، والشرح الكبير 4 / 28 وكشاف القناع 6 / 15
(2) الهداية وفتح القدير 8 / 282، والدسوقي 4 / 286 ط دار الفكر، والنهاية
7 / 307 ط مصطفى الحلبي، وابن عابدين 5 / 369، وكشاف القناع 6 / 15 ط أنصار
السنة المحمدية.
(3) نفس المراجع السابقة
(3/105)
إِرْشَادٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْرْشَادُ لُغَةً: الْهِدَايَةُ وَالدَّلاَلَةُ، يُقَال: أَرْشَدَهُ
إِلَى الشَّيْءِ وَعَلَيْهِ: دَلَّهُ (1) . وَالأُْصُولِيُّونَ يَذْكُرُونَ
الإِْرْشَادَ بِاعْتِبَارِهِ أَحَدَ الْمَعَانِي الْمَجَازِيَّةِ الَّتِي
يَرِدُ لَهَا الأَْمْرُ، وَعَرَّفُوهُ بِأَنَّهُ: تَعْلِيمُ أَمْرٍ
دُنْيَوِيٍّ، وَمَثَّلُوا لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا
شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} . (2)
وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ النَّدْبِ؛ لاِشْتِرَاكِهِمَا فِي طَلَبِ تَحْصِيل
الْمَصْلَحَةِ، غَيْرَ أَنَّ النَّدْبَ لِمَصْلَحَةٍ أُخْرَوِيَّةٍ،
وَالإِْرْشَادَ لِمَصْلَحَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ (3) .
وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ بِمَعْنَى الدَّلاَلَةِ عَلَى الْخَيْرِ،
وَالإِْرْشَادِ إِلَى الْمَصَالِحِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ دُنْيَوِيَّةً أَمْ
أُخْرَوِيَّةً، وَيَسْتَعْمِلُونَهُ كَذَلِكَ بِالْمَعْنَى الأُْصُولِيِّ،
وَهُوَ تَعْلِيمُ أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ (4) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
النُّصْحُ:
2 - النُّصْحُ: الأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ.
__________
(1) لسان العرب مادة (رشد)
(2) البقرة / 182
(3) كشف الأسرار 1 / 107 ط مكتب الصنايع، وجمع الجوامع 1 / 378 ط الأزهرية،
والأحكام للآمدي 2 / 9 ط صبيح.
(4) الشرح الصغير 4 / 741 ط دار المعارف، وحاشية الجمل على المنهج 4 / 116
ط دار إحياء التراث العربي، والفتح المبين ص 125 ط عيسى الحلبي، ونهاية
المحتاج 8 / 44 ط مصطفى الحلبي.
(3/106)
وَالإِْرْشَادُ يُرَادِفُ النُّصْحَ،
وَيُرَادِفُ الأَْمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ،
إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ جَرَى عَلَى التَّعْبِيرِ بِالأَْمْرِ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فِيمَا كَانَ مُجْمَعًا عَلَى
وُجُوبِهِ أَوْ تَحْرِيمِهِ. أَمَّا مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ فَقَدْ جَرَى
عَلَى التَّعْبِيرِ فِيهِ بِالإِْرْشَادِ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - تَنَاوَل الأُْصُولِيُّونَ الأَْمْرَ الإِْرْشَادِيَّ مِنْ حَيْثُ
الثَّوَابُ وَعَدَمُهُ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ فَعَل مَا أُرْشِدَ إِلَيْهِ،
فَذَكَرُوا: أَنَّهُ مَا دَامَتِ الْمَصْلَحَةُ فِيهِ دُنْيَوِيَّةً فَلاَ
ثَوَابَ فِيهِ، مَا دَامَ الشَّخْصُ قَدْ فَعَلَهُ لِمُجَرَّدِ غَرَضِهِ.
فَإِنْ فَعَلَهُ لِمُجَرَّدِ الاِمْتِثَال وَالاِنْقِيَادِ إِلَى اللَّهِ
تَعَالَى أُثِيبَ عَلَيْهِ، لَكِنْ لأَِمْرٍ خَارِجٍ، وَإِنْ قَصَدَ
الاِمْتِثَال وَتَحْصِيل الْمَصْلَحَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ مَعًا اسْتَحَقَّ
ثَوَابًا أَنْقَصَ مِنْ ثَوَابِ مَحْضِ قَصْدِ الاِمْتِثَال (2) .
4 - وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَحُكْمُ الإِْرْشَادِ عِنْدَهُمْ - أَيْ
إِرْشَادِ النَّاسِ إِلَى الْخَيْرِ وَدَلاَلَتِهِمْ عَلَيْهِ وَنُصْحِهِمْ
- هُوَ الْوُجُوبُ، وَذَلِكَ عَمَلاً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ
مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} الآْيَةَ (3) وَقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الدِّينُ النَّصِيحَةُ (4)
عَلَى أَنْ يَكُونَ الإِْرْشَادُ بِالرِّفْقِ وَالْقَوْل اللَّيِّنِ؛
لأَِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْقَبُول، وَمَحَل الْوُجُوبِ إِذَا ظَنَّ
الْفَائِدَةَ، وَلَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ
__________
(1) الزرقاني على خليل 3 / 108 نشر دار الفكر، والفروق للقرافي 4 / 257
(2) كشف الأسرار 1 / 107، وجمع الجوامع 1 / 378، والأحكام للآمدي 2 / 9
(3) سورة آل عمران / 104
(4) رواه مسلم 1 / 74 ط عيسى الحلبي.
(3/106)
مَالِهِ أَوْ غَيْرِهِ (1) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
5 - أَحْكَامُ الأَْمْرِ الإِْرْشَادِيِّ تَأْتِي عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ
فِي مَبْحَثِ الأَْمْرِ، وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي مَبْحَثِ الأَْمْرِ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.
إِرْصَادٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْرْصَادُ فِي اللُّغَةِ: الإِْعْدَادُ. يُقَال: أَرْصَدَ لَهُ
الأَْمْرَ: أَعَدَّهُ (2)
وَهُوَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: تَخْصِيصُ الإِْمَامِ غَلَّةَ بَعْضِ أَرَاضِي
بَيْتِ الْمَال لِبَعْضِ مَصَارِفِهِ (3) .
وَيُطْلِقُ الْحَنَفِيَّةُ الإِْرْصَادَ أَيْضًا عَلَى: تَخْصِيصِ رَيْعِ
الْوَقْفِ لِسَدَادِ دُيُونِهِ الَّتِي تَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ لِضَرُورَةِ
إِعْمَارِهِ (4) .
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 385 ط مصطفى الحلبي، والفتح المبين ص 125 ط عيسى
الحلبي، والقرطبي 4 / 48، 165 ط دار الكتب المصرية. والشرح الصغير 4 / 174
ط دار المعارف، والآداب الشرعية لابن مفلح 1 / 174 ط المنار، وابن عابدين 1
/ 234 ط بولاق.
(2) لسان العرب، وتاج العروس، وأساس البلاغة، والنهاية مادة (رصد) .
(3) الفتاوى المهدية 2 / 647 طبع المطبعة الأزهرية، وحاشية الجمل على منهج
الطلاب 3 / 577 طبع دار إحياء التراث في بيروت، ومطالب أولي النهى 4 / 278
طبع المكتب الإسلامي.
(4) حاشية ابن عابدين 3 / 376 طبع بولاق الأولى.
(3/107)
أَوَّلاً:
الإِْرْصَادُ بِمَعْنَى (تَخْصِيصِ بَعْضِ أَرَاضِيِ
بَيْتِ الْمَال لِبَعْضِ مَصَارِفِهِ) :
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْوَقْفُ:
2 - الْوَقْفُ لُغَةً: الْحَبْسُ، وَاصْطِلاَحًا: حَبْسُ الْعَيْنِ
وَالتَّصَدُّقُ بِالْمَنْفَعَةِ. وَلِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْوَقْفِ
وَالإِْرْصَادِ، يُشَارُ إِلَى أَنَّ فِي حَقِيقَةِ الإِْرْصَادِ
اتِّجَاهَيْنِ.
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: اعْتِبَارُ الإِْرْصَادِ غَيْرَ الْوَقْفِ، وَقَدْ
صَرَّحَ بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ
الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا؛ لاِخْتِلاَل شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ
الْوَقْفِ فِيهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ مَمْلُوكًا لِلْوَاقِفِ
حِينَ الْوَقْفِ، وَالْمُرْصِدُ - بِكَسْرِ الصَّادِ - هُوَ الإِْمَامُ
أَوْ نَائِبُهُ، وَهُوَ لاَ يَمْلِكُ مَا أَرْصَدَهُ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: " وَالإِْرْصَادُ مِنَ السُّلْطَانِ لَيْسَ
بِإِيقَافٍ أَلْبَتَّةَ؛ لِعَدَمِ مِلْكِ السُّلْطَانِ، بَل هُوَ تَعْيِينُ
شَيْءٍ مِنْ بَيْتِ الْمَال عَلَى بَعْضِ مُسْتَحِقِّيهِ (1) .
فَالْفَرْقُ بَيْنَ الإِْرْصَادِ وَالْوَقْفِ: أَنَّ الْعَيْنَ
الْمَوْقُوفَةَ كَانَتْ قَبْل الْوَقْفِ مِلْكًا لِلْوَاقِفِ، وَفِي
الإِْرْصَادِ كَانَتْ لِبَيْتِ الْمَال.
الاِتِّجَاهُ الثَّانِيَ: اعْتِبَارُ الإِْرْصَادِ وَقْفًا فِي
حَقِيقَتِهِ؛ لِعَدَمِ اخْتِلاَل شَيْءٍ مِنْ شُرُوطِ الْوَقْفِ فِيهِ،
فَالسُّلْطَانُ الْوَاقِفُ لِشَيْءٍ مِنْ أَمْوَال بَيْتِ الْمَال هُوَ
وَكِيلٌ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ كَوَكِيل الْوَاقِفِ (2) ، وَعَلَى
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 84 طبع دار الفكر - ببروت، وحاشية كنون على شرح
الزرقاني 7 / 131 بهامش الرهوني.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 266، وحاشية أبي السعود على ملا مسكين 2 / 505،
طبع جمعية المعارف.
(3/107)
هَذَا الاِتِّجَاهِ لاَ فَرْقَ بَيْنَ
الْوَقْفِ وَالإِْرْصَادِ مِنْ حَيْثُ سَبْقُ الْمِلْكِ، وَيَفْتَرِقَانِ
بِأَنَّ الإِْرْصَادَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ مِنَ الإِْمَامِ.
ب - الإِْقْطَاعُ:
3 - الإِْقْطَاعُ فِي اللُّغَةِ: مِنَ الْقَطْعِ بِمَعْنَى الْفَصْل (1) .
وَهُوَ فِي الشَّرْعِ: مَا يَقْطَعُهُ الإِْمَامُ أَيْ يُعْطِيهِ مِنْ
أَرَاضِي الْمَوَاتِ - رَقَبَةً أَوْ مَنْفَعَةً - لِمَنْ لَهُ حَقٌّ فِي
بَيْتِ الْمَال، فَالإِْقْطَاعُ يَكُونُ تَمْلِيكًا وَغَيْرَ تَمْلِيكٍ (2)
.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ إِقْطَاعِ التَّمْلِيكِ وَبَيْنَ الإِْرْصَادِ، أَنَّ
الْمُقْطَعَ إِلَيْهِ يَمْلِكُ رَقَبَةَ الْقَطَائِعِ، وَلاَ يَتَرَتَّبُ
لَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْمِلْكِ فِي الإِْرْصَادِ.
أَمَّا إِقْطَاعُ الْمَنْفَعَةِ أَوِ الْخَرَاجِ، فَيَفْتَرِقُ عَنِ
الإِْرْصَادِ بِأَنَّ الإِْرْصَادَ لَهُ صِفَةُ التَّأْبِيدِ، وَلاَ
يَكُونُ لِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الإِْقْطَاعِ صِفَةُ التَّأْبِيدِ، إِذْ
يَحِقُّ لِلإِْمَامِ سَلْخُ تِلْكَ الْقَطَائِعِ عَمَّنْ جَعَلَهَا لَهُ،
وَإِعْطَاؤُهَا لِغَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ الإِْقْطَاعَ يَحْمِل
الصِّفَةَ الْفَرْدِيَّةَ الشَّخْصِيَّةَ، أَمَّا الإِْرْصَادُ فَيَحْمِل
صِفَةَ الْعُمُومِ وَمَصْلَحَةَ الْجَمَاعَةِ.
ج - الْحِمَى:
4 - الْحِمَى فِي اللُّغَةِ: الْمَنْعُ وَالدَّفْعُ، وَفِي الشَّرْعِ: أَنْ
يَحْمِيَ الإِْمَامُ مَكَانًا خَاصًّا مِنَ الْمَوَاتِ؛ لِحَاجَةِ
غَيْرِهِ، كَرَعْيِ نَعَمِ جِزْيَةٍ وَصَدَقَةٍ، وَحَاجَةِ ضُعَفَاءِ
الْمُسْلِمِينَ (3) .
__________
(1) لسان العرب مادة (قطع) .
(2) ابن عابدين 3 / 392، والشرح الكبير للدردير 4 / 68، والمهذب 1 / 433،
والمغني 6 / 166.
(3) حاشية الدسوقي 4 / 69، والقليوبي 3 / 92 والمغني 6 / 166
(3/108)
فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحِمَى
وَالإِْرْصَادِ أَنَّ الإِْرْصَادَ تَخْصِيصُ الإِْمَامِ غَلَّةَ بَعْضِ
أَرَاضِي بَيْتِ الْمَال لِبَعْضِ مَصَارِفِهِ، وَالْحِمَى هُوَ تَخْصِيصُ
الإِْمَامِ نَفْسَ أَرَاضِي الْمَوَاتِ لِحَاجَةِ غَيْرِهِ.
صِفَتُهُ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ) :
5 - الإِْرْصَادُ مَشْرُوعٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ (1) ، إِمَّا
لاِعْتِبَارِهِ وَقْفًا (فَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ) ، وَإِمَّا
لِكَوْنِهِ يُؤَمِّنُ مَصْلَحَةً عَامَّةً لِلْمُسْلِمِينَ بِطَرِيقٍ
مَشْرُوعٍ؛ لأَِنَّ الْمُرْصَدَ (بِفَتْحِ الصَّادِ) هُوَ مَال بَيْتِ مَال
الْمُسْلِمِينَ، وَصَل إِلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ،
وَمَصْرِفُهُ كُل مَا تَقُومُ بِهِ مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ،
وَالْمُرْصَدُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْقُضَاةِ وَنَحْوِهِمْ
هُمْ عَمَلَةُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ تَقُومُ بِهِمْ مَصَالِحُ
الْمُسْلِمِينَ، فَهُمْ مَصْرِفٌ مِنْ مَصَارِفِ بَيْتِ الْمَال (2) .
وَتَأْمِينُ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَاجِبٌ عَلَى الإِْمَامِ، فَإِذَا
كَانَتْ هَذِهِ الْمَصَالِحُ لاَ يُمْكِنُ تَأْمِينُهَا إِلاَّ
بِالإِْرْصَادِ، كَانَ الإِْرْصَادُ وَاجِبًا؛ لأَِنَّ مَا لاَ يَتِمُّ
الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَقَدْ سُئِل الشَّيْخُ عَلِيٌّ
الْعَقَدِيُّ الْحَنَفِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مَشْرُوعِيَّةِ
الإِْرْصَادِ فَأَجَابَ:
" لاَ شَكَّ فِي جَوَازِهَا لِمَا فِيهِ مِنْ إِيصَال الْحَقِّ إِلَى
مُسْتَحِقِّيهِ فَيَكُونُ جَائِزًا، بَل وَاجِبًا لِمَا قُلْنَا، وَهَذَا
مُجْمَعٌ عَلَيْهِ ". (3)
أَرْكَانُ الإِْرْصَادِ:
6 - لاَ بُدَّ فِي الإِْرْصَادِ مِنْ وُجُودِ مُرْصِدٍ (بِكَسْرِ الصَّادِ)
، وَمُرْصَدٍ (بِفَتْحِ الصَّادِ) ، وَجِهَةٍ مُرْصَدٍ عَلَيْهَا،
وَصِيغَةٍ.
__________
(1) حاشية كنون على الزرقاني 7 / 131
(2) الفتاوى المهدية 2 / 647.
(3) الفتاوى المهدية 2 / 648
(3/108)
وَلِكُل وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الأَْرْكَانِ
شُرُوطٌ لاَ بُدَّ مِنْ تَوَفُّرِهَا فِيهِ؛ لِيَكُونَ الإِْرْصَادُ
صَحِيحًا. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
الأَْوَّل: الْمُرْصِدُ (بِكَسْرِ الصَّادِ)
7 - وَيُشْتَرَطُ فِي الْمُرْصِدِ (بِكَسْرِ الصَّادِ) أَنْ يَكُونَ
جَائِزَ التَّصَرُّفِ فِيمَا أَرَصَدَهُ، مِنْ مَال بَيْتِ مَال
الْمُسْلِمِينَ (1) .
وَجَائِزُ التَّصَرُّفِ هَذَا لاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَسْتَجْمِعَ شُرُوطَ
أَهْلِيَّةِ التَّبَرُّعِ، وَأَنْ يَكُونَ إِمَامًا أَوْ أَمِيرًا (2) ،
أَوْ وَزِيرًا فُوِّضَ إِلَيْهِ تَدْبِيرُ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ (3) ،
أَوْ رَجُلاً لَهُ اسْتِحْقَاقٌ مِنْ بَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ
وَجُعِلَتْ لَهُ مَنْفَعَةُ عَقَارٍ مُعَيَّنٍ مِنْ بَيْتِ مَال
الْمُسْلِمِينَ (4) ، وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ الْمُرْصَدَ عَلَيْهِ لَهُ
أَنْ يَرْصُدَهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِاشْتِرَاطِ
أَلاَّ يَنْسُبَ الْمُرْصِدَ (بِكَسْرِ الصَّادِ) الإِْرْصَادَ إِلَى
نَفْسِهِ. لأَِنَّ الأَْعْيَانَ الْمُرْصَدَةَ لَيْسَتْ مِلْكًا لَهُ، بَل
هِيَ مِلْكُ بَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا النَّصُّ، وَإِنْ لَمْ
يُصَرِّحْ بِهِ بَقِيَّةُ الْفُقَهَاءِ، فَإِنَّهُ لاَ يَتَنَافَى مَعَ
شَيْءٍ مِمَّا ذَهَبُوا إِلَيْهِ فِي الإِْرْصَادِ.
فَإِنْ نَسَبَ الْمُرْصِدُ الإِْرْصَادَ إِلَى نَفْسِهِ لَمْ يَصِحَّ
إِرْصَادُهُ.
__________
(1) مطالب أولي النهى 4 / 278، طبع المكتب الإسلامي ببيروت.
(2) حاشية الجمل 3 / 577 طبع دار إحياء التراث ببيروت، حاشية الشرواني على
التحفة 5 / 392 الطبعة الميمنية الأولى 1306، وحاشية البجيرمي على منهج
الطلاب 3 / 202 طبع المكتبة الإسلامية بتركيا، ونهاية الزين شرح قرة العين
268 طبع مصطفى البابي الحلبي، وحاشية الدسوقي 4 / 82
(3) الفتاوى المهدية 2 / 647
(4) الفتاوى المهدية 2 / 646
(3/109)
قَال عَلِيُّ كَنُونٍ فِي حَاشِيَتِهِ
عَلَى الزَّرْقَانِيِّ: إِنْ وَقَفَ الأَْئِمَّةُ وَقْفًا عَلَى جِهَةِ
الْبِرِّ وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَنَسَبُوهُ لأَِنْفُسِهِمْ فَلاَ
يَصِحُّ (1) .
الثَّانِي: الْمُرْصَدُ (بِفَتْحِ الصَّادِ) :
8 - يُشْتَرَطُ فِي الْمَال الْمُرْصَدِ أَنْ يَكُونَ عَيْنًا قَدْ آلَتْ
إِلَى بَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ بِالاِتِّفَاقِ (2) ، كَالأَْرَاضِيِ
الَّتِي اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً، وَآلَتْ إِلَى
بَيْتِ الْمَال، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ لاَ
يَجُوزُ لِلإِْمَامِ أَنْ يَرْصُدَ شَيْئًا مِنْ أَرَاضِي الْحَوْزِ؛
لأَِنَّ هَذِهِ الأَْرَاضِيَ مِلْكُ أَصْحَابِهَا، وَلَيْسَتْ مِلْكًا
لِبَيْتِ الْمَال.
وَالْمُرَادُ بِأَرْضِ الْحَوْزِ هُنَا: الأَْرْضُ الَّتِي عَجَزَ
صَاحِبُهَا عَنْ زِرَاعَتِهَا، وَأَدَاءِ خَرَاجِهَا، فَدَفَعَهَا إِلَى
الإِْمَامِ لِتَكُونَ مَنَافِعُهَا جَبْرًا لِلْخَرَاجِ (3) .
الثَّالِثُ: الْمُرْصَدُ عَلَيْهِ:
9 - يُشْتَرَطُ فِي الْمُرْصَدِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَصَارِفِ
بَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِ الإِْجْمَال (4) . فَإِنْ لَمْ
__________
(1) حاشية كنون على شرح الزرقاني لمختصر خليل 7 / 131
(2) الفتاوى المهدية 2 / 246، وابن عابدين 3 / 259، وحاشية أبو السعود 2 /
505، والأشباه والنظائر لابن نجيم 1 / 310، وحاشية الشرواني على تحفة
المحتاج 5 / 392، وحاشية الدسوقي 4 / 82، ومطالب أولي النهى 4 / 278 ونهاية
الزين شرح قرة العين ص: 268
(3) البحر الرائق 5 / 203، وهي تختلف عن أراضي الحوز التي يذكرونها في
الغنائم والخراج، وهي ما مات أربابه بلا وارث وآل لبيت المال، أو فتح عنوة
وأبقي للمسلمين إلى يوم القيامة. انظر حاشية ابن عابدين 3 / 256، وحاشية
الطحطاوي على الدر المختار 2 / 463
(4) الفتاوى المهدية 2 / 647، والأشباه والنظائر لابن نجيم 1 / 190، وابن
عابدين 3 / 266، والشرواني على التحفة 5 / 392
(3/109)
يَكُنْ لَهُ اسْتِحْقَاقٌ مِنْ بَيْتِ
الْمَال لَمْ يَحِل لَهُ الأَْكْل مِنْ هَذَا الإِْرْصَادِ، وَلَوْ
أَقَرَّهُ النَّاظِرُ وَبَاشَرَ الْعَمَل فِيمَا أُرْصِدَ لَهُ
الْمُرْصَدُ؛ لأَِنَّ هَذَا مِنْ بَيْتِ الْمَال، وَهُوَ لاَ يَتَحَوَّل
عَنْ حُكْمِهِ الشَّرْعِيِّ بِجَعْل أَحَدٍ (1) .
فَإِذَا أُرْصِدَ عَلَى جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ، تُؤَمِّنُ مَصْلَحَةً عَامَّةً
لِلْمُسْلِمِينَ، كَالْمَدَارِسِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْقُضَاةِ وَنَحْوِ
ذَلِكَ فَإِرْصَادُهُ صَحِيحٌ نَافِذٌ (2) ، لأَِنَّ الْمَصْرِفَ الأَْوَّل
لأَِمْوَال بَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ تَأْمِينُ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ
لِلْمُسْلِمِينَ.
10 - وَاخْتَلَفُوا فِي الإِْرْصَادِ عَلَى أَشْخَاصٍ مُعَيَّنِينَ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ، وَمِنْهُمْ عَبْدُ الْبَرُّ بْنُ
الشِّحْنَةِ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَمِنْهُمُ
السُّيُوطِيُّ وَالسُّبْكِيُّ، إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الإِْرْصَادُ
عَلَى أَشْخَاصٍ بِأَعْيَانِهِمْ (3) وَإِنْ كَانُوا يَقُومُونَ
بِمَصَالِحَ عَامَّةٍ، أَوْ لَهُمُ اسْتِحْقَاقٌ مِنْ بَيْتِ الْمَال،
كَوَقْفِ الإِْمَامِ عَلَى أَوْلاَدِهِ وَنَحْوِهِمْ (4) .
وَلَعَلَّهُمْ مَنَعُوا ذَلِكَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، وَقَطْعًا لِدَابِرِ
تَلاَعُبِ الْفَسَقَةِ مِنَ الْحُكَّامِ بِصَرْفِ أَمْوَال بَيْتِ مَال
الْمُسْلِمِينَ لِلْمُقَرَّبِينَ إِلَيْهِمْ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَجُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ إِلَى جَوَازِ الإِْرْصَادِ عَلَى أَشْخَاصٍ
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم 1 / 311
(2) الشرواني على تحفة المحتاج 5 / 392، وحاشية الجمل 3 / 77، وحاشية ابن
عابدين على الدر المختار 3 / 259، والفتاوى المهدية 2 / 647، ومطالب أولي
النهى 4 / 278، ونهاية الزين شرح قرة العين ص: 268، والرهوني علي الزرقاني
7 / 130 - 131
(3) الشرواني على تحفة المحتاج 5 / 392، وحاشية الجمل 3 / 576
(4) الفتاوى المهدية 2 / 648
(3/110)
بِأَعْيَانِهِمْ، بِشَرْطِ ظُهُورِ
الْمَصْلَحَةِ فِي ذَلِكَ (1) .
وَأَجَازَ ذَلِكَ ابْنُ نُجَيْمٍ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ،
بِشَرْطِ أَنْ يَجْعَل آخِرَ الإِْرْصَادِ لِجِهَةٍ عَامَّةٍ،
كَالْفُقَرَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَنَحْوِهِمْ، نَظَرًا لِلْمَال (2) .
11 - وَيَنُصُّ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَمِنْهُمُ
السُّيُوطِيُّ عَلَى أَنَّ الْمُرْصَدَ عَلَيْهِ يَسْتَحِقُّ مَا رُصِدَ
لَهُ وَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِعَمَلِهِ الْمَشْرُوطِ فِي الإِْرْصَادِ (3) ،
وَيَرَى بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَمِنْهُمُ الرَّمْلِيُّ أَنَّهُ يَجِبُ
عَلَى الْمُرْصَدِ عَلَيْهِ الْعَمَل بِشَرْطِ الإِْرْصَادِ، وَلاَ
يَسْتَحِقُّ الْمَعْلُومُ الْمُرْصَدَ عَلَيْهِ إِلاَّ إِذَا بَاشَرَ
الْعَمَل بِنَفْسِهِ أَوْ نَائِبِهِ (4) .
وَيَنُصُّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى، أَنَّهُ إِنْ قَصَّرَ الْمُرْصَدُ
(بِفَتْحِ الصَّادِ) عَنْ كِفَايَةِ جَمِيعِ الْمُسْتَحِقِّينَ، وَكَانَ
الإِْرْصَادُ عَلَى جِهَةٍ، رُوعِيَ فِي الاِسْتِحْقَاقِ صِفَةُ
الأَْحَقِّيَّةِ مِنْ بَيْتِ الْمَال، فَيُقَدَّمُ الأَْحَقُّ فِي بَيْتِ
الْمَال عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانُوا جَمِيعًا مِنْ أَصْحَابِ
الأَْحَقِّيَّةِ مِنْ بَيْتِ الْمَال، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ مِنْهُمْ مَنْ
كَانَ أَكْثَرَ حَاجَةً إِلَيْهِ، فَيُقَدَّمُ الْمُدَرِّسُ عَلَى
الْمُؤَذِّنِ، وَالْمُؤَذِّنُ عَلَى الإِْمَامِ، وَالإِْمَامُ عَلَى
الْمُقِيمِ. فَإِنِ اسْتَوَوْا فِي الْحَاجَةِ إِلَيْهِمْ قُدِّمَ مِنْهُمْ
مَنْ كَانَ أَكْبَرَ سِنًّا (5) .
الرَّابِعُ: الصِّيغَةُ:
12 - يُشْتَرَطُ فِي صِيغَةِ الإِْرْصَادِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْوَقْفِ.
وَيَصِحُّ بِلَفْظِ الإِْرْصَادِ كَمَا يَصِحُّ بِلَفْظِ
__________
(1) نهاية الزين شرح قرة العين ص: 268، وحاشية الجمل 3 / 576، وحاشية
الشرواني 5 / 392، وحاشية كنون على الزرقاني 7 / 131، وحاشية ابن عابدين 3
/ 265، وتهذيب القواعد بهامش الفروق 3 / 10، والرهوني 7 / 130، 131
(2) الفتاوى المهدية 2 / 646، 648
(3) الأشباه والنظائر للسيوطي 1 / 310، والجمل 3 / 577
(4) حاشية الجمل 3 / 577
(5) الأشباه والنظائر 1 / 311
(3/110)
الْوَقْفِ، وَكَثِيرًا مَا يَسْتَعْمِل
الْفُقَهَاءُ إِحْدَى الصِّيغَتَيْنِ (الْوَقْفَ، الإِْرْصَادَ)
لِلتَّعْبِيرِ عَنِ الأُْخْرَى.
13 - لِلْمُرْصِدِ أَنْ يَشْتَرِطَ فِي إِرْصَادِهِ مِنَ الشُّرُوطِ
الْمَشْرُوعَةِ مَا يَشَاءُ كَالْوَاقِفِ. قَال فِي الْفَتَاوَى
الْمَهْدِيَّةِ: الْوَاقِفُ يَتَصَرَّفُ فِي وَقْفِهِ كَيْفَ شَاءَ،
وَمِثْلُهُ الْمُرْصِدُ بِإِجْمَاعِ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ (1) .
آثَارُ الإِْرْصَادِ:
14 - إِذَا أَرْصَدَ الإِْمَامُ أَوْ نَائِبُهُ شَيْئًا مِنْ أَمْوَال
الْمُسْلِمِينَ تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ الآْثَارُ التَّالِيَةُ:
أ - تَأْبِيدُ هَذَا الإِْرْصَادِ وَاسْتِمْرَارُ صَرْفِهِ عَلَى
الْمَصْرِفِ الَّذِي عَيَّنَهُ الْمُرْصِدُ. فَلاَ يَجُوزُ لإِِمَامٍ
يَأْتِي بَعْدَهُ نَقْضُهُ وَلاَ إِبْطَالُهُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (2)
. وَلاَ أَدَل عَلَى ذَلِكَ مِنْ تِلْكَ الْحَادِثَةِ الَّتِي حَدَثَتْ فِي
عَهْدِ السُّلْطَانِ بُرْقُوقٍ، فَإِنَّهُ فِي عَامِ نَيِّفٍ وَثَمَانِينَ
وَسَبْعِمِائَةٍ أَرَادَ أَنْ يَنْقُضَ الأَْرْصَادَ لِكَوْنِهَا أُخِذَتْ
مِنْ بَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ، فَعَقَدَ لِذَلِكَ مَجْلِسًا حَافِلاً
حَضَرَهُ الشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ عُمَرُ بْنُ رَسْلاَنَ
الْبُلْقِينِيُّ الشَّافِعِيُّ، وَالْبُرْهَانُ بْنُ جَمَاعَةَ، وَشِيحُ
الْحَنَفِيَّةِ الشَّيْخُ أَكْمَل الدِّينِ شَارِحُ الْهِدَايَةِ،
وَغَيْرُهُمْ، فَقَال لَهُ الشَّيْخُ الْبُلْقِينِيُّ: مَا وُقِفَ عَلَى
الْعُلَمَاءِ وَالطَّلَبَةِ لاَ سَبِيل إِلَى نَقْضِهِ؛ لأَِنَّ لَهُمْ فِي
الْخُمُسِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَمَا رُصِدَ عَلَى فَاطِمَةَ وَخَدِيجَةَ
وَعَائِشَةَ يُنْقَضُ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ الْحَاضِرُونَ (3) . قَال
فِي
__________
(1) الفتاوى المهدية 2 / 648
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 259، 266، والفتاوى المهدية 2 / 647، وحاشية كنون
على شرح الزرقاني لمتن خليل 7 / 131
(3) ابن عابدين 3 / 259، والفتاوى المهدية 2 / 647 وما بعدها.
(3/111)
الْفَتَاوَى الْمَهْدِيَّةِ: قَال
السُّيُوطِيُّ: وَهُوَ الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ، قَالَهُ
الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ، سُلْطَانُ الْعُلَمَاءِ، فَكَلاَمُ
الْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُوَافِقُ بَعْضُهُ بَعْضًا (1) .
ب - مَدَى الاِلْتِزَامِ بِالشُّرُوطِ فِيهِ: يَرَى جُمْهُورُ
الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلإِْمَامِ مُخَالَفَةُ شُرُوطِ
الإِْرْصَادِ (2) بِمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا رَأَى وَلِيُّ الأَْمْرِ
الْمَصْلَحَةَ فِي زِيَادَةٍ فِيهِ، أَوْ نَقْصٍ فِي مَصَارِفِ الْوَقْفِ
الْمَذْكُورِ، يَسُوغُ لَهُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَصْرِفَهُ
عَنِ الْجِهَةِ الَّتِي عُيِّنَتْ فِي الإِْرْصَادِ، كَأَنْ يَمْنَعَ مَنْ
عُيِّنَ فِيهِ وَيَصْرِفَ اسْتِحْقَاقَهُ لِغَيْرِهِ، فَحِينَئِذٍ لاَ
يَصِحُّ الْعُدُول (3) .
وَعَلَّل الْعَلاَّمَةُ أَبُو السُّعُودِ جَوَازَ مُخَالَفَةِ الإِْمَامِ
شُرُوطَ الإِْرْصَادِ، بِأَنَّ الْمُرْصَدَ مِنْ بَيْتِ الْمَال أَوْ
يَرْجِعُ إِلَيْهِ (4) . وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ
أَنَّهُ تَجِبُ مُرَاعَاةُ شُرُوطِ الْمُرْصَدِ، وَلاَ تَجُوزُ
مُخَالَفَتُهَا، إِذَا كَانَتْ عَلَى وَفْقِ الأَْوْضَاعِ الشَّرْعِيَّةِ
(5) .
ثَانِيًا:
الإِْرْصَادُ بِمَعْنَى تَخْصِيصِ
رَيْعِ الْوَقْفِ لِسَدَادِ دُيُونِهِ
:
15 - يُطْلِقُ الْحَنَفِيَّةُ " الإِْرْصَادَ " عَلَى تَحْوِيل جُزْءٍ مِنْ
رَيْعِ الْوَقْفِ أَوْ كُلِّهِ عَنِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِوَفَاءِ دَيْنٍ
مَشْرُوعٍ
__________
(1) الفتاوى المهدية 2 / 648
(2) حاشية أبو السعود على ملا مسكين 2 / 505، والفتاوى المهدية 2 / 646 -
649، وحاشية ابن عابدين 3 / 259
(3) حاشية أبو السعود 2 / 505، وابن عابدين 3 / 259
(4) حاشية أبو السعود 2 / 506، وابن عابدين 3 / 259
(5) ابن عابدين 3 / 259، وحاشية كنون على شرح الزرقاني 3 / 131
(3/111)
عَلَى الْوَقْفِ، كَمَا إِذَا بَنَى
الْمُسْتَأْجِرُ لِلْعَقَارِ الْمَوْقُوفِ دُكَّانًا فِيهِ، أَوْ جَدَّدَ
بِنَاءَهُ الْمُتَدَاعِيَ؛ لِيَكُونَ مَا أَنْفَقَهُ فِي ذَلِكَ دَيْنًا
عَلَى الْوَقْفِ إِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ فَاضِلٌ فِي رَيْعِ الْوَقْفِ
يَقُومُ بِذَلِكَ. فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ الْبِنَاءُ لِلْوَقْفِ،
وَيَأْخُذُ الْمُسْتَأْجِرُ مَا دَفَعَهُ عَلَى الْبِنَاءِ أَوْ عَلَى
إِصْلاَحِهِ، وَيَكُونُ حَقُّهُ فِي اسْتِيفَاءِ مَا دَفَعَهُ مُقَدَّمًا
عَلَى حَقِّ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ مِنَ
الأَْجْرِ بَعْدَ الْبِنَاءِ هُوَ أَجْرُ الْمِثْل لِلْمُسْتَأْجَرِ
(بِفَتْحِ الْجِيمِ) بَعْدَ الْبِنَاءِ، وَأَجَازَ الْبَعْضُ تَأْجِيرَهُ
إِيَّاهُ بِدُونِ أَجْرِ الْمِثْل؛ لأَِنَّهُ لَوْ أَرَادَ آخَرُ أَنْ
يَسْتَأْجِرَهُ وَيَدْفَعَ لِلأَْوَّل مَا صَرَفَهُ عَلَى الْعِمَارَةِ لاَ
يَسْتَأْجِرُهُ إِلاَّ بِتِلْكَ الأُْجْرَةِ الْقَلِيلَةِ (1) . وَمَحَل
تَفْصِيل ذَلِكَ كُلِّهِ بَحْثُ (الْوَقْف) .
16 الْفَرْقُ بَيْنَ الإِْرْصَادِ بِهَذَا الْمَعْنَى وَبَيْنَ الْحَكْرِ
(وَهُوَ فِي حَقِيقَتِهِ اسْتِئْجَارُ أَرْضِ الْوَقْفِ لِمُدَّةٍ
طَوِيلَةٍ لإِِقَامَةِ بِنَاءٍ عَلَيْهَا) أَنَّ الْعِمَارَةَ فِي
الإِْرْصَادِ تَكُونُ لِلْوَقْفِ، وَأَنَّ الْعِمَارَةَ فِي الْحَكْرِ
تَكُونُ لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَمَا يَدْفَعُهُ الْوَقْفُ لِلْمُسْتَأْجِرِ
فِي الإِْرْصَادِ هُوَ دَيْنٌ عَلَى الْوَقْفِ لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَمَا
يَدْفَعُهُ الْمُسْتَأْجِرُ لِلْوَقْفِ فِي الْحَكْرِ هُوَ أُجْرَةُ
الأَْرْضِ الَّتِي أَقَامَ عَلَيْهَا بِنَاءَهُ.
أَرْضٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْرْضُ: هِيَ الَّتِي عَلَيْهَا النَّاسُ، وَلَفْظُهَا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 6، 3 / 376
(3/112)
مُؤَنَّثٌ. وَهِيَ اسْمُ جِنْسٍ،
وَجَمْعُهَا: أَرَاضٍ وَأُرُوضٌ وَأَرْضُونَ (1) .
طَهَارَةُ الأَْرْضِ، وَتَطْهِيرُهَا، وَالتَّطْهِيرُ بِهَا
طَهَارَةُ الأَْرْضِ:
2 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا فِي أَنَّ
الأَْصْل طَهَارَةُ الأَْرْضِ. فَتَصِحُّ الصَّلاَةُ عَلَى أَيِّ جُزْءٍ
مِنْهَا، مَا لَمْ يَتَنَجَّسْ، وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ
يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي - إِلَى أَنْ قَال: - وَجُعِلَتْ لِي الأَْرْضُ
مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ
الصَّلاَةُ فَلْيُصَل. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا
طَهُورًا وَهَذَا نَصٌّ فِي طَهَارَةِ الأَْرْضِ.
تَطْهِيرُ الأَْرْضِ مِنَ النَّجَاسَةِ (2)
3 - الأَْرْضُ إِذَا تَنَجَّسَتْ بِمَائِعٍ، كَالْبَوْل وَالْخَمْرِ
وَغَيْرِهِمَا فَتَطْهِيرُهَا أَنْ يَغْمُرَهَا الْمَاءُ بِحَيْثُ يَذْهَبُ
لَوْنُ النَّجَاسَةِ وَرِيحُهَا، وَمَا انْفَصَل عَنْهَا غَيْرُ
مُتَغَيِّرٍ بِهَا فَهُوَ طَاهِرٌ. بِهَذَا قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ،
وَذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ أَنَسٌ قَال: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَال فِي
طَائِفَةٍ نَاحِيَةٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَزَجَرَهُ النَّاسُ، فَنَهَاهُمْ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ
أَمَرَ بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
(3)
__________
(1) لسان العرب
(2) الأم 1 / 44 وما بعدها، وفتح القدير 1 / 140، وابن عابدين 1 / 207،
الاختيار 1 / 46، والمغني 2 / 54، 94، 95، 96، وبداية المجتهد 1 / 76، وفتح
الباري 1 / 225، 227، 229، 298، 436 ط السلفية، ونيل الأوطار 1 / 38، ومسلم
(1 / 371 ط عيسى الحلبي)
(3) أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 324 ط السلفية)
(3/112)
وَمِثْل الْغَمْرِ بِالْمَاءِ مَا إِذَا
أَصَابَهَا الْمَطَرُ أَوِ السَّيْل وَجَرَى عَلَيْهَا، فَإِنَّهَا
تَطْهُرُ؛ لأَِنَّ تَطْهِيرَ النَّجَاسَةِ لاَ يُعْتَبَرُ فِيهِ نِيَّةٌ
وَلاَ فِعْلٌ، فَاسْتَوَى مَا صَبَّهُ الآْدَمِيُّ وَمَا جَرَى بِغَيْرِ
صَبٍّ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا كَانَتِ الأَْرْضُ رَخْوَةً فَطَهُورُهَا
بِغَمْرِهَا بِالْمَاءِ، كَمَا قَال الْجُمْهُورُ، وَإِنْ كَانَتِ
الأَْرْضُ صُلْبَةً فَإِنَّهَا لاَ تَطْهُرُ حَتَّى يَنْفَصِل الْمَاءُ،
فَيَكُونُ الْمُنْفَصِل عَنْهَا نَجَسًا؛ لأَِنَّ النَّجَاسَةَ انْتَقَلَتْ
إِلَيْهِ.
وَإِنَّمَا تَطْهُرُ بِحَفْرِهَا، حَتَّى يَصِل الْحَفْرُ إِلَى مَوْضِعٍ
لَمْ تَصِلْهُ النَّجَاسَةُ، أَوْ بِكَبْسِهَا بِتُرَابٍ أَلْقَاهُ
عَلَيْهَا، فَزَالَتْ رَائِحَةُ النَّجَاسَةِ.
4 - إِذَا جَفَّتِ النَّجَاسَةُ الْمَائِعَةُ، فَقَال جُمْهُورُ
الْفُقَهَاءِ: لاَ تَطْهُرُ إِلاَّ بِالْمَاءِ، لِحَدِيثِ الأَْعْرَابِيِّ
السَّابِقِ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ - فِي الأَْظْهَرِ -
تَطْهُرُ لِلصَّلاَةِ عَلَيْهَا لاَ لِلتَّيَمُّمِ مِنْهَا، وَقِيل:
تَطْهُرُ لَهُمَا، وَذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ
عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَال: إِنَّ الْكِلاَبَ كَانَتْ تَبُول، وَتُقْبِل
وَتُدْبِرُ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمْ يَكُنْ يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ
ذَلِكَ.
وَقَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: إِذَا جَفَّتِ الأَْرْضُ فِي الظِّل فَقَدْ
طَهُرَتْ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ
عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ أَنَّهُ قَال: إِذَا جَفَّتِ الأَْرْضُ فَقَدْ زَكَتْ
(1)
5 - أَمَّا إِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ غَيْرَ مَائِعَةٍ، بِأَنْ كَانَتْ
ذَاتَ أَجْزَاءٍ مُتَفَرِّقَةٍ كَالرِّمَّةِ، وَالرَّوْثِ، وَالدَّمِ إِذَا
جَفَّ، وَاخْتَلَطَتْ بِأَجْزَاءِ الأَْرْضِ لَمْ تَطْهُرْ بِالْغَسْل، بَل
تَطْهُرُ بِإِزَالَةِ أَجْزَاءِ الْمَكَانِ، حَتَّى يَتَيَقَّنَ زَوَال
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (1 / 57 الدار السلفية - بمباي)
(3/113)
أَجْزَاءِ النَّجَاسَةِ، وَهَذَا مَا لاَ
خِلاَفَ فِيهِ (1) .
التَّطْهِيرُ بِالأَْرْضِ
الاِسْتِجْمَارُ:
6 - الاِسْتِجْمَارُ هُوَ قَلْعُ النَّجَاسَةِ بِالْجِمَارِ، وَهِيَ
الْحِجَارَةُ الصِّغَارُ. وَكَمَا يَصِحُّ الاِسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ
يَصِحُّ بِالأَْحْجَارِ، وَهَذَا مِمَّا لاَ خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ
الْعُلَمَاءِ (2) .
تَطْهِيرُ النَّعْل بِالأَْرْضِ:
7 - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَنَجَّسَتِ النَّعْل وَمَا
فِي مَعْنَاهَا بِمَائِعٍ، مِثْل الْبَوْل وَالدَّمِ وَالْخَمْرِ أَنَّهَا
لاَ تَطْهُرُ إِلاَّ بِالْغَسْل، وَعَلَى رِوَايَةِ الْمَالِكِيَّةِ
الْقَائِلَةِ بِأَنَّ إِزَالَةَ النَّجَاسَةِ سُنَّةٌ، تَكُونُ مَعْفُوًّا
عَنْهَا.
وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ النَّجَاسَةُ ذَاتَ جِرْمٍ، فَإِنْ كَانَتْ
يَابِسَةً فَالْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالصَّحِيحُ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ، أَنَّهَا تَطْهُرُ بِالدَّلْكِ أَيْضًا، وَأَمَّا إِذَا
كَانَتِ النَّجَاسَةُ ذَاتَ جِرْمٍ وَرَطْبَةً، فَالْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو
يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ،
أَنَّهَا تَطْهُرُ أَيْضًا بِالدَّلْكِ.
وَالأَْصْل فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الآْثَارُ الَّتِي وَرَدَتْ فِي
طَهَارَةِ النِّعَال بِالدَّلْكِ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِذَا وَطِئَ أَحَدُكُمُ الأَْذَى بِنَعْلِهِ
فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُ طَهُورٌ. وَالْمَنْقُول فِي كُتُبِ
الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ النَّجَاسَةَ عِنْدَهُمْ
__________
(1) فتح القدير 1 / 148، 150، والاختيار 1 / 49، وبداية المجتهد 1 / 76،
وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 113، 114، ومغني المحتاج 1 / 43، وشرح
الروض 1 / 21، والأم 1 / 18، 44، والمغني 1 / 149 وما بعدها و 156، 157،
منتقى الأخبار 1 / 85
(2) المراجع السابقة.
(3/113)
لاَ تَطْهُرُ إِلاَّ بِالْمَاءِ
الْمُطْلَقِ، وَهَذِهِ أَيْضًا رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
(1) .
التَّتْرِيبُ فِي تَطْهِيرِ نَجَاسَةِ الْكَلْبِ:
8 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ اسْتِعْمَال
التُّرَابِ مَعَ الْمَاءِ فِي التَّطْهِيرِ مِنْ نَجَاسَةِ الْكَلْبِ
وَالْخِنْزِيرِ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا
رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ
الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولاَهُنَّ بِالتُّرَابِ.
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ. وَقَدْ قَاسُوا الْخِنْزِيرَ عَلَى
الْكَلْبِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ
اسْتِعْمَال التُّرَابِ فِي ذَلِكَ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ
(كَلْب)
التَّطَهُّرُ بِالتُّرَابِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَجْزَاءِ الأَْرْضِ:
9 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَبَاحُ بِالتَّيَمُّمِ -
عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ - مَا يُسْتَبَاحُ بِالْوُضُوءِ وَالْغُسْل،
وَالتَّيَمُّمُ يَكُونُ بِالتُّرَابِ الطَّهُورِ إِجْمَاعًا، وَاخْتَلَفُوا
فِيمَا عَدَاهُ مِنْ أَجْزَاءِ الأَْرْضِ، عَلَى تَفْصِيلٍ مَوْطِنُهُ
مُصْطَلَحُ (تَيَمُّم (2))
__________
(1) الطحطاوي ص 84، وفتح القدير 1 / 135، والاختيار 1 / 45، والدسوقي 1 /
74، والجمل على المنهج 1 / 183، والمغني مع الشرح الكبير 1 / 728
(2) فتح القدير 1 / 135، 136، والاختيار 1 / 45، وحاشية الدسوقي على الشرح
الكبير 1 / 75، 83، 84، والمغني 1 / 52، 53 و 2 / 83، 84، والمحلى 1 / 94
وما بعدها، ونيل الأوطار 1 / 39، 83، 84، ومعاني الآثار للطحاوي 1 / 13،
وسنن الدارقطني ص 24، 25
(3/114)
الصَّلاَةُ عَلَى الأَْرْضِ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ الصَّلاَةِ عَلَى الأَْرْضِ
الطَّاهِرَةِ فِي جَمِيعِ الْبِقَاعِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّلاَةِ عَلَى
الأَْرْضِ النَّجِسَةِ، فَمَنَعَهَا الْجُمْهُورُ وَهُوَ قَوْلٌ
لِلْمَالِكِيَّةِ، وَذَهَبَ إِلَى صِحَّةِ الصَّلاَةِ عَلَيْهَا
الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ.
وَهُنَاكَ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ لِبَعْضِ الْمَوَاضِعِ كَجَوْفِ الْكَعْبَةِ،
وَالْمَقْبَرَةِ، وَالْحَمَّامِ، وَالْحُشِّ، وَمَعَاطِنِ الإِْبِل،
وَالأَْرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، وَأَرْضِ الْعَذَابِ، وَالْبِيَعِ،
وَالْكَنَائِسِ، وَالطَّرِيقِ الْمَسْلُوكَةِ، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ
يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا (1) .
أَرْضُ الْعَذَابِ:
11 - هِيَ الأَْرْضُ الَّتِي عُذِّبَ فِيهَا قَوْمٌ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ،
كَأَرْضِ بَابِل، وَدِيَارِ ثَمُودَ
، كَمَا جَاءَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ
الْمُرْسَلِينَ} . . . {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ} (2) .
وَمِنَ الأَْحْكَامِ الَّتِي تَتَّصِل بِهَذِهِ الأَْرْضِ مَا يَأْتِي:
حُكْمُ دُخُول تِلْكَ الْمَوَاضِعِ:
12 - يُكْرَهُ دُخُول تِلْكَ الْمَوَاضِعِ، وَإِذَا دَخَل الإِْنْسَانُ
شَيْئًا مِنْهَا فَعَلَى الصِّفَةِ الَّتِي أَرْشَدَ إِلَيْهَا
__________
(1)) الأم 1 / 79، 80، 85، 207 و7 / 188، 189، 320، وحاشية الجمل 1 / 416،
2 / 99، والاختيار 1 / 59، 118، والدسوقي 1 / 34، 68، 155، وبداية المجتهد
1 / 68، 103، 106، 107، والمغني 2 / 64، 67، 75، 372، والمحلى 4 / 24 - 34،
80 - 82، وفتح الباري 1 / 256، 257، و 6 / 239، ونيل الأوطار 2 / 111، 118،
و3 / 248، وفتح القدير 1 / 479، 480، وأبو داود 1 / 182، 184، والجامع
لأحكام القرآن 10 - 54 - 52
(2) سورة الحجر / 80 - 83
(3/114)
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ الاِعْتِبَارِ وَالْخَوْفِ وَالإِْسْرَاعِ، لِمَا وَرَدَ
مِنْ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَدْخُلُوا
عَلَى هَؤُلاَءِ الْمُعَذَّبِينَ إِلاَّ أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، أَنْ
يُصِيبَكُمْ مِثْل مَا أَصَابَهُمْ. (1)
حُكْمُ التَّطَهُّرِ وَالتَّطْهِيرِ بِمَائِهَا:
13 - يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ مُصْطَلَحُ: (آبَار) ف 32
حُكْمُ الاِنْتِفَاعِ بِمَائِهَا فِي غَيْرِ الطَّهَارَةِ:
14 - يُمْنَعُ الاِنْتِفَاعُ بِمَاءِ آبَارِ هَذِهِ الأَْرْضِ
بِالنِّسْبَةِ لِلإِْنْسَانِ مِنْ طَبْخٍ وَعَجْنٍ، وَيَجُوزُ
الاِنْتِفَاعُ بِهِ لِغَيْرِ الإِْنْسَانِ؛ لِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ
أَنَّ النَّاسَ نَزَلُوا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى الْحِجْرِ أَرْضِ ثَمُودَ، فَاسْتَقَوْا مِنْ آبَارِهَا،
وَعَجَنُوا بِهِ الْعَجِينَ، فَأَمَرَهُمْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُهْرِيقُوا مَا اسْتَقَوْا مِنْ آبَارِهَا،
وَيَعْلِفُوا الإِْبِل الْعَجِينَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا مِنَ
الْبِئْرِ الَّتِي كَانَتْ تَرِدُهَا النَّاقَةُ.
حُكْمُ التَّيَمُّمِ بِتُرَابِهَا:
15 - يُكْرَهُ التَّيَمُّمُ بِتُرَابِ هَذِهِ الأَْرْضِ، وَذَلِكَ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَلِلْمَالِكِيَّةِ رَأْيَانِ،
أَحَدُهُمَا يَحْرُمُ التَّيَمُّمُ، وَالثَّانِي يَجُوزُ صَحَّحَهُ
التَّتَّائِيُّ (2) .
__________
(1) القرطبي 10 / 46 وما بعدها، وحديث: " لا تدخلوا. . . " أخرجه البخاري
(فتح الباري 1 / 530 ط السلفية) .
(2) الشرح الصغير 1 / 29، 30، والدسوقي 1 / 34، وابن عابدين 1 / 90،
وقليوبي 1 / 20
(3/115)
حُكْمُ الصَّلاَةِ فِيهَا:
16 - الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ صِحَّةُ الصَّلاَةِ
فِيهَا، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ بِهَا نَجَاسَةٌ؛ لأَِنَّ الصَّلاَةَ بِكُل
مَوْضِعٍ طَاهِرٍ صَحِيحَةٌ. كَذَلِكَ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ
وَالْحَنَفِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ الصَّلاَةِ فِيهَا مَعَ الْكَرَاهَةِ؛
لأَِنَّهُ مَوْضِعٌ مَسْخُوطٌ عَلَيْهِ. وَذَهَبَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنَ
الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ الصَّلاَةِ
فِيهَا، وَأَنَّهَا مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جُعِلَتْ لِي الأَْرْضُ مَسْجِدًا. (1)
وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَرِهَ الصَّلاَةَ بِخَسْفِ
بَابِل (2) .
زَكَاةُ مَا يَخْرُجُ مِنَ الأَْرْضِ
17 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَا أَنْبَتَتْهُ الأَْرْضُ مِنْ
زُرُوعٍ وَثِمَارٍ فِيهِ الزَّكَاةُ، بِشُرُوطٍ وَتَفْصِيلٍ مَوْطِنُهُ
(زَكَاة) ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَا يَخْرُجُ مِنَ الأَْرْضِ مِنْ
مَعْدِنٍ، أَوْ رِكَازٍ عَلَى تَفْصِيلٍ مَوْطِنُهُ (الزَّكَاة
وَالْمَعْدِنُ وَالرِّكَازُ) . (3)
التَّصَرُّفُ فِي أَرْضِ الْمَنَاسِكِ
مَكَانُ الإِْحْرَامِ:
18 - الْحَرَمُ يَجُوزُ إِحْيَاؤُهُ، وَيَجُوزُ لِلإِْمَامِ إِقْطَاعُهُ،
فَمَنْ أَحْيَاهُ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِبَيْعٍ
وَغَيْرِهِ؛ لأَِنَّهُ
__________
(1) تقدم تخريجه في فقرة (2)
(2) القرطبي 10 / 46 وما بعدها، وشرح منتهى الإرادات 1 / 158، وحاشية
الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 197، وفتح الباري 1 / 530
(3) الأم 2 / 28، 29 وحاشية الجمل على المنهاج 2 / 240، وفتح القدير 2 / 2،
3 والاختيار 1 / 148، 149، والشرح الكبير حاشية الدسوق1 / 486، والمغني 2 /
690 وما بعدها، المحلى 5 / 209 وما بعدها، الدرر البهية 2 / 11 وما بعدها،
والجامع لأحكام القرآن 7 / 99 وما بعدها، ونيل الأوطار 4 / 121
(3/115)
أَصْبَحَ مِلْكَهُ، وَلاَ يُضَيِّقُ عَلَى
الْمُحْرِمِينَ لاِتِّسَاعِهِ، وَهَذَا مِمَّا لاَ خِلاَفَ فِيهِ.
وَعَرَفَةُ وَمُزْدَلِفَةُ وَمِنًى لاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ إِحْيَاؤُهَا،
وَلاَ يَجُوزُ لِلإِْمَامِ إِقْطَاعُهَا. وَذَلِكَ لِتَعَلُّقِ حَقِّ
النُّسُكِ بِهَا، حَتَّى وَإِنِ اتَّسَعَتْ وَلَمْ تَضِقْ بِالْحَجِيجِ،
قَال الْجَمَل فِي حَاشِيَةِ شَرْحِ الْمَنْهَجِ: وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ
مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، فَلاَ تُمْلَكُ وَلاَ يُتَصَرَّفُ فِيهَا،
وَقَال الْغَزَالِيُّ: الأَْظْهَرُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُضَيِّقْ لَمْ
يَمْنَعْ، وَيَدُل لِذَلِكَ الْخَبَرِ الصَّحِيحِ قِيل يَا رَسُول اللَّهِ:
أَلاَ تَبْنِي لَكَ بَيْتًا بِمِنًى يُظِلُّكَ؟ فَقَال: لاَ، مِنًى مُنَاخُ
مَنْ سَبَقَ (1)
وَقِيسَ عَلَى ذَلِكَ نَمِرَةُ؛ لأَِنَّهُ يُسَنُّ لِلْحَاجِّ أَنْ
يَسْتَقِرَّ بِهَا قَبْل الزَّوَال مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، كَمَا قِيسَ
بِهَا الْمُحَصَّبُ؛ لأَِنَّهُ يُسَنُّ لِلْحُجَّاجِ إِذَا نَفَرُوا مِنْ
مِنًى أَنْ يَبِيتُوا فِيهِ. وَعَلَى هَذَا فَالتَّصَرُّفُ فِي أَرْضِ
الْمَنَاسِكِ لاَ يَتَأَتَّى؛ لأَِنَّهَا لاَ تُمْلَكُ بِالإِْحْيَاءِ (2)
.
مِلْكِيَّةُ الأَْرْضِ
19 - مِلْكِيَّةُ الأَْرْضِ لَهَا أَسْبَابٌ تَشْتَرِكُ مَعَ غَيْرِهَا
فِيهَا، وَهِيَ الْعُقُودُ النَّاقِلَةُ لِلْمِلْكِيَّةِ، وَالإِْرْثِ،
وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهُنَاكَ أَسْبَابٌ خَاصَّةٌ بِتَمَلُّكِ الأَْرْضِ،
وَهِيَ إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ، وَالإِْقْطَاعُ، وَلِكُل سَبَبٍ مِنْ هَذِهِ
__________
(1) " ألا تبني لك بيتا يظلك بمنى قال: لا، منى مناخ من سبق ". رواه
الترمذي (4 / 111 المطبعة المصرية 1350 هـ) بسنده عن مسيكة المكية عن عائشة
مرفوعا وقال: هذا حديث حسن، ورواه الحاكم في المستدرك (1 / 467 ط دار
الكتاب) وقال صاحب تحفة الأحوذي (3 / 621) مدار هذا الحديث على مسيكة
المكية وهي مجهولة.
(2) حاشية الجمل على شرح المنهج 3 / 562، 563، والوجيز 1 / 242
(3/116)
الأَْسْبَابِ مُصْطَلَحُهُ الْخَاصُّ،
فَيُرْجَعُ لِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِهِ إِلَيْهِ.
وَمِمَّا تَجْدُرُ الإِْشَارَةُ إِلَيْهِ، أَنَّ مُجَرَّدَ وَضْعِ الْيَدِ
الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ لَيْسَ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ مِلْكِهَا شَرْعًا،
مَهْمَا طَالَتِ الْمُدَّةُ. وَيُنْظَرُ تَفْصِيل هَذَا فِي مُصْطَلَحِ
(تَقَادُم) .
التَّصَرُّفُ فِي الأَْرْضِ الْمَوْقُوفَةِ:
20 - أَرْضُ الْوَقْفِ لاَ يَجُوزُ فِيهَا التَّصَرُّفُ النَّاقِل
لِلْمِلْكِيَّةِ فِي الْجُمْلَةِ، إِلاَّ فِي حَالاَتٍ خَاصَّةٍ
لِمَصْلَحَةِ الْوَقْفِ، أَوِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، وَتَفْصِيل
ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وَقْف) .
حُكْمُ إِجَارَةِ الأَْرْضِ:
21 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ إِجَارَةِ الأَْرْضِ،
فَأَكْثَرُهُمْ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ. وَقَدْ قَال بِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ
رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمِنَ
التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعُرْوَةُ وَالْقَاسِمُ
وَسَالِمٌ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَمَالِكٌ
وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ لَمَّا سُئِل
رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ عَنْ كِرَاءِ الأَْرْضِ قَال: أَمَّا بِشَيْءٍ
مَعْلُومٍ مَضْمُونٍ فَلاَ بَأْسَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ.
وَذَهَبَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ
وَطَاوُسٌ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ إِلَى
كَرَاهَةِ تَأْجِيرِ الأَْرْضِ، أَيْ عَدَمِ جَوَازِهَا، وَذَلِكَ لِمَا
رَوَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى
مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو
بْنِ دِينَارٍ أَنَّ طَاوُسًا يَمْنَعُ الإِْيجَارَ بِالذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ وَأَجَازَهَا بِالرُّبُعِ وَالثُّلُثِ.
(3/116)
مَا يُكْرَى بِهِ (الْعِوَضُ)
22 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ مَنْ قَال بِجَوَازِ الإِْجَارَةِ فِي أَنَّ
الأَْرْضَ تُكْرَى بِالذَّهَبِ وَسَائِرِ الْعُرُوضِ، عَدَا مَا تُنْبِتُهُ
الأَْرْضُ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى حَنْظَلَةُ بْنُ قَيْسٍ أَنَّهُ سَأَل
رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ عَنْ كِرَاءِ الأَْرْضِ فَقَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كِرَاءِ الأَْرْضِ قَال: فَقُلْتُ:
بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، قَال: إِنَّمَا نَهَى عَنْهَا بِبَعْضِ مَا
يَخْرُجُ مِنْهَا، أَمَّا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَلاَ بَأْسَ،
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلأَِنَّهَا عَيْنٌ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ
الْمَنْفَعَةِ الْمُبَاحَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهَا مَعَ بَقَائِهَا،
فَجَازَتْ إِجَارَتُهَا بِالأَْثْمَانِ، وَالْحُكْمُ فِي الْعُرُوضِ
كَالْحُكْمِ فِي الأَْثْمَانِ.
كِرَاؤُهَا بِالطَّعَامِ وَمَا تُنْبِتُهُ الأَْرْضُ:
23 - إِنْ آجَرَهَا بِطَعَامٍ غَيْرِ خَارِجٍ مِنْهَا، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ
جِنْسِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا أَوْ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ، وَكَانَ الْعِوَضُ
مَعْلُومًا فَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ سَعِيدُ
بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ وَالنَّخَعِيُّ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَبُو
حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَذَلِكَ لِمَا
رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، لَمَّا سُئِل عَنْ كِرَاءِ
الأَْرْضِ قَال: أَمَّا بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ مَضْمُونٍ فَلاَ بَأْسَ،
وَلأَِنَّهُ عِوَضٌ مَعْلُومٌ مَضْمُونٌ فَجَازَتْ إِجَارَتُهُ بِهِ
كَالأَْثْمَانِ.
وَقَال مَالِكٌ: لاَ تَجُوزُ الإِْجَارَةُ بِالطَّعَامِ وَلاَ بِمَا
تُنْبِتُهُ وَلَوْ كَانَ غَيْرَ طَعَامٍ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا
يَخْرُجُ مِنْهَا، أَوْ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ
ابْنُ مَاجَهْ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلاَ
يُكْرِيهَا بِطَعَامٍ مُسَمًّى. وَقِيسَ عَلَى الطَّعَامِ غَيْرُهُ مِمَّا
تُنْبِتُهُ الأَْرْضُ.
وَإِنْ آجَرَهَا بِطَعَامٍ مَعْلُومٍ مِنْ جِنْسِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا
(3/117)
كَأَنْ آجَرَهَا بِقَمْحٍ، وَهِيَ
مَزْرُوعَةٌ قَمْحًا، فَقَال مَالِكٌ: لاَ يَجُوزُ؛ لِمَا تَقَدَّمَ فِي
الْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ:
يَجُوزُ ذَلِكَ، لأَِنَّ مَا جَازَتْ إِجَارَتُهُ بِغَيْرِ الْمَطْعُومِ
جَازَتْ إِجَارَتُهُ بِهِ كَالدُّورِ، وَإِنْ آجَرَهَا بِجُزْءٍ مِمَّا
يَخْرُجُ مِنْهَا مُشَاعًا كَثُلُثٍ أَوْ نِصْفٍ أَوْ رُبُعٍ، فَقَال أَبُو
حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: لاَ
يَجُوزُ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ إِجَارَةٌ بِعِوَضٍ مَجْهُولٍ، فَلاَ يَجُوزُ،
كَمَا لَوْ آجَرَهَا بِثُلُثِ مَا يَخْرُجُ مِنْ غَيْرِهَا.
وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ وَهُوَ قَوْل
الثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَابْنِ أَبِي
لَيْلَى وَالأَْوْزَاعِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ
فِي الْمُزَارَعَةِ (1) .
الأَْرْضُ الْمَفْتُوحَةُ
الأَْرْضُ الَّتِي فُتِحَتْ صُلْحًا:
24 - كُل أَرْضٍ صُولِحَ أَهْلُهَا عَلَيْهَا فَهِيَ عَلَى مَا صُولِحُوا
عَلَيْهِ. فَإِنْ صُولِحُوا عَلَى أَنْ تَكُونَ الأَْرْضُ لَهُمْ،
وَيُؤَدُّوا عَنْهَا خَرَاجًا مَعْلُومًا، أَوْ يُؤَدُّوا خَرَاجًا غَيْرَ
مُوَظَّفٍ عَلَى الأَْرْضِ، فَهَذِهِ الأَْرْضُ مِلْكٌ لَهُمْ
يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا كَيْفَمَا شَاءُوا، وَلاَ تُقْسَمُ عَلَى
الْمُقَاتِلِينَ، وَهَذَا مِمَّا لاَ خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ أَهْل
الْعِلْمِ، وَحُكْمُ هَذَا الْخَرَاجِ حُكْمُ الْجِزْيَةِ يَسْقُطُ
بِإِسْلاَمِهِمْ
__________
(1) الأم 3 / 239 - 241، المنهج، وحاشية الجمل 3 / 529، 531، الوجيز 1 /
227، 230، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 7، وبداية المجتهد 2 / 208 -
210، وتكملة فتح القدير 7 / 148، 149 و8 / 32، والاختيار 2 / 66، 67، 349،
350، والمغني 5 / 394 - 396، ونيل الأوطار وشرح منتقى الأخبار 5 / 326، 237
(3/117)
وَإِنْ صُولِحُوا عَلَى أَنَّ الأَْرْضَ
لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ عَنْ رِقَابِهِمْ، فَإِنَّ
الأَْرْضَ تَكُونُ وَقْفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ تُقْسَمُ
بَيْنَهُمْ، وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا لاَ خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ
الْفُقَهَاءِ.
الأَْرْضُ الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً:
25 - إِنْ فُتِحَتِ الأَْرْضُ عَنْوَةً: فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي
تَقْسِيمِهَا عَلَى الْمُقَاتِلِينَ. فَقَال مَالِكٌ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ
أَحْمَدَ: لاَ تُقْسَمُ الأَْرْضُ، وَتَكُونُ وَقْفًا عَلَى
الْمُسْلِمِينَ، يُصْرَفُ خَرَاجُهَا فِي مَصَالِحِهِمْ، مِنْ أَرْزَاقِ
الْمُقَاتِلَةِ وَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ وَالْمَسَاجِدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ
مِنْ سُبُل الْخَيْرِ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَرَ الإِْمَامُ فِي وَقْتٍ مِنَ
الأَْوْقَاتِ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ تَقْتَضِي الْقِسْمَةَ، فَلَهُ أَنْ
يَقْسِمَهَا عَلَى الْمُقَاتِلِينَ، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ اتِّفَاقُ
الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، حِينَمَا امْتَنَعَ عُمَرُ عَنْ تَقْسِيمِ
أَرْضِ السَّوَادِ، عِنْدَمَا طَلَبَ مِنْهُ ذَلِكَ بِلاَلٌ، وَسَلْمَانُ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: الإِْمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ
يَقْسِمَهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْمُقَاتِلِينَ، أَوْ يَضْرِبَ عَلَى
أَهْلِهَا الْخَرَاجَ وَيُقِرَّهَا بِأَيْدِيهِمْ. وَذَلِكَ لأَِنَّ كِلاَ
الأَْمْرَيْنِ قَدْ ثَبَتَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَدْ ظَهَرَ عَلَى مَكَّةَ عَنْوَةً وَفِيهَا أَمْوَالٌ فَلَمْ
يَقْسِمْهَا، وَظَهَرَ عَلَى قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَغَيْرِهِمَا فَلَمْ
يَقْسِمْ شَيْئًا مِنْهَا، وَقَسَمَ نِصْفَ خَيْبَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ،
وَوَقَفَ النِّصْفَ لِنَوَائِبِهِ وَحَاجَاتِهِ، كَمَا فِي حَدِيثِ سَهْل
بْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَال: قَسَمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خَيْبَرَ نِصْفَيْنِ: نِصْفًا لِنَوَائِبِهِ وَحَوَائِجِهِ،
وَنِصْفًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، قَسَمَهَا بَيْنَهُمْ عَلَى ثَمَانِيَةَ
عَشَرَ سَهْمًا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَسَكَتَ عَنْهُ، وَمَا قَالَهُ
أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ هُوَ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ عَنِ الإِْمَامِ
أَحْمَدَ.
(3/118)
وَقَال الشَّافِعِيُّ: إِنَّ الأَْرْضَ
تُقْسَمُ بَيْنَ الْمُقَاتِلِينَ، كَمَا يُقْسَمُ الْمَنْقُول إِلاَّ أَنْ
يَتْرُكُوا حَقَّهُمْ مِنْهَا بِعِوَضٍ، كَمَا فَعَل عُمَرُ مَعَ جَرِيرٍ
الْبَجَلِيِّ، إِذْ أَنَّهُ عَوَّضَهُ سَهْمَهُ فِي أَرْضِ السَّوَادِ (1)
. أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا
أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} (2) فَإِنَّهَا
عَامَّةٌ فِي الْمَنْقُول وَالأَْرْضِ. وَيُفْهَمُ مِنْهَا أَنَّ
أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهَا لِلْمُقَاتِلِينَ، وَمَا قَال الشَّافِعِيُّ
رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا.
26 - أَمَّا إِذَا لَمْ تُقْسَمِ الأَْرْضُ وَتُرِكَتْ بِأَيْدِي
أَهْلِهَا، يَنْتَفِعُ الْمُسْلِمُونَ بِخَرَاجِهَا، فَقَدْ قَال جُمْهُورُ
الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ: إِنَّهَا أَرْضٌ مَوْقُوفَةٌ، لاَ يَجُوزُ
بَيْعُهَا، وَلاَ شِرَاؤُهَا، وَلاَ هِبَتُهَا، وَلاَ تُورَثُ عَمَّنْ
وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا مِنَ الْكُفَّارِ. وَذَلِكَ لِمَا رَوَى
الأَْوْزَاعِيُّ أَنَّ عُمَرَ وَالصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
لَمَّا ظَهَرُوا عَلَى الشَّامِ أَقَرُّوا أَهْل الْقُرَى فِي قُرَاهُمْ
عَلَى مَا كَانَ بِأَيْدِيهِمْ مِنْ أَرْضِهِمْ، يَعْمُرُونَهَا
وَيُؤَدُّونَ خَرَاجَهَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ لاَ
يَصِحُّ لأَِحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ شِرَاءُ مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ
الأَْرْضِ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ: إِنَّهَا مِلْكٌ لَهُمْ. لَهُمْ
التَّصَرُّفُ فِيهَا بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ،
وَيَتَوَارَثُهَا عَنْهُمْ أَقَارِبُهُمْ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ اشْتَرَى مِنْ دِهْقَانٍ
أَرْضًا عَلَى أَنْ يَكْفِيَهُ خَرَاجَهَا، وَبِهَذَا قَال الثَّوْرِيُّ
وَابْنُ سِيرِينَ (3) .
__________
(1) أخرجه يحيى بن آدم في كتاب الخراج ص 45 ط السلفية.
(2) سورة الأنفال / 41
(3) الأم 4 / 192، 193 و7 / 325، والوجيز 1 / 288، 289، 291، والخراج ص 68
ط السلفية، وفتح القدير 4 / 303 - 305، والاختيار 3 / 319، 320، وحاشية
الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 189، وبداية المجتهد 1 / 368 - 371، والمغني
2 / 716 - 726 و8 / 527، والجامع لأحكام القرآن (القرطبي) 8 / 4، و18 / 23،
وأحكام القرآن (الجصاص) 3 / 528 - 534، ونيل الأوطار ومنتقى الأخبار 8 / 11
- 13
(3/118)
الأَْرْضُ الَّتِي أَسْلَمَ أَهْلُهَا
عَلَيْهَا:
27 - حُكْمُ هَذِهِ الأَْرْضِ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ أَوْ
أَرْضِ الْعَجَمِ، كَأَرْضِ الْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ وَالْيَمَنِ
وَالْبَحْرَيْنِ، أَنَّهَا تَبْقَى مِلْكًا لأَِصْحَابِهَا، وَاسْتَدَل
لِذَلِكَ بِحَدِيثِ: مَنْ أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ لَهُ، أَخْرَجَهُ
أَبُو دَاوُدَ (1) .
أَرْضُ الْعُشْرِ:
28 - كُل أَرْضٍ أَسْلَمَ أَهْلُهَا عَلَيْهَا، وَهِيَ مِنْ أَرْضِ
الْعَرَبِ أَوْ أَرْضِ الْعَجَمِ
، فَهِيَ لَهُمْ وَهِيَ أَرْضُ عُشْرٍ. وَكَذَلِكَ كُل أَرْضِ الْعَرَبِ،
سَوَاءٌ فُتِحَتْ صُلْحًا أَوْ عَنْوَةً؛ لأَِنَّ أَهْلَهَا لاَ يُقَرُّونَ
عَلَى الشِّرْكِ، حَتَّى لَوْ دَفَعُوا الْجِزْيَةَ؛ وَلأَِنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَحَ كَثِيرًا مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ
عَنْوَةً، وَأَبْقَاهَا عُشْرِيَّةً، وَكَذَلِكَ الأَْرْضُ الَّتِي
فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ، عَنْوَةً وَقَسَمَهَا الإِْمَامُ بَيْنَ
الْفَاتِحِينَ (2) .
أَرْضُ الْخَرَاجِ:
29 - هِيَ أَرْضُ الْعَجَمِ الَّتِي فَتَحَهَا الإِْمَامُ عَنْوَةً
وَتَرَكَهَا فِي أَيْدِي أَهْلِهَا، أَوْ كَانَتْ عُشْرِيَّةً
وَتَمَلَّكَهَا ذِمِّيٌّ،
كَمَا يَرَى أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ. وَقَال أَبُو يُوسُفَ: يَلْتَزِمُ
مَالِكُهَا بِعُشْرَيْنِ قِيَاسًا عَلَى أَرْضِ تَغْلِبَ، وَعِنْدَ
مُحَمَّدٍ تَبْقَى عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهَا وَظِيفَةُ
الأَْرْضِ.
وَالأَْرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ لاَ تَعُودُ عُشْرِيَّةً بِحَالٍ؛ لأَِنَّ
__________
(1) الخراج لأبي يوسف ص 69
(2) الاختيار 1 / 113، والخراج لأبي يوسف ص 69
(3/119)
الْخَرَاجَ كَمَا يُوضَعُ عَلَى
الذِّمِّيِّ يُوضَعُ عَلَى الْمُسْلِمِ (1) .
أَرْضُ الْحَرْبِ
اُنْظُرْ: أَرْضٌ
أَرْضُ الْحَوْزِ
التَّعْرِيفُ:
1 - أَرْضُ الْحَوْزِ هِيَ: الأَْرْضُ الَّتِي مَاتَ عَنْهَا أَرْبَابُهَا
بِلاَ وَارِثٍ، وَآلَتْ إِلَى بَيْتِ الْمَال، أَوْ فُتِحَتْ عَنْوَةً،
أَوْ صُلْحًا، وَلَمْ تُمَلَّكْ لأَِهْلِهَا، بَل أُبْقِيَتْ رَقَبَتُهَا
لِلْمُسْلِمِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَلَعَلَّهَا إِنَّمَا
سُمِّيَتْ أَرْضَ الْحَوْزِ، لأَِنَّ الإِْمَامَ حَازَهَا لِبَيْتِ الْمَال
وَلَمْ يَقْسِمْهَا (2) .
أَمَّا مَا فُتِحَ عَنْوَةً وَقُسِمَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ
يَكُونُ عُشْرِيًّا، وَمَا فُتِحَ عَنْوَةً وَأَقَرَّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ
عَلَى خَرَاجٍ يُؤَدُّونَهُ - كَسَوَادِ الْعِرَاقِ - فَإِنَّهُ يَكُونُ
مِلْكًا لأَِهْلِهِ عِنْدَ
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) تنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 199، وأرض
الحوز هو اصطلاح لمتأخري الحنفية، ويسمونها أيضا (أرض المملكة) و
(الأراضي الأميرية) . ودرج تسميتها: الأراضي الميرية. وهي في فتوى بعض
متأخري الحنفية: أرض لا عشرية ولا خراجية. بل هي نوع ثالث من الأرض (مجمع
الأنهر 1 / 672)
(3/119)
الْحَنَفِيَّةِ، وَتَصَرُّفَاتُهُمْ فِيهِ
كُلُّهَا نَافِذَةٌ. وَتَفْصِيل هَذَا التَّقْسِيمِ فِي مُصْطَلَحِ:
(أَرْض) .
2 - وَالنَّوْعَانِ اللَّذَانِ سَمَّاهُمَا مُتَأَخِّرُو الْحَنَفِيَّةِ
أَرْضَ الْحَوْزِ، يَرَى غَيْرُهُمْ فِيهِمَا مَا يَلِي (1) :
أ - مَا آل إِلَى بَيْتِ الْمَال مِمَّا مَاتَ عَنْهُ أَرْبَابُهُ بِلاَ
وَارِثٍ، فَإِنَّهُ إِلَى الإِْمَامِ يَصْنَعُ فِيهِ مَا يَرَى فِيهِ
الْمَصْلَحَةَ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَسَوَاءٌ قُلْنَا: إِنَّهُ آل
إِلَى بَيْتِ الْمَال بِطَرِيقِ الْمِيرَاثِ، أَوْ بِأَنَّهُ كَسَائِرِ
الأَْمْوَال الَّتِي لاَ مَالِكَ لَهَا.
ب - وَأَمَّا أَرْضُ الْعَنْوَةِ الَّتِي أُبْقِيَتْ رَقَبَتُهَا
لِلْمُسْلِمِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكَذَلِكَ الَّتِي فُتِحَتْ
صُلْحًا، وَلَمْ تُمَلَّكْ لأَِهْلِهَا، بَل أُبْقِيَتْ رَقَبَتُهَا
لِلْمُسْلِمِينَ فَهَذِهِ - عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ - تَكُونُ وَقْفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِمُجَرَّدِ
الاِسْتِيلاَءِ عَلَيْهَا، وَقِيل: لاَ تَكُونُ وَقْفًا إِلاَّ بِأَنْ
يَقِفَهَا الإِْمَامُ لَفْظًا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَوْل
الشَّافِعِيَّةِ، وَعَلَى كُل حَالٍ فَإِذَا صَارَتْ وَقْفًا فَيَمْتَنِعُ
عِنْدَهُمْ بَيْعُهَا وَنَحْوُهُ كَهِبَتِهَا.
ثُمَّ هَذَا الْوَقْفُ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْوَقْفِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ
شَرْعًا، عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلاَمِ الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبِي
يَعْلَى، وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ: لَيْسَ هُوَ الْوَقْفُ الْمُصْطَلَحُ
عَلَيْهِ، بَل مَعْنَى وَقْفِهِ، عَدَمُ قِسْمَتِهِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ.
وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ التَّصَرُّفِ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ
الأَْرَاضِي - عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ - فِي أَوَائِل كِتَابِ
الْبَيْعِ، وَفِي بَابِ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ
.
__________
(1) أحكام أهل الذمة 1 / 104، وكشاف القناع 3 / 94، 158، والأحكام
السلطانية لأبي يعلى ص 131، 132، وشرح المنهاج وحاشية القليوبي 3 / 191،
والزرقاني على خليل 3 / 126، 127، والأحكام السلطانية للماوردي ص 138
(3/120)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - مِشَدُّ الْمَسْكَةِ:
3 - " مِشَدُّ الْمَسْكَةِ " اصْطِلاَحٌ جَرَى اسْتِعْمَالُهُ فِي
الْعَهْدِ الْعُثْمَانِيِّ. وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِحْقَاقِ
الْحِرَاثَةِ فِي أَرْضِ الْغَيْرِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْمَسْكَةِ لُغَةً
وَهِيَ: مَا يُتَمَسَّكُ بِهِ، فَكَأَنَّ الْمُتَسَلِّمَ لِلأَْرْضِ
الْمَأْذُونَ لَهُ مِنْ صَاحِبِهَا فِي الْحَرْثِ صَارَ لَهُ مَسْكَةٌ
يَتَمَسَّكُ بِهَا فِي الْحَرْثِ فِيهَا. وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا مَسْكَةً،
أَنَّ مَنْ ثَبَتَتْ لَهُ بِالْقِدَمِيَّةِ لاَ تُرْفَعُ يَدُهُ عَنْ
أَرْضِهَا مَا دَامَ يَزْرَعُهَا، يَدْفَعُ إِلَى الْمُتَوَلِّي عَلَيْهَا
مَا عَلَيْهَا مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْل، أَوْ عُشْرٍ أَوْ خَرَاجٍ، فَلَهُ
الاِسْتِمْسَاكُ بِهَا مَا دَامَ حَيًّا. وَهِيَ حَقٌّ مُجَرَّدٌ؛
لأَِنَّهَا وَصْفٌ قَائِمٌ بِالأَْرْضِ؛ لأَِنَّهَا مُجَرَّدُ الْكِرَابِ
وَالْحَرْثِ. فَإِنْ كَانَ لِمَنْ بِيَدِهِ الأَْرْضُ أَعْيَانٌ،
كَأَشْجَارٍ أَوْ كَبَسَ الأَْرْضَ بِتُرَابٍ سُمِّيَتْ (الْكِرْدَارَ) ،
وَلَمْ تُسَمَّ مِشَدَّ الْمَسْكَةِ (1) ، وَإِنْ كَانَتِ الأَْعْيَانُ
قَدْ وَضَعَهَا فِي حَانُوتٍ وَكَانَتْ ثَابِتَةً سُمِّيَتِ (الْكَدَكَ
أَوِ: الْجَدَكَ) .
وَمِشَدُّ الْمَسْكَةِ يَكُونُ فِي أَرَاضِي الْوَقْفِ، أَوْ أَرَاضِي
بَيْتِ الْمَال. وَهِيَ الأَْرَاضِي الأَْمِيرِيَّةُ.
ب - أَرْضُ التَّيْمَارِ:
4 - هَذَا اصْطِلاَحٌ آخَرُ جَرَى اسْتِعْمَالُهُ فِي الدَّوْلَةِ
الْعُثْمَانِيَّةِ. وَذُكِرَ فِي الْكُتُبِ الْفِقْهِيَّةِ لِمُتَأَخِّرِي
الْحَنَفِيَّةِ، يُرِيدُونَ بِهِ مَا يَقْطَعُهُ الإِْمَامُ مِنْ أَرْضِ
الْحَوْزِ لِبَعْضِ الأَْشْخَاصِ؛ لِيَأْخُذَ هَذَا الْمُقْطَعُ حَقَّ
الأَْرْضِ مِنَ الْغَلَّةِ، وَتَبْقَى بَقِيَّتُهَا لِلْعَامِلِينَ فِي
__________
(1) تنقيح الفتاوى الحامدية لابن عابدين 2 / 198، 199 المطبعة الأميرية
ببولاق 1300 هـ
(3/120)
الأَْرْضِ، وَتَبْقَى رَقَبَتُهَا لِبَيْتِ
الْمَال. وَيُسَمَّى الشَّخْصُ الَّذِي أُقْطِعَ الأَْرْضَ "
التَّيْمَارِيُّ (1) "
ج - إِرْصَادٌ:
5 - هُوَ مَا يَجْعَلُهُ السُّلْطَانُ كَبَعْضِ الْقُرَى وَالْمَزَارِعِ
مِنْ بَيْتِ الْمَال، عَلَى الْمَسَاجِدِ وَالْمَدَارِسِ وَنَحْوِهَا
لِمَنْ يَسْتَحِقُّ مِنْ بَيْتِ الْمَال، كَالْقُرَّاءِ وَالأَْئِمَّةِ
وَالْمُؤَذِّنِينَ وَنَحْوِهِمْ، وَلَيْسَ وَقْفًا حَقِيقَةً.
لِعَدَمِ مِلْكِ السُّلْطَانِ لَهُ، بَل هُوَ تَعْيِينُ شَيْءٍ مِنْ بَيْتِ
الْمَال عَلَى بَعْضِ مُسْتَحِقِّيهِ، فَلاَ يَجُوزُ لِمَنْ بَعْدَهُ أَنْ
يُغَيِّرَهُ وَيُبَدِّلَهُ (2) .
مَشْرُوعِيَّتُهَا:
6 - النَّوْعُ الأَْوَّل مِنْ أَرْضِ الْحَوْزِ (وَهُوَ مَا مَاتَ عَنْهُ
أَرْبَابُهُ بِلاَ وَارِثٍ وَآل إِلَى بَيْتِ الْمَال) مُتَّفَقٌ عَلَى
جَوَازِهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ مَعَ اخْتِلاَفِهِمْ فِي سَبَبِ
أَيْلُولَتِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَال، أَهُوَ بِاعْتِبَارِ بَيْتِ الْمَال
وَارِثًا أَمْ بِاعْتِبَارِهِ مَحَلًّا لِلضَّوَائِعِ؟ .
أَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي (وَهُوَ مَا فُتِحَ عَنْوَةً وَأُبْقِيَ
لِلْمُسْلِمِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) فَقَدْ أَفْتَى بَعْضُ
مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ بِجَوَازِهِ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ،
بِأَنَّ الإِْمَامَ يُخَيَّرُ فِي الأَْرْضِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً:
بَيْنَ الْقِسْمَةِ وَبَيْنَ الإِْبْقَاءِ لِلْمُسْلِمِينَ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ، بِحَسَبِ مَا يَرَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُنْتَقَى فَقَال: " فِيهِ
كَلاَمٌ، لأَِنَّ تَخْيِيرَ الْخَلِيفَةِ - أَيْ إِذَا لَمْ يَقْسِمِ
الأَْرْضَ عَلَى الْغَانِمِينَ - فِي الإِْبْقَاءِ لِلْمُسْلِمِينَ،
إِنَّمَا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 18، وتنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 203 وما بعدها.
(2) ابن عابدين 3 / 266، 259
(3/121)
هُوَ بِطَرِيقِ الْمَنِّ عَلَى الْكُفَّارِ
بِرِقَابِهِمْ وَأَرَاضِيِهِمْ، فَتَكُونُ مَمْلُوكَةً لأَِهْلِهَا. .
فَتَدَبَّرْ، فَإِنَّهُ مِنَ الْمُهِمَّاتِ (1) ".
مَا يُعْتَبَرُ مِنْ أَرْضِ الْحَوْزِ:
7 - أَرْضُ مِصْرَ وَالشَّامِ هِيَ فِي الأَْصْل أَرَاضٍ خَرَاجِيَّةٌ،
فَلاَ يُعْتَبَرُ مِنْهَا حَوْزٌ إِلاَّ مَا نَشَأَ بِسَبَبِ أَيْلُولَتِهِ
إِلَى بَيْتِ الْمَال، كَمَا سَبَقَ.
إِلاَّ أَنَّ الْكَمَال بْنَ الْهُمَامِ، يَرَى أَنَّ أَرْضَ مِصْرَ قَدْ
صَارَتْ أَرْضَ حَوْزٍ. وَنَازَعَهُ ابْنُ عَابِدِينَ فِي ذَلِكَ وَإِلَيْك
كَلاَمُهُمَا:
8 - قَال ابْنُ الْهُمَامِ: " أَرْضُ مِصْرَ فِي الأَْصْل خَرَاجِيَّةٌ،
لَكِنِ الرَّسْمُ الآْنَ - أَيْ فِي أَيَّامِهِ، وَقَدْ تُوُفِّيَ سَنَةَ
861 هـ - أَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهَا بَدَل إِجَارَةٍ لاَ خَرَاجٌ. قَال:
لأَِنَّ الأَْرَاضِيَ لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً لِلزُّرَّاعِ، كَأَنَّهُ
لِمَوْتِ الْمَالِكِينَ شَيْئًا فَشَيْئًا مِنْ غَيْرِ إِخْلاَفِ وَرَثَةٍ،
فَصَارَتْ لِبَيْتِ الْمَال (2) " وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْبَحْرِ
وَأَقَرَّهُ.
9 - وَقَدْ أَبَى ابْنُ عَابِدِينَ ذَلِكَ، وَقَال: " إِذَا كَانَتْ أَرْضُ
مِصْرَ عَنْوِيَّةً، وَالأَْرَاضِي الْعَنْوِيَّةُ مُمَلَّكَةٌ
لأَِهْلِهَا، فَمِنْ أَيْنَ يُقَال إِنَّهَا صَارَتْ لِبَيْتِ الْمَال
بِاحْتِمَال أَنَّ أَهْلَهَا كُلَّهُمْ مَاتُوا بِلاَ وَارِثٍ؟ فَإِنَّ
هَذَا الاِحْتِمَال لاَ يَنْفِي الْمِلْكَ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا. وَقَدْ
صَرَّحُوا بِأَنَّ سَوَادَ الْعِرَاقِ مَمْلُوكَةٌ لأَِهْلِهَا، يَجُوزُ
بَيْعُهُمْ لَهَا، وَتَصَرُّفُهُمْ فِيهَا، فَكَذَلِكَ أَرْضُ الشَّامِ
وَمِصْرَ. قَال: وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِنَا ظَاهِرٌ. فَكَيْفَ يُقَال
إِنَّهَا لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً لِلزُّرَّاعِ؟ فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي
إِلَى إِبْطَال أَوْقَافِهَا، وَإِبْطَال الْمَوَارِيثِ فِيهَا، وَتَعَدِّي
الظَّلَمَةِ
__________
(1) الدر المنتقى شرح الملتقى 1 / 672 ط استانبول.
(2) فتح القدير 5 / 283
(3/121)
عَلَى أَرْبَابِ الأَْيْدِي الثَّابِتَةِ
الْمُحَقَّقَةِ فِي الْمُدَدِ الْمُتَطَاوِلَةِ بِلاَ مُعَارِضٍ وَلاَ
مُنَازِعٍ. وَوَضْعُ الْعُشْرِ أَوِ الْخَرَاجِ عَلَيْهَا لاَ يُنَافِي
مِلْكِيَّتَهَا، وَاحْتِمَال مَوْتِ أَهْلِهَا بِلاَ وَارِثٍ لاَ يَصْلُحُ
حُجَّةً فِي إِبْطَال الْيَدِ الْمُثْبِتَةِ لِلْمِلْكِ، فَإِنَّهُ
مُجَرَّدُ احْتِمَالٍ لَمْ يَنْشَأْ عَنْ دَلِيلٍ، وَالأَْصْل بَقَاءُ
الْمِلْكِيَّةِ. وَالْيَدُ أَقْوَى دَلِيلٌ عَلَيْهَا، فَلاَ تَزُول إِلاَّ
بِحُجَّةٍ ثَابِتَةٍ. وَيُحْتَمَل أَنَّهَا كَانَتْ مَوَاتًا فَأُحْيِيَتْ
فَمُلِكَتْ بِذَلِكَ، أَوِ اشْتُرِيَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَال.
ثُمَّ قَال: وَالْحَاصِل فِي الدِّيَارِ الشَّامِيَّةِ وَالْمِصْرِيَّةِ
وَنَحْوِهَا، أَنَّ مَا عُلِمَ مِنْهَا كَوْنُهُ لِبَيْتِ الْمَال بِوَجْهٍ
شَرْعِيٍّ فَحُكْمُهُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْفَتْحِ - أَيْ كَوْنُهُ أَرْضًا
أَمِيرِيَّةً - وَمَا لَمْ يُعْلَمْ فَهُوَ مِلْكٌ لأَِرْبَابِهِ.
وَالْمَأْخُوذُ مِنْهُ خَرَاجٌ لاَ أُجْرَةٌ لأَِنَّهُ خَرَاجِيٌّ فِي
أَصْل الْوَضْعِ. وَالْحَقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ (1) ".
وَأَمَّا أَرْضُ الْعِرَاقِ فَقَدْ مُلِكَتْ رِقَابُهَا لأَِهْلِهَا عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ، وَهِيَ وَقْفٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ
عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ، كَأَرْضِ الشَّامِ وَمِصْرَ (2) ، عَلَى
تَفْصِيلٍ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الْبَيْعِ. وَأَرْضُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 257 - 258 بتصرف يسير. أما فيما يتعلق بالأراضي
بمصر، فقد ذكر الشيخ محمد أبو زهرة أنه صدر الأمر العالي في 15 / 9 / 1891
للقضاء الأهلي، والأمر العالي في 3 / 9 / 1898 م، فصارت بمقتضاه الأرض التي
كانت يد الناس عليها يد انتفاع، مملوكة ملكا تاما لواضعي اليد عليها. وما
تملكه الحكومة من أراض غيرها تملكه ملكية خاصة، تتصرف فيه على أنها شخص
معنوي، له ما لكل الأشخاص من تصرفات. وأما أراضي الشام فلا يزال العمل في
الأراضي الأميرية في الأردن التي بأيدي الرعية، على أنها أميرية، وأنها
ليست ملكا للرعية. وتنتقل من يد إلى يد بالفراغ، لدى دائرة (الطابو) "
الملكية ونظرية العقد " ص 85 ط دار الفكر العربي، 1977 القاهرة، والقانون
المدني أردني م 1198 وما بعدها.
(2) كشاف القناع 3 / 158
(3/122)
جَزِيرَةِ الْعَرَبِ كُلُّهَا عِنْدَهُمْ
عُشْرِيَّةٌ، فَلاَ يُعْتَبَرَانِ مِنْ أَرْضِ الْحَوْزِ إِلاَّ لِسَبَبٍ
جَدِيدٍ مِمَّا سَبَقَ.
تَصَرُّفُ الإِْمَامِ فِي أَرْضِ الْحَوْزِ
دَفْعُهَا لِلزُّرَّاعِ، مَعَ بَقَاءِ رَقَبَتِهَا:
10 - يَجُوزُ لِلإِْمَامِ أَنْ يَدْفَعَ الأَْرْضَ الأَْمِيرِيَّةَ
لِلزُّرَّاعِ بِأَحَدِ طَرِيقَيْنِ:
الأَْوَّل: إِقَامَتُهُمْ مَقَامَ الْمُلاَّكِ فِي الزِّرَاعَةِ،
وَإِعْطَاءِ الْخَرَاجِ.
وَالثَّانِي: إِجَارَتُهَا لِلزُّرَّاعِ بِقَدْرِ الْخَرَاجِ. فَيَكُونُ
الْمَأْخُوذُ فِي حَقِّ الإِْمَامِ خَرَاجًا. ثُمَّ إِنْ كَانَ دَرَاهِمَ
فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الإِْمَامِ خَرَاجٌ مُوَظَّفٌ، وَإِنْ كَانَ
بَعْضَ الْخَارِجِ فَهُوَ خَرَاجُ مُقَاسَمَةٍ. وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى
الزُّرَّاعِ هُوَ أُجْرَةٌ لاَ غَيْرُ، لاَ عُشْرٌ وَلاَ خَرَاجٌ (1) ،
لأَِنَّهُ لَمَّا دَل الدَّلِيل عَلَى عَدَمِ لُزُومِ الْمُؤْنَتَيْنِ
(الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ) فِي أَرَاضِي الْمَمْلَكَةِ وَالْحَوْزِ، كَانَ
الْمَأْخُوذُ مِنْهَا أُجْرَةً لاَ غَيْرُ. فَإِنْ قُلْتَ: اسْتِئْجَارُ
الأَْرْضِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ لاَ يَجُوزُ؛ لِكَوْنِهِ إِجَارَةً
فَاسِدَةً لِلْجَهَالَةِ، فَمَا وَجْهُ الْجَوَازِ هُنَا؟ فَالْجَوَابُ مَا
قُلْنَا: إِنَّهُ جُعِل فِي حَقِّ الإِْمَامِ خَرَاجًا وَفِي حَقِّ
الأُْكْرَةِ (أَيِ الزُّرَّاعِ) أُجْرَةً لِضَرُورَةِ عَدَمِ صِحَّةِ
الْخَرَاجِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: " لِعَدَمِ مَنْ
يَجِبُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ مَوْتِ أَهْلِهَا وَصَيْرُورَتِهَا لِبَيْتِ
الْمَال ". وَقَال: " وَيُمْكِنُ جَعْلُهَا مُزَارَعَةً لاَ إِجَارَةً
حَقِيقِيَّةَ ". ثُمَّ قَال: " وَعَلَى دَفْعِهَا بِأَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ
لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُمْ وَتَصَرُّفُهُمْ فِيهَا وَلاَ تُورَثُ. أَمَّا
عَلَى الثَّانِي (أَيْ إِجَارَتِهَا لِلزُّرَّاعِ) فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا
عَلَى الأَْوَّل فَلأَِنَّ إِقَامَتَهُمْ مَقَامَ الْمُلاَّكِ
لِلضَّرُورَةِ فَتُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، فَهَذِهِ
__________
(1) مجمع الأنهر 1 / 671، وابن عابدين 3 / 256
(3/122)
التَّصَرُّفَاتُ لاَ تُعْرَفُ إِلاَّ فِي
الأَْرَاضِيِ الْمَمْلُوكَةِ الْعُشْرِيَّةِ أَوِ الْخَرَاجِيَّةِ،
وَأَرَاضِيِ الْمَمْلَكَةِ وَالْحَوْزِ لَيْسَتْ بِمَمْلُوكَةٍ، لاَ
عُشْرِيَّةً وَلاَ خَرَاجِيَّةً، وَلاَ يُتَمَلَّكُ مِنْهَا شَيْءٌ إِلاَّ
بِتَمْلِيكِ السُّلْطَانِ ".
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: " وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ خَرَاجَ
الْمُقَاسَمَةِ لاَ يَلْزَمُ بِالتَّعْطِيل، فَلاَ شَيْءَ عَلَى
الْفَلاَّحِ لَوْ عَطَّلَهَا ".
جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْخَانِيَّةِ: رَجُلٌ أَخَذَ أَرْضَ الْحَوْزِ
مُزَارَعَةً، يَطِيبُ نَصِيبُ الأُْكْرَةِ (الْمُزَارِعِينَ) مِنْهَا،
فَإِنْ كَانَتْ أَرْضُ الْحَوْزِ كُرُومًا وَأَشْجَارًا يُعْرَفُ
أَهْلُهَا، لاَ يَطِيبُ لِلأُْكْرَةِ - أَيْ لِثُبُوتِ حَقِّ صَاحِبِ
الشَّجَرِ - وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ يَطِيبُ؛ لأَِنَّ تَدْبِيرَهَا حِينَئِذٍ
لِلسُّلْطَانِ، كَأَرَاضِي الْمَوَاتِ (1) .
بَيْعُ الإِْمَامِ أَرْضَ الْحَوْزِ،
وَحَقُّ مُشْتَرِيهَا فِي التَّصَرُّفِ
:
11 - يَجُوزُ لِلإِْمَامِ بَيْعُ أَرْضِ الْحَوْزِ. وَلِلْحَنَفِيَّةِ فِي
ذَلِكَ قَوْلاَنِ. الأَْوَّل: أَنَّهُ يَجُوزُ مُطْلَقًا. وَهُوَ قَوْلٌ
لِمُتَقَدِّمِي الْحَنَفِيَّةِ. وَأَخَذَ بِهِ ابْنُ عَابِدِينَ؛ لأَِنَّ
لِلإِْمَامِ وِلاَيَةً عَامَّةً، وَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَصَالِحِ
الْمُسْلِمِينَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ لِحَاجَةٍ. وَهُوَ قَوْل
الْمُتَأَخِّرِينَ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. قَال بَعْضُهُمْ: أَوْ
لِمَصْلَحَةٍ، كَأَنْ رَغِبَ أَحَدٌ فِي الْعَقَارِ بِضِعْفِ قِيمَتِهِ.
وَيُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ ابْنِ الْهُمَامِ أَنَّهُ مِمَّنْ لاَ يَرَى
بَيْعَهَا إِلاَّ لِحَاجَةٍ بِالْمُسْلِمِينَ؛ لِشِبْهِ الإِْمَامِ
بِوَلِيِّ الْيَتِيمِ، لاَ يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ عَقَارِهِ إِلاَّ
لِضَرُورَةٍ؛ لِعَدَمِ وُجُودِ مَا يُنْفِقُهُ
__________
(1) الدر المنتقى1 / 672
(3/123)
سِوَاهُ (1) . وَإِذَا لَمْ يُعْرَفِ
الْحَال فِي الشِّرَاءِ مِنْ بَيْتِ الْمَال هَل كَانَ لِحَاجَةٍ أَوْ
مَصْلَحَةٍ، بِنَاءً عَلَى اشْتِرَاطِ أَحَدِهِمَا، فَالأَْصْل الصِّحَّةُ
(2) .
الْوَظِيفَةُ فِي الْمَبِيعِ مِنْ أَرْضِ الْحَوْزِ:
12 - إِذَا بَاعَ الإِْمَامُ شَيْئًا مِنْ أَرْضِ الْحَوْزِ فَلَيْسَ عَلَى
مُشْتَرِيهَا أُجْرَةٌ (أَيْ خَرَاجٌ) ؛ لأَِنَّ الإِْمَامَ قَدْ أَخَذَ
عِوَضَ الْعَيْنِ، وَهُوَ الثَّمَنُ؛ لِبَيْتِ الْمَال، فَلَمْ يَبْقَ
الْخَرَاجُ وَظِيفَةَ الأَْرْضِ، فَلاَ يُمْكِنُ بَعْدَهُ أَنْ تَكُونَ
الْمَنْفَعَةُ لِلإِْمَامِ كُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا. وَلَوْ قَبِل بِعَوْدِ
الْخَرَاجِ لَمْ يَجُزْ؛ لأَِنَّ السَّاقِطَ لاَ يَعُودُ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُنَازِعُ فِي سُقُوطِ
الْخَرَاجِ، حَيْثُ كَانَتْ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ أَوْ سُقِيَتْ
بِمَائِهِ، بِدَلِيل أَنَّ الْغَازِيَ الَّذِي اخْتَطَّ لَهُ الإِْمَامُ
دَارًا لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهَا، فَإِذَا جَعَلَهَا بُسْتَانًا
وَسَقَاهَا بِمَاءِ الْعُشْرِ فَعَلَيْهِ الْعُشْرُ، أَوْ بِمَاءِ
الْخَرَاجِ فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ، كَمَا يَأْتِي، مَعَ أَنَّ الْوَاقِعَ
الآْنَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْقُرَى أَوِ الْمَزَارِعِ الْمَوْقُوفَةِ
أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهَا لِلْمِيرِيِّ النِّصْفُ أَوِ الرُّبُعُ أَوِ
الْعُشْرُ.
أَمَّا الْعُشْرُ فَقَدْ نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ ابْنِ نُجَيْمٍ
أَنَّهُ لاَ يَجِبُ أَيْضًا، لأَِنَّهُ لَمْ يَرَ فِيهِ نَقْلاً. قَال
ابْنُ عَابِدِينَ: وَلاَ يَخْفَى مَا فِيهِ؛ لأَِنَّهُمْ قَدْ صَرَّحُوا
بِأَنَّ فَرْضِيَّةَ الْعُشْرِ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
وَالإِْجْمَاعِ وَالْمَعْقُول، وَبِأَنَّهُ زَكَاةُ الثِّمَارِ
وَالزُّرُوعِ، وَبِأَنَّهُ يَجِبُ فِي الأَْرْضِ غَيْرِ الْخَرَاجِيَّةِ،
وَبِأَنَّهُ يَجِبُ فِيمَا لَيْسَ بِعُشْرِيٍّ
__________
(1) فتح القدير 5 / 283، ونسبه ابن عابدين إلى البحر (3 / 255) ، وحاشية
ابن عابدين 3 / 258، والدر المنتقى 1 / 673
(2) اللجنة ترى أن من الواجب في هذه الحال وجود ضمانات تجعله بعيدا عن شبهة
التحايل.
(3/123)
وَلاَ خَرَاجِيٍّ، كَالْمَفَاوِزِ
وَالْجِبَال، وَبِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِهِ الأَْرْضُ النَّامِيَةُ
بِالْخَارِجِ حَقِيقَةً، وَبِأَنَّهُ يَجِبُ فِي أَرْضِ الصَّبِيِّ
وَالْمَجْنُونِ وَالْمُكَاتَبِ؛ لأَِنَّهُ مُؤْنَةُ الأَْرْضِ، وَبِأَنَّ
الْمِلْكَ غَيْرُ شَرْطٍ فِيهِ، بَل الشَّرْطُ مِلْكُ الْخَارِجِ، فَيَجِبُ
فِي الأَْرَاضِي الْمَوْقُوفَةِ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {أَنْفِقُوا
مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ
الأَْرْضِ} . (1) وقَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} .
(2) وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا سَقَتِ السَّمَاءُ
فَفِيهِ الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِغَرْبٍ أَوْ دَالِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ
الْعُشْرِ. (3) وَلأَِنَّ الْعُشْرَ يَجِبُ فِي الْخَارِجِ لاَ فِي
الأَْرْضِ، فَكَانَ مِلْكُ الأَْرْضِ وَعَدَمُهُ سَوَاءً كَمَا فِي
الْبَدَائِعِ. وَلاَ شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الأَْرْضَ الْمُشْتَرَاةَ وُجِدَ
فِيهَا سَبَبُ الْوُجُوبِ، وَهُوَ الأَْرْضُ النَّامِيَةُ، وَشَرْطُهُ
وَهُوَ مِلْكُ الْخَارِجِ، وَدَلِيلُهُ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، فَالْقَوْل
بِعَدَمِ الْوُجُوبِ فِي خُصُوصِ هَذِهِ الأَْرْضِ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ
خَاصٍّ، وَنَقْلٍ صَرِيحٍ، وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ سُقُوطِ الْخَرَاجِ
الْمُتَعَلِّقِ بِالأَْرْضِ سُقُوطُ الْعُشْرِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْخَارِجِ
(4) .
وَلِمُشْتَرِي الأَْرْضَ الأَْمِيرِيَّةَ مِنَ الإِْمَامِ عَلَى هَذِهِ
الصِّفَةِ مِلْكُ رَقَبَةِ الأَْرْضِ، وَلَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا
كَسَائِرِ الأَْرْضِ الْمَمْلُوكَةِ مِلْكًا حَقِيقِيًّا بِالْبَيْعِ
وَالإِْجَارَةِ وَالرَّهْنِ وَالْوَقْفِ.
__________
(1) سورة البقرة / 267
(2) سورة الأنعام / 141
(3) حديث (فيما سقت السماء ففيه العشر، وما سقي بالغرب والدالية، ففيه نصف
العشر) رواه بهذا اللفظ أحمد عن علي مرفوعا، وإسناده ضعيف، لأن فيه محمدا
بن سالم الهمداني وهو أبو سهيل: ضعيف جدا، وأما المتن فإنه صحيح. ورواه
بمعناه البخاري وأصحاب السنن من حديث ابن عمر (تحقيق أحمد محمد شاكر للمسند
2 / 299) .
(4) الدر المنتقى 1 / 671، وحاشية ابن عابدين 3 / 255
(3/124)
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَإِذَا وَقَفَهَا
تُرَاعَى شُرُوطُ وَقْفِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ سُلْطَانًا أَمْ أَمِيرًا أَمْ
غَيْرَهُمَا. أَيْ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ مَلَكَهَا قَبْل وَقْفِهَا. فَإِنْ
لَمْ يُعْرَفْ شِرَاؤُهُ لَهَا وَعَدَمُهُ، ثُمَّ وَقَفَهَا، فَالظَّاهِرُ
أَنَّهُ لاَ يُحْكَمُ بِصِحَّةِ وَقْفِهِ (1) .
شِرَاءُ الإِْمَامِ لِنَفْسِهِ مِنْ أَرْضِ الْحَوْزِ:
13 - لاَ يَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَشْتَرِيَ الإِْمَامُ
لِنَفْسِهِ مِنْ أَرْضِ الْحَوْزِ؛ لأَِنَّهُ قَائِمٌ عَلَيْهَا، كَقِيَامِ
الْوَلِيِّ عَلَى مَال الْيَتِيمِ. قَالُوا: وَإِذَا أَرَادَ الشِّرَاءَ
لِنَفْسِهِ يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِبَيْعِهَا لِغَيْرِهِ، ثُمَّ يَشْتَرِيهَا
لِنَفْسِهِ مِنَ الْمُشْتَرِي (2) ، لأَِنَّ هَذَا أَبْعَدُ مِنَ
التُّهْمَةِ.
وَقْفُ الإِْمَامِ أَرْضَ الْحَوْزِ الَّتِي بِأَيْدِي الْمُنْتَفِعِينَ:
14 - إِنْ وَقَفَ بَعْضُ السَّلاَطِينِ شَيْئًا مِنَ الْقُرَى
وَالْمَزَارِعِ مِنْ أَرْضِ الْحَوْزِ، لِمَصَالِحِ مَا بَنَوْا مِنَ
الْمَسَاجِدِ وَالْعِمَارَاتِ وَالْمَدَارِسِ، مَعَ بَقَاءِ رَقَبَةِ
الأَْرْضِ بِأَيْدِي الرَّعَايَا، فَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ وَقْفًا، وَإِنِ
اعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّهَا وَقْفٌ، بَل يَكُونُ خَرَاجُهَا
(أَيْ غَلَّتُهَا الْمَأْخُوذَةُ لِلدَّوْلَةِ مِنَ الْمُنْتَفِعِ بِهَا)
لِلْجِهَاتِ الَّتِي عَيَّنَهَا الْوَاقِفُ.
وَلاَ يَلْزَمُ الْخَرَاجُ عَلَى هَذَا الْوَقْفِ. وَلاَ يَجُوزُ لِمَنْ
بَعْدَهُ مِنَ السَّلاَطِينِ أَنْ يُبْطِلَهُ (3) . وَلاَ يَلْزَمُ
مُرَاعَاةُ شُرُوطِ هَذَا الْوَقْفِ.
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ تَسْمِيَةَ هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّصَرُّفِ
(إِرْصَادًا) ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي الأَْلْفَاظِ ذَاتِ الصِّلَةِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 256
(2) الدر المنتقى 1 / 673، والدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 258
(3) الدر المنتقى 1 / 673
(3/124)
فَمَا وُقِفَ عَلَى أَشْخَاصٍ
بِأَعْيَانِهِمْ يَجُوزُ نَقْضُهُ. وَمَا وُقِفَ عَلَى جِهَاتٍ
كَالْمَسَاجِدِ وَالْمَدَارِسِ وَطَلَبَةِ الْعِلْمِ وَسَائِرِ مَصَارِفِ
بَيْتِ الْمَال، فَهَذَا لاَ يَجُوزُ نَقْضُهُ؛ لأَِنَّهُ إِذَا أَبَّدَهُ
عَلَى مَصْرِفِهِ الشَّرْعِيِّ فَقَدْ مَنَعَ مَنْ يَصْرِفُهُ مِنْ
أُمَرَاءِ الْجَوْرِ فِي غَيْرِ مَصْرِفِهِ (1) .
إِقْطَاعُ الإِْمَامِ شَيْئًا مِنْ أَرْضِ الْحَوْزِ:
15 - إِنْ أَقْطَعَ الإِْمَامُ أَحَدًا شَيْئًا مِنْ أَرْضِ الْحَوْزِ،
فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَوَاتًا، أَوْ تَكُونَ عَامِرَةً، فَإِنْ كَانَتْ
مَوَاتًا فَأَحْيَاهَا الْمُقْطَعُ مَلَكَهَا (بِالإِْحْيَاءِ) حَقِيقَةً،
وَلَيْسَ لأَِحَدٍ إِخْرَاجُهَا عَنْهُ، وَيَصِحُّ لَهُ بَيْعُهَا
وَوَقْفُهَا، وَتُورَثُ عَنْهُ كَسَائِرِ أَمْلاَكِهِ. وَعَلَيْهِ
وَظِيفَتُهَا مِنْ عُشْرٍ أَوْ خَرَاجٍ.
وَإِنْ كَانَتْ عَامِرَةً فَإِنَّهُ يَمْلِكُ مَنَافِعَهَا فَقَطْ، فَلَهُ
إِيجَارُهَا، كَإِيجَارِ الْمُسْتَأْجَرِ، وَلَيْسَ لَهُ بَيْعُهَا وَلاَ
وَقْفُهَا وَلاَ تُورَثُ عَنْهُ، وَلِلإِْمَامِ إِخْرَاجُهَا عَنْهُ مَتَى
شَاءَ (2) ، إِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ.
وَأَثْبَتُوا نَوْعًا مِنَ الْعَطَاءِ: أَنْ يُعْطِيَ السُّلْطَانُ بَعْضَ
الْقُرَى وَالْمَزَارِعِ لأَِحَدٍ، مَعَ بَقَاءِ الأَْرْضِ بِأَيْدِي
الرَّعَايَا يُؤَدُّونَ عَنْهَا الأُْجْرَةَ. وَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ
تَمْلِيكًا لِلرَّقَبَةِ بَل لِخَرَاجِهَا، مَعَ بَقَائِهَا لِبَيْتِ
الْمَال، فَلاَ تُورَثُ عَمَّنْ أُعْطِيهَا إِذَا مَاتَ، بَل تَصِيرُ
مَحْلُولاً (3) . أَيْ يَنْتَهِي إِرْصَادُهَا.
وَيُسَمَّى الشَّخْصُ الَّذِي يَأْخُذُ الأَْرْضَ بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ
الْعَطَاءِ (التَّيْمَارِيُّ) وَيُقَال لَهَا: (أَرْضُ التَّيْمَارِ (4)) .
__________
(1) ابن عابدين 3 / 259
(2) الدر المنتقى 1 / 671
(3) الدر المنتقى 1 / 672
(4) حاشية ابن عابدين 4 / 18
(3/125)
وَابْنُ عَابِدِينَ لاَ يَرَى فَرْقًا
بَيْنَ إِقْطَاعِ الْمَوَاتِ، وَإِقْطَاعِ الْعَامِرِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
إِقْطَاعِ رَقَبَتِهِ أَوْ إِقْطَاعِ مَنَافِعِهِ فَقَطْ، إِذَا كَانَ
التَّصَرُّفُ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ لِلْمُسْلِمِينَ (1) .
انْتِقَال الْحَقِّ فِي الاِنْتِفَاعِ بِأَرْضِ الْحَوْزِ:
16 - إِذَا مَاتَ وَاحِدٌ مِمَّنْ يَنْتَفِعُ بِأَرْضِ الْحَوْزِ،
فَإِنَّهَا لاَ تُعْتَبَرُ تَرِكَةً عَنْهُ، فَلاَ تُقْضَى مِنْهَا
دُيُونُهُ. وَلاَ تُقْسَمُ قِسْمَةَ الْمَوَارِيثِ، بَل تَنْتَقِل بِحَسَبِ
مَا يَرَى السُّلْطَانُ. وَإِنْ عَطَّلَهَا الْمُنْتَفِعُ بِهَا ثَلاَثَ
سِنِينَ أَوْ أَكْثَرَ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ الأَْرْضِ تُنْزَعُ مِنْ يَدِهِ،
وَتُعْطَى لآِخَرَ، لِيُؤَدِّيَ أُجْرَتَهَا لِبَيْتِ الْمَال (2) .
أَمَّا نَقْل أَرْضِ الْحَوْزِ مِنْ يَدٍ إِلَى يَدٍ، فَلاَ يَصِحُّ
الْفَرَاغُ إِلاَّ بِإِذْنِ السُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ (3) . وَلَيْسَ
ذَلِكَ بَيْعًا حَقِيقَةً، إِذْ تَبْقَى رَقَبَةُ الأَْرْضِ لِبَيْتِ
الْمَال، وَإِذَا بِيعَتْ كَذَلِكَ فَلاَ شُفْعَةَ فِيهَا (4) .
نَزْعُ أَرْضِ الْحَوْزِ مِمَّنْ هِيَ بِيَدِهِ:
17 - لاَ يَجُوزُ لِلسُّلْطَانِ نَزْعُ الأَْرْضِ مِمَّنْ هِيَ بِيَدِهِ،
مَا دَامَ يُؤَدِّي بَدَل الإِْجَارَةِ (5) ، مَا لَمْ يُعَطِّلْهَا
ثَلاَثَ سَنَوَاتٍ. وَلِمَنْ هِيَ بِيَدِهِ التَّمَسُّكُ بِحَقِّهِ فِيهَا،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 265
(2) انظر تنقيح الفتاوى الحامدية لابن عابدين 2 / 226، وحاشية ابن عابدين 4
/ 18 واللجنة ترى أن التحديد بمدة يرجع فيه إلى طبيعة الأرض والمصلحة
العامة أيضا، وقد اشتملت المراجع على تفصيلات هي من قبيل الأوضاع الزمنية
التي ينظمها أولو الأمر، يرجع إليها من شاء في المرجعين السابقين
(3) الدر المنتقى 1 / 673، وحاشية ابن عابدين 3 / 256
(4) كذا في الفتاوى الخيرية (حاشية ابن عابدين 3 / 256)
(5) حاشية الطحطاوي على الدر المختار 2 / 464
(3/125)
وَيُسَمَّى هَذَا الْحَقُّ (مِشَدَّ
الْمَسْكَةِ) ، سُمِّيَتْ مَسْكَةً لأَِنَّ صَاحِبَهَا صَارَ لَهُ حَقُّ
التَّمَسُّكِ بِهَا، وَلَهُ التَّخَلِّي عَنْ حَقِّهِ فِيهَا مُقَابِل
مَالٍ (1) .
أَرْضُ الْعَذَابِ
اُنْظُرْ: أَرْض
أَرْضُ الْعَرَبِ
التَّعْرِيفُ
1 - أَرْضُ الْعَرَبِ تُسَمَّى أَيْضًا جَزِيرَةَ الْعَرَبِ. وَقَدْ وَرَدَ
الاِسْمَانِ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، وَالْفُقَهَاءُ
يَسْتَعْمِلُونَ كِلاَ اللَّفْظَيْنِ:
وَيُطْلَقُ كُلٌّ مِنْهُمَا لُغَةً عَلَى، الإِْقْلِيمِ الَّذِي يَسْكُنُهُ
الْعَرَبُ، وَاَلَّذِي هُوَ شِبْهُ جَزِيرَةٍ يُحِيطُ بِهَا بَحْرُ
الْقُلْزُمِ (الْبَحْرُ الأَْحْمَرُ) مِنْ غَرْبِيِّهَا، وَبَحْرُ
الْعَرَبِ مِنْ جَنُوبِيِّهَا، وَخَلِيجُ الْبَصْرَةِ (الْخَلِيجُ
الْعَرَبِيُّ) مِنْ شَرْقِيِّهَا. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الشَّمَال
فَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّهَا، فَقَدْ نَقَل صَاحِبُ مُعْجَمِ الْبُلْدَانِ
عَنِ ابْنِ الأَْعْرَابِيِّ عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عَدِيٍّ، فِي تَحْدِيدِ
جَزِيرَةِ
__________
(1) اللجنة ترى أن لولي الأمر نزع هذا الحق لمصلحة عامة ظاهرة، كما هو
الحال في الملك، بل هنا حق الجماعة أرجح لأن ملكيتها عامة.
(3/126)
الْعَرَبِ أَنَّهَا مِنَ الْعُذَيْبِ (1)
إِلَى حَضْرَمَوْتَ. قَال ابْنُ الأَْعْرَابِيِّ: مَا أَحْسَنَ هَذَا.
وَعَنِ الأَْصْمَعِيِّ: جَزِيرَةُ الْعَرَبِ مَا بَيْنَ عَدَنِ أَبْيَنَ
إِلَى رِيفِ الْعِرَاقِ فِي الطُّول (2) ، وَالْعَرْضِ مِنَ الأُْبُلَّةِ
(3) إِلَى جُدَّةَ.
قَال يَاقُوتٌ: وَجَزِيرَةُ الْعَرَبِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: الْيَمَنُ،
وَنَجْدٌ، وَالْحِجَازُ، وَالْغَوْرُ (أَيْ تِهَامَةُ) .
فَمِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ الْحِجَازُ وَمَا جَمَعَهُ، وَتِهَامَةُ،
وَالْيَمَنُ، وَسَبَأُ، وَالأَْحْقَافُ، وَالْيَمَامَةُ، وَالشَّحْرُ،
وَهَجْرُ، وَعَمَّانُ، وَالطَّائِفُ، وَنَجْرَانُ، وَالْحَجَرُ، وَدِيَارُ
ثَمُودَ، وَالْبِئْرُ الْمُعَطَّلَةُ وَالْقَصْرُ الْمَشِيدُ، وَإِرَمُ
ذَاتُ الْعِمَادِ، وَأَصْحَابُ الأُْخْدُودِ، وَدِيَارُ كِنْدَةَ، وَجِبَال
طَيِّئٍ، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ.
وَاَلَّذِي قَالَهُ الْهَيْثَمُ وَالأَْصْمَعِيُّ هُوَ الَّذِي يَذْكُرُهُ
الْفُقَهَاءُ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَال: "
جَزِيرَةُ الْعَرَبِ مَا بَيْنَ الْوَادِي إِلَى أَقْصَى الْيَمَنِ إِلَى
تُخُومِ الْعِرَاقِ إِلَى الْبَحْرِ (4) ".
وَبَيَّنَ الْخَلِيل أَنَّ أَرْضَ الْعَرَبِ قِيل لَهَا جَزِيرَةُ
الْعَرَبِ؛ لأَِنَّ الْبِحَارَ وَنَهْرَ الْفُرَاتِ قَدْ أَحَاطَتْ بِهَا،
وَنُسِبَتْ إِلَى الْعَرَبِ؛ لأَِنَّهَا أَرْضُهَا وَمَسْكَنُهَا
وَمَعْدِنُهَا (5) . وَقَال الْبَاجِيُّ: " قَال مَالِكٌ: جَزِيرَةُ
الْعَرَبِ
__________
(1) العذيب من أرض العراق بعد القادسية أربعة أميال على حدود البادية (معجم
البلدان)
(2) نقله ابن عابدين والدردير في بلغة السالك 1 / 367، وما في معجم البلدان
" ما بين عدن أبين في الطول " ففيه سقط.
(3) الأبلة بناحية البصرة.
(4) حديث: " جزيرة العرب. . . . " أخرجه أبو داود. (عون المعبود 3 / 129، ط
المطبعة الأنصارية بدهلي) .
(5) أحكام أهل الذمة 1 / 178
(3/126)
مَنْبَتُ الْعَرَبِ. قِيل لَهَا جَزِيرَةُ
الْعَرَبِ، لإِِحَاطَةِ الْبَحْرِ وَالأَْنْهَارِ بِهَا ". (1)
وَفِي الْمُغْنِي: قَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ: " جَزِيرَةُ الْعَرَبِ
الْمَدِينَةُ وَمَا وَالاَهَا "، يَعْنِي أَنَّ الْمَمْنُوعَ مِنْ سُكْنَى
الْكُفَّارِ هُوَ الْمَدِينَةُ وَمَا وَالاَهَا، وَهُوَ مَكَّةُ
وَالْيَمَامَةُ وَخَيْبَرُ وَيَنْبُعُ وَفَدَكُ وَمَخَالِيفُهَا (2) ؛
لأَِنَّهُمْ لَمْ يُجْلُوا مِنْ تَيْمَاءَ وَلاَ مِنَ الْيَمَنِ. وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَة بْنِ الْجَرَّاحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَخْرِجُوا يَهُودَ أَهْل الْحِجَازِ
وَأَهْل نَجْرَانَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ. (3)
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ: " قَال بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ
سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ - يَعْنِي الإِْمَامَ أَحْمَدَ - عَنْ
جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، فَقَال: إِنَّمَا الْجَزِيرَةُ مَوْضِعُ الْعَرَبِ،
وَأَمَّا مَوْضِعٌ يَكُونُ فِيهِ أَهْل السَّوَادِ وَالْفُرْسِ فَلَيْسَ
هُوَ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ. مَوْضِعُ الْعَرَبِ الَّذِي يَكُونُونَ فِيهِ "
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ أَيْضًا: " قَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ:
سَمِعْتُ أَبِي يَقُول فِي حَدِيثٍ لاَ يَبْقَى دِينَانِ بِجَزِيرَةِ
الْعَرَبِ تَفْسِيرُهُ: مَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ فَارِسَ وَالرُّومِ. قِيل
لَهُ: مَا كَانَ خَلْفَ الْعَرَبِ؟ قَال: نَعَمْ. " (4)
فَكَأَنَّ الإِْمَامَ أَحْمَدَ فِي هَذِهِ النُّصُوصِ الْمَنْقُولَةِ
عَنْهُ يَذْهَبُ إِلَى تَعْرِيفٍ آخَرَ لِلْجَزِيرَةِ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ. وَيَقُول ابْنُ الْقَيِّمِ: حَدِيثُ ابْنِ عُبَيْدَةَ
__________
(1) المنتقى شرح الموطأ 7 / 195
(2) وفي كشاف القناع 3 / 107 عن ابن تيمية التصربح بأن (تبوك) من الحجاز.
(3) حديث: " أخرجوا يهود أهل الحجاز " أخرجه أحمد (1 / 195 ط الميمنية) ،
وقال الهيثمي: " رواه أحمد (بأسانيد) . ورجال طريقين منها ثقات، متصل
إسنادهما، (مجمع الزوائد 5 / 325 ط القدس) .
(4) أحكام أهل الذمة 1 / 176، 177، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 180 ط
الحلبي.
(3/127)
صَرِيحٌ فِي أَنَّ أَرْضَ نَجْرَانَ مِنْ
جَزِيرَةِ الْعَرَبِ (1) .
الأَْحْكَامُ الْخَاصَّةُ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ:
2 - لَمَّا كَانَتْ أَرْضُ الْعَرَبِ مَنْبَتَ الإِْسْلاَمِ وَعَرِينَهُ،
وَفِيهَا بَيْتُ اللَّهِ وَمَهْبِطُ الْوَحْيِ، فَقَدِ اخْتُصَّتْ عَنْ
سَائِرِ الْبِلاَدِ الإِْسْلاَمِيَّةِ بِأَرْبَعَةِ أَحْكَامٍ:
الأَْوَّل: أَنَّهَا لاَ يَسْكُنُهَا غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لاَ يُدْفَنُ بِهَا أَحَدٌ مِنْ غَيْرِ
الْمُسْلِمِينَ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا لاَ يَبْقَى فِيهَا دَارُ عِبَادَةٍ لِغَيْرِ
الْمُسْلِمِينَ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا لاَ يُؤْخَذُ مِنْ أَرْضِهَا خَرَاجٌ.
وَفِي كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الأَْحْكَامِ تَفْصِيلٌ سَيَأْتِي.
مَا يُمْنَعُ الْكُفَّارُ مِنْ سُكْنَاهُ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ:
3 - وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثُ
فِي مَنْعِ الْكُفَّارِ مِنْ سُكْنَى الأَْرْضِ الَّتِي يَفْتَحُهَا
الْمُسْلِمُونَ:
مِنْهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَال: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي
الْمَسْجِدِ، إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: انْطَلِقُوا إِلَى يَهُودَ، فَخَرَجْنَا مَعَهُ
حَتَّى جِئْنَا بَيْتَ الْمِدْرَاسِ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَادَاهُمْ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، أَسْلِمُوا
تَسْلَمُوا. فَقَالُوا: بَلَّغْتَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ. فَقَال: ذَلِكَ
أُرِيدُ. ثُمَّ قَالَهَا الثَّانِيَةَ. فَقَالُوا: قَدْ بَلَّغْتَ يَا
أَبَا الْقَاسِمِ. ثُمَّ قَال الثَّالِثَةَ. فَقَال: اعْلَمُوا أَنَّ
الأَْرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ،
فَمَنْ وَجَدَ بِمَالِهِ شَيْئًا فَلْيَبِعْهُ، وَإِلاَّ فَاعْلَمُوا أَنَّ
الأَْرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَهَذَا لَفْظُ
الْبُخَارِيِّ (2)
__________
(1) أحكام أهل الذمة 1 / 185
(2) فتح الباري 12 / 317 ط السلفية، ومسلم 3 / 1387 ط عيسى الحلبي.
(3/127)
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا
يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ هَذَا الْحُكْمُ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، عَلَى
أَقْوَالٍ:
4 - الأَْوَّل: وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، أَنَّ
الْكُفَّارَ يُمْنَعُونَ مِنْ سُكْنَى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ كُلِّهَا (1) ،
أَخْذًا بِظَاهِرِ الأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ وَمِنْهَا:
حَدِيثُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: لأَُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ
وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ حَتَّى لاَ أَدَعَ إِلاَّ
مُسْلِمًا. (2)
وَحَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: آخِرُ مَا عَهِدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُتْرَكُ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ
(3) وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: لاَ يَجْتَمِعُ فِي جَزِيرَةِ
الْعَرَبِ دِينَانِ (4) ، وَرَوَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: قَاتَل
اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ
مَسَاجِدَ لاَ يَبْقَيَنَّ دِينَانِ بِأَرْضِ الْعَرَبِ} (5)
قَال ابْنُ الْهُمَامِ: " لاَ يُمَكَّنُونَ - يَعْنِي أَهْل الذِّمَّةِ
مِنَ السُّكْنَى فِي أَمْصَارِ الْعَرَبِ وَقُرَاهَا، بِخِلاَفِ أَمْصَارِ
الْمُسْلِمِينَ الَّتِي لَيْسَتْ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، يُمَكَّنُونَ
مِنْ سُكْنَاهَا (6) . " وَفِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ "
__________
(1) فتح القدير 4 / 379
(2) حديث: " لأخرجن اليهود. . . . . " رواه مسلم 3 / 1388، ط عيسى الحلبي،
ورواه أبو عبيد في الأموال ص 98 ط القاهرة عن جابر، وزاد " فأخرجهم عمر ".
(3) أحكام أهل الذمة 1 / 176، وحديث عائشة قالت: " آخر ما عهد. . . " رواه
أحمد 6 / 275، ط الميمنية، وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح. (مجمع الزوائد
5 / 325 ط القدسي) .
(4) حديث ابن عمر: " لا يجتمع في جزيرة العرب. . . . . " أخرجه أبو عبيد في
الأموال ص 98 ط القاهرة.
(5) حديث: " قاتل الله اليهود. . . . . " أخرجه مالك مرسلا (الموطأ 2 / 892
ط عيسى الحلبي) وهو في الصحيحين عن عائشة مرفوعا.
(6) فتح القدير 4 / 379
(3/128)
فِي شَرْحِ الْوَهْبَانِيَّةِ
لِلشُّرُنْبُلاَلِيِّ: يُمْنَعُونَ مِنِ اسْتِيطَانِ مَكَّةَ
وَالْمَدِينَةِ؛ لأَِنَّهُمَا مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ.
قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَجْتَمِعُ
دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ ثُمَّ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: قَوْلَهُ:
لأَِنَّهُمَا مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ، أَفَادَ أَنَّ الْحُكْمَ غَيْرُ
مَقْصُورٍ عَلَيْهِمَا، بَل جَزِيرَةُ الْعَرَبِ كُلُّهَا كَذَلِكَ، كَمَا
عَبَّرَ بِهِ فِي الْفَتْحِ وَغَيْرِهِ (1) ".
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ
بَرَاءَةَ: أَمَّا جَزِيرَةُ الْعَرَبِ وَهِيَ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ
وَالْيَمَامَةُ وَالْيَمَنُ وَمَخَالِيفُهَا، فَقَال مَالِكٌ: يُخْرَجُ
مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كُل مَنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ الإِْسْلاَمِ، وَلاَ
يُمْنَعُونَ مِنَ التَّرَدُّدِ بِهَا مُسَافِرِينَ (2) .
5 - الرَّأْيُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ، أَنَّ الْمُرَادَ بِأَرْضِ الْعَرَبِ لَيْسَ كُل مَا
تَشْمَلُهُ (جَزِيرَةُ الْعَرَبِ) فِي اللُّغَةِ، بَل أَرْضُ الْحِجَازِ
خَاصَّةً. وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ،
قَال: آخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُول: أَخْرِجُوا يَهُودَ أَهْل الْحِجَازِ وَأَهْل نَجْرَانَ
مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ (3)
وَفِي الْمُوَطَّأِ: قَدْ أَجْلَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَهُودَ
نَجْرَانَ وَفَدَكٍ. فَأَمَّا يَهُودُ خَيْبَرَ فَخَرَجُوا مِنْهَا لَيْسَ
لَهُمْ مِنَ الثَّمَرِ وَلاَ مِنَ الأَْرْضِ شَيْءٌ. وَأَمَّا يَهُودُ
فَدَكٍ فَكَانَ لَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرِ وَنِصْفُ الأَْرْضِ؛ لأَِنَّ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَهُمْ عَلَى
نِصْفِ الثَّمَرِ وَنِصْفِ الأَْرْضِ، فَأَقَامَ لَهُمْ عُمَرُ نِصْفَ
الثَّمَرِ وَنِصْفَ الأَْرْضِ قِيمَةً مِنْ ذَهَبٍ وَوَرِقٍ وَإِبِلٍ
وَحِبَالٍ وَأَقْتَابٍ،
__________
(1) ابن عابدين 3 / 275
(2) الحطاب 3 / 381، الدسوقي 2 / 201
(3) أحكام أهل الذمة 1 / 176، والحديث تقدم تخريجه (ف 1) .
(3/128)
ثُمَّ أَعْطَاهُمُ الْقِيمَةَ
وَأَجْلاَهُمْ مِنْهَا (1) .
وَقَدْ خَصَّصُوا عُمُومَ الأَْحَادِيثِ الأُْخْرَى السَّابِقَةِ بِهَذَا
الْحَدِيثِ، وَبِفِعْل عُمَرَ فِي مَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ
إِنْكَارٍ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: فَأَمَّا إِخْرَاجُ أَهْل نَجْرَانَ مِنْهُ
فَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَهُمْ عَلَى
تَرْكِ الرِّبَا، فَنَقَضُوا عَهْدَهُ. فَكَأَنَّ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ فِي
تِلْكَ الأَْحَادِيثِ أُرِيدَ بِهَا الْحِجَازُ. وَلاَ يُمْنَعُونَ أَيْضًا
مِنْ أَطْرَافِ الْحِجَازِ كَتَيْمَاءَ وَفَيْدٍ؛ لأَِنَّ عُمَرَ لَمْ
يَمْنَعْهُمْ مِنْ ذَلِكَ (2) .
قَال الشَّافِعِيُّ: " إِنْ سَأَل مَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ أَنْ
يُعْطِيَهَا وَيَجْرِيَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ، عَلَى أَنْ يَسْكُنَ
الْحِجَازَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَالْحِجَازُ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ
وَالْيَمَامَةُ وَمَخَالِيفُهَا كُلُّهَا، لأَِنَّ تَرْكَهُمْ يَسْكُنُونَ
الْحِجَازَ مَنْسُوخٌ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ اسْتَثْنَى عَلَى أَهْل خَيْبَرَ حِينَ عَامَلَهُمْ فَقَال:
نُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ (3) ثُمَّ أَمَرَ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِجْلاَئِهِمْ مِنَ الْحِجَازِ. وَلاَ
يَجُوزُ صُلْحُ ذِمِّيٍّ عَلَى أَنْ يَسْكُنَ الْحِجَازَ بِحَالٍ ".
وَقَال: " لَمْ أَعْلَمْ أَنَّ أَحَدًا أَجْلَى أَحَدًا مِنْ أَهْل
الذِّمَّةِ مِنَ الْيَمَنِ، وَقَدْ كَانَتْ بِهَا ذِمَّةٌ، وَلَيْسَتْ
بِحِجَازٍ، فَلاَ يُجْلِيهِمْ أَحَدٌ مِنَ الْيَمَنِ، وَلاَ بَأْسَ أَنْ
يُصَالِحَهُمْ عَلَى مُقَامِهِمْ بِالْيَمَنِ (4) ".
وَقَال الْغَزَالِيُّ فِي الْوَجِيزِ: " يُقَرُّونَ فِي سَائِرِ الْبِلاَدِ
إِلاَّ بِالْحِجَازِ، وَهِيَ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ
وَنَجْدٌ
__________
(1) الموطأ وشرحه المنتقى 7 / 195
(2) المغني 10 / 614 ط أولى.
(3) حديث: " نقركم ما أقركم الله " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 327 ط
السلفية) .
(4) الأم للشافعي 4 / 178
(3/129)
وَمَخَالِيفُهَا وَالْوَجُّ وَالطَّائِفُ
وَخَيْبَرُ مِنْ مَخَالِيفِ الْمَدِينَةِ، وَهَل يَدْخُل الْيَمَنُ فِي
ذَلِكَ؟ فِيهِ خِلاَفٌ، إِذْ قِيل تَنْتَهِي جَزِيرَةُ الْعَرَبِ إِلَى
أَطْرَافِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ (1) ".
وَذَكَرَ الرَّمْلِيُّ الأَْحَادِيثَ فِي إِخْرَاجِ الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، ثُمَّ قَال: " لَيْسَ الْمُرَادُ
جَمِيعَ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ بَل الْحِجَازُ مِنْهَا، لأَِنَّ عُمَرَ
أَجْلاَهُمْ مِنْهُ، وَأَقَرَّهُمْ بِالْيَمَنِ مَعَ أَنَّهُ مِنْهَا.
وَهُوَ - أَيِ الْحِجَازُ - مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ
وَقُرَاهَا، كَالطَّائِفِ وَجُدَّةَ وَخَيْبَرَ، وَيَنْبُعَ (2) ".
بَحْرُ الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْجُزُرِ:
6 - قَال الشَّافِعِيُّ: " لاَ يُمْنَعُ أَهْل الذِّمَّةِ مِنْ رُكُوبِ
بَحْرِ الْحِجَازِ - أَيْ عَلَى سَبِيل الْعُبُورِ - وَيُمْنَعُونَ مِنَ
الْمُقَامِ فِي سَوَاحِلِهِ. وَكَذَا إِنْ كَانَتْ فِي بَحْرِ الْحِجَازِ
جَزَائِرُ وَجِبَالٌ تُسْكَنُ مُنِعُوا مِنْ سُكْنَاهَا؛ لأَِنَّهَا مِنْ
أَرْضِ الْحِجَازِ (3) ". وَصَرَّحَ الرَّمْلِيُّ بِأَنَّ الْجُزُرَ
يُمْنَعُونَ مِنْ سُكْنَاهَا، مَسْكُونَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ
مَسْكُونَةٍ. وَقَال: قَال الْقَاضِي: لاَ يُمَكَّنُونَ مِنَ الإِْقَامَةِ
فِي مَرْكَبٍ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، أَيْ إِذَا كَانَ
بِمَوْضِعٍ وَاحِدٍ (4) .
وَلَمْ نَجِدْ لِغَيْرِ الشَّافِعِيَّةِ تَعَرُّضًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
(5) .
__________
(1) الوجيز 2 / 199، والوج هو الطائف (معجم البلدان) .
(2) نهاية المحتاج 8 / 85. وقد فسر الرملي وبعض الشافعية (اليمامة) الواردة
في كلام الشافعي بأنها إحدى قرى الطائف.
(3) الأم 4 / 178
(4) نهاية المحتاج 8 / 85
(5) المياه الإقليمية والجزر التابعة تأخذ حكم البر عرفا. فكأنهم تركوا
الإشارة إلى ذلك لوضوحه. (اللجنة) .
(3/129)
شُمُول الْمَنْعِ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ:
7 - مَنْعُ الْكُفَّارِ مِنْ سُكْنَى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ شَامِلٌ
لِجَمِيعِهِمْ مَهْمَا كَانَتْ دِيَانَتُهُمْ، أَوْ صِفَاتُهُمْ، وَهُوَ
مَا دَل عَلَيْهِ حَدِيثُ: لاَ يَبْقَى دِينَانِ بِأَرْضِ الْعَرَبِ (1)
دُخُول الْكَافِرِ أَرْضَ الْعَرَبِ
لِغَيْرِ الإِْقَامَةِ وَالاِسْتِيطَانِ:
8 - يَرَى الْجُمْهُورُ، وَمَعَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْكَافِرِ دُخُول الْحَرَمِ
الْمَكِّيِّ بِحَالٍ. وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ
بِصُلْحٍ أَوْ إِذْنٍ. وَلِمَعْرِفَةِ تَفْصِيل ذَلِكَ (ر: حَرَم) .
وَأَمَّا حَرَمُ الْمَدِينَةِ فَإِنَّهُ لاَ يُمْنَعُ مِنْ دُخُولِهِ
لِرِسَالَةٍ أَوْ تِجَارَةٍ أَوْ حَمْل مَتَاعٍ. وَتَفْصِيلُهُ فِي
مُصْطَلَحِ (الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ (2)) .
9 - وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ - مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ - فَلاَ يَدْخُلُهُ
الْكَافِرُ إِلاَّ بِإِذْنٍ أَوْ صُلْحٍ. وَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ
تَفْصِيلٌ.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ دَخَل - أَيِ الذِّمِّيُّ - أَرْضَ الْعَرَبِ
لِتِجَارَةٍ جَازَ، وَلاَ يُطِيل، فَيُمْنَعُ أَنْ يُطِيل فِيهَا
الْمُكْثَ، حَتَّى يَتَّخِذَ فِيهَا مَسْكَنًا؛ لأَِنَّ حَالَهُمْ فِي
الْمُقَامِ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ مَعَ الْتِزَامِ الْجِزْيَةِ، كَحَالِهِمْ
فِي غَيْرِهَا بِلاَ جِزْيَةٍ، وَهُنَاكَ لاَ يُمْنَعُونَ مِنَ
التِّجَارَةِ، بَل مِنْ إِطَالَةِ الْمُقَامِ، فَكَذَلِكَ فِي أَرْضِ
الْعَرَبِ. وَقَدْ قَدَّرَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِسَنَةٍ. قَال صَاحِبُ
الاِخْتِيَارِ: لأَِنَّهَا مُدَّةٌ تَجِبُ فِيهَا الْجِزْيَةُ، فَتَكُونُ
الإِْقَامَةُ لِمَصْلَحَةِ الْجِزْيَةِ (3) .
__________
(1) المواق بهامش الحطاب 3 / 381
(2) أحكام أهل الذمة 1 / 185
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 275 نقلا عن السير الكبير. والاختيار 4 / 136 ط
دار المعرفة.
(3/130)
10 - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لأَِهْل
الذِّمَّةِ الاِجْتِيَازُ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فِي سَفَرِهِمْ
لِتِجَارَةٍ وَنَحْوِهَا، وَإِقَامَةِ الأَْيَّامِ، كَالثَّلاَثَةِ
لِمَصَالِحِهِمْ إِنْ دَخَلُوهَا لِمَصْلَحَةٍ، كَبَيْعِ طَعَامٍ
وَغَيْرِهِ. قَال الصَّاوِيُّ: وَلَيْسَتِ الثَّلاَثَةُ قَيْدًا، بَل
الْمَدَارُ عَلَى الإِْقَامَةِ لِلْمَصَالِحِ، وَالْمَمْنُوعُ الإِْقَامَةُ
لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ (1) . وَعِبَارَةُ الْعَدَوِيِّ عَلَى قَوْل
الْخَرَشِيِّ: (وَضَرَبَ لَهُمْ عُمَرُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ) قَال: "
الظَّاهِرُ أَنَّ تَخْصِيصَ الثَّلاَثَةِ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِ
الثَّلاَثَةِ إِذْ ذَاكَ مَظِنَّةٌ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَإِلاَّ فَلَوْ
كَانَتِ الْحَاجَةُ تَقْتَضِي أَكْثَرَ لَكَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ". قَال
الصَّاوِيُّ: وَظَاهِرُهُ أَنَّ لَهُمُ الْمُرُورَ عَابِرِينَ وَلَوْ
لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ. وَفِي الْمُنْتَقَى لِلْبَاجِيِّ: قَال مَالِكٌ فِي
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ إِذَا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ:
يُضْرَبُ لَهُمْ أَجَلٌ ثَلاَثُ لَيَالٍ، يَسْتَقُونَ وَيَنْظُرُونَ فِي
حَوَائِجِهِمْ، وَقَدْ ضَرَبَ لَهُمْ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ.
11 - أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلاَتٌ أَوْسَعُ،
قَالُوا: إِنِ اسْتَأْذَنَ الْكَافِرُ فِي دُخُول الْحِجَازِ أُذِنَ لَهُ
إِنْ كَانَ دُخُولُهُ لِمَصْلَحَةٍ، كَرِسَالَةٍ وَحَمْل مَا يَحْتَاجُ
إِلَيْهِ كَثِيرًا مِنْ طَعَامٍ وَغَيْرِهِ، وَكَإِرَادَةِ عَقْدِ جِزْيَةٍ
أَوْ هُدْنَةٍ لِمَصْلَحَةٍ. وَهُنَا لاَ يُؤْخَذُ مِنْهُ شَيْءٌ فِي
مُقَابَلَةِ دُخُولِهِ. أَمَّا مَعَ عَدَمِ الْمَصْلَحَةِ فَلاَ يُؤْذَنُ
لَهُ، فَإِنْ كَانَ دُخُولُهُ لِتِجَارَةٍ لَيْسَ فِيهَا كَبِيرُ حَاجَةٍ،
لَمْ يَجُزِ الإِْذْنُ لَهُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْكَافِرُ ذِمِّيًّا،
وَبِشَرْطِ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنَ الْبِضَاعَةِ أَوْ ثَمَنِهَا.
وَلاَ يُقِيمُ بِالْحِجَازِ حَيْثُ دَخَلَهُ، إِلاَّ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ
فَأَقَل، غَيْرَ يَوْمَيْ دُخُولِهِ وَخُرُوجِهِ، اقْتِدَاءً بِعُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فَإِنْ أَقَامَ بِمَحَلٍّ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ،
ثُمَّ
__________
(1) الشرح الصغير وبلغة السالك 1 / 367
(3/130)
بِآخَرَ مِثْلَهَا، وَهَكَذَا، لَمْ
يُمْنَعْ، إِنْ كَانَ بَيْنَ كُل مَحَلَّيْنِ مَسَافَةُ الْقَصْرِ (1) .
وَالشَّافِعِيُّ يَقُول: وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ لاَ يَدْخُل الْحِجَازَ
مُشْرِكٌ بِحَالٍ، وَلَوْلاَ مَا رَأَى عُمَرُ مِنْ أَنَّ أَجَل مَنْ
قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ تَاجِرًا ثَلاَثٌ، لاَ يُقِيمُ
فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ، لَرَأَيْتُ أَنْ لاَ يُصَالَحُوا بِدُخُولِهَا بِكُل
حَالٍ (2) .
12 - وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي الإِْقَامَةِ
أَكْثَرُ مِنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ. وَقَال الْقَاضِي: أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ
حَدُّ مَا يَتِمُّ الْمُسَافِرُ الصَّلاَةَ، وَقَالُوا كَالشَّافِعِيَّةِ:
إِنْ أَقَامُوا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ أُخْرَى جَازَ (3) .
تَجَاوُزُ الْمُدَّةِ الْمَأْذُونِ فِيهَا:
13 - يَنُصُّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أُذِنَ لَهُ مِنَ الْكُفَّارِ
بِدُخُول شَيْءٍ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ - عَلَى الاِخْتِلاَفِ السَّابِقِ -
فَزَادَ فِي الإِْقَامَةِ عَلَى الْمَأْذُونِ فِيهِ يُعَزَّرُ، مَا لَمْ
يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ. وَالأَْعْذَارُ الَّتِي ذَكَرُوهَا لِتَمْدِيدِ
الإِْقَامَةِ فِي أَرْضِ الْحِجَازِ - سِوَى الْحَرَمِ - ثَلاَثَةٌ:
أ - الدَّيْنُ:
14 - قَال الْحَنَابِلَةُ: أَنْ يَكُونَ دَخَل بِتِجَارَةٍ فَصَارَ لَهُ
دَيْنٌ، وَحِينَئِذٍ إِنْ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا يُمْنَعُ مِنَ
الإِْقَامَةِ إِنْ أَمْكَنَ التَّوْكِيل، وَإِلاَّ أُجْبِرَ غَرِيمُهُ
عَلَى وَفَائِهِ لِيَخْرُجَ. فَإِنْ تَعَذَّرَ جَازَتِ الإِْقَامَةُ
لاِسْتِيفَائِهِ؛ لأَِنَّ الْعُذْرَ مِنْ غَيْرِهِ، وَفِي إِخْرَاجِهِ
قَبْل اسْتِيفَائِهِ ذَهَابُ مَالِهِ. وَسَوَاءٌ أَكَانَ التَّعَذُّرُ
لِمَطْلٍ أَوْ
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 85، 86
(2) الأم 4 / 176
(3) المغني مع الشرح الكبير، 10 / 615
(3/131)
تَغَيُّبٍ أَوْ غَيْرِهِمَا.
وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلاً لَمْ يُمَكَّنْ مِنَ الإِْقَامَةِ
حَتَّى يَحِل؛ لِئَلاَّ يَتَّخِذَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً لِلإِْقَامَةِ،
وَيُوَكِّل مَنْ يَسْتَوْفِيهِ لَهُ إِذَا حَل (1) .
وَلَمْ نَجِدْ أَحَدًا مِنْ أَهْل الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى تَعَرَّضَ
لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
ب - بَيْعُ الْبِضَاعَةِ:
15 - قَال الْحَنَابِلَةُ: إِنِ احْتَاجَ إِلَى أَيَّامٍ أُخْرَى لِيَبِيعَ
بِضَاعَتَهُ وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: يُحْتَمَل أَنْ تَجُوزَ إِقَامَتُهُ؛
لأَِنَّ فِي تَكْلِيفِهِ تَرْكَهَا أَوْ حَمْلَهَا مَعَهُ ضَيَاعَ مَالِهِ،
وَذَلِكَ مِمَّا يُمْنَعُ مِنَ الدُّخُول بِالْبَضَائِعِ إِلَى الْحِجَازِ،
فَتَفُوتُ مَصْلَحَتُهُمْ، وَتَلْحَقُهُمُ الْمَضَرَّةُ بِانْقِطَاعِ
الْجَلْبِ عَنْهُمْ. وَيُحْتَمَل أَنْ يُمْنَعَ مِنَ الإِْقَامَةِ، لأَِنَّ
لَهُ مِنَ الإِْقَامَةِ بُدًّا (2) .
ج - الْمَرَضُ:
16 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ لَمْ تَعْظُمُ الْمَشَقَّةُ فِي نَقْلِهِ،
وَلَمْ يَخَفْ زِيَادَةَ مَرَضِهِ، يُنْقَل حَتْمًا؛ لِحُرْمَةِ الْمَحَل.
وَإِنْ عَظُمَتِ الْمَشَقَّةُ فِي نَقْلِهِ، فَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ
يُتْرَكُ دَفْعًا لأَِعْظَمِ الضَّرَرَيْنِ.
وَنَصُّ الشَّافِعِيِّ: " يُمْهَل بِالإِْخْرَاجِ حَتَّى يَكُونَ
مُحْتَمِلاً ". وَفِي قَوْلٍ لَهُمْ: يُنْقَل مُطْلَقًا (3) .
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، فَإِنَّ الْمَرَضَ عُذْرٌ يُجِيزُ
إِقَامَتَهُ حَتَّى يَبْرَأَ مِنْ مَرَضِهِ؛ لأَِنَّ الاِنْتِقَال يَشُقُّ
عَلَى الْمَرِيضِ. وَتَجُوزُ الإِْقَامَةُ أَيْضًا لِمَنْ يُمَرِّضُهُ،
لِضَرُورَةِ إِقَامَتِهِ. وَفِي قَوْلٍ ذَكَرَهُ صَاحِبُ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 108، والإنصاف 4 / 240
(2) المغني 10 / 615
(3) نهاية المحتاج 8 / 86، والأم 4 / 178
(3/131)
الإِْنْصَافِ: إِنْ شَقَّ نَقْلُهُ جَازَ
إِبْقَاؤُهُ، وَإِلاَّ فَلاَ (1) .
وَيُؤْخَذُ مِنَ النُّصُوصِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ مَنَاطَ الْحُكْمِ فِي
الْبَقَاءِ وَعَدَمِهِ هُوَ الْمَشَقَّةُ، وَالْقَوَاعِدُ الْعَامَّةُ
لِلشَّرِيعَةِ لاَ تَخْتَلِفُ مَعَ مَا نُقِل عَنِ الشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ.
مَا يُشْتَرَطُ لِدُخُول الْكُفَّارِ أَرْضَ الْعَرَبِ:
17 - لَيْسَ لِلْكَافِرِ أَنْ يَدْخُل لِلإِْقَامَةِ بِأَرْضِ الْعَرَبِ،
عَلَى الأَْقْوَال الْمُتَقَدِّمَةِ فِي تَفْسِيرِهَا. وَلَيْسَ
لِلإِْمَامِ أَنْ يَعْقِدَ الذِّمَّةَ لِكَافِرٍ بِشَرْطِ الإِْقَامَةِ
بِهَا. وَحِينَئِذٍ إِنْ شَرَطَ هَذَا فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ، يَبْطُل
الشَّرْطُ، فَلاَ يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَيَصِحُّ الْعَقْدُ. لَكِنْ
لَهُ أَنْ يَعْقِدَ الذِّمَّةَ عَلَى أَنْ يَدْخُلَهَا الذِّمِّيُّ
لِلتِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا، فِي حُدُودِ الأَْيَّامِ الثَّلاَثَةِ، فَإِنْ
لَمْ يَعْقِدِ الذِّمَّةَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ فَلاَ يَجُوزُ دُخُولُهُ،
نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ دُخُول سَائِرِ
الْكُفَّارِ مِنَ الْحَرْبِيِّينَ إِلاَّ بِإِذْنِ الإِْمَامِ أَوْ
نَائِبِهِ. كَمَا أَنَّ الْحَرْبِيِّينَ لاَ يَدْخُلُونَ سَائِرَ بِلاَدِ
الإِْسْلاَمِ إِلاَّ بِإِذْنِ الإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ.
وَمَنْ دَخَل مِنْهُمْ دُونَ إِذْنٍ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ وَيُخْرَجُ. قَال
الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّمَا يُعَزَّرُ إِنْ كَانَ عَالِمًا بِالْمَنْعِ.
فَإِنْ كَانَ جَاهِلاً يُخْرَجُ وَلاَ يُعَزَّرُ، وَيُصَدَّقُ فِي
دَعْوَاهُ الْجَهْل.
وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
الإِْذْنَ فِي دُخُول أَهْل الذِّمَّةِ الْحِجَازَ (2) .
__________
(1) كشاف القناع 3 / 137، والإنصاف 4 / 241
(2) الأم للشافعي 4 / 178، ونهاية المحتاج 8 / 86، وأحكام أهل الذمة 1 /
187، وكشاف القناع 3 / 107، 135 ط أنصار السنة المحمدية، وحاشية ابن عابدين
3 / 275، والشرح الصغير 1 / 367
(3/132)
تَمَلُّكُ أَهْل الذِّمَّةِ شَيْئًا مِنْ
أَرْضِ الْعَرَبِ:
18 - تَعَرَّضَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الرَّمْلِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ،
فَقَال: الصَّوَابُ مَعَ شِرَاءِ الْكَافِرِ أَرْضًا فِي الْحِجَازِ لَمْ
يَقُمْ بِهَا؛ لأَِنَّ مَا حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ حَرُمَ اتِّخَاذُهُ،
كَالأَْوَانِي الذَّهَبِيَّةِ وَالْفِضِّيَّةِ، وَآلاَتِ اللَّهْوِ.
وَإِلَيْهِ يُشِيرُ قَوْل الشَّافِعِيِّ: وَلاَ يَتَّخِذُ الذِّمِّيُّ
شَيْئًا مِنَ الْحِجَازِ دَارًا (1) .
إِقَامَةُ الْكُفَّارِ فِيمَا سِوَى الْحِجَازِ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ:
19 - لاَ يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ أَنْ يُقَرَّ بِأَرْضِ
الْعَرَبِ أَحَدٌ مِنْ أَهْل الشِّرْكِ، وَعَبَدَةِ الأَْوْثَانِ،
وَالدَّهْرِيِّينَ، وَنَحْوِهِمْ بِذِمَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا. وَلَكِنْ
يَجُوزُ، عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ خَاصَّةً، أَنْ
يُقِيمَ بِهَا - خَارِجَ الْحِجَازِ - أَهْل الذِّمَّةِ مِنَ الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ (2) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (أَهْل
الذِّمَّةِ) .
دَفْنُ الْكُفَّارِ بِأَرْضِ الْعَرَبِ
20 - إِنْ دَخَل الذِّمِّيُّ الْحِجَازَ، فَمَاتَ فِيهِ، يُنْقَل وَلاَ
يُدْفَنُ هُنَاكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. فَإِنْ تَعَذَّرَ نَقْلُهُ
مِنْهُ لِنَحْوِ خَوْفِ تَغَيُّرٍ، يُدْفَنُ هُنَاكَ لِلضَّرُورَةِ - أَيْ
فِيمَا عَدَا الْحَرَمِ، أَمَّا الْحَرَمُ فَفِيهِ تَشْدِيدٌ (ر: حَرَم) -
وَهَذَا بِخِلاَفِ الْحَرْبِيِّ وَالْمُرْتَدِّ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ
دَفْنُهُمَا فِي الْحِجَازِ بِحَالٍ. فَإِنْ آذَى رِيحُهُمَا غُيِّبَتْ
جِيفَتُهُمَا (3) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَهُمْ جَوَازُ دَفْنِ
الذِّمِّيِّ
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 85
(2) نهاية المحتاج 8 / 82
(3) نهاية المحتاج 8 / 87
(3/132)
بِالْحِجَازِ إِنْ مَاتَ بِهِ وَقَدْ دَخَل
بِإِذْنٍ. وَفِي وَجْهٍ عِنْدَهُمْ: لاَ يُدْفَنُ بِهِ. وَفِي وَجْهٍ
آخَرَ: إِنْ شَقَّ نَقْلُهُ جَازَ دَفْنُهُ. وَلَمْ يَنُصُّوا عَلَى دَفْنِ
الْحَرْبِيِّ وَالْمُرْتَدِّ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ دَخَل مُشْرِكٌ الْحَرَمَ مَسْتُورًا
وَمَاتَ، نُبِشَ قَبْرُهُ وَأُخْرِجَتْ عِظَامُهُ، فَلَيْسَ لَهُمُ
الاِسْتِيطَانُ وَلاَ الاِجْتِيَازُ.
وَأَمَّا جَزِيرَةُ الْعَرَبِ، وَهِيَ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ
وَالْيَمَامَةُ وَالْيَمَنُ وَمَخَالِيفُهَا، فَقَدْ قَال مَالِكٌ:
يُخْرَجُ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كُل مَنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ
الإِْسْلاَمِ، وَلاَ يُمْنَعُونَ مِنَ التَّرَدُّدِ بِهَا مُسَافِرِينَ،
وَلاَ يُدْفَنُونَ فِيهَا وَيُلْجَئُونَ إِلَى الْحِل (2) .
وَلَمْ نَجِدْ لِلْحَنَفِيَّةِ كَلاَمًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
دُورُ الْعِبَادَةِ لِلْكُفَّارِ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ:
21 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ أَرْضَ الْعَرَبِ - الْحِجَازَ وَمَا
سِوَاهُ - لاَ يَجُوزُ إِحْدَاثُ كَنِيسَةٍ فِيهَا، وَلاَ بِيعَةٍ، وَلاَ
صَوْمَعَةٍ، وَلاَ بَيْتِ نَارٍ، وَلاَ صَنَمٍ، تَفْضِيلاً لأَِرْضِ
الْعَرَبِ عَلَى غَيْرِهَا، وَتَطْهِيرًا لَهَا عَنِ الدِّينِ الْبَاطِل
كَمَا عَبَّرَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ. وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مُدُنُهَا
وَقُرَاهَا وَسَائِرُ مِيَاهِهَا.
وَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ إِبْقَاءُ شَيْءٍ مِنْهَا مُحْدَثٍ أَوْ قَدِيمٍ،
أَيْ سَابِقٍ عَلَى الْفَتْحِ الإِْسْلاَمِيِّ (3) .
وَيُفْهَمُ مِثْل ذَلِكَ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ (4) .
__________
(1) الإنصاف 4 / 241
(2) القرطبي 8 / 104، والزرقاني 3 / 142
(3) البحر الرائق 5 / 121، 122، ورد المحتار 3 / 271، والبدائع 7 / 214
(4) الدسوقي 2 / 201
(3/133)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّ ذَلِكَ فِي الْحِجَازِ خَاصَّةً.
أَمَّا سَائِرُ أَرْضِ الْعَرَبِ فَحُكْمُهَا حُكْمُ غَيْرِهَا مِنْ
بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ، وَهِيَ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ:
1 - مَا أَسْلَمَ أَهْلُهُ عَلَيْهِ قَبْل الْفَتْحِ، فَلاَ يَجُوزُ
إِحْدَاثٌ وَلاَ إِبْقَاءُ شَيْءٍ مِنَ الْمَعَابِدِ لأَِهْل الذِّمَّةِ.
2 - مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً، فَلاَ يَجُوزُ فِيهِ
الإِْحْدَاثُ، وَفِي وُجُوبِ هَدْمِ الْمَوْجُودِ مِنْهُ رِوَايَتَانِ
عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
3 - مَا أَحْدَثَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الأَْمْصَارِ، كَالْبَصْرَةِ فَلاَ
يَجُوزُ إِحْدَاثُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِيهِ وَلَوْ صُولِحُوا عَلَيْهِ.
4 - مَا فُتِحَ صُلْحًا عَلَى أَنَّ الأَْرْضَ لَنَا، فَلاَ يُحْدِثُونَ
فِيهَا مَعْبَدًا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ شُرِطَ لَهُمْ ذَلِكَ فِي عَقْدِ
الصُّلْحِ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: مَا وَقَعَ مُطْلَقًا مِنْ شَرْطٍ
فَعَلَى شُرُوطِ عُمَرَ.
5 - مَا فُتِحَ صُلْحًا عَلَى أَنَّ الأَْرْضَ لَهُمْ، وَلَنَا عَلَيْهَا
الْخَرَاجُ، فَلَهُمْ إِحْدَاثُ مَا شَاءُوا لأَِنَّ الأَْرْضَ مِلْكُهُمْ
(1) .
أَخْذُ الْخَرَاجِ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ:
22 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ أَرْضَ الْعَرَبِ كُلَّهَا أَرْضُ عُشْرٍ
- أَيْ زَكَوِيَّةٌ - لاَ يُؤْخَذُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا خَرَاجٌ؛ لأَِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْخُذِ الْخَرَاجَ
مِنْ أَرَاضِي الْعَرَبِ. قَالُوا: وَلأَِنَّهُ - أَيِ الْخَرَاجَ -
بِمَنْزِلَةِ الْجِزْيَةِ، فَلاَ يَثْبُتُ فِي أَرَاضِيِهِمْ، كَمَا لاَ
تَثْبُتُ فِي رِقَابِهِمْ؛ لأَِنَّ مِنْ شَرْطِ الْخَرَاجِ أَنْ يُقَرَّ
أَهْلُهَا عَلَى
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 93، والمقنع وحاشيته 1 / 529، والمغني 10 / 609
(3/133)
الْكُفْرِ، كَمَا فِي سَوَادِ الْعِرَاقِ،
وَمُشْرِكُو الْعَرَبِ لاَ يُقْبَل مِنْهُمْ إِلاَّ الإِْسْلاَمُ أَوِ
السَّيْفُ (1) . وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ الأَْرْضُ فِي يَدِ صَاحِبِهَا مِمَّا
كَانَ مَعْمُورًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَمْ كَانَ مَوَاتًا وَأُحْيِيَ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَقَال الإِْمَامُ أَبُو يُوسُفَ فِي بَيَانِ ذَلِكَ: أَرْضُ الْعَرَبِ
مُخَالِفَةٌ لأَِرْضِ الأَْعَاجِمِ، مِنْ قِبَل أَنَّ الْعَرَبَ إِنَّمَا
يُقَاتَلُونَ عَلَى الإِْسْلاَمِ، لاَ تُقْبَل مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ.
فَإِنْ عَفَا لَهُمُ الإِْمَامُ عَنْ بِلاَدِهِمْ فَهِيَ أَرْضُ عُشْرٍ.
وَلاَ نَعْلَمُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلاَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ، أَوِ الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ، أَخَذُوا
مِنْ عَبَدَةِ الأَْوْثَانِ مِنَ الْعَرَبِ جِزْيَةً، إِنَّمَا هُوَ
الإِْسْلاَمُ أَوِ الْقَتْل (2) .
وَيَرَى أَبُو يُوسُفَ أَيْضًا أَنَّهُ لَيْسَ لِلإِْمَامِ تَحْوِيل أَرْضِ
الْعَرَبِ مِنَ الْعُشْرِ إِلَى الْخَرَاجِ. يَقُول: أَرْضُ الْحِجَازِ
مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَأَرْضُ الْيَمَنِ، وَأَرْضُ الْعَرَبِ الَّتِي
افْتَتَحَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلاَ
يُزَادُ عَلَيْهَا وَلاَ يُنْقَصُ مِنْهَا؛ لأَِنَّهُ شَيْءٌ قَدْ جَرَى
عَلَيْهِ حُكْمُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلاَ
يَحِل لِلإِْمَامِ أَنْ يُحَوِّلَهَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ
بَلَغَنَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
افْتَتَحَ حُصُونًا مِنَ الأَْرْضِ الْعَرَبِيَّةِ فَوَضَعَ عَلَيْهَا
الْعُشْرَ، وَلَمْ يَجْعَل عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا خَرَاجًا. وَكَذَلِكَ
قَوْل أَصْحَابِنَا فِي تِلْكَ الأَْرْضِينَ، أَلاَ تَرَى أَنَّ مَكَّةَ
وَالْحَرَمَ كَذَلِكَ؟ أَوَلاَ تَرَى أَنَّ الْعَرَبَ مِنْ عَبَدَةِ
الأَْوْثَانِ حُكْمُهُمُ الْقَتْل أَوِ الإِْسْلاَمُ، وَلاَ تُقْبَل
مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ؟ وَهَذَا خِلاَفُ الْحُكْمِ فِي غَيْرِهِمْ
فَكَذَلِكَ أَرْضُ الْعَرَبِ.
وَقَدْ جَعَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوْمٍ
مِنْ أَهْل الْيَمَنِ - يُرَى أَنَّهُمْ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ، الْخَرَاجَ
عَلَى رِقَابِهِمْ -
__________
(1) فتح القدير 5 / 278، وابن عابدين 3 / 229
(2) الخراج ص 66 ط 3 السلفية.
(3/134)
وَجَعَل عَلَى كُل حَالِمٍ أَوْ حَالِمَةٍ
دِينَارًا أَوْ عَدْلَهُ مَعَافِرِيًّا. فَأَمَّا الأَْرْضُ فَلَمْ يَجْعَل
عَلَيْهَا خَرَاجًا، وَإِنَّمَا جَعَل الْعُشْرَ فِي السَّيْحِ، وَنِصْفَ
الْعُشْرِ فِي الدَّالِيَةِ (1) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، فَإِنَّ أَرْضَ الْعَرَبِ
عِنْدَهُمْ قِسْمَانِ: الأَْوَّل مَا سِوَى الْحِجَازِ، وَالثَّانِي
الْحِجَازُ. فَمَا سِوَى الْحِجَازِ لاَ فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ
الْبِلاَدِ. وَالْقَاعِدَةُ عِنْدَهُمْ، أَنَّ أَرْضَ بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ
أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ:
1 - مَا أَسْلَمَ أَهْلُهُ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ فِيهِ الْعُشْرُ.
2 - مَا أَحْيَاهُ الْمُسْلِمُونَ، فَيَكُونُ فِيهِ الْعُشْرُ كَذَلِكَ.
3 - مَا فُتِحَ عَنْوَةً، وَلَمْ يَقِفْهُ الإِْمَامُ، بَل قَسَمَهُ بَيْنَ
الْغَانِمِينَ، فَيَكُونُ فِيهِ الْعُشْرُ كَذَلِكَ.
4 - مَا صُولِحَ أَهْلُهُ عَلَيْهِ، فَيُوضَعُ عَلَيْهِ خَرَاجٌ، وَهُوَ
قِسْمَانِ.
الأَْوَّل: مَا صُولِحَ أَهْلُهُ عَلَى زَوَال مِلْكِهِمْ عَنْهُ،
فَيَكُونُ خَرَاجُهُ أُجْرَةً، لاَ تَسْقُطُ بِإِسْلاَمِ أَهْلِهِ.
فَيُؤْخَذُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْل الذِّمَّةِ.
وَالثَّانِي: مَا صُولِحَ أَهْلُهُ عَلَى بَقَاءِ مِلْكِهِمْ عَلَيْهِ،
فَيَكُونُ خَرَاجُهُ جِزْيَةً، تَسْقُطُ بِإِسْلاَمِهِمْ، فَيُؤْخَذُ مِنْ
أَهْل الذِّمَّةِ، وَلاَ يُؤْخَذُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (2) .
23 - أَمَّا أَرْضُ الْحِجَازِ فَقَدْ لَخَصَّ الْمَاوَرْدِيُّ مِنَ
الشَّافِعِيَّةِ كَلاَمَهُمْ فِيهَا فَقَال: أَرْضُ الْحِجَازِ تَنْقَسِمُ
لاِخْتِصَاصِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِفَتْحِهَا قِسْمَيْنِ:
__________
(1) الخراج ص 58، 59
(2) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 154، والأحكام السلطانية للمارردي ص 147
(3/134)
الْقِسْمُ الأَْوَّل: صَدَقَاتُ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي أَخَذَهَا بِحَقَّيْهِ،
فَإِنَّ أَحَدَ حَقَّيْهِ خُمُسُ الْخُمُسِ مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنَائِمِ،
وَالْحَقُّ الثَّانِي أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ الَّذِي أَفَاءَهُ
اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، مِمَّا لَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ
بِخَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ، فَمَا صَارَ إِلَيْهِ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ
الْحَقَّيْنِ فَقَدْ رَضَخَ مِنْهُ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ، وَتَرَكَ
بَاقِيَهُ لِنَفَقَتِهِ وَصَلاَتِهِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى
مَاتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتَلَفَ فِي حُكْمِهِ
النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَجَعَلَهُ قَوْمٌ مَوْرُوثًا عَنْهُ،
وَمَقْسُومًا عَلَى الْمَوَارِيثِ مِلْكًا، وَجَعَلَهُ آخَرُونَ
لِلإِْمَامِ الْقَائِمِ مَقَامَهُ، فِي حِمَايَةِ الْبَيْضَةِ وَجِهَادِ
الْعَدُوِّ. وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهَا
صَدَقَاتٌ مُحَرَّمَةُ الرِّقَابِ، مَخْصُوصَةُ الْمَنَافِعِ، مَصْرُوفَةُ
الاِرْتِفَاعِ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ. ثُمَّ ذَكَرَ
الْمَاوَرْدِيُّ صَدَقَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَحَصَرَهَا فِي ثَمَانٍ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: سَائِرُ أَرْضِ الْحِجَازِ مَا عَدَا مَا ذُكِرَ،
وَهِيَ أَرْضُ عُشْرٍ لاَ خَرَاجَ عَلَيْهَا؛ لأَِنَّهَا مَا بَيْنَ
مَغْنُومٍ مُلِكَ عَلَى أَهْلِهِ، أَوْ مَتْرُوكٍ لِمَنْ أَسْلَمَ
عَلَيْهِ. وَكِلاَ الأَْمْرَيْنِ عُشْرِيٌّ لاَ خَرَاجَ عَلَيْهِ.
وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَافَقَ الْمَاوَرْدِيُّ
فِي كُل مَا قَالَهُ إِلاَّ أَنَّهُ ذَكَرَ رِوَايَةً أُخْرَى عَنِ
الإِْمَامِ أَحْمَدَ - وَقَدَّمَهَا - فِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ،
أَنَّهَا لِكُل الْمُسْلِمِينَ (1) .
حِمَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
24 - يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَثْنَى أَيْضًا مِنْ سَائِرِ أَرْضِ الْحِجَازِ،
مَا حَمَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَعْضِ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 151 ط 1327 هـ، والأحكام السلطانية لأبي
يعلى ص 184 ط 1356 هـ
(3/135)
الأَْقْوَال. فَلاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ إِحْيَاؤُهُ؛ لِيَكُونَ فِيهِ عُشْرٌ
أَوْ خَرَاجٌ. فَقَدْ حَمَى الْبَقِيعَ (وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عُبَيْدٍ:
النَّقِيعَ، بِالنُّونِ) لِخَيْل الْمُسْلِمِينَ، صَعِدَ جَبَلاً وَقَال:
هَذَا حِمَايَ: وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْقَاعِ، وَهُوَ قَدْرُ مِيلٍ
إِلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ. فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ:
حِمَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَابِتٌ، وَإِحْيَاءُ مَا
حَمَاهُ بَاطِلٌ. وَالْمُتَعَرِّضُ لإِِحْيَائِهِ مَرْدُودٌ مَزْجُورٌ (1)
، وَذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّهُ إِنْ زَالَتْ
حَاجَةٌ إِلَى حِمَى مَا حَمَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَفِي جَوَازِ إِحْيَائِهِ قَوْلاَنِ (2) .
وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى اسْتِمْرَارِ
مَا حَمَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ
انْقِضَائِهِ. وَاسْتَظْهَرَ الْحَطَّابُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ جَوَازَ
نَقْضِهِ إِنْ لَمْ يَقُمِ الدَّلِيل عَلَى إِرَادَةِ الاِسْتِمْرَارِ. |