الموسوعة الفقهية الكويتية

إِرْضَاعٌ

اُنْظُرْ: رَضَاع

إِرْفَاقٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْرْفَاقُ لُغَةً: نَفْعُ الْغَيْرِ، وَهُوَ مَصْدَرُ أَرْفَقَ، وَمَعْنَى رَفَقَ وَأَرْفَقَ وَاحِدٌ. وَالرِّفْقُ ضِدُّ الْعُنْفِ (3) .
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 165، ولأبى يعلى ص206
(2) المغني 5 / 581، 6 / 166، والحطاب 6 / 10
(3) الصحاح واللسان والمصباح مادة (رفق)

(3/135)


وَاصْطِلاَحًا: إِعْطَاءُ مَنَافِعِ الْعَقَارِ.
وَالإِْرْفَاقُ أَحَدُ نَوْعَيِ الإِْقْطَاعِ؛ لأَِنَّهُ تَمْلِيكٌ أَوْ إِقْطَاعُ إِرْفَاقٍ، فَقَدْ عَلَّقَ الْقَلْيُوبِيُّ عَلَى قَوْل النَّوَوِيِّ. " وَلَوْ أَقْطَعَهُ الإِْمَامُ مَوَاتًا صَارَ أَحَقَّ بِإِحْيَائِهِ " فَقَال: وَمِثْلُهُ الأَْمْوَال الَّتِي جُهِلَتْ أَرْبَابُهَا إِرْفَاقًا وَتَمَلُّكًا (1) . وَتَفْصِيل أَحْكَامِ (إِقْطَاعِ الإِْرْفَاقِ) فِي مُصْطَلَحِ (إِقْطَاع) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الاِرْتِفَاقُ:
2 - الإِْرْفَاقُ هُوَ مَنْحُ الْمَنْفَعَةِ، وَالاِرْتِفَاقُ أَثَرُ الإِْرْفَاقِ وَتَفْصِيل أَحْكَامِ الاِرْتِفَاقِ فِي مُصْطَلَحِهِ.

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ إِرْفَاقِ الإِْقْطَاعِ مِنَ الإِْمَامِ بِحَسَبِ الْغَرَضِ مِنْهُ، أَمَّا الإِْرْفَاقُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ فَمُسْتَحَبٌّ، وَالدَّلِيل مِنَ الْمَنْقُول مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يَمْنَعُ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ. ثُمَّ يَقُول أَبُو هُرَيْرَةَ: مَالِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ؟ وَاَللَّهِ لأََرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ (2) . وَقَدْ حُمِل النَّهْيُ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الْكَرَاهَةِ. وَالدَّلِيل مِنَ الْمَعْقُول أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِلإِْنْسَانِ حَقُّ الْمَنْفَعَةِ بِالأَْشْيَاءِ الَّتِي يَمْلِكُهَا، فَلَهُ أَنْ يُعِيرَهَا غَيْرَهُ، أَوْ يَهَبَهَا، فَإِنْ كَانَ يُرِيدُ بِذَلِكَ ثَوَابَ الآْخِرَةِ فَهِيَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَلِذَلِكَ يُنْدَبُ إِرْفَاقُ الْغَيْرِ مَنْفَعَةً مُعَيَّنَةً لِمُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ،
__________
(1) البهجة شرح التحفة 2 / 251، والقليوبي 3 / 92
(2) حديث: " لا يمنع جار جاره. . . . " متفق عليه، وهذا اللفظ للبخاري: (اللؤلؤ والمرجان ص 393)

(3/136)


أَوْ إِلَى الأَْبَدِ بِدُونِ أَجْرٍ (1) . وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ مَبَاحِثَ الإِْرْفَاقِ ضِمْنَ كَلاَمِهِمْ فِي الْعَارِيَّةِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ.

إِرْقَابٌ

اُنْظُرْ: رُقْبَى

إِزَارٌ

اُنْظُرْ: اتِّزَار

إِزَالَةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الإِْزَالَةِ فِي اللُّغَةِ: التَّنْحِيَةُ، وَالإِْذْهَابُ وَالاِضْمِحْلاَل. وَهِيَ مَصْدَرُ أَزَلْتُهُ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ ذَلِكَ.
وَقَدْ يَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ الإِْزَالَةَ وَالإِْذْهَابَ وَالإِْبْطَال بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقِيل: إِنَّ هَذِهِ الأَْلْفَاظَ الثَّلاَثَةَ قَدْ يَصِحُّ كُل وَاحِدٍ مِنْهَا فِي شَيْءٍ لاَ يَصِحُّ فِيهِ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 282 ط بولاق الأولى، والمغني 6 / 246 ط رشيد رضا.
(2) تاج العروس (زول) .

(3/136)


غَيْرُهُ مِنْهَا، كَمَا يُقَال لِمَنْ صَرَفَ مَالَهُ فِي شَيْءٍ: أَذْهَبَ مَالَهُ فِي كَذَا، وَلاَ يُقَال أَبْطَلَهُ، وَلاَ أَزَالَهُ، وَيُقَال لِمَنْ نَقَل شَيْئًا مِنْ مَحَلٍّ إِلَى آخَرَ: أَزَالَهُ، وَلاَ يُقَال أَبْطَلَهُ، وَلاَ أَذْهَبَهُ، وَيُقَال لِمَنْ أَفْسَدَ صَلاَتَهُ: أَبْطَلَهَا، وَلاَ يُقَال أَذْهَبَهَا، وَلاَ أَزَالَهَا (1) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
2 - الإِْزَالَةُ قَدْ تَكُونُ مَطْلُوبَةً مِنَ الشَّارِعِ عَلَى سَبِيل الْفِعْل، وَقَدْ تَكُونُ مَطْلُوبَةً عَلَى سَبِيل التَّرْكِ.
وَالإِْزَالَةُ قَدْ تَتَوَقَّفُ عَلَى نِيَّةٍ أَحْيَانًا كَمَا فِي إِزَالَةِ الْجَنَابَةِ، عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَقَدْ تَحْصُل بِلاَ نِيَّةٍ كَمَا فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ الْعَيْنِيَّةِ (2) .
وَمِنَ الإِْزَالَةِ الْمَطْلُوبَةِ عَلَى سَبِيل الْفِعْل: إِزَالَةُ الضَّرَرِ، وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ: " الضَّرَرُ يُزَال "؛ لِقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ (3) لَكِنْ لاَ يُزَال الضَّرَرُ بِضَرَرٍ مِثْلِهِ، وَيُدْفَعُ الضَّرَرُ الأَْشَدُّ بِالأَْخَفِّ (4) .
وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ يَنْبَنِي عَلَيْهَا كَثِيرٌ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، فَمِنْ ذَلِكَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ، وَجَمِيعُ أَنْوَاعِ الْخِيَارَاتِ، وَالشُّفْعَةُ، فَإِنَّ فِيهَا دَفْعَ ضَرَرِ الْقِسْمَةِ (5) .
3 - وَمِنَ الإِْزَالَةِ الْمَطْلُوبَةِ شَرْعًا: إِزَالَةُ الْمُنْكَرِ، وَهِيَ فِي الْجُمْلَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ؛ لِقَوْل اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {وَلْتَكُنْ
__________
(1) القليوبي 4 / 138 ط الحلبي.
(2) جواهر الإكليل 1 / 13 ط الحلبي.
(3) حديث: " لا ضرر. . . " أخرجه مالك مرسلا (المنتقى 6 / 40 ط السعادة) ورواه الحاكم موصولا (2 / 57 ط حيدر آباد)
(4) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 34، 35 المطبعة الحسينية، والأشباه والنظائر للسيوطي 86، 87 ط الحلبي لابن نجيم ص34
(5) الأشباه.

(3/137)


مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} . (1) إِذْ لَمْ يَقُل اللَّهُ سُبْحَانَهُ كُونُوا آمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ نَاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَمِنْ لِلتَّبْعِيضِ (2) . وَتَفْصِيل مَا يَتَّصِل بِإِزَالَةِ الْمُنْكَرِ تَحْتَ مُصْطَلَحِ: (الأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ) (وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ)
4 - وَالْمُعْتَدَّةُ لِلْوَفَاةِ يَجِبُ عَلَيْهَا إِزَالَةُ الطِّيبِ تَفَجُّعًا عَلَى الزَّوْجِ، وَيَتَكَلَّمُ الْفُقَهَاءُ عَنْ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْدَاد (3)) .
وَيُنْدَبُ كَذَلِكَ إِزَالَةُ شَعْرِ الْعَانَةِ، وَمَا تَحْتَ الإِْبِطِ (4) وَنَحْوِهِمَا، وَفَصَّلَهُ الْفُقَهَاءُ فِي خِصَال الْفِطْرَةِ، مَسَائِل الْحَظْرِ وَالإِْبَاحَةِ.
كَذَلِكَ مِنَ الإِْزَالَةِ الْمَطْلُوبَةِ إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ، وَلِذَلِكَ بَابٌ خَاصٌّ يُفَصِّل الْفُقَهَاءُ فِيهِ أَحْكَامَهَا (5) .
5 - وَمِنَ الإِْزَالَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا: إِزَالَةُ دَمِ الشَّهِيدِ، وَهِيَ حَرَامٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: زَمِّلُوهُمْ فِي دِمَائِهِمْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ كَلْمٌ يُكْلَمُ فِي اللَّهِ إِلاَّ
__________
(1) سورة آل عمران / 104
(2) ابن عابدين 1 / 604 ط بولاق، والحطاب 3 / 348 ط ليبيا وجواهر الإكليل 1 / 251 ط الحلبي، ونهاية المحتاج 8 / 44 ط الحلبي، والآداب الشرعية 1 / 181 ط المنار، والقرطبي 4 / 48، 165 ط دار الكتب، وإتحاف السادة المتقين بشرح أسرار إحياء علوم الدين 7 / 4، 14، 42، ومنهاج اليقين في أدب الدنيا والدين 158 ط محمود بك مطيعي.
(3) مجمع الأنهر 1 / 479 ط تركيا، وجواهر الإكليل 1 / 389، وشرح الروض 3 / 402 ط الميمنية، وشرح منتهى الإرادات 3 / 227 ط دار الفكر.
(4) ابن عابدين 5 / 261، 239، والفواكه الدواني 2 / 401 ط الحلبي، والمغني مع الشرح الكبير 1 / 71، 72، 77، 88 ط المنار، ومطالب أولي النهى 1 / 88، والكافي 1 / 27 ط المكتب الإسلامي.
(5) جواهر الإكليل 1 / 11

(3/137)


أَتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ جُرْحُهُ يُدْمِي لَوْنُهُ لَوْنُ الدَّمِ، وَرِيحُهُ رِيحُ الْمِسْكِ. (1)
وَفِي الإِْحْرَامِ تَحْرُمُ إِزَالَةُ شَعْرِ الْبَدَنِ وَالْوَجْهِ وَالرَّأْسِ دُونَ عُذْرٍ، وَيَجِبُ فِي إِزَالَتِهِ جَزَاءٌ. وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي مُحَرَّمَاتِ الإِْحْرَامِ، وَفِي الدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ فِي الْحَجِّ.
بِالإِْضَافَةِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ بِنَوْعَيْهِ، تَأْتِي الإِْزَالَةُ فِي أَبْوَابٍ وَمَسَائِل كَثِيرَةٍ مِنْهَا: إِزَالَةُ تَغَيُّرِ الْمَاءِ، وَيَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي الْمِيَاهِ، وَمِنْهَا: إِزَالَةُ الأَْقْذَارِ، وَإِزَالَةُ الْوَشْمِ، وَمِنْهَا: إِزَالَةُ التَّعَدِّي، وَيُذْكَرُ فِي عُقُودِ الأَْمَانَاتِ وَفِي الْغَصْبِ، وَمِنْهَا: مَا يُذْكَرُ فِي الْوَقْفِ مِنْ حَيْثُ وَقْفُ مُسْتَحِقِّ الإِْزَالَةِ، وَمِنْ حَيْثُ مَنْعُ إِزَالَةِ الإِْرْصَادِ، وَمِنْهَا: الْبَكَارَةُ، وَيُبَيِّنُ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَهَا فِي النِّكَاحِ (تَعْرِيفُ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ) ، وَفِي الْجِنَايَاتِ (الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ) وَمِنْهَا: إِزَالَةُ الْعِصْمَةِ، وَتُذْكَرُ فِي الطَّلاَقِ، وَمِنْهَا: إِزَالَةُ شُبْهَةِ الْبُغَاةِ وَالْمُرْتَدِّينَ.

أَزْلاَمٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْزْلاَمُ فِي اللُّغَةِ: جَمْعُ زَلَمٍ - بِفَتْحِ الزَّايِ وَضَمِّهَا مَعَ فَتْحِ اللاَّمِ - الْقَدَحُ الَّذِي لاَ رِيشَ عَلَيْهِ.
__________
(1) حاشية الشلبي على الكنز 1 / 248 ط بولاق، والبدائع 1 / 324 المطبوعات العلمية، وجواهر الإكليل 1 / 115، ونهاية المحتاج 2 / 489، ونيل المآرب 1 / 64 ط بولاق، والمغني مع الشرح الكبير 2 / 402، وحديث: " زملوهم. . . " أخرجه النسائي 4 / 78 ط المكتبة التجارية، وأصله في البخاري (فتح الباري 3 / 212)

(3/138)


وَالزَّلَمُ وَالسَّهْمُ وَالْقَدَحُ مُتَرَادِفَةُ الْمَعَانِي، تَدُل كُلُّهَا عَلَى قِطْعَةٍ مِنْ غُصْنٍ مُسَوَّاةٍ مُشَذَّبَةٍ.
قَال الأَْزْهَرِيُّ: الأَْزْلاَمُ كَانَتْ لِقُرَيْشٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا: أَمْرٌ وَنَهْيٌ، وَافْعَل وَلاَ تَفْعَل، قَدْ زُلِّمَتْ وَسُوِّيَتْ، وَوُضِعَتْ فِي الْكَعْبَةِ، يَقُومُ بِهَا سَدَنَةُ الْبَيْتِ، فَإِذَا أَرَادَ الرَّجُل سَفَرًا أَوْ نِكَاحًا أَتَى السَّادِنَ فَقَال: أَخْرِجْ لِي زَلَمًا، فَيُخْرِجُهُ وَيَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَإِذَا خَرَجَ قَدَحُ (الأَْمْرِ) مَضَى عَلَى مَا عَزَمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ خَرَجَ قَدَحُ (النَّهْيِ) قَعَدَ عَمَّا أَرَادَهُ، وَرُبَّمَا كَانَ مَعَ الرَّجُل زَلَمَانِ وَضَعَهُمَا فِي قِرَابِهِ، فَإِذَا أَرَادَ الاِسْتِقْسَامَ أَخْرَجَ أَحَدَهُمَا.
وَقَال الْمُؤَرِّخُ السَّدُوسِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْل اللُّغَةِ: الأَْزْلاَمُ هِيَ قِدَاحُ الْمَيْسِرِ. وَقَال الأَْزْهَرِيُّ: وَهُوَ وَهْمٌ، وَاسْتَدَل عَلَيْهِ بِحَدِيثِ سُرَاقَةَ بْنِ جُعْشُمٍ الْمُدْلِجِيِّ (1) .
وَالْفُقَهَاءُ يَذْكُرُونَ الأَْزْلاَمَ عَلَى أَنَّهَا السِّهَامُ الَّتِي كَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَقْسِمُونَ بِهَا فِي أُمُورِ حَيَاتِهِمْ (2) . وَهَذَا الرَّأْيُ يُوَافِقُ مَا قَالَهُ الأَْزْهَرِيُّ.
وَرَوَى ابْنُ بَطَّالٍ عَنِ الْهَرَوِيِّ هَذَا الْمَعْنَى، وَرُوِيَ عَنِ الْعَزِيزِيِّ: أَنَّهَا السِّهَامُ الَّتِي كَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَقْسِمُونَ بِهَا عَلَى الْمَيْسِرِ (3) .
وَاَلَّذِي تَحَصَّل مِنْ كَلاَمِ أَهْل النَّقْل - كَمَا جَاءَ فِي فَتْحِ الْبَارِي وَالْقُرْطُبِيِّ وَالطَّبَرِيِّ - أَنَّ الأَْزْلاَمَ: مِنْهَا مَا هُوَ مُخَصَّصٌ لِلاِسْتِقْسَامِ بِهَا فِي أُمُورِ الْحَيَاةِ، مِنْ نِكَاحٍ وَسَفَرٍ وَغَزْوٍ وَتِجَارَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمِنْهَا مَا هُوَ
__________
(1) تاج العروس، ولسان العرب، والمصباح المنير مادة (زلم)
(2) طلبة الطلبة ص 158 ط المثنى ببغداد، والدسوقي 2 / 129 ط دار الفكر، والمبسوط 24 / 2 ط دار المعرفة بيروت.
(3) النظم المستعذب بأسفل المهذب 2 / 287 ط دار المعرفة بيروت.

(3/138)


مُخَصَّصٌ لِلْمَيْسِرِ (1) . وَلَكِنْ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ يَنْصَرِفُ إِلَى مَا هُوَ مُخَصَّصٌ لِلاِسْتِقْسَامِ. وَلِتَفْصِيل أَحْكَامِ مَا هُوَ مُخَصَّصٌ لِلْمَيْسِرِ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِهِ.
وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَل (الزَّلَمُ) فِي الاِسْتِقْسَامِ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَل (السَّهْمُ) فِي سَهْمِ الْقَوْسِ الَّذِي يُرْمَى بِهِ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَل (الْقَدَحُ) فِي قِدَاحِ الْمَيْسِرِ.
2 - وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا كَانَتْ تُتَّخَذُ مِنْهُ الأَْزْلاَمُ، فَقِيل: هِيَ السِّهَامُ الَّتِي يُرْمَى بِهَا، وَقِيل: هِيَ مِنْ حَصًى بِيضٍ، وَقِيل: مِنَ الْقَرَاطِيسِ. وَالْحُكْمُ لاَ يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ مَا سَيَأْتِي (2) .

تَعْظِيمُ الْعَرَبِ لِلأَْزْلاَمِ:
3 - كَانَ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُقَدِّسُونَ الأَْزْلاَمَ، وَلَهَا فِي حَيَاتِهِمْ شَأْنٌ كَبِيرٌ، يَرْجِعُونَ إِلَيْهَا فِي كُل شَيْءٍ، فَقَدْ ضَرَبَ بِهَا عَبْدُ الْمُطَّلِبِ - جَدُّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى بَنِيهِ، إِذْ كَانَ نَذَرَ نَحْرَ أَحَدِهِمْ إِذَا كَمَلُوا عَشَرَةً (3) . وَكَذَلِكَ ضَرَبَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ بْنِ جُعْشُمٍ بِقِدَاحِهِ الَّتِي يَسْتَقْسِمُ بِهَا حِينَ اتَّبَعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَقْتَ الْهِجْرَةِ (4) . وَكَانَ لِلْعَامِل الدِّينِيِّ أَثَرٌ كَبِيرٌ فِي ذَلِكَ، فَقَدْ كَانَتِ الأَْزْلاَمُ
__________
(1) فتح الباري 8 / 277 ط البحوث العلمية بالسعودية، والطبري 9 / 510 وما بعدها ط دار المعارف بمصر، والقرطبي 6 / 58 وما بعدها ط دار الكتب المصرية.
(2) فتح الباري 8 / 277، والطبري 9 / 510، والقرطبي 6 / 58، والمبسوط 24 / 2، والدسوقي 2 / 129، وأحكام القرآن لابن العربي 2 / 543 ط عيسى الحلبي، والفروق للقرافي 4 / 240 ط دار المعرفة بيروت.
(3) خبر ضرب عبد المطلب للقداح، أورده ابن هشام في السيرة 1 / 152 ط مصطفى الحلبي.
(4) خبر ضرب سراقة للقداح أورده ابن هشام في السير 1 / 489 ط مصطفى الحلبي.

(3/139)


تُوضَعُ عِنْدَ (هُبَلٍ) - أَعْظَمِ صَنَمٍ لِقُرَيْشٍ فِي مَكَّةَ - وَيَقُومُ الْكُهَّانُ أَوِ السَّدَنَةُ بِإِجَالَتِهَا (أَيْ تَحْرِيكِهَا) لِمَنْ يُرِيدُ الاِسْتِقْسَامَ، إِعْظَامًا لِلأَْمْرِ الَّذِي يَبْغُونَهُ.
وَقَدْ بَلَغَ مِنْ تَقْدِيسِهِمْ لِلأَْزْلاَمِ، أَنَّهُمْ جَعَلُوا فِي الْبَيْتِ الْحَرَامِ صُورَةً لإِِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيل عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَهُمَا يَسْتَقْسِمَانِ بِالأَْزْلاَمِ. وَلِذَلِكَ لَمَّا قَدِمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ أَبَى أَنْ يَدْخُل الْبَيْتَ وَفِيهِ الآْلِهَةُ، فَأَمَرَ بِهَا فَأُخْرِجَتْ، وَأَخْرَجَ صُورَةَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيل، وَفِي أَيْدِيهِمَا الأَْزْلاَمُ، وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَاتَلَهُمُ اللَّهُ، لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمَا مَا اسْتَقْسَمَا بِهَا قَطُّ (1) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أ - حُكْمُ صُنْعِهَا وَاقْتِنَائِهَا وَالتَّعَامُل فِيهَا:
4 - الأَْزْلاَمُ مِنْ أَعْمَال الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَْنْصَابُ وَالأَْزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَل الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} . (2)
وَكُل مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَحْرُمُ صُنْعُهُ وَاقْتِنَاؤُهُ وَالتَّعَامُل فِيهِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةَ وَالْخِنْزِيرَ وَالأَْصْنَامَ. يَقُول ابْنُ الْقَيِّمِ: يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَحْرِيمُ بَيْعِ كُل آلَةٍ مُتَّخَذَةٍ لِلشِّرْكِ، عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَتْ، وَمِنْ أَيِّ نَوْعٍ كَانَتْ، صَنَمًا أَوْ وَثَنًا أَوْ صَلِيبًا، فَهَذِهِ كُلُّهَا يَجِبُ إِزَالَتُهَا وَإِعْدَامُهَا،
__________
(1) القرطبي 6 / 59، والمغني 7 / 6، وحديث: " إخراج صورة إبراهيم وإسماعيل من البيت. . . " رواه البخاري (فتح الباري 8 / 16 ط السلفية) .
(2) سورة المائدة / 90

(3/139)


وَبَيْعُهَا ذَرِيعَةٌ إِلَى اقْتِنَائِهَا، وَاِتِّخَاذِهَا، وَلِذَلِكَ يَحْرُمُ الْبَيْعُ (1) .
وَلأَِنَّ مِنْ شُرُوطِ الْبَيْعِ، كَمَا يَقُول الْفُقَهَاءُ: أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ غَيْرَ مَنْهِيٍّ عَنْهُ، وَالأَْزْلاَمُ - بِصِفَتِهَا وَهَيْئَتِهَا، مِنْ كَوْنِهَا الْقِدَاحَ الَّتِي كُتِبَ عَلَيْهَا الأَْمْرُ أَوِ النَّهْيُ لِتَكُونَ هِيَ الْمُوَجِّهَةُ - مَنْهِيٌّ عَنْهَا، فَيَنْطَبِقُ عَلَيْهَا مَا يَنْطَبِقُ عَلَى الصَّنَمِ وَالصَّلِيبِ، مِنْ حُرْمَةِ بَيْعِهَا وَاقْتِنَائِهَا وَالتَّعَامُل فِيهَا.
وَيَقُول بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: مَا لاَ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لاَ يَجُوزُ اتِّخَاذُهُ، وَلاَ تَحِل الأُْجْرَةُ لِصُنْعِ مِثْل هَذِهِ الأَْشْيَاءِ، فَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: مَنِ اسْتَأْجَرَ رَجُلاً لِيَنْحِتَ لَهُ أَصْنَامًا، لاَ شَيْءَ لَهُ.
وَالْمَادَّةُ الَّتِي تُصْنَعُ مِنْهَا الأَْزْلاَمُ - سَوَاءٌ أَكَانَتْ حِجَارَةً أَمْ خَشَبًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ - لاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا لِمَنْ يَتَّخِذُهَا لِمِثْل ذَلِكَ. فَلاَ يَصِحُّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ بَيْعُ الْعِنَبِ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا، وَلاَ بَيْعُ بُنْدُقٍ (2) لِقِمَارٍ، وَلاَ دَارٌ لِتُعْمَل كَنِيسَةً، وَلاَ بَيْعُ الْخَشَبَةِ لِمَنْ يَتَّخِذُهَا صَلِيبًا، وَلاَ بَيْعُ النُّحَاسِ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ نَاقُوسًا. وَكَذَلِكَ كُل شَيْءٍ عُلِمَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَصَدَ بِهِ أَمْرًا لاَ يَجُوزُ (3) .
وَفِي الْمَبْسُوطِ فِي بَابِ الأَْشْرِبَةِ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَْنْصَابُ وَالأَْزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَل الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} . (4) قَال السَّرَخْسِيُّ بَعْدَ
__________
(1) زاد المعاد 4 / 245 ط مصطفى الحلبي.
(2) البندق هنا: كرة في حجم البندقة التي تؤكل، يرمى بها في القتال والصيد (المعجم الوسيط) .
(3) المهذب 1 / 19، 268، 381، ومنتهى الإرادات 2 / 155 ط دار الفكر، والمغني 4 / 383، 5 / 301 ط الرياض، ومغني المحتاج 2 / 12 ط مصطفى الحلبي، والفتاوى الهندية 4 / 450 ط المكتبة الإسلامية، والحطاب 4 / 254، 258 ط النجاح ليبيا، والخرشي 5 / 11 ط دار صادر.
(4) سورة المائدة / 90

(3/140)


ذَلِكَ: بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ كُل ذَلِكَ رِجْسٌ، وَالرِّجْسُ: مَا هُوَ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ، وَأَنَّهُ مِنْ عَمَل الشَّيْطَانِ (1) .
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ إِذَا أُبْطِلَتِ الْهَيْئَةُ الْمُحَرِّمَةُ لِلأَْزْلاَمِ رَجَعَ حُكْمُهَا الأَْصْلِيُّ، وَهُوَ إِبَاحَةُ الاِنْتِفَاعِ بِهَا فِيمَا هُوَ حَلاَلٌ.

ب - أَهِيَ طَاهِرَةٌ أَمْ نَجِسَةٌ؟
5 - لَوْ نَظَرْنَا إِلَى الْمَادَّةِ الَّتِي تُصْنَعُ مِنْهَا الأَْزْلاَمُ، وَاَلَّتِي لاَ يَدْخُلُهَا مَا يُنَجِّسُهَا، لَوَجَدْنَا أَنَّهَا خَشَبٌ أَوْ حِجَارَةٌ أَوْ حَصًى، وَكُل ذَلِكَ طَاهِرٌ، وَصُنْعُهُ عَلَى هَيْئَةٍ خَاصَّةٍ لاَ يَجْعَلُهُ نَجِسًا.
وَلِذَلِكَ يَقُول النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ - بَعْدَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَْنْصَابُ وَالأَْزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَل الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} -: إِنَّ الْخَمْرَ نَجِسَةٌ لِلآْيَةِ، وَلاَ يَضُرُّ قَرْنُ الْمَيْسِرِ وَالأَْنْصَابِ وَالأَْزْلاَمِ بِهَا، مَعَ أَنَّ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ طَاهِرَةٌ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الثَّلاَثَةَ خَرَجَتْ بِالإِْجْمَاعِ، فَبَقِيَتِ الْخَمْرُ عَلَى مُقْتَضَى الْكَلاَمِ، وَلاَ يَظْهَرُ مِنَ الآْيَةِ دَلاَلَةٌ ظَاهِرَةٌ؛ لأَِنَّ الرِّجْسَ عِنْدَ أَهْل اللُّغَةِ الْقَذَرُ، وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ النَّجَاسَةُ، وَكَذَلِكَ الأَْمْرُ بِالاِجْتِنَابِ لاَ يَلْزَمُ مِنْهُ النَّجَاسَةُ (2) .

مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
6 - كَانَ الْعَرَبُ يَتَّخِذُونَ الأَْزْلاَمَ لِلاِسْتِقْسَامِ بِهَا فِي شُؤُونِ حَيَاتِهِمْ. وَبَيَانُ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ، وَتَفْصِيل الْكَلاَمِ فِيهِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِقْسَام) . كَمَا
__________
(1) المبسوط 24 / 2 ط دار المعرفة بيروت.
(2) المجموع شرح المهذب 2 / 563، 564 ط المطبعة السلفية.

(3/140)


أَنَّ مِنَ الأَْزْلاَمِ مَا هُوَ مُخَصَّصٌ لِلْقِمَارِ، وَتُسَمَّى قِدَاحَ الْمَيْسِرِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (مَيْسِر - قِمَارٌ) .

إِسَاءَةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْسَاءَةُ لُغَةً: خِلاَفُ الإِْحْسَانِ، يُقَال: أَسَاءَ الرَّجُل إِسَاءَةً، خِلاَفُ أَحْسَنَ، وَأَسَاءَ إِلَيْهِ خِلاَفُ أَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَأَسَاءَ الشَّيْءَ أَفْسَدَهُ، وَلَمْ يُحْسِنْ عَمَلَهُ، وَالإِْسَاءَةُ اسْمٌ لِلظُّلْمِ وَلِلْمَعْصِيَةِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) ، وَمِنْ ذَلِكَ إِطْلاَقُهُمُ الإِْسَاءَةَ عَلَى إِضْرَارِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ بِالآْخَرِ (3) . وَفِي مِنَحِ الْجَلِيل: نُدِبَ لِلْقَاضِي تَأْدِيبُ مَنْ أَسَاءَ عَلَيْهِ (أَيْ تَعَدَّى) بِمَجْلِسِ حُكْمِهِ بِقَوْلِهِ: ظَلَمْتَنِي، أَوْ جُرْتَ عَلَيَّ، وَيَسْتَنِدُ الْقَاضِي فِيهِ لِعِلْمِهِ، فَيُؤَدِّبُهُ، وَإِنْ لَمْ تَشْهَدْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، أَمَّا مَنْ أَسَاءَ (إِلَيْهِ) فِي غَيْرِ مَجْلِسِهِ فَلاَ يُؤَدِّبُهُ بِنَفْسِهِ، وَلْيَرْفَعْهُ لِقَاضٍ آخَرَ. وَقَال ابْنُ رُشْدٍ: لِلْقَاضِي
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، وترتيب القاموس المحيط 2 / 590 ط الرسالة، والطبري 15 / 24 ط بولاق الأولى، والفروق في اللغة لأبي هلال العسكري ص 13، والكليات للكفوي 1 / 18
(2) النظم المستعذب في شرح غريب المهذب، المطبوع بهامش المهذب 1 / 249 ط دار المعرفة، ومنح الجليل 4 / 148 ط النجاح ليبيا.
(3) جواهر الإكليل 1 / 328، 329، ط دار المعرفة بيروت، ومنتهى الإرادات 3 / 106 ط دار الفكر.

(3/141)


الْفَاضِل الْعَدْل أَنْ يَحْكُمَ لِنَفْسِهِ، وَالْعُقُوبَةُ عَلَى مَنْ تَنَاوَلَهُ بِالْقَوْل وَأَذَاهُ وَهُوَ غَائِبٌ (1) .
وَفِي الْمُغْنِي لاِبْنِ قُدَامَةَ: لِلْقَاضِي أَنْ يُؤَدِّبَ الْخَصْمَ، إِذَا افْتَأَتَ عَلَيْهِ، بِأَنْ يَقُول: حَكَمْتَ عَلَيَّ بِغَيْرِ الْحَقِّ، أَوِ ارْتَشَيْتَ (2) .
وَبَعْضُ الأُْصُولِيِّينَ يَعْتَبِرُ الإِْسَاءَةَ مَرْتَبَةً بَيْنَ الْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِيَّةِ وَالتَّنْزِيهِيَّةِ، فَهِيَ أَفْحَشُ مِنَ الْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ، وَأَدْوَنُ مِنَ الْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِيَّةِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ تَارِكَ سُنَّةِ الْهُدَى - كَالأَْذَانِ وَالْجَمَاعَةِ - مُسِيءٌ يَسْتَوْجِبُ اللَّوْمَ (3) . وَقَال الْفَتُوحِيُّ: يُسَمَّى الْحَرَامُ مَحْظُورًا وَمَمْنُوعًا وَمَعْصِيَةً وَقَبِيحًا وَسَيِّئَةً.
وَيُقَال لِفَاعِل الْمَكْرُوهِ: مُخَالِفٌ وَمُسِيءٌ وَغَيْرُ مُمْتَثِلٍ، مَعَ أَنَّهُ لاَ يُذَمُّ فَاعِلُهُ، وَلاَ يَأْثَمُ عَلَى الأَْصَحِّ، قَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ، فِيمَنْ زَادَ عَلَى التَّشَهُّدِ: أَسَاءَ. وَظَاهِرُ كَلاَمِ بَعْضِهِمْ أَنَّ الإِْسَاءَةَ تَخْتَصُّ بِالْحَرَامِ، فَلاَ يُقَال أَسَاءَ إِلاَّ لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ (4) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الضَّرَرُ:
2 - الضَّرَرُ لُغَةً: ضِدُّ النَّفْعِ، وَاصْطِلاَحًا: إِلْحَاقُ مَفْسَدَةٍ بِالْغَيْرِ (5) .
وَضَرَّهُ يَضُرُّهُ: إِذَا فَعَل بِهِ مَكْرُوهًا (6) .
فَالإِْسَاءَةُ وَالضَّرَرُ يَلْتَقِيَانِ فِي الْمَعْنَى، إِلاَّ أَنَّ
__________
(1) منح الجليل4 / 148 ط النجاح ليبيا.
(2) المغني 9 / 43 ط الرياض.
(3) شرح المنار ص 587 ط العثمانية.
(4) شرح الكوكب المنير ص 120، 130 ط السنة المحمدية.
(5) لسان العرب والمصباح المنير.
(6) الفتح المبين شرح الأربعين لابن حجر ص 237

(3/141)


الإِْسَاءَةَ قَبِيحَةٌ، وَأَمَّا الْمَضَرَّةُ فَقَدْ تَكُونُ حَسَنَةً، إِذَا قُصِدَ بِهَا وَجْهٌ يَحْسُنُ، نَحْوَ الْمَضَرَّةِ بِالضَّرْبِ لِلتَّأْدِيبِ وَبِالْكَدِّ لِلتَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ (1) .

ب - التَّعَدِّي:
3 - التَّعَدِّي: مُجَاوَزَةُ الشَّيْءِ إِلَى غَيْرِهِ، وَالتَّعَدِّي الظُّلْمُ (2) ، فَالإِْسَاءَةُ وَالتَّعَدِّي قَدْ يَلْتَقِيَانِ فِي الْمَعْنَى.

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - يُمْكِنُ إِجْمَال حُكْمِ الإِْسَاءَةِ بِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ مَعْصِيَةً كَزِنَى، أَوْ شُرْبِ خَمْرٍ، أَوْ تَرْكِ فَرْضٍ أَوْ وَاجِبٍ، أَوْ كَانَتْ تَعَدِّيًا وَظُلْمًا لِلْغَيْرِ، كَسَبٍّ وَشَتْمٍ وَأَخْذِ مَالٍ وَضَرْبٍ، فَهِيَ حَرَامٌ، تَسْتَوْجِبُ الْعُقُوبَةَ بِالْحَدِّ أَوِ التَّعْزِيرِ.
وَإِنْ كَانَتْ مُخَالِفَةً لِلسُّنَّةِ الَّتِي تُعْتَبَرُ مِنَ الشَّعَائِرِ، كَالْجَمَاعَةِ وَالأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ فَهِيَ مَكْرُوهَةٌ، تَسْتَوْجِبُ اللَّوْمَ وَالْعِتَابَ (3) .

مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
5 - غَالِبًا مَا يُعَبِّرُ الْفُقَهَاءُ عَنِ الإِْسَاءَةِ بِالْمَعْنَى الْمَقْصُودِ مِنْهَا، وَهُوَ الضَّرَرُ وَالإِْضْرَارُ وَالظُّلْمُ، يَأْتِي هَذَا غَالِبًا فِي حُقُوقِ الاِرْتِفَاقِ، كَحَقِّ الشُّرْبِ، وَحَقِّ الطَّرِيقِ، وَحَقِّ الْمَسِيل، وَحَقِّ الْجِوَارِ.
وَيُعَبِّرُونَ كَذَلِكَ بِالإِْسَاءَةِ عَنِ الْحَاصِل بِالْمَصْدَرِ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَال أَطْلَقَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ اسْمَ الْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ أَوِ الإِْتْلاَفِ، وَإِذَا
__________
(1) الفروق في اللغة ص 13
(2) تاج العروس، والمصباح المنير، ونيل الأوطار 1 / 173 ط العثمانية
(3) المنار ص 587، وشرح الكوكب المنير ص 120، 130

(3/142)


كَانَ مِنْ نَاحِيَةِ الْعِرْضِ أَطْلَقُوا اسْمَ السَّبِّ أَوِ الْقَذْفِ أَوِ الزِّنَى. وَإِذَا كَانَ مِنْ نَاحِيَةِ النَّفْسِ أَوِ الأَْطْرَافِ أَطْلَقُوا عَلَيْهِ اسْمَ الْجِنَايَةِ وَالْجِرَاحِ وَهَكَذَا.

إِسْبَاغٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْسْبَاغُ لُغَةً: الإِْكْمَال وَالتَّوْفِيَةُ، وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ: إِبْلاَغُهُ مَوَاضِعَهُ.
وَاصْطِلاَحًا: أَنْ يُعِمَّ جَمِيعَ الأَْعْضَاءِ بِالْمَاءِ، بِحَيْثُ يَجْرِي عَلَيْهَا (1) ، وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ: كَمَال إِتْمَامِ الْوُضُوءِ وَتَوْفِيَتِهِ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْسْبَال:
2 - الإِْسْبَال يَدُل عَلَى: إِرْسَال الشَّيْءِ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ، كَإِسْبَال السِّتْرِ وَالإِْزَارِ، أَيْ إِرْخَاؤُهُ، وَالإِْسْدَال كَذَلِكَ (3) . فَالإِْسْبَال فِيهِ زِيَادَةٌ عَنِ الْمَطْلُوبِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ، إِلاَّ مَا وَرَدَ نَصٌّ فِي جَوَازِهِ، كَإِسْبَال السِّتْرِ عَلَى وَجْهِ الْمَرْأَةِ الْمُحْرِمَةِ مِنْ غَيْرِ مُلاَمَسَةٍ لِلْوَجْهِ، بِخِلاَفِ الإِْسْبَاغِ فَهُوَ مَطْلُوبٌ (ر: إِسْبَال)
__________
(1) المغني 1 / 224 ط دار الكتاب العربي، والمبسوط 1 / 9، ومواهب الجليل1 / 257
(2) حاشية الجمل على المنهج 1 / 35
(3) الصحاح، ومعجم مقاييس اللغة.

(3/142)


ب - الإِْسْرَافُ:
3 - الإِْسْرَافُ هُوَ مَا زِيدَ بَعْدَ تَيَقُّنِ الْوَاجِبِ أَوِ الْمَطْلُوبِ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ (1) ، بِخِلاَفِ الإِْسْبَاغِ. وَمِثْلُهُ إِطَالَةُ الْغُرَّةِ تَكُونُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْمَحْدُودِ، وَفَوْقَ الْوَاجِبِ فِي الْوُضُوءِ، فَهِيَ إِسْبَاغٌ وَزِيَادَةٌ (2) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - الإِْسْبَاغُ، إِنْ أُرِيدَ بِهِ تَعْمِيمُ الأَْعْضَاءِ الْوَاجِبِ غَسْلُهَا بِالْمَاءِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الزِّيَادَةُ وَالتَّوْفِيَةُ، فَهُوَ مَنْدُوبٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، لِحَدِيثِ: أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ، وَحَدِيثِ إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ. (3) مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
5 - اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلإِْسْبَاغِ يَرِدُ فِي الطَّهَارَةِ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ الْوُضُوءِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 89 ط بولاق الأولى، والحطاب 1 / 257، والمبسوط1 / 9.
(2) حاشية ابن عابدين1 / 88، والقليوبي1 / 54 ط عيسى الحلبي.
(3) حديث: " أسبغوا الوضوء. . . . " رواه البخاري 1 / 167 برقم 165 ط السلفية من طريق محمد بن زياد، قال: سمعت أبا هريرة، وكان يمر بنا، والناس يتوضئون من المطهرة قال: أسبغوا الوضوء فإن أبا القاسم قال: " ويل للأعقاب من النار "، ورواه مسلم (1 / 214، 215) برقم 29 ط الحلبي بلفظ: " ويل للعراقيب من النار ". وحديث: " إسباغ الوضوء على المكاره " رواه مسلم (1 / 219) برقم 41 ط عيسى الحلبي: والحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ " قالوا: بلى يا رسول الله. قال: " إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط ".

(3/143)


إِسْبَالٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الإِْسْبَال لُغَةً: إِرْسَال الشَّيْءِ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ، كَإِسْبَال السِّتْرِ وَالإِْزَارِ، أَيْ إِرْخَاؤُهُ، وَالإِْسْدَال بِمَعْنَاهُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - اشْتِمَال الصَّمَّاءِ:
2 - اشْتِمَال الصَّمَّاءِ هُوَ أَنْ يُجَلِّل (يَلُفَّ) بَدَنَهُ بِثَوْبٍ لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، ثُمَّ يَرْفَعَهُ مِنْ أَحَدِ جَانِبَيْهِ، فَيَضَعَهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، فَيَبْدُو مِنْهُ فُرْجَةٌ (3) . فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الإِْسْبَال أَنَّ فِي الإِْسْبَال يُرْسِل أَطْرَافَ الثَّوْبِ. أَمَّا فِي اشْتِمَال الصَّمَّاءِ، فَيَرْفَعُ أَحَدَ جَانِبَيِ الثَّوْبِ؛ لِيَضَعَهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ.

ب - الإِْعْفَاءُ:
3 - الإِْعْفَاءُ يَدُل عَلَى أَصْلَيْنِ: هُمَا التَّرْكُ وَالطَّلَبُ، إِلاَّ أَنَّ الْعَفْوَ غَلَبَ عَلَى تَرْكِ عُقُوبَةٍ
__________
(1) الصحاح للجوهري، ومعجم مقاييس اللغة.
(2) المصباح المنير، وطلبة الطلبة، والمغرب في ترتيب المعرب، وحاشية ابن عابدين 1 / 429 ط بولاق، وشرح الزرقاني 1 / 180 ط بيروت، والمهذب 1 / 72 ط م الحلبي، والطحطاوي على مراقي الفلاح 192 ط العامرة.
(3) المغني 1 / 584، وشرح الزرقاني 1 / 180، ومغني المحتاج 1 / 186

(3/143)


اسْتُحِقَّتْ، وَالإِْعْفَاءُ عَلَى التَّرْكِ مُطْلَقًا، وَمِنْهُ إِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ، وَهُوَ تَرْكُ قَصِّهَا وَتَوْفِيرِهَا (1) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - الإِْسْبَال أَوِ الإِْسْدَال بِمَعْنَى الإِْرْسَال وَالإِْرْخَاءِ، يَسْتَعْمِلُهَا الْفُقَهَاءُ فِي أُمُورٍ عَدِيدَةٍ، وَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِحَسَبِ الْمَوْضِعِ.
فَإِسْدَال الثَّوْبِ فِي الصَّلاَةِ - بِمَعْنَى إِرْسَالِهِ مِنْ غَيْرِ لُبْسٍ - مَكْرُوهٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ لِلْخُيَلاَءِ، أَمْ لِغَيْرِهَا، وَصُورَتُهُ: أَنْ يَجْعَل ثَوْبَهُ عَلَى رَأْسِهِ أَوْ كَتِفِهِ، وَيُرْسِل أَطْرَافَهُ مِنْ جَانِبَيْهِ، دُونَ رَفْعِ أَحَدِهِمَا، وَتَحْتَهُ مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ، وَهَذَا مُشَابِهٌ لاِشْتِمَال الْيَهُودِ (2) . أَمَّا إِرْسَال الإِْزَارِ خُيَلاَءَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (اخْتِيَال) .
وَقَدْ يَكُونُ الإِْسْبَال مَطْلُوبًا كَإِسْبَال جِلْبَابِ الْمَرْأَةِ شِبْرًا أَوْ ذِرَاعًا، احْتِيَاطًا لِسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (عَوْرَة، لِبَاس) .

مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
5 - بَحَثَ الْفُقَهَاءُ مَسْأَلَةَ إِسْدَال الثَّوْبِ فِي الصَّلاَةِ، عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ مَكْرُوهَاتِهَا، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَفِي سَتْرِ الْعَوْرَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَبَحَثُوا إِسْدَال الْخِمَارِ عَلَى وَجْهِ الْمَرْأَةِ الْمُحْرِمَةِ فِي الْحَجِّ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ مُحَرَّمَاتِ الإِْحْرَامِ. وَإِسْبَال الْقَمِيصِ وَالإِْزَارِ وَالسَّرَاوِيلاَتِ - مُطْلَقًا فِي الصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا، عَلَى وَجْهِ الْخُيَلاَءِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ - فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ
__________
(1) المغرب في ترتيب المعرب.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 429 ط بولاق، وشرح الزرقاني 1 / 181، والجمل على شرح المنهج 1 / 406 ط م الحلبي، والمغني 1 / 585 ط الرياض، ومغني المحتاج 1 / 186

(3/144)


عِنْدَ الْكَلاَمِ عَمَّا يُكْرَهُ فِيهَا، وَإِسْدَال الْيَدَيْنِ فِي الصَّلاَةِ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ أَوْ قَبْضِهَا، فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ فَرَائِضِهَا، وَإِسْدَال الشَّعْرِ فِي الْجَنَائِزِ، عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ غُسْل الْمَيِّتِ.

اسْتِئْجَارٌ

انْظُرْ: إِجَارَة.

اسْتِئْذَانٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِئْذَانُ فِي اللُّغَةِ: طَلَبُ الإِْذْنِ، وَالإِْذْنُ: مِنْ أَذِنَ بِالشَّيْءِ إِذْنًا بِمَعْنَى أَبَاحَهُ، وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ الاِسْتِئْذَانَ هُوَ طَلَبُ الإِْبَاحَةِ (1) .
وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ الاِسْتِئْذَانَ بِهَذَا الْمَعْنَى، فَيَقُولُونَ: " الاِسْتِئْذَانُ لِدُخُول الْبُيُوتِ " وَيَعْنُونَ بِهِ: طَلَبَ إِبَاحَةِ دُخُولِهَا لِلْمُسْتَأْذِنِ (2) .
وَقَدْ ذَكَرَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فِي سُورَةِ النُّورِ كَلِمَةَ " اسْتِئْنَاسٍ " فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} (3) وَأَرَادَ بِهَا الاِسْتِئْذَانَ لِدُخُول الْبُيُوتِ وَنَحْوِهَا، قَال ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ
__________
(1) المصباح المنير، والقاموس المحيط مادة: (إذن) .
(2) بدائع الصنائع 5 / 124 طبع مصر. مطبعة الجمالية
(3) سورة النور / 27

(3/144)


وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ: الاِسْتِئْنَاسُ هُنَا الاِسْتِئْذَانُ (1) ، مَعَ أَنَّ الاِسْتِئْنَاسَ مَا هُوَ إِلاَّ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الاِسْتِئْذَانِ، قَال الْجَصَّاصُ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: وَإِنَّمَا سُمِّيَ الاِسْتِئْذَانُ اسْتِئْنَاسًا؛ لأَِنَّهُمْ إِذَا اسْتَأْذَنُوا أَوْ سَلَّمُوا أَنِسَ أَهْل الْبُيُوتِ بِذَلِكَ، وَلَوْ دَخَلُوا عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ إِذْنٍ لاَسْتَوْحَشُوا وَشَقَّ عَلَيْهِمْ (2) .

صِفَتُهُ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ) :
2 - إِنَّ الْحُكْمَ التَّكْلِيفِيَّ لِلاِسْتِئْذَانِ مُرْتَبِطٌ ارْتِبَاطًا وَثِيقًا بِالإِْذْنِ، فَحَيْثُمَا تَوَقَّفَ حِل التَّصَرُّفِ عَلَى الإِْذْنِ، كَانَ الاِسْتِئْذَانُ فِيهِ وَاجِبًا، كَاسْتِئْذَانِ الأَْجْنَبِيِّ لِدُخُول بَيْتٍ غَيْرِ بَيْتِهِ، وَاسْتِئْذَانِ الْمَرْأَةِ الْمُتَزَوِّجَةِ زَوْجَهَا فِي خُرُوجِهَا مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ، وَاسْتِئْذَانِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ الْحُرَّةَ فِي الْعَزْل عَنْهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: " حِل التَّصَرُّفُ " وَلَمْ نُعَبِّرْ بِصِحَّةِ التَّصَرُّفِ؛ لأَِنَّ التَّصَرُّفَ قَدْ يَقَعُ - إِذَا خَلاَ مِنَ الإِْذْنِ صَحِيحًا مَعَ الْكَرَاهَةِ، كَمَا لَوْ صَامَتِ الزَّوْجَةُ نَافِلَةً بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا.
وَقَدْ يَقَعُ غَيْرَ صَحِيحٍ كَمَا لَوْ زَوَّجَ الْوَلِيُّ الْبَالِغَةَ الْعَاقِلَةَ بِغَيْرِ رِضَاهَا، أَوِ بَاعَ الصَّغِيرَ الْمُمَيِّزَ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، عَلَى الْخِلاَفِ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.

أَوَّلاً
الاِسْتِئْذَانُ لِدُخُول الْبُيُوتِ
أ - الْمَكَانُ الْمُرَادُ دُخُولُهُ:
3 - إِنَّ مَنْ يُرِيدُ دُخُول بَيْتٍ مِنَ الْبُيُوتِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْبَيْتَ لاَ يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ بَيْتَهُ أَوْ غَيْرَ بَيْتِهِ، فَإِنْ
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 3 / 381 طبع مصر، المطبعة البهية، وتفسير ابن كثير والقرطبي لهذه الآية.
(2) أحكام القرآن للجصاص 3 / 381

(3/145)


كَانَ بَيْتَهُ، فَإِنَّهُ لاَ يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ خَالِيًا، لاَ سَاكِنَ فِيهِ غَيْرُهُ، أَوْ تَكُونَ فِيهِ زَوْجَتُهُ، وَلَيْسَ مَعَهَا غَيْرُهَا، أَوْ مَعَهَا بَعْضُ مَحَارِمِهِ، كَأُخْتِهِ وَبِنْتِهِ وَأُمِّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ بَيْتَهُ، وَلاَ سَاكِنَ فِيهِ غَيْرُهُ، فَإِنَّهُ يَدْخُلُهُ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانِ أَحَدٍ؛ لأَِنَّ الإِْذْنَ لَهُ، وَاسْتِئْذَانُ الشَّخْصِ نَفْسَهُ ضَرْبٌ مِنَ الْعَبَثِ الَّذِي تَتَنَزَّهُ عَنْهُ الشَّرِيعَةُ (1) .
4 - أَمَّا إِنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ زَوْجَتُهُ، وَلَيْسَ مَعَهَا غَيْرُهَا، فَإِنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الاِسْتِئْذَانُ لِلدُّخُول؛ لأَِنَّهُ يَحِل لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى سَائِرِ جَسَدِهَا، وَلَكِنْ يَنْدُبُ لَهُ الإِْيذَانُ بِدُخُولِهِ بِنَحْوِ التَّنَحْنُحِ، وَطَرْقِ النَّعْل، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهَا رُبَّمَا كَانَتْ عَلَى حَالَةٍ لاَ تُرِيدُ أَنْ يَرَاهَا زَوْجُهَا عَلَيْهَا (2) .
وَفِي وُجُوبِ اسْتِئْذَانِ الرَّجُل عَلَى مُطَلَّقَتِهِ الرَّجْعِيَّةِ قَوْلاَنِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّهُ: هَل يَلْزَمُ مِنَ الطَّلاَقِ الرَّجْعِيِّ تَحْرِيمُهَا عَلَى مُطَلِّقِهَا أَمْ لاَ؟ فَمَنْ قَال إِنَّهَا لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً، كَالْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، قَال: لاَ يَجِبُ الاِسْتِئْذَانُ بَل يُنْدَبُ، وَيَكُونُ دُخُولُهُ عَلَيْهَا كَدُخُولِهِ عَلَى زَوْجَتِهِ غَيْرِ الْمُطَلَّقَةِ.
وَمَنْ قَال إِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ، وَأَنَّ التَّحْرِيمَ قَدْ وَقَعَ بِإِيقَاعِ الطَّلاَقِ، كَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ
__________
(1) تفسير القرطبي 12 / 219 طبع دار الكتب المصرية.
(2) تفسير القرطبي 12 / 219، والشرح الصغير 4 / 762 طبع دار المعارف بمصر، والفواكه الدواني 2 / 427، طبع مصطفى البابي الحلبي، وشرح الكافي 2 / 1133، الطبعة الأولى سنة 1398، وحاشية ابن عابدين 2 / 531 طبع بولاق، والآداب الشرعية لابن مفلح 1 / 451 طبع مطبعة المنار بمصر.

(3/145)


الْحَنَابِلَةِ، قَال بِوُجُوبِ الاِسْتِئْذَانِ قَبْل الدُّخُول عَلَيْهَا (1) .
5 - وَإِنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ أَحَدُ مَحَارِمِهِ، كَأُمِّهِ أَوْ أُخْتِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّنْ لاَ يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يَرَاهُ عُرْيَانًا، مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ، فَلاَ يَحِل لَهُ أَنْ يَدْخُل عَلَيْهِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَيَكُونُ الاِسْتِئْذَانُ عِنْدَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَاجِبًا لاَ يَجُوزُ تَرْكُهُ، بَل قَال الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ جَحَدَ وُجُوبَ الاِسْتِئْذَانِ يَكْفُرُ، لأَِنَّهُ مِمَّا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ (2) .
وَيَدُل عَلَى وُجُوبِ الاِسْتِئْذَانِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَآثَارُ الصَّحَابَةِ وَمَبَادِئُ الشَّرِيعَةِ.
أَمَّا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَْطْفَال مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} . (3) . .
وَأَمَّا السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ فَمَا رَوَاهُ الإِْمَامُ مَالِكٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ رَجُلاً سَأَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ فَقَال: نَعَمْ، فَقَال: إِنَّهَا مَعِي فِي الْبَيْتِ. فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا. فَقَال الرَّجُل: إِنِّي خَادِمُهَا، فَقَال رَسُول اللَّهِ: اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا، أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً؟ قَال: لاَ، قَال: فَاسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا. (4)
وَأَمَّا آثَارُ الصَّحَابَةِ فَهِيَ كَثِيرَةٌ، نَذْكُرُ مِنْهَا مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ قَوْل عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 531، والمغني لابن قدامة 7 / 279 الطبعة الثالثة للمنار، والشرح الكبير 2 / 422
(2) بدائع الصنائع 5 / 124، وأحكام القرآن للجصاص 3 / 386، والشرح الصغير 4 / 762، وشرح الكافي 2 / 1133، والفواكه الدواني 2 / 427، وتفسير القرطبي 12 / 219
(3) سورة النور / 59
(4) حديث: " أن رجلا. . . " أخرجه الإمام مالك في باب الاستئذان في الموطأ 2 / 963 طبع البابي الحلبي.

(3/146)


: عَلَيْكُمْ أَنْ تَسْتَأْذِنُوا عَلَى أُمَّهَاتِكُمْ وَأَخَوَاتِكُمْ (1)
وَمَا رَوَاهُ الْجَصَّاصُ عَنْ عَطَاءٍ قَال: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ أَأَسْتَأْذِنُ عَلَى أُخْتِي؟ قَال: نَعَمْ، قُلْتُ: إِنَّهَا مَعِي فِي الْبَيْتِ وَأَنَا أُنْفِقُ عَلَيْهَا، قَال: اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا (2)
وَمَا ذَكَرَهُ الْكَاسَانِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، أَنَّهُ سَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَال: أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُخْتِي؟ فَقَال: إِنْ لَمْ تَسْتَأْذِنْ رَأَيْتَ مَا يَسُوءُكَ (3)
وَأَمَّا مَبَادِئُ الشَّرِيعَةِ: فَإِنَّهُ إِذَا دَخَل عَلَيْهَا بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، فَرُبَّمَا كَانَتْ مَكْشُوفَةَ الْعَوْرَةِ، فَيَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى مَا لاَ يَحِل لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنْهَا، وَلِذَلِكَ وَجَبَ الاِسْتِئْذَانُ، سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ.
6 - وَيَتَّفِقُ الْمُحَرِّمُونَ لِلدُّخُول - عَلَى الْمَحَارِمِ وَنَحْوِهِمْ - إِلاَّ بِاسْتِئْذَانٍ عَلَى أَنَّ حُرْمَةَ الدُّخُول عَلَى ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، وَعَلَى الرِّجَال بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ أَيْسَرُ مِنْ تَرْكِ الاِسْتِئْذَانِ عَلَى الأَْجْنَبِيَّاتِ؛ لِجَوَازِ نَظَرِهِ إِلَى الشَّعْرِ وَالصَّدْرِ وَالسَّاقِ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ دُونَ الأَْجْنَبِيَّاتِ (4) .
وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ لِلرَّجُل أَنْ يَدْخُل عَلَى مَحَارِمِهِ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ مَعَهُ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يُشْعِرَهُمْ بِدُخُولِهِ بِنَحْوِ تَنَحْنُحٍ، وَطَرْقِ نَعْلٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، لِيَسْتَتِرَ الْعُرْيَانُ (5) .
__________
(1) تفسير الطبري 18 / 110 طبع مصطفى البابي الحلبي، وأحكام الجصاص 3 / 386
(2) أحكام الجصاص 3 / 386
(3) بدائع الصنائع 5 / 125
(4) أحكام الجصاص 3 / 386، وبدائع الصنائع 5 / 125، والفواكه الدواني 2 / 426
(5) مغني المحتاج 4 / 199 طبع مصطفى البابي الحلبي.

(3/146)


7 - وَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ غَيْرَ بَيْتِهِ، وَأَرَادَ الدُّخُول إِلَيْهِ، فَعَلَيْهِ الاِسْتِئْذَانُ، وَلاَ يَحِل لَهُ الدُّخُول قَبْل الإِْذْنِ بِالاِتِّفَاقِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بَابُ الْبَيْتِ مَفْتُوحًا أَوْ مُغْلَقًا (1) . وَسَوَاءٌ أَكَانَ فِيهِ سَاكِنٌ أَمْ لَمْ يَكُنْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} . (2) وَلأَِنَّ لِلْبُيُوتِ حُرْمَتَهَا فَلاَ يَجُوزُ أَنْ تُنْتَهَكَ هَذِهِ الْحُرْمَةُ؛ وَلأَِنَّ الاِسْتِئْذَانَ لَيْسَ لِلسُّكَّانِ أَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً، بَل لأَِنْفُسِهِمْ وَلأَِمْوَالِهِمْ؛ لأَِنَّ الإِْنْسَانَ كَمَا يَتَّخِذُ الْبَيْتَ سِتْرًا لِنَفْسِهِ، يَتَّخِذُهُ سِتْرًا لأَِمْوَالِهِ، وَكَمَا يَكْرَهُ اطِّلاَعَ الْغَيْرِ عَلَى نَفْسِهِ، يَكْرَهُ اطِّلاَعَهُ عَلَى أَمْوَالِهِ (3) .
وَيُفَرِّقُ الشَّافِعِيَّةُ، فِي حَالَةِ كَوْنِ بَيْتِ ذَلِكَ الْغَيْرِ هُوَ بَيْتُ أَحَدِ مَحَارِمِهِ، بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْبَابُ مُغْلَقًا أَوْ مَفْتُوحًا، فَيَقُولُونَ:
إِنْ كَانَ الْبَابُ مُغْلَقًا فَإِنَّهُ لاَ يَدْخُل إِلاَّ بَعْدَ اسْتِئْذَانٍ وَإِذْنٍ، أَمَّا إِنْ كَانَ مَفْتُوحًا فَوَجْهَانِ، وَالأَْوْجَهُ الاِسْتِئْذَانُ (4) . وَيُسْتَثْنَى مِنْ وُجُوبِ الاِسْتِئْذَانِ لِدُخُول الْبُيُوتِ عُمُومًا:

8 - أَوَّلاً: دُخُول الْبُيُوتِ غَيْرِ الْمَسْكُونَةِ الَّتِي فِيهَا مَتَاعٌ - أَيْ مَنْفَعَةٌ - لِلنَّاسِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ دُخُولُهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، بِنَاءً عَلَى الإِْذْنِ الْعَامِّ بِدُخُولِهَا، وَقَدْ اخْتُلِفَ فِي تَحْدِيدِ هَذِهِ الْبُيُوتِ.
فَقَال قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّهَا الْبُيُوتُ الَّتِي تُبْنَى عَلَى الطُّرُقَاتِ، يَأْوِي إِلَيْهَا الْمُسَافِرُونَ، وَمِثْلُهَا الْخَانَاتُ.
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 124، والشرح الصغير 4 / 762
(2) سورة النور / 27
(3) بدائع الصنائع 5 / 124
(4) مغني المحتاج 4 / 199 طبع مصطفى البابي الحلبي.

(3/147)


وَقَال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَعَلِيٌّ الشَّعْبِيُّ: إِنَّهَا الدَّكَاكِينُ الَّتِي فِي الأَْسْوَاقِ، وَقَدِ اسْتَظَل عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي خَيْمَةِ فَارِسِيٍّ بِالسُّوقِ مِنَ الْمَطَرِ دُونَ إِذْنٍ مِنْهُ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَأْذِنُ فِي دُخُول حَوَانِيتِ السُّوقِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعِكْرِمَةَ فَقَال: وَمَنْ يُطِيقُ مَا كَانَ يُطِيقُهُ ابْنُ عُمَرَ؟ قَال الْجَصَّاصُ: وَلَيْسَ فِي فِعْل ابْنِ عُمَرَ هَذَا دَلاَلَةٌ عَلَى أَنَّهُ رَأَى دُخُولَهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ مَحْظُورًا، وَلَكِنَّهُ احْتَاطَ لِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ مُبَاحٌ لِكُل وَاحِدٍ.
وَقَال عَطَاءٌ: هِيَ الْبُيُوتُ الْخَرِبَةُ الَّتِي يَدْخُلُهَا النَّاسُ لِلْبَوْل وَالْغَائِطِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا بُيُوتُ مَكَّةَ (1) . وَقَدْ بَيَّنَ الإِْمَامُ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الأَْصْل فِي قَوْل مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ هَذَا فَقَال: وَتَجْوِيزُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ دُخُول بُيُوتِ مَكَّةَ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْل بِأَنَّ بُيُوتَ مَكَّةَ غَيْرُ مُتَمَلَّكَةٍ، وَأَنَّ النَّاسَ فِيهَا شُرَكَاءُ (2) . وَأَدْخَل جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ فِي ذَلِكَ كُل مَكَانٍ فِيهِ انْتِفَاعٌ، وَلَهُ فِيهِ حَاجَةٌ (3) .
وَبَنَى الْمَالِكِيَّةُ ذَلِكَ عَلَى الْعُرْفِ، فَقَالُوا: يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَدْخُل بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ كُل مَحَلٍّ مَطْرُوقٍ، كَالْمَسْجِدِ، وَالْحَمَّامِ، وَالْفُنْدُقِ، وَبَيْتِ الْعَالِمِ، وَالْقَاضِي، وَالطَّبِيبِ - وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يَسْتَقْبِل فِيهِ النَّاسَ - لِوُجُودِ الإِْذْنِ الْعَامِّ بِدُخُولِهِ (4) .
__________
(1) أحكام الجصاص 3 / 387، والطبري 18 / 113، والقرطبي 12 / 221 - 222، وعمدة القاري شرح البخاري 22 / 131 طبعة المنيرية.
(2) تفسير القرطبي 12 / 221
(3) تفسير القرطبي 12 / 221
(4) الفواكه الدواني 2 / 426، وشرح الكافي 2 / 1134، والشرح الصغير 4 / 762

(3/147)


أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: إِنَّ الْبُيُوتَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا سَاكِنٌ، وَلِلْمَرْءِ فِيهَا مَنْفَعَةٌ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْخُلَهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، كَالْخَانَاتِ وَالرِّبَاطَاتِ الَّتِي تَكُونُ لِلْمَارَّةِ، وَالْخَرَابَاتِ الَّتِي تُقْضَى فِيهَا حَاجَةُ الْبَوْل وَالْغَائِطِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} أَيْ مَنْفَعَةٌ (1) .

9 - ثَانِيًا: وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا مَا إِذَا كَانَ فِي تَرْكِ الاِسْتِئْذَانِ لِدُخُول بَيْتٍ إِحْيَاءٌ لِنَفْسٍ أَوْ مَالٍ، حَتَّى لَوِ اسْتَأْذَنَ وَانْتَظَرَ الإِْذْنَ تَلِفَتِ النَّفْسُ وَضَاعَ الْمَال، وَقَدْ أَوْرَدَ الْحَنَفِيَّةُ عَدَدًا مِنَ الْفُرُوعِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ. وَقَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى لاَ تَأْبَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، إِلاَّ الْحَنَابِلَةَ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُجِيزُوا دُخُول الْبَيْتِ إِذَا خِيفَ ضَيَاعُ الْمَال إِلاَّ بِاسْتِئْذَانٍ، فَإِذْنٍ (2) . وَمِنْ هَذِهِ الْفُرُوعِ:
الأَْوَّل: إِذَا كَانَ الْبَيْتُ مُشْرِفًا عَلَى الْعَدُوِّ، يُقَاتِل مِنْهُ الْعَدُوُّ، وَيُوقِعُ بِهِ النِّكَايَةَ، يَجُوزُ دُخُولُهُ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ؛ لِمَا فِي دَفْعِ الْعَدُوِّ مِنْ إِحْيَاءِ نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ.
الثَّانِي: إِذَا سَقَطَ ثَوْبُهُ فِي بَيْتِ غَيْرِهِ، وَخَافَ لَوْ أَعْلَمَهُ أَخَذَهُ، جَازَ لَهُ الدُّخُول لأَِخْذِهِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، وَيِنَبْغِي أَنْ يَعْلَمَ الصُّلَحَاءُ أَنَّهُ إِنَّمَا دَخَل لِذَلِكَ.
الثَّالِثُ: لَوْ نَهَبَ مِنْهُ ثَوْبًا وَدَخَل النَّاهِبُ دَارَهُ لاَ بَأْسَ بِدُخُولِهَا لِيَأْخُذَ حَقَّهُ.
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 125، والآية من سورة النور / 29
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 126، 127، وأسنى المطالب 4 / 387 طبع المكتبة الإسلامية، ونهاية المحتاج 8 / 315 طبع المكتبة الإسلامية، والمغني 9 / 325 ط 3 للمنار.

(3/148)


الرَّابِعُ: لَوْ كَانَ لَهُ مَجْرَى فِي دَارِ رَجُلٍ، أَرَادَ إِصْلاَحَهُ، وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يَمُرَّ فِي بَطْنِهِ، يُقَال لِرَبِّ الدَّارِ: إِمَّا أَنْ تَدَعَهُ يُصْلِحُهُ وَإِمَّا أَنْ تُصْلِحَهُ.
الْخَامِسُ: آجَرَهُ دَارًا وَسَلَّمَهَا لَهُ، لَهُ دُخُولُهَا لِيَنْظُرَ حَالَهَا فَيَرْمِهَا، وَلَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِذَلِكَ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، إِلاَّ إِذَا رَضِيَ الْمُسْتَأْجِرُ (1) .

10 - ثَالِثًا: وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ دُخُول الْبَيْتِ الَّذِي يُتَعَاطَى فِيهِ الْمُنْكَرُ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، بِقَصْدِ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ، كَمَا إِذَا سَمِعَ فِي دَارٍ صَوْتَ الْمَزَامِيرِ وَالْمَعَازِفِ، فَلَهُ أَنْ يَدْخُل عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ؛ وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِعِلَّتَيْنِ. الأُْولَى: أَنَّ الدَّارَ لَمَّا اُتُّخِذَتْ لِتَعَاطِي الْمُنْكَرِ فَقَدْ سَقَطَتْ حُرْمَتُهَا، وَإِذَا سَقَطَتْ حُرْمَتُهَا جَازَ دُخُولُهَا بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ. وَالثَّانِيَةِ: أَنَّ تَغْيِيرَ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ، فَلَوْ شُرِطَ الإِْذْنُ لَتَعَذَّرَ التَّغْيِيرُ (2) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ، فَقَدْ كَانُوا أَكْثَرَ تَفْصِيلاً لِلأَْمْرِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا: إِنَّ الْمُنْكَرَ إِنْ كَانَ مِمَّا يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهُ، جَازَ لَهُ دُخُولُهُ لِمَنْعِ ذَلِكَ الْمُنْكَرِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، كَمَا إِذَا أَخْبَرَهُ مَنْ يَثِقُ بِصِدْقِهِ: أَنَّ رَجُلاً خَلاَ بِرَجُلٍ لِيَقْتُلَهُ، أَوْ خَلاَ بِامْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا، فَيَجُوزُ لَهُ فِي مِثْل هَذِهِ الْحَال أَنْ يَتَجَسَّسَ، وَيُقْدِمَ عَلَى الْكَشْفِ وَالْبَحْثِ حَذَرًا مِنْ فَوَاتِ مَا لاَ يُسْتَدْرَكُ، مِنْ إِزْهَاقِ رَوْحِ مَعْصُومٍ، وَانْتِهَاكِ عَرْضِ الْمَحَارِمِ، وَارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَفُتِ اسْتِدْرَاكُهُ، كَمَا إِذَا دَخَل مَعَهَا الْبَيْتَ لِيُسَاوِمَهَا عَلَى أُجْرَةِ الزِّنَا، ثُمَّ يَخْرُجَانِ لِيَزْنِيَا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 126 - 127
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 180 - 181، وجواهر الإكليل 1 / 251 طبع مصر، عباس شقرون.

(3/148)


فِي بَيْتٍ آخَرَ، أَوْ إِذَا كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ إِنْكَارُهُ وَرَفْعُهُ بِغَيْرِ دُخُولٍ، لَمْ يَحِل لَهُ الدُّخُول بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، كَمَا إِذَا سَمِعَ الْمُحْتَسِبُ أَصْوَاتَ تَلاَهٍ مُنْكَرَةً مِنْ دَارٍ تَظَاهَرَ أَهْلُهَا بِأَصْوَاتِهِمْ، أَنْكَرَهَا خَارِجَ الدَّارِ، وَلَمْ يَهْجُمْ عَلَيْهَا بِالدُّخُول؛ لأَِنَّ الْمُنْكَرَ ظَاهِرٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَكْشِفَ عَمَّا سِوَاهُ (1) .

ب - الشَّخْصُ الْمُسْتَأْذِنُ:
11 - إِنَّ مَنْ يُرِيدُ الدُّخُول، إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَغِيرًا غَيْرَ مُمَيِّزٍ، أَوْ صَغِيرًا مُمَيِّزًا، أَوْ كَبِيرًا، وَالْمُرَادُ بِالتَّمْيِيزِ هُنَا: الْقُدْرَةُ عَلَى وَصْفِ الْعَوْرَاتِ (2) .
أَمَّا الْكَبِيرُ فَإِنَّهُ لاَ يَحِل لَهُ الدُّخُول بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَإِذْنٍ.
12 - وَأَمَّا الصَّغِيرُ الْمُمَيِّزُ فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَطَاوُسُ بْنُ كَيْسَانَ، وَالْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ) إِلَى وُجُوبِ أَمْرِهِ بِالاِسْتِئْذَانِ قَبْل الدُّخُول، فِي الأَْوْقَاتِ الثَّلاَثَةِ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ كَشْفِ الْعَوْرَاتِ؛ لأَِنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِتَخَفُّفِ النَّاسِ فِيهَا مِنَ الثِّيَابِ.
وَلاَ حَرَجَ عَلَيْهِ فِي تَرْكِ الاِسْتِئْذَانِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الأَْوْقَاتِ الثَّلاَثَةِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَرَجِ فِي الاِسْتِئْذَانِ عِنْدَ كُل خُرُوجٍ وَدُخُولٍ. وَالصَّغِيرُ مِمَّنْ يَكْثُرُ دُخُولُهُ وَخُرُوجُهُ فَهُوَ مِنَ الطَّوَّافِينَ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ
__________
(1) حاشية القليوبي 3 / 33 طبع عيسى البابي الحلبي، ومعالم القربة في أحكام الحسبة لابن الأخوة ص 37 - 38 طبع كمبرج مطبعة دار الفنون سنة 1937
(2) بدائع الصنائع 5 / 125

(3/149)


أَيْمَانُكُمْ وَاَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْل صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآْيَاتِ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (1)
وَذَهَبَ أَبُو قِلاَبَةَ إِلَى أَنَّ اسْتِئْذَانَ هَؤُلاَءِ فِي هَذِهِ الأَْوْقَاتِ الثَّلاَثَةِ مَنْدُوبٌ غَيْرُ وَاجِبٍ، فَكَانَ يَقُول: " إِنَّمَا أُمِرُوا بِهَذَا نَظَرًا لَهُمْ (2) ".

ج - صِيغَةُ الاِسْتِئْذَانِ:
13 - يَكُونُ الاِسْتِئْذَانُ - فِي الأَْصْل - بِاللَّفْظِ، وَقَدْ يَنُوبُ عَنْهُ غَيْرُهُ، وَالصِّيغَةُ الْمُثْلَى لِلاِسْتِئْذَانِ أَنْ يَقُول الْمُسْتَأْذِنُ: " السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُل؟ " (3) مُقَدِّمًا السَّلاَمَ؛ لِمَا رَوَاهُ رِبْعِيُّ بْنُ خِرَاشٍ قَال: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَامِرٍ فَاسْتَأْذَنَ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي بَيْتٍ فَقَال: أَأَلِجُ؟ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَادِمِهِ: اخْرُجْ إِلَى هَذَا فَعَلِّمْهُ الاِسْتِئْذَانَ. فَقُل لَهُ: قُل: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُل؟ فَسَمِعَ الرَّجُل ذَلِكَ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُل؟ فَأَذِنَ لَهُ رَسُول اللَّهِ، فَدَخَل. (4)
__________
(1) سورة النور / 58، وانظر بدائع الصنائع 5 / 125، وأحكام ابن العربي 5 / 1385، والفواكه الدواني 2 / 426، وتفسير القرطبي 12 / 303، وتفسير الطبري 18 / 111
(2) القرطبي 2 / 302
(3) الفواكه الدواني 2 / 427، والشرح الصغير 4 / 762، وشرح الكافي 2 / 1134، وتفسير القرطبي 12 / 215، وحاشية ابن عابدين 5 / 265
(4) حديث: " جاء رجل. . . " أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الأدب باب الاستئذان.

(3/149)


وَقَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَمِنْهُمُ ابْنُ رُشْدٍ: يَبْدَأُ بِالاِسْتِئْذَانِ لاَ بِالسَّلاَمِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ (1) .
14 - وَيَقُومُ قَرْعُ الْبَابِ مَقَامَ الاِسْتِئْذَانِ بِاللَّفْظِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْبَابُ مُغْلَقًا أَمْ مَفْتُوحًا (2) . فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَال: أَتَيْت رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِ دَيْنٍ كَانَ عَلَى أَبِي، فَدَقَقْتُ الْبَابَ فَقَال: مَنْ ذَا؟ فَقُلْتُ: أَنَا، فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُول: أَنَا، أَنَا. كَأَنَّهُ كَرِهَهُ. (3)
كَمَا يَقُومُ مَقَامَ التَّنَحْنُحِ (4) .
وَيَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ الْمَأْثُورِ كُل مَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ مِنْ أَلْفَاظِ الاِسْتِئْذَانِ، فَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ مُسْنَدًا عَنْ أَبِي عَبْدِ الْمَلِكِ، مَوْلَى أُمِّ مِسْكِينِ بِنْتِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَال: أَرْسَلَتْنِي مَوْلاَتِي إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، فَجَاءَ مَعِي، فَلَمَّا قَامَ بِالْبَابِ قَال: أَنْدَرُ؟ قَالَتْ: أَنْدَرُونَ (5) .
غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ نَصُّوا عَلَى كَرَاهَةِ الاِسْتِئْذَانِ بِالذِّكْرِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ جَعْل اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى آلَةً، قَال فِي الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي: " وَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي الاِسْتِئْذَانِ بِنَحْوِ " سُبْحَانَ اللَّهِ " وَ " لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ "
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 427، والشرح الصغير 4 / 762
(2) شرح الكافي 2 / 1134، والشرح الصغير 4 / 763، وتفسير القرطبي 12 / 217
(3) حديث: " أتيت رسول الله. . . " أخرجه البخاري في الاستئذان باب: إذا قال من ذا قال أنا، ومسلم في الآداب، باب: كراهة قول المستأذن أنا، وأخرجه أيضا أبو داود في الأدب والترمذي في الاستئذان.
(4) الفواكه الدواني 2 / 427، والشرح الصغير 4 / 762، وشرح الكافي 2 / 1134، وأحكام الجصاص3 / 383
(5) تفسير القرطبي 12 / 218، و (أندر) كلمة للاستئذان بالفارسية و (أندرون) كلمة الإذن.

(3/150)


فَهُوَ بِدْعَةٌ مَذْمُومَةٌ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِسَاءَةِ الأَْدَبِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فِي اسْتِعْمَال اسْمِهِ فِي الاِسْتِئْذَانِ (1) ".

د - آدَابُ الاِسْتِئْذَانِ:
15 - إِذَا اسْتَأْذَنَ عَلَى إِنْسَانٍ، فَتَحَقَّقَ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعِ الاِسْتِئْذَانَ، فَلَهُ أَنْ يُكَرِّرَ الاِسْتِئْذَانَ حَتَّى يَسْمَعَهُ.
أَمَّا إِذَا اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ فَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ، فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ السُّنَّةَ أَلاَّ يُكَرِّرَ الاِسْتِئْذَانَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثِ مَرَّاتٍ.
وَقَال مَالِكٌ: لَهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الثَّلاَثِ، حَتَّى يَتَحَقَّقَ سَمَاعَهُ (2) .
وَحَكَى النَّوَوِيُّ قَوْلاً ثَالِثًا، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ بِلَفْظِ السَّلاَمِ الْمَشْرُوعِ لَمْ يُعِدْهُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِهِ أَعَادَهُ (3) .
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ، مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَغَيْرِهِ، قَال أَبُو سَعِيدٍ: كُنْتُ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الأَْنْصَارِ، إِذْ جَاءَ أَبُو مُوسَى الأَْشْعَرِيُّ، كَأَنَّهُ مَذْعُورٌ فَقَال: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عُمَرَ ثَلاَثًا، فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، فَرَجَعْتُ، فَقَال: مَا مَنَعَكَ؟ قُلْتُ: اسْتَأْذَنْتُ ثَلاَثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْتُ، وَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلاَثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ فَقَال - أَيْ عُمَرُ -: وَاَللَّهِ لَتُقِيمَنَّ عَلَيْهِ
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 427
(2) عمدة القاري على صحيح البخاري 22 / 241، والشرح الصغير 4 / 762، وشرح الكافي 2 / 1134، وتفسير القرطبي 12 / 214، وحاشية ابن عابدين 5 / 265
(3) شرح النووي لصحيح مسلم 14 / 131، طبع المطبعة المصرية.

(3/150)


بَيِّنَةً، قَال أَبُو مُوسَى: أَمِنْكُمْ أَحَدٌ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَال أُبَيٌّ بْنُ كَعْبٍ: فَوَاَللَّهِ لاَ يَقُومُ مَعَكَ إِلاَّ أَصْغَرُ الْقَوْمِ، فَكُنْتُ أَصْغَرَ الْقَوْمِ، فَقُمْتُ مَعَهُ، فَأَخْبَرْتُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال ذَلِكَ (1) .
16 - وَقَدْ فَصَّل الْحَنَفِيَّةُ دُونَ غَيْرِهِمْ فِي مُدَّةِ الاِنْتِظَارِ بَيْنَ كُل اسْتِئْذَانَيْنِ فَقَالُوا: يَمْكُثُ بَعْدَ كُل مَرَّةٍ مِقْدَارَ مَا يَفْرُغُ الآْكِل، وَالْمُتَوَضِّئُ، وَالْمُصَلِّي بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ (2) .
حَتَّى إِذَا كَانَ أَحَدٌ عَلَى عَمَلٍ مِنْ هَذِهِ الأَْعْمَال فَرَغَ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَمَلٍ مِنْهَا كَانَتْ عِنْدَهُ فُرْصَةٌ يَأْخُذُ فِيهَا حَذَرَهُ، وَيُصْلِحُ شَأْنَهُ قَبْل أَنْ يَدْخُل الدَّاخِل.
وَرَوَى الْجَصَّاصُ بِسَنَدِهِ فِي ذَلِكَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُ: الاِسْتِئْذَانُ ثَلاَثٌ، فَالأُْولَى يَسْتَنْصِتُونَ، وَالثَّانِيَةُ يَسْتَصْلِحُونَ، وَالثَّالِثَةُ يَأْذَنُونَ أَوْ يَرُدُّونَ (3) .
وَإِذَا كَانَ الاِسْتِئْذَانُ بِاللَّفْظِ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الصَّوْتُ بِحَيْثُ يَسْمَعُ الْمُسْتَأْذَنُ عَلَيْهِ، دُونَ صِيَاحٍ. وَإِنْ كَانَ بِدَقِّ الْبَابِ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الدَّقُّ خَفِيفًا بِحَيْثُ يَسْمَعُ أَيْضًا بِلاَ عُنْفٍ (4) . فَقَدْ رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَال كَانَتْ أَبْوَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُقْرَعُ بِالأَْظَافِرِ (5)
__________
(1) حديث: " إذا استأذن. . . " أخرجه البخاري في الاستئذان باب التسليم والاستئذان ثلاثا، ومسلم في الآداب باب الاستئذان، وأخرجه أيضا الإمام مالك والترمذي وأبو داود في الاستئذان بألفاظ مختلفة.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 265
(3) أحكام الجصاص 3 / 382، وبدائع الصنائع 5 / 124 - 125
(4) تفسير القرطبي 12 / 217
(5) قال في مجمع الزوائد: أخرجه البزار، وفيه ضرار بن صرد، وهو ضعيف 8 / 43 طبع مكتبة القدسي.

(3/151)


17 - وَلاَ يَقِفُ الْمُسْتَأْذِنُ قُبَالَةَ الْبَابِ إِنْ كَانَ الْبَابُ مَفْتُوحًا، وَلَكِنَّهُ يَنْحَرِفُ ذَاتَ الْيَمِينِ أَوْ ذَاتَ الشِّمَال (1) . فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ هَدْيِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَسُول اللَّهِ قُدْوَةٌ. فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ إِذَا أَتَى بَابَ قَوْمٍ لَمْ يَسْتَقْبِل الْبَابَ مِنْ تِلْقَاءِ وَجْهِهِ، وَلَكِنْ مِنْ رُكْنِهِ الأَْيْمَنِ أَوِ الأَْيْسَرِ، وَيَقُول: السَّلاَمُ عَلَيْكُمُ، السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ذَلِكَ أَنَّ الدُّورَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا يَوْمَئِذٍ سُتُورٌ (2)
وَهُوَ أَيْضًا مِنْ تَوْجِيهَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَعَنْ هُذَيْل بْنِ شُرَحْبِيل قَال: جَاءَ رَجُلٌ فَوَقَفَ عَلَى بَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْذِنُ، فَقَامَ عَلَى الْبَابِ - وَفِي رِوَايَةٍ: مُسْتَقْبِل الْبَابِ - فَقَال لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَكَذَا عَنْكَ أَوْ هَكَذَا، فَإِنَّمَا الاِسْتِئْذَانُ مِنَ النَّظَرِ. (3)
أَمَّا إِنْ كَانَ الْبَابُ مَرْدُودًا فَلَهُ أَنْ يَقِفَ حَيْثُ شَاءَ وَيَسْتَأْذِنَ، وَإِنْ شَاءَ دَقَّ الْبَابَ (4) .
18 - وَلاَ يَحِل لِلْمُسْتَأْذِنِ النَّظَرُ فِي دَاخِل الْبَيْتِ لأَِنَّ لِلْبُيُوتِ حُرْمَتَهَا، وَحَدِيثُ رَسُول اللَّهِ السَّابِقُ إِنَّمَا الاِسْتِئْذَانُ مِنَ النَّظَرِ يَدُل عَلَى ذَلِكَ (5)
وَرُوِيَ أَنَّ جَارًا لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَقَفَ، وَجَعَل يَنْظُرُ إِلَى مَا فِي الْبَيْتِ وَهُوَ يَقُول: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُل؟ فَقَال حُذَيْفَةُ: أَمَّا بِعَيْنِكَ فَقَدْ دَخَلْتَ،
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 3 / 383، وتفسير القرطبي 12 / 216
(2) أخرجه أبو داود في الأدب. باب كم مرة يسلم الرجل في الاستئذان.
(3) أخرجه أبو داود في الأدب باب الاستئذان.
(4) تفسير القرطبي 12 / 216
(5) شرح النووي لصحيح مسلم 14 / 138

(3/151)


وَأَمَّا بِإِسْتِكَ فَلَمْ تَدْخُل (1) .
فَإِنْ نَظَرَ الْمُسْتَأْذِنُ إِلَى دَاخِل الْبَيْتِ فَجَنَى صَاحِبُ الْبَيْتِ عَلَى عَيْنِهِ فَهَل يَضْمَنُ؟ فِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ تَجِدُهُ فِي مُصْطَلَحِ (جِنَايَة) .
وَإِذَا اسْتَأْذَنَ فَقَال لَهُ صَاحِبُ الْبَيْتِ: مَنْ بِالْبَابِ؟ فَعَلَيْهِ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَهُ فَيَقُول: فُلاَنٌ، أَوْ يَقُول: أَيَدْخُل فُلاَنٌ؟ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَلاَ يَقُول " أَنَا " لأَِنَّهُ لَمْ يَحْصُل بِقَوْلِهِ: " أَنَا " فَائِدَةٌ وَلاَ زِيَادَةُ إِيضَاحٍ، بَل الإِْيهَامُ بَاقٍ (2) . لِحَدِيثِ جَابِرٍ الْمُتَقَدِّمِ.
وَمَنِ اسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ دَخَل، وَإِنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَنْصَرِفْ، وَلاَ يُلِحُّ بِالاِسْتِئْذَانِ وَلاَ يَتَكَلَّمُ بِقَبِيحِ الْكَلاَمِ، وَلاَ يَقْعُدُ عَلَى الْبَابِ لِيَنْتَظِرَ، لأَِنَّ لِلنَّاسِ حَاجَاتٍ وَأَشْغَالاً فِي الْمَنَازِل، فَلَوْ قَعَدَ عَلَى الْبَابِ وَانْتَظَرَ، لَضَاقَ ذَرْعُهُمْ وَشَغَل قَلْبَهُمْ، وَلَعَلَّهُ لاَ تَلْتَئِمُ حَاجَاتُهُمْ، فَكَانَ الرُّجُوعُ خَيْرًا لَهُ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {وَإِنْ قِيل لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} . (3)

ثَانِيًا
الاِسْتِئْذَانُ لِلتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ أَوْ حَقِّهِ

19 - الأَْصْل أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلإِْنْسَانِ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، أَوْ فِي حَقٍّ لِلْغَيْرِ إِلاَّ بِإِذْنٍ مِنَ الشَّارِعِ، أَوْ مِنْ
__________
(1) تفسير القرطبي 12 / 218
(2) شرح النووي لصحيح مسلم 14 / 135، وحاشية ابن عابدين 5 / 265، والشرح الصغير 4 / 762، وتفسير القرطبي 12 / 217
(3) سورة النور / 28، وانظر بدائع الصنائع 5 / 125، والشرح الصغير 4 / 762

(3/152)


صَاحِبِ الْحَقِّ، وَعِنْدَئِذٍ لاَ يَكُونُ اعْتِدَاءً، فَلاَ يَجُوزُ أَكْل طَعَامِ الْغَيْرِ إِلاَّ بِإِذْنِ الْمَالِكِ، أَوْ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ، وَلاَ يَجُوزُ سُكْنَى دَارِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَيَدُل عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ: لاَ يَحْلِبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ غَيْرِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، فَإِنَّهُ يَدُل عَلَى تَحْرِيمِ أَخْذِ مَال الإِْنْسَانِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَالأَْكْل مِنْهُ، وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ، مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ اللَّبَنِ وَغَيْرِهِ (1) .
وَقَدْ يَبْذُل ذَلِكَ الْغَيْرُ الإِْذْنَ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ، أَوْ فِي حَقِّهِ بَادِئَ ذِي بَدْءٍ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، كَأَنْ يَقُول لأَِجِيرِهِ: أَذِنْتُ لَكَ أَنْ تَأْكُل مِمَّا تَصْنَعُهُ مِنْ مَأْكُولاَتٍ دُونَ أَنْ تَحْمِل مِنْهُ شَيْئًا، وَعِنْدَئِذٍ فَلاَ حَاجَةَ لِلاِسْتِئْذَانِ لِحُصُول مَقْصُودِهِ، وَهُوَ الإِْذْنُ.
وَقَدْ لاَ يَبْذُل الإِْذْنَ. وَعِنْدَئِذٍ، يَجِبُ عَلَى مَنْ أَرَادَ التَّصَرُّفَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ اسْتِئْذَانُهُ فِي ذَلِكَ التَّصَرُّفِ (ر: إِذْن) .

وَمِنْ صُوَرِ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ أَوْ حَقِّهِ مَا يَأْتِي:

أ - الاِسْتِئْذَانُ لِدُخُول الأَْمْلاَكِ الْمَمْنُوعَةِ:
20 - لاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ أَنْ يَدْخُل مِلْكَ غَيْرِهِ سَوَاءٌ أَكَانَ بَيْتًا، أَمْ بُسْتَانًا مَحُوطًا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ إِلاَّ بِإِذْنِهِ (2) .، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ مُفَصَّلاً عَنِ الاِسْتِئْذَانِ لِدُخُول الْبُيُوتِ.

ب - اسْتِئْذَانُ الْمَرْأَةِ لإِِدْخَال الْغَيْرِ إِلَى بَيْتِ زَوْجِهَا:
21 - يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ اسْتِئْذَانُ زَوْجِهَا إِنْ أَرَادَتْ أَنْ
__________
(1) شرح النووي لصحيح مسلم 12 / 29 طبع المطبعة المصرية.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 373 - 374، وحاشية ابن عابدين 1 / 255، والإنصاف 4 / 291

(3/152)


تُدْخِل إِلَيْهِ مَنْ تَعْلَمُ أَنَّ زَوْجَهَا يَكْرَهُ دُخُولَهُ، وَلاَ خِلاَفَ فِي ذَلِكَ، لِقَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلاَ تَأْذَنْ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ (1) ، وَلاَ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ حَالاَتُ الضَّرُورَةِ.
قَال الْعَيْنِيُّ - شَارِحُ الْبُخَارِيِّ - أَمَّا عِنْدَ الدَّاعِي لِلدُّخُول عَلَيْهَا لِلضَّرُورَةِ، كَالإِْذْنِ لِشَخْصٍ فِي دُخُول مَوْضِعٍ مِنْ حُقُوقِ الدَّارِ الَّتِي هِيَ فِيهَا، أَوْ إِلَى دَارٍ مُنْفَرِدَةٍ عَنْ مَسْكَنِهَا، أَوِ الإِْذْنِ لِدُخُول مَوْضِعٍ مُعَدٍّ لِلضِّيفَانِ، فَلاَ حَرَجَ فِي الإِْذْنِ بِذَلِكَ لأَِنَّ الضَّرُورَاتِ مُسْتَثْنَاةٌ فِي الشَّرْعِ (2) .

ج - الاِسْتِئْذَانُ لِلأَْكْل مِنْ ثَمَرِ الْبُسْتَانِ وَشُرْبِ لَبَنِ الْمَاشِيَةِ:
22 - لاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ أَنْ يَحْلُبَ مَاشِيَةَ أَحَدٍ وَلاَ أَنْ يَأْكُل مِنْ ثَمَرِ بُسْتَانِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ - عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (3) ، لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يَحْلِبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ امْرِئٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرَبَتُهُ فَتُكْسَرَ خِزَانَتُهُ فَيَنْتَقِل طَعَامُهُ، فَإِنَّمَا تُخَزِّنُ لَهُمْ ضُرُوعُ مَوَاشِيهِمْ أَطْعِمَاتِهِمْ، فَلاَ يَحْلِبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِهِ. (4)
وَذَهَبَ الْبَعْضُ وَمِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ
__________
(1) أخرجه البخاري في النكاح، باب لا تأذن المرأة في بيت زوجها لأحد إلا بإذنه، وأخرجه مسلم في الزكاة، والترمذي في الأدب، والنسائي في الصوم.
(2) عمدة القاري 20 / 186 طبع المنار
(3) عمدة القاري 12 / 278، وشرح النووي لصحيح مسلم 12 / 29، وعون المعبود 2 / 344 طبع الهند.
(4) أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 88) ومسلم 3 / 1352 ط عيسى الحلبي، كلاهما في اللقطة.

(3/153)


بْنُ رَاهْوَيْهِ إِلَى جَوَازِ الأَْكْل مِنْ ثَمَرِ الْبُسْتَانِ، وَحَلْبِ الْمَاشِيَةِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَال صَاحِبِهِ، لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ عَلَى مَاشِيَةٍ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا صَاحِبُهَا فَلْيَسْتَأْذِنْهُ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فَلْيَحْلُبْ وَلْيَشْرَبْ، إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا فَلْيُصَوِّتْ ثَلاَثًا، فَإِنْ أَجَابَ فَلْيَسْتَأْذِنْهُ، وَإِلاَّ فَلْيَتَحَلَّبْ وَلْيَشْرَبْ وَلاَ يَحْمِل (1) .

د - اسْتِئْذَانُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِي التَّبَرُّعِ مِنْ مَالِهِ:
23 - لاَ تَسْتَأْذِنُ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا فِيمَا تَتَنَاوَلُهُ مِنْ حَقٍّ ثَابِتٍ لَهَا فِي مِلْكِ الزَّوْجِ، كَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَاللِّبَاسِ الْمَعْرُوفِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ خِلاَفٌ مَعْلُومٌ، لِحَدِيثِ هِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ حِينَ قَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، وَلَيْسَ يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي إِلاَّ مَا أَخَذْتُ مِنْهُ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ. (2)
كَمَا أَنَّهَا لاَ تَسْتَأْذِنُهُ فِي التَّبَرُّعِ بِالشَّيْءِ التَّافِهِ الَّذِي تَتَسَامَحُ بِهِ النُّفُوسُ، كَالدِّرْهَمِ وَالرَّغِيفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، إِنْ لَمْ يَمْنَعْهَا مِنْ ذَلِكَ (3) ، لِمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهَا جَاءَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ لَيْسَ لِي إِلاَّ مَا أَدْخَل عَلَيَّ الزُّبَيْرُ، فَهَل عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ أَرْضَخَ مِمَّا يُدْخِل عَلَيَّ، فَقَال: ارْضَخِي وَلاَ تُوعِي (4)
__________
(1) عمدة القاري 12 / 278، وشرح النووي لمسلم 12 / 29 وعون المعبود 2 / 344
(2) أخرجه البخاري في النفقات، ومسلم في القضاء.
(3) الأموال لأبي عبيد ص 457، طبع مطبعة حجازي بمصر، ومصنف ابن أبي شيبة 1 / 135 ب مخطوط طوب قبولاي - إسطنبول.
(4) لا توعي أي لا تخزني، وأصله من أوعى الشيء إذا جعله في الوعاء.

(3/153)


فَيُوعَى عَلَيْكِ، وَعَنْ عَائِشَة قَالَتْ: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا، غَيْرَ مُفْسِدَةٍ، كَانَ لَهَا أَجْرُهَا وَلَهُ مِثْلُهُ، وَلَهَا بِمَا أَنْفَقَتْ، وَلِلْخَازِنِ مِثْل ذَلِكَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ.
وَقِيل: لاَ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ التَّبَرُّعُ بِشَيْءٍ مِنْ مَال زَوْجِهَا إِلاَّ بِإِذْنِهِ (1) ، لِمَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: لاَ تُنْفِقُ الْمَرْأَةُ شَيْئًا مِنْ بَيْتِهَا إِلاَّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا، قِيل يَا رَسُول اللَّهِ وَلاَ الطَّعَامَ؟ قَال: ذَلِكَ أَفْضَل أَمْوَالِنَا.
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل مَال امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ قَال ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: وَالأَْوَّل أَصَحُّ؛ لأَِنَّ حَدِيثَيْ عَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ خَاصَّانِ صَحِيحَانِ، وَحَدِيثَ: لاَ يَحِل مَال امْرِئٍ. . عَامٌّ، وَالْخَاصُّ يُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِّ.
أَمَّا حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ فَهُوَ ضَعِيفٌ (2) . وَتَجِدُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (صَدَقَة وَهِبَة) .

هـ - اسْتِئْذَانُ مَنْ عَلَيْهِ حَقٌّ صَاحَبَ الْحَقَّ:
24 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ اسْتِئْذَانِ مَنْ عَلَيْهِ حَقٌّ لاَزِمٌ حَالٌّ صَاحَبَ الْحَقَّ، كَالْمَدِينِ مَعَ الدَّائِنِ. وَيَسْقُطُ هَذَا الْوُجُوبُ إِذَا كَانَ الْمَدِينُ خَارِجًا لأَِدَاءِ فَرْضٍ عَيْنِيٍّ، كَالْغَزْوِ عِنْدَ النَّفِيرِ الْعَامِّ.
فَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلاً فَلاَ يَجِبُ الاِسْتِئْذَانُ؛ لِعَدَمِ
__________
(1) المغني 4 / 515 - 516، ونيل الأوطار 6 / 16 طبع المطبعة العثمانية المصرية.
(2) المغني 4 / 516

(3/154)


تَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ قَبْل حُلُولِهِ (1) ، عَلَى تَفْصِيلٍ مَوْضِعُهُ: (الْجِهَادُ، وَالدَّيْنُ) . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ الاِسْتِئْذَانِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الدَّيْنُ حَالًّا أَمْ مُؤَجَّلاً (2) .

و اسْتِئْذَانُ الطَّبِيبِ فِي التَّطْبِيبِ:
25 - يُفَرِّقُ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ الْمَرِيضِ الْمُشْرِفِ عَلَى الْمَوْتِ - كَالْجَرِيحِ مَثَلاً - وَيُمْكِنُ اسْتِحْيَاؤُهُ بِالتَّطْبِيبِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَجِبُ عَلَى الطَّبِيبِ أَنْ يُبَاشِرَ التَّطْبِيبَ إِنْقَاذًا لِهَذَا الْجَرِيحِ مِنَ الْمَوْتِ دُونَ اسْتِئْذَانٍ؛ لأَِنَّ اسْتِنْقَاذَهُ أَصْبَحَ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَيْهِ مَا دَامَ قَادِرًا عَلَيْهِ، حَتَّى لَوِ امْتَنَعَ عَنْ ذَلِكَ لَكَانَ آثِمًا، وَفِي ضَمَانِهِ لَهُ - إِنْ مَاتَ لِعَدَمِ اسْتِحْيَائِهِ - اخْتِلاَفٌ (3) .
وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَرِيضُ كَذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ لِلطَّبِيبِ مُبَاشَرَةُ تَطْبِيبِهِ، إِلاَّ بَعْدَ الاِسْتِئْذَانِ، فَإِنْ طَبَّبَهُ بِإِذْنٍ، فَأَصَابَهُ تَلَفٌ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَى الطَّبِيبِ. وَإِنْ طَبَّبَهُ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَعَطِبَ فَعَلَى الطَّبِيبِ الضَّمَانُ (4) . (ر: تَطْبِيب، جِنَايَة، دِيَة) .

ز - إِذْنُ السُّلْطَانِ لإِِقَامَةِ الْجُمُعَةِ:
26 - قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْجُمُعَةِ إِذْنُ الإِْمَامِ.
__________
(1) شرح الزرقاني 3 / 110 طبع دار الفكر - بيروت، وحاشية الجمل 5 / 190، ط دار إحياء التراث الإسلامي، والبحر الرائق 5 / 77 - 78 المطبعة العلمية.
(2) المغني 8 / 360، والإنصاف 4 / 122، طبع مطبعة السنة المحمدية 1375
(3) المغني 5 / 495، وحاشية الجمل 5 / 7، وشرح الزرقاني 8 / 8
(4) بدائع الصنائع 10 / 4779، طبع مصر مطبعة الإمام، والهداية بشرح فتح القدير 8 / 291 طبع بولاق سنة 1318، وحاشية الجمل 5 / 24

(3/154)


وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ. وَدَلِيل ذَلِكَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عِنْدَمَا حُوصِرَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَقَامَ الْجُمُعَةَ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ وَلاَ اسْتِئْذَانٍ مِنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ؛ وَلأَِنَّهَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، لاَ يَتَوَقَّفُ إِقَامَتُهَا عَلَى إِذْنٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّ إِذْنَ الإِْمَامِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَأْثُورُ عَنِ الأَْئِمَّةِ، وَالْمُتَوَارَثُ عَنْهُمْ، وَلأَِنَّ فِي هَذَا دَفْعًا لِلْفِتْنَةِ (1) .

ح - اسْتِئْذَانُ الْمَرْءُوسِ رَئِيسَهُ:
27 - أُقِيمَتِ الْوِلاَيَاتُ رِعَايَةً لِلْمَصَالِحِ وَحِفَاظًا عَلَيْهَا، وَاسْتِئْذَانُ مَنْ لَهُ الْوِلاَيَةُ فِي حُدُودِ وِلاَيَتِهِ أَمْرٌ لاَ بُدَّ مِنْهُ؛ لِتَسْتَقِيمَ الأُْمُورُ وَتُحْسَمَ الْفَوْضَى، وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ مِنْهُ.
إِذَا غَزَا الأَْمِيرُ بِالنَّاسِ، لَمْ يَحِل لأَِحَدٍ مِمَّنْ مَعَهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْمُعَسْكَرِ لِيُحْضِرَ الزَّادَ وَالْعَتَادَ، وَلاَ أَنْ يُبَارِزَ أَحَدًا مِنَ الْعَدُوِّ، وَلاَ أَنْ يُحْدِثَ حَدَثًا إِلاَّ بِإِذْنِهِ؛ لأَِنَّ الأَْمِيرَ أَعْرَفُ بِحَال النَّاسِ، وَحَال الْعَدُوِّ، وَمَكَامِنِهِمْ وَمَوَاضِعِهِمْ وَقُرْبِهِمْ وَبُعْدِهِمْ، فَإِذَا خَرَجَ خَارِجٌ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَمْ يَأْمَنْ أَنْ يُصَادِفَ كَمِينًا لِلْعَدُوِّ أَوْ طَلِيعَةً لَهُمْ فَيَأْخُذُوهُ، أَوْ يَرْحَل الأَْمِيرُ بِالْمُسْلِمِينَ وَيَتْرُكُهُ فَيَهْلَكُ (2) .
وَمَنْ كَانَ مَعَ الْجَيْشِ فِي الْغَزْوِ فَأَرَادَ الْجَيْشُ أَنْ
__________
(1) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 83 - 84، والأحكام السلطانية للماوردي ص 103، والمقنع 1 / 249، 453، والطحاوي على مراقي الفلاح ص 278، وحاشية الدسوقي 1 / 384
(2) المغني 8 / 367

(3/155)


يَنْتَقِل مِنْ مَوْقِعٍ لآِخَرَ، وَأَرَادَ بَعْضُ الْجُنْدِ التَّخَلُّفَ لأَِمْرٍ مَا، لاَ يَحِل لأَِحَدٍ مِنْهُمُ التَّخَلُّفُ عَنِ الْمَسِيرِ مَعَ الْجَيْشِ، إِلاَّ بِإِذْنٍ (1) .
وَإِذَا جَمَعَ الإِْمَامُ أَوِ الأَْمِيرُ أُولِي الرَّأْيِ لاِسْتِشَارَتِهِمْ فِي أَمْرٍ مِنَ الأُْمُورِ، فَلَيْسَ لأَِحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَنْصَرِفَ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ. إِلَى رَأْيِهِ (2) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ} (3) وَالآْيَةُ لَيْسَتْ خَاصَّةً بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأَِنَّ الْوُلاَةَ خُلَفَاءُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ فَتَنْطَبِقُ عَلَيْهِ الآْيَةُ

ط - اسْتِئْذَانُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا لِلْخُرُوجِ مِنْ مَنْزِلِهِ:
28 - عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَسْتَأْذِنَ زَوْجَهَا لِلْخُرُوجِ مِنْ مَنْزِلِهِ، لأَِنَّ احْتِبَاسَهَا حَقٌّ لَهُ، فَإِنْ خَرَجَتْ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ فَلَهُ أَنْ يُؤَدِّبَهَا، لاَ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ حَالاَتُ الضَّرُورَةِ (4) أَوْ الْحَاجَةِ.
وَاسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ مِنْ ذَلِكَ خُرُوجَ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا فِي حَالَةِ النَّفِيرِ الْعَامِّ، بِهُجُومِ الْعَدُوِّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ خُرُوجَهَا لِخِدْمَةِ أَبِيهَا الزَّمِنِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ مَنْ يَخْدُمُهُ، وَخُرُوجِهَا لِلاِسْتِفْتَاءِ فِي حَادِثَةٍ وَقَعَتْ لَهَا، وَلاَ يُوجَدُ مَنْ يُعَرِّفَهَا
__________
(1) المغني 8 / 370
(2) تفسير القرطبي 12 / 320
(3) سورة النور / 62
(4) إحياء علوم الدين 2 / 57، طبع مطبعة الاستقامة، وشرح الزرقاني 2 / 90، وأسنى المطالب 3 / 239، ط المكتبة الإسلامية، والمغني 7 / 20، 46

(3/155)


حُكْمَ الشَّرْعِ فِيهَا إِنْ لَمْ تَخْرُجْ (1) . وَهَذَا إِنْ خَشِيَتْ أَنْ تَقَعَ فِي مَحْظُورٍ.

ي - اسْتِئْذَانُ الأَْبَوَيْنِ فِيمَا يَكْرَهَانِهِ:
29 - إِذَا أَرَادَ الإِْنْسَانُ أَنْ يَأْتِيَ عَمَلاً لَهُ مِنْهُ بُدٌّ، وَيَكْرَهُهُ وَالِدَاهُ، فَلاَ يَحِل لَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ إِلاَّ بَعْدَ اسْتِئْذَانِهِمَا فِيهِ، بِرًّا بِهِمَا، وَمُرَاعَاةً لِحَقِّهِمَا، إِلاَّ إِنْ كَانَ أَبَوَاهُ كَافِرَيْنِ، وَيَكْرَهَانِ هَذَا الْعَمَل؛ لِمَا فِيهِ مِنْ نُصْرَةِ الإِْسْلاَمِ وَالْمُسْلِمِينَ، كَالْجِهَادِ وَالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لاَ عِبْرَةَ بِإِذْنِهِمَا أَوْ عَدَمِهِ.
وَخَالَفَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فِي ذَلِكَ فَقَال: لاَ يَغْزُو إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا وَلَوْ كَانَا كَافِرَيْنِ، لِعُمُومِ الأَْخْبَارِ الَّتِي سَيَأْتِي ذِكْرُهَا. وَبِنَاءً عَلَى هَذَا، فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْوَلَدُ أَنْ يَخْرُجَ، لِمَا يُخَافُ عَلَيْهِ الْهَلاَكُ مِنْهُ، كَخُرُوجِهِ إِلَى غَزْوٍ غَيْرِ مَفْرُوضٍ عَلَيْهِ عَيْنًا، أَوْ أَرَادَ الْخُرُوجَ لِمَا لاَ يُخْشَى عَلَيْهِ الْهَلاَكُ مِنْهُ، وَلَكِنْ يُخْشَى عَلَيْهِمَا الضَّيْعَةُ، كَمَنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى الْحَجِّ وَأَبَوَاهُ مُعْسِرَانِ وَنَفَقَتُهُمَا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ مِنَ الْمَال مَا يَفِي بِنَفَقَةِ الْحَجِّ - مِنَ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ - وَنَفَقَتِهِمَا، وَكَمَا إِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ فِي بَلْدَةٍ أُخْرَى، أَوْ لِلتِّجَارَةِ، وَخَافَ عَلَى وَالِدَيْهِ الضَّيْعَةَ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ أَنَّهُ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُول اللَّهِ فَقَال: جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى
__________
(1) فتح القدير 2 / 520 طبع بولاق، وشرح السير الكبير 1 / 201، والفتاوى الهندية 5 / 365، وابن عابدين 2 / 140، والمغني 8 / 358، والزرقاني 3 / 111، وحاشية الجمل 5 / 190 - 191، وحاشية قليوبي2 / 146

(3/156)


الْهِجْرَةِ وَتَرَكْتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْجِعْ فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا. (1)
وَلِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ أُجَاهِدُ؟ فَقَال: أَلَكَ أَبَوَانِ؟ قَال: نَعَمْ، قَال: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ. (2)
أَمَّا إِنْ كَانَ الْعَمَل لاَ بُدَّ لَهُ مِنْهُ، كَافْتِرَاضِهِ عَلَيْهِ فَرْضَ عَيْنٍ فَلاَ يُشْتَرَطُ اسْتِئْذَانُهُمَا لِعَمَلِهِ، كَمَا فِي حَالَةِ الْجِهَادِ، إِذَا هَجَمَ الْعَدُوُّ عَلَى بَلَدٍ مِنْ بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ لِدَفْعِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ أَبِيهِ (3) .

ك - الاِسْتِئْذَانُ فِي الْعَزْل عَنِ الزَّوْجَةِ:
30 - الأَْصْل أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ الْحَقَّ فِي إِنْجَابِ الأَْوْلاَدِ، فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَعْزِل عَنْ زَوْجَتِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهَا، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الأَْوْلَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تَتَّخِذَ أَيَّ وَسِيلَةٍ لِمَنْعِ الْحَمْل إِلاَّ بِإِذْنِهِ.
لِحَدِيثِ: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْزَل عَنِ الْحُرَّةِ إِلاَّ بِإِذْنِهَا. رَوَاهُ الإِْمَامُ أَحْمَدُ، وَالْوَجْهُ الآْخَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ تَأْذَنْ (4) .
__________
(1) أخرجه النسائي وأبو داود في الجهاد.
(2) أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 403 ط السلفية) ، ومسلم (4 / 1975 - ط عيسى الحلبي) إلا أنه قال: أحي والداك؟ .
(3) الفتاوى الهندية 5 / 365 طبع بولاق سنة 1310، وحاشية ابن عابدين 2 / 140، والمغني 8 / 358 وما بعدها، وشرح الزرقاني 3 / 111، وحاشية الجمل 5 / 190 - 191 طبع دار إحياء التراث العربي، وحاشية قليوبي 2 / 146
(4) ابن عابدين 5 / 239، والبدائع 6 / 2965 ط الإمام، والمغني 7 / 24، وفتاوى الشيخ عليش 1 / 398، والمهذب 2 / 67. والحديث أخرجه ابن ماجه (1 / 620 ط عيسى الحلبي) وأحمد (1 / 31 ط الميمنية) ، ونقل محقق سنن ابن ماجه عن البوصيري أنه قال في الزوائد: في إسناده ابن لهيعه وهو ضعيف، وبه أعله ابن حجر في التلخيص الحبير (3 / 188 ط شركة الطباعة الفنية المتحدة بالقاهرة) .

(3/156)


ل - اسْتِئْذَانُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ:
31 - لاَ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ صَوْمَ تَطَوُّعٍ بِحَضْرَةِ زَوْجِهَا إِلاَّ بَعْدَ اسْتِئْذَانِهِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَصُومُ الْمَرْأَةُ وَبَعْلُهَا شَاهِدٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ (1) . وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَلاَّ تُفَوِّتَ عَلَيْهِ حَقًّا مِنْ حُقُوقِهِ، كَالْوَطْءِ وَدَوَاعِيهِ، وَانْظُرْ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صِيَام) .

م - اسْتِئْذَانُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِي إِرْضَاعِ غَيْرِ وَلَدِهَا:
32 - إِذَا أَرَادَتِ الْمَرْأَةُ إِرْضَاعَ غَيْرِ وَلَدِهَا فَعَلَيْهَا اسْتِئْذَانُ زَوْجِهَا فِي ذَلِكَ، إِلاَّ إِذَا تَعَيَّنَتْ لإِِرْضَاعِهِ، فَإِنَّ عَلَيْهَا إِرْضَاعَهُ وَلَوْ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ (2) (ر: رَضَاع) .

ن - اسْتِئْذَانُ الرَّجُل زَوْجَتَهُ لِلْمَبِيتِ عِنْدَ غَيْرِهَا فِي لَيْلَتِهَا:
33 - لاَ يَجُوزُ لِلرَّجُل أَنْ يَبِيتَ عِنْدَ غَيْرِ صَاحِبَةِ الْحَقِّ فِي الْقَسْمِ إِلاَّ بِإِذْنِهَا (3) . (ر: نِكَاح، قَسْم)

س - اسْتِئْذَانُ الضَّيْفِ الْمُضِيفَ لِلاِنْصِرَافِ:
34 - لاَ يَجُوزُ لِلضَّيْفِ أَنْ يَنْصَرِفَ مِنْ بَيْتِ مُضِيفِهِ إِلاَّ بَعْدَ اسْتِئْذَانِهِ (4) . قَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ:
__________
(1) أخرجه البخاري في النكاح، باب صوم المرأة بإذن زوجها تطوعا، وانظر ما جاء في عمدة القاري 20 / 184، وتحفة الأحوذي 3 / 495 طبع دار الاتحاد العربي للطباعة.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 372
(3) شرح الزرقاني 2 / 58، وأسنى المطالب 3 / 231، وحاشية الجمل 2 / 58، والشرح الصغير 2 / 508، 509
(4) الفتاوى الهندية 5 / 344، 345

(3/157)


الرَّجُل تَدْخُل عَلَيْهِ فِي بَيْتِهِ لاَ تَخْرُجُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، هُوَ عَلَيْكَ أَمِيرٌ مَا دُمْتَ فِي بَيْتِهِ (1) .

ع - اسْتِئْذَانُ الرَّجُل لِلْجُلُوسِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ فِي بَيْتِهِ:
35 - عَلَى الرَّجُل إِذَا دَخَل بَيْتَ إِنْسَانٍ أَلاَّ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ فِي الصَّلاَةِ، وَلاَ يَجْلِسَ فِي مَكَانِ جُلُوسِهِ الْمُخَصَّصِ لَهُ، إِلاَّ بَعْدَ اسْتِئْذَانِهِ، لِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُؤَمُّ الرَّجُل فِي سُلْطَانِهِ، وَلاَ يُجْلَسُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ (2) .

ف - اسْتِئْذَانُ الشَّخْصَيْنِ لِلْجُلُوسِ بَيْنَهُمَا:
36 - إِذَا أَرَادَ الشَّخْصُ أَنْ يَجْلِسَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَعَلَيْهِ اسْتِئْذَانُهُمَا؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل لِلرَّجُل أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ اثْنَيْنِ إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا (3) وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا مَحَبَّةٌ وَمَوَدَّةٌ، أَوْ حَدِيثُ سِرٍّ، وَجُلُوسُهُ بَيْنَهُمَا يَسُوءُهُمَا.

ص - الاِسْتِئْذَانُ لِلنَّظَرِ فِي كِتَابِ غَيْرِهِ:
37 - إِذَا أَرَادَ الشَّخْصُ أَنْ يَنْظُرَ فِي كِتَابٍ فِيهِ مَا يَخُصُّ غَيْرَهُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْذِنَهُ قَبْل النَّظَرِ؛ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ
__________
(1) آثار أبي يوسف برقم 413 طبع مطبعة الاستقامة.
(2) تحفة الأحوذي 8 / 55، طبع مطبعة الفجالة الجديدة، وسنن الترمذي في الأدب برقم 2922
(3) أخرجه الترمذي في الأدب، باب ما جاء في كراهية الجلوس بين الرجلين بغير إذنهما، وأخرجه أبو داود بلفظ (لا يجلس بين رجلين إلا بإذنهما) وانظر: تحفة الأحوذي 8 / 28

(3/157)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَظَرَ فِي كِتَابِ أَخِيهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنَّمَا يَنْظُرُ فِي النَّارِ (1) لِئَلاَّ يَفْتَضِحَ لِذَلِكَ الْغَيْرِ سِرٌّ.

ق - اسْتِئْذَانُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِيمَا تُنْفِقُهُ مِنْ مَالِهَا:
38 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْبَالِغَةَ الرَّشِيدَةَ تَتَصَرَّفُ فِي مَالِهَا بِمِلْءِ حُرِّيَّتِهَا دُونَ اسْتِئْذَانِ أَحَدٍ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَطَاوُسٌ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُتَزَوِّجَةَ لاَ تَتَبَرَّعُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مِنْ مَالِهَا، إِلاَّ بَعْدَ اسْتِئْذَانِ زَوْجِهَا، وَهَل إِذَا تَصَرَّفَتْ يَكُونُ تَصَرُّفُهَا نَافِذًا حَتَّى يَرُدَّهُ الزَّوْجُ، أَوْ يَكُونُ مَرْدُودًا حَتَّى يُجِيزَهُ؟ قَوْلاَنِ لِلْمَالِكِيَّةِ (2) .
وَذَهَبَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لاَ يَجُوزُ لَهَا التَّبَرُّعُ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ أَقَل مِنَ الثُّلُثِ أَمْ أَكْثَرَ، إِلاَّ بَعْدَ اسْتِئْذَانِ زَوْجِهَا (3) . أَمَّا غَيْرُ التَّبَرُّعِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ، فَهِيَ وَالرَّجُل فِيهِ سَوَاءٌ (ر: حَجْر)

ر - مَا لاَ يَحْتَاجُ أَصْلاً إِلَى اسْتِئْذَانٍ:
39 - تَصَرُّفُ الإِْنْسَانِ غَيْرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِي مِلْكِهِ أَوْ حَقِّهِ تَصَرُّفًا غَيْرَ مُضِرٍّ بِالْغَيْرِ، لاَ يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْذَانِ أَحَدٍ؛ لأَِنَّ الإِْذْنَ لِصَاحِبِ الْمِلْكِ أَوْ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَاسْتِئْذَانُ الإِْنْسَانِ نَفْسَهُ ضَرْبٌ مِنَ الْعَبَثِ الَّذِي تَتَنَزَّهُ عَنْهُ الشَّرِيعَةُ.
__________
(1) الحديث أخرجه أبو داود في الدعاء، وقال في المنهل العذب الورود: والحديث وإن كان ضعيفا فإن له شواهد تقويه 8 / 152
(2) شرح الزرقاني 5 / 306، ونيل الأوطار 6 / 18 - 19 طبع المطبعة العثمانية المصرية.
(3) نيل الأوطار 6 / 18 - 19

(3/158)


فَمَنْ أَرَادَ بَيْعَ مَالِهِ، أَوْ أَكْل طَعَامِهِ، لَيْسَ بِحَاجَةٍ إِلَى اسْتِئْذَانٍ، وَمِنْ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ فِي الْمِلْكِيَّاتِ الْعَامَّةِ، كَالطُّرُقَاتِ وَالْمَسَاجِدِ وَالأَْنْهَارِ الْعَامَّةِ، لأَِنَّ لِكُل وَاحِدٍ فِيهَا حَقًّا، فَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْذَانٍ لِتَصَرُّفِهِ فِيهَا التَّصَرُّفَ الْمَشْرُوعَ الَّذِي لاَ يَضُرُّ بِالآْخَرِينَ (1) .
وَمِنْ ذَلِكَ الْقِيَامُ بِالْفُرُوضِ الْعَيْنِيَّةِ كَأَدَاءِ الصَّلاَةِ، وَمُقَاتَلَةِ الأَْعْدَاءِ الْمُغِيرِينَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ.

و مَا يَسْقُطُ فِيهِ الاِسْتِئْذَانُ لِسَبَبٍ:
أ - تَعَذُّرُ الإِْذْنِ:
40 - يَسْقُطُ الاِسْتِئْذَانُ حَال تَعَذُّرِ الإِْذْنِ لِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ التَّعَذُّرِ، كَمَوْتِ صَاحِبِ الإِْذْنِ، أَوْ سَفَرِهِ سَفَرًا بَعِيدًا، أَوْ حَبْسِهِ وَمَنْعِهِ مِنْ مُقَابَلَةِ أَحَدٍ، وَكَانَ التَّصَرُّفُ لاَ يُمْكِنُ تَأْخِيرُهُ إِلَى حِينِ قُدُومِهِ مِنَ السَّفَرِ، أَوْ خُرُوجِهِ مِنَ الْحَبْسِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمِنْ هُنَا نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ إِنْقَاقِ بَعْضِ أَهْل الْمَحَلَّةِ عَلَى مَسْجِدٍ لاَ مُتَوَلِّي لَهُ مِنْ غَلَّتِهِ. وَجَوَازُ إِنْفَاقِ الْوَرَثَةِ الْكِبَارِ عَلَى الْوَرَثَةِ الصِّغَارِ الَّذِينَ لاَ وَلِيَّ لَهُمْ، وَجَوَازُ إِنْفَاقِ الْمُودَعِ لَدَيْهِ عَلَى أَبَوَيِ الْمُودِعِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِهِ، إِنْ كَانَ فِي مَكَانٍ لاَ يُمْكِنُ فِيهِ اسْتِطْلاَعُ رَأْيِ الْقَاضِي.
وَمِثْلُهُ إِنْفَاقُ الْمُودَعِ لَدَيْهِ عَلَى الْوَدِيعَةِ، إِنِ احْتَاجَتْ إِلَى النَّفَقَةِ (2) ، وَجَوَازُ إِنْفَاقِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فِي الطَّرِيقِ، بَعْدَ مَوْتِ مَنْ أَذِنَ لَهُ،
__________
(1) المغني 5 / 520، 541، و 4 / 518
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 127. والمغني 6 / 396

(3/158)


وَجَوَازُ بَيْعِ الرُّفْقَةِ فِي السَّفَرِ أَمْتِعَةَ الْمُتَوَفَّى مِنْهُمْ، لِتَجْهِيزِهِ مِنْ ثَمَنِهَا (1) .

ب - دَفْعُ الضَّرَرِ:
41 - يَسْقُطُ الاِسْتِئْذَانُ إِنْ كَانَ فِي الاِسْتِئْذَانِ ضَرَرٌ، فَيَجُوزُ بَيْعُ مَا يُخَافُ عَلَيْهِ التَّلَفُ مِنَ الأَْمَانَاتِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، وَيَجُوزُ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُزَوِّجَ مَنْ غَابَ وَلِيُّهَا، أَوْ حُبِسَ وَمُنِعَ مِنَ الْوُصُول إِلَيْهِ دَفْعًا لِضَرَرِ الاِنْتِظَارِ، وَيَجُوزُ دُخُول الْبَيْتِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ إِنْ كَانَ ذَلِكَ الدُّخُول يَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِ جَرِيمَةٍ (2) .

ج - الْحُصُول عَلَى حَقٍّ لاَ يُمْكِنُ
الْحُصُول عَلَيْهِ بِالاِسْتِئْذَانِ:
42 - يَسْقُطُ الاِسْتِئْذَانُ عَنْ صَاحِبِ الْحَقِّ، إِنْ كَانَ الاِسْتِئْذَانُ يُفَوِّتُ حَقَّهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْل مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} . (3)
فَيَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَال زَوْجِهَا مَا يَكْفِيهَا وَوَلَدَهَا بِالْمَعْرُوفِ، مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، إِذَا مَنَعَهَا النَّفَقَةَ (4) ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لَهَا، وَيَجُوزُ لِلضَّيْفِ أَنْ يَأْخُذَ مَا يَأْكُلُهُ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ إِذَا مَنَعَ قِرَاهُ (5) ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 127
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 127 و3 / 180 - 181، وجواهر الإكليل 1 / 251، وحاشية قليوبي3 / 33، 228، ومعالم القربة في أحكام الحسبة ص 37 - 38
(3) سورة البقرة / 194، وانظر حاشية الدسوقي 3 / 431 طبع دار الفكر، وحاشية القليوبي 4 / 335، والمغني 9 / 327
(4) المغني 8 / 278
(5) المغني 8 / 278 و613

(3/159)


وَيَجُوزُ لِمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ دَيْنٌ فَجَحَدَهُ إِيَّاهُ. وَلاَ بَيِّنَةَ لَهُ عَلَيْهِ، أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ مَا يَقَعُ وَفَاءً لِحَقِّهِ، بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ مِنْهُ (1) ، بِشُرُوطٍ وَخِلاَفٍ يَسِيرٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مَوْضِعِهِ.

اسْتِئْسَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِئْسَارُ لُغَةً: بِمَعْنَى تَسْلِيمِ النَّفْسِ لِلأَْسْرِ، يُقَال: اسْتَأْسِرْ أَيْ: كُنْ لِي أَسِيرًا (2) ، وَاسْتَأْسَرَ الرَّجُل لِلْعَدُوِّ: إِذَا أَعْطَى بِيَدِهِ وَانْقَادَ (3) . وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الْفِقْهِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الاِسْتِسْلاَمُ:
2 - الاِسْتِسْلاَمُ: هُوَ الاِنْقِيَادُ (4) . وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الاِسْتِئْسَارِ، فَقَدْ يَكُونُ الاِسْتِسْلاَمُ فِي غَيْرِ الْحَرْبِ.

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - الأَْصْل أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الاِسْتِئْسَارُ إِلاَّ لِمُقْتَضًى شَرْعِيٍّ، وَمَعَ ذَلِكَ إِذَا خَشِيَ الأَْسْرَ فَالأَْوْلَى لَهُ أَنْ يُقَاتِل حَتَّى يُقْتَل، وَلاَ يُسَلِّمَ نَفْسَهُ لِلأَْسْرِ؛ لأَِنَّهُ
__________
(1) المغني 9 / 327
(2) الصحاح ولسان العرب، مادة (أسر) .
(3) المغرب في ترتيب المعرب، ونيل الأوطار 7 / 269 ط مصطفى الحلبي.
(4) المصباح المنير.

(3/159)


يَفُوزُ بِثَوَابِ الدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ، وَيَسْلَمُ مِنْ تَحَكُّمِ الْكُفَّارِ عَلَيْهِ، بِالتَّعْذِيبِ وَالاِسْتِخْدَامِ وَالْفِتْنَةِ، وَإِنِ اسْتَأْسَرَ جَازَ، كَمَا يَشْهَدُ لِذَلِكَ قِصَّةُ عَاصِمِ بْنِ ثَابِتٍ الأَْنْصَارِيِّ وَأَصْحَابِهِ، فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَشَرَةً عَيْنًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ، فَنَفَرَتْ إِلَيْهِمْ هُذَيْلٌ بِقَرِيبٍ مِنْ مِائَةِ رَجُلٍ رَامٍ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِهِمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ لَجَئُوا إِلَى فَدْفَدٍ، فَقَالُوا لَهُمْ: انْزِلُوا، فَأَعْطُونَا بِأَيْدِيكُمْ، وَلَكُمُ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ أَلاَّ نَقْتُل مِنْكُمْ أَحَدًا، فَقَال عَاصِمٌ: أَمَّا أَنَا فَلاَ أَنْزِل فِي ذِمَّةِ كَافِرٍ، فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْل فَقَتَلُوا عَاصِمًا فِي سَبْعَةٍ مَعَهُ، وَنَزَل إِلَيْهِمْ ثَلاَثَةٌ عَلَى الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ، مِنْهُمْ خُبَيْبٌ وَزَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ، فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ، أَطْلَقُوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ فَرَبَطُوهُمْ بِهَا. (1) قَال صَاحِبُ الْمُغْنِي: فَعَاصِمٌ أَخَذَ بِالْعَزِيمَةِ، وَخَبِيبٌ وَزَيْدٌ أَخَذَا بِالرُّخْصَةِ، وَكُلُّهُمْ مَحْمُودٌ غَيْرُ مَذْمُومٍ وَلاَ مَلُومٍ (2) .

مَوْطِنُ الْبَحْثِ:
أَبْوَابُ الْجِهَادِ وَالسِّيَرِ، عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ الْفِرَارِ وَالزَّحْفِ فِي الْقِتَال.
__________
(1) أخرجه البخاري (فتح الباري 7 / 308، 378، 379 ط السلفية) وأبو داود (3 / 4، 5 بشرحه عون المعبود - نشر دار الكتاب العربي) .
(2) الدر بهامش حاشية ابن عابدين 3 / 222 ط بولاق، والمواق 3 / 357 ط ليبيا، وكشف الغمة عن جميع الأمة للشعراني 2 / 154 ط الحلبي، والمغني10 / 553 ط المنار.

(3/160)


اسْتِئْمَارٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِئْمَارُ فِي اللُّغَةِ: الْمُشَاوَرَةُ (1) . وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: هُوَ طَلَبُ الأَْمْرِ أَوِ الإِْذْنِ (2) . وَمِمَّا اسْتَعْمَل الْفُقَهَاءُ الاِسْتِئْمَارَ فِيهِ: إِذْنُ الْبَالِغَةِ عِنْدَ تَزْوِيجِهَا.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الاِسْتِئْذَانُ:
2 - الاِسْتِئْذَانُ طَلَبُ الإِْذْنِ، يُقَال اسْتَأْذَنْتُهُ: طَلَبْتُ مِنْهُ الإِْذْنَ فِي كَذَا، فَأَذِنَ لِي، وَقَدْ يُعْرَفُ الإِْذْنُ بِالسُّكُوتِ، وَالأَْمْرُ لاَ يُعْلَمُ إِلاَّ بِالنُّطْقِ (3) .
يَدُل عَلَى ذَلِكَ قَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ، وَالأَْيِّمُ تُسْتَأْمَرُ (4)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - اسْتِئْمَارُ الْمَرْأَةِ فِي تَزْوِيجِهَا مَطْلُوبٌ شَرْعًا، إِمَّا عَلَى سَبِيل الْوُجُوبِ، بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ فِي الثَّيِّبِ
__________
(1) لسان العرب مادة (أمر) .
(2) فتح القدير على الهداية 2 / 396 دار صادر.
(3) المصباح المنير مادة (أذن) ، والنهاية لابن الأثير ولسان العرب مادة: (أمر) .
(4) حديث " البكر تستأذن. . . "، ورد بلفظ: " لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 191 و 12 / 340 ط السلفية) ، ومسلم 2 / 1036 - بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي - طبع عيسى الحلبي) .

(3/160)


الْكَبِيرَةِ الْعَاقِلَةِ، وَإِمَّا عَلَى سَبِيل النَّدْبِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لِلْبِكْرِ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ. وَأَوْجَبَ ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ.
وَيَنْدُبُ اسْتِئْمَارُ الأُْمِّ، تَطْيِيبًا لِخَاطِرِهَا فِي تَزْوِيجِ بِنْتِهَا (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ. مُصْطَلَحُ: (نِكَاح) .

اسْتِئْمَانٌ
:

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِئْمَانُ فِي اللُّغَةِ: طَلَبُ الأَْمَانِ. يُقَال: اسْتَأْمَنَهُ: طَلَبَ مِنْهُ الأَْمَانَ، وَاسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ: دَخَل فِي أَمَانِهِ، وَقَدْ أَمَّنَهُ وَآمَنَهُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: دُخُول دَارِ الْغَيْرِ (أَيْ إِقْلِيمِهِ) بِأَمَانٍ، مُسْلِمًا كَانَ الدَّاخِل أَوْ حَرْبِيًّا (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعَهْدُ:
2 - الأَْصْل فِي مَعْنَاهُ: حِفْظُ الشَّيْءِ وَمُرَاعَاتُهُ حَالاً بَعْدَ حَالٍ، ثُمَّ اسْتُعْمِل فِي الْمُوثَقِ الَّذِي يَلْزَمُ مُرَاعَاتُهُ. فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَهْدِ وَالاِسْتِئْمَانِ: أَنَّ الْعَهْدَ
__________
(1) المبسوط للسرخسي 4 / 218، والمغني 6 / 491، والحطاب 3 / 434، 435 ط ليبيا، وفتح القدير على الهداية 2 / 396 ط دار صادر، وحاشية القليوبي 3 / 222، ونهاية المحتاج 6 / 224 ط المكتب الإسلامي.
(2) المصباح، ولسان العرب مادة (أمن) ، ورد المحتار 3 / 247، والتعريفات للجرجاني.

(3/161)


أَعَمُّ مِنَ الاِسْتِئْمَانِ (1) .

ب - الذِّمَّةُ:
3 - مِنْ مَعَانِي الذِّمَّةِ فِي اللُّغَةِ: الْعَهْدُ، وَالأَْمَانُ، وَالضَّمَانُ. وَمِنْ مَعَانِيهَا فِي الاِصْطِلاَحِ: إِقْرَارُ بَعْضِ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِمْ، بِشَرْطِ بَذْل الْجِزْيَةِ، وَالْتِزَامِ أَحْكَامِ الْمِلَّةِ. فَالْفَرْقُ بَيْنَ الذِّمَّةِ وَالاِسْتِئْمَانِ، أَنَّ عَقْدَ الاِسْتِئْمَانِ مُؤَقَّتٌ، وَعَقْدَ الذِّمَّةِ مُؤَبَّدٌ فِي الأَْصْل (2) .

ج - الاِسْتِجَارَةُ:
4 - الاِسْتِجَارَةُ مِنْ مَعَانِيهَا لُغَةً: طَلَبُ شَخْصٍ مِنْ آخَرَ أَنْ يَحْفَظَهُ وَيَحْمِيَهُ. وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ ذَلِكَ.
فَالاِسْتِجَارَةُ أَعَمُّ؛ لأَِنَّهَا تَشْمَل كُل أَحْوَال طَلَبِ الْحِمَايَةِ، بِخِلاَفِ الاِسْتِئْمَانِ، فَإِنَّهُ فِي دُخُول دَارِ الإِْسْلاَمِ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِ وَعَكْسِهِ.

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
5 - اسْتِئْمَانُ رَايَةٍ أَوْ عَلاَمَةٍ تَدُل عَلَى الأَْمَانِ - جَائِزٌ بِشُرُوطٍ وَتَفْصِيلاَتٍ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (مُسْتَأْمَن)
فَإِذَا تَمَّ ذَلِكَ حُرِّمَتْ أَمْوَالُهُمْ وَدِمَاؤُهُمْ.
كَمَا يَجُوزُ اسْتِئْمَانُ الْمُسْلِمِ لِدُخُول دَارِ الْحَرْبِ لِتِجَارَةٍ، أَوْ تَبْلِيغِ رِسَالَةٍ، إِذَا كَانُوا مِمَّنْ يُوفُونَ بِالْعَهْدِ؛ لأَِنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ تَعَرُّضِهِمْ لَهُ (3) .
__________
(1) المصباح، ولسان العرب مادة (عهد)
(2) المصباح، ولسان العرب مادة (ذم)
(3) ابن عابدين 3 / 224، 227، 247 ط بولاق، والمغني 8 / 396، 399، 4 / 402، وقليوبي وعميرة 4 / 105، 172، 225، 226، وجواهر الإكليل 1 / 257، 258، 255 ط شقرون، وبدائع الصنائع 9 / 4321 ط الإمام.

(3/161)


اسْتِئْنَاسٌ
:

التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الاِسْتِئْنَاسِ فِي اللُّغَةِ: الاِسْتِئْذَانُ. وَاسْتَأْنَسَ بِهِ: سَكَنَ إِلَيْهِ قَلْبُهُ، وَاسْتَأْنَسَ الْحَيَوَانُ: ذَهَبَ تَوَحُّشُهُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الاِسْتِئْذَانُ:
2 - الاِسْتِئْذَانُ: طَلَبُ الإِْذْنِ فِي شَيْءٍ مَا، فَالاِسْتِئْذَانُ مُرَادِفٌ لِلاِسْتِئْنَاسِ بِالإِْطْلاَقِ الأَْوَّل.

أَوَّلاً - بِمَعْنَى الاِسْتِئْذَانِ
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - الاِسْتِئْنَاسُ مَطْلُوبٌ شَرْعًا فِي الْجُمْلَةِ عَلَى تَفْصِيلٍ، مَوْضِعُهُ (اسْتِئْذَانٌ (2)) .

ثَانِيًا - بِمَعْنَى اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ
4 - الاِسْتِئْنَاسُ بِمَعْنَى اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ، لَهُ صُوَرٌ مِنْهَا: الاِسْتِئْنَاسُ بِالرُّفْقَةِ فِي السَّفَرِ، وَالاِسْتِئْنَاسُ بِمَجَالِسِ الصَّالِحِينَ، وَإِينَاسُ الْمُحْتَضَرِ، وَمَنِ
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب مادة: (أنس) .
(2) القرطبي 12 / 212 ط دار الكتب، والفخر الرازي 23 / 196، والألوسي 18 / 134، وابن عابدين 1 / 374 و 5 / 265 ط بولاق.

(3/162)


اشْتَدَّ بِهِ الْمَرَضُ إِذَا كَانَ يَسْتَأْنِسُ بِذَلِكَ، وَهُوَ مَطْلُوبٌ فِي الْجُمْلَةِ كَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ خَيْرٍ وَرَحْمَةٍ، لَكِنْ إِنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ بِإِيذَاءِ صَاحِبِ الْبَيْتِ، أَوْ كَانَ ذَرِيعَةً إِلَى مَفْسَدَةٍ، فَهُوَ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} . (1)
وَقَدْ أَجَازَ الْعُلَمَاءُ تَرْكَ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ، إِذَا كَانَ أَدَاؤُهُمَا يُؤَدِّي إِلَى تَخَلُّفِهِ عَنِ الرَّكْبِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ فَوَاتِ اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ بِالأُْنْسِ بِالرُّفْقَةِ. وَيَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ، إِذَا كَانَ طَلَبُ الْمَاءِ يُفَوِّتُ عَلَيْهِ الرُّفْقَةَ، أَوْ يَشُقُّ عَلَى الْمُحْتَضَرِ أَوِ الْمَرِيضِ. وَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي مَبَاحِثِ (التَّيَمُّمِ، وَالسَّفَرِ، وَالاِحْتِضَارِ وَالْمَرَضِ) . (2)

ثَالِثًا - بِمَعْنَى ذَهَابِ التَّوَحُّشِ

5 - يَجُوزُ تَرْوِيضُ الْحَيَوَانِ الْمُتَوَحِّشِ لِيَسْتَأْنِسَ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ، مِنْ كَوْنِهِ يُنْتَفَعُ بِجِلْدِهِ أَوْ عَظْمِهِ أَوْ لَحْمِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَيَتَرَتَّبُ عَلَى اسْتِئْنَاسِ الْحَيَوَانِ الْمُتَوَحِّشِ آثَارٌ مِنْهَا: أَنْ تَكُونَ تَذْكِيَتُهُ كَالْمُسْتَأْنِسِ، إِنْ كَانَ مِمَّا يَحِل أَكْلُهُ، وَتَجْرِي عَلَيْهِ كُل أَحْكَامِ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَجْرِي عَلَى سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الْمُسْتَأْنِسَةِ. وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَى مَبَاحِثِ (الذَّكَاةِ وَالصَّيْدِ) . (3)
__________
(1) سورة الأحزاب / 53
(2) بدائع الصنائع 1 / 186 ط زكريا يوسف، وابن عابدين 1 / 384 ط بولاق الأولى، وحاشية الجمل 1 / 199 ط إحياء التراث العربي، والمغني 1 / 239 ط السعودية، وحاشية الدسوقي 1 / 149، 150 ط دار الفكر.
(3) ابن عابدين 5 / 298 - 305، والدسوقي 2 / 103 - 109، ونهاية المحتاج 8 / 117، والمغني مع الشرح الكبير11 / 26

(3/162)


اسْتِئْنَافٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الاِسْتِئْنَافِ لُغَةً: الاِبْتِدَاءُ وَالاِسْتِقْبَال، وَقَدِ اسْتَأْنَفَ الشَّيْءَ أَخَذَ أَوَّلَهُ وَابْتَدَأَهُ (1) .
وَبِتَتَبُّعِ اسْتِعْمَالاَتِ هَذَا الْمُصْطَلَحِ لَدَى الْفُقَهَاءِ، يُمْكِنُ الْوُصُول إِلَى تَعْرِيفٍ بِأَنَّهُ: الْبَدْءُ بِالْمَاهِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ أَوَّلِهَا، بَعْدَ التَّوَقُّفِ فِيهَا وَقَطْعِهَا لِمَعْنًى خَاصٍّ (2) .
فَالاِسْتِئْنَافُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ قَطْعِ الْمَاهِيَّةِ الأُْولَى؛ لِمَا جَاءَ فِي رَدِّ الْمُحْتَارِ: " قَوْلُهُ (وَاسْتِئْنَافُهُ أَفْضَل) أَيْ: بِأَنْ يَعْمَل عَمَلاً يَقْطَعُ الصَّلاَةَ ثُمَّ يَشْرَعَ بَعْدَ الْوُضُوءِ، شُرُنْبُلاَلِيَّةٌ عَنِ الْكَافِي، وَفِي حَاشِيَةِ أَبِي السُّعُودِ عَنْ شَيْخِهِ: فَلَوْ لَمْ يَعْمَل مَا يَقْطَعُ الصَّلاَةَ، بَل ذَهَبَ عَلَى الْفَوْرِ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ كَبَّرَ يَنْوِي الاِسْتِئْنَافَ، لَمْ يَكُنْ مُسْتَأْنِفًا بَل بَانِيًا
. اهـ. (3)
__________
(1) تاج العروس مادة (أنف) 6 / 48، والمصباح المنير مادة (أنف) 1 / 35، والنهاية 1 / 75 - 76
(2) تبيين الحقائق 1 / 145، والمغني 1 / 244 - 245، والفروع 1 / 401، ورد المحتار 1 / 603، وبدائع الصنائع 4 / 2020 ط الإمام، والدسوقي 2 / 452، والمنهاج 1 / 279 - 280، والمجموع 4 / 457
(3) رد المحتار 1 / 603

(3/163)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْبِنَاءُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الْبِنَاءِ لُغَةً: أَنَّهُ ضِدُّ الْهَدْمِ، وَاصْطِلاَحًا: يَأْتِي بِمَعْنَى الْمُضِيِّ فِي الْمَاهِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَبْدُوءِ بِهَا إِلَى نِهَايَتِهَا، بَعْدَ زَوَال الْعَارِضِ الَّذِي قَطَعَهَا بِسَبَبِهِ،
وَمِثَالُهُ: أَنْ يَسْبِقَ الْمُصَلِّيَ حَدَثٌ، بَعْدَ أَنْ صَلَّى رَكْعَةً، فَيَتَوَضَّأَ، وَيَبْنِيَ عَلَى صَلاَتِهِ بِإِكْمَال مَا بَقِيَ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (1) . وَفِيهِ خِلاَفٌ تَفْصِيلُهُ فِي مَبَاحِثِ (الصَّلاَةِ) فَالْبِنَاءُ مُبَايِنٌ لِلاِسْتِئْنَافِ.

ب - الاِسْتِقْبَال:
3 - الاِسْتِقْبَال لُغَةً: الْمُوَاجَهَةُ، أَمَّا شَرْعًا: فَيَأْتِي مُرَادِفًا لِلاِسْتِئْنَافِ، وَمِثَالُهُ قَوْل الْكَاسَانِيِّ: إِذَا أَيِسَتِ الْمُعْتَدَّةُ بِالأَْقْرَاءِ، تَنْتَقِل عِدَّتُهَا إِلَى الأَْشْهُرِ، فَتَسْتَقْبِل الْعِدَّةَ بِهَا (2) . وَيَأْتِي بِمَعْنَى الاِتِّجَاهِ إِلَى الْقِبْلَةِ أَوْ غَيْرِهَا.

ج - الاِبْتِدَاءُ:
4 - مِنْ مَعَانِي الاِبْتِدَاءِ لُغَةً: التَّقْدِيمُ، وَالأَْخْذُ فِي الشَّيْءِ مِنْ أَوَّلِهِ، وَلاَ يَخْرُجُ التَّعْرِيفُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ ذَلِكَ. فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الاِسْتِئْنَافِ، أَنَّ الاِبْتِدَاءَ أَعَمُّ (3) .
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 145
(2) بدائع الصنائع 1 / 149 و4 / 2017 ط الإمام، وحاشية الشلبي على تبيين الحقائق 1 / 41، ورد المحتار1 / 393، والمغني 1 / 246
(3) المصباح.

(3/163)


د - الإِْعَادَةُ:
5 - مِنْ مَعَانِي الإِْعَادَةِ لُغَةً: فِعْل الشَّيْءِ ثَانِيَةً، وَمِنْهُ التَّكْرَارُ.
وَاصْطِلاَحًا: عَرَّفَهَا الْغَزَالِيُّ عِنْدَ كَلاَمِهِ عَنْ إِعَادَةِ الْمُوَقَّتِ: بِأَنَّهَا فِعْل الشَّيْءِ ثَانِيًا فِي الْوَقْتِ بَعْدَ فِعْلِهِ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الْخَلَل (1) .
وَتَفْتَرِقُ الإِْعَادَةُ عَنِ الاِسْتِئْنَافِ بِأَنَّهَا لاَ تَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ فِعْل الْعَمَل الأَْوَّل مَعَ خَلَلٍ مَا، أَمَّا الاِسْتِئْنَافُ فَلاَ يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ قَطْعِ الْعَمَل قَبْل تَمَامِهِ.

هـ: الْقَضَاءُ:
6 - الْقَضَاءُ لُغَةً: أَدَاءُ الشَّيْءِ، وَاصْطِلاَحًا: عَرَّفَهُ الْغَزَالِيُّ: بِأَنَّهُ فِعْل مِثْل مَا فَاتَ وَقْتُهُ الْمُحَدَّدِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الاِسْتِئْنَافِ، أَنَّ الْقَضَاءَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ الْوَقْتِ، وَلاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي الأَْفْعَال ذَاتِ الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ. أَمَّا الاِسْتِئْنَافُ فَقَدْ يَكُونُ فِي الْوَقْتِ، وَقَدْ يَكُونُ بَعْدَهُ، وَقَدْ يَكُونُ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ.

صِفَتُهُ (الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ) :
7 - الاِسْتِئْنَافُ تَعْتَرِيهِ بِضْعَةُ أَحْكَامٍ تَكْلِيفِيَّةٍ.
فَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا اتِّفَاقًا، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ تَعَمَّدَ الْحَدَثَ وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ. وَهُوَ أَيْضًا وَاجِبٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (2) ، إِذَا سَبَقَهُ حَدَثٌ غَيْرُ الرُّعَافِ، إِذْ لاَ
__________
(1) المستصفى 1 / 95، ورد المحتار 2 / 65
(2) الدسوقي 1 / 207، ورد المحتار 1 / 389، 393، 457، 603، والمجموع 4 / 456، 457، ونهاية المحتاج 1 / 415، والمغني 1 / 246، 2 / 95 ط مطبعة العاصمة. القاهرة وفواتح الرحموت 1 / 85 ط الأميرية، وبدائع الصنائع 2 / 130

(3/164)


بِنَاءَ عِنْدَهُمْ إِلاَّ فِي الرُّعَافِ؛ لأَِنَّهُ رُخْصَةٌ فَيَتَوَقَّفُ فِيهَا عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ.
وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا، كَمَنْ أَحْدَثَ وَهُوَ يُؤَذِّنُ، وَاحْتَاجَ لِفَاصِلٍ طَوِيلٍ لِلتَّطَهُّرِ، فَإِنَّ اسْتِئْنَافَ الأَْذَانِ أَوْلَى.
وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا كَمَا فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ إِذَا كَانَ الْفَاصِل لِلتَّطَهُّرِ يَسِيرًا؛ لأَِنَّ الْبِنَاءَ هُنَا أَوْلَى، لِئَلاَّ يُوهِمَ التَّلاَعُبَ إِذَا اسْتَأْنَفَ.
وَقَدْ يَكُونُ الاِسْتِئْنَافُ مُبَاحًا، كَالْبَيْعِ الصَّحِيحِ وَالإِْجَارَةِ الصَّحِيحَةِ - إِذَا جَرَتْ فِيهَا الإِْقَالَةُ أَوْ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا - فَإِنَّهُ يَصِحُّ اسْتِئْنَافُ الْعَقْدِ.

مَوَاطِنُ الاِسْتِئْنَافِ:
الاِسْتِئْنَافُ مُصْطَلَحٌ يَرِدُ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، إِلاَّ أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِي أَبْوَابِ الْعِبَادَاتِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي غَيْرِهَا، وَفِيمَا يَلِي بَعْضُ الصُّوَرِ.

الاِسْتِئْنَافُ فِي الْوُضُوءِ:
8 - جَاءَ فِي الْفُرُوعِ لاِبْنِ مُفْلِحٍ فِي مَعْرِضِ بَيَانِ أَثَرِ نِسْيَانِ التَّسْمِيَةِ عَلَى صِحَّةِ الْوُضُوءِ: " وَإِنْ ذَكَرَ فِي بَعْضِهِ ابْتَدَأَ، وَقِيل بَنَى، وَعَنْهُ تُسْتَحَبُّ (1) " أَيْ أَنَّ الْمُتَوَضِّئَ إِذَا ذَكَرَ التَّسْمِيَةَ فِي أَثْنَاءِ الْوُضُوءِ اسْتَأْنَفَ وُضُوءَهُ وُجُوبًا فِي قَوْلٍ لَدَى الْحَنْبَلِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لاَ يَجِبُ الاِسْتِئْنَافُ، وَيَجُوزُ الْبِنَاءُ.

الاِسْتِئْنَافُ فِي الْغُسْل:
9 - جَاءَ فِي الْفُرُوعِ لاِبْنِ مُفْلِحٍ فِي الْغُسْل: " وَحَيْثُ فَاتَتِ الْمُوَالاَةُ فِيهِ أَوْ فِي وُضُوءٍ، وَقُلْنَا يَجُوزُ فَلاَ بُدَّ
__________
(1) الفروع 1 / 143 - 144 ط الثانية 1379 هـ

(3/164)


لِلإِْتْمَامِ مِنْ نِيَّةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ النِّيَّةِ الْحُكْمِيَّةِ: قُرْبَ الْفِعْل مِنْهَا، كَحَالَةِ الاِبْتِدَاءِ. . . " (1)

الاِسْتِئْنَافُ فِي الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ:
10 - جَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ فِي الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ: " إِنْ تَكَلَّمَ فِي الأَْذَانِ أَوِ الإِْقَامَةِ - وَلَوْ بِرَدِّ سَلاَمٍ - اسْتَأْنَفَ (2) "

الاِسْتِئْنَافُ فِي الصَّلاَةِ:
11 - قَال الزَّيْلَعِيُّ: " (وَإِنْ سَبَقَهُ حَدَثٌ) أَيِ الْمُصَلِّيَ (تَوَضَّأَ وَبَنَى) ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَسْتَقْبِل (يَسْتَأْنِفَ) وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيِّ؛ لأَِنَّ الْحَدَثَ يُنَافِيهَا، وَالْمَشْيُ وَالاِنْحِرَافُ يُفْسِدَانِهَا، فَأَشْبَهَ الْحَدَثَ الْعَمْدَ، وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ أَوْ قَلَسٌ أَوْ مَذْيٌ فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأْ، ثُمَّ لْيَبْنِ عَلَى صَلاَتِهِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ لاَ يَتَكَلَّمُ. وَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِذَا رَعَفَ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ أَوْ قَلَسَ، فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأْ وَلْيَرْجِعْ فَلْيُتِمَّ صَلاَتَهُ، عَلَى مَا مَضَى مِنْهَا مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ (3) .
وَالاِسْتِئْنَافُ أَفْضَل تَحَرُّزًا عَنْ شُبْهَةِ
__________
(1) الفروع 1 / 204 - 205
(2) الدر المختار في هامش رد المحتار 1 / 385، 389، 393
(3) تبيين الحقائق 1 / 145 أما حديث: " من أصابه. . . ". فأخرجه ابن ماجه والدارقطني وأحمد عن عائشة بلفظ " من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فلينصرف فليتوضأ ثم ليبن على صلاته، وهو في ذلك لا يتكلم " وضعفه أحمد مرفوعا، والصواب أنه مرسل. انظر منتقى الأخبار في هامش نيل الأوطار 1 / 222، وبلوغ المرام في هامش سبل السلام 1 / 68

(3/165)


الْخِلاَفِ (1) .
وَهَذَا الْحُكْمُ عَلَى سَبِيل الْوُجُوبِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي غَيْرِ الرُّعَافِ، إِذِ الْبِنَاءُ رُخْصَةٌ.

الاِسْتِئْنَافُ فِي التَّيَمُّمِ:
12 - وَقَال الْكَاسَانِيُّ: " وَإِنْ وَجَدَ الْمَاءَ فِي الصَّلاَةِ، فَإِنْ وَجَدَهُ قَبْل أَنْ يَقْعُدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ الأَْخِيرِ انْتَقَضَ تَيَمُّمُهُ، وَتَوَضَّأَ وَاسْتَقْبَل (اسْتَأْنَفَ) الصَّلاَةَ عِنْدَنَا، وَلِلشَّافِعِيِّ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ: فِي قَوْلٍ مِثْل قَوْلِنَا، وَفِي قَوْلٍ يُقَرِّبُ الْمَاءَ مِنْهُ حَتَّى يَتَوَضَّأَ وَيَبْنِيَ، وَفِي قَوْلٍ يَمْضِي عَلَى صَلاَتِهِ وَهُوَ أَظْهَرُ أَقْوَالِهِ (2) ".

الاِسْتِئْنَافُ فِي الْكَفَّارَاتِ:
13 - وَمِنْ أَمْثِلَةِ الاِسْتِئْنَافِ فِي الْكَفَّارَاتِ مَا قَال صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ: " (وَالشَّرْطُ اسْتِمْرَارُ الْعَجْزِ إِلَى الْفَرَاغِ مِنَ الصَّوْمِ، فَلَوْ صَامَ الْمُعْسِرُ يَوْمَيْنِ ثُمَّ) قَبْل فَرَاغِهِ وَلَوْ بِسَاعَةٍ (أَيْسَرَ) وَلَوْ بِمَوْتِ مُوَرِّثِهِ مُوسِرًا (لاَ يَجُوزُ لَهُ الصَّوْمُ) ، وَيَسْتَأْنِفُ بِالْمَال (3) "، وَالْعَجْزُ الْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْعَجْزُ عَنِ الإِْطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ وَالتَّحْرِيرِ؛ لأَِنَّ الصَّوْمَ لاَ يُقْبَل هُنَا إِلاَّ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنْ تِلْكَ الثَّلاَثَةِ.

الاِسْتِئْنَافُ فِي الْعِدَّةِ:
14 - جَاءَ فِي بَدَائِعِ الصَّنَائِعِ: ". . . إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ مَاتَ، فَإِنْ كَانَ الطَّلاَقُ رَجْعِيًّا انْتَقَلَتْ عِدَّتُهَا إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ، سَوَاءٌ طَلَّقَهَا فِي حَالَةِ الْمَرَضِ
__________
(1) متن الخرقي في هامش المغني 1 / 361، والمغني1 / 364، 374
(2) بدائع الصنائع 1 / 57
(3) الدر المختار في هامش رد المحتار عليه 3 / 727

(3/165)


أَوِ الصِّحَّةِ، وَانْهَدَمَتْ عِدَّةُ الطَّلاَقِ، وَعَلَيْهَا أَنْ تَسْتَأْنِفَ عِدَّةَ الْوَفَاةِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا (1) ".
وَقَال فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: " (وَالصَّغِيرَةُ) لَوْ حَاضَتْ بَعْدَ تَمَامِ الأَْشْهُرِ (لاَ) تَسْتَأْنِفُ (إِلاَّ إِذَا حَاضَتْ فِي أَثْنَائِهَا) فَتَسْتَأْنِفُ بِالْحَيْضِ (كَمَا تَسْتَأْنِفُ) الْعِدَّةَ (بِالشُّهُورِ مَنْ حَاضَتْ حَيْضَةً) أَوِ اثْنَتَيْنِ (ثُمَّ أَيِسَتْ) ، تَحَرُّزًا عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الأَْصْل وَالْبَدَل (2) . "

أَسْتَارٌ

اُنْظُرْ: اسْتِتَار

اسْتِبَاقٌ

اُنْظُرْ: سِبَاق

اسْتِبْدَادٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِبْدَادُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ اسْتَبَدَّ، يُقَال: اسْتَبَدَّ بِالأَْمْرِ، إِذَا انْفَرَدَ بِهِ مِنْ غَيْرِ مُشَارِكٍ لَهُ
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 1995، 2017، 2018، 2020 ط الإمام
(2) الدر المختار في هامش رد المحتار عليه 3 / 314، 515

(3/166)


فِيهِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ ذَلِكَ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - اسْتِقْلاَلٌ:
2 - مِنْ مَعَانِي الاِسْتِقْلاَل: الاِعْتِمَادُ عَلَى النَّفْسِ، وَالاِسْتِبْدَادُ بِالأَْمْرِ، وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى يُرَادِفُ الاِسْتِبْدَادَ، غَيْرَ أَنَّهُ يُخَالِفُهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ إِطْلاَقَاتِهِ اللُّغَوِيَّةِ، فَيَكُونُ مِنَ الْقِلَّةِ وَمِنَ الاِرْتِفَاعِ (2) .

ب - مَشُورَةٌ:
3 - الشُّورَى لُغَةً وَشَرْعًا: عَدَمُ الاِسْتِئْثَارِ بِالرَّأْيِ، وَهِيَ ضِدُّ الاِسْتِبْدَادِ بِالرَّأْيِ.

صِفَتُهُ (الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ) :
4 - الاِسْتِبْدَادُ الْمُفْضِي إِلَى الضَّرَرِ أَوِ الظُّلْمِ مَمْنُوعٌ، كَالاِسْتِبْدَادِ فِي احْتِكَارِ الأَْقْوَاتِ (3) ، وَاسْتِبْدَادِ أَحَدِ الرَّعِيَّةِ فِيمَا هُوَ مِنِ اخْتِصَاصِ الإِْمَامِ مِثْل الْجِهَادِ (4) ، وَالاِسْتِبْدَادِ فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ بِغَيْرِ إِذْنِ الإِْمَامِ (5) . وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ (احْتِكَارٍ، وَحُدُودٍ، وَجِهَادٍ) وَإِلَى كُتُبِ الْفِقْهِ فِي الْمَوَاطِنِ الْمُبَيَّنَةِ بِالْهَوَامِشِ.
__________
(1) المصباح المنير في مادة (بدّ)
(2) لسان العرب والصحاح وتاج العروس في مادة (قلل)
(3) المغني 4 / 243 ط السعودية. . وابن عابدين 5 / 255، 256 ط بولاق الأولى، وجواهر الإكليل 1 / 132 ط شقرون، وقليوبي 2 / 186 ط الحلبي.
(4) المغني 7 / 690 و692 و8 / 110، 367 والسياسة الشرعية ص 57
(5) المغني 8 / 176، والاختيار 4 / 85،84، وابن عابدين 3 / 146 ط بولاق الأولى، وشرح روض الطالب 4 / 122

(3/166)


أَمَّا مَا كَانَ لِتَحْقِيقِ وَاجِبٍ لاَ يَتِمُّ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ جَائِزٌ، كَاسْتِبْدَادِ الْمَرْأَةِ بِالْخُرُوجِ مَعَ الْمَحْرَمِ بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا. لِتَحُجَّ الْفَرِيضَةَ (1) .

اسْتِبْدَالٌ

اُنْظُرْ: إِبْدَال

اسْتِبْرَاء

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِبْرَاءُ لُغَةً: طَلَبُ الْبَرَاءَةِ، وَبَرِئَ تُطْلَقُ بِإِزَاءِ ثَلاَثِ مَعَانٍ: بَرِئَ إِذَا تَخَلَّصَ، وَبَرِئَ إِذَا تَنَزَّهَ وَتَبَاعَدَ، وَبَرِئَ إِذَا أَعْذَرَ وَأَنْذَرَ (2) .
أَمَّا الاِسْتِبْرَاءُ فَيُقَال: اسْتَبْرَأَ الذَّكَرَ اسْتَنْقَاهُ، أَيِ اسْتَنْظَفَهُ مِنَ الْبَوْل (3) .
وَاسْتَبْرَأَ مِنْ بَوْلِهِ إِذَا اسْتَنْزَهَ (4) .
وَلِلاِسْتِبْرَاءِ اسْتِعْمَالاَنِ شَرْعِيَّانِ:
الأَْوَّل: يَتَّصِل بِالطَّهَارَةِ كَشَرْطٍ لِصِحَّتِهَا، فَهُوَ بِهَذَا مِنْ مَبَاحِثِ الْعِبَادَةِ، وَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ قِسْمِ التَّحْسِينِ. يَقُول الشَّاطِبِيُّ: (وَأَمَّا التَّحْسِينَاتُ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 146، والمغني 3 / 240 ط السعودية، وروض الطالب 1 / 445 ط المكتب الإسلامي، وحاشية الدسوقي 2 / 9 ط دار الفكر.
(2) لسان العرب (برأ)
(3) تاج العروس.
(4) الأساس.

(3/167)


فَمَعْنَاهَا الأَْخْذُ بِمَا يَلِيقُ مِنْ مَحَاسِنِ الْعَادَاتِ. فَفِي الْعِبَادَاتِ كَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ (1))
الثَّانِي: يَتَّصِل بِالاِطْمِئْنَانِ عَلَى سَلاَمَةِ الأَْنْسَابِ، وَعَدَمِ اخْتِلاَطِهَا، فَهُوَ بِهَذَا مِنْ مَبَاحِثِ النِّكَاحِ، وَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ قِسْمِ الضَّرُورِيِّ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّاطِبِيُّ.

أَوَّلاً: الاِسْتِبْرَاءُ فِي الطَّهَارَةِ:
2 - عَرَّفَ ابْنُ عَرَفَةَ الاِسْتِبْرَاءَ بِالاِسْتِعْمَال الأَْوَّل بِقَوْلِهِ: (إِزَالَةُ مَا بِالْمَخْرَجَيْنِ مِنَ الأَْذَى) ، فَالاِسْتِبْرَاءُ عَلَى هَذَا يَكُونُ مِنَ الْبَوْل، وَالْغَائِطِ، وَالْمَذْيِ، وَالْوَدْيِ، وَالْمَنِيِّ (2) . وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (3) .
وَعَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ: بِأَنَّهُ طَلَبُ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْخَارِجِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لاَ يُتَصَوَّرُ فِي الْمَرْأَةِ (4) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الاِسْتِنْقَاءُ، وَالاِسْتِنْجَاءُ، وَالاِسْتِنْزَاهُ، وَالاِسْتِنْثَارُ.

أ - الاِسْتِنْقَاءُ:
3 - الاِسْتِنْقَاءُ: هُوَ طَلَبُ النَّقَاوَةِ، وَهُوَ أَنْ يُدَلِّكَ الْمَقْعَدَةَ بِالأَْحْجَارِ، أَوْ بِالأَْصَابِعِ حَالَةَ الاِسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ.

ب - الاِسْتِنْجَاءُ:
4 - الاِسْتِنْجَاءُ: هُوَ اسْتِعْمَال الأَْحْجَارِ أَوِ الْمَاءِ.

ج - الاِسْتِنْزَاهُ:
5 - الاِسْتِنْزَاهُ: هُوَ التَّحَفُّظُ مِنَ الْبَوْل وَالتَّوَقِّي مِنْهُ.
__________
(1) الموافقات 2 / 11
(2) شرح حدود ابن عرفه للرصاع ص 36
(3) نهاية المحتاج 1 / 127، ومطالب أولي النهى 1 / 72
(4) حاشية ابن عابدين 1 / 230 ط1272

(3/167)


د - الاِسْتِنْثَارُ:
6 - الاِسْتِنْثَارُ: قَال النَّوَوِيُّ فِي تَهْذِيبِ الأَْسْمَاءِ: اسْتَنْثَرَ الرَّجُل مِنْ بَوْلِهِ اجْتَذَبَهُ وَاسْتَخْرَجَ بَقِيَّتَهُ مِنَ الذَّكَرِ (1) . فَالصِّلَةُ بَيْنَ هَذِهِ الأَْلْفَاظِ وَبَيْنَ الاِسْتِبْرَاءِ، هِيَ أَنَّهَا كُلَّهَا تَتَعَلَّقُ بِإِنْقَاءِ الْمَخْرَجَيْنِ مِنَ الْخَارِجِ مِنْهُمَا.

صِفَتُهُ (الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ) :
7 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ (مِنْهُمُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ) إِلَى أَنَّ الاِسْتِبْرَاءَ فَرْضٌ (2) ، وَذَهَبَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ؛ لأَِنَّ الظَّاهِرَ مِنِ انْقِطَاعِ الْبَوْل عَدَمُ عَوْدِهِ (3) .
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِالْوُجُوبِ بِحَدِيثِ الدَّارَقُطْنِيِّ: تَنَزَّهُوا مِنَ الْبَوْل فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ (4) وَيُحْمَل الْحَدِيثُ عَلَى مَا إِذَا ظَنَّ أَوْ تَحَقَّقَ بِمُقْتَضَى عَادَتِهِ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَسْتَبْرِئْ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ (5) .
وَيَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ بِلَفْظِ يَنْبَغِي، وَعَلَيْهِ فَهُوَ مَنْدُوبٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُ
__________
(1) رد المحتار 1 / 230، وشرح الززقاني على مختصر خليل 1 / 75، وفتح الباري 1 / 335، وحاشية كنون على الزرقاني 1 / 164
(2) رد المحتار 1 / 230، وشرح الزرقاني1 / 80، وشرح المحلي على منهاج الطالبين 1 / 42
(3) شرح المحلي على منهاج الطالبين 1 / 42، والمغني 1 / 146 ط المنار الأولى.
(4) حديث: " تنزهوا من البول. . . " أخرجه الدارقطني 1 / 127 - ط شركة الطباعة الفنية، وقال أبو زرعة " سنده صحيح " علل الحديث لابن أبي حاتم 1 / 26 - ط السلفية.
(5) مغني المحتاج 1 / 44، والمغني 1 / 136

(3/168)


الشَّافِعِيَّةِ، وَمَحَلُّهُ إِذَا أَمِنَ خُرُوجَ شَيْءٍ بَعْدَهُ، فَيَنْدُبُ ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي الاِسْتِبْرَاءِ (1) .
8 - وَدَلِيل الاِسْتِبْرَاءِ حَدِيثَانِ:
الدَّلِيل الأَْوَّل: الْحَدِيثُ الَّذِي أَخْرَجَهُ السِّتَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَائِطٍ أَيْ بُسْتَانٍ مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ أَوْ مَكَّةَ، فَسَمِعَ صَوْتَ إِنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، ثُمَّ قَال: بَلَى، كَانَ أَحَدُهُمَا لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ، وَكَانَ الآْخَرُ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ، ثُمَّ دَعَا بِجَرِيدَةٍ فَكَسَرَهَا كِسْرَتَيْنِ، فَوَضَعَ عَلَى كُل قَبْرٍ مِنْهُمَا كِسْرَةً، فَقِيل: لَهُ يَا رَسُول اللَّهِ؛ لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَعَلَّهُ يُخَفِّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ تَيْبَسَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (2) .
وَعَلَّقَ ابْنُ حَجَرٍ عَلَى الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ: لاَ يَسْتَتِرُ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ بِمِثْنَاتَيْنِ مِنْ فَوْقُ: الأُْولَى مَفْتُوحَةٌ وَالثَّانِيَةُ مَكْسُورَةٌ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ: يَسْتَبْرِئُ بِمُوَحَّدَةٍ سَاكِنَةٍ مِنَ الاِسْتِبْرَاءِ، ثُمَّ قَال: وَأَمَّا رِوَايَةُ الاِسْتِبْرَاءِ فَهِيَ أَبْلَغُ فِي التَّوَقِّي.
الدَّلِيل الثَّانِي: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: تَنَزَّهُوا مِنَ الْبَوْل فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ. (3)

حِكْمَةُ تَشْرِيعِهِ:
9 - يَقُول عَلِيٌّ الأَُجْهُورِيُّ: إِنَّ الاِسْتِبْرَاءَ مَعْقُول الْمَعْنَى، وَلَيْسَ مِنَ التَّعَبُّدِ؛ لأَِنَّهُ بِالاِسْتِبْرَاءِ يَنْتَهِي خُرُوجُ الْحَدَثِ الْمُنَافِي لِلْوُضُوءِ (4) .
__________
(1) رد المحتار 1 / 230
(2) حديث: " يعذبان وما يعذبان. . . . " فتح الباري 1 / 317 - ط السلفية، ومسلم 1 / 240 - 241 ط عيسى الحلبي.
(3) نيل الأوطار 1 / 114
(4) شرح الزرقاني على مختصر خليل 1 / 81

(3/168)


وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَجَمِيعُ الْمَذَاهِبِ تَتَّفِقُ عَلَى أَنَّ الْمُحْدِثَ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ عَدَمُ انْقِطَاعِ الْخَارِجِ فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ وُضُوءُهُ؛ لأَِنَّ الأَْحْكَامَ تُبْنَى عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ اتِّفَاقًا (1) .

كَيْفِيَّةُ الاِسْتِبْرَاءِ:
10 - الاِسْتِبْرَاءُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْغَائِطِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْبَوْل، فَإِذَا كَانَ مِنَ الْغَائِطِ فَإِنَّهُ يَكْفِيهِ أَنْ يُحِسَّ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ فِي الْمَخْرَجِ مِمَّا هُوَ بِصَدَدِ الْخُرُوجِ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ مِنَ الْبَوْل، فَهُوَ إِمَّا مِنَ الْمَرْأَةِ، وَإِمَّا مِنَ الرَّجُل، فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهُ لاَ اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَكِنْ إِذَا فَرَغَتْ تَنْتَظِرُ قَلِيلاً ثُمَّ تَسْتَنْجِي، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تَسْتَبْرِئُ بِعَصْرِ عَانَتِهَا.
وَأَمَّا الرَّجُل فَاسْتِبْرَاؤُهُ يَحْصُل بِأَيِّ أَمْرٍ اعْتَادَهُ دُونَ أَنْ يَجُرَّهُ ذَلِكَ إِلَى الْوَسْوَسَةِ (2) .

آدَابُ الاِسْتِبْرَاءِ:
11 - لِلاِسْتِبْرَاءِ آدَابٌ مِنْهَا: أَنْ يَطْرُدَ الْوَسْوَاسَ عَنْ نَفْسِهِ. قَال الْغَزَالِيُّ: وَلاَ يَكْثُرُ التَّفَكُّرُ فِي الاِسْتِبْرَاءِ، فَيَتَوَسْوَسُ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ الأَْمْرُ (3) .
وَمِنْ وَسَائِل طَرْدِ الْوَسْوَاسِ النَّضْحُ، وَهُوَ رَشُّ الْمَاءِ، وَاخْتُلِفَ فِي مَوْضِعِ النَّضْحِ، فَحَكَى النَّوَوِيُّ أَنَّهُ نَضْحُ الْفَرْجِ بِمَاءٍ قَلِيلٍ بَعْدَ الْوُضُوءِ لِدَفْعِ الْوَسْوَاسِ.
__________
(1) المرجع السابق
(2) رد المحتار 1 / 230، وحاشية القليوبي 1 / 41، وشرح الزرقاني على خليل 1 / 80، والمغني لابن قدامة 1 / 155، والإحياء 1 / 136
(3) الإحياء 1 / 136

(3/169)


وَقِيل: هُوَ أَنْ يَنْضَحَ ثَوْبَهُ بِالْمَاءِ، بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الاِسْتِنْجَاءِ؛ لِدَفْعِ الْوَسْوَاسِ أَيْضًا (1) .
قَال الْغَزَالِيُّ: وَمَا يُحِسُّ بِهِ مِنْ بَلَلٍ، فَلْيُقَدِّرْ أَنَّهُ بَقِيَّةُ الْمَاءِ، فَإِنْ كَانَ يُؤْذِيهِ فَلْيَرُشَّ عَلَيْهِ الْمَاءَ حَتَّى يَقْوَى فِي نَفْسِهِ ذَلِكَ، وَلاَ يُسَلَّطُ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ بِالْوَسْوَاسِ، وَفِي الْخَبَرِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ (2) . وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ إِذَا تَوَضَّأَ أَخَذَ حَفْنَةً مِنْ مَاءٍ فَقَال بِهَا هَكَذَا وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنِ الْحَكَمِ بْنِ سُفْيَانَ قَال: رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ وَنَضَحَ فَرْجَهُ قَال أَحْمَدُ: فَنَضَحَ فَرْجَهُ، عَلَّقَ عَلَيْهِ السِّنْدِيُّ فَقَال: وَقِيل: نَضَحَ أَيِ اسْتَنْجَى بِالْمَاءِ، وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى إِذَا تَوَضَّأَ أَرَادَ أَنْ يَتَوَضَّأَ، وَقِيل: رَشَّ الْفَرْجَ بِالْمَاءِ بَعْدَ الاِسْتِنْجَاءِ لِيَدْفَعَ بِهِ وَسْوَسَةَ الشَّيْطَانِ، وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَكَأَنَّهُ يُؤَخِّرُهُ أَحْيَانًا إِلَى الْفَرَاغِ مِنَ الْوُضُوءِ (3) .

ثَانِيًا: الاِسْتِبْرَاءُ فِي النَّسَبِ:
12 - مَعْنَى الاِسْتِبْرَاءِ فِي النَّسَبِ، طَلَبُ بَرَاءَةِ الْمَرْأَةِ مِنَ الْحَبَل، يُقَال: اسْتَبْرَأَتِ الْمَرْأَةُ: طَلَبَتْ بَرَاءَتَهَا مِنَ الْحَبَل (4) .
وَعَرَّفَهُ ابْنُ عَرَفَةَ بِمَا تَوْضِيحُهُ: تَرْكُ السَّيِّدِ
__________
(1) طرح التثريب 2 / 86
(2) الإحياء 1 / 136
(3) حاشية السندي على النسائي 1 / 86، 87 وقد اضطرب في إسناده كما قال ابن عبد البر في الاستيعاب (1 / 361 - ط مطبعة نهضة مصر) وله شواهد عند الدارقطني (1 / 111 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(4) المصباح المنير.

(3/169)


جَارِيَتَهُ مُدَّةً مُقَدَّرَةً شَرْعًا يُسْتَدَل بِهَا عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ (1) .
13 - وَيَكُونُ تَارَةً بِحَيْضِهَا، إِذِ الْحَيْضُ دَلِيلٌ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَقَدْ يَكُونُ بِانْتِظَارِهَا مُدَّةً مِنَ الزَّمَنِ تُوجِبُ الاِطْمِئْنَانَ بِعَدَمِ الْحَمْل، وَقَدْ يَكُونُ بِوَضْعِ الْحَمْل الَّذِي عَلِقَ بِهَا، حَيًّا أَوْ مَيِّتًا، تَامَّ الْخِلْقَةِ أَوْ غَيْرَ تَامٍّ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْعِدَّةُ:
14 - الْعِدَّةُ تَرَبُّصٌ يَلْزَمُ الْمَرْأَةَ عِنْدَ زَوَال النِّكَاحِ (3) ، فَتَشْتَرِكُ الْعِدَّةُ وَالاِسْتِبْرَاءُ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُدَّةٌ تَتَرَبَّصُ فِيهَا الْمَرْأَةُ لِتَحِل لِلاِسْتِمْتَاعِ بِهَا.
15 - وَمَعَ هَذَا فَهُمَا يَفْتَرِقَانِ فِي النَّوَاحِي التَّالِيَةِ:
(أ) يَقُول الْقَرَافِيُّ: إِنَّ الْعِدَّةَ تَجِبُ وَلَوْ تَيَقَّنَّا بَرَاءَةَ الرَّحِمِ، كَمَنْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا بَعْدَ أَنْ غَابَ عَنْهَا عَشْرَ سَنَوَاتٍ، وَكَذَا إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا، وَكَذَا الصَّغِيرَةُ فِي الْمَهْدِ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، أَمَّا الاِسْتِبْرَاءُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَالْعِدَّةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُل حَالٍ لِتَغْلِيبِ جَانِبِ التَّعَبُّدِ فِيهَا (4) .
(ب) اعْتُبِرَ الْقُرْءُ الْوَاحِدُ كَافِيًا فِي الاِسْتِبْرَاءِ وَلَمْ يُعْتَبَرْ كَافِيًا فِي الْعِدَّةِ.
(ج) الْقُرْءُ فِي الاِسْتِبْرَاءِ هُوَ الْحَيْضُ، وَأَمَّا الْقُرْءُ فِي الْعِدَّةِ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ.
(د) الْوَطْءُ فِي الْعِدَّةِ يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْمَدْخُول بِهَا تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، أَمَّا وَطْءُ الْمَمْلُوكَةِ فِي مُدَّةِ
__________
(1) شرح حدود ابن عرفة للرصاع ص 217
(2) الرهوني 4 / 207
(3) ابن عابدين 2 / 598
(4) الفروق 3 / 205

(3/170)


الاِسْتِبْرَاءِ، فَالاِتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَحْرُمُ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا (1) .

اسْتِبْرَاءُ الْحُرَّةِ:
16 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى الاِسْتِبْرَاءِ فِي الْحُرَّةِ، عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَهُمْ فِي الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ، وَفِي الأَْحْوَال الَّتِي يُطْلَبُ فِيهَا.
فَفِي الْمَزْنِيِّ بِهَا، اسْتِبْرَاءٌ عَلَى سَبِيل الْوُجُوبِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ مَا نُقِل عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَنُقِل عَنْهُ الاِسْتِحْبَابُ، كَالْمَنْقُول عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ: بِأَنَّهُ إِنْ عَلَّقَ طَلاَقَ امْرَأَتِهِ عَلَى وُجُودِ حَمْلٍ بِهَا فَتُسْتَبْرَأُ نَدْبًا، أَمَّا إِنْ عَلَّقَهُ عَلَى أَنَّهَا حَائِلٌ (غَيْرُ حَامِلٍ) فَتُسْتَبْرَأُ وُجُوبًا.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِطَلَبِ الاِسْتِبْرَاءِ فِي صُورَةٍ مِنَ الْمِيرَاثِ، فِيمَا إِذَا مَاتَ وَلَدُ الزَّوْجَةِ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ سَابِقٍ، وَلَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْوَلَدِ أَصْلٌ أَوْ فَرْعٌ وَارِثٌ، فَإِنَّهُ تُسْتَبْرَأُ زَوْجَتُهُ لِتَبَيُّنِ حَمْلِهَا مِنْ عَدَمِهِ لِمَعْرِفَةِ مِيرَاثِ الْحَمْل.
كَمَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ اسْتِبْرَاءِ الْحُرَّةِ الَّتِي وَجَبَ عَلَيْهَا إِقَامَةُ الْحَدِّ أَوِ الْقِصَاصِ، نَظَرًا لِحَقِّ الْحَمْل فِي الْحَيَاةِ (2) . وَدَلِيل ذَلِكَ خَبَرُ الْغَامِدِيَّةِ الْمَعْرُوفُ (3) .
17 - وَمِنَ الْمَسَائِل الَّتِي صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ فِيهَا بِوُجُوبِ اسْتِبْرَاءِ الْحُرَّةِ مَا يَأْتِي:
__________
(1) الفروق 3 / 205
(2) ابن عابدين 5 / 242، 2 / 292، والقليوبي 3 / 354 والمغني 7 / 487، و 6 / 316 ط الرياض.
(3) خبر الغامديه. أخرجه مسلم (3 / 1323 - ط عيسى الحلبي) .

(3/170)


(أ) إِذَا ظَهَرَ حَمْلٌ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهَا عَقْدًا صَحِيحًا، وَلَمْ تُعْلَمْ خَلْوَةٌ، وَأَنْكَرَ الْوَطْءَ، وَنَفَى الْحَمْل بِلِعَانٍ، فَتُسْتَبْرَأُ بِوَضْعِ الْحَمْل (1) .
(ب) إِذَا وُطِئَتْ الزَّوْجَةُ الْحُرَّةُ بِزِنًا. وَبِمِثْل ذَلِكَ قَال الْحَنَفِيَّةُ (2) .
(ج) إِذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ بِأَنِ اعْتَقَدَ الْمُسْتَمْتِعُ بِهَا أَنَّهَا زَوْجَتُهُ.
(د) الْوَطْءُ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ مُجْمَعٍ عَلَى فَسَادِهِ لاَ يَدْرَأُ الْحَدَّ، كَمُحَرَّمٍ بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ.
(هـ) إِذَا غَصَبَهَا غَاصِبٌ وَغَابَ عَلَيْهَا (أَيْ مَكَثَتْ عِنْدَهُ مُدَّةً وَخَلاَ بِهَا) وَلَوِ ادَّعَى أَنَّهُ لَمْ يَطَأْهَا وَصَدَّقَتْهُ؛ وَذَلِكَ لاِتِّهَامِهِ بِتَخْفِيفِ عُقُوبَتِهِ، وَاتِّهَامِهَا بِحِفْظِ شَرَفِهَا ظَاهِرًا؛ وَلأَِنَّ ذَلِكَ حَقُّ اللَّهِ؛ وَلأَِنَّ الْغَيْبَةَ مَظِنَّةُ الْوَطْءِ (3) .

حِكْمَةُ تَشْرِيعِ الاِسْتِبْرَاءِ:
18 - إِنَّ حِكْمَةَ مَشْرُوعِيَّةِ الاِسْتِبْرَاءِ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي الْحَرَائِرِ أَمِ الإِْمَاءِ هِيَ:
تَعَرُّفُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ احْتِيَاطًا لِمَنْعِ اخْتِلاَطِ الأَْنْسَابِ. وَحِفْظُ النَّسَبِ مِنْ أَهَمِّ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ (4) .

اسْتِبْرَاءُ الأَْمَةِ:
يَكُونُ اسْتِبْرَاءُ الأَْمَةِ وَاجِبًا، وَيَكُونُ مُسْتَحَبًّا، فَيَكُونُ وَاجِبًا فِي الصُّوَرِ الآْتِيَةِ:
__________
(1) البناني 4 / 199
(2) البدائع 4 / 1998 طبعة الإمام.
(3) شرح الزرقاني 4 / 202، والمدونة 3 / 122
(4) المبسوط للسرخسي13 / 146

(3/171)


(أ) عِنْدَ حُصُول الْمِلْكِ لِلَّتِي يُقْصَدُ وَطْؤُهَا:
19 - إِذَا حَصَل الْمِلْكُ لِلأَْمَةِ الَّتِي يُقْصَدُ وَطْؤُهَا بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ، فَاسْتِبْرَاؤُهَا وَاجِبٌ.
وَهَذَا الْقَدْرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ إِجْمَالاً، وَذَلِكَ لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال فِي سَبْيِ أَوْطَاسٍ: لاَ تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلاَ غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ (1)
وَمِنَ الْقِيَاسِ مَا يَقُولُهُ السَّرَخْسِيُّ: وَالْمَعْنَى فِي الْمَسْبِيَّةِ حُدُوثُ مِلْكِ الْحِل فِيهَا لِمَنْ وَقَعَتْ فِي سَهْمِهِ بِسَبَبِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَيَتَعَدَّى الْحُكْمُ إِلَى الْمُشْتَرَاةِ أَوِ الْمَوْهُوبَةِ. وَالْحِكْمَةُ صِيَانَةُ مَاءِ نَفْسِهِ عَنِ الْخَلْطِ.
وَبَعْدَ الاِتِّفَاقِ فِي الأَْصْل اخْتَلَفُوا فِي التَّفْصِيل: فَالْمَالِكِيَّةُ اشْتَرَطُوا لِتَحَقُّقِ وُجُوبِ الاِسْتِبْرَاءِ شُرُوطًا خُلاَصَتُهَا:
أَوَّلاً: أَلاَّ يَتَيَقَّنَ بَرَاءَةَ رَحِمِهَا مِنَ الْحَمْل، وَهَذَا الشَّرْطُ قَال بِهِ أَيْضًا ابْنُ سُرَيْجٍ، وَابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَابْنُ الْقَيِّمِ، وَرَجَّحَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ (2) كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَجُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ وَأَحْمَدُ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ إِلَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنَ الاِسْتِبْرَاءِ، لِوُجُودِ الْعِلَّةِ، وَهِيَ مِلْكُ حِلٍّ بِسَبَبِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ.
ثَانِيًا: أَلاَّ يَكُونَ وَطْؤُهَا مُبَاحًا لِمَنِ انْتَقَل مِلْكُهَا إِلَيْهِ قَبْل الاِنْتِقَال، كَمَا لَوِ اشْتَرَى السَّيِّدُ زَوْجَتَهُ الَّتِي عَقَدَ عَلَيْهَا قَبْل الشِّرَاءِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِأَنْ
__________
(1) المبسوط 13 / 146 وحديث " لا توطأ حامل. . . " أخرجه أبو داود (عون المعبود 2 / 213 - 214 ط المطبعة الأنصارية بدهلي) وأحمد (3 / 62 ط الميمنية) وحسنه ابن حجر في التلخيص (1 / 172 ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) نيل الأوطار 7 / 110

(3/171)


يَسْتَبْرِئَهَا عَلَى سَبِيل الْوُجُوبِ.
وَالإِْبَاحَةُ هِيَ الإِْبَاحَةُ الْمُعْتَدُّ بِهَا الْمُطَابِقَةُ لِلْوَاقِعِ، أَمَّا إِذَا كَشَفَ الْغَيْبُ عَنْ عَدَمِ حِلْيَةِ وَطْئِهِ فَلاَ بُدَّ مِنِ اسْتِبْرَائِهَا، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) .
ثَالِثًا: أَلاَّ يَحْرُمَ عَلَيْهِ الاِسْتِمْتَاعُ بِهَا بَعْدَ مِلْكِهَا، فَإِنْ حُرِّمَتْ فِي الْمُسْتَقْبَل لَمْ يَجِبِ اسْتِبْرَاؤُهَا، وَذَلِكَ كَمَنِ اشْتَرَى أُخْتَ زَوْجَتِهِ، أَوْ مُتَزَوِّجَةً بِغَيْرِهِ، دَخَل بِهَا أَمْ لَمْ يَدْخُل (2)
ب - قَصْدُ تَزْوِيجِ الأَْمَةِ:
20 - يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يَسْتَبْرِئَ أَمَتَهُ إِذَا أَرَادَ تَزْوِيجَهَا وَذَلِكَ إِذَا وَطِئَهَا، أَوْ إِذَا زَنَتْ عِنْدَهُ إِذَا اشْتَرَاهَا مِمَّنْ لَمْ يَنْفِ وَطْأَهُ لَهَا، وَفِي غَيْرِ هَذِهِ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا.
وَفَصَّل الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ الزِّنَا وَبَيْنَ الْوَطْءِ، فَإِذَا وَطِئَهَا السَّيِّدُ وَجَبَ اسْتِبْرَاؤُهَا، وَإِذَا زَنَتْ عِنْدَهُ لَمْ يُلْزَمْ بِاسْتِبْرَائِهَا قَبْل التَّزْوِيجِ (3) .

ج - زَوَال الْمِلْكِ بِالْمَوْتِ أَوِ الْعِتْقِ:
21 - إِذَا مَاتَ السَّيِّدُ يَجِبُ عَلَى وَارِثِهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَ الأَْمَةَ الَّتِي وَرِثَهَا عَنْهُ، وَلاَ يَحِل لَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا إِلاَّ بَعْدَ اسْتِبْرَائِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ سَيِّدُهَا حَاضِرًا، أَمْ غَائِبًا يُمْكِنُهُ الْوُصُول إِلَيْهَا، أَقَرَّ بِوَطْئِهَا أَمْ لاَ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ مُتَزَوِّجَةً وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَمَاتَ
__________
(1) شرح الزرقاني 4 / 226، والرهوني 4 / 207، والمغني 7 / 514، والمدونة 2 / 345، وتحفة المحتاج 8 / 273
(2) المبسوط 13 / 149، والزرقاني 4 / 227
(3) المبسوط 13 / 152 - 153، والحطاب 4 / 168، والزرقاني 4 / 227، وتحفة المحتاج 8 / 275

(3/172)


السَّيِّدُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهَا حَلَّتْ لِلسَّيِّدِ زَمَنًا.
أَمَّا لَوْ لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ، أَوْ كَانَتْ وَقْتَ الْمَوْتِ ذَاتَ زَوْجٍ فَلاَ يَجِبُ الاِسْتِبْرَاءُ، كَمَا لاَ يَجِبُ الاِسْتِبْرَاءُ إِذَا كَانَ السَّيِّدُ غَائِبًا عَنْهَا غَيْبَةً لاَ يُمْكِنُهُ الْوُصُول إِلَيْهَا، وَامْتَدَّ غِيَابُهُ بِمِقْدَارِ الاِسْتِبْرَاءِ فَأَكْثَرَ (1) .
وَأَمَّا أُمُّ الْوَلَدِ فَلاَ بُدَّ لَهَا أَنْ تَسْتَأْنِفَ الاِسْتِبْرَاءَ بَعْدَ الْعِتْقِ. وَفِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ السَّيِّدَ إِذَا زَال فِرَاشُهُ عَنِ الأَْمَةِ الَّتِي كَانَ يَطَؤُهَا فَالاِسْتِبْرَاءُ وَاجِبٌ، اسْتَوْلَدَهَا أَوْ لَمْ يَسْتَوْلِدْهَا، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ زَال فِرَاشُهُ بِعِتْقٍ أَمْ مَوْتٍ، وَسَوَاءٌ مَضَتْ عَلَيْهَا مُدَّةُ الاِسْتِبْرَاءِ أَمْ لَمْ تَمْضِ (2) .

د - زَوَال الْمِلْكِ بِالْبَيْعِ:
22 - إِذَا أَرَادَ السَّيِّدُ بَيْعَ الأَْمَةِ فَلاَ يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ وَطِئَهَا قَبْل ذَلِكَ أَوْ لاَ.
أَمَّا الأَْمَةُ الَّتِي لَمْ يَطَأْهَا فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا بِدُونِ اسْتِبْرَاءٍ. وَاسْتَحَبَّ الإِْمَامُ أَحْمَدُ اسْتِبْرَاءَهَا.
وَأَمَّا الأَْمَةُ الَّتِي كَانَ يَسْتَمْتِعُ بِهَا سَيِّدُهَا وَيَطَؤُهَا، فَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ اسْتِبْرَاءَهَا وَاجِبٌ عَلَى السَّيِّدِ قَبْل الْبَيْعِ. وَيُفَصِّل أَحْمَدُ بَيْنَ الْيَائِسَةِ وَغَيْرِهَا. وَدَلِيلُهُ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنْكَرَ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ بَيْعَ جَارِيَةٍ كَانَ يَطَؤُهَا قَبْل اسْتِبْرَائِهَا (3) .
__________
(1) حاشية العدوي على الخرشي 4 / 163
(2) نفس المرجع السابق، وانظر قليوبي وعميرة 4 / 59
(3) المغني 7 / 515

(3/172)


وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الاِسْتِبْرَاءَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ سُنَّةٌ، وَذَلِكَ قَبْل بَيْعِهِ لَهَا؛ لِيَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْهَا. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ (1) .

هـ - الاِسْتِبْرَاءُ بِسُوءِ الظَّنِّ:
23 - قَال الْمَازِرِيُّ: وَكُل مَنْ جَازَ حَمْلُهَا فَفِي اسْتِبْرَائِهَا قَوْلاَنِ. وَمَثَّل لَهُ بِأَمْثِلَةٍ مِنْهَا: اسْتِبْرَاءُ الأَْمَةِ خَوْفَ أَنْ تَكُونَ زَنَتْ، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالاِسْتِبْرَاءِ لِسُوءِ الظَّنِّ (2) .

مُدَّةُ الاِسْتِبْرَاءِ:
الْمُسْتَبْرَأَةُ لَهَا أَحْوَالٌ مِنْهَا:
الْحُرَّةُ، وَالأَْمَةُ الَّتِي بَلَغَتْ الْمَحِيضَ وَهِيَ تَحِيضُ فِعْلاً، وَالْحَامِل، وَاَلَّتِي لاَ تَحِيضُ لِصِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ.

اسْتِبْرَاءُ الْحُرَّةِ:
24 - اسْتِبْرَاءُ الْحُرَّةِ كَعِدَّتِهَا، إِلاَّ فِي ثَلاَثِ مَسَائِل يُكْتَفَى فِيهَا بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ اسْتِبْرَاؤُهَا لإِِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا فِي الزِّنَا أَوِ الرِّدَّةِ؛ لِيَتَبَيَّنَ عَدَمُ حَمْلِهَا؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ، أَوْ فِي الْمُلاَعَنَةِ لِنَفْيِ حَمْلِهَا. وَالاِكْتِفَاءُ فِي الْمَزْنِيِّ بِهَا بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَلَهُمَا رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهَا تُسْتَبْرَأُ بِثَلاَثٍ (3) .
اسْتِبْرَاءُ الأَْمَةِ الْحَائِضِ:
25 - ذَهَبَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَعُثْمَانُ، وَعَائِشَةُ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ،
__________
(1) الشروانى 8 / 275، والمبسوط 13 / 151
(2) شرح المواق على مختصر خليل 4 / 168
(3) الزرقاني 4 / 203

(3/173)


وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَأَبُو قِلاَبَةَ، وَمَكْحُولٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، إِلَى أَنَّ الأَْمَةَ إِذَا كَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ كَعَادَةِ النِّسَاءِ كُل شَهْرٍ أَوْ نَحْوَهُ، فَاسْتِبْرَاؤُهَا يَقَعُ بِحَيْضَةٍ كَامِلَةٍ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ اسْتِبْرَاءُ الْبَيْعِ وَالْعِتْقِ وَالْوَفَاةِ، أُمَّ وَلَدٍ كَانَتْ أَوْ لاَ.
وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ أُمِّ الْوَلَدِ وَغَيْرِهَا، فَإِذَا كَانَتِ الْمُسْتَبْرَأَةُ غَيْرَ أُمِّ وَلَدٍ، فَاسْتِبْرَاؤُهَا بِحَيْضَةٍ كَامِلَةٍ، أَمَّا أُمُّ الْوَلَدِ، إِذَا أُعْتِقَتْ بِإِعْتَاقِ الْمَوْلَى أَوْ بِمَوْتِهِ، فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ بِثَلاَثَةِ قُرُوءٍ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ قَالُوا: عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ ثَلاَثُ حِيَضٍ (1) .

اسْتِبْرَاءُ الْحَامِل:
26 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّ الْمُسْتَبْرَأَةَ إِذَا كَانَتْ حَامِلاً فَاسْتِبْرَاؤُهَا يَكُونُ بِوَضْعِ حَمْلِهَا كُلِّهِ، وَلَوْ وَضَعَتْهُ بَعْدَ لَحْظَةٍ مِنْ وُجُوبِهِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الأَْمَةَ الْمَسْبِيَّةَ، أَوِ الَّتِي زَال عَنْهَا فِرَاشُ السَّيِّدِ يَحْصُل اسْتِبْرَاؤُهَا بِوَضْعِ حَمْلِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُشْتَرَاةً - وَهِيَ حَامِلٌ مِنْ زَوْجٍ أَوْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ - فَلاَ اسْتِبْرَاءَ فِي الْحَال، وَيَجِبُ بَعْدَ زَوَال الْعِدَّةِ أَوِ النِّكَاحِ، لأَِنَّ حُدُوثَ حِل الاِسْتِمْتَاعِ إِنَّمَا وُجِدَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ الْمِلْكُ؛ لأَِنَّهُ مِلْكٌ مَشْغُولٌ بِحَقِّ الْغَيْرِ. وَالْحَامِل مِنْ زِنًا إِذَا كَانَتْ لاَ تَحِيضُ فِي أَثْنَاءِ مُدَّةِ الْحَمْل تُسْتَبْرَأُ بِوَضْعِ الْحَمْل، وَإِنْ كَانَتْ تَحِيضُ فَكَذَلِكَ عَلَى الأَْصَحِّ، وَفِي قَوْلٍ يَحْصُل اسْتِبْرَاؤُهَا بِحَيْضَةٍ عَلَى الْحَمْل (2) .
__________
(1) الزرقاني 4 / 201، والمغني 7 / 500، والمدونة 2 / 352، وبدائع الصنائع 4 / 2001، والمبسوط 13 / 148
(2) الشرواني 8 / 277، والمغني 9 / 215، وروضة الطالبين 8 / 426

(3/173)


اسْتِبْرَاءُ الأَْمَةِ الَّتِي لاَ تَحِيضُ لِصِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ:
27 - مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ الأَْمَةَ الَّتِي لاَ تَحِيضُ لِصِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ: أَنَّهَا تَتَرَبَّصُ ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ، وَنَقَل ابْنُ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ أَنَّهُ قَدْ جَرَى اخْتِلاَفٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، فَقِيل: اسْتِبْرَاؤُهَا شَهْرٌ، وَقِيل: شَهْرٌ وَنِصْفٌ، وَقِيل: شَهْرَانِ، وَقِيل: ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ الْحَنْبَلِيِّ، وَهُوَ قَوْل الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالنَّخَعِيِّ، وَأَبِي قِلاَبَةَ، وَهُوَ قَوْلٌ ثَانٍ فِي الْمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ.
وَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالرَّاجِحُ عَنِ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهَا تُسْتَبْرَأُ بِشَهْرٍ فَقَطْ، وَعَلَّل ذَلِكَ بِأَنَّ الشَّهْرَ يَتَحَقَّقُ فِيهِ فِي غَيْرِهَا طُهْرٌ وَحَيْضٌ، وَلأَِنَّ الشَّهْرَ قَائِمٌ مَقَامَ الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ شَرْعًا (1) .

الاِسْتِمْتَاعُ بِالأَْمَةِ الْمُسْتَبْرَأَةِ:
28 - مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ فِي رِوَايَةٍ أَنَّ الْمُسْتَبْرَأَةَ لاَ يُقَبِّلُهَا، وَلاَ يُبَاشِرُهَا، وَلاَ يَنْظُرُ مِنْهَا إِلَى عَوْرَةٍ، حَتَّى يَنْتَهِيَ أَمَدُ الاِسْتِبْرَاءِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ مِنَ الْجَائِزِ أَنَّهَا حَمَلَتْ مِنَ الْبَائِعِ، وَأَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ. وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ لاَ تَحِل إِلاَّ فِي الْمِلْكِ. وَوَافَقَهُمْ أَحْمَدُ، وَلَهُ رِوَايَةٌ بِالتَّفْصِيل بَيْنَ الْمُطِيقَةِ وَغَيْرِهَا (2) .
__________
(1) المبسوط 13 / 146، والمقدمات 2 / 95، والشرواني 8 / 277
(2) المبسوط 13 / 146، والمدونة 2 / 359، والزرقاني 4 / 230، وعمدة القاري 5 / 601، والقليوبي 4 / 61، والمغني 7 / 511

(3/174)


أَثَرُ الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ زَمَنَ الاِسْتِبْرَاءِ
29 - الْعَقْدُ عَلَى الْمُسْتَبْرَأَةِ حَرَامٌ فِي جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ، وَكَذَلِكَ الْوَطْءُ بِالأَْوْلَى، وَتَفْصِيل أَثَرِهِ مِنْ حَيْثُ نَشْرُ الْحُرْمَةِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ (1) .

إِحْدَادُ الْمُسْتَبْرَأَةِ:
30 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَبْرَأَةَ لاَ يَجِبُ عَلَيْهَا الإِْحْدَادُ وَلاَ يُسْتَحَبُّ لَهَا؛ لأَِنَّ الإِْحْدَادَ شُرِعَ لِزَوَال نِعْمَةِ الزَّوَاجِ (2) .

اسْتِبْضَاعٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - أ - الاِسْتِبْضَاعُ فِي اللُّغَةِ: مِنَ الْبُضْعِ، بِمَعْنَى الْقَطْعِ وَالشَّقِّ، وَيُسْتَعْمَل اسْتِعْمَالاً مَجَازِيًّا فِي النِّكَاحِ وَالْمُجَامَعَةِ. وَالْبُضْعُ - بِالضَّمِّ - الْجِمَاعُ، وَالْفَرْجُ نَفْسُهُ (3) ، وَعَلَى هَذَا فَالاِسْتِبْضَاعُ هُوَ: طَلَبُ الْجِمَاعِ، وَمِنْهُ نِكَاحُ الاِسْتِبْضَاعِ، الَّذِي عَرَّفَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ قَوْل الرَّجُل لِزَوْجَتِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: " أَرْسِلِي إِلَى فُلاَنٍ، فَاسْتَبْضِعِي مِنْهُ " أَيِ اطْلُبِي مِنْهُ الْمُبَاضَعَةَ،
__________
(1) الزرقاني 3 / 165 - 166، وابن قاسم العبادي 8 / 277، والمغني 7 / 514
(2) المغني 7 / 517، وحاشية الشلبي على الزيلعي 3 / 35، والإشراف على مسائل الخلاف 2 / 172، وابن عابدين 2 / 618
(3) تاج العروس، ولسان العرب، مادة (ب ض ع)

(3/174)


وَهُوَ الْجِمَاعُ (1) . وَهَذَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَدْ أَبْطَلَهُ الإِْسْلاَمُ.
ب - وَيَأْتِي الاِسْتِبْضَاعُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ: اسْتِبْضَاعُ الشَّيْءِ، أَيْ جَعْلُهُ بِضَاعَةً (2) ؛ لأَِنَّ الْبِضَاعَةَ هِيَ طَائِفَةٌ مِنْ مَال الرَّجُل يَبْعَثُهَا لِلتِّجَارَةِ.

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ لِنِكَاحِ الاِسْتِبْضَاعِ:
2 - طَالَمَا أَنَّ نِكَاحَ الاِسْتِبْضَاعِ هُوَ زِنًى مَحْضٌ، فَإِنَّ الآْثَارَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَيْهِ هِيَ نَفْسُ الآْثَارِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى الزِّنَى، مِنْ حَيْثُ الْعُقُوبَةُ، وَضَمَانُ الْعُقْرِ، وَوُجُوبُ الاِسْتِبْرَاءِ، وَعَدَمُ إِلْحَاقِ نَسَبِ الْمَوْلُودِ مِنْ ذَلِكَ بِالزَّانِي، بَل يَلْحَقُ بِصَاحِبِ الْفِرَاشِ، إِلاَّ أَنْ يَنْفِيَهُ بِشُرُوطِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. (ر: زِنى) .

الاِسْتِبْضَاعُ فِي التِّجَارَاتِ:
3 - يُطْلِقُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ كَلِمَةَ اسْتِبْضَاعٍ أَيْضًا عَلَى: دَفْعِ الرَّجُل مَالاً لآِخَرَ لِيَعْمَل فِيهِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَال، وَلاَ شَيْءَ لِلْعَامِل. فَيُقَال لِصَاحِبِ الْمَال مُسْتَبْضِعٌ، وَمُبْضِعٌ، (بِالْكَسْرِ) ، وَيُقَال لِلْعَامِل مُسْتَبْضَعٌ، وَمُبْضَعٌ مَعَهُ (بِالْفَتْحِ) ، وَهَذِهِ الْمُعَامَلَةُ هِيَ اسْتِبْضَاعٌ وَإِبْضَاعٌ (3) .
وَلِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِهِ (ر: إِبْضَاع) .
__________
(1) فتح الباري شرح صحيح البخاري 9 / 151 طبع المطبعة البهية المصرية سنة 1348 هـ.
(2) لسان العرب.
(3) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 3 / 344 و 4 / 489 ط1 ببولاق، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل 5 / 255 ط مطبعة النجاح - طرابلس ليبيا.

(3/175)


اسْتِتَابَةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِتَابَةُ فِي اللُّغَةِ: طَلَبُ التَّوْبَةِ، يُقَال: اسْتَتَبْتُ فُلاَنًا: عَرَضْتُ عَلَيْهِ التَّوْبَةَ مِمَّا اقْتَرَفَ.
وَالتَّوْبَةُ هِيَ: الرُّجُوعُ وَالنَّدَمُ عَلَى مَا فَرَّطَ مِنْهُ، وَاسْتَتَابَهُ: سَأَلَهُ أَنْ يَتُوبَ (1) . وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

صِفَتُهَا (الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ) :
2 - اسْتِتَابَةُ الْمُرْتَدِّ وَاجِبَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ؛ لاِحْتِمَال أَنْ تَكُونَ عِنْدَهُ شُبْهَةٌ فَتُزَال. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهَا: مُسْتَحَبَّةٌ؛ لأَِنَّ الدَّعْوَةَ قَدْ بَلَغَتْهُ (2) .

اسْتِتَابَةُ الزَّنَادِقَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ:
3 - فِي اسْتِتَابَةِ الزَّنَادِقَةِ وَفِرَقِ الْبَاطِنِيَّةِ رَأْيَانِ.
الأَْوَّل: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَفِي الظَّاهِرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، رَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، لاَ يُسْتَتَابُونَ وَلاَ يُقْبَل مِنْهُمْ، وَيُقْتَلُونَ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} (3) ، وَالزِّنْدِيقُ لاَ تَظْهَرُ مِنْهُ عَلاَمَةٌ
__________
(1) لسان العرب 1 / 233 ط بيروت، والمصباح المنير، والمغني 8 / 154
(2) فتح القدير 4 / 385، وابن عابدين 3 / 285، والدسوقي 4 / 304، والقليوبي 4 / 177، والمغني 8 / 124
(3) سورة البقرة / 160

(3/175)


تُبَيِّنُ رُجُوعَهُ وَتَوْبَتَهُ؛ لأَِنَّهُ كَانَ مُظْهِرًا لِلإِْسْلاَمِ، مُسِرًّا لِلْكُفْرِ، فَإِذَا وَقَفَ عَلَى ذَلِكَ، فَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ، لَمْ يَزِدْ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ قَبْلَهَا، وَهُوَ إِظْهَارُ الإِْسْلاَمِ؛ وَلأَِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ فِي الْبَاطِنِ خِلاَفَ مَا يُظْهِرُونَ.
الثَّانِي: وَهُوَ لِلْحَنَفِيَّةِ فِي غَيْرِ الظَّاهِرِ، وَرَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، يُسْتَتَابُ؛ لأَِنَّهُ كَالْمُرْتَدِّ، فَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ (1) . (ر: زَنْدَقَة) .

اسْتِتَابَةُ السَّاحِرِ:
4 - اسْتِتَابَةُ السَّاحِرِ فِيهَا رِوَايَتَانِ.
الأُْولَى: لِلْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلْحَنَابِلَةِ، أَنَّهُ لاَ يُسْتَتَابُ وَهُوَ ظَاهِرُ مَا نُقِل عَنِ الصَّحَابَةِ. فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَل عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ اسْتَتَابَ سَاحِرًا، لِخَبَرِ عَائِشَة: إِنَّ السَّاحِرَةَ سَأَلَتْ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ مُتَوَافِرُونَ: هَل لَهَا مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَمَا أَفْتَاهَا أَحَدٌ (2) وَلأَِنَّ السِّحْرَ مَعْنًى فِي نَفْسِهِ، وَلِسَعْيِهِ بِالْفَسَادِ.
الثَّانِيَةُ: لِلشَّافِعِيَّةِ وَرَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، أَنَّهُ يُسْتَتَابُ. فَإِنْ تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِأَعْظَمَ مِنَ الشِّرْكِ، وَلأَِنَّ اللَّهَ قَبِل تَوْبَةَ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ؛ وَلأَِنَّ السَّاحِرَ لَوْ كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ صَحَّ إِسْلاَمُهُ وَتَوْبَتُهُ، فَإِذَا صَحَّتِ التَّوْبَةُ مِنْهُمَا (أَيِ السَّاحِرِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 31 و3 / 269، ونهاية المحتاج 7 / 399 ط المكتبة الإسلامية، والجمل 5 / 126 ط إحياء التراث، والقليوبي وعميرة 4 / 177 ط عيسى الحلبي، وجواهر الإكليل 1 / 256 ط شقرون، والمغني 6 / 298 ط مكتبة الرياض الحديثة.
(2) الحديث أخرجه ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير 1 / 249 ط دار الأندلس.

(3/176)


وَالْكَافِرِ) صَحَّتْ مِنْ أَحَدِهِمَا (السَّاحِرِ الْمُسْلِمِ) ، (ر: سِحْر) وَيَأْخُذُ حُكْمَ الْمُرْتَدِّ، فَيُحْبَسُ حَتَّى يَتُوبَ (1) .

اسْتِتَابَةُ تَارِكِ الْفَرْضِ:
5 - اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ عَلَى اسْتِتَابَةِ تَارِكِ الْفَرْضِ مِنْ غَيْرِ جُحُودٍ أَوِ اسْتِخْفَافٍ، حَيْثُ تُقْبَل تَوْبَتُهُ. فَإِنْ أَبَى أَنْ يَتُوبَ، قَال الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رَأْيٍ عِنْدَهُمْ: يُحْبَسُ حَتَّى يَتُوبَ أَوْ يَمُوتَ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَابِلَةِ: إِنْ أَبَى يُقْتَل، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْجُمْهُورِ (2) .

اسْتِتَارٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِتَارُ فِي اللُّغَةِ: التَّغَطِّي وَالاِخْتِفَاءُ. يُقَال: اسْتَتَرَ وَتَسَتَّرَ أَيْ تَغَطَّى، وَجَارِيَةٌ مُسْتَتِرَةٌ أَيْ مُخَدَّرَةٌ (3) . وَقَدْ اسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ بِهَذَا الْمَعْنَى، كَمَا اسْتَعْمَلُوهُ بِمَعْنَى اتِّخَاذِ السُّتْرَةِ فِي الصَّلاَةِ.
وَالسُّتْرَةُ (بِالضَّمِّ) هِيَ فِي الأَْصْل: مَا يُسْتَتَرُ بِهِ مُطْلَقًا، ثُمَّ غَلَبَ فِي الاِسْتِعْمَال الْفِقْهِيِّ عَلَى: مَا يُنْصَبُ أَمَامَ الْمُصَلِّي، مِنْ عَصًا أَوْ تَسْنِيمِ تُرَابٍ أَيْ
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 398، والقليوبي وعميرة 4 / 169، وجواهر الإكليل 2 / 265 و278، والمغني 8 / 153، وابن عابدين 1 / 31 ط بولاق الأولى.
(2) ابن عابدين 1 / 235، والبجيرمي على الخطيب 4 / 208
(3) المصباح المنير، والقاموس، ولسان العرب.

(3/176)


تَكْوِيمِهِ وَنَحْوِهِ (1) ، لِمَنْعِ الْمُرُورِ أَمَامَهُ.
وَيُسَمَّى سَتْرُ الصَّدَقَةِ إِخْفَاؤُهَا

صِفَتُهُ (الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ) :
2 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الاِسْتِتَارِ تَبَعًا لِلأَْحْوَال وَالأَْفْعَال الَّتِي يَكُونُ فِيهَا، عَلَى مَا سَيَأْتِي:

الاِسْتِتَارُ (بِمَعْنَى اتِّخَاذِ الْمُصَلِّي سُتْرَةً)
3 - اتِّخَاذُ السُّتْرَةِ لِلْمُصَلِّي مَشْرُوعٌ اتِّفَاقًا؛ لِحَدِيثِ: لِيَسْتَتِرْ أَحَدُكُمْ وَلَوْ بِسَهْمٍ. (2) ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالسُّنَّةِ أَوِ الاِسْتِحْبَابِ، عَلَى تَفْصِيلٍ مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ: (سُتْرَةُ الْمُصَلِّي) . (3)

الاِسْتِتَارُ حِينَ الْجِمَاعِ:
4 - يَشْمَل الاِسْتِتَارُ هُنَا أَمْرَيْنِ:
الأَْوَّل: الاِسْتِتَارُ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ حِينَ الْوَطْءِ.
الثَّانِيَ: عَدَمُ التَّجَرُّدِ حِينَ الْوَطْءِ.
أَمَّا الأَْوَّل: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ فِي حَالَةِ انْكِشَافِ الْعَوْرَةِ، أَوْ فِي حَالَةِ عَدَمِ انْكِشَافِهَا.
فَفِي حَالَةِ انْكِشَافِ الْعَوْرَةِ انْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ عَلَى فَرْضِيَّةِ الاِسْتِتَارِ، أَمَّا فِي حَالَةِ عَدَمِ ظُهُورِ شَيْءٍ مِنَ الْعَوْرَةِ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الاِسْتِتَارَ سُنَّةٌ. وَأَنَّ مَنْ يَتَهَاوَنُ فِيهِ فَقَدْ خَالَفَ السُّنَّةَ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {
__________
(1) الطحاوي على مراقي الفلاح ص 200، والدردير على خليل 1 / 244، والمغني 2 / 237
(2) حديث " ليستتر. . . " أخرجه الحاكم 1 / 252 ط دائرة المعارف العثمانية، وحكم عليه المناوي في فيض القدير بالإرسال 1 / 486 ط المكتبة التجارية الكبرى.
(3) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 200، والدردير على خليل 1 / 244، والمغني 2 / 237

(3/177)


إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ فَلْيَسْتَتِرْ. (1) وَحَمَلُوا الأَْمْرَ عَلَى النَّدْبِ
وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الدَّنَاءَةِ وَالإِْخْلاَل بِالْمُرُوءَةِ (2) .
وَأَمَّا الثَّانِي: (عَدَمُ التَّجَرُّدِ حِينَ الْجِمَاعِ) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمَا أَحَدٌ يَطَّلِعُ عَلَيْهِمَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ (3) إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُل أَنْ يُجَرِّدَ زَوْجَتَهُ لِلْجِمَاعِ، وَقَيَّدَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِكَوْنِ الْبَيْتِ صَغِيرًا، وَيُسْتَدَل لِذَلِكَ بِحَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَال: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟ قَال احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلاَّ مِنْ زَوْجَتِكَ، أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ، قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ الْقَوْمُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ؟ قَال: إِنِ اسْتَطَعْتَ أَلاَّ تُرِيَهَا أَحَدًا فَلاَ تُرِيَنَّهَا. قُلْتُ يَا رَسُول اللَّهِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا، قَال: فَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ (4)
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب النكاح باب: التستر عند الجماع
(2) البحر الرائق 3 / 237 ط المطبعة العلمية، وفتاوى قاضي خان 3 / 408 ط 2 بولاق / 1310، والجيرمي على منهج الطلاب 3 / 436 ط مصطفى محمد، وروضة الطالبين 7 / 406 ط المكتب الإسلامي، ونهاية المحتاج 6 / 375 ط مصطفى البابي الحلبي 1357، وحاشية الشررواني على التحفة 6 / 500، والمغني لابن قدامة 8 / 135 ط المنار، ومنتهى الإرادات 2 / 229 ط دار الجيل، والشرح الكبير على متن الخرقي 8 / 143 ط المنار، وحاشية الرهوني على شرح الزرقاني لمتن خليل 4 / 46 - 47 ط بولاق 1306، وحاشية محمد بن المدني على كنون على شرح الزرقاني لمتن خليل 4 / 47
(3) نيل الأوطار 6 / 195، ومراقي الفلاح بحاشية الطحطاوى ص 57، وحاشية ابن عابدين 5 / 234، والقليوبي 3 / 213، والبجيرمي على المنهج 3 / 316، والمغني والشرح الكبير 8 / 135، والقواعد الفقهية 294
(4) حديث " احفظ عورتك. . . " أخرجه أبو داود في الحمام، وابن ماجه في النكاح، والترمذي في الأدب، وأحمد بن حنبل 5 / 3.

(3/177)


وَبِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِيَّاكُمْ وَالتَّعَرِّي، فَإِنَّ مَعَكُمْ مَنْ لاَ يُفَارِقُكُمْ إِلاَّ عِنْدَ الْغَائِطِ، وَحِينَ يُفْضِي الرَّجُل إِلَى أَهْلِهِ، فَاسْتَحْيُوهُمْ وَأَكْرِمُوهُمْ. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ، لِحَدِيثِ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ، قَال: قَال رَسُول اللَّهِ: إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ فَلْيَسْتَتِرْ، وَلاَ يَتَجَرَّدَا تَجَرُّدَ الْعِيرَيْنِ. (2)

5 - مَا يُخِل بِالاِسْتِتَارِ:
أ - يُخِل بِالاِسْتِتَارِ وُجُودُ شَخْصٍ مُمَيِّزٍ مُسْتَيْقِظٍ مَعَهُمَا فِي الْبَيْتِ، سَوَاءٌ أَكَانَ زَوْجَةً، أَمْ سُرِّيَّةً، أَمْ غَيْرَهُمَا (3) ، يَرَى أَوْ يَسْمَعُ الْحِسَّ (4) ، وَبِهِ قَال الْجُمْهُورُ، وَقَدْ سُئِل الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَنِ الرَّجُل يَكُونُ لَهُ امْرَأَتَانِ فِي بَيْتٍ، قَال: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَطَأَ إِحْدَاهُمَا وَالأُْخْرَى تَرَى أَوْ تَسْمَعُ (5) .
ب - وَيُخِل بِالاِسْتِتَارِ وُجُودُ نَائِمٍ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ، فَقَال الرَّهُونِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى شَرْحِ الزُّرْقَانِيِّ لِمَتْنِ خَلِيلٍ: لاَ يَجُوزُ لِلرَّجُل أَنْ يُصِيبَ زَوْجَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ وَمَعَهُ فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ يَقْظَانُ أَوْ نَائِمٌ (6) ، لأَِنَّ النَّائِمَ قَدْ يَسْتَيْقِظُ فَيَرَاهُمَا عَلَى تِلْكَ الْحَال.
ج - وَيُخِل بِالاِسْتِتَارِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمَالِكِيَّةِ وُجُودُ صَغِيرٍ غَيْرِ مُمَيِّزٍ، اتِّبَاعًا لاِبْنِ عُمَرَ الَّذِي كَانَ يُخْرِجُ الصَّبِيَّ
__________
(1) أخرجه الترمذي في الأدب.
(2) أخرجه ابن ماجه في كتاب النكاح. باب التستر عند الجماع.
(3) حاشية الشرواني على تحفة المحتاج شرح المنهاج 6 / 500
(4) الرهوني 4 / 46 - 47، والمغني 8 / 137
(5) مخطوط مصنف ابن أبي شيبة 1 / 230
(6) حاشية الرهوني 4 / 46 - 47

(3/178)


فِي الْمَهْدِ عِنْدَمَا يُرِيدُ الْجِمَاعَ (1) . وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ - وَمِنْهُمْ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ - إِلَى أَنَّ وُجُودَ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ لاَ يُخِل بِالاِسْتِتَارِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ مَشَقَّةٍ وَحَرَجٍ.

الآْثَارُ الْمُرَتَّبَةُ عَلَى تَرْكِ الاِسْتِتَارِ فِي الْجِمَاعِ:
6 - مِنْ حَقِّ الْمَرْأَةِ الاِمْتِنَاعُ عَنْ إِجَابَةِ طَلَبِ زَوْجِهَا إِلَى فِرَاشِهِ، إِنْ كَانَ مِمَّنْ لاَ يَسْتَتِرُ عَنِ النَّاسِ حِينَ الْجِمَاعِ، وَلاَ تَصِيرُ نَاشِزًا بِهَذَا الاِمْتِنَاعِ؛ لأَِنَّهُ امْتِنَاعٌ بِحَقٍّ؛ وَلأَِنَّ الْحَيَاءَ وَالْمُرُوءَةَ يَأْبَيَانِ ذَلِكَ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ (2) ، وَقَوَاعِدُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لاَ تَأْبَاهُ.

الاِسْتِتَارُ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ:
7 - يَشْمَل هَذَا أَمْرَيْنِ: الاِسْتِتَارُ عَنِ النَّاسِ، وَالاِسْتِتَارُ عَنِ الْقِبْلَةِ إِنْ كَانَ خَارِجَ الْبُنْيَانِ. أَمَّا الأَْوَّل، فَالأَْصْل وُجُوبُ سَتْرِ الْعَوْرَةِ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، بِحُضُورِ مَنْ لاَ يَحِل لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهَا، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (عَوْرَة) ، كَمَا أَنَّهُ يُسَنُّ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ اسْتِتَارُ شَخْصِ الإِْنْسَانِ عِنْدَ إِرَادَةِ الْغَائِطِ.
وَأَمَّا الاِسْتِتَارُ عَنِ الْقِبْلَةِ بِسَاتِرٍ فَإِنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ يَرَى جَوَازَ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارِهَا عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، إِنِ اسْتَتَرَ عَنِ الْقِبْلَةِ بِسَاتِرٍ. وَيَرَى بَعْضُهُمْ تَحْرِيمَ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارِهَا مُطْلَقًا، وَتَفْصِيل مَا يَتَّصِل بِالاِسْتِتَارِ عَنِ الْقِبْلَةِ فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاءُ الْحَاجَةِ) .
__________
(1) حاشيية الرهوني 4 / 46 - 47
(2) البحر الرائق 3 / 237، وشرح البجيرمي على منهج الطلاب 3 / 436 ط مصطفى محمد، ونهاية المحتاج 6 / 375 ط مصطفى البابي الحلبي 1357

(3/178)


الاِسْتِتَارُ حِينَ الاِغْتِسَال:

أ - وُجُوبُ الاِسْتِتَارِ عَمَّنْ لاَ يَحِل لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهِ:
8 - الأَْمْرُ الَّذِي لاَ خِلاَفَ فِيهِ هُوَ: افْتِرَاضُ الاِسْتِتَارِ حِينَ الاِغْتِسَال، بِحَضْرَةِ مَنْ لاَ يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ إِلَى عَوْرَةِ الْمُغْتَسِل (1) ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلاَّ مِنْ زَوْجَتِكَ، أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ. (2) وَعَنْ أُمِّ هَانِئٍ قَالَتْ: ذَهَبْتُ إِلَى رَسُول اللَّهِ عَامَ الْفَتْحِ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِل، وَفَاطِمَةُ تَسْتُرُهُ فَقَال: مَنْ هَذِهِ؟ فَقُلْتُ: أَنَا أُمُّ هَانِئٍ. (3) (ر: عَوْرَة)
فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الاِغْتِسَال إِلاَّ بِكَشْفِ عَوْرَتِهِ أَمَامَ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلاَءِ، فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ حِينَئِذٍ لاَ يُسْقِطُ وُجُوبَ الْغُسْل عَلَيْهِ - إِنْ كَانَ رَجُلاً بَيْنَ رِجَالٍ، أَوِ امْرَأَةً بَيْنَ نِسَاءٍ - لأَِمْرَيْنِ: الأَْوَّل: نَظَرُ الْجِنْسِ إِلَى الْجِنْسِ أَخَفُّ مِنَ النَّظَرِ إِلَى الْجِنْسِ الآْخَرِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْغُسْل فَرْضٌ فَلاَ يُتْرَكُ لِكَشْفِ الْعَوْرَةِ.
أَمَّا إِنْ كَانَتِ امْرَأَةٌ بَيْنَ رِجَالٍ، أَوْ رَجُلٌ بَيْنَ نِسَاءٍ، أَوْ خُنْثَى بَيْنَ رِجَالٍ أَوْ نِسَاءٍ، أَوْ هُمَا مَعًا، فَلاَ يَجُوزُ لِهَؤُلاَءِ الْكَشْفُ عَنْ عَوْرَاتِهِمْ لِلْغُسْل، بَل يَتَيَمَّمُونَ، لَكِنْ شَارِحُ مُنْيَةِ الْمُصَلِّي لَمْ يُسَلِّمْ بِهَذَا التَّفْصِيل؛ لأَِنَّ تَرْكَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مُقَدَّمٌ عَلَى فِعْل
__________
(1) ابن عابدين 1 / 105 و 225، وحاشية الجمل 1 / 87، والخرشي على خليل 1 / 146، والمغني 1 / 231، وحديث " احفظ عورتك " أخرجه ابن ماجه 1 / 618 ط عيسى الحلبي، وأحمد 5 / 3 ط الميمنية، وحسنه ابن حجر في الفتح 1 / 386 ط السلفية.
(2) حديث: " احفظ عورتك. . . . . " تقدم تخريجه في فقرة (4)
(3) أخرج الحديث البخاري في الغسل، باب من اغتسل عريانا. فتح الباري 1 / 306 و308

(3/179)


الْمَأْمُورِ، وَلِلْغُسْل خَلَفٌ وَهُوَ التَّيَمُّمُ (1) .
وَعُمُومُ كَلاَمِ الْحَنَابِلَةِ، فِي تَحْرِيمِ كَشْفِ الْعَوْرَةِ عِنْدَ الاِغْتِسَال بِحُضُورِ مَنْ يَحْرُمُ نَظَرُهُ إِلَيْهَا، يُشْعِرُ بِأَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ الْحَنَفِيَّةَ.
وَاَلَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَوْ تَرَتَّبَ عَلَى الْقِيَامِ بِالطَّهَارَةِ الْمَائِيَّةِ كَشْفُ الْعَوْرَةِ، فَإِنَّهُ يُصَارُ إِلَى التَّيَمُّمِ؛ لأَِنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ لاَ بَدَل لَهُ؛ وَلأَِنَّهُ وَاجِبٌ لِلصَّلاَةِ وَالصِّيَانَةِ عَنِ الْعُيُونِ، وَيُبَاحُ فِعْل الْمَحْظُورِ مِنْ أَجْلِهِ، كَاسْتِتَارِ الرَّجُل بِالْحَرِيرِ إِذَا تَعَيَّنَ. أَمَّا الطَّهَارَةُ الْمَائِيَّةُ فَلَهَا بَدَلٌ، وَلاَ يُبَاحُ فِعْل الْمَحْظُورِ مِنْ أَجْلِهَا (2) وَمِنْ هُنَا كَانَ السَّلَفُ وَالأَْئِمَّةُ الأَْرْبَعَةُ يَتَشَدَّدُونَ فِي الْمَنْعِ مِنْ دُخُول الْحَمَّامِ إِلاَّ بِمِئْزَرٍ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي ذَلِكَ آثَارًا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، حَتَّى بَلَغَ الأَْمْرُ بِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَتَبَ: لاَ يَدْخُلَنَّ أَحَدٌ الْحَمَّامَ إِلاَّ بِمِئْزَرٍ، وَبِعُمَرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنْ كَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ بِالْبَصْرَةِ أَمَّا بَعْدُ: فَمُرْ مَنْ قِبَلَكَ أَلاَّ يَدْخُلُوا الْحَمَّامَ إِلاَّ بِمِئْزَرٍ، وَأَخَذَ يَفْرِضُ الْعُقُوبَاتِ الرَّادِعَةَ عَلَى مَنْ دَخَل الْحَمَّامَ بِغَيْرِ مِئْزَرٍ، وَعَلَى صَاحِبِ الْحَمَّامِ الَّذِي أَدْخَلَهُ. وَعَنْ عُبَادَةَ قَال: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَضْرِبُ صَاحِبَ الْحَمَّامِ وَمَنْ دَخَلَهُ بِغَيْرِ إِزَارٍ (3) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 105 و 225، والمغني 1 / 233
(2) منح الجليل 1 / 87، والمجموع 2 / 275
(3) ابن أبي شيبة 1 / 19 مخطوط اسطنبول - متحف طول قبوسراي مكتبة مدينة برقم 333، 334، ونهاية المحتاج 1 / 214 ط المكتبة الإسلامية بالرياض، ومنتهى الإرادات 1 / 32 ط دار العروبة.

(3/179)


ب - اسْتِتَارُ الْمُغْتَسِل بِحُضُورِ الزَّوْجَةِ:
9 - مِمَّا لاَ خِلاَفَ فِيهِ أَيْضًا: أَنَّ لِكُل وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ أَنْ يَغْتَسِل بِحُضُورِ الآْخَرِ، وَهُوَ بَادِي الْعَوْرَةِ (1) . لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ: احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلاَّ مِنْ زَوْجَتِكَ، أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ. وَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِل أَنَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ مِنْ قَدَحٍ، يُقَال لَهُ: الْفَرَقُ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

اسْتِتَارُ الْمُغْتَسِل مُنْفَرِدًا:
10 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُنْفَرِدِ أَنْ يَغْتَسِل عُرْيَانًا (2) . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيل يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَكَانَ مُوسَى يَغْتَسِل وَحْدَهُ، فَقَالُوا: وَاَللَّهِ مَا يَمْنَعُ مُوسَى أَنْ يَغْتَسِل مَعَنَا إِلاَّ أَنَّهُ آدَرُّ - مَنْفُوخُ الْخُصْيَةِ - فَذَهَبَ مَرَّةً يَغْتَسِل، فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ، فَفَرَّ الْحَجَرُ بِثَوْبِهِ، فَخَرَجَ مُوسَى فِي إِثْرِهِ يَقُول: ثَوْبِي يَا حَجَرُ، حَتَّى نَظَرَ بَنُو إِسْرَائِيل إِلَى مُوسَى فَقَالُوا: وَاَللَّهِ مَا بِمُوسَى مِنْ بَأْسٍ، وَأَخَذَ ثَوْبَهُ، فَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: بَيْنَا أَيُّوبُ يَغْتَسِل عُرْيَانًا فَخَرَّ عَلَيْهِ جَرَادٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَل أَيُّوبُ يَحْتَشِي فِي ثَوْبِهِ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ: يَا أَيُّوبَ أَلَمْ أَكُنْ
__________
(1) المحلى 10 / 33، وفتاوى قاضي خان 3 / 407، ومغني المحتاج 1 / 75، والخرشي 3 / 4، والمغني 7 / 458، وفتح الباري 1 / 303 ط المطبعة البهية 1348
(2) مغني المحتاج 1 / 75، والمغني 1 / 231، وفتح الباري 1 / 307

(3/180)


أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى؟ قَال: بَلَى وَعِزَّتِكَ، وَلَكِنْ لاَ غِنَى بِي عَنْ بَرَكَتِكَ. (1)
فَقَدْ قَصَّ عَلَيْنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ دُونَ نَكِيرٍ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْجَوَازِ؛ لأَِنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا إِذَا لَمْ يَرِدْ فِي شَرْعِنَا مَا يُخَالِفُهُ.
وَسُئِل الإِْمَامُ مَالِكٌ عَنِ الْغُسْل فِي الْفَضَاءِ، فَقَال: لاَ بَأْسَ بِهِ، فَقِيل: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إِنَّ فِيهِ حَدِيثًا، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، وَقَال تَعَجُّبًا: لاَ يَغْتَسِل الرَّجُل فِي الْفَضَاءِ؟ ! ، وَجْهُ إِجَازَةِ مَالِكٍ لِلرَّجُل أَنْ يَغْتَسِل فِي الْفَضَاءِ إِذَا أَمِنَ أَنْ يَمُرَّ بِهِ أَحَدٌ، وَأَنَّ الشَّرْعَ إِنَّمَا قَرَّرَ وُجُوبَ سَتْرِ الْعَوْرَةِ عَنِ الْمَخْلُوقِينَ مِنْ بَنِي آدَمَ دُونَ سِوَاهُمْ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ، إِذْ لاَ يُفَارِقُهُ الْحَفَظَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِهِ فِي حَالٍ مِنَ الأَْحْوَال، قَال تَعَالَى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} . (2) وَقَال تَعَالَى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} (3) : وَلِهَذَا قَال مَالِكٌ تَعَجُّبًا: لاَ يَغْتَسِل الرَّجُل فِي الْفَضَاءِ، إِذْ لاَ فَرْقَ فِي حَقِّ الْمَلاَئِكَةِ بَيْنَ الْفَضَاءِ وَغَيْرِهِ (4) .
وَلَكِنْ هَذَا جَوَازٌ مَقْرُونٌ بِالْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ، وَلِذَلِكَ يَنْدُبُ لَهُ الاِسْتِتَارُ (5) . لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا، وَوَصَلَهُ غَيْرُهُ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ، عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلاَّ مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ. قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ فَإِنْ
__________
(1) فتح الباري 1 / 307
(2) سورة ق 18.
(3) سورة الانفطار / 10، 11، 12
(4) حاشية الرهوني 1 / 226
(5) فتح الباري 1 / 386، ونيل الأوطار 1 / 253 ط المطبعة العثمانية 1357، ومغني المحتاج 1 / 75، وشرح الرهوني 1 / 226 ط 1 بولاق 1306، والمغني 1 / 231، والطحاوي على مراقي الفلاح ص 57

(3/180)


كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا؟ قَال: فَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ (1) .
وَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى إِلَى وُجُوبِ الاِسْتِتَارِ حِينَ الْغُسْل، وَلَوْ كَانَ فِي خَلْوَةٍ (2) .
مُسْتَدِلًّا بِالْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلاً يَغْتَسِل بِالْبِرَازِ - أَيْ بِالْخَلاَءِ - فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَال: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل حَلِيمٌ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ، يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ فَإِذَا اغْتَسَل أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ. (3)

اسْتِتَارُ الْمَرْأَةِ الْمُتَزَيِّنَةِ:
11 - يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ الاِسْتِتَارُ عَنْ غَيْرِ الزَّوْجِ وَالْمَحَارِمِ، بِسَتْرِ عَوْرَتِهَا وَعَدَمِ إِبْدَاءِ زِينَتِهَا (4) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَِزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ} . (5) وَفِيمَا يَجِبُ سَتْرُهُ عَنِ الْمَحَارِمِ وَغَيْرِهِمْ، وَفِي سَتْرِ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ: (تَزَيُّن) (وَعَوْرَةٌ) .

الاِسْتِتَارُ مِنْ عَمَل الْفَاحِشَةِ:
12 - مَنِ ابْتُلِيَ بِمَعْصِيَةٍ، كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَتِرَ بِذَلِكَ، وَلاَ يُجَاهِرَ بِفِعْلِهِ السَّيِّئِ، كَمَا يَنْبَغِي لِمَنْ عَلِمَ بِفَاحِشَتِهِ أَنْ يَسْتُرَ عَلَيْهِ
__________
(1) تحفة المحتاج بشرح المنهاج 1 / 297، والحديث تقدم تخريجه في فقرة (4)
(2) فتح الباري 1 / 306، ونيل الأوطار 1 / 253
(3) أخرجه أبو داود في الحمام، والنسائي في الاغتسال باب الاستتار عند الاغتسال.
(4) تفسير الطبري 18 / 118، 119، وتفسير القرطبي 12 / 228
(5) سورة الأحزاب / 59

(3/181)


وَيَنْصَحَهُ، وَيَمْنَعَهُ عَنِ الْمُنْكَرِ بِالْوَسِيلَةِ الَّتِي يَسْتَطِيعُهَا.
13 - وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرْءَ إِذَا وَقَعَ مِنْهُ مَا يُعَابُ عَلَيْهِ يُنْدَبُ لَهُ السَّتْرُ عَلَى نَفْسِهِ، فَلاَ يُعْلِمُ أَحَدًا، حَتَّى الْقَاضِيَ، بِفَاحِشَتِهِ لإِِقَامَةِ الْحَدِّ أَوِ التَّعْزِيرِ عَلَيْهِ (1) ، لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: كُل أُمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَل الرَّجُل بِاللَّيْل عَمَلاً، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَيَقُول: يَا فُلاَنُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سَتْرَ اللَّهِ عَنْهُ. (2)
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِي لَنَا مِنْ صَفْحَتِهِ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ. (3) وَقَال أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: لَوْ أَخَذْتُ شَارِبًا لأََحْبَبْتُ أَنْ يَسْتُرَهُ اللَّهُ، وَلَوْ أَخَذْتُ سَارِقًا لأََحْبَبْتُ أَنْ يَسْتُرَهُ اللَّهُ (4) ، وَأَنَّ الصَّحَابَةَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيًّا وَعَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ وَأَبَا الدَّرْدَاءِ وَالْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَغَيْرَهُمْ (5) ، قَدْ أُثِرَ عَنْهُمُ السَّتْرُ عَلَى مُعْتَرِفٍ بِالْمَعْصِيَةِ، أَوْ تَلْقِينِهِ الرُّجُوعَ مِنْ إِقْرَارِهِ بِهَا، سَتْرًا عَلَيْهِ، وَسَتْرُ مُعْتَرِفِ الْمَعْصِيَةِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْلَى مِنْ سَتْرِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ.
وَالْجَهْرُ بِالْمَعْصِيَةِ عَنْ جَهْلٍ، لَيْسَ كَالْجَهْرِ بِالْمَعْصِيَةِ تَبَجُّحًا. قَال ابْنُ حَجَرٍ: فَإِنَّ مَنْ قَصَدَ
__________
(1) فتح الباري 1 / 399، والفروع 3 / 264، ومنتهى الإرادات 2 / 460، ومغني المحتاج 4 / 150، وحاشية ابن عابدين 5 / 140
(2) فتح الباري 10 / 399
(3) أخرجه الحاكم والبيهقي، ومالك في الموطأ باب الحدود.
(4) مخطوط مصنف ابن أبي شيبة 2 / 132
(5) مخطوط مصنف ابن أبي شيبة 2 / 123 و130

(3/181)


إِظْهَارَ الْمَعْصِيَةِ وَالْمُجَاهَرَةَ بِهَا أَغْضَبَ رَبَّهُ (1) . وَقَال الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: وَأَمَّا التَّحَدُّثُ بِهَا تَفَكُّهًا فَحَرَامٌ قَطْعًا (2) .

أَثَرُ الاِسْتِتَارِ بِالْمَعْصِيَةِ:
14 - يَتَرَتَّبُ عَلَى الاِسْتِتَارِ بِالْمَعْصِيَةِ:
أ - عَدَمُ إِقَامَةِ الْعُقُوبَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْعُقُوبَاتِ لاَ تَجِبُ إِلاَّ بَعْدَ إِثْبَاتِهَا. (ر: إِثْبَات) فَإِذَا اسْتَتَرَ بِهَا وَلَمْ يُعْلِنْهَا وَلَمْ يُقِرَّ بِهَا وَلَمْ يَنَلْهُ أَيُّ طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الإِْثْبَاتِ، فَلاَ عُقُوبَةَ.
ب - عَدَمُ شُيُوعِ الْفَاحِشَةِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} . (3)
ج - مَنِ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً فَاسْتَتَرَ بِهَا فَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى أَنْ يَتُوبَ مِنْهَا، فَإِنْ تَابَ سَقَطَتْ عَنْهُ الْمُؤَاخَذَةُ، فَإِنْ كَانَتِ الْمَعْصِيَةُ تَتَعَلَّقُ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ التَّوْبَةَ تُسْقِطُ الْمُؤَاخَذَةَ؛ لأَِنَّ اللَّهَ أَكْرَمُ الأَْكْرَمِينَ، وَرَحْمَتُهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ، فَلِذَلِكَ إِذَا سَتَرَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَفْضَحْهُ فِي الآْخِرَةِ. وَإِنْ كَانَتْ تَتَعَلَّقُ بِحَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، كَقَتْلٍ وَقَذْفٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ مِنْ شُرُوطِ التَّوْبَةِ فِيهَا أَدَاءَ هَذِهِ الْحُقُوقِ لأَِصْحَابِهَا، أَوْ عَفْوَ أَصْحَابِهَا عَنْهَا، وَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَى مَنِ اسْتَتَرَ بِالْمَعْصِيَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِحَقِّ آدَمِيٍّ أَنْ يُؤَدِّيَ هَذَا الْحَقَّ لِصَاحِبِهِ (4) . (ر: التَّوْبَة)
__________
(1) فتح الباري 10 / 400
(2) مغني المحتاج 4 / 150
(3) فتح الباري 10 / 400، والآية من سورة النور / 19
(4) مغني المحتاج 4 / 150، وابن عابدين 5 / 140، وكفاية الطالب 2 / 255، والشرواني 4 / 434 - 435 ط 2 مصطفى البابي الحلبي سنة 1963 هـ.

(3/182)


اسْتِثْمَارٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِثْمَارُ فِي اللُّغَةِ: مِنْ (ثَمَرَ) ، وَثَمَرَ الشَّيْءُ: إِذَا تَوَلَّدَ مِنْهُ شَيْءٌ آخَرُ (1) ، وَثَمَّرَ الرَّجُل مَالَهُ: أَحْسَنَ الْقِيَامَ عَلَيْهِ وَنَمَّاهُ، وَثَمَرُ الشَّيْءِ: هُوَ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ الاِسْتِثْمَارَ هُوَ: طَلَبُ الْحُصُول عَلَى الثَّمَرَةِ. وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ هَذَا اللَّفْظَ بِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِنْتِفَاعُ:
2 - الاِنْتِفَاعُ هُوَ الْحُصُول عَلَى الْمَنْفَعَةِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الاِسْتِثْمَارِ، أَنَّ الاِنْتِفَاعَ أَعَمُّ مِنَ الاِسْتِثْمَارِ؛ لأَِنَّ الاِنْتِفَاعَ قَدْ يَكُونُ بِالاِسْتِثْمَارِ، وَقَدْ لاَ يَكُونُ.

ب - الاِسْتِغْلاَل:
3 - الاِسْتِغْلاَل طَلَبُ الْغَلَّةِ، وَالْغَلَّةُ هِيَ: كُل عَيْنٍ حَاصِلَةٍ مِنْ رَيْعِ الْمِلْكِ، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ الاِسْتِثْمَارِ، فَمَا تُخْرِجُهُ الأَْرْضُ هُوَ ثَمَرَةٌ، وَهُوَ غَلَّةٌ، وَهُوَ رِيعٌ.
وَلِلْحَنَفِيَّةِ تَفْرِقَةٌ خَاصَّةٌ بَيْنَ الثَّمَرَةِ وَالْغَلَّةِ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ، فَإِذَا أَوْصَى بِثَمَرَةِ بُسْتَانِهِ انْصَرَفَ إِلَى
__________
(1) مقاييس اللغة، ولسان العرب، والمصباح.

(3/182)


الْمَوْجُودِ خَاصَّةً، وَإِذَا أَوْصَى بِغَلَّتِهِ شَمِل الْمَوْجُودَ وَمَا هُوَ بِعَرْضِ الْوُجُودِ (1) .

صِفَتُهُ (الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ) :
4 - الأَْصْل اسْتِحْبَابُ اسْتِثْمَارِ الأَْمْوَال الْقَابِلَةِ لِذَلِكَ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ وُجُوهِ النَّفْعِ (2) .

أَرْكَانُ الاِسْتِثْمَارِ:
كُل اسْتِثْمَارٍ لاَ يَخْلُو مِنْ رُكْنَيْنِ اثْنَيْنِ: الْمُسْتَثْمِرُ (بِكَسْرِ الْمِيمِ) ، وَالْمُسْتَثْمَرُ (بِفَتْحِ الْمِيمِ) .
أَوَّلاً: الْمُسْتَثْمِرُ (بِكَسْرِ الْمِيمِ) :
5 - الأَْصْل أَنْ يَتِمَّ اسْتِثْمَارُ الْمَال مِنْ قِبَل مَالِكِهِ، وَلَكِنْ قَدْ يَحْدُثُ مَا يَجْعَل الْغَيْرَ يَقُومُ بِهَذَا الاِسْتِثْمَارِ عَنِ الْمَالِكِ، وَهَذَا عَلَى صُورَتَيْنِ:

أ - الاِسْتِثْمَارُ بِالإِْنَابَةِ:
وَالإِْنَابَةُ قَدْ تَكُونُ مِنَ الْمَالِكِ كَالْوَكَالَةِ، أَوْ مِنَ الشَّارِعِ كَالْقَيِّمِ.

ب - الاِسْتِثْمَارُ بِالتَّعَدِّي:
وَقَدْ يَقْدَمُ عَلَى اسْتِثْمَارِ الْمَال أَجْنَبِيٌّ بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِ الْمَال، وَبِغَيْرِ إِعْطَاءِ الشَّرْعِ هَذَا الْحَقَّ لَهُ، وَعِنْدَئِذٍ يُعْتَبَرُ غَاصِبًا (ر: غَصْب) (3) .
__________
(1) أساس البلاغة، والمغرب، والمصباح المنير، مادة (غل) ، وحاشية القليوبي 3 / 171، والهداية بشرح فتح القدير 8 / 484 ط بولاق، وحاشية ابن عابدين 5 / 444 ط بولاق، وانظر المغرب مادة (ريع) .
(2) القليوبي 4 / 95
(3) الخراج ليحيى بن آدم ص 95

(3/183)


ثَانِيًا: الْمَال الْمُسْتَثْمَرُ:
6 - لِكَيْ يَكُونَ الاِسْتِثْمَارُ حَلاَلاً يُشْتَرَطُ فِي الْمَال الْمُسْتَثْمَرِ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا، مِلْكًا مَشْرُوعًا لِلْمُسْتَثْمِرِ (بِكَسْرِ الْمِيمِ) ، أَوْ لِمَنْ كَانَ الْمُسْتَثْمِرُ نَائِبًا عَنْهُ نِيَابَةً شَرْعِيَّةً أَوْ تَعَاقُدِيَّةً، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَحِل اسْتِثْمَارُهُ، كَالْمَال الْمَغْصُوبِ أَوِ الْمَسْرُوقِ.
وَكَذَلِكَ لاَ يَحِل اسْتِثْمَارُ الْوَدِيعَةِ؛ لأَِنَّ يَدَ الْوَدِيعِ يَدُ حِفْظٍ.

مِلْكُ الثَّمَرَةِ:
7 - إِذَا كَانَ الاِسْتِثْمَارُ مَشْرُوعًا، كَانَتِ الثَّمَرَةُ مِلْكًا لِلْمَالِكِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الاِسْتِثْمَارُ غَيْرَ مَشْرُوعٍ، كَمَنْ غَصَبَ أَرْضًا وَاسْتَغَلَّهَا، فَإِنَّ الثَّمَرَةَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَمْلِكُهَا الْغَاصِبُ مِلْكًا خَبِيثًا، وَيُؤْمَرُ بِالتَّصَدُّقِ بِهَا. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّ الْغَلَّةَ لِلْمَالِكِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهَا (1) .

طُرُقُ الاِسْتِثْمَارِ:
8 - يَجُوزُ اسْتِثْمَارُ الأَْمْوَال بِأَيِّ طَرِيقٍ مَشْرُوعٍ (2) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 120، والشرح الصغير 3 / 595، والقليوبي 3 / 33، والمغني 5 / 275.
(2) ابن عابدين 2 / 44، 45، وجواهر الإكليل 1 / 136، 137، و 2 / 120، وحاشية قليوبي 3 / 94، والمغني 5 / 521، وتكملة فتح القدير 8 / 32، 45.

(3/183)


اسْتِثْنَاءٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِثْنَاءُ لُغَةً: مَصْدَرُ اسْتَثْنَى، تَقُول: اسْتَثْنَيْتُ الشَّيْءَ مِنَ الشَّيْءِ إِذَا أَخْرَجْتَهُ، وَيُقَال: حَلَفَ فُلاَنٌ يَمِينًا لَيْسَ فِيهَا ثُنْيَا، وَلاَ مَثْنَوِيَّةً، وَلاَ اسْتِثْنَاءَ، كُلُّهُ وَاحِدٌ (1) .
وَذَكَرَ الشِّهَابُ الْخَفَاجِيُّ أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ فِي اللُّغَةِ وَالاِسْتِعْمَال يُطْلَقُ عَلَى: التَّقْيِيدِ بِالشَّرْطِ (2) ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَلاَ يَسْتَثْنُونَ} (3) أَيْ لاَ يَقُولُونَ: " إِنْ شَاءَ اللَّهُ ".
وَالاِسْتِثْنَاءُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ وَالأُْصُولِيِّينَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَفْظِيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا أَوْ حُكْمِيًّا، فَالاِسْتِثْنَاءُ اللَّفْظِيُّ هُوَ: الإِْخْرَاجُ مِنْ مُتَعَدِّدٍ بِإِلاَّ، أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا (4) ، وَيَلْحَقُ بِهِ فِي الْحُكْمِ الإِْخْرَاجُ بِأَسْتَثْنِي وَأُخْرِجُ وَنَحْوِهِمَا عَلَى لَفْظِ الْمُضَارِعِ، وَعَرَّفَهُ السُّبْكِيُّ بِأَنَّهُ: الإِْخْرَاجُ بِإِلاَّ أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ (5) .
وَعَرَّفَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ الْحَنَفِيُّ بِأَنَّهُ: الْمَنْعُ مِنْ دُخُول بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ صَدْرُ الْكَلاَمِ فِي حُكْمِهِ بِإِلاَّ أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا، فَعَرَّفَهُ بِالْمَنْعِ، وَلَمْ يُعَرِّفْهُ بِالإِْخْرَاجِ؛
__________
(1) لسان العرب - ثنى
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 509
(3) سورة القلم / 18
(4) روضة الناظر ص 132 ط السلفية 1385 هـ
(5) جمع الجوامع وحاشية البناني 2 / 9

(3/184)


لأَِنَّ الاِسْتِثْنَاءَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ إِخْرَاجَ بِهِ، إِذْ لَمْ يَدْخُل الْمُسْتَثْنَى فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَصْلاً حَتَّى يَكُونَ مُخْرَجًا. فَالاِسْتِثْنَاءُ لِمَنْعِهِ مِنَ الدُّخُول (1) ، وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ الاِسْتِثْنَاءَ أَيْضًا بِمَعْنَى قَوْل: " إِنْ شَاءَ اللَّهُ " فِي كَلاَمٍ إِنْشَائِيٍّ أَوْ خَبَرِيٍّ (2) .
وَهَذَا النَّوْعُ لَيْسَ اسْتِثْنَاءً حَقِيقِيًّا بَل هُوَ مِنْ مُتَعَارَفِ النَّاسِ. فَإِنْ كَانَ بِإِلاَّ وَنَحْوِهَا فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ حَقِيقِيٌّ، أَوِ " اسْتِثْنَاءٌ وَضْعِيٌّ (3) "، كَأَنْ يَقُول: لاَ أَفْعَل كَذَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، أَوْ: لأََفْعَلَنَّ كَذَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، وَمِنَ الْعُرْفِيِّ قَوْل النَّاسِ: إِنْ يَسَّرَ اللَّهُ، أَوْ إِنْ أَعَانَ اللَّهُ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ.
وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا التَّعْلِيقُ - وَلَوْ كَانَ بِغَيْرِ إِلاَّ - اسْتِثْنَاءً لِشِبْهِهِ بِالاِسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِل فِي صَرْفِهِ الْكَلاَمَ السَّابِقَ لَهُ عَنْ ظَاهِرِهِ (4) .
وَالاِسْتِثْنَاءُ الْمَعْنَوِيُّ هُوَ: الإِْخْرَاجُ مِنَ الْجُمْلَةِ بِغَيْرِ أَدَاةِ اسْتِثْنَاءٍ، كَقَوْل الْمُقِرِّ: " لَهُ الدَّارُ، وَهَذَا الْبَيْتُ مِنْهَا لِي ". وَإِنَّمَا أَعْطَوْهُ حُكْمَ الاِسْتِثْنَاءِ؛ لأَِنَّهُ فِي قُوَّةِ قَوْلِهِ: " لَهُ جَمِيعُ الدَّارِ إِلاَّ هَذَا الْبَيْتِ (5) ".
وَالاِسْتِثْنَاءُ الْحُكْمِيُّ يُقْصَدُ بِهِ أَنْ يُرِدَ التَّصَرُّفَ مَثَلاً عَلَى عَيْنٍ فِيهَا حَقٌّ لِلْغَيْرِ، كَبَيْعِ الدَّارِ الْمُؤَجَّرَةِ، فَإِنَّ الإِْجَارَةَ لاَ تَنْقَطِعُ بِذَلِكَ، وَالْبَيْعُ صَحِيحٌ، فَكَأَنَّ الْبَيْعَ وَرَدَ عَلَى الْعَيْنِ بِاسْتِثْنَاءِ مَنْفَعَتِهَا مُدَّةَ الإِْجَارَةِ.
وَهَذَا الإِْطْلاَقُ قَلِيلٌ فِي مُتَعَارَفِ الْفُقَهَاءِ وَالأُْصُولِيِّينَ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الأَْشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ لِلسُّيُوطِيِّ
__________
(1) التوضيح ومعه التلويح على التوضيح 2 / 20 صببح.
(2) المغني 7 / 351
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 514
(4) المغني 5 / 155 ط الرياض
(5) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 411

(3/184)


وَالْقَوَاعِدِ لاِبْنِ رَجَبٍ (1) ، إِلاَّ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ لاَ يَدْخُل فِي مَفْهُومِ الاِسْتِثْنَاءِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ، وَلِذَا فَلاَ تَنْطَبِقُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الاِسْتِثْنَاءِ فِيمَا يَلِي مِنْ هَذَا الْبَحْثِ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّخْصِيصُ:
2 - التَّخْصِيصُ: قَصْرُ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِهِ (2) ، فَهُوَ يُبَيِّنُ كَوْنَ اللَّفْظِ قَاصِرًا عَنِ الْبَعْضِ. وَقَال الْغَزَالِيُّ: إِنَّ الاِسْتِثْنَاءَ يُفَارِقُ التَّخْصِيصَ فِي أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ يُشْتَرَطُ اتِّصَالُهُ، وَأَنَّهُ يَتَطَرَّقُ إِلَى الظَّاهِرِ وَالنَّصِّ (3) جَمِيعًا، إِذْ يَجُوزُ أَنْ يَقُول: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ ثَلاَثَةً، كَمَا يَقُول: اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ إِلاَّ زَيْدًا، وَالتَّخْصِيصُ لاَ يَتَطَرَّقُ إِلَى النَّصِّ أَصْلاً، وَمِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَيْضًا أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِقَوْلٍ، وَيَكُونُ التَّخْصِيصُ بِقَوْلٍ أَوْ قَرِينَةٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ (4) .
هَذَا وَإِنَّ الْفَرْقَ الأَْوَّل الَّذِي ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ مِنِ اشْتِرَاطِ الاِتِّصَال فِي الاِسْتِثْنَاءِ، وَعَدَمِ اشْتِرَاطِهِ فِي التَّخْصِيصِ، لاَ يَجْرِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لِقَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ اتِّصَال الْمُخَصِّصَاتِ أَيْضًا.

ب - النَّسْخُ:
3 - النَّسْخُ: رَفْعُ الشَّارِعِ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِهِ بِدَلِيلٍ لاَحِقٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الاِسْتِثْنَاءِ: أَنَّ النَّسْخَ
__________
(1) القواعد لابن رجب ص 41، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 288
(2) شرح جمع الجوامع 2 / 3
(3) المستصفى 2 / 164
(4) كشاف اصطلاحات الفنون 1 / 183

(3/185)


رَفْعٌ لِمَا دَخَل تَحْتَ اللَّفْظِ، وَالاِسْتِثْنَاءُ يَدْخُل عَلَى الْكَلاَمِ فَيَمْنَعُ أَنْ يَدْخُل تَحْتَ اللَّفْظِ مَا كَانَ يَدْخُل لَوْلاَهُ، فَالنَّسْخُ قَطْعٌ وَرَفْعٌ، وَالاِسْتِثْنَاءُ مَنْعٌ أَوْ إِخْرَاجٌ، وَأَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلٌ، وَالنَّسْخَ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُنْفَصِلاً (1) .

ج - الشَّرْطُ:
4 - يُشْبِهُ الاِسْتِثْنَاءُ بِإِلاَّ وَأَخَوَاتِهَا الشَّرْطَ (التَّعْلِيقَ) ، لاِشْتِرَاكِهِمَا فِي مَنْعِ الْكَلاَمِ مِنْ إِثْبَاتِ مُوجِبِهِ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ الشَّرْطَ يَمْنَعُ الْكُل، وَالاِسْتِثْنَاءَ يَمْنَعُ الْبَعْضَ.
وَيُشَابِهُ الاِسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ الشَّرْطَ، لاِشْتِرَاكِهِمَا فِي مَنْعِ الْكُل وَذِكْرِ أَدَاةِ التَّعْلِيقِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ عَلَى طَرِيقِهِ؛ لأَِنَّهُ مَنْعٌ لاَ إِلَى غَايَةٍ، وَالشَّرْطُ مَنْعٌ إِلَى غَايَةِ تَحَقُّقِهِ، كَمَا فِي قَوْلِكَ: أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ إِنْ دَخَلُوا دَارِي. وَمِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ لاَ يَدْخُل الاِسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ فِي بَحْثِ التَّعْلِيقِ وَالشَّرْطِ. وَلاَ يُورِدُهُ الْفُقَهَاءُ فِي مَبَاحِثِ تَعْلِيقِ الطَّلاَقِ، وَإِنَّمَا فِي بَابِ الاِسْتِثْنَاءِ، لِمُشَارَكَتِهِ لَهُ فِي الاِسْمِ (2) .

5 - الْقَاعِدَةُ الأَْصِيلَةُ فِي الاِسْتِثْنَاءِ:
الاِسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، وَالاِسْتِثْنَاءُ مِنَ الإِْثْبَاتِ نَفْيٌ، فَنَحْوُ: مَا قَامَ أَحَدٌ إِلاَّ زَيْدًا، يَدُل عَلَى إِثْبَاتِ الْقِيَامِ لِزَيْدٍ، وَنَحْوُ: قَامَ الْقَوْمُ إِلاَّ زَيْدًا، يَدُل عَلَى نَفْيِ الْقِيَامِ عَنْهُ،
وَفِي هَذَا خِلاَفُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ.
فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَدْ قِيل: خِلاَفُهُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ. وَقِيل: بَل فِي الثَّانِيَةِ فَقَطْ، فَقَدْ قَال: إِنَّ
__________
(1) المستصفى 2 / 164، وروضة الناظر ص 132
(2) ابن عابدين 2 / 509، وشرح فتح القدير 3 / 143 بولاق

(3/185)


الْمُسْتَثْنَى مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ مَسْكُوتٌ عَنْهُ غَيْرُ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ، فَزَيْدٌ فِي الْمِثَال الْمُتَقَدِّمِ غَيْرُ مَحْكُومٍ بِقِيَامِهِ وَلاَ بِعَدَمِهِ.
وَحَاصِل الْخِلاَفِ فِي نَحْوِ: قَامَ الْقَوْمُ إِلاَّ زَيْدًا، أَنَّ الْجُمْهُورَ يَقُولُونَ: إِنَّ زَيْدًا بِالاِسْتِثْنَاءِ دَخَل فِي عَدَمِ الْقِيَامِ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ انْتَقَل إِلَى عَدَمِ الْحُكْمِ. وَعِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ هُوَ مُخْرَجٌ مِنَ الْكَلاَمِ الأَْوَّل (1) .
وَأَمَّا مَالِكٌ فَيُوَافِقُ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ فِي غَيْرِ الأَْيْمَانِ، أَمَّا فِي الأَْيْمَانِ فَلَيْسَ الاِسْتِثْنَاءُ إِثْبَاتًا.
فَمَنْ حَلَفَ: لاَ يَلْبَسُ الْيَوْمَ ثَوْبًا إِلاَّ الْكَتَّانَ، يَحْنَثُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِذَا قَعَدَ ذَلِكَ الْيَوْمَ عَارِيًّا فَلَمْ يَلْبَسْ شَيْئًا؛ لأَِنَّهُ لَمَّا كَانَ النَّفْيُ إِثْبَاتًا فَقَدْ حَلَفَ أَنْ يَلْبَسَ الْكَتَّانَ، فَإِذَا لَمْ يَلْبَسْهُ وَقَعَدَ عَارِيًّا حَنِثَ.
أَمَّا عِنْدَ مَالِكٍ فَلاَ يَحْنَثُ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَوَجَّهَ الْقَرَافِيُّ ذَلِكَ بِأَنَّ (إِلاَّ) فِي هَذَا الْمِثَال وَنَحْوِهَا صِفَةٌ، فَهِيَ بِمَعْنَى غَيْرُ، فَيَكُونُ قَدْ حَلَفَ عَلَى أَلاَّ يَلْبَسَ ثِيَابًا مُغَايِرَةً لِلْكَتَّانِ.
وَوَجَّهَهُ أَيْضًا بِأَنَّ مَعْنَى الْكَلاَمِ: أَنَّ جَمِيعَ الثِّيَابِ مَحْلُوفٌ عَلَيْهَا غَيْرَ الْكَتَّانِ (2) .
__________
(1) شرح جمع الجوامع وحاشية البناني 2 / 15، 16، وشرح مسلم الثبوت 1 / 326 وما بعدها.
(2) شرح جمع الجوامع وحاشية البناني 2 / 15، 16، والأشباه للسيوطي ص 288

(3/186)


أَنْوَاعُ الاِسْتِثْنَاءِ:
6 - الاِسْتِثْنَاءُ إِمَّا مُتَّصِلٌ وَإِمَّا مُنْفَصِلٌ.
فَالاِسْتِثْنَاءُ الْمُتَّصِل: مَا كَانَ فِيهِ الْمُسْتَثْنَى بَعْضُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ نَحْوُ جَاءَ الْقَوْمُ إِلاَّ زَيْدًا.
وَالاِسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ: (وَيُسَمَّى الْمُنْفَصِل أَيْضًا) مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ الْمُسْتَثْنَى بَعْضُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، مِثْل قَوْله تَعَالَى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ} (1) فَإِنَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ لَيْسَ عِلْمًا (2) .
وَيَتَبَيَّنُ مِنْ هَذَا أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ لاَ إِخْرَاجَ بِهِ، وَلاَ يَكُونُ مِنَ الْمُخَصِّصَاتِ؛ لأَِنَّ الْمُسْتَثْنَى لَمْ يَدْخُل أَصْلاً. هَذَا وَلاَ بُدَّ لِلاِسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فِيمَا يُتَوَهَّمُ فِيهِ الْمُوَافَقَةُ. وَالْفَائِدَةُ فِيهِ دَفْعُ هَذَا التَّوَهُّمِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ شَبِيهٌ بِ (لَكِنَّ) ، فَإِنَّهُ لِلاِسْتِدْرَاكِ، أَيْ دَفْعِ التَّوَهُّمِ مِنَ السَّابِقِ. وَأَشْهَرُ صُوَرِ الْمُخَالَفَةِ: أَنْ يَنْفِيَ عَنِ الْمُسْتَثْنَى الْحُكْمَ الَّذِي ثَبَتَ لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، نَحْوُ: جَاءَنِي الْمُدَرِّسُونَ إِلاَّ طَالِبًا، فَقَدْ نَفَيْنَا الْمَجِيءَ عَنِ الطَّالِبِ بَعْدَمَا أَثْبَتْنَاهُ لِلْمُدَرِّسِينَ.
وَلَمَّا كَانَ الاِسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ لاَ إِخْرَاجَ بِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ اسْتِثْنَاءً حَقِيقَةً، بَل هُوَ مَجَازٌ (3) .
قَال الْمَحَلِّيُّ: هَذَا هُوَ الأَْصَحُّ، بِدَلِيل أَنَّهُ يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ الْمُتَّصِل دُونَ الْمُنْقَطِعِ.
وَعَلَى هَذَا جَاءَ حَدُّ الاِسْتِثْنَاءِ فِيمَا سَبَقَ، فَقَدْ عُرِّفَ بِمَا لاَ يَشْمَل
__________
(1) سورة النساء / 157
(2) في كشاف اصطلاحات الفنون أنه: ليس جميع أدوات الاستثناء تصلح في الاستثناء المنقطع، وإنما ذلك في " إلا " و " غير " و " بيد أن " خاصة.
(3) كشاف اصطلاحات الفنون 1 / 184، وشرح مسلم الثبوت 1 / 316 وانظر مصطلح (أيمان)

(3/186)


الْمُنْقَطِعَ (1) وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ أُخْرَى مَوْطِنُ تَفْصِيلِهَا كُتُبُ الأُْصُول.

صِيغَةُ الاِسْتِثْنَاءِ:

أ - أَلْفَاظُ الاِسْتِثْنَاءِ:
7 - يَذْكُرُ اللُّغَوِيُّونَ وَالأُْصُولِيُّونَ لِلاِسْتِثْنَاءِ الْحَقِيقِيِّ الأَْلْفَاظَ التَّالِيَةَ: إِلاَّ، وَغَيْرَ، وَسِوَى، وَخَلاَ، وَعَدَا، وَحَاشَا، وَبَيْدَ، وَلَيْسَ، وَلاَ يَكُونُ (2) .

ب - الاِسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ وَنَحْوِهَا:
8 - شَرَعَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هَذَا النَّوْعَ مِنَ الاِسْتِثْنَاءِ، فَقَدْ قَال لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} . (3)
قَال الْقُرْطُبِيُّ: عَاتَبَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى قَوْلِهِ لِلْكُفَّارِ حِينَ سَأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، وَالْفِتْيَةِ، وَذِي الْقَرْنَيْنِ: (ائْتُونِي غَدًا (4)) وَلَمْ يَسْتَثْنِ فِي ذَلِكَ. فَاحْتُبِسَ الْوَحْيُ عَنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، حَتَّى شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَأَرْجَفَ الْكُفَّارُ بِهِ، فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْكَهْفِ، وَأُمِرَ فِي هَذِهِ الآْيَةِ مِنْهَا: أَلاَّ يَقُول فِي أَمْرٍ مِنَ الأُْمُورِ: إِنِّي أَفْعَل غَدًا كَذَا وَكَذَا إِلاَّ أَنْ يُعَلِّقَ ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل، حَتَّى لاَ يَكُونَ مُحَقِّقًا لِحُكْمِ الْخَبَرِ، فَإِنَّهُ إِذَا قَال: لأََفْعَلَنَّ ذَلِكَ وَلَمْ يَفْعَل كَانَ كَاذِبًا، وَإِذَا قَال لأََفْعَلَنَّ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُحَقِّقًا لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ.
قَال الْقُرْطُبِيُّ: وَقَال ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي الْكَلاَمِ
__________
(1) شرح جمع الجوامع وحاشية البناني 2 / 12
(2) روضة الناظر ص 132
(3) سورة الكهف / 23
(4) حديث السؤال عن ذي القرنين أخرجه ابن المنذر في تفسيره عن مجاهد مرسلا (الدر المنثور 4 / 217 ط الميمنية)

(3/187)


حَذْفٌ، تَقْدِيرُهُ إِلاَّ أَنْ تَقُول: إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ. أَوْ: إِلاَّ أَنْ تَقُول: إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقَال: وَالآْيَةُ لَيْسَتْ فِي الأَْيْمَانِ، وَإِنَّمَا هِيَ فِي سُنَّةِ الاِسْتِثْنَاءِ فِي غَيْرِ الْيَمِينِ (1) ، وَأَوْضَحَ كَذَلِكَ أَنَّ آخِرَ الآْيَةِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} . (2) يَدُل - عَلَى أَحَدِ الأَْقْوَال فِي تَفْسِيرِهَا - أَنَّهُ إِذَا نَسِيَ الاِسْتِثْنَاءَ بِالْمَشِيئَةِ يَقُولُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا تَذَكَّرَهُ.
فَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَال: مَا دَامَ فِي مَجْلِسِ الذِّكْرِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ: وَلَوْ بَعْدَ سَنَةٍ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: سَنَتَيْنِ. فَيُحْمَل عَلَى تَدَارُكِ التَّبَرُّكِ بِالاِسْتِثْنَاءِ.
فَأَمَّا الاِسْتِثْنَاءُ الْمُفِيدُ حُكْمًا - يَعْنِي فِي الْيَمِينِ وَنَحْوِهَا - فَلاَ يَصِحُّ إِلاَّ مُتَّصِلاً. هَذَا، وَإِنَّ الاِسْتِثْنَاءَ بِالْمَشِيئَةِ وَنَحْوِهَا يَدْخُل فِي كَلاَمِ النَّاسِ فِي الأَْخْبَارِ، وَالأَْيْمَانِ، وَالنُّذُورِ، وَالطَّلاَقِ، وَالْعَتَاقِ، وَالْوَعْدِ، وَالْعَقْدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. ثُمَّ يَكُونُ لَهُ أَثَرُهُ فِي حِل الْيَمِينِ وَنَحْوِهَا.

اسْتِثْنَاءُ عَدَدَيْنِ بَيْنَهُمَا حَرْفُ الشَّكِّ:
9 - إِذَا قَال: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إِلاَّ مِائَةَ دِرْهَمٍ أَوْ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْحَاصِل عَلَى قَوْلَيْنِ:
الأَْوَّل: وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَلْزَمُهُ تِسْعُمِائَةٍ؛ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الاِسْتِثْنَاءُ تَكَلُّمًا بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا شَكَكْنَا فِي الْمُتَكَلِّمِ بِهِ، وَالأَْصْل عَدَمُ شَغْل الذِّمَمِ، فَثَبَتَ الأَْقَل.
وَالثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ " خُرُوجٌ بَعْدَ دُخُولٍ ".
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن، 10 / 385
(2) سورة الكهف / 23

(3/187)


يَلْزَمُهُ تِسْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا دَخَل الأَْلْفُ صَارَ الشَّكُّ فِي الْمُخْرَجِ، فَيَخْرُجُ الأَْقَل (1) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الإِْقْرَارِ وَالْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.

الاِسْتِثْنَاءُ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاطِفَةٍ:
10 - إِذَا وَرَدَ الاِسْتِثْنَاءُ بِإِلاَّ وَنَحْوِهَا بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاطِفَةٍ بِالْوَاوِ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْفَخْرِ الرَّازِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْجُمْلَةِ الأَْخِيرَةِ فَقَطْ. وَعِنْدَ جُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى الْكُل.
وَقَال الْبَاقِلاَّنِيُّ بِالتَّوَقُّفِ فِي عَوْدِهِ إِلَى مَا عَدَا الأَْخِيرَ.
وَقَال الْغَزَالِيُّ بِالتَّوَقُّفِ مُطْلَقًا.
وَقَال أَبُو الْحُسَيْنِ الْمُعْتَزِلِيُّ: إِنْ ظَهَرَ الإِْضْرَابُ عَنِ الأُْولَى، كَمَا لَوِ اخْتَلَفَ بِالإِْنْشَائِيَّةِ وَالْخَبَرِيَّةِ، أَوِ الأَْمْرِيَّةِ وَالنَّهْيِيَّةِ، أَوْ لَمْ يَكُنِ اشْتِرَاكٌ فِي الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلاَمُ، فَإِنَّهُ يَعُودُ لِلأَْخِيرَةِ فَقَطْ، وَإِلاَّ فَلِلْجَمِيعِ.
وَالنِّزَاعُ كَمَا تَرَى فِي الظُّهُورِ. وَلاَ تَتَأَتَّى دَعْوَى النُّصُوصِيَّةِ فِي وَاحِدٍ مِنَ الاِحْتِمَالاَتِ الْمَذْكُورَةِ. وَلَمْ يُنَازِعْ أَحَدٌ أَيْضًا فِي إِمْكَانِ عَوْدِ الاِسْتِثْنَاءِ إِلَى الأَْخِيرَةِ وَحْدَهَا، وَإِمْكَانِ عَوْدِهِ إِلَى الْكُل، فَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ، هَذَا إِذَا كَانَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْعَطْفُ بِالْفَاءِ أَوْ ثُمَّ فَالْخِلاَفُ قَائِمٌ أَيْضًا، لَكِنْ ذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ - كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالآْمِدِيِّ - إِلَى أَنَّهُ يَعُودُ حِينَئِذٍ إِلَى الأَْخِيرِ.
وَاحْتَجَّ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ حُكْمَ الْجُمْلَةِ الأُْولَى، ظَاهِرٌ فِي الثُّبُوتِ عُمُومًا، وَرَفْعُهُ عَنِ الْبَعْضِ بِالاِسْتِثْنَاءِ مَشْكُوكٌ فِيهِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ لِلأَْخِيرَةِ فَقَطْ، فَلاَ يَرْفَعُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 459

(3/188)


حُكْمَ الأُْولَى؛ لأَِنَّ الظَّاهِرَ لاَ يُعَارِضُهُ الْمَشْكُوكُ. بِخِلاَفِ الأَْخِيرَةِ، فَإِنَّ حُكْمَهَا غَيْرُ ظَاهِرٍ؛ لأَِنَّ الرَّفْعَ ظَاهِرٌ فِيهَا فِيمَا لاَ صَارِفَ لَهُ، فَيَتَعَلَّقُ بِهَا.
وَاحْتَجُّوا ثَانِيًا بِأَنَّ الاِتِّصَال مِنْ شَرْطِ الاِسْتِثْنَاءِ، وَالاِتِّصَال ثَابِتٌ فِي الْجُمْلَةِ الأَْخِيرَةِ، أَمَّا فِيمَا قَبْلَهَا فَإِنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِالْعَطْفِ، إِلاَّ أَنَّ الاِتِّصَال بِالْعَطْفِ فَقَطْ ضَعِيفٌ، فَلاَ يُعْتَبَرُ إِلاَّ بِدَلِيلٍ آخَرَ مُوجِبٍ لاِعْتِبَارِ هَذَا الاِتِّصَال.
وَالشَّافِعِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمُ احْتَجُّوا بِالْقِيَاسِ عَلَى الشَّرْطِ، فَإِنَّهُ إِذَا تَعَقَّبَ جُمَلاً رَجَعَ إِلَيْهَا اتِّفَاقًا.
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ الْعَطْفَ يَجْعَل الْمُتَعَدِّدَ كَالْمُفْرَدِ، فَالْمُتَعَلِّقُ بِالْوَاحِدِ هُوَ الْمُتَعَلِّقُ بِالْكُل. وَبِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الاِسْتِثْنَاءِ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِالْكُل، فَإِمَّا أَنْ يُكَرَّرَ الاِسْتِثْنَاءُ بَعْدَ كُل جُمْلَةٍ، وَإِمَّا أَنْ يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ وَاحِدَةٍ فَقَطْ، أَوْ يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ الْجَمِيعِ. فَالتَّكْرَارُ مُسْتَهْجَنٌ، فَبَطَل الأَْوَّل وَفِي الثَّانِي تَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، فَبَقِيَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ، فَيَلْزَمُ الظُّهُورُ فِيهِ.
11 - وَمِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ بِنَاءً عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} . (1) . . قَال الْحَنَفِيَّةُ: الَّذِينَ تَابُوا مِنَ الْقَاذِفِينَ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُمْ، وَالاِسْتِثْنَاءُ عَائِدٌ عَلَى الْحُكْمِ بِفِسْقِهِمْ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: تُقْبَل شَهَادَتُهُمْ؛ لأَِنَّ الاِسْتِثْنَاءَ يَعُودُ عَلَى الْجُمَل الثَّلاَثِ.
__________
(1) مسلم الثبوت وشرحه 1 / 332 - 338، وشرح جمع الجوامع 2 / 17 - 19، وروضة الناظر ص 135، والآية من سورة النور / 4

(3/188)


أَمَّا الْجَلْدُ فَاتُّفِقَ عَلَى عَدَمِ سُقُوطِهِ بِالتَّوْبَةِ لأَِجْل الدَّلِيل الْمَانِعِ مِنْ تَعَلُّقِ الاِسْتِثْنَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (1) وَالْمَانِعُ هُوَ كَوْنُ الْجَلْدِ حَقًّا لِلآْدَمِيِّ، وَحَقُّ الآْدَمِيِّ لاَ يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ.

الاِسْتِثْنَاءُ بَعْدَ الْمُفْرَدَاتِ الْمُتَعَاطِفَةِ:
12 - إِنْ كَانَ الاِسْتِثْنَاءُ بَعْدَ مُفْرَدَاتٍ مُتَعَاطِفَةٍ فَالْخِلاَفُ فِيهِ كَالْخِلاَفِ فِي الْجُمَل، وَلَكِنْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ أَوْلَى بِعَوْدِهِ لِلْكُل مِنَ الْوَارِدِ بَعْدَ الْجُمَل الْمُتَعَاطِفَةِ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ اسْتِقْلاَل الْمُفْرَدَاتِ. نَحْوُ: تَصَدَّقْ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل إِلاَّ الْفَسَقَةَ مِنْهُمْ.

الاِسْتِثْنَاءُ الْعُرْفِيُّ بَعْدَ الْمُتَعَاطِفَاتِ:
13 - أَمَّا الاِسْتِثْنَاءُ الْعُرْفِيُّ بِإِنْ شَاءَ اللَّهُ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّهُ إِذَا تَعَقَّبَ جُمَلاً نَحْوَ: وَاَللَّهِ لاَ آكُل وَلاَ أَشْرَبُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَيَتَعَلَّقُ بِالْجَمِيعِ اتِّفَاقًا. وَوَجْهُهُ أَنَّهُ شَرْطٌ وَلَيْسَ مِنْ حَقِيقَةِ الاِسْتِثْنَاءِ، وَالشَّرْطُ مُقَدَّمٌ تَقْدِيرًا؛ لأَِنَّ لَهُ صَدْرَ الْكَلاَمِ بِاتِّفَاقِ النُّحَاةِ، فَيَصِحُّ تَعَلُّقُهُ بِالأَْوَّل؛ لأَِنَّهُ مُقَارِنٌ لَهُ تَقْدِيرًا. بِخِلاَفِ الاِسْتِثْنَاءِ فَإِنَّهُ مُؤَخَّرٌ لَفْظًا أَوْ تَقْدِيرًا (2) .

الاِسْتِثْنَاءُ بَعْدَ الاِسْتِثْنَاءِ:
14 - هَذَا النَّوْعُ مِنَ الاِسْتِثْنَاءِ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ:
الأَْوَّل: الاِسْتِثْنَاءَاتُ الْمُتَعَدِّدَةُ الْمُتَعَاطِفَةُ نَحْوُ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ أَرْبَعَةً، وَإِلاَّ ثَلاَثَةً، وَإِلاَّ اثْنَيْنِ.
__________
(1) سورة النور / 4
(2) مسلم الثبوت وشرحه 1 / 332 - 338، وشرح جمع الجوامع 2 / 17 - 19، وروضة الناظر ص 135، والتمهيد للأسنوي 392 - 393

(3/189)


وَحُكْمُهَا أَنْ تَعُودَ كُلُّهَا إِلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ الْمَذْكُورُ قَبْلَهَا. فَيَلْزَمُهُ فِي الْمِثَال الْمَذْكُورِ وَاحِدٌ فَقَطْ.
الثَّانِي: الاِسْتِثْنَاءَاتُ الْمُتَوَالِيَةُ بِدُونِ عَاطِفٍ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهَا مُسْتَغْرِقًا لِمَا قَبْلَهُ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهَا يَعُودُ إِلَى مَا قَبْلَهُ. فَلَوْ قَال: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ سَبْعَةً، إِلاَّ خَمْسَةً إِلاَّ دِرْهَمَيْنِ، صَحَّ، وَكَانَ مُقِرًّا بِسِتَّةٍ، فَإِنَّ خَمْسَةَ إِلاَّ دِرْهَمَيْنِ عِبَارَةُ عَنْ ثَلاَثَةٍ اسْتَثْنَاهَا مِنْ سَبْعَةٍ بَقِيَ أَرْبَعَةٌ، اسْتَثْنَاهَا مِنْ عَشَرَةٍ بَقِيَ سِتَّةٌ (1) .
وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الاِسْتِثْنَاءَاتِ مُسْتَغْرِقًا لِمَا قَبْلَهُ فَإِنَّهَا لاَ تَبْطُل، بَل تَعُودُ جَمِيعُهَا إِلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ وَاخْتِلاَفٌ (2) .

شُرُوطُ الاِسْتِثْنَاءِ
15 - شُرُوطُ الاِسْتِثْنَاءِ عَامَّةٌ، مَا عَدَا شَرْطَ الاِسْتِغْرَاقِ، فَإِنَّهُ لاَ يَأْتِي فِي الاِسْتِثْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الرَّمْلِيُّ (3) ، وَسَيَأْتِي أَيْضًا أَنَّ شَرْطَ الْقَصْدِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فِي الاِسْتِثْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ.
الشَّرْطُ الأَْوَّل:
16 - يُشْتَرَطُ فِي الاِسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلاً بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، بِأَلاَّ يَكُونَ مَفْصُولاً بِمَا يُعَدُّ فِي الْعَادَةِ فَاصِلاً. فَلَوْ كَانَ مَفْصُولاً بِتَنَفُّسٍ أَوْ سُعَالٍ أَوْ نَحْوِهِمَا لَمْ يَمْنَعِ الاِتِّصَال، وَكَذَلِكَ إِنْ حَال بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كَلاَمٌ غَيْرُ أَجْنَبِيٍّ، وَمِنْهُ النِّدَاءُ؛ لأَِنَّهُ لِلتَّنْبِيهِ وَالتَّأْكِيدُ. أَمَّا إِنْ سَكَتَ سُكُوتًا يُمْكِنُهُ الْكَلاَمُ فِيهِ، أَوْ فَصَل بِكَلاَمٍ أَجْنَبِيٍّ، أَوْ عَدَل إِلَى شَيْءٍ آخَرَ اسْتَقَرَّ حُكْمُ الْمُسْتَثْنَى فَلَمْ يَرْتَفِعْ، بِخِلاَفِ مَا لاَ يُمْكِنُ، كَمَا لَوْ أَخَذَ آخِذٌ بِفَمِهِ فَمَنَعَهُ
__________
(1) شرح المحلي على جمع الجوامع 2 / 17، والمغني 5 / 147
(2) التمهيد ص 391
(3) نهاية المحتاج 6 / 455

(3/189)


الْكَلاَمَ (1) . هَذَا هُوَ الْقَوْل الْمُقَدَّمُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَيُشْتَرَطُ لِتَحَقُّقِ الاِتِّصَال أَنْ يَنْوِيَ الاِسْتِثْنَاءَ فِي الْكَلاَمِ السَّابِقِ، فَلَوْ لَمْ يَنْوِ إِلاَّ بَعْدَ فَرَاغِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لَمْ يَصِحَّ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الْعُمْدَةُ مُجَرَّدُ الاِتِّصَال سَوَاءٌ نَوَى أَوَّل الْكَلاَمِ، أَوْ أَثْنَاءَهُ، أَوْ بَعْدَ فَرَاغِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ.
وَقَدْ نُقِل خِلاَفُ هَذَا عَنْ قَوْمٍ. فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَجُوزُ الاِسْتِثْنَاءُ إِلَى شَهْرٍ، وَقِيل أَبَدًا. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَعَنْ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ: يَجُوزُ فِي الْمَجْلِسِ، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ فِي الاِسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ (2) ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ: إِلَى سَنَتَيْنِ. وَقِيل: مَا لَمْ يَأْخُذْ فِي كَلاَمٍ آخَرَ. وَقِيل:
إِنْ نَوَى الاِسْتِثْنَاءَ فِي أَثْنَاءِ الْكَلاَمِ جَازَ التَّأْخِيرُ بَعْدَهُ. وَنُسِبَ هَذَا الْقَوْل إِلَى الإِْمَامِ أَحْمَدَ.
وَقِيل: يَجُوزُ التَّأْخِيرُ فِي كَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى خَاصَّةً.
وَمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَرَّمَ مَكَّةَ، وَقَال: لاَ يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا، قَال الْعَبَّاسُ: يَا رَسُول اللَّهِ إِلاَّ الإِْذْخِرَ، فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ، فَقَال: إِلاَّ الإِْذْخِرَ (3) فَهَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْفَصِلٌ. فَحُمِل عَلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ مَحْذُوفٍ مُقَدَّرٍ.
__________
(1) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 4 / 458، وحاشية الدسوقي 2 / 388
(2) روضة الناظر ص 132
(3) حديث: " لا يختلى شوكها. . . " أخرجه البخاري " فتح الباري 12 / 205 ط السلفية " والقين: الحداد، واختلى الشوك: جزه رطبا، وعضد الشجر: ضربه ليسقط ورقه.

(3/190)


فَكَأَنَّهُ كَرَّرَ الْقَوْل، فَلاَ يَتَعَلَّقُ بِالْكَلاَمِ الْمَذْكُورِ أَوَّلاً (1)
وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الاِتِّصَال؛ أَنَّ الْقَوْل بِجَوَازِ الاِسْتِثْنَاءِ غَيْرِ الْمُتَّصِل يَسْتَلْزِمُ أَلاَّ يَجْزِمَ بِصِدْقٍ أَوْ كَذِبٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الأَْخْبَارِ لاِحْتِمَال الاِسْتِثْنَاءِ، وَكَذَلِكَ لاَ يَثْبُتُ عَقْدٌ مِنَ الْعُقُودِ، وَلإِِجْمَاعِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ عَلَى وُجُوبِ الاِتِّصَال. فَلَوْ قَال: لَهُ عَشَرَةٌ، ثُمَّ زَادَ بَعْدَ شَهْرٍ: إِلاَّ ثَلاَثَةً يُعَدُّ لَغْوًا.
وَلَعَل مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَنْ قَال شِبْهَ قَوْلِهِ، إِنَّمَا قُصِدَ بِهِ أَنَّ مَنْ نَسِيَ أَنْ يَقُول: " إِنْ شَاءَ اللَّهُ " يَقُولُهَا مَتَى تَذَكَّرَ ذَلِكَ، وَلَوْ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، امْتِثَالاً لِلآْيَةِ، وَلَيْسَ فِي الاِسْتِثْنَاءِ الْمُوجِبِ رَفْعُ حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى (2) كَمَا تَقَدَّمَ.

الشَّرْطُ الثَّانِي:
17 - وَيُشْتَرَطُ فِي الاِسْتِثْنَاءِ أَلاَّ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مُسْتَغْرِقًا لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَإِنَّ الاِسْتِثْنَاءَ الْمُسْتَغْرِقَ لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بَاطِلٌ اتِّفَاقًا، إِلاَّ عِنْدَ مَنْ شَذَّ.
وَادَّعَى الْبَعْضُ الإِْجْمَاعَ عَلَيْهِ. فَلَوْ قَال: " لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ عَشَرَةً " لَغَا قَوْلُهُ " إِلاَّ عَشَرَةً " وَلَزِمَهُ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ. وَمِمَّنْ شَذَّ ابْنُ طَلْحَةَ الْمَالِكِيُّ فِي الْمَدْخَل، نَقَل عَنْهُ الْقَرَافِيُّ أَنَّهُ قَال فِيمَنْ قَال لِزَوْجَتِهِ: " أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا إِلاَّ ثَلاَثًا ": لاَ يَقَعُ عَلَيْهِ طَلاَقٌ (3) .
__________
(1) شرح مسلم الثبوت 1 / 320، 321
(2) تفسير القرطبي 10 / 385، وشرح جمع الجوامع وحاشية البناني 2 / 10 وما بعدها
(3) جمع الجوامع وشرحه 2 / 14

(3/190)


وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ، فَهُمْ يُوَافِقُونَ عَلَى بُطْلاَنِ الاِسْتِثْنَاءِ إِنْ كَانَ بِعَيْنِ لَفْظِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، كَقَوْلِهِ: عَبِيدِي أَحْرَارٌ إِلاَّ عَبِيدِي، أَوْ بِلَفْظٍ مُسَاوٍ لَهُ، كَقَوْلِهِ: نِسَائِي طَوَالِقُ إِلاَّ زَوْجَاتِي.
أَمَّا إِنْ كَانَ بِغَيْرِهِمَا كَقَوْلِهِ: ثُلُثُ مَالِي لِزَيْدٍ إِلاَّ أَلْفًا، وَالثُّلُثُ أَلْفٌ. فَيَصِحُّ الاِسْتِثْنَاءُ وَلاَ يَسْتَحِقُّ زَيْدٌ شَيْئًا.
فَالشَّرْطُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِيهَامُ الْبَقَاءِ لاَ حَقِيقَتُهُ، حَتَّى لَوْ طَلَّقَهَا سِتًّا إِلاَّ أَرْبَعًا صَحَّ، وَوَقَعَ ثِنْتَانِ. وَإِنْ كَانَتِ السِّتَّةُ لاَ صِحَّةَ لَهَا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ؛ لأَِنَّ الطَّلاَقَ لاَ يَزِيدُ عَنْ ثَلاَثٍ، وَمَعَ هَذَا لاَ يُجْعَل كَأَنَّهُ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا إِلاَّ أَرْبَعًا، فَكَأَنَّ اعْتِبَارَ اللَّفْظِ أَوْلَى (1) .
وَجَعَل صَاحِبُ الْمُغْنِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ مِنَ الاِسْتِثْنَاءِ الْمُسْتَغْرِقِ أَنْ يَقُول مَثَلاً: " لَهُ عَلَيَّ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ وَدِرْهَمَانِ إِلاَّ دِرْهَمَيْنِ " فَلاَ يَصِحُّ الاِسْتِثْنَاءُ، وَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَهُوَ فِي مِثَالِنَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ (2) .

اسْتِثْنَاءُ الأَْكْثَرِ وَالأَْقَل:
18 - أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ النِّصْفِ، وَمَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ، مَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَغْرِقًا كَمَا تَقَدَّمَ، نَحْوُ: " لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ سِتَّةً (3) أَوْ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ خَمْسَةً ". وَنَسَبَ صَاحِبُ فَوَاتِحِ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 4 / 458، ومسلم الثبوت 1 / 323، 324
(2) المغني لابن قدامة 5 / 159، 160 نشر مكتبة الرياض الحديثة
(3) ابن عابدين 4 / 458

(3/191)


الرَّحَمُوتِ هَذَا الْقَوْل إِلَى الْحَنَفِيَّةِ، وَالأَْكْثَرِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ (1) .
قِيل: إِنَّمَا يَمْنَعُ الْحَنَابِلَةُ اسْتِثْنَاءَ أَكْثَرَ مِنَ النِّصْفِ، وَيُجِيزُونَ اسْتِثْنَاءَ النِّصْفِ. وَقِيل: يَمْنَعُونَ النِّصْفَ أَيْضًا.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ يَمْنَعُ اسْتِثْنَاءَ الأَْكْثَرِ إِنْ كَانَ كُلٌّ مِنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عَدَدًا صَرِيحًا. قِيل وَبِهَذَا قَال الْقَاضِي الْبَاقِلاَّنِيُّ آخِرًا.
وَقَدْ احْتَجَّ لِجَوَازِ اسْتِثْنَاءِ الأَْكْثَرِ فِي غَيْرِ الْعَدَدِ بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَك مِنَ الْغَاوِينَ} (2) وَالْغَاوُونَ هُمْ الأَْكْثَرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (3) وَاحْتَجَّ لِجَوَازِهِ أَيْضًا فِي الْعَدَدِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ جَمِيعًا عَلَى لُزُومِ وَاحِدٍ فِي الإِْقْرَارِ بِلَفْظِ: " لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ تِسْعَةً (4) " وَاحْتَجَّ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ أَئِمَّةَ اللُّغَةِ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءُ الأَْكْثَرِ جَائِزًا لُغَةً، مِنْهُمُ ابْنُ جِنِّي، وَالزَّجَّاجُ، وَالْقُتَيْبِيُّ. قَال الزَّجَّاجُ: لَمْ يَأْتِ الاِسْتِثْنَاءُ إِلاَّ فِي قَلِيلٍ مِنَ الْكَثِيرِ (5) .

الشَّرْطُ الثَّالِثُ:
19 - وَيُشْتَرَطُ فِي الاِسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِمَّا يَدْخُل تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي
__________
(1) في فواتح الرحموت أنه من الشافعية، والصواب أنه مالكي كما في الأعلام للزركلي 7 / 46
(2) سورة الحجر 42
(3) سورة يوسف 103
(4) فواتح الرحموت 1 / 335، 336، وجمع الجوامع وشرح المحلي 2 / 14
(5) روضة الناظر ص 133

(3/191)


صِحَّةِ الاِسْتِثْنَاءِ إِذَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَجَوَّزَهُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْبَاقِلاَّنِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَمِثَال ذَلِكَ قَوْلُهُ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنَ الدَّنَانِيرِ إِلاَّ فَرَسًا ".
وَكَذَا لَوْ قَال: لَهُ عَلَيَّ فَرَسٌ إِلاَّ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ، فَيُجْبَرُ عَلَى الْبَيَانِ فَإِنِ اسْتَغْرَقَتِ الْقِيمَةُ الْمُقَرَّ بِهِ بَطَل الاِسْتِثْنَاءُ. وَلَزِمَهُ الأَْلْفُ بِتَمَامِهَا (1) .
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَصِحُّ اسْتِحْسَانًا اسْتِثْنَاءُ الْمُقَدَّرِ مِنَ الْمُقَدَّرِ الْكَيْلِيِّ وَالْوَزْنِيِّ، وَالْمَعْدُودِ الَّذِي لاَ تَتَفَاوَتُ آحَادُهُ، كَالْفُلُوسِ وَالْجَوْزِ، مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ. وَذَلِكَ لأَِنَّهَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ فَاعْتُبِرَتْ جِنْسًا وَاحِدًا، فَكَانَتْ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَتُطْرَحُ قِيمَةُ الْمُسْتَثْنَى مِمَّا أَقَرَّ بِهِ.
وَيَصِحُّ عِنْدَهُمَا هَذَا النَّوْعُ مِنَ الاِسْتِثْنَاءِ وَلَوِ اسْتَغْرَقَتِ الْقِيمَةُ جَمِيعَ مَا أَقَرَّ بِهِ، لاِسْتِغْرَاقِهِ بِغَيْرِ الْمُسَاوِي.
وَالْقَوْل الآْخَرُ لِلْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ، وَهُوَ قَوْل مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ. وَهُوَ الْقِيَاسُ.
أَمَّا فِي غَيْرِ الْمُقَدَّرَاتِ، كَمَا لَوْ قَال: لَهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إِلاَّ ثَوْبًا، فَلاَ يَصِحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ جَمِيعًا، قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الاِسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ أَنْ يُسْتَثْنَى الدَّرَاهِمُ مِنَ الدَّنَانِيرِ، أَوِ الدَّنَانِيرُ مِنَ الدَّرَاهِمِ. وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَهُمْ لاَ يَصِحُّ مُطْلَقًا.
وَحُجَّةُ الْمُجِيزِينَ أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ، مِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآِدَم فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 411 ط دار الفكر.

(3/192)


الْجِنِّ} . (1) وَقَال اللَّهُ تَعَالَى: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ تَأْثِيمًا إِلاَّ قِيلاً سَلاَمًا سَلاَمًا} . (2)
وَحُجَّةُ الْمَانِعِينَ أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ صَرْفُ اللَّفْظِ بِحَرْفِ الاِسْتِثْنَاءِ عَمَّا كَانَ يَقْتَضِيهِ لَوْلاَهُ.
وَغَيْرُ الْجِنْسِ الْمَذْكُورِ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي الْكَلاَمِ، فَإِذَا ذَكَرَهُ فَمَا صَرَفَ الْكَلاَمَ عَنْ صَوْبِهِ، وَلاَ ثَنَاهُ عَنْ وَجْهِ اسْتِرْسَالِهِ، فَلاَ يَكُونُ اسْتِثْنَاءً، وَإِنَّمَا يُسَمَّى هَذَا النَّوْعُ اسْتِثْنَاءً مَجَازًا، وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الاِسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ (ف: 6) وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ اسْتِدْرَاكٌ، وَتَكُونُ إِلاَّ بِمَعْنَى لَكِنَّ، فَإِذَا ذَكَرَ الاِسْتِدْرَاكَ بَعْدَ الإِْقْرَارِ، كَأَنْ قَال: لَهُ عِنْدِي مِائَةُ دِرْهَمٍ إِلاَّ ثَوْبًا لِي عَلَيْهِ كَانَ بَاطِلاً؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ مُقِرًّا بِشَيْءٍ، مُدَّعِيًا لِشَيْءٍ سِوَاهُ، فَيُقْبَل إِقْرَارُهُ، وَتَبْطُل دَعْوَاهُ وَهِيَ الاِسْتِثْنَاءُ.
وَحُجَّةُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الأَْثْمَانِ وَغَيْرِهَا أَنَّ قَدْرَ الدَّنَانِيرِ مِنَ الدَّرَاهِمِ مَعْلُومٌ، وَيُعَبَّرُ بِأَحَدِهِمَا عَنِ الآْخَرِ، فَإِذَا اسْتَثْنَى أَحَدَهُمَا مِنَ الآْخَرِ عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ التَّعْبِيرَ بِأَحَدِهِمَا عَنِ الآْخَرِ، فَإِنَّ قَوْمًا يُسَمُّونَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ دِينَارًا، وَفِي بِلاَدٍ أُخْرَى يُسَمُّونَ ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ دِينَارًا (3) .

الشَّرْطُ الرَّابِعُ: التَّلَفُّظُ بِالاِسْتِثْنَاءِ
20 - ذَهَبَ ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ فِي الاِسْتِثْنَاءِ تَحْرِيكُ الشَّفَتَيْنِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحْلَفًا، فَإِنْ كَانَ مُسْتَحْلَفًا لَمْ يُجْزِئْهُ إِلاَّ الْجَهْرُ.
__________
(1) سورة الكهف / 50
(2) سورة الواقعة / 25
(3) ابن عابدين 4 / 458، والمغني لابن قدامة 5 / 154 وما بعدها ط الرياض. وروضة الناظر ص 132، والإحكام للآمدي 2 / 85 وما بعدها ط محمد صبيح.

(3/192)


وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ: يَنْفَعُهُ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهُ الْمَحْلُوفُ لَهُ. (1)
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ لِلاِسْتِثْنَاءِ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِهِ بِحَيْثُ يُسْمِعُ غَيْرَهُ، وَإِلاَّ فَالْقَوْل قَوْل خَصْمِهِ فِي النَّفْيِ، وَحَكَمَ بِالْوُقُوعِ إِذَا حَلَفَ الْخَصْمُ عَلَى نَفْيِ الاِسْتِثْنَاءِ.
هَذَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ، أَمَّا فِيمَا عَدَاهُ فَيَكْفِي أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ، إِنِ اعْتَدَل سَمْعُهُ وَلاَ عَارِضَ، وَيُدَيَّنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى (2) .
وَلَمْ يَظْهَرْ لِلْحَنَابِلَةِ تَعَرُّضٌ لِصِفَةِ النُّطْقِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الاِسْتِثْنَاءِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ فَرَّقُوا فِي نِيَّةِ الاِسْتِثْنَاءِ بِالْقَلْبِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ الْمَنْطُوقُ بِهِ عَامًّا، كَقَوْلِهِ: نِسَائِي طَوَالِقُ، وَاسْتَثْنَى بِقَلْبِهِ وَاحِدَةً، فَيَكُونُ لَهُ اسْتِثْنَاؤُهُ دِيَانَةً لاَ قَضَاءً؛ لأَِنَّ قَوْلَهُ " نِسَائِي " اسْمٌ عَامٌّ يَجُوزُ التَّعْبِيرُ بِهِ عَنْ بَعْضِ مَا وُضِعَ لَهُ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَصًّا فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ لاَ يَحْتَمِل غَيْرَهُ كَالْعَدَدِ، فَلاَ يَرْتَفِعُ بِالنِّيَّةِ مَا ثَبَتَ بِاللَّفْظِ، كَقَوْلِهِ: نِسَائِي الأَْرْبَعُ أَوِ الثَّلاَثُ طَوَالِقُ، فَلاَ يُقْبَل اسْتِثْنَاؤُهُ ظَاهِرًا، وَقِيل لاَ يُقْبَل وَلاَ بَاطِنًا (3) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ إِذَا تَكَلَّمَ بِالطَّلاَقِ وَاسْتَثْنَى فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاؤُهُ مَسْمُوعًا، وَالْمُرَادُ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُسْمَعَ، بِحَيْثُ لَوْ قَرَّبَ شَخْصٌ أُذُنَهُ إِلَى فَمِهِ يَسْمَعُ اسْتِثْنَاءَهُ، وَلَوْ حَال دُونَ سَمَاعِ الْمُنْشِئِ لِلْكَلاَمِ صَمَمٌ أَوْ كَثْرَةُ أَصْوَاتٍ. وَفِي قَوْل الْكَرْخِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الاِسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ
__________
(1) المواق بهامش الحطاب 3 / 268
(2) نهاية المحتاج 6 / 456، وحواشي تحفة المحتاج للشرواني 7 / 62
(3) كشاف القناع 5 / 272، والمغني 7 / 158 ط 3

(3/193)


بِلَفْظٍ مَسْمُوعٍ (1) وَيَقُول الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا: إِنَّ الاِسْتِثْنَاءَ بِالْكِتَابَةِ صَحِيحٌ، حَتَّى لَوْ تَلَفَّظَ بِالطَّلاَقِ وَكَتَبَ الاِسْتِثْنَاءَ مَوْصُولاً، أَوْ عَكَسَ، أَوْ أَزَال الاِسْتِثْنَاءَ بَعْدَ الْكِتَابَةِ لَمْ يَقَعِ الطَّلاَقُ (2) .
وَجَاءَ فِي التَّتَارْخَانِيَّةِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الزَّوْجَةَ إِذَا سَمِعَتِ الطَّلاَقَ وَلَمْ تَسْمَعِ الاِسْتِثْنَاءَ لاَ يَسَعُهَا أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنَ الْوَطْءِ، وَيَلْزَمُهَا مُنَازَعَتُهُ.
21 - وَلَوِ اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي صُدُورِ الاِسْتِثْنَاءِ، فَادَّعَاهُ الزَّوْجُ وَأَنْكَرَتْهُ الزَّوْجَةُ، فَيُقْبَل قَوْلُهُ. وَهَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَهُوَ الْمَذْهَبُ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يُقْبَل إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، عَلَيْهِ الاِعْتِمَادُ وَالْفَتْوَى احْتِيَاطًا لِغَلَبَةِ الْفَسَادِ، إِذْ قَدْ يُعَلِّمُهُ ذَلِكَ حِيلَةً بَعْضُ مَنْ لاَ يَخَافُ اللَّهَ تَعَالَى، وَلأَِنَّ دَعْوَى الزَّوْجِ خِلاَفُ الظَّاهِرِ، فَإِنَّهُ بِدَعْوَى الاِسْتِثْنَاءِ يَدَّعِي إِبْطَال الْمُوجِبِ بَعْدَ الاِعْتِرَافِ بِهِ.
فَالظَّاهِرُ خِلاَفُ قَوْلِهِ، وَإِذَا عَمَّ الْفَسَادُ يَنْبَغِي الرُّجُوعُ إِلَى الظَّاهِرِ. وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ عِنْدَهُمْ نَقَلَهُ ابْنُ الْهُمَامِ عَنِ الْمُحِيطِ إِنْ عُرِفَ الزَّوْجُ بِالصَّلاَحِ فَالْقَوْل قَوْلُهُ تَصْدِيقًا لَهُ، وَإِنْ عُرِفَ بِالْفِسْقِ أَوْ جُهِل حَالُهُ فَلاَ؛ لِغَلَبَةِ الْفَسَادِ. وَأَيَّدَهُ ابْنُ عَابِدِينَ (3) . وَلَمْ نَطَّلِعْ عَلَى نُصُوصٍ لِغَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

الشَّرْطُ الْخَامِسُ: الْقَصْدُ:
22 - اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ لِصِحَّةِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 510، 514
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 510
(3) ابن عابدين 2 / 511

(3/193)


الاِسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ وَالطَّلاَقِ الْقَصْدَ، سَوَاءٌ أَكَانَ الاِسْتِثْنَاءُ حَقِيقِيًّا، بِإِلاَّ أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا، أَمْ عُرْفِيًّا، بِإِنْ شَاءَ اللَّهُ وَنَحْوِهِ. فَلاَ يُفِيدُ الاِسْتِثْنَاءُ الْحَالِفَ إِلاَّ أَنْ يَقْصِدَ مَعْنَى الاِسْتِثْنَاءِ أَيْ: حِل الْيَمِينِ، لاَ أَنْ يَقْصِدَ مُجَرَّدَ التَّبَرُّكِ، أَوْ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا. وَكَذَا لاَ بُدَّ أَنْ يَقْصِدَ التَّلَفُّظَ بِهِ، فَلَوْ جَرَى الاِسْتِثْنَاءُ عَلَى، لِسَانِهِ سَهْوًا لَمْ يَنْفَعْهُ.
وَقَدِ اتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَصْدِ إِنْ تَحَقَّقَ فِي أَوَّل النُّطْقِ بِالْكَلاَمِ الْمُشْتَمِل عَلَى الاِسْتِثْنَاءِ، أَوْ فِي أَثْنَائِهِ وَقَبْل الْفَرَاغِ مِنْهُ. أَمَّا إِنْ وُجِدَتِ النِّيَّةُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ فَهِيَ صَحِيحَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بِشَرْطِ الاِتِّصَال. أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فَلِكُلٍّ مِنْهُمْ قَوْلاَنِ: الأَْوَّل وَهُوَ الْمُقَدَّمُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ النِّيَّةَ صَحِيحَةٌ وَيَنْحَل بِهَا الْيَمِينُ أَوِ الطَّلاَقُ بِشَرْطِ الاِتِّصَال كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْقَوْل الثَّانِي، وَهُوَ غَيْرُ الْمُقَدَّمِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْقَصْدَ بَعْدَ الْفَرَاغِ لاَ يَصِحُّ، فَتَنْعَقِدُ الْيَمِينُ، وَيَقَعُ الطَّلاَقُ (1) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ الْقَصْدِ فِي الاِسْتِثْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ، فَيَكُونُ عَدَمُ اشْتِرَاطِهِ فِي الاِسْتِثْنَاءِ بِإِلاَّ وَأَخَوَاتِهَا مِنْ بَابِ أَوْلَى (2) .
وَهَذَا مَا قَالَهُ (أَسَدٌ) مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ؛ لأَِنَّ الطَّلاَقَ مَعَ الاِسْتِثْنَاءِ لَيْسَ طَلاَقًا.
وَكَذَا إِذَا قَال: " إِنْ شَاءَ اللَّهُ " مَنْ لاَ يَعْرِفُ مَعْنَاهَا. وَالْقَوْل الآْخَرُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ،
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 455، والمغني 8 / 717، وحاشية الدسوقي 2 / 129، 130، 388
(2) فتح القدير 3 / 143، وحاشية ابن عابدين 2 / 510

(3/194)


وَهُوَ قَوْل (خَلَفٍ) . (1)

جَهَالَةُ الْمُسْتَثْنَى بِإِلاَّ وَأَخَوَاتِهَا:
23 - الاِسْتِثْنَاءُ مِنْ حَيْثُ الْجَهَالَةُ نَوْعَانِ:
الأَْوَّل: مَا سِوَى الْعُقُودِ، كَالإِْقْرَارِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ الْمُتَكَلِّمُ شَيْئًا مَجْهُولاً كَأَنْ يَقُول الْمُقِرُّ: لَهُ عِنْدِي أَلْفُ دِينَارٍ إِلاَّ شَيْئًا، أَوْ: إِلاَّ قَلِيلاً، أَوْ: إِلاَّ بَعْضَهَا، أَوْ يُقِرَّ لَهُ بِدَارٍ وَيَسْتَثْنِيَ غُرْفَةً مِنْهَا دُونَ أَنْ يُعَيِّنَهَا.
وَكَمَا يَجْرِي فِي الإِْقْرَارِ يَجْرِي فِي غَيْرِهِ مِنَ النَّذْرِ وَالْيَمِينِ وَالطَّلاَقِ وَغَيْرِهَا. وَيُطَالَبُ الْمُتَكَلِّمُ بِبَيَانِ مَا أَبْهَمَهُ، وَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ إِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ، وَفِي حُكْمِ ذَلِكَ فِي الأَْبْوَابِ الْمُخْتَلِفَةِ تُنْظَرُ الْمُصْطَلَحَاتُ الْخَاصَّةُ بِتِلْكَ الأَْبْوَابِ. النَّوْعُ الثَّانِي: الْعُقُودُ، وَالاِسْتِثْنَاءُ الْمُبْهَمُ فِي الْعُقُودِ بَاطِلٌ وَمُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ (2) . وَفِي الْحَدِيثِ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الثُّنْيَا إِلاَّ أَنْ تُعْلَمَ. (3)
وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، فَلَوْ كَانَ مَا اسْتَثْنَى غَيْرَ مَعْلُومٍ عَادَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ غَيْرَ مَعْلُومٍ، كَمَنْ بَاعَ ثَوْبًا إِلاَّ شَيْئًا مِنْهُ.
24 - وَقَدْ وَضَعَ الْحَنَفِيَّةُ قَاعِدَةً لِمَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ فِي الْعُقُودِ بِأَنَّ " مَا جَازَ إِيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ بِانْفِرَادِهِ صَحَّ
__________
(1) فتح القدير 3 / 143، والدر المختار وحاشية ابن عابدين 2 / 510
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 379 ط مصطفى الحلبي.
(3) الحديث أخرجه النسائي 7 / 296 ط المكتبة التجارية، والترمذي 3 / 585 ط الحلبي وإسناده صحيح.

(3/194)


اسْتِثْنَاؤُهُ مِنَ الْعَقْدِ " فَبَيْعُ قَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ جَائِزٌ، فَكَذَا اسْتِثْنَاؤُهُ (1) .
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ كَذَلِكَ مَعْلُومِيَّةَ الْمُسْتَثْنَى، فَلَوِ اسْتَثْنَى جُزْءًا شَائِعًا فَلَهُ اسْتِثْنَاءُ مَا شَاءَ، أَمَّا إِنِ اسْتَثْنَى قَدْرًا مَعْلُومًا بِالْكَيْل مِنْ صُبْرَةٍ بَاعَهَا جُزَافًا، أَوْ أَرْطَالاً مِنْ لَحْمِ شَاةٍ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَثْنِيَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الثُّلُثِ، وَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ اسْتِثْنَاءُ جِلْدٍ وَسَاقِطٍ مِنْ رَأْسٍ وَأَكَارِعَ، فِي السَّفَرِ فَقَطْ، وَإِنَّمَا جَازَ اسْتِثْنَاؤُهُمَا فِي السَّفَرِ فَقَطْ لِخِفَّةِ ثَمَنِهِمَا فِيهِ دُونَ الْحَضَرِ (2) .
وَالْحَنَابِلَةُ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمُسْتَثْنَى مَعْلُومًا يُوَافِقُونَ الْحَنَفِيَّةَ، وَيَقُولُونَ بِالْقَاعِدَةِ الَّتِي قَرَّرُوهَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنْ كَانُوا يُخَالِفُونَهُمْ فِي بَعْضِ آحَادِ الْمَسَائِل، لِمُخَالَفَتِهِمْ فِي تَحَقُّقِ مَنَاطِ الْحُكْمِ فِيهَا، فَهُمْ مَثَلاً يُجِيزُونَ اسْتِثْنَاءَ الرَّأْسِ وَالأَْطْرَافِ مِنَ الشَّاةِ الْمَبِيعَةِ؛ لأَِنَّهُمُ اعْتَبَرُوهَا مَعْلُومَةً.
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، مَرُّوا بِرَاعِي غَنْمٍ، فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ وَعَامِرٌ، فَاشْتَرَيَا مِنْهُ شَاةً وَشَرَطَا لَهُ سَلَبَهَا (3) .

مَا يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الاِسْتِثْنَاءِ الْحَقِيقِيِّ:
25 - حُكْمُ الاِسْتِثْنَاءِ الْحَقِيقِيِّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ التَّخْصِيصُ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْقَصْرُ، لأَِنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ فِي الْمُخَصَّصِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِلًّا. وَيَثْبُتُ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 40، 41
(2) حاشية الدسوقي 3 / 18
(3) المغني 4 / 100 - 103 ط الثالثة وسلب الذبيحة: إهابها وكراعها وما في بطنها - لسان العرب.

(3/195)


حُكْمُهُ هَذَا حَيْثُمَا تَمَّتْ شُرُوطُهُ الْمُعْتَبَرَةُ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، فَيَثْبُتُ فِي الْعُقُودِ وَالْوُعُودِ وَالنُّذُورِ وَالأَْيْمَانِ وَالطَّلاَقِ، وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ، فَلَوِ اسْتَثْنَى مِنَ الْمَبِيعِ جُزْءًا مَعْلُومًا مِنَ الْعَيْنِ، أَوْ مَنْفَعَةً مَعْلُومَةً لِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ جَازَ، إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ يَعْرِضُ لِبَعْضِ الاِسْتِثْنَاءَاتِ الْبُطْلاَنُ لِمَانِعٍ (1) .

مَا يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الاِسْتِثْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ:
26 - الاِسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ إِذَا تَمَّتْ شُرُوطُهُ يُسْتَتْبَعُ أَثَرُهُ وَهُوَ: إِبْطَال حُكْمِ مَا قَبْلَهُ. وَهَذَا الإِْبْطَال إِمَّا بِمَعْنَى الْحِل بَعْدَ الاِنْعِقَادِ، وَإِمَّا بِمَعْنَى مَنْعِ الاِنْعِقَادِ، فَإِذَا بَدَا لِلْحَالِفِ مَثَلاً أَنْ يَسْتَثْنِيَ بَعْدَ تَمَامِ يَمِينِهِ تَنْحَل يَمِينُهُ بِاسْتِثْنَائِهِ عِنْدَ مَنْ أَجَازَ نِيَّةَ الاِسْتِثْنَاءِ بَعْدَ تَمَامِ الْيَمِينِ. وَاَلَّذِي يَنْوِيهِ الْحَالِفُ قَبْل الْفَرَاغِ مِنْ يَمِينِهِ ثُمَّ يَأْتِي بِهِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ يَمِينِهِ (2) . 27 - أَمَّا مَا يُبْطِلُهُ الاِسْتِثْنَاءُ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُبْطِل الْيَمِينَ (3) ، لِمَا وَرَدَ مِنَ الأَْحَادِيثِ الَّتِي قُدِّمَ ذِكْرُهَا. وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ بِالْمَشِيئَةِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ مَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ حُكْمَ الاِسْتِثْنَاءِ يَثْبُتُ فِي صِيَغِ الإِْخْبَارِ، وَإِنْ كَانَ
__________
(1) القواعد لابن رجب ص 41، ونيل المآرب 1 / 101، 102 و2 / 4 ط بولاق، وجمع الجوامع 2 / 10، ومسلم الثبوت 1 / 316
(2) انظر بحث الأيمان ف 250، 420، من الطبعة التمهيدية للموسوعة.
(3) تفسير القرطبي 6 / 273، 274

(3/195)


إِنْشَاءَ إِيجَابٍ، لاَ فِي الأَْمْرِ وَالنَّهْيِ. فَلَوْ قَال: اعْطُوا ثُلُثَ مَالِي لِفُلاَنٍ بَعْدَ مَوْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ بَطَل الاِسْتِثْنَاءُ وَصَحَّتِ الْوَصِيَّةُ.
وَعَنِ الْحَلْوَانِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ كُل مَا يَخْتَصُّ بِاللِّسَانِ يُبْطِلُهُ الاِسْتِثْنَاءُ، كَالطَّلاَقِ وَالْبَيْعِ، بِخِلاَفِ مَا لاَ يَخْتَصُّ بِهِ كَنِيَّةِ الصَّوْمِ، فَلاَ يَرْفَعُهَا الاِسْتِثْنَاءُ فَلَوْ قَال: نَوَيْتُ صِيَامَ غَدٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَهُ أَدَاؤُهُ بِتِلْكَ النِّيَّةِ (1)

الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ بِالْمَشِيئَةِ لاَ يَمْنَعُ انْعِقَادَ أَيَّ تَصَرُّفٍ مَا عَدَا الأَْيْمَانَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ. وَبِهِ قَال الأَْوْزَاعِيُّ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - بِاسْتِثْنَاءِ ابْنِ الْمَوَّازِ - أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ (بِإِنْ شَاءَ اللَّهُ) يُبْطِل الأَْيْمَانَ، وَلاَ يُبْطِل مَا قَبْلَهُ فِي غَيْرِ الأَْيْمَانِ، فَلَوْ أَقَرَّ قَائِلاً: لَهُ فِي ذِمَّتِي أَلْفٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ: إِنْ قَضَى اللَّهُ، لَزِمَهُ الأَْلْفُ؛ لأَِنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ عَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ شَاءَ أَوْ قَضَى (2) .
وَسَوَاءٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَكَانَ الطَّلاَقُ وَالْعَتَاقُ مُنَجَّزًا أَمْ كَانَ مُعَلَّقًا. قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَشِيئَةِ بَعْدَ تَعْلِيقِ الطَّلاَقِ: إِنَّمَا وَرَدَ التَّوْقِيفُ بِالاِسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْل الْمُتَقَدِّمِينَ: الأَْيْمَانُ بِالطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ إِنَّمَا جَازَ عَلَى التَّقْرِيبِ وَالاِتِّسَاعِ، وَلاَ يَمِينَ فِي الْحَقِيقَةِ إِلاَّ بِاَللَّهِ، وَهَذَا طَلاَقٌ وَعَتَاقٌ (3) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ يُبْطِلُهَا الاِسْتِثْنَاءُ. وَأَمَّا غَيْرُهَا فَلاَ يُؤَثِّرُ فِيهِ، كَمَا لَوْ قَال:
__________
(1) فتح القدير 3 / 143، وحاشية ابن عابدين 2 / 506، ونهاية المحتاج 6 / 460، والقلبوبي 3 / 340
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 402
(3) المغني لابن قدامة 8 / 719

(3/196)


بِعْتُكَ أَوْ وَهَبْتُكَ كَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَيَثْبُتُ حُكْمُ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ
وَهَذَا هُوَ الْقَوْل الْمُقَدَّمُ عِنْدَهُمْ.
أَمَّا الطَّلاَقُ وَالْعَتَاقُ فَفِي رِوَايَةٍ: تَوَقَّفَ أَحْمَدُ عَنِ الْقَوْل فِيهِمَا. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: قَطَعَ أَنَّهُ لاَ يَنْفَعُهُ الاِسْتِثْنَاءُ فِيهِمَا، وَقَال: مَنْ حَلَفَ فَقَال: إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَلَيْسَ لَهُ اسْتِثْنَاءٌ فِي الطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ لأَِنَّهُمَا لَيْسَا مِنَ الأَْيْمَانِ. وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، وَقَال: إِنَّ الْحَدِيثَ إِنَّمَا تَنَاوَل الأَْيْمَانَ، وَلَيْسَ هَذَا بِيَمِينِهِ، إِنَّمَا هُوَ تَعْلِيقٌ عَلَى شَرْطٍ (1) .
28 - وَذَكَرَ مُتَأَخِّرُو الْحَنَابِلَةِ فِي الاِسْتِثْنَاءِ فِي الطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ وَغَيْرِهِمَا قَوْلاً ثَالِثًا، قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَنَقَلَهُ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ - وَهُوَ أَنَّ إِيقَاعَ الطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ لاَ يَدْخُل فِيمَا يُبْطِلُهُ الاِسْتِثْنَاءُ، أَمَّا الْحَلِفُ بِالطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ فَيَدْخُل - قَال: وَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ قَال: إِنْ كَانَ الْحَلِفُ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ (كَمَا لَوْ قَال: عَلَيَّ الطَّلاَقُ لأََفْعَلَنَّ كَذَا) دَخَل فِي حَدِيثِ الاِسْتِثْنَاءِ، وَنَفَعَتْهُ الْمَشِيئَةُ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَإِنْ كَانَ بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ كَمَا لَوْ قَال لِزَوْجَتِهِ: إِنْ فَعَلْتِ كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ. قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَهَذَا الْقَوْل هُوَ الصَّوَابُ الْمَأْثُورُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجُمْهُورِ التَّابِعِينَ كَسَعِيدٍ وَالْحَسَنِ، لَمْ يَجْعَلُوا فِي الطَّلاَقِ اسْتِثْنَاءً، وَلَمْ يَجْعَلُوهُ مِنَ الأَْيْمَانِ. ثُمَّ نُقِل عَنِ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ التَّابِعِينَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْحَلِفَ بِالصَّدَقَةِ وَالْهَدْيِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَمِينًا مُكَفَّرَةً. وَقَال أَحْمَدُ: إِنَّمَا يَكُونُ
__________
(1) المغني 8 / 719

(3/196)


الاِسْتِثْنَاءُ فِيمَا فِيهِ كَفَّارَةٌ (1) . وَتَمَامُ الْقَوْل فِي الاِسْتِثْنَاءِ فِي الطَّلاَقِ الْمُعَلَّقِ يُنْظَرُ فِي بَحْثِ الأَْيْمَانِ، وَتَمَامُ الْكَلاَمِ عَلَى تَفْرِيعِ مَسَائِل الاِسْتِثْنَاءِ وَتَفْصِيل الْكَلاَمِ فِيهَا فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَيُرْجَعُ فِي كُل مَسْأَلَةٍ مِنْهَا إِلَى بَابِهَا فِي الطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ وَالْهِبَةِ وَالْيَمِينِ وَالنَّذْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَا يَتَعَلَّقُ مِنْهُ بِالْمَبَاحِثِ الأُْصُولِيَّةِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.

اسْتِجْمَارٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِجْمَارُ لُغَةً: الاِسْتِنْجَاءُ بِالْحِجَارَةِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْجَمَرَاتِ وَالْجِمَارِ، وَهِيَ الأَْحْجَارُ الصَّغِيرَةُ. وَاسْتَجْمَرَ وَاسْتَنْجَى وَاحِدٌ (2) .

صِفَتُهُ (الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ) :
2 - الاِسْتِنْجَاءُ بِالْحَجَرِ وَنَحْوِهِ وَحْدَهُ، أَوْ بِالْمَاءِ وَحْدَهُ وَاجِبٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَلَى التَّخْيِيرِ، وَسُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَفْضَل.
وَلَكِنْ يَتَعَيَّنُ الاِسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ فِي الْمَنِيِّ، وَالْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ، وَفِي الْبَوْل، وَالْغَائِطِ إِذَا انْتَشَرَ انْتِشَارًا كَثِيرًا، وَاخْتُلِفَ فِي بَوْل الْمَرْأَةِ (3) . وَتَفْصِيل أَحْكَامِ الاِسْتِجْمَارِ فِي مُصْطَلَحِ " اسْتِنْجَاء ".
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 35 / 283، وما بعدها. وانظر بحثا له جليل القدر في تحليل معنى الاستثناء ومواقعه في 35 / 307 وما بعدها.
(2) لسان العرب مادة (جمر)
(3) الدسوقي 1 / 111، وابن عابدين 1 / 226، والمغني 1 / 159، ونهاية المحتاج 1 / 129

(3/197)


اسْتِحَاضَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِحَاضَةُ لُغَةً: مَصْدَرُ اسْتُحِيضَتِ الْمَرْأَةُ فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ. وَالْمُسْتَحَاضَةُ مَنْ يَسِيل دَمُهَا وَلاَ يُرْقَأُ، فِي غَيْرِ أَيَّامٍ مَعْلُومَةٍ، لاَ مِنْ عِرْقِ الْحَيْضِ بَل مِنْ عِرْقٍ يُقَال لَهُ: الْعَاذِل (1) .
وَعَرَّفَ الْحَنَفِيَّةُ الاِسْتِحَاضَةَ بِأَنَّهَا: دَمُ عِرْقٍ انْفَجَرَ لَيْسَ مِنَ الرَّحِمِ.
وَعَرَّفَهَا الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا: دَمُ عِلَّةٍ يَسِيل مِنْ عِرْقٍ مِنْ أَدْنَى الرَّحِمِ يُقَال لَهُ الْعَاذِل، قَال الرَّمْلِيُّ: الاِسْتِحَاضَةُ دَمٌ تَرَاهُ الْمَرْأَةُ غَيْرُ دَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، سَوَاءٌ اتَّصَل بِهِمَا أَمْ لاَ. وَجَعَل مِنْ أَمْثِلَتِهَا الدَّمَ الَّذِي تَرَاهُ الصَّغِيرَةُ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحَيْضُ:
2 - الْحَيْضُ دَمٌ يَنْفُضُهُ رَحِمُ امْرَأَةٍ بَالِغَةٍ لاَ دَاءَ بِهَا وَلاَ حَبَل، وَلَمْ تَبْلُغْ سِنَّ الإِْيَاسِ (3)
__________
(1) طحطاوي على مراقي الفلاح 76
(2) نهاية المحتاج 1 / 315، ومراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي 79، ومغني المحتاج 1 / 108، وشرح العناية 1 / 163، وكشاف القناع 1 / 177، وحاشية رد المحتار على الدر المختار 1 / 188، وفتح القدير 1 / 141
(3) طحطاوي على مراقي الفلاح 75، وسن الإياس هو خمس وخمسون سنة على الراجح. وانظر كشاف القناع 1 / 196، ونهاية المحتاج 1 / 304، وبلغة السالك 1 / 207

(3/197)


ب - النِّفَاسُ:
3 - النِّفَاسُ دَمٌ يَخْرُجُ عَقِبَ الْوِلاَدَةِ، وَهَذَا الْقَدْرُ لاَ خِلاَفَ فِيهِ، وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الأَْرْجَحِ: وَمَعَ الْوِلاَدَةِ، وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ: مَعَ وِلاَدَةٍ وَقَبْلَهَا بِيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ (1) .
4 - وَتَفْتَرِقُ الاِسْتِحَاضَةُ عَنِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ بِأُمُورٍ مِنْهَا:
أ - الْحَيْضُ لَهُ وَقْتٌ، وَذَلِكَ حِينَ تَبْلُغُ الْمَرْأَةُ تِسْعَ سِنِينَ فَصَاعِدًا، فَلاَ يَكُونُ الْمَرْئِيُّ فِيمَا دُونَهُ حَيْضًا، وَكَذَلِكَ مَا تَرَاهُ بَعْدَ سِنِّ الْيَأْسِ لاَ يَكُونُ حَيْضًا عِنْدَ الأَْكْثَرِ، أَمَّا الاِسْتِحَاضَةُ فَلَيْسَ لَهَا وَقْتٌ مَعْلُومٌ.
ب - الْحَيْضُ دَمٌ يَعْتَادُ الْمَرْأَةَ فِي أَوْقَاتٍ مَعْلُومَةٍ مِنْ كُل شَهْرٍ، أَمَّا الاِسْتِحَاضَةُ فَهِيَ دَمٌ شَاذٌّ يَخْرُجُ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ فِي أَوْقَاتٍ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ.
ج - الْحَيْضُ دَمٌ طَبِيعِيٌّ لاَ عَلاَقَةَ لَهُ بِأَيِّ سَبَبٍ مَرَضِيٍّ، فِي حِينِ أَنَّ دَمَ الاِسْتِحَاضَةِ دَمٌ نَاتِجٌ عَنْ فَسَادٍ أَوْ مَرَضٍ أَوِ اخْتِلاَل الأَْجْهِزَةِ أَوْ نَزْفِ عِرْقٍ.
د - لَوْنُ دَمِ الْحَيْضِ أَسْوَدُ ثَخِينٌ مُنْتِنٌ لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ غَالِبًا، بَيْنَمَا لَوْنُ دَمِ الاِسْتِحَاضَةِ أَحْمَرُ رَقِيقٌ لاَ رَائِحَةَ لَهُ.
هـ - دَمُ النِّفَاسِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ مَعَ وِلاَدَةٍ.

الاِسْتِمْرَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
5 - الاِسْتِحَاضَةُ غَالِبًا مَا تَحْصُل بِالاِسْتِمْرَارِ، وَهُوَ: زِيَادَةُ الدَّمِ عَنْ أَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَيْضِ أَوِ النِّفَاسِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذْ لَمْ يَعْتَبِرِ الاِسْتِمْرَارَ بِهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُهُمْ، وَالاِسْتِمْرَارُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْمُعْتَادَةِ أَوْ فِي الْمُبْتَدَأَةِ.
__________
(1) نهاية المحتاج 1 / 305، وابن عابدين 1 / 199، وكشاف القناع 1 / 218، وبلغة السالك 1 / 216

(3/198)


الاِسْتِمْرَارُ فِي الْمُعْتَادَةِ:
6 - إِذَا اسْتَمَرَّ دَمُ الْمُعْتَادَةِ وَجَاوَزَ أَكْثَرَ الْحَيْضِ فَطُهْرُهَا وَحَيْضُهَا مَا اعْتَادَتْ، وَتُرَدُّ إِلَى عَادَتِهَا فِي الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ فِي جَمِيعِ الأَْحْكَامِ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ طُهْرُهَا الْمُعْتَادُ أَقَل مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، أَمَّا إِذَا كَانَ طُهْرُهَا أَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَلاَ تُرَدُّ إِلَى عَادَتِهَا فِي الطُّهْرِ، وَقَدْ بَيَّنَ ابْنُ عَابِدِينَ سَبَبَ ذَلِكَ فَقَال: لأَِنَّ الطُّهْرَ بَيْنَ الدَّمَيْنِ أَقَل مِنْ أَدْنَى مُدَّةِ الْحَمْل عَادَةً، وَأَدْنَى مُدَّةِ الْحَمْل كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ سِتَّةُ أَشْهُرٍ.
وَلِلْعُلَمَاءِ عِدَّةُ أَقْوَالٍ لِتَقْدِيرِ طُهْرِ الْمَرْأَةِ فِي مِثْل هَذِهِ الْحَالَةِ أَقْوَاهَا قَوْلاَنِ، وَهُمَا:
أ - يُقَدَّرُ طُهْرُهَا بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ إِلاَّ سَاعَةً؛ تَحْقِيقًا لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَ طُهْرِ الْحَمْل وَطُهْرِ الْحَيْضِ (1) .
ب - يُقَدَّرُ طُهْرُهَا بِشَهْرَيْنِ، وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ بِالأَْوَّل، وَلَكِنِ الْفَتْوَى عَلَى الثَّانِي؛ لأَِنَّهُ أَيْسَرُ عَلَى الْمُفْتِي وَالنِّسَاءِ.

الاِسْتِمْرَارُ فِي الْمُبْتَدَأَةِ:
7 - ذَكَرَ الْبِرْكَوِيُّ أَرْبَعَ حَالاَتٍ لِلْمُبْتَدَأَةِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، أَمَّا عِنْدَ الأَْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ: الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَمَالِكٍ، فَسَيَأْتِي بَيَانُ أَحْوَالِهَا فِي الْمَوْضِعِ التَّالِي.
وَثَلاَثٌ مِنْ حَالاَتِ الْمُبْتَدَأَةِ تَتَّصِل بِمَوْضُوعِ الاِسْتِمْرَارِ، أَمَّا الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ لِلْمُبْتَدَأَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَسَتَأْتِي ف 13
__________
(1) منهل الواردين (مجموعة رسائل ابن عابدين) 1 / 93

(3/198)


حَالاَتُ الاِسْتِمْرَارِ فِي الْمُبْتَدَأَةِ:
8 - الأُْولَى: أَنْ يَسْتَمِرَّ بِهَا الدَّمُ مِنْ أَوَّل مَا بَلَغَتْ، فَحِينَئِذٍ يُقَدَّرُ حَيْضُهَا مِنْ أَوَّل الاِسْتِمْرَارِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَطُهْرُهَا عِشْرِينَ ثُمَّ ذَلِكَ دَأْبُهَا، وَإِذَا صَارَتْ نُفَسَاءَ فَنِفَاسُهَا يُقَدَّرُ بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ بَعْدَ النِّفَاسِ يُقَدَّرُ بِعِشْرِينَ يَوْمًا طُهْرًا، إِذْ لاَ يَتَوَالَى نِفَاسٌ وَحَيْضٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، بَل لاَ بُدَّ مِنْ طُهْرٍ تَامٍّ بَيْنَهُمَا، وَلَمَّا كَانَ تَقْدِيرُهُ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ عِشْرِينَ، فَلْيَكُنْ كَذَلِكَ بَيْنَ النِّفَاسِ وَالْحَيْضِ تَقْدِيرًا مُطَّرِدًا.

الثَّانِيَةُ: أَنْ تَرَى دَمًا وَطُهْرًا فَاسِدَيْنِ، وَالدَّمُ الْفَاسِدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَا زَادَ عَلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَالطُّهْرُ الْفَاسِدُ مَا نَقَصَ عَنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَلاَ يُعْتَدُّ بِمَا رَأَتْ مِنْ حَيْثُ نَصْبُ الْعَادَةِ بِهِ، بَل يَكُونُ حَيْضُهَا عَشَرَةً، وَلَوْ حُكْمًا، مِنْ حِينِ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ، وَيَكُونُ طُهْرُهَا عِشْرِينَ، وَذَلِكَ دَأْبُهَا حَتَّى تَرَى دَمًا وَطُهْرًا صَحِيحَيْنِ.
بَيَانُ ذَلِكَ: مُرَاهِقَةٌ (أَيْ مُقَارِبَةٌ لِلْبُلُوغِ) رَأَتْ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا دَمًا وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ طُهْرًا، ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ، فَحَيْضُهَا عَشَرَةٌ وَطُهْرُهَا عِشْرُونَ، وَالطُّهْرُ النَّاقِصُ الْفَاصِل بَيْنَ الدَّمَيْنِ يُعْتَبَرُ كَالدَّمِ الْمُسْتَمِرِّ حُكْمًا، وَعَلَيْهِ تَكُونُ هَذِهِ كَاَلَّتِي اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ مِنْ أَوَّل مَا بَلَغَتْ، فَيَكُونُ حَيْضُهَا عَشَرَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّل أَيَّامِ الدَّمِ الأَْحَدِ عَشَرَ وَطُهْرُهَا عِشْرِينَ. هَذَا إِذَا كَانَ الطُّهْرُ فَاسِدًا بِأَنْ كَانَ أَقَل مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، أَمَّا إِذَا كَانَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَأَكْثَرَ وَقَدْ فَسَدَ بِمُخَالَطَتِهِ دَمَ الاِسْتِحَاضَةِ، كَمُبْتَدَأَةٍ رَأَتْ أَحَدَ عَشَرَ دَمًا وَخَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ، فَالدَّمُ الأَْوَّل فَاسِدٌ لِزِيَادَتِهِ عَلَى الْعَشَرَةِ، وَالطُّهْرُ صَحِيحٌ ظَاهِرًا لأَِنَّهُ تَامٌّ إِذْ هُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا،

(3/199)


وَلَكِنَّهُ فَاسِدٌ فِي الْمَعْنَى لأَِنَّ أَوَّلَهُ دَمٌ، وَهُوَ الْيَوْمُ الزَّائِدُ عَلَى الْعَشَرَةِ، وَلَيْسَ مِنَ الْحَيْضِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ أَكْثَرَ الْحَيْضِ عَشَرَةُ أَيَّامٍ فَقَطْ عِنْدَهُمْ فَهُوَ مِنَ الطُّهْرِ، وَبِمَا أَنَّ الطُّهْرَ خَالَطَهُ الدَّمُ فِي أَوَّلِهِ فَلاَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عَادَةً.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ فِي شَرْحِ رِسَالَةِ الْحَيْضِ: وَالْحَاصِل أَنَّ فَسَادَ الدَّمِ يُفْسِدُ الطُّهْرَ الْمُتَخَلِّل فَيَجْعَلُهُ كَالدَّمِ الْمُتَوَالِي، فَتَصِيرُ الْمَرْأَةُ كَأَنَّهَا اُبْتُدِئَتْ بِالاِسْتِمْرَارِ، وَيَكُونُ حَيْضُهَا عَشَرَةً وَطُهْرُهَا عِشْرِينَ، وَلَكِنْ إِنْ لَمْ يَزِدِ الدَّمُ وَالطُّهْرُ عَلَى ثَلاَثِينَ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ مِنْ أَوَّل مَا رَأَتْ، وَإِنْ زَادَ يُعْتَبَرُ مِنْ أَوَّل الاِسْتِمْرَارِ الْحَقِيقِيِّ، وَيَكُونُ جَمِيعُ مَا بَيْنَ دَمِ الْحَيْضِ الأَْوَّل وَدَمِ الاِسْتِمْرَارِ طُهْرًا (1) .

الثَّالِثَةُ: أَنْ تَرَى دَمًا صَحِيحًا، وَطُهْرًا فَاسِدًا، فَإِنَّ الدَّمَ الصَّحِيحَ يُعْتَبَرُ عَادَةً لَهَا فَقَطْ، فَتُرَدُّ إِلَيْهِ فِي زَمَنِ الاِسْتِمْرَارِ، وَيَكُونُ طُهْرُهَا أَثْنَاءَ الاِسْتِمْرَارِ بَقِيَّةَ الشَّهْرِ.
فَلَوْ رَأَتِ الْمُبْتَدَأَةُ خَمْسَةً دَمًا وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ طُهْرًا ثُمَّ اسْتَمَرَّ الدَّمُ، فَحَيْضُهَا خَمْسَةٌ وَطُهْرُهَا بَقِيَّةُ الشَّهْرِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، فَتُصَلِّي مِنْ أَوَّل الاِسْتِمْرَارِ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا تَكْمِلَةَ الطُّهْرِ، ثُمَّ تَتْرُكُ الصَّلاَةَ خَمْسَةً، ثُمَّ تَغْتَسِل وَتُصَلِّي خَمْسَةً وَعِشْرِينَ وَهَكَذَا، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا كَانَ الطُّهْرُ فَاسِدًا فِي الْمَعْنَى فَقَطْ، كَمَا لَوْ رَأَتِ الْمُبْتَدَأَةُ ثَلاَثَةً دَمًا وَخَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا، ثُمَّ يَوْمًا دَمًا ثُمَّ خَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ، فَإِنَّ الْيَوْمَ الَّذِي رَأَتْ فِيهِ الدَّمَ - وَقَدْ تَوَسَّطَ بَيْنَ الطُّهْرَيْنِ - أَفْسَدَهُمَا مَعًا لأَِنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ حَيْضًا فَهُوَ مِنَ الطُّهْرِ، وَعَلَيْهِ: فَالأَْيَّامُ الثَّلاَثَةُ الأُْولَى حَيْضٌ، وَوَاحِدٌ
__________
(1) شرح رسالة الحيض مجموعة رسائل ابن عابدين 1 / 94 - 96

(3/199)


وَثَلاَثُونَ يَوْمًا طُهْرٌ، ثُمَّ تَسْتَأْنِفُ مِنْ أَوَّل الاِسْتِمْرَارِ فَثَلاَثَةٌ حَيْضٌ، وَسَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ طُهْرٌ، وَهَكَذَا دَأْبُهَا، وَبِهَذَا تَشْتَرِكُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَعَ السَّابِقَةِ فِي الْحُكْمِ، مِنْ حَيْثُ نَصْبُ الْعَادَةِ عِنْدَ الاِسْتِمْرَارِ فِي كُل شَهْرٍ.
وَإِذَا كَانَ الطُّهْرُ الثَّانِي الَّذِي مَرَّ بِهَا قَبْل الاِسْتِمْرَارِ طُهْرًا فَاسِدًا - لأَِنَّهُ أَقَل مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا - فَالْحُكْمُ يَخْتَلِفُ عَمَّا تَقَرَّرَ؛ لأَِنَّهُ أَمْكَنَ اعْتِبَارُ الْيَوْمِ الَّذِي رَأَتْ فِيهِ الدَّمَ بَعْدَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ الأُْولَى مِنْ أَيَّامِ الْحَيْضِ.
فَلَوْ رَأَتِ الْمُرَاهِقَةُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ دَمًا، ثُمَّ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا طُهْرًا، ثُمَّ يَوْمًا دَمًا، ثُمَّ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا طُهْرًا، ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ، فَالأَْيَّامُ الثَّلاَثَةُ الأُْوَل دَمٌ صَحِيحٌ، فَهُوَ حَيْضٌ، وَالْخَمْسَةَ عَشَرَ بَعْدَهَا طُهْرٌ صَحِيحٌ، وَالْيَوْمُ الَّذِي بَعْدَهَا مَعَ اثْنَيْنِ مِمَّا بَعْدَهُ حَيْضٌ، ثُمَّ طُهْرُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ، اثْنَا عَشَرَ مِنْ أَيَّامِ الاِنْقِطَاعِ الَّتِي سَبَقَتِ الاِسْتِمْرَارَ، وَثَلاَثَةٌ مِنْ أَوَّل الاِسْتِمْرَارِ، وَلِهَذَا تُصَلِّي مِنْ أَوَّل الاِسْتِمْرَارِ ثَلاَثَةً ثُمَّ تُعْتَبَرُ حَائِضًا ثَلاَثَةً فَتَتْرُكُ فِيهَا الصَّلاَةَ، ثُمَّ تَغْتَسِل وَتُصَلِّي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَهَكَذَا يُقَدَّرُ حَيْضُهَا بِثَلاَثَةٍ وَطُهْرُهَا بِخَمْسَةَ عَشَرَ.
أَمَّا الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ فَسَتُبْحَثُ فِي الْفِقْرَةِ / 13 اسْتِحَاضَةُ الْمُبْتَدَأَةِ بِالْحَمْل.

اسْتِحَاضَةُ الْمُبْتَدَأَةِ بِالْحَيْضِ، وَالْمُبْتَدَأَةِ بِالْحَمْل:
9 - الْمُبْتَدَأَةُ بِالْحَيْضِ هِيَ الَّتِي كَانَتْ فِي أَوَّل حَيْضٍ (1) فَابْتَدَأَتْ بِالدَّمِ، وَاسْتَمَرَّ بِهَا. فَعِنْدَ
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 1 / 190، وفتح القدير 1 / 158، وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح.

(3/200)


الْحَنَفِيَّةِ تَقَدَّمَ تَفْصِيل حُكْمِهَا.
10 - وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تُعْتَبَرُ الْمُبْتَدَأَةُ بِأَتْرَابِهَا، فَإِنْ تَجَاوَزَتْهُنَّ فَرِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ: تَتَمَادَى إِلَى تَمَامِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ هِيَ مُسْتَحَاضَةٌ تَغْتَسِل وَتُصَلِّي وَتَصُومُ.
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ زِيَادٍ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهَا تَقْتَصِرُ عَلَى عَوَائِدِ أَتْرَابِهَا أَيْ فِي السِّنِّ، فَتَأْخُذُ بِعَوَائِدِهِنَّ فِي الْحَيْضِ مِنْ قِلَّةِ الدَّمِ وَكَثْرَتِهِ، يُقَال إِنَّهَا تُقِيمُ قَدْرَ أَيَّامِ لَدَّاتِهَا، ثُمَّ هِيَ مُسْتَحَاضَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ تُصَلِّي وَتَصُومُ، إِلاَّ أَنْ تَرَى دَمًا تَسْتَكْثِرُهُ لاَ تَشُكُّ فِيهِ أَنَّهُ دَمُ حَيْضَةٍ (1) . وَقَالُوا أَيْضًا: إِنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ إِذَا عَرَفَتْ أَنَّ الدَّمَ النَّازِل هُوَ دَمُ الْحَيْضِ، بِأَنْ مَيَّزَتْهُ بِرِيحٍ أَوْ ثِخَنٍ أَوْ لَوْنٍ أَوْ تَأَلُّمٍ، فَهُوَ حَيْضٌ بِشَرْطِ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ أَقَل الطُّهْرِ، وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَإِنْ لَمْ تُمَيِّزْ، أَوْ مَيَّزَتْ قَبْل تَمَامِ أَقَل الطُّهْرِ فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ أَيْ بَاقِيَةٌ عَلَى أَنَّهَا طَاهِرَةٌ، وَلَوْ مَكَثَتْ عَلَى ذَلِكَ طُول حَيَاتِهَا.
11 - وَأَمَّا الْمُبْتَدَأَةُ بِالْحَيْضِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَقَدْ قَالُوا: الْمُبْتَدَأَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُمَيِّزَةً لِمَا تَرَاهُ أَوْ لاَ، فَإِذَا كَانَتِ الْمُبْتَدَأَةُ مُمَيِّزَةً لِمَا تَرَاهُ بِأَنْ تَرَى فِي بَعْضِ الأَْيَّامِ دَمًا قَوِيًّا وَفِي بَعْضِهَا دَمًا ضَعِيفًا، أَوْ فِي بَعْضِهَا دَمًا أَسْوَدَ وَفِي بَعْضِهَا دَمًا أَحْمَرَ، وَجَاوَزَ الدَّمُ أَكْثَرَ الْحَيْضِ، فَالضَّعِيفُ أَوِ الأَْحْمَرُ اسْتِحَاضَةٌ وَإِنْ طَال، وَالأَْسْوَدُ أَوِ الْقَوِيُّ حَيْضٌ (2) إِنْ لَمْ يَنْقُصِ الأَْسْوَدُ أَوِ الْقَوِيُّ عَنْ أَقَل الْحَيْضِ، وَهُوَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ عِنْدَهُمْ، وَلاَ جَاوَزَ أَكْثَرَ الْحَيْضِ وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَيْضًا، حَتَّى لَوْ رَأَتْ يَوْمًا وَلَيْلَةً أَسْوَدَ ثُمَّ اتَّصَل بِهِ
__________
(1) أسهل المدارك شرح إرشاد السالك في فقه الإمام مالك 141
(2) مغني المحتاج 1 / 113، وحاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب 1 / 153، والمجموع شرح المهذب للإمام النووي 2 / 412

(3/200)


الضَّعِيفُ، وَتَمَادَى سِنِينَ كَانَ طُهْرًا، وَإِنْ كَانَتْ تَرَى الدَّمَ دَائِمًا؛ لأَِنَّ أَكْثَرَ الطُّهْرِ لاَ حَدَّ لَهُ، فَإِنْ فُقِدَ شَرْطٌ مِنْ ذَلِكَ كَأَنْ رَأَتِ الأَْسْوَدَ أَقَل مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَوْ سِتَّةَ عَشَرَ، أَوْ رَأَتِ الضَّعِيفَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، أَوْ رَأَتْ أَبَدًا يَوْمًا أَسْوَدَ وَيَوْمَيْنِ أَحْمَرَ فَحُكْمُهَا كَحُكْمِ غَيْرِ الْمُمَيِّزَةِ لِمَا تَرَاهُ.
وَالْمُبْتَدَأَةُ غَيْرُ الْمُمَيِّزَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، بِأَنْ رَأَتِ الدَّمَ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ بِصِفَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ لَكِنْ فَقَدَتْ شَرْطًا مِنْ شُرُوطِ التَّمْيِيزِ الَّتِي ذُكِرَتْ، فَإِنْ لَمْ تَعْرِفْ وَقْتَ ابْتِدَاءِ دَمِهَا فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمُتَحَيِّرَةِ، كَمَا ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ (1) وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَإِنْ عَرَفَتْهُ فَالأَْظْهَرُ أَنَّ حَيْضَهَا يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ مِنْ أَوَّل الدَّمِ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا؛ لأَِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُتَيَقَّنُ، وَمَا زَادَ مَشْكُوكٌ فِيهِ، فَلاَ يُحْكَمُ بِأَنَّهُ حَيْضٌ، وَطُهْرُهَا تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا تَتِمَّةَ الشَّهْرِ (2) .
12 - وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: إِنَّ الْمُبْتَدَأَةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُمَيِّزَةً لِمَا تَرَاهُ أَوْ لاَ، فَإِنْ كَانَتْ مُمَيِّزَةً عَمِلَتْ بِتَمْيِيزِهَا إِنْ صَلَحَ الأَْقْوَى أَنْ يَكُونَ حَيْضًا، بِأَنْ لَمْ يَنْقُصْ عَنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُمَيِّزَةٍ قُدِّرَ حَيْضُهَا بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَتَغْتَسِل بَعْدَ ذَلِكَ وَتَفْعَل مَا تَفْعَلُهُ الطَّاهِرَاتُ. وَهَذَا فِي الشَّهْرِ الأَْوَّل وَالثَّانِي وَالثَّالِثِ، أَمَّا فِي الشَّهْرِ الرَّابِعِ فَتَنْتَقِل إِلَى غَالِبِ الْحَيْضِ، وَهُوَ سِتَّةُ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةٌ بِاجْتِهَادِهَا أَوْ تَحَرِّيهَا (3) . وَقَال صَاحِبُ مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى فِي شَرْحِ غَايَةِ الْمُنْتَهَى (4) : لَوْ رَأَتْ يَوْمًا وَلَيْلَةً دَمًا أَسْوَدَ، ثُمَّ رَأَتْ دَمًا أَحْمَرَ، وَجَاوَزَ خَمْسَةَ عَشَرَ
__________
(1) المجموع شرح المهذب للإمام النووي 2 / 410
(2) حاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب 1 / 155، 156
(3) المغني والشرح الكبير 1 / 342
(4) مطالب أولي النهى 1 / 254

(3/201)


يَوْمًا، فَحَيْضُهَا زَمَنَ الدَّمِ الأَْسْوَدِ، وَمَا عَدَاهُ اسْتِحَاضَةٌ لأَِنَّهُ لاَ يَصْلُحُ حَيْضًا. أَوْ رَأَتْ فِي الشَّهْرِ الأَْوَّل خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا دَمًا أَسْوَدَ، وَفِي الشَّهْرِ الثَّانِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَفِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ ثَلاَثَةَ عَشَرَ، فَحَيْضُهَا زَمَنُ الأَْسْوَدِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَمُهَا مُتَمَيِّزًا، بِأَنْ كَانَ كُلُّهُ أَسْوَدَ أَوْ أَحْمَرَ وَنَحْوَهُ، أَوْ كَانَ مُتَمَيِّزًا، وَلَمْ يَصْلُحْ الأَْسْوَدُ وَنَحْوُهُ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا بِأَنْ نَقَصَ عَنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، أَوْ زَادَ عَنِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَتَجْلِسُ أَقَل الْحَيْضِ مِنْ كُل شَهْرٍ لأَِنَّهُ الْيَقِينُ حَتَّى تَتَكَرَّرَ اسْتِحَاضَتُهَا ثَلاَثًا؛ لأَِنَّ الْعَادَةَ لاَ تَثْبُتُ بِدُونِهَا، ثُمَّ تَجْلِسُ بَعْدَ التَّكْرَارِ مِنْ مِثْل أَوَّل وَقْتِ ابْتِدَاءٍ بِهَا إِنْ عَلِمَتْهُ مِنْ كُل شَهْرٍ سِتًّا أَوْ سَبْعًا بِتَحَرٍّ، أَوْ تَجْلِسُ مِنْ أَوَّل كُل شَهْرٍ هِلاَلِيٍّ إِنْ جَهِلَتْهُ، أَيْ: وَقْتَ ابْتِدَائِهَا بِالدَّمِ سِتًّا أَوْ سَبْعًا مِنَ الأَْيَّامِ بِلَيَالِيِهَا بِتَحَرٍّ فِي حَال الدَّمِ وَعَادَةِ أَقَارِبِهَا النِّسَاءِ، وَنَحْوِهِ، لِحَدِيثِ حَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ قَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً كَبِيرَةً شَدِيدَةً، قَدْ مَنَعَتْنِي الصَّوْمَ وَالصَّلاَةَ، فَقَال: تَحِيضِي فِي عِلْمِ اللَّهِ سِتًّا أَوْ سَبْعًا ثُمَّ اغْتَسِلِي. (1) وَيُتَّجَهُ احْتِمَالٌ قَوِيٌّ بِوُجُوبِ قَضَاءِ مَنْ جَهِلَتْ وَقْتَ ابْتِدَائِهَا بِالدَّمِ نَحْوِ صَوْمٍ كَطَوَافٍ وَاعْتِكَافٍ وَاجِبَيْنِ فِيمَا فَعَلَتْهُ أَيِ الصَّوْمَ وَنَحْوَهُ قَبْل التَّحَرِّي، كَمَنْ جَهِل الْقِبْلَةَ وَصَلَّى بِلاَ تَحَرٍّ فَيَقْضِي وَلَوْ أَصَابَ.
13 - وَأَمَّا الْمُبْتَدَأَةُ بِالْحَمْل: وَهِيَ الَّتِي حَمَلَتْ مِنْ زَوْجِهَا قَبْل أَنْ تَحِيضَ إِذَا وَلَدَتْ فَرَأَتِ الدَّمَ زِيَادَةً عَنْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ فَالزِّيَادَةُ اسْتِحَاضَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ الأَْرْبَعِينَ لِلنِّفَاسِ كَالْعَشَرَةِ لِلْحَيْضِ، فَالزِّيَادَةُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا اسْتِحَاضَةٌ دُونَ نَظَرٍ إِلَى تَمْيِيزٍ أَوْ عَدَمِهِ. أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَإِنْ
__________
(1) رواه أحمد وغيره.

(3/201)


أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا فَحَيْضٌ، وَإِلاَّ فَاسْتِحَاضَةٌ؛ لأَِنَّهُ يُتَصَوَّرُ عِنْدَهُمْ اقْتِرَانُ الْحَيْضِ بِالنِّفَاسِ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ الزِّيَادَةُ عَلَى السِّتِّينَ اسْتِحَاضَةٌ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْمُمَيِّزَةِ لِمَا تَرَى وَغَيْرِ الْمُمَيِّزَةِ، كَمَا فِي الْحَيْضِ.
فَإِذَا بَلَغَتْ بِالْحَمْل وَوَلَدَتْ وَاسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ، وَلَمْ تَرَ طُهْرًا صَحِيحًا بَعْدَ وِلاَدَتِهَا وَانْتِهَاءِ مُدَّةِ نِفَاسِهَا - وَهِيَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ - فَيُقَدَّرُ طُهْرُهَا بَعْدَ الأَْرْبَعِينَ بِعِشْرِينَ يَوْمًا، ثُمَّ بَعْدَهُ يَكُونُ حَيْضُهَا عَشَرَةً وَطُهْرُهَا عِشْرِينَ، وَهَذَا شَأْنُهَا مَا دَامَتْ حَالَةُ الاِسْتِمْرَارِ قَائِمَةً بِهَا.
وَإِذَا وَلَدَتْ فَرَأَتْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا دَمًا، ثُمَّ خَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا، ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ، فَحَيْضُهَا عَشَرَةٌ مِنْ أَوَّل الاِسْتِمْرَارِ، وَطُهْرُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ، أَيْ تُرَدُّ إِلَى عَادَتِهَا فِي الطُّهْرِ إِذَا كَانَ طُهْرًا صَحِيحًا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَأَكْثَرَ، وَكَذَلِكَ يَكُونُ هَذَا الرَّدُّ إِذَا رَأَتْ سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا طُهْرًا فَمَا فَوْقَهَا إِلَى وَاحِدٍ وَعِشْرِينَ، فَعِنْدَئِذٍ يُقَدَّرُ حَيْضُهَا بِتِسْعَةٍ وَطُهْرُهَا بِوَاحِدٍ وَعِشْرِينَ، ثُمَّ كُلَّمَا زَادَ الطُّهْرُ نَقَصَ مِنَ الْحَيْضِ مِثْلُهُ إِلَى أَنْ يَكُونَ حَيْضُهَا ثَلاَثَةً، وَطُهْرُهَا سَبْعَةً وَعِشْرِينَ، فَإِذَا زَادَ الطُّهْرُ عَلَى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ فَحَيْضُهَا عَشَرَةٌ مِنْ أَوَّل الاِسْتِمْرَارِ، وَطُهْرُهَا مِثْل مَا رَأَيْتَ قَبْل الاِسْتِمْرَارِ كَائِنًا مَا كَانَ عَدَدُهُ. بِخِلاَفِ مَا إِذَا كَانَ طُهْرُهَا نَاقِصًا عَنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَإِنَّهُ يُقَدَّرُ بَعْدَ الأَْرْبَعِينَ - الَّتِي هِيَ مُدَّةُ نِفَاسِهَا - بِعِشْرِينَ وَحَيْضُهَا بِعَشَرَةٍ، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي وَضَعَتْ وَاسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ ابْتِدَاءً، وَإِذَا كَانَ طُهْرُهَا الَّذِي رَأَتْهُ بَعْدَ الأَْرْبَعِينَ الَّتِي لِلنِّفَاسِ كَامِلاً خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَأَكْثَرَ، وَقَدْ زَادَ دَمُهَا عَلَى أَرْبَعِينَ فِي النِّفَاسِ بِيَوْمٍ مَثَلاً،
__________
(1) كشاف القناع 1 / 188 ط أنصار السنة.

(3/202)


فَسَدَ هَذَا الطُّهْرُ فِي الْمَعْنَى؛ لأَِنَّهُ خَالَطَهُ دَمٌ يَوْمَ تُؤْمَرُ بِالصَّلاَةِ فِيهِ، وَلِهَذَا لاَ يَصْلُحُ لاِعْتِبَارِهِ عَادَةً لَهَا، فَيُقَدَّرُ حَيْضُهَا وَطُهْرُهَا حَسَبَ التَّفْصِيل التَّالِي:
فَإِذَا كَانَ بَيْنَ نِهَايَةِ النِّفَاسِ - الأَْرْبَعِينَ - وَأَوَّل الاِسْتِمْرَارِ عِشْرُونَ يَوْمًا فَأَكْثَرُ، كَأَنْ زَادَ دَمُهَا عَلَى الأَْرْبَعِينَ بِخَمْسَةٍ أَوْ سِتَّةٍ وَطَهُرَتْ بَعْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ، فَإِنَّهُ يُقَدَّرُ حَيْضُهَا مِنْ أَوَّل الاِسْتِمْرَارِ بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَطُهْرُهَا بِعِشْرِينَ، وَهَكَذَا دَأْبُهَا.
وَإِنْ كَانَ بَيْنَ النِّفَاسِ وَأَوَّل الاِسْتِمْرَارِ أَقَل مِنْ عِشْرِينَ كَأَنْ زَادَ دَمُهَا عَلَى الأَْرْبَعِينَ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ فَإِنَّهُ يَكْمُل طُهْرُهَا إِلَى الْعِشْرِينَ، وَيُؤْخَذُ مِنْ أَوَّل الاِسْتِمْرَارِ مَا يَتِمُّ بِهِ تَكْمِيل هَذِهِ الْعِشْرِينَ، ثُمَّ يُقَدَّرُ حَيْضُهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِعَشَرَةٍ وَطُهْرُهَا بِعِشْرِينَ وَهَكَذَا.
وَالْجَدِيرُ بِالذِّكْرِ أَنَّ الْمُبْتَدَأَةَ بِالْحَيْضِ أَوِ النِّفَاسِ إِذَا انْقَطَعَ دَمُهَا لأَِقَل مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَيْضِ، وَلأَِقَل مِنْ أَرْبَعِينَ فِي النِّفَاسِ، فَإِنَّهَا تَغْتَسِل وَتُصَلِّي فِي آخِرِ الْوَقْتِ، وَتَصُومُ احْتِيَاطًا، وَلاَ يَحِل لِزَوْجِهَا وَطْؤُهَا حَتَّى يَسْتَمِرَّ الاِنْقِطَاعُ إِلَى تَمَامِ الْعَشَرَةِ فِي الْحَيْضِ، هَذَا إِذَا انْقَطَعَ لِتَمَامِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، أَمَّا إِذَا انْقَطَعَ لأَِقَل مِنْ ثَلاَثَةٍ فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ وَلَيْسَ بِحَيْضٍ، فَتَتَوَضَّأُ وَتُصَلِّي فِي آخِرِ الْوَقْتِ (1) . وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
14 - أَمَّا أَحْكَامُ الْمُبْتَدَأَةِ بِالْحَمْل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فَقَوْلُهُمْ هُنَا كَأَقْوَالِهِمْ فِي الْمُبْتَدَأَةِ بِالْحَيْضِ.
وَالْمَالِكِيَّةُ قَالُوا: تُعْتَبَرُ الْمُبْتَدَأَةُ بِأَتْرَابِهَا، فَإِنْ تَمَادَى بِهَا الدَّمُ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا تَعْتَكِفُ سِتِّينَ يَوْمًا، ثُمَّ هِيَ مُسْتَحَاضَةٌ تَغْتَسِل، وَتَصُومُ وَتُصَلِّي، وَتُوطَأُ (2) .
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 1 / 190
(2) أسهل المدارك شرح إرشاد السالك 142

(3/202)


فَإِذَا عَبَرَ الدَّمُ السِّتِّينَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَيَنْزِل مَنْزِلَةَ عُبُورِهِ أَكْثَرَ الْحَيْضِ؛ لأَِنَّ النِّفَاسَ كَالْحَيْضِ فِي غَالِبِ أَحْكَامِهِ، فَكَذَلِكَ فِي الرَّدِّ إِلَيْهِ، فَيُقَاسُ بِمَا ذُكِرَ فِي الْحَيْضِ وِفَاقًا وَخِلاَفًا، فَيُنْظَرُ هُنَا أَيْضًا إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مُبْتَدَأَةً فِي النِّفَاسِ أَمْ مُعْتَادَةً، مُمَيِّزَةً لِمَا تَرَاهُ أَمْ غَيْرَ مُمَيِّزَةٍ، وَيُقَاسُ بِمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَيْضِ، فَتُرَدُّ الْمُبْتَدَأَةُ الْمُمَيِّزَةُ إِلَى التَّمْيِيزِ شَرْطَ أَلاَّ يَزِيدَ الْقَوِيُّ عَلَى سِتِّينَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَغَيْرُ الْمُمَيِّزَةِ تُرَدُّ إِلَى لَحْظَةٍ فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمُعْتَادَةُ الْمُمَيِّزَةُ تُرَدُّ إِلَى التَّمْيِيزِ لاَ الْعَادَةِ فِي الأَْصَحِّ، وَغَيْرُ الْمُمَيِّزَةِ الْحَافِظَةُ تُرَدُّ إِلَى الْعَادَةِ، وَتَثْبُتُ الْعَادَةُ بِمَرَّةٍ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَمَّا النَّاسِيَةُ لِعَادَتِهَا فَتُرَدُّ إِلَى مَرَدِّ الْمُبْتَدَأَةِ فِي قَوْلٍ، وَتَحْتَاطُ فِي الْقَوْل الآْخَرِ (1) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيَرَوْنَ أَنَّ النُّفَسَاءَ إِذَا زَادَ دَمُهَا عَلَى الأَْرْبَعِينَ، وَوَافَقَ عَادَةَ حَيْضٍ فَهُوَ حَيْضٌ، وَمَا زَادَ فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ. وَإِنْ لَمْ يُوَافِقْ عَادَةَ حَيْضٍ فَمَا زَادَ عَلَى الأَْرْبَعِينَ اسْتِحَاضَةٌ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مُبْتَدَأَةٍ بِالْحَمْل أَوْ مُعْتَادَةٍ لَهُ.

اسْتِحَاضَةُ ذَاتِ الْعَادَةِ:
أ - ذَاتُ الْعَادَةِ بِالْحَيْضِ:
15 - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَاتِ الْعَادَةِ بِالْحَيْضِ - وَهِيَ الَّتِي تَعْرِفُ شَهْرَهَا وَوَقْتَ حَيْضِهَا وَعَدَدَ أَيَّامِهَا أَنَّهُ: إِذَا رَأَتِ الْمُعْتَادَةُ مَا يُوَافِقُ عَادَتَهَا مِنْ حَيْثُ الزَّمَنُ وَالْعَدَدُ، فَكُل مَا رَأَتْهُ حَيْضٌ. وَإِذَا رَأَتْ مَا يُخَالِفُ عَادَتَهَا مِنْ حَيْثُ الزَّمَنُ أَوِ الْعَدَدُ أَوْ كِلاَهُمَا، فَحِينَئِذٍ قَدْ تَنْتَقِل الْعَادَةُ وَقَدْ لاَ تَنْتَقِل، وَيَخْتَلِفُ حُكْمُ مَا رَأَتْ، فَتَتَوَقَّفُ مَعْرِفَةُ حَال مَا رَأَتْ مِنَ
__________
(1) حاشيتا قليوبي وعميرة 1 / 109، 110

(3/203)


الْحَيْضِ وَالاِسْتِحَاضَةِ عَلَى انْتِقَال الْعَادَةِ.
فَإِنْ لَمْ تَنْتَقِل كَمَا إِذَا زَادَ الدَّمُ عَنِ الْعَشَرَةِ رُدَّتْ إِلَى عَادَتِهَا، فَيُجْعَل الْمَرْئِيُّ فِي الْعَادَةِ حَيْضًا، وَالْبَاقِي الَّذِي جَاوَزَ الْعَادَةَ اسْتِحَاضَةً.
وَإِنِ انْتَقَلَتِ الْعَادَةُ فَكُل مَا رَأَتْهُ حَيْضٌ.
وَتَفْصِيل قَاعِدَةِ انْتِقَال الْعَادَةِ وَحَالاَتِهَا وَأَمْثِلَتِهَا فِي مُصْطَلَحِ (حَيْض (1)) .
16 - وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَقْوَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ أَشَارَ إِلَيْهَا ابْنُ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ أَشْهَرُهَا:
أَنَّهَا تَبْقَى أَيَّامَهَا الْمُعْتَادَةَ، وَتَسْتَظْهِرُ (أَيْ تَحْتَاطُ) بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ تَكُونُ مُسْتَحَاضَةً تَغْتَسِل وَتُصَلِّي وَتَصُومُ وَتَطُوفُ وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا، مَا لَمْ تَرَ دَمًا تُنْكِرُهُ بَعْدَ مُضِيِّ أَقَل مُدَّةِ الطُّهْرِ مِنْ يَوْمِ حُكِمَ بِاسْتِحَاضَتِهَا، وَهُوَ ظَاهِرُ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ.
وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَغْتَسِل عِنْدَ تَمَامِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا اسْتِحْبَابًا لاَ إِيجَابًا.
وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ تَكُنْ مُمَيِّزَةً، أَمَّا الْمُمَيِّزَةُ فَتَعْمَل بِتَمْيِيزِهَا مِنْ رُؤْيَةِ أَوْصَافِ الدَّمِ وَأَحْوَالِهِ مِنَ التَّقَطُّعِ وَالزِّيَادَةِ وَاللَّوْنِ، فَتُمَيِّزُ بِهِ مَا هُوَ حَيْضٌ، وَمَا هُوَ اسْتِحَاضَةٌ (2) .
وَإِذَا أَتَاهَا الْحَيْضُ فِي وَقْتِهِ، وَانْقَطَعَ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ سَاعَةٍ، وَأَتَاهَا بَعْدَ ذَلِكَ قَبْل طُهْرٍ تَامٍّ، فَإِنَّهَا تُلَفِّقُ أَيَّامَ الدَّمِ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ، فَإِنْ كَانَتْ مُعْتَادَةً فَتُلَفِّقُ عَادَتَهَا وَاسْتِظْهَارَهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُبْتَدَأَةً لَفَّقَتْ نِصْفَ شَهْرٍ، وَإِنْ كَانَتْ حَامِلاً فِي ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ لَفَّقَتْ نِصْفَ شَهْرٍ وَنَحْوَهُ، أَوْ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَفَّقَتْ عِشْرِينَ يَوْمًا وَنَحْوَهَا.
__________
(1) شرح رسالة الحيض (مجموعة رسائل ابن عابدين) 1 / 86 - 87
(2) أسهل المدارك شرح إرشاد السالك 142

(3/203)


وَالأَْيَّامُ الَّتِي اسْتَظْهَرَتْ بِهَا هِيَ فِيهَا حَائِضٌ، وَهِيَ مُضَافَةٌ إِلَى الْحَيْضِ، إِنْ رَأَتِ الدَّمَ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ تَرَهُ، وَأَيَّامُ الطُّهْرِ الَّتِي كَانَتْ تُلْغِيهَا عِنْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ فِي خِلاَل ذَلِكَ، وَكَانَتْ لاَ تَرَى فِيهَا دَمًا هِيَ فِيهَا طَاهِرَةٌ، تُصَلِّي فِيهَا وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا وَتَصُومُهَا، وَلَيْسَتْ تِلْكَ الأَْيَّامُ بِطُهْرٍ تَعْتَدُّ بِهِ فِي عِدَّةٍ مِنْ طَلاَقٍ؛ لأَِنَّ الَّذِي قَبْل تِلْكَ الأَْيَّامِ مِنَ الدَّمِ، وَاَلَّتِي بَعْدَ تِلْكَ الأَْيَّامِ قَدْ أُضِيفَتْ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ وَجُعِل حَيْضَةً وَاحِدَةً، وَكُل مَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنَ الطُّهْرِ مُلْغًى، ثُمَّ تَغْتَسِل بَعْدَ الاِسْتِظْهَارِ، وَتُصَلِّي، وَتَتَوَضَّأُ لِكُل صَلاَةٍ، إِنْ رَأَتِ الدَّمَ فِي تِلْكَ الأَْيَّامِ، وَتَغْتَسِل كُل يَوْمٍ إِذَا انْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ مِنْ أَيَّامِ الطُّهْرِ (1) .
17 - أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَالْمُعْتَادَةُ بِالْحَيْضِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مُمَيِّزَةٍ لِمَا تَرَى بِأَنْ كَانَ الدَّمُ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ كَانَ بِصِفَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَفَقَدَتْ شَرْطَ التَّمْيِيزِ، وَلَكِنْ سَبَقَ لَهَا حَيْضٌ وَطُهْرٌ، وَهِيَ تَعْلَمُ أَيَّامَ حَيْضِهَا وَطُهْرِهَا قَدْرًا وَوَقْتًا فَتُرَدُّ إِلَيْهِمَا قَدْرًا وَوَقْتًا، وَتَثْبُتُ الْعَادَةُ بِمَرَّةٍ فِي الأَْصَحِّ.
وَأَمَّا الْمُعْتَادَةُ الْمُمَيِّزَةُ فَيُحْكَمُ بِالتَّمْيِيزِ لاَ بِالْعَادَةِ فِي الأَْصَحِّ، كَمَا لَوْ كَانَتْ عَادَتُهَا خَمْسَةً مِنْ أَوَّل كُل شَهْرٍ وَبَاقِيهِ طُهْرٌ، فَاسْتُحِيضَتْ فَرَأَتْ عَشَرَةً سَوَادًا مِنْ أَوَّل الشَّهْرِ وَبَاقِيهِ حُمْرَةً، فَحَيْضَتُهَا الْعَشَرَةُ السَّوَادُ وَمَا يَلِيهِ اسْتِحَاضَةٌ.
وَالْقَوْل الثَّانِي يُحْكَمُ بِالْعَادَةِ، فَيَكُونُ حَيْضُهَا الْخَمْسَةَ الأُْولَى (2) . وَالأَْوَّل أَصَحُّ لأَِنَّ التَّمْيِيزَ
__________
(1) المواق 1 / 369، وأسهل المدارك شرح إرشاد السالك في فقه الإمام مالك 143
(2) مغني المحتاج 1 / 115، وحاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب 3 / 156، والمجموع شرح المهذب للإمام النووي 2 / 424

(3/204)


عَلاَمَةٌ قَائِمَةٌ فِي شَهْرِ الاِسْتِحَاضَةِ، فَكَانَ اعْتِبَارُهُ أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِ عَادَةٍ انْقَضَتْ (1) .
18 - أَمَّا الْحَنَابِلَةُ: فَقَالُوا لاَ تَخْلُو الْمُسْتَحَاضَةُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ: مُمَيِّزَةٌ لاَ عَادَةَ لَهَا، وَمُعْتَادَةٌ لاَ تَمْيِيزَ لَهَا، وَمَنْ لَهَا عَادَةٌ وَتَمْيِيزٌ، وَمَنْ لاَ عَادَةَ لَهَا وَلاَ تَمْيِيزَ.
أَمَّا الْمُمَيِّزَةُ: وَهِيَ الَّتِي لِدَمِهَا إِقْبَالٌ وَإِدْبَارٌ، بَعْضُهُ أَسْوَدُ ثَخِينٌ مُنْتِنٌ، وَبَعْضُهُ أَحْمَرُ مُسَرَّقٌ أَوْ أَصْفَرُ أَوْ لاَ رَائِحَةَ لَهُ، وَيَكُونُ الدَّمُ الأَْسْوَدُ أَوِ الثَّخِينُ لاَ يَزِيدُ عَنْ أَكْثَرِ الْحَيْضِ، وَلاَ يَنْقُصُ عَنْ أَقَلِّهِ، فَحُكْمُ هَذِهِ: أَنَّ حَيْضَهَا زَمَانُ الدَّمِ الأَْسْوَدِ أَوِ الثَّخِينِ أَوِ الْمُنْتِنِ، فَإِنِ انْقَطَعَ فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ، تَغْتَسِل لِلْحَيْضِ، وَتَتَوَضَّأُ بَعْدَ ذَلِكَ لِكُل صَلاَةٍ وَتُصَلِّي.
أَمَّا الْمُسْتَحَاضَةُ الَّتِي لَهَا عَادَةٌ وَلاَ تَمْيِيزَ لَهَا؛ لِكَوْنِ دَمِهَا غَيْرَ مُنْفَصِلٍ أَيْ عَلَى صِفَةٍ لاَ تَخْتَلِفُ، وَلاَ يَتَمَيَّزُ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ، أَوْ كَانَ مُنْفَصِلاً، إِلاَّ أَنَّ الدَّمَ الَّذِي يَصْلُحُ لِلْحَيْضِ دُونَ أَقَل الْحَيْضِ، أَوْ فَوْقَ أَكْثَرِهِ؟ فَهَذِهِ لاَ تَمْيِيزَ لَهَا، فَإِنْ كَانَتْ لَهَا عَادَةٌ قَبْل أَنْ تُسْتَحَاضَ جَلَسَتْ أَيَّامَ عَادَتِهَا، وَاغْتَسَلَتْ عِنْدَ انْقِضَائِهَا، ثُمَّ تَتَوَضَّأُ بَعْدَ ذَلِكَ لِوَقْتِ كُل صَلاَةٍ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَنْ لَهَا عَادَةٌ وَتَمْيِيزٌ، فَاسْتُحِيضَتْ، وَدَمُهَا مُتَمَيِّزٌ، بَعْضُهُ أَسْوَدُ وَبَعْضُهُ أَحْمَرُ، فَإِنْ كَانَ الأَْسْوَدُ فِي زَمَنِ الْعَادَةِ فَقَدِ اتَّفَقَتِ الْعَادَةُ وَالتَّمْيِيزُ فِي الدَّلاَلَةِ فَيُعْمَل بِهِمَا، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ الْعَادَةِ أَوْ أَقَل - وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا - فَفِيهِ
__________
(1) المجموع شرح المهذب 2 / 439، 441 حيث ذكر أيضا أنها إن كانت ناسية لعادتها مميزة للحيض من الاستحاضة باللون مثلا فإنها ترد إلى التمييز. وعلى قول من قال تقدم العادة على التمييز حكمها حكم من لا تمييز لها.

(3/204)


رِوَايَتَانِ: الرِّوَايَةُ الأُْولَى: اعْتِبَارُ الْعَادَةِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأُِمِّ حَبِيبَةَ إِذْ سَأَلَتْهُ عَنِ الدَّمِ: اُمْكُثِي قَدْرَ مَا كَانَتْ تَحْبِسُكِ حَيْضَتُكِ ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي (1) وَلأَِنَّ الْعَادَةَ أَقْوَى (2) . وَالثَّانِيَةُ: يُقَدَّمُ التَّمْيِيزُ فَيُعْمَل بِهِ وَتَدَعُ الْعَادَةَ.
أَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهِيَ الَّتِي لاَ عَادَةَ لَهَا وَلاَ تَمْيِيزَ فَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي مَوْضُوعِ (اسْتِحَاضَةُ مَنْ لَيْسَ لَهَا عَادَةٌ (3)) .

ب - ذَاتُ الْعَادَةِ فِي النِّفَاسِ:
19 - إِذَا رَأَتْ ذَاتُ الْعَادَةِ بِالنِّفَاسِ زِيَادَةً عَنْ عَادَتِهَا، فَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا أَرْبَعِينَ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الزِّيَادَةُ اسْتِحَاضَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا دُونَ الأَْرْبَعِينَ، وَكَانَتِ الزِّيَادَةُ إِلَى الأَْرْبَعِينَ أَوْ دُونَهَا، فَمَا زَادَ يَكُونُ نِفَاسًا، وَإِنْ زَادَ عَلَى الأَْرْبَعِينَ تُرَدُّ إِلَى عَادَتِهَا فَتَكُونُ عَادَتُهَا نِفَاسًا، وَمَا زَادَ عَلَى الْعَادَةِ يَكُونُ اسْتِحَاضَةً (4) .
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فَمَا ذُكِرَ فِي الْحَيْضِ لِلْمُعْتَادَةِ يُذْكَرُ هُنَا أَيْضًا.
حَيْثُ ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ أَكْثَرَ النِّفَاسِ سِتُّونَ يَوْمًا. فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الزَّائِدُ عَنِ السِّتِّينَ كُلُّهُ اسْتِحَاضَةٌ وَلاَ تَسْتَظْهِرُ، فَإِنَّ الاِسْتِظْهَارَ خَاصٌّ بِالْحَيْضِ، وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَمَا زَادَ عَلَى السِّتِّينَ فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ فَإِذَا عَبَرَ دَمُ النُّفَسَاءِ السِّتِّينَ فَفِيهِ طَرِيقَانِ: أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ كَالْحَيْضِ إِذَا عَبَرَ الْخَمْسَةَ
__________
(1) رواه مسلم.
(2) مطالب أولي النهى شرح غاية المنتهى 1 / 255
(3) المغني والشرح الكبير 1 / 324، 328، 332، 336
(4) حاشية رد المحتار على الدر المختار 1 / 200

(3/205)


عَشَرَ فِي الرَّدِّ إِلَى التَّمْيِيزِ إِنْ كَانَتْ مُمَيِّزَةً لِمَا تَرَى، أَوِ الْعَادَةِ إِنْ كَانَتْ مُعْتَادَةً غَيْرَ مُمَيِّزَةٍ، وَالثَّانِي لَهُ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ:
الأَْوَّل: أَصَحُّهُمَا كَالطَّرِيقِ الأَْوَّل أَيْ أَنَّهُ كَالْحَيْضِ.
الثَّانِي: أَنَّ السِّتِّينَ كُلَّهَا نِفَاسٌ، وَمَا زَادَ عَلَى السِّتِّينَ اسْتِحَاضَةٌ، اخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ.
الثَّالِثُ: أَنَّ السِّتِّينَ نِفَاسٌ، وَاَلَّذِي بَعْدَهُ حَيْضٌ فَعَلَى هَذَا قَال أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْمَرْزُبَانِيُّ: قَال صَاحِبَا التَّتِمَّةِ وَالْعِدَّةِ: إِنْ زَادَ الدَّمُ بَعْدَ السِّتِّينَ حَكَمْنَا بِأَنَّهَا مُسْتَحَاضَةٌ فِي الْحَيْضِ. وَهَذَا الْوَجْهُ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَهُوَ أَضْعَفُ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ (1) .
وَقَالَتِ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ زَادَ دَمُ النُّفَسَاءِ عَلَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَمْكَنَ جَعْلُهُ حَيْضًا فَهُوَ حَيْضٌ، وَإِلاَّ فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ. وَلَمْ نَقِفْ فِيمَا بَيْنَ أَيْدِينَا مِنْ مَرَاجِعِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُمْ تَحَدَّثُوا عَنْ عَادَةٍ فِي النِّفَاسِ.

اسْتِحَاضَةُ مَنْ لَيْسَ لَهَا عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ:
20 - مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي الْحَيْضِ - بِأَنْ كَانَتْ تَرَى شَهْرًا سِتًّا وَشَهْرًا سَبْعًا - فَاسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ، فَإِنَّهَا تَأْخُذُ فِي حَقِّ الصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ وَالرَّجْعَةِ بِالأَْقَل، وَفِي حَقِّ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَالْوَطْءِ بِالأَْكْثَرِ، فَعَلَيْهَا أَنْ تَغْتَسِل فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ لِتَمَامِ الْيَوْمِ السَّادِسِ وَتُصَلِّي فِيهِ، وَتَصُومُ إِنْ كَانَ دَخَل عَلَيْهَا شَهْرُ رَمَضَانَ احْتِيَاطًا.
وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ تُعْتَبَرُ حَيْضَةً ثَالِثَةً يَكُونُ قَدْ سَقَطَ حَقُّ الزَّوْجِ فِي مُرَاجَعَتِهَا.
__________
(1) المجموع للإمام النووي 2 / 534، والدسوقي 1 / 174، والمهذب 1 / 52

(3/205)


وَأَمَّا فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِلزَّوَاجِ مِنْ آخَرَ، وَحِل اسْتِمْتَاعِ الزَّوْجِ بِهَا فَتَأْخُذُ بِالأَْكْثَرِ؛ لأَِنَّ تَرْكَهَا التَّزَوُّجَ مَعَ جَوَازِهِ أَوْلَى مِنْ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِدُونِ حَقِّ التَّزَوُّجِ، وَكَذَا تَرْكُ الْوَطْءِ مَعَ احْتِمَال الْحِل، أَوْلَى مِنَ الْوَطْءِ مَعَ احْتِمَال الْحُرْمَةِ، فَإِذَا جَاءَ الْيَوْمُ الثَّامِنُ فَعَلَيْهَا أَنْ تَغْتَسِل ثَانِيًا، وَتَقْضِيَ الْيَوْمَ السَّابِعَ الَّذِي صَامَتْهُ؛ لأَِنَّ الأَْدَاءَ كَانَ وَاجِبًا، وَوَقَعَ الشَّكُّ فِي السُّقُوطِ، إِنْ لَمْ تَكُنْ حَائِضًا فِيهِ صَحَّ صَوْمُهَا وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا فَعَلَيْهَا الْقَضَاءُ، فَلاَ يَسْقُطُ الْقَضَاءُ بِالشَّكِّ.
وَلَيْسَ عَلَيْهَا قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ؛ لأَِنَّهَا إِنْ كَانَتْ طَاهِرَةً فِي هَذَا الْيَوْمِ فَقَدْ صَلَّتْ، وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا فِيهِ فَلاَ صَلاَةَ عَلَيْهَا، وَبِالتَّالِي لاَ قَضَاءَ عَلَيْهَا (1) . وَلَوْ كَانَتْ عَادَتُهَا خَمْسَةً فَحَاضَتْ سِتَّةً، ثُمَّ حَاضَتْ حَيْضَةً أُخْرَى سَبْعَةً، ثُمَّ حَاضَتْ حَيْضَةً أُخْرَى سِتَّةً، فَعَادَتُهَا سِتَّةٌ بِالإِْجْمَاعِ حَتَّى يَنْبَنِيَ الاِسْتِمْرَارُ عَلَيْهَا.
أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلأَِنَّ الْعَادَةَ تَنْتَقِل بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَإِنَّمَا يَنْبَنِي الاِسْتِمْرَارُ عَلَى الْمَرَّةِ الأَْخِيرَةِ لأَِنَّ الْعَادَةَ انْتَقَلَتْ إِلَيْهَا، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فَلأَِنَّ الْعَادَةَ وَإِنْ كَانَتْ لاَ تَنْتَقِل إِلاَّ بِالْمَرَّتَيْنِ فَقَدْ رَأَتِ السِّتَّةَ مَرَّتَيْنِ.
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ لِمَنْ لَيْسَ لَهَا عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي النِّفَاسِ.

اسْتِحَاضَةُ الْمُتَحَيِّرَةِ:
21 - الْمُتَحَيِّرَةُ: هِيَ الَّتِي نَسِيَتْ عَادَتَهَا بَعْدَ اسْتِمْرَارِ الدَّمِ وَتُوصَفُ بِالْمُحَيِّرَةِ بِصِيغَةِ اسْمِ
__________
(1) البدائع 1 / 174

(3/206)


الْفَاعِل، لأَِنَّهَا تُحَيِّرُ الْمُفْتِيَ، وَبِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُول لأَِنَّهَا حُيِّرَتْ بِسَبَبِ نِسْيَانِهَا (1) ، وَتُدْعَى أَيْضًا الْمُضِلَّةَ؛ لأَِنَّهَا أَضَلَّتْ عَادَتَهَا.
وَمَسَائِل الْمُحَيِّرَةِ مِنْ أَصْعَبِ مَسَائِل الْحَيْضِ وَأَدَقِّهَا، وَلَهَا صُوَرٌ كَثِيرَةٌ وَفُرُوعٌ دَقِيقَةٌ، وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ حِفْظُ عَادَتِهَا فِي الزَّمَانِ وَالْعَدَدِ.
وَجَمِيعُ الأَْحْكَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تُبْنَى عَلَى الاِحْتِيَاطِ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ تَشْدِيدٌ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ فَلَيْسَ الْقَصْدُ التَّشْدِيدَ لأَِنَّهَا لَمْ تَرْتَكِبْ مَحْظُورًا.
وَتَفْصِيل أَحْكَامِ الْمُتَحَيِّرَةِ فِي مُصْطَلَحِهَا.

مَا تَرَاهُ الْمَرْأَةُ الْحَامِل مِنَ الدَّمِ أَثْنَاءَ حَمْلِهَا:
22 - إِذَا رَأَتِ الْمَرْأَةُ الْحَامِل الدَّمَ حَال الْحَبَل وَقَبْل الْمَخَاضِ، فَلَيْسَ بِحَيْضٍ وَإِنْ كَانَ مُمْتَدًّا بَالِغًا نِصَابَ الْحَيْضِ، بَل هُوَ اسْتِحَاضَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) وَالْحَنَابِلَةِ.
وَكَذَلِكَ مَا تَرَاهُ حَالَةَ الْمَخَاضِ وَقَبْل خُرُوجِ أَكْثَرِ الْوَلَدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الدَّمَ الَّذِي تَرَاهُ الْحَامِل قَبْل الْوِلاَدَةِ بِيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ دَمُ نِفَاسٍ (3) وَإِنْ كَانَ لاَ يُعَدُّ مِنْ مُدَّةِ النِّفَاسِ.
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ: بِقَوْل عَائِشَةَ الْحَامِل لاَ تَحِيضُ وَمِثْل هَذَا لاَ يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ (4) .
وَقَال الشَّافِعِيُّ: هُوَ حَيْضٌ فِي حَقِّ تَرْكِ الصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ وَحُرْمَةِ الْقُرْبَانِ، لاَ فِي حَقِّ أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ،
__________
(1) طحطاوي 1 / 76
(2) فتح القدير 1 / 164
(3) المغني مع الشرح الكبير 1 / 375
(4) فالظاهر أنها قالته سماعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن فم الرحم ينسد حال الحبل في المعتاد، ولا ينفتح إلا بخروج الولد حيث يندفع النفاس. فتح القدير 1 / 165

(3/206)


وَاحْتَجَّ بِمَا يُرْوَى عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: إِذَا أَقْبَل قُرْؤُكِ فَدَعِي الصَّلاَةَ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ حَالٍ وَحَالٍ. وَلأَِنَّ الْحَامِل مِنْ ذَوَاتِ الأَْقْرَاءِ إِلاَّ أَنَّ حَيْضَهَا لاَ يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ فَرَاغُ الرَّحِمِ، وَحَيْضُهَا لاَ يَدُل عَلَى ذَلِكَ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْحَامِل إِذَا رَأَتْ دَمًا فِي الشَّهْرِ الأَْوَّل أَوِ الثَّانِي يُعْتَبَرُ حَيْضًا، وَتُعَامَل كَأَنَّهَا حَامِلٌ؛ لأَِنَّ الْحَمْل لاَ يَسْتَبِينُ - عَادَةً - فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَأَمَّا إِذَا رَأَتْ دَمًا فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ أَوِ الرَّابِعِ أَوِ الْخَامِسِ وَاسْتَمَرَّ كَانَ أَثَرُ حَيْضِهَا عِشْرِينَ يَوْمًا، وَمَا زَادَ فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ.
وَإِنَّمَا فَرَّقُوا فِي أَكْثَرِ الْحَيْضِ بَيْنَ الْحَامِل وَغَيْرِهَا؛ لأَِنَّ الْحَمْل يَحْبِسُ الدَّمَ، فَإِذَا خَرَجَ كَانَ زَائِدًا، وَرُبَّمَا اسْتَمَرَّ لِطُول الْمُكْثِ. وَأَمَّا إِنْ رَأَتْهُ فِي الشَّهْرِ السَّابِعِ أَوِ الثَّامِنِ أَوِ التَّاسِعِ وَاسْتَمَرَّ نَازِلاً كَانَ أَكْثَرُ الْحَيْضِ فِي حَقِّهَا ثَلاَثِينَ يَوْمًا. وَأَمَّا إِنْ رَأَتْهُ فِي الشَّهْرِ السَّادِسِ فَظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ أَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ مَا إِذَا حَاضَتْ فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ شُيُوخُ إِفْرِيقِيَّةَ فَرَأَوْا أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ مَا بَعْدَهُ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ (1) .
وَبَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ يُعْتَبَرُ اسْتِحَاضَةً (2) .

مَا تَرَاهُ الْمَرْأَةُ مِنَ الدَّمِ بَيْنَ الْوِلاَدَتَيْنِ (إِنْ كَانَتْ حَامِلاً بِتَوْأَمَيْنِ) :
23 - التَّوْأَمُ: اسْمُ وَلَدٍ إِذَا كَانَ مَعَهُ آخَرُ فِي بَطْنٍ
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 169 - 170، والذخيرة 1 / 386 ط كلية الشريعة بالأزهر.
(2) أسهل المدارك شرح إرشاد السالك في فقه الإمام مالك 147، والدسوقي 1 / 169.

(3/207)


وَاحِدٍ، فَالتَّوْأَمَانِ هُمَا الْوَلَدَانِ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ إِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا أَقَل مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، يُقَال لِكُل وَاحِدٍ تَوْأَمٌ، وَلِلأُْنْثَى تَوْأَمَةٌ (1) .
فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الأَْوَّل وَالثَّانِي أَقَل مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَالدَّمُ الَّذِي تَرَاهُ النُّفَسَاءُ بَيْنَ الْوِلاَدَتَيْنِ دَمٌ صَحِيحٌ، أَيْ نِفَاسٌ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ دَمٌ فَاسِدٌ أَيِ اسْتِحَاضَةٌ، وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا وَلَدَتْ وَفِي بَطْنِهَا وَلَدٌ آخَرُ، فَالنِّفَاسُ مِنَ الْوَلَدِ الأَْوَّل عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ مِنَ الْوَلَدِ الثَّانِي، وَانْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِالْوَلَدِ الثَّانِي بِالإِْجْمَاعِ.
وَجْهُ قَوْل مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ: أَنَّ النِّفَاسَ يَتَعَلَّقُ بِوَضْعِ مَا فِي الْبَطْنِ، كَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَيَتَعَلَّقُ بِالْوَلَدِ الأَْخِيرِ، وَهَذَا لأَِنَّهَا لاَ تَزَال حُبْلَى، وَكَمَا لاَ يُتَصَوَّرُ انْقِضَاءُ عِدَّةِ الْحَمْل بِدُونِ وَضْعِ الْحَمْل، لاَ يُتَصَوَّرُ وُجُودُ النِّفَاسِ مِنَ الْحُبْلَى؛ لأَِنَّ النِّفَاسَ بِمَنْزِلَةِ الْحَيْضِ، فَكَانَ الْمَوْجُودُ قَبْل وَضْعِ الْوَلَدِ الثَّانِي نِفَاسًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَلاَ تَسْقُطُ الصَّلاَةُ عَنْهَا بِالشَّكِّ.
وَلأَِبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ: أَنَّ النِّفَاسَ إِنْ كَانَ دَمًا يَخْرُجُ عَقِيبَ الْوِلاَدَةِ فَقَدْ وُجِدَ بِوِلاَدَةِ الأَْوَّل، بِخِلاَفِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ؛ لأَِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِفَرَاغِ الرَّحِمِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَبَقَاءُ الْوَلَدِ الثَّانِي فِي الْبَطْنِ لاَ يُنَافِي النِّفَاسَ (2) .
وَيَتَّفِقُ الْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ مَعَ الشَّيْخَيْنِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ مَعَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ أَوَّل النِّفَاسِ مِنَ الْوَلَدِ الأَْوَّل. وَتَبْدَأُ
__________
(1) أسهل المدارك شرح إرشاد السالك في فقه الإمام مالك 148
(2) بدائع الصنائع للكاساني 1 / 176، وفتح القدير 1 / 167

(3/207)


لِلثَّانِي بِنِفَاسٍ جَدِيدٍ (1) .
24 - وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الدَّمُ الَّذِي بَيْنَ التَّوْأَمَيْنِ نِفَاسٌ، وَقِيل حَيْضٌ، وَالْقَوْلاَنِ فِي الْمُدَوَّنَةِ (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ كَاَلَّتِي رُوِيَتْ عَنِ الْحَنَابِلَةِ.

أَحْكَامُ الْمُسْتَحَاضَةِ:
25 - دَمُ الاِسْتِحَاضَةِ حُكْمُهُ كَالرُّعَافِ الدَّائِمِ، أَوْ كَسَلَسِ الْبَوْل، حَيْثُ تُطَالَبُ الْمُسْتَحَاضَةُ بِأَحْكَامٍ خَاصَّةٍ تَخْتَلِفُ عَنْ أَحْكَامِ الأَْصِحَّاءِ، وَعَنْ أَحْكَامِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَهِيَ:
أ - يَجِبُ رَدُّ دَمِ الاِسْتِحَاضَةِ، أَوْ تَخْفِيفُهُ إِذَا تَعَذَّرَ رَدُّهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ بِرِبَاطٍ أَوْ حَشْوٍ أَوْ بِالْقِيَامِ أَوْ بِالْقُعُودِ، كَمَا إِذَا سَال أَثْنَاءَ السُّجُودِ وَلَمْ يَسِل بِدُونِهِ، فَتُومِئُ مِنْ قِيَامٍ أَوْ مِنْ قُعُودٍ، وَكَذَا لَوْ سَال الدَّمُ عِنْدَ الْقِيَامِ صَلَّتْ مِنْ قُعُودٍ؛ لأَِنَّ تَرْكَ السُّجُودِ أَوِ الْقِيَامِ أَوِ الْقُعُودِ أَهْوَنُ مِنَ الصَّلاَةِ مَعَ الْحَدَثِ.
وَهَكَذَا إِذَا كَانَتِ الْمُسْتَحَاضَةُ تَسْتَطِيعُ مَنْعَ سَيَلاَنِ الدَّمِ بِالاِحْتِشَاءِ فَيَلْزَمُهَا ذَلِكَ، فَإِذَا نَفَذَتِ الْبِلَّةُ أَوْ أَخْرَجَتِ الْحَشْوَةَ الْمُبْتَلَّةَ انْتَقَضَ وُضُوءُهَا.
فَإِذَا رَدَّتِ الْمُسْتَحَاضَةُ الدَّمَ بِسَبَبٍ مِنَ الأَْسْبَابِ الْمَذْكُورَةِ أَوْ نَحْوِهَا خَرَجَتْ عَنْ أَنْ تَكُونَ صَاحِبَةَ عُذْرٍ (3) .
وَاعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ الْمُسْتَحَاضَةَ صَاحِبَةَ عُذْرٍ كَمَنْ بِهِ سَلَسٌ، فَإِذَا فَارَقَهَا الدَّمُ أَكْثَرَ زَمَنِ وَقْتِ الصَّلاَةِ لَمْ
__________
(1) المغني 1 / 365
(2) أسهل المدارك شرح إرشاد السالك 149
(3) حاشية رد المحتار على الدر المختار 1 / 204، والطحطاوي على مراقي الفلاح 80، والقليوبي 1 / 101، والمغني مع الشرح الكبير 1 / 358

(3/208)


تُعَدَّ صَاحِبَةَ عُذْرٍ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهَا إِذَا رَأَتِ الدَّمَ عِنْدَ الْوُضُوءِ فَإِذَا قَامَتْ ذَهَبَ عَنْهَا، قَال مَالِكٌ: تَشُدُّ ذَلِكَ بِشَيْءٍ وَلاَ تَتْرُكُ الصَّلاَةَ (1) .
وَيُسْتَثْنَى مِنْ وُجُوبِ الشَّدِّ أَوِ الاِحْتِشَاءِ أَمْرَانِ:
الأَْوَّل: أَنْ تَتَضَرَّرَ الْمُسْتَحَاضَةُ مِنَ الشَّدِّ أَوِ الاِحْتِشَاءِ.
الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ صَائِمَةً فَتَتْرُكُ الاِحْتِشَاءَ نَهَارًا لِئَلاَّ يَفْسُدَ صَوْمُهَا.
وَإِذَا قَامَتِ الْمُسْتَحَاضَةُ وَمَنْ فِي حُكْمِهَا مِنَ الْمَعْذُورِينَ بِالشَّدِّ أَوِ الاِحْتِشَاءِ ثُمَّ خَرَجَ الدَّمُ رَغْمَ ذَلِكَ وَلَمْ يَرْتَدَّ، أَوْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ وَاسْتَمَرَّ وَقْتَ صَلاَةٍ كَامِلٍ، فَلاَ يَمْنَعُ خُرُوجُ الدَّمِ أَوْ وُجُودُهُ مِنْ صِحَّةِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلاَةِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلاَ أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلاَةَ؟ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ ذَلِكَ عِرْقٌ، وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَاتْرُكِي الصَّلاَةَ، فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي (2) ، وَفِي رِوَايَةٍ: تَوَضَّئِي لِكُل صَلاَةٍ (3) ، وَفِي رِوَايَةٍ: تَوَضَّئِي لِوَقْتِ كُل صَلاَةٍ (4) ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: وَإِنْ قَطَرَ الدَّمُ عَلَى الْحَصِيرِ. (5)
وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ لِلْمُسْتَحَاضَةِ وَلِغَيْرِهَا مِنَ الْمَعْذُورِينَ ثَلاَثَةَ شُرُوطٍ:

الأَْوَّل: شَرْطُ الثُّبُوتِ: حَيْثُ لاَ يَصِيرُ مَنِ اُبْتُلِيَ
__________
(1) المواق 1 / 367
(2) رواه الترمذي، وقال. حديث حسن صحيح.
(3) رواه الترمذي أيضا.
(4) رواه الترمذي أيضا، وقال حديث حسن صحيح.
(5) رواه ابن ماجه في سننه، والبيهقي.

(3/208)


بِالْعُذْرِ مَعْذُورًا، وَلاَ تَسْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمَعْذُورِينَ، حَتَّى يَسْتَوْعِبَهُ الْعُذْرُ وَقْتًا كَامِلاً لِصَلاَةٍ مَفْرُوضَةٍ وَلَوْ حُكْمًا، وَلَيْسَ فِيهِ انْقِطَاعٌ - فِي جَمِيعِ ذَلِكَ الْوَقْتِ - زَمَنًا بِقَدْرِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلاَةِ، وَهَذَا شَرْطٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.

الثَّانِيَ: شَرْطُ الدَّوَامِ، وَهُوَ أَنْ يُوجَدَ الْعُذْرُ فِي كُل وَقْتٍ آخَرَ، سِوَى الْوَقْتِ الأَْوَّل الَّذِي ثَبَتَ بِهِ الْعُذْرُ وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً.

الثَّالِثَ: شَرْطُ الاِنْقِطَاعِ، وَبِهِ يَخْرُجُ صَاحِبُهُ عَنْ كَوْنِهِ مَعْذُورًا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَسْتَمِرَّ الاِنْقِطَاعُ وَقْتًا كَامِلاً فَيَثْبُتُ لَهُ حِينَئِذٍ حُكْمُ الأَْصِحَّاءِ مِنْ وَقْتِ الاِنْقِطَاعِ (1) .

مَا تَمْتَنِعُ عَنْهُ الْمُسْتَحَاضَةُ:
26 - قَال الْبِرْكَوِيُّ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ: الاِسْتِحَاضَةُ حَدَثٌ أَصْغَرُ كَالرُّعَافِ. فَلاَ تَسْقُطُ بِهَا الصَّلاَةُ وَلاَ تَمْنَعُ صِحَّتَهَا أَيْ عَلَى سَبِيل الرُّخْصَةِ لِلضَّرُورَةِ، وَلاَ تُحَرِّمُ الصَّوْمَ فَرْضًا أَوْ نَفْلاً، وَلاَ تَمْنَعُ الْجِمَاعَ - لِحَدِيثِ حَمْنَةَ: أَنَّهَا كَانَتْ مُسْتَحَاضَةً وَكَانَ زَوْجُهَا يَأْتِيهَا - وَلاَ قِرَاءَةَ قُرْآنٍ، وَلاَ مَسَّ مُصْحَفٍ، وَلاَ دُخُول مَسْجِدٍ، وَلاَ طَوَافًا إِذَا أَمِنَتِ التَّلْوِيثَ. وَحُكْمُ الاِسْتِحَاضَةِ كَالرُّعَافِ الدَّائِمِ، فَتُطَالَبُ الْمُسْتَحَاضَةُ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ (2) .
وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، قَالُوا: لاَ تُمْنَعُ
__________
(1) مراقي الفلاح وحاشية الطحطاوي ص 81.
(2) مجموعة رسائل ابن عابدين 1 / 114، وحاشية رد المحتار على الدر المختار 1 / 198، وفتح القدير 1 / 156، وحاشية الطحطاوي ص 80، والدسوقي 1 / 169، والمغني 1 / 357 مع الشرح الكبير، وشرح المنهاج 1 / 101، والشرح الصغير 1 / 7210، والقوانين الفقهية ص 32 ط بيروت.

(3/209)


الْمُسْتَحَاضَةُ عَنْ شَيْءٍ، وَحُكْمُهَا حُكْمُ الطَّاهِرَاتِ فِي وُجُوبِ الْعِبَادَاتِ، وَاخْتُلِفَ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْوَطْءِ، فَهُنَاكَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْهُ بِالْمَنْعِ كَالْحَيْضِ مَا لَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ الْوُقُوعَ فِي مَحْظُورٍ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ كَمَا فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: هِيَ طَاهِرٌ حَقِيقَةً.
وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمُسْتَحَاضَةِ الْمُتَحَيِّرَةِ، فَإِنَّ لَهَا أَحْكَامًا خَاصَّةً تُنْظَرُ تَحْتَ عِنْوَانِ (مُتَحَيِّرَة) .

طَهَارَةُ الْمُسْتَحَاضَةِ:
27 - يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَحَاضَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ الاِحْتِيَاطُ فِي طَهَارَتَيِ الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ، فَتَغْسِل عَنْهَا الدَّمَ، وَتَحْتَشِي بِقُطْنَةٍ أَوْ خِرْقَةٍ دَفْعًا لِلنَّجَاسَةِ أَوْ تَقْلِيلاً لَهَا، فَإِنْ لَمْ يَنْدَفِعِ الدَّمُ بِذَلِكَ وَحْدَهُ تَحَفَّظَتْ بِالشَّدِّ وَالتَّعْصِيبِ. وَهَذَا الْفِعْل يُسَمَّى اسْتِثْفَارًا وَتَلَجُّمًا، وَسَمَّاهُ الشَّافِعِيُّ التَّعْصِيبَ (1) .
قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَهَذَا الْحَشْوُ وَالشَّدُّ وَاجِبٌ إِلاَّ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ تَتَأَذَّى بِالشَّدِّ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ صَائِمَةً فَتَتْرُكَ الْحَشْوَ نَهَارًا وَتَقْتَصِرَ عَلَى الشَّدِّ وَالتَّلَجُّمِ
فَإِذَا اسْتَوْثَقَتْ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ، ثُمَّ خَرَجَ دَمُهَا بِلاَ تَفْرِيطٍ لَمْ تَبْطُل طَهَارَتُهَا وَلاَ صَلاَتُهَا
28 - وَأَمَّا إِذَا خَرَجَ الدَّمُ لِتَقْصِيرِهَا فِي التَّحَفُّظِ فَإِنَّهُ يَبْطُل طُهْرُهَا.
وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَيَجِبُ عَلَى الْمَعْذُورِ رَدُّ عُذْرِهِ، أَوْ تَقْلِيلُهُ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ رَدُّهُ بِالْكُلِّيَّةِ. وَبِرَدِّهِ لاَ يَبْقَى ذَا عُذْرٍ. أَمَّا إِنْ كَانَ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الرَّبْطِ أَوْ مَنْعِ النَّشِّ
__________
(1) المجموع للإمام النووي 2 / 538، وشرح منتهى الإرادات 1 / 114

(3/209)


فَهُوَ مَعْذُورٌ (1) .
وَأَمَّا غَسْل الْمَحَل وَتَجْدِيدُ الْعِصَابَةِ وَالْحَشْوِ لِكُل فَرْضٍ، فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُنْظَرُ إِنْ زَالَتِ الْعِصَابَةُ عَنْ مَوْضِعِهَا زَوَالاً لَهُ تَأْثِيرٌ، أَوْ ظَهَرَ الدَّمُ عَلَى جَوَانِبِهَا، وَجَبَ التَّجْدِيدُ بِلاَ خِلاَفٍ؛ لأَِنَّ النَّجَاسَةَ كَثُرَتْ وَأَمْكَنَ تَقْلِيلُهَا وَالاِحْتِرَازُ عَنْهَا. فَإِنْ لَمْ تَزُل الْعِصَابَةُ عَنْ مَوْضِعِهَا وَلاَ ظَهَرَ الدَّمُ، فَوَجْهَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَصَحُّهُمَا: وُجُوبُ التَّجْدِيدِ كَمَا يَجِبُ تَجْدِيدُ الْوُضُوءِ، وَالثَّانِي: إِذْ لاَ مَعْنَى لِلأَْمْرِ بِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ مَعَ اسْتِمْرَارِهَا، بِخِلاَفِ الأَْمْرِ بِتَجْدِيدِ طَهَارَةِ الْحَدَثِ مَعَ اسْتِمْرَارِهِ فَإِنَّهُ مَعْهُودٌ فِي التَّيَمُّمِ (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ يَلْزَمُهَا إِعَادَةُ الْغُسْل وَالْعَصْبِ لِكُل صَلاَةٍ إِنْ لَمْ تُفَرِّطْ، قَالُوا: لأَِنَّ الْحَدَثَ مَعَ قُوَّتِهِ وَغَلَبَتِهِ لاَ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ اعْتَكَفَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةٌ مِنْ أَزْوَاجِهِ، فَكَانَتْ تَرَى الدَّمَ وَالصُّفْرَةَ وَالطَّسْتُ تَحْتَهَا وَهِيَ تُصَلِّي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (3) .

ب - حُكْمُ مَا يَسِيل مِنْ دَمِ الْمُسْتَحَاضَةِ عَلَى الثَّوْبِ:
إِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ مِنَ الدَّمِ مِقْدَارُ مُقَعَّرِ الْكَفِّ فَأَكْثَرَ وَجَبَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ غَسْلُهُ، إِذَا كَانَ الْغَسْل مُفِيدًا، بِأَنْ كَانَ لاَ يُصِيبُهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، حَتَّى لَوْ لَمْ تَغْسِل وَصَلَّتْ لاَ يَجُوزُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا لاَ يَجِبُ مَا دَامَ الْعُذْرُ قَائِمًا (4) . أَيْ إِنْ كَانَ لَوْ غَسَلَتِ الثَّوْبَ تَنَجَّسَ ثَانِيًا قَبْل الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلاَةِ، جَازَ أَلاَّ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 204
(2) المجموع 2 / 540
(3) شرح المنتهى 1 / 114، وصحيح البخاري 1 / 81 ط صبيح.
(4) البدائع 1 / 147، وحاشية رد المحتار على الدر المختار 1 / 204

(3/210)


تَغْسِل؛ لأَِنَّ فِي إِلْزَامِهَا التَّطْهِيرَ مَشَقَّةً وَحَرَجًا.
وَإِنْ كَانَ لَوْ غَسَلَتْهُ لاَ يَتَنَجَّسُ قَبْل الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلاَةِ، فَلاَ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ بَقَائِهِ، إِلاَّ فِي قَوْلٍ مَرْجُوحٍ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا تَحَفَّظَتْ لَمْ يَضُرَّ خُرُوجُ الدَّمِ، وَلَوْ لَوَّثَ مَلْبُوسَهَا فِي تِلْكَ الصَّلاَةِ خَاصَّةً (1) .
وَلاَ يَضُرُّ كَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لِقَوْلِهِمْ: إِنْ غَلَبَ الدَّمُ وَقَطَرَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ تَبْطُل طَهَارَتُهَا (2) .

مَتَى يَلْزَمُ الْمُسْتَحَاضَةَ أَنْ تَغْتَسِل:
29 - نَقَل صَاحِبُ الْمُغْنِي فِي ذَلِكَ أَقْوَالاً:
الأَْوَّل: تَغْتَسِل عِنْدَمَا يُحْكَمُ بِانْقِضَاءِ حَيْضِهَا أَوْ نِفَاسِهَا. وَلَيْسَ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ إِلاَّ الْوُضُوءُ وَيُجْزِيهَا ذَلِكَ. وَهَذَا رَأْيُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ فَدَعِي الصَّلاَةَ، فَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي، وَتَوَضَّئِي لِكُل صَلاَةٍ قَال التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَلِحَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال فِي الْمُسْتَحَاضَةِ: تَدَعُ الصَّلاَةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا ثُمَّ تَغْتَسِل وَتُصَلِّي، وَتَتَوَضَّأُ لِكُل صَلاَةٍ.
الثَّانِيَ: أَنَّهَا تَغْتَسِل لِكُل صَلاَةٍ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُتَحَيِّرَةِ؛ لأَِنَّ عَائِشَةَ رَوَتْ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ اسْتُحِيضَتْ، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَغْتَسِل لِكُل صَلاَةٍ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. إِلاَّ أَنَّ أَصْحَابَ الْقَوْل الأَْوَّل قَالُوا: إِنَّ ذِكْرَ الْوُضُوءِ لِكُل صَلاَةٍ زِيَادَةٌ يَجِبُ
__________
(1) حاشية القليوبي 1 / 101
(2) كشاف القناع 1 / 194

(3/210)


قَبُولُهَا. وَمِنْ هُنَا قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ تَغْتَسِل لِكُل صَلاَةٍ. وَيَكُونُ الأَْمْرُ فِي الْحَدِيثِ لِلاِسْتِحْبَابِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهَا تَغْتَسِل لِكُل يَوْمٍ غُسْلاً وَاحِدًا، رُوِيَ هَذَا عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ.
الرَّابِعُ: تَجْمَعُ بَيْنَ كُل صَلاَتَيْ جَمْعٍ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ، وَتَغْتَسِل لِلصُّبْحِ (1) .

وُضُوءُ الْمُسْتَحَاضَةِ وَعِبَادَتُهَا:
30 - قَال الشَّافِعِيُّ: تَتَوَضَّأُ الْمُسْتَحَاضَةُ لِكُل فَرْضٍ وَتُصَلِّي مَا شَاءَتْ مِنَ النَّوَافِل، لِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ السَّابِقِ؛ وَلأَِنَّ اعْتِبَارَ طَهَارَتِهَا ضَرُورَةٌ لأَِدَاءِ الْمَكْتُوبَةِ، فَلاَ تَبْقَى بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا.
وَقَال مَالِكٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْنِ: تَتَوَضَّأُ لِكُل صَلاَةٍ، وَاحْتَجَّ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ. فَمَالِكٌ عَمِل بِمُطْلَقِ اسْمِ الصَّلاَةِ، وَالشَّافِعِيُّ قَيَّدَهُ بِالْفَرْضِ؛ لأَِنَّ الصَّلاَةَ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ تَنْصَرِفُ إِلَى الْفَرْضِ، وَالنَّوَافِل أَتْبَاعُ الْفَرَائِضِ؛ لأَِنَّهَا شُرِعَتْ لِتَكْمِيل الْفَرَائِضِ جَبْرًا لِلنُّقْصَانِ الْمُتَمَكِّنِ فِيهَا، فَكَانَتْ مُلْحَقَةً بِأَجْزَائِهَا، وَالطَّهَارَةُ الْوَاقِعَةُ لِصَلاَةٍ مَفْرُوضَةٍ وَاقِعَةٌ لَهَا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا، بِخِلاَفِ فَرْضٍ آخَرَ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِتَبَعٍ، بَل هُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ (2) .
وَالْقَوْل الثَّانِي لِلْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ تَجْدِيدَ الْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُل صَلاَةٍ مُسْتَحَبٌّ، وَهُوَ طَرِيقَةُ الْعِرَاقِيِّينَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ (3) .
__________
(1) المغني والشرح الكبير 1 / 378، والدسوقي 1 / 130
(2) المجموع للإمام النووي 2 / 541
(3) الدسوقي 1 / 116

(3/211)


وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: تَتَوَضَّأُ الْمُسْتَحَاضَةُ وَأَمْثَالُهَا مِنَ الْمَعْذُورِينَ لِوَقْتِ كُل صَلاَةٍ مَفْرُوضَةٍ، وَتُصَلِّي بِهِ فِي الْوَقْتِ مَا شَاءَتْ مِنَ الْفَرَائِضِ (1) وَالنُّذُورِ وَالنَّوَافِل وَالْوَاجِبَاتِ، كَالْوِتْرِ وَالْعِيدِ وَصَلاَةِ الْجِنَازَةِ وَالطَّوَافِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ (2) . وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: وَتَوَضَّئِي لِوَقْتِ كُل صَلاَةٍ. (3)
وَلاَ يُنْتَقَضُ وُضُوءُ الْمُسْتَحَاضَةِ بِتَجَدُّدِ الْعُذْرِ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْوُضُوءُ فِي حَال سَيَلاَنِ الدَّمِ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: فَلَوْ تَوَضَّأَتْ مَعَ الاِنْقِطَاعِ ثُمَّ سَال الدَّمُ انْتَقَضَ الْوُضُوءُ.
وَلَوْ تَوَضَّأَتْ مِنْ حَدَثٍ آخَرَ - غَيْرِ الْعُذْرِ - فِي فَتْرَةِ انْقِطَاعِ الْعُذْرِ، ثُمَّ سَال الدَّمُ انْتَقَضَ الْوُضُوءُ أَيْضًا.
وَكَذَا لَوْ تَوَضَّأَتْ مِنْ عُذْرِ الدَّمِ، ثُمَّ أَحْدَثَتْ حَدَثًا آخَرَ انْتَقَضَ الْوُضُوءُ (4) .
بَيَانُ ذَلِكَ: لَوْ كَانَ مَعَهَا سَيَلاَنٌ دَائِمٌ مَثَلاً، وَتَوَضَّأَتْ لَهُ، ثُمَّ أَحْدَثَتْ بِخُرُوجِ بَوْلٍ انْتَقَضَ الْوُضُوءُ.
31 - ثُمَّ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي طَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ، هَل تُنْتَقَضُ عِنْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ؟ أَمْ عِنْدَ دُخُولِهِ؟ أَمْ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْخُرُوجِ وَالدُّخُول؟ قَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: تُنْتَقَضُ عِنْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لاَ غَيْرُ؛ لأَِنَّ طَهَارَةَ الْمَعْذُورِ مُقَيَّدَةٌ بِالْوَقْتِ
__________
(1) البدائع 1 / 143، وحاشية رد المحتار على الدر المختار 1 / 203، الحطاب 1 / 318
(2) طحطاوي على مراقي الفلاح 80
(3) رواه التزمذي وقال: حديث حسن صحيح.
(4) حاشية رد المحتار على الدر المختار 1 / 204، والمغني مع الشرح الكبير 1 / 379

(3/211)


فَإِذَا خَرَجَ ظَهَرَ الْحَدَثُ.
وَقَال زُفَرُ: عِنْدَ دُخُول الْوَقْتِ لاَ غَيْرُ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ؛ لِحَدِيثِ تَوَضَّئِي لِكُل صَلاَةٍ وَفِي رِوَايَةٍ لِوَقْتِ كُل صَلاَةٍ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: عِنْدَ كُلٍّ مِنْهُمَا، أَيْ لِلاِحْتِيَاطِ. وَهُوَ قَوْل أَبِي يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ (1) .
وَثَمَرَةُ الْخِلاَفِ تَظْهَرُ فِي مَوْضِعَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يُوجَدَ الْخُرُوجُ بِلاَ دُخُولٍ، كَمَا إِذَا تَوَضَّأَتْ فِي وَقْتِ الْفَجْرِ ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ، فَإِنَّ طَهَارَتَهَا تُنْتَقَضُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لِوُجُودِ الْخُرُوجِ، وَعِنْدَ زُفَرَ وَأَحْمَدَ لاَ تُنْتَقَضُ لِعَدَمِ دُخُول الْوَقْتِ؛ لأَِنَّ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى الظُّهْرِ لَيْسَ بِوَقْتِ صَلاَةٍ، بَل هُوَ وَقْتٌ مُهْمَلٌ.

وَالثَّانِي: أَنْ يُوجَدَ الدُّخُول بِلاَ خُرُوجٍ، كَمَا إِذَا تَوَضَّأَتْ قَبْل الزَّوَال ثُمَّ زَالَتِ الشَّمْسُ، فَإِنَّ طَهَارَتَهَا لاَ تُنْتَقَضُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِعَدَمِ الْخُرُوجِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ وَأَحْمَدَ تُنْتَقَضُ لِوُجُودِ الدُّخُول.
فَلَوْ تَوَضَّأَتْ لِصَلاَةِ الضُّحَى أَوْ لِصَلاَةِ الْعِيدِ فَلاَ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تُصَلِّيَ الظُّهْرَ بِتِلْكَ الطَّهَارَةِ، عَلَى قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ وَأَحْمَدَ، بَل تُنْتَقَضُ الطَّهَارَةُ لِدُخُول وَقْتِ الظُّهْرِ.
وَأَمَّا عَلَى قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فَتَجُوزُ لِعَدَمِ خُرُوجِ الْوَقْتِ.
أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَيُنْتَقَضُ وُضُوءُهَا بِمُجَرَّدِ أَدَاءِ أَيِّ فَرْضٍ، وَلَوْ لَمْ يَخْرُجِ الْوَقْتُ أَوْ يَدْخُل كَمَا تَقَدَّمَ.
__________
(1) فتح القدير 1 / 159، والطحطاوي على مراقي الفلاح ص 80، وكشاف القناع 1 / 196 والبدائع للكاساني 1 / 145، ومطالب أولي النهى 1 / 264

(3/212)


وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَهِيَ طَاهِرٌ حَقِيقَةً عَلَى مَا سَبَقَ.

بُرْءُ الْمُسْتَحَاضَةِ وَشِفَاؤُهَا:
32 - عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا انْقَطَعَ دَمُ الْمُسْتَحَاضَةِ انْقِطَاعًا مُحَقَّقًا حَصَل مَعَهُ بُرْؤُهَا وَشِفَاؤُهَا مِنْ عِلَّتِهَا، وَزَالَتِ اسْتِحَاضَتُهَا، نُظِرَ:
إِنْ حَصَل هَذَا خَارِجَ الصَّلاَةِ:
أ - فَإِنْ كَانَ بَعْدَ صَلاَتِهَا، فَقَدْ مَضَتْ صَلاَتُهَا صَحِيحَةً، وَبَطَلَتْ طَهَارَتُهَا فَلاَ تَسْتَبِيحُ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ نَافِلَةً.
ب - وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْل الصَّلاَةِ بَطَلَتْ طَهَارَتُهَا، وَلَمْ تَسْتَبِحْ تِلْكَ الصَّلاَةَ وَلاَ غَيْرَهَا.
أَمَّا إِذَا حَصَل الاِنْقِطَاعُ فِي نَفْسِ الصَّلاَةِ فَفِيهِ قَوْلاَنِ:
أَحَدُهُمَا: بُطْلاَنُ طَهَارَتِهَا وَصَلاَتِهَا.
وَالثَّانِي: لاَ تَبْطُل كَالتَّيَمُّمِ.
وَالرَّاجِحُ الأَْوَّل (1) .
وَإِذَا تَطَهَّرَتِ الْمُسْتَحَاضَةُ وَصَلَّتْ فَلاَ إِعَادَةَ عَلَيْهَا.
وَلاَ يُتَصَوَّرُ هَذَا التَّفْصِيل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَهَا مَعْذُورَةً لِوُجُودِ الْعُذْرِ فِي الْوَقْتِ وَلَوْ لَحْظَةً كَمَا سَبَقَ. وَلاَ يُتَصَوَّرُ هَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا؛ لأَِنَّهَا طَاهِرٌ حَقِيقَةً.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَعِنْدَهُمْ تَفْصِيلٌ. قَالُوا: إِنْ كَانَ لَهَا عَادَةٌ بِانْقِطَاعٍ زَمَنًا يَتَّسِعُ لِلْوُضُوءِ وَالصَّلاَةِ تَعَيَّنَ فِعْلُهُمَا فِيهِ. وَإِنْ عَرَضَ هَذَا الاِنْقِطَاعُ لِمَنْ عَادَتُهَا الاِتِّصَال بَطَلَتْ طَهَارَتُهَا، وَلَزِمَ اسْتِئْنَافُهَا. فَإِنْ وُجِدَ
__________
(1) المجموع للإمام النووي 2 / 545

(3/212)


الاِنْقِطَاعُ قَبْل الدُّخُول فِي الصَّلاَةِ لَمْ يَجُزِ الشُّرُوعُ فِيهَا. وَإِنْ عَرَضَ الاِنْقِطَاعُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ أَبْطَلَهَا مَعَ الْوُضُوءِ. وَمُجَرَّدُ الاِنْقِطَاعِ يُوجِبُ الاِنْصِرَافَ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لَهَا عَادَةٌ بِانْقِطَاعٍ يَسِيرٍ. وَلَوْ تَوَضَّأَتْ ثُمَّ بَرِئَتْ بَطَل وُضُوءُهَا إِنْ وُجِدَ مِنْهَا دَمٌ بَعْدَ الْوُضُوءِ (1) .

عِدَّةُ الْمُسْتَحَاضَةِ:
33 - سَبَقَتِ الإِْشَارَةُ إِلَى بَعْضِ أَحْكَامِهَا. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (عِدَّة) .

اسْتِحَالَةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الاِسْتِحَالَةِ لُغَةً: تَغَيُّرُ الشَّيْءِ عَنْ طَبْعِهِ وَوَصْفِهِ، أَوْ عَدَمِ الإِْمْكَانِ (2) . وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ وَالأُْصُولِيِّينَ لِلَفْظِ (اسْتِحَالَةٍ) عَنْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ اللُّغَوِيَّيْنِ.

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوْطِنُ الْبَحْثِ:
يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ تَبَعًا لِلاِسْتِعْمَالاَتِ الْفِقْهِيَّةِ أَوِ الأُْصُولِيَّةِ:

2 - الاِسْتِعْمَال الْفِقْهِيُّ الأَْوَّل: بِمَعْنَى تَحَوُّل الشَّيْءِ وَتَغَيُّرِهِ عَنْ وَصْفِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ اسْتِحَالَةُ الْعَيْنِ النَّجِسَةِ. وَبِمَ تَكُونُ الاِسْتِحَالَةُ؟
الأَْعْيَانُ النَّجِسَةُ، كَالْعَذِرَةِ، وَالْخَمْرِ، وَالْخِنْزِيرِ، قَدْ تَتَحَوَّل عَنْ أَعْيَانِهَا وَتَتَغَيَّرُ أَوْصَافُهَا،
__________
(1) كشاف القناع 1 / 197
(2) المصباح المنير، مادة (حول) .

(3/213)


وَذَلِكَ بِالاِحْتِرَاقِ أَوْ بِالتَّخْلِيل، أَوْ بِالْوُقُوعِ فِي شَيْءٍ طَاهِرٍ، كَالْخِنْزِيرِ يَقَعُ فِي الْمِلاَحَةِ، فَيَصِيرُ مِلْحًا.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى طَهَارَةِ الْخَمْرِ بِاسْتِحَالَتِهَا بِنَفْسِهَا خَلًّا، وَيَخْتَلِفُونَ فِي طَهَارَتِهَا بِالتَّخْلِيل (1) .
أَمَّا النَّجَاسَاتُ الأُْخْرَى الَّتِي تَتَحَوَّل عَنْ أَصْلِهَا فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي طَهَارَتِهَا.
وَيُفَصِّل ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي مَبْحَثِ الأَْنْجَاسِ، وَكَيْفِيَّةِ تَطْهِيرِهَا، فَمَنْ يَحْكُمُ بِطَهَارَتِهَا يَقُول: إِنَّ اسْتِحَالَةَ الْعَيْنِ تَسْتَتْبِعُ زَوَال الْوَصْفِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهَا عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ (2) .
وَيُرَتِّبُونَ عَلَى ذَلِكَ فُرُوعًا كَثِيرَةً، تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (تَحَوُّل) .

3 - الاِسْتِعْمَال الْفِقْهِيُّ الثَّانِي: بِمَعْنَى عَدَمِ إِمْكَانِ الْوُقُوعِ. وَمِنْ ذَلِكَ اسْتِحَالَةُ وُقُوعِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، أَوِ اسْتِحَالَةُ الشَّرْطِ الَّذِي عُلِّقَ عَلَيْهِ الطَّلاَقُ وَنَحْوُهُ.
فَمِنَ الشَّرَائِطِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ فِي الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ: أَلاَّ يَكُونَ مُسْتَحِيل التَّحَقُّقِ عَقْلاً أَوْ عَادَةً، أَيْ بِأَنْ يَكُونَ مُتَصَوِّرَ الْوُجُودِ حَقِيقَةً أَوْ عَادَةً، وَيَضْرِبُونَ لِذَلِكَ أَمْثِلَةً، كَمَنْ يَحْلِفُ: لأََشْرَبَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي الْكُوزِ، وَلاَ مَاءَ فِيهِ، وَهَذَا فِي الْمُسْتَحِيل حَقِيقَةً. وَكَحَلِفِهِ لَيَصْعَدَنَّ إِلَى السَّمَاءِ، فَهُوَ مُسْتَحِيلٌ عَادَةً.
وَهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي الْحِنْثِ وَعَدَمِهِ، وَالْكَفَّارَةِ وَعَدَمِهَا، وَهَل يَكُونُ ذَلِكَ فِي يَمِينِ الْبِرِّ أَوِ الْحِنْثِ؟ وَهَل الْحُكْمُ يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ إِنْ كَانَتِ
__________
(1) نهاية المحتاج 1 / 230، والمغني 1 / 72، والدسوقي 1 / 52، وفتح القدير 1 / 139
(2) نهاية المحتاج 1 / 230، والمغني 1 / 72، والدسوقي 1 / 57، وفتح القدير 1 / 139

(3/213)


الْيَمِينُ مُؤَقَّتَةً أَوْ مُطْلَقَةً؟ وَيُفَصِّل الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي مَسَائِل الأَْيْمَانِ، وَمَسَائِل الطَّلاَقِ، وَمَسَائِل الْعِتْقِ.

الاِسْتِعْمَال الأُْصُولِيُّ:
4 - يَسْتَعْمِل الأُْصُولِيُّونَ لَفْظَ اسْتِحَالَةٍ بِمَعْنَى: عَدَمِ إِمْكَانِ الْوُقُوعِ، وَمِنْ ذَلِكَ حُكْمُ التَّكْلِيفِ بِالْمُسْتَحِيل لِذَاتِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ وَقَدِ اخْتَلَفَ الأُْصُولِيُّونَ فِي جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِالْمُمْتَنِعِ، وَقَسَّمُوهُ إِلَى: مُمْتَنِعٍ لِذَاتِهِ، وَمُمْتَنِعٍ لِغَيْرِهِ. فَالْمُمْتَنِعُ لِذَاتِهِ، كَالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ. اخْتَارَ جُمْهُورُ الأُْصُولِيِّينَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ التَّكْلِيفُ بِهِ.
وَالْمُسْتَحِيل لِغَيْرِهِ إِنْ كَانَتِ اسْتِحَالَتُهُ عَادَةً، كَالتَّكْلِيفِ بِحَمْل الْجَبَل، فَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِهِ عَقْلاً، وَعَدَمِ وُقُوعِهِ شَرْعًا. وَإِنْ كَانَتِ اسْتِحَالَتُهُ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ إِرَادَةِ اللَّهِ بِهِ، كَإِيمَانِ أَبِي جَهْلٍ، فَالْكُل مُجْمِعٌ عَلَى جَوَازِهِ عَقْلاً، وَوُقُوعِهِ شَرْعًا (1) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.

اسْتِحْبَابٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِحْبَابُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ اسْتَحَبَّهُ إِذَا أَحَبَّهُ، وَيَكُونُ الاِسْتِحْبَابُ بِمَعْنَى الاِسْتِحْسَانِ (2) ، وَاسْتَحَبَّهُ عَلَيْهِ: آثَرَهُ (3) .
__________
(1) فواتح الرحموت بهامش المستصفى 1 / 123، والإحكام للآمدي 1 / 69
(2) المصباح المنير (حبب) .
(3) مختار الصحاح، مادة (حبب) .

(3/214)


وَالاِسْتِحْبَابُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ: اقْتِضَاءُ خِطَابِ اللَّهِ الْعَقْل اقْتِضَاءً غَيْرَ جَازِمٍ، بِأَنْ يَجُوزَ تَرْكُهُ (1) . وَضِدُّهُ الْكَرَاهِيَةُ (2) .
2 - وَيُرَادِفُ الْمُسْتَحَبُّ: الْمَنْدُوبَ وَالتَّطَوُّعَ وَالطَّاعَةَ وَالسُّنَّةَ وَالنَّافِلَةَ وَالنَّفَل وَالْقُرْبَةَ وَالْمُرَغَّبَ فِيهِ وَالإِْحْسَانَ وَالْفَضِيلَةَ وَالرَّغِيبَةَ وَالأَْدَبَ وَالْحَسَنَ (3) .
وَخَالَفَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فِي التَّرَادُفِ الْمَذْكُورِ - كَالْقَاضِي حُسَيْنٍ وَغَيْرِهِ - فَقَالُوا: إِنَّ الْفِعْل إِنْ وَاظَبَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ السُّنَّةُ، وَإِنْ لَمْ يُوَاظِبْ عَلَيْهِ - كَأَنْ فَعَلَهُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ - فَهُوَ الْمُسْتَحَبُّ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ - وَهُوَ مَا يُنْشِئُهُ الإِْنْسَانُ بِاخْتِيَارِهِ مِنَ الأَْوْرَادِ - فَهُوَ التَّطَوُّعُ،
وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلْمَنْدُوبِ هُنَا لِعُمُومِهِ لِلأَْقْسَامِ الثَّلاَثَةِ بِلاَ شَكٍّ.
وَهَذَا الْخِلاَفُ لَفْظِيٌّ، إِذْ حَاصِلُهُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الأَْقْسَامِ الثَّلاَثَةِ، كَمَا يُسَمَّى بِاسْمٍ مِنَ الأَْسْمَاءِ الثَّلاَثَةِ كَمَا ذُكِرَ، هَل يُسَمَّى بِغَيْرِهِ مِنْهَا؟ فَقَال الْبَعْضُ: لاَ يُسَمَّى، إِذِ السُّنَّةُ: الطَّرِيقَةُ وَالْعَادَةُ، وَالْمُسْتَحَبُّ: الْمَحْبُوبُ، وَالتَّطَوُّعُ: الزِّيَادَةُ. وَالأَْكْثَرُ قَالُوا: نَعَمْ يُسَمَّى، وَيَصْدُقُ عَلَى كُلٍّ مِنَ الأَْقْسَامِ الثَّلاَثَةِ أَنَّهُ طَرِيقَةٌ أَوْ عَادَةٌ فِي الدِّينِ، وَمَحْبُوبٌ لِلشَّارِعِ بِطَلَبِهِ، وَزَائِدٌ عَلَى الْوَاجِبِ (4) .
__________
(1) شرح جمع الجوامع 1 / 80 ط محمود شاكر الكتبي.
(2) شرح الكوكب المنير ص 128، القاهرة - مطبعة السنة المحمدية.
(3) شرح جمع الجوامع بحاشية البناني 1 / 90، 91، والكليات لأبي البقاء 1 / 173، 2 / 108، 3 / 11 ط دمشق، وإرشاد الفحول ص 6 ط مصطفى الحلبي، وشرح الكوكب المنير ص 126، وكشاف اصطلاحات الفنون مادة (حبب) 2 / 274، ومادة (سنن) 3 / 705 ط الخياط.
(4) شرح جمع الجوامع ص 90، 91

(3/214)


وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ هُوَ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً وَتَرَكَهُ أُخْرَى، فَيَكُونُ دُونَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ كَمَا قَال التَّهَانُوِيُّ، بَل دُونَ سُنَنِ الزَّوَائِدِ كَمَا قَال أَبُو الْبَقَاءِ الْكَفَوِيُّ.
وَيُسَمَّى عِنْدَهُمْ بِالْمَنْدُوبِ لِدُعَاءِ الشَّارِعِ إِلَيْهِ، وَبِالتَّطَوُّعِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ وَاجِبٍ، وَبِالنَّفَل لِزِيَادَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ (1) .
وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْمُسْتَحَبُّ مُسْتَحَبًّا لاِخْتِيَارِ الشَّارِعِ إِيَّاهُ عَلَى الْمُبَاحِ (2) . وَهُمْ بِهَذَا يَقْتَرِبُونَ مِمَّا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، لَوْلاَ أَنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ مَعَهُ فِي التَّطَوُّعِ، حَيْثُ يَجْعَلُونَهُ مُرَادِفًا لِلْمُسْتَحَبِّ، وَيَجْعَلُهُ قَسِيمًا لَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمُسْتَحَبِّ وَبَيْنَ السُّنَّةِ بِأَنَّهَا هِيَ: الطَّرِيقَةُ الْمَسْلُوكَةُ فِي الدِّينِ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامٍ عَلَى سَبِيل الْمُوَاظَبَةِ، فَيَخْرُجُ الْمُسْتَحَبُّ بِالْقَيْدِ الأَْخِيرِ، إِذْ لاَ مُوَاظَبَةَ عَلَيْهِ مِنْ قِبَل النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالتَّسْلِيمُ (3) .
وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمُسْتَحَبَّاتِ وَسُنَنِ الزَّوَائِدِ، فَقَال: الْمُسْتَحَبُّ هُوَ الَّذِي يَكُونُ عَلَى سَبِيل الْعَادَةِ، سَوَاءٌ أَتُرِكَ أَحْيَانًا أَمْ لاَ.
وَفِي نُورِ الأَْنْوَارِ شَرْحِ الْمَنَارِ: السُّنَنُ الزَّوَائِدُ فِي مَعْنَى الْمُسْتَحَبِّ، إِلاَّ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ مَا أَحَبَّهُ الْعُلَمَاءُ، وَالسُّنَنُ الزَّوَائِدُ مَا اعْتَادَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
هَذَا وَقَدْ يُطْلَقُ الْمُسْتَحَبُّ عَلَى كَوْنِ الْفِعْل
__________
(1) كشاف اصطلاحات الفنون (جب) 2 / 274، وكليات أبي البقاء 1 / 173، 2 / 108، 3 / 11، 5 / 96، وحاشية الرهاوي على شرح المنار ص 586 ط إستانبول.
(2) كشاف اصطلاحات الفنون (حبب) 2 / 274، وحاشية البناني على شرح جمع الجوامع 1 / 91
(3) حاشية الرهاوي على شرح المنار ص 586 ط الأولى.

(3/215)


مَطْلُوبًا، طَلَبًا جَازِمًا أَوْ غَيْرَ جَازِمٍ، فَيَشْمَل الْفَرْضَ وَالسُّنَّةَ وَالنَّدْبَ، وَعَلَى كَوْنِهِ مَطْلُوبًا طَلَبًا غَيْرَ جَازِمٍ فَيَشْمَل الأَْخِيرَيْنِ فَقَطْ (1) .

حُكْمُ الْمُسْتَحَبِّ:
3 - ذَهَبَ الأُْصُولِيُّونَ - مِنْ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ - إِلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ يُمْدَحُ فَاعِلُهُ وَيُثَابُ، وَلاَ يُذَمُّ تَارِكُهُ وَلاَ يُعَاقَبُ (2) . وَذَلِكَ لأَِنَّ تَرْكَ الْمُسْتَحَبِّ جَائِزٌ. غَيْرَ أَنَّ هَذَا التَّرْكَ إِنْ وَرَدَ فِيهِ نَهْيٌ غَيْرُ جَازِمٍ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ مَخْصُوصًا، كَالنَّهْيِ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: إِذَا دَخَل أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلاَ يَجْلِسُ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ (3) كَانَ مَكْرُوهًا، وَإِنْ كَانَ نَهْيًا غَيْرَ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ النَّهْيُ عَنْ تَرْكِ الْمَنْدُوبَاتِ عَامَّةً الْمُسْتَفَادُ مِنْ أَوَامِرِهَا، فَإِنَّ الأَْمْرَ بِالشَّيْءِ يُفِيدُ النَّهْيَ عَنْ تَرْكِهِ، فَيَكُونُ خِلاَفَ الأَْوْلَى، كَتَرْكِ صَلاَةِ الضُّحَى. وَذَلِكَ لأَِنَّ الطَّلَبَ بِدَلِيلٍ خَاصٍّ آكَدُ مِنَ الطَّلَبِ بِدَلِيلٍ عَامٍّ.
وَالْمُتَقَدِّمُونَ يُطْلِقُونَ الْمَكْرُوهَ عَلَى ذِي النَّهْيِ الْمَخْصُوصِ وَغَيْرِ الْمَخْصُوصِ، وَقَدْ يَقُولُونَ فِي الأَْوَّل: مَكْرُوهٌ كَرَاهَةً شَدِيدَةً، كَمَا يُقَال فِي الْمَنْدُوبِ: سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ (4) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّهُمْ يَنُصُّونَ عَلَى أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ مُسْتَحَبًّا أَوْ مَنْدُوبًا عِنْدَهُمْ وَلَيْسَ سُنَّةً فَلاَ يَكُونُ تَرْكُهُ مَكْرُوهًا أَصْلاً، وَلاَ يُوجِبُ تَرْكُهُ إِسَاءَةً أَيْضًا
__________
(1) كشاف اسطلاحات الفنون (حبب) 2 / 274، ودستور العلماء 2 / 185
(2) إرشاد الفحول ص 6، وشرح جمع الجوامع 1 / 80، والكليات 1 / 173
(3) حديث " إذا دخل أحدكم. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 48 - ط السلفية) ومسلم 1 / 495 ط عيسى الحلبي.
(4) شرح جمع الجوامع 1 / 81

(3/215)


فَلاَ يُوجِبُ عِتَابًا فِي الآْخِرَةِ، كَتَرْكِ سُنَنِ الزَّوَائِدِ، بَل أَوْلَى فِي عَدَمِ الإِْسَاءَةِ وَعَدَمِ اسْتِحْقَاقِ الْعِتَابِ؛ لأَِنَّهُ دُونَهَا فِي الدَّوَامِ وَالْمُوَاظَبَةِ، وَإِنْ كَانَ فِعْلُهُ أَفْضَل (1)
وَلِمَعْرِفَةِ مَا تَبَقَّى مِنْ مَبَاحِثِ الاِسْتِحْبَابِ، كَكَوْنِ الْمُسْتَحَبِّ مَأْمُورًا بِهِ، وَهَل يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ؟ يُرْجَعُ إِلَى الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.

اسْتِحْدَادٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِحْدَادُ لُغَةً: مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَدِيدَةِ، يُقَال: اسْتَحَدَّ إِذَا حَلَقَ عَانَتَهُ. اسْتُعْمِل عَلَى طَرِيقِ الْكِنَايَةِ وَالتَّوْرِيَةِ (2) . وَالتَّعْرِيفُ الاِصْطِلاَحِيُّ لاَ يَفْتَرِقُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، حَيْثُ عَرَّفَهُ الْفُقَهَاءُ بِقَوْلِهِمْ: الاِسْتِحْدَادُ حَلْقُ الْعَانَةِ، وَسُمِّيَ اسْتِحْدَادًا، لاِسْتِعْمَال الْحَدِيدَةِ وَهِيَ: الْمُوسَى (3) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْحْدَادُ:
2 - الإِْحْدَادُ: مَصْدَرُ أَحَدَّ. وَإِحْدَادُ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا تَرْكُهَا لِلزِّينَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الاِسْتِحْدَادُ
__________
(1) كشاف اصطلاحات الفنون (سنن) 3 / 705
(2) لسان العرب مادة (حدد) 3 / 141 ط دار صادر.
(3) تحفة الأحوذي 8 / 33 ط السلفية بالمدينة.

(3/216)


مُخَالِفًا لِلإِْحْدَادِ، وَلاَ يَشْتَرِكُ مَعَهُ فِي وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.

ب - التَّنَوُّرُ:
3 - التَّنَوُّرُ هُوَ: الطِّلاَءُ بِالنُّورَةِ. يُقَال: تَنَوَّرَ. تَطَلَّى بِالنُّورَةِ لِيُزِيل الشَّعْرَ. وَالنُّورَةُ مِنَ الْحَجَرِ الَّذِي يُحْرَقُ، وَيُسَوَّى مِنَ الْكِلْسِ، وَيُزَال بِهِ الشَّعْرُ (1) .
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الاِسْتِحْدَادُ أَعَمَّ فِي الاِسْتِعْمَال مِنَ التَّنَوُّرِ، لأَِنَّهُ كَمَا يَكُونُ بِالْحَدِيدَةِ يَكُونُ بِغَيْرِهَا كَالنُّورَةِ وَغَيْرِهَا.

حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الاِسْتِحْدَادَ سُنَّةٌ لِلرِّجَال وَالنِّسَاءِ عَلَى السَّوَاءِ. وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ دُونَ غَيْرِهِمْ بِالْوُجُوبِ لِلْمَرْأَةِ إِذَا طَلَبَ مِنْهَا زَوْجُهَا ذَلِكَ (2) .

دَلِيل مَشْرُوعِيَّتِهِ:
5 - يُسْتَدَل عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الاِسْتِحْدَادِ بِالسُّنَّةِ؛ لِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: الْفِطْرَةُ خَمْسٌ، أَوْ خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: الْخِتَانُ، وَالاِسْتِحْدَادُ، وَنَتْفُ الإِْبِطِ، وَتَقْلِيمُ الأَْظَافِرِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ. (3) وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
__________
(1) لسان العرب مادة (نور) 5 / 244 ط دار صادر، والصحاح مادة (نور) 2 / 839 ط دار الكتاب العربي.
(2) المجموع للنووي 1 / 289 ط المنيرية، وكفاية الطالب 2 / 354 ط مصطفى الحلبي.
(3) رواه البخاري والترمذي.

(3/216)


عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: قَصُّ الشَّارِبِ، وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ، وَالسِّوَاكُ، وَالاِسْتِنْشَاقُ، وَقَصُّ الأَْظَافِرِ، وَغَسْل الْبَرَاجِمِ، وَنَتْفُ الإِْبِطِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ - قَال زَكَرِيَّا - (الرَّاوِي) : وَنَسِيتُ الْعَاشِرَةَ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةَ (1) .

مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الاِسْتِحْدَادُ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الاِسْتِحْدَادُ عَلَى أَقْوَالٍ.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: السُّنَّةُ الْحَلْقُ لِلرَّجُل، وَالنَّتْفُ لِلْمَرْأَةِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْحَلْقُ لِلرَّجُل وَالْمَرْأَةِ، وَيُكْرَهُ النَّتْفُ لِلْمَرْأَةِ؛ لأَِنَّهُ يُعَدُّ مِنَ التَّنَمُّصِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَهَذَا رَأْيُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
وَقَال جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ: النَّتْفُ لِلْمَرْأَةِ الشَّابَّةِ، وَالْحَلْقُ لِلْعَجُوزِ. وَنُسِبَ هَذَا الرَّأْيُ إِلَى ابْنِ الْعَرَبِيِّ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ بَأْسَ بِالإِْزَالَةِ بِأَيِّ شَيْءٍ، وَالْحَلْقُ أَفْضَل (4) .

وَقْتُ الاِسْتِحْدَادِ:
7 - يُكْرَهُ تَرْكُهُ بَعْدَ الأَْرْبَعِينَ، كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: وُقِّتَ لَنَا فِي قَصِّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمِ الأَْظَافِرِ وَنَتْفِ الإِْبِطِ وَحَلْقِ الْعَانَةِ أَلاَّ يُتْرَكَ أَكْثَرَ مِنْ
__________
(1) أخرجه مسلم وأحمد والنسائي والترمذي وحسنه (صحيح مسلم 1 / 223 ط الحلبي، سنن النسائي 8 / 109 ط الحلبي) .
(2) كفاية الطالب 2 / 353، وفتح الباري 10 / 273 ط عبد الرحمن محمد.
(3) فتح الباري 10 / 273
(4) المغني 1 / 86 ط السعودية، وكشاف القناع 1 / 65

(3/217)


أَرْبَعِينَ يَوْمًا. (1)
وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَْحْوَال وَالأَْشْخَاصِ وَالأَْزْمَانِ وَالأَْمَاكِنِ، بِشَرْطِ أَلاَّ يَتَجَاوَزَ الأَْرْبَعِينَ يَوْمًا، وَهُوَ التَّوْقِيتُ الَّذِي جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ (2) .

الاِسْتِعَانَةُ بِالآْخَرِينَ فِي الاِسْتِحْدَادِ:
8 - الأَْصْل عِنْدَ الْفُقَهَاءِ جَمِيعًا أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الإِْنْسَانِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى أَنْ يُظْهِرَ عَوْرَتَهُ لأَِجْنَبِيٍّ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ. وَيُرْجَعُ إِلَى تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (اسْتِتَار، وَعَوْرَة) . وَاعْتَبَرَ الْفُقَهَاءُ حَلْقَ الْعَانَةِ لِمَنْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْلِقَهَا بِالْحَدِيدَةِ أَوْ يُزِيلَهَا بِالنُّورَةِ ضَرُورَةً (3) .

آدَابُ الاِسْتِحْدَادِ:
9 - تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ عَلَى آدَابِ الاِسْتِحْدَادِ فِي ثَنَايَا الْكَلاَمِ عَلَى الاِسْتِحْدَادِ، وَخِصَال الْفِطْرَةِ، وَالْعَوْرَةِ. فَقَالُوا: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ فِي حَلْقِ الْعَانَةِ مِنْ تَحْتِ السُّرَّةِ، كَمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَحْلِقَ الْجَانِبَ الأَْيْمَنَ، ثُمَّ الأَْيْسَرَ، كَمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَتِرَ، وَأَلاَّ يُلْقِيَ الشَّعْرَ فِي الْحَمَّامِ أَوِ الْمَاءِ، وَأَنْ يُوَارِيَ مَا يُزِيلُهُ مِنْ شَعْرٍ وَظُفُرٍ (4) .
__________
(1) فتح الباري 10 / 284، والترمذي (تحفة الأحوذي 8 / 38) ومسلم 1 / 222 - ط عيسى الحلبي.
(2) تحفة الأحوذي 8 / 39، وفتح الباري 10 / 284، وكشاف القناع 1 / 65 ط السنة المحمدية، والنووي 1 / 289، وابن عابدين 5 / 261، والهندية 5 / 357، والمغني 1 / 87، وكفاية الطالب 2 / 353
(3) البحر الرائق 8 / 219
(4) الفتاوى الهندية 5 / 358، والمغني 1 / 86، والمراجع السابقة

(3/217)


مُوَارَاةُ الشَّعْرِ الْمُزَال أَوْ إِتْلاَفُهُ:
10 - صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِاسْتِحْبَابِ مُوَارَاةِ شَعْرِ الْعَانَةِ بِدَفْنِهِ؛ لِمَا رَوَى الْخَلاَّل بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُمْل بِنْتِ مُشَرِّحٍ الأَْشْعَرِيَّةِ قَالَتْ: رَأَيْتُ أَبِي يُقَلِّمُ أَظَافِرَهُ، وَيَدْفِنُهَا وَيَقُول: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَل ذَلِكَ. وَسُئِل أَحْمَدُ، يَأْخُذُ الرَّجُل مِنْ شَعْرِهِ وَأَظَافِرِهِ أَيُلْقِيهِ أَمْ يَدْفِنُهُ؟ قَال: يَدْفِنُهُ، قِيل: بَلَغَكَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ؟ قَال: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَدْفِنُهُ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِدَفْنِ الشَّعْرِ وَالأَْظَافِرِ، قَال الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَدِ اسْتَحَبَّ أَصْحَابُنَا دَفْنَهَا؛ لِكَوْنِهَا أَجْزَاءً مِنَ الآْدَمِيِّ (1) ، وَنُقِل ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ.

اسْتِحْسَانٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِحْسَانُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ عَدُّ الشَّيْءِ حَسَنًا (2) ، وَضِدُّهُ الاِسْتِقْبَاحُ. وَفِي عِلْمِ أُصُول الْفِقْهِ عَرَّفَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهُ: اسْمٌ لِدَلِيلٍ يُقَابِل الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ يَكُونُ بِالنَّصِّ أَوِ الإِْجْمَاعِ أَوِ الضَّرُورَةِ أَوِ الْقِيَاسِ الْخَفِيِّ.
كَمَا يُطْلَقُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - فِي كِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ
__________
(1) تحفة الأحوذي 8 / 39، 40، وكشاف القناع 1 / 65، والمغني 1 / 88. والمجموع للنووي 1 / 289، 290
(2) تاج العروس (حسن) .

(3/218)


وَالاِسْتِحْسَانِ - عَلَى اسْتِخْرَاجِ الْمَسَائِل الْحِسَانِ، فَهُوَ اسْتِفْعَالٌ بِمَعْنَى إِفْعَالٍ، كَاسْتِخْرَاجٍ بِمَعْنَى إِخْرَاجٍ. قَال النَّجْمُ النَّسَفِيُّ: فَكَأَنَّ الاِسْتِحْسَانَ هَاهُنَا إِحْسَانُ الْمَسَائِل، وَإِتْقَانُ الدَّلاَئِل (1) .

حُجِّيَّةُ الاِسْتِحْسَانِ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ:
2 - اخْتَلَفَ الأُْصُولِيُّونَ فِي قَبُول الاِسْتِحْسَانِ، فَقَبِلَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَرَدَّهُ الشَّافِعِيَّةُ وَجُمْهُورُ الأُْصُولِيِّينَ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ نَسَبَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْقَوْل بِهِ إِلَى مَالِكٍ، وَقَال بَعْضُهُمْ: الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ الْقَوْل بِالاِسْتِحْسَانِ لاَ عَلَى مَا سَبَقَ، بَل حَاصِلُهُ: اسْتِعْمَال مَصْلَحَةٍ جُزْئِيَّةٍ فِي مُقَابَلَةِ قِيَاسٍ كُلِّيٍّ، فَهُوَ يُقَدِّمُ الاِسْتِدْلاَل الْمُرْسَل عَلَى الْقِيَاسِ.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ حُكِيَ عَنْهُمُ الْقَوْل بِهِ أَيْضًا.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْخِلاَفَ لَفْظِيٌّ؛ لأَِنَّ الاِسْتِحْسَانَ إِنْ كَانَ هُوَ الْقَوْل بِمَا يَسْتَحْسِنُهُ الإِْنْسَانُ وَيَشْتَهِيهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَلاَ يَقُول بِهِ أَحَدٌ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْعُدُول عَنْ دَلِيلٍ إِلَى دَلِيلٍ أَقْوَى مِنْهُ، فَهَذَا مِمَّا لاَ يُنْكِرُهُ أَحَدٌ (2) .

أَقْسَامُ الاِسْتِحْسَانِ:
يَنْقَسِمُ الاِسْتِحْسَانُ بِحَسَبِ تَنَوُّعِ الدَّلِيل الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ:
__________
(1) إفاضة الأنوار بحاشية نسمات الأسحار ص 155 ط الأولى، وطلبة الطلبة ص 89 ط الأولى. ورد المحتار 5 / 213 ط الأولى.
(2) إرشاد الفحول ص 240 ط مصطفى الحلبي، والبحر المحيط للزركشي مخطوطة باريس، الورقة: (334 / ب) ، والمستصفى 1 / 274 ط بولاق، وشرح العضد لمختصر ابن الحاج 2 / 288 ط الأولى

(3/218)


أَوَّلاً - اسْتِحْسَانُ الأَْثَرِ أَوِ السُّنَّةِ:
3 - وَهُوَ أَنْ يَرِدَ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ حُكْمٌ لِمَسْأَلَةٍ مَا مُخَالِفٌ لِلْقَاعِدَةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الشَّرْعِ فِي أَمْثَالِهَا؛ لِحِكْمَةٍ يُرَاعِيهَا الشَّارِعُ، كَبَيْعِ السَّلَمِ، جَوَّزَتْهُ السُّنَّةُ نَظَرًا لِلْحَاجَةِ، عَلَى خِلاَفِ الأَْصْل فِي بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الإِْنْسَانِ وَهُوَ الْمَنْعُ.

ثَانِيًا - اسْتِحْسَانُ الإِْجْمَاعِ:
4 - وَهُوَ أَنْ يَنْعَقِدَ الإِْجْمَاعُ فِي أَمْرٍ عَلَى خِلاَفِ مُقْتَضَى الْقَاعِدَةِ، كَمَا فِي صِحَّةِ عَقْدِ الاِسْتِصْنَاعِ، فَهُوَ فِي الأَْصْل أَيْضًا بَيْعُ مَعْدُومٍ لاَ يَجُوزُ، وَإِنَّمَا جُوِّزَ بِالإِْجْمَاعِ اسْتِحْسَانًا لِلْحَاجَةِ الْعَامَّةِ إِلَيْهِ.

ثَالِثًا - اسْتِحْسَانُ الضَّرُورَةِ:
5 - وَهُوَ أَنْ يُخَالِفَ الْمُجْتَهِدُ حُكْمَ الْقَاعِدَةِ نَظَرًا إِلَى ضَرُورَةٍ مُوجِبَةٍ مِنْ جَلْبِ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ، وَذَلِكَ عِنْدَمَا يَكُونُ اطِّرَادُ الْحُكْمِ الْقِيَاسِيِّ مُؤَدِّيًا إِلَى حَرَجٍ فِي بَعْضِ الْمَسَائِل، كَتَطْهِيرِ الآْبَارِ وَالْحِيَاضِ؛ لأَِنَّ الْقِيَاسَ إِلاَّ تَطْهُرَ إِلاَّ بِجَرَيَانِ الْمَاءِ عَلَيْهَا، وَفِيهِ حَرَجٌ شَدِيدٌ.

رَابِعًا - الاِسْتِحْسَانُ الْقِيَاسِيُّ:
6 - وَهُوَ أَنْ يَعْدِل عَنْ حُكْمِ الْقِيَاسِ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادَرِ إِلَى حُكْمٍ مُخَالِفٍ بِقِيَاسٍ آخَرَ هُوَ أَدَقُّ وَأَخْفَى مِنَ الْقِيَاسِ الأَْوَّل، لَكِنَّهُ أَقْوَى حُجَّةً وَأَسَدُّ نَظَرًا. فَهُوَ عَلَى الْحَقِيقَةِ قِيَاسٌ سُمِّيَ اسْتِحْسَانًا أَيْ قِيَاسًا مُسْتَحْسَنًا لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا. وَذَلِكَ كَالْحُكْمِ عَلَى سُؤْرِ سِبَاعِ الطَّيْرِ، فَالْقِيَاسُ نَجَاسَةُ سُؤْرِهَا قِيَاسًا عَلَى نَجَاسَةِ سُؤْرِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ كَالأَْسَدِ وَالنَّمِرِ؛ لأَِنَّ السُّؤْرَ مُعْتَبَرٌ بِاللَّحْمِ، وَلَحْمُهَا نَجِسٌ.

(3/219)


وَالاِسْتِحْسَانُ طَهَارَةُ سُؤْرِهَا قِيَاسًا عَلَى طَهَارَةِ سُؤْرِ الآْدَمِيِّ، فَإِنَّ مَا يَتَّصِل بِالْمَاءِ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا طَاهِرٌ. وَإِنَّمَا رَجَحَ الْقِيَاسُ الثَّانِي لِضَعْفِ الْمُؤَثِّرِ فِي الْحُكْمِ فِي الْقِيَاسِ الأَْوَّل، وَهُوَ مُخَالَطَةُ اللُّعَابِ النَّجِسِ لِلْمَاءِ فِي سُؤْرِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ، فَإِنَّهُ مُنْتَفٍ فِي سِبَاعِ الطَّيْرِ إِذْ تَشْرَبُ بِمِنْقَارِهَا، وَهُوَ عَظْمٌ طَاهِرٌ جَافٌّ لاَ لُعَابَ فِيهِ، فَانْتَفَتْ عِلَّةُ النَّجَاسَةِ فَكَانَ سُؤْرُهَا طَاهِرًا كَسُؤْرِ الآْدَمِيِّ، لَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ؛ لأَِنَّهَا لاَ تَحْتَرِزُ عَنِ الْمَيْتَةِ فَكَانَتْ كَالدَّجَاجَةِ الْمِخْلاَةِ (1) .
وَلِبَيَانِ أَقْسَامِ الاِسْتِحْسَانِ الأُْخْرَى مِنْ حَيْثُ قُوَّتُهُ وَتَرْجِيحُهُ عَلَى الْقِيَاسِ وَبَقِيَّةُ مَبَاحِثِهِ يُنْظَرُ الْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ.

اسْتِحْقَاقٌ

1 - الاِسْتِحْقَاقُ لُغَةً: إِمَّا ثُبُوتُ الْحَقِّ وَوُجُوبُهُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} (2) أَيْ: وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا عُقُوبَةٌ، وَإِمَّا بِمَعْنَى طَلَبِ الْحَقِّ (3) .
وَاصْطِلاَحًا عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: ظُهُورُ كَوْنِ الشَّيْءِ حَقًّا وَاجِبًا لِلْغَيْرِ (4) .
__________
(1) إفاضة الأنوار بحاشية نسمات الأسحار ص 155 ط الأولى، والمبسوط للسرخسي 10 / 145 ط الأولى، والتقرير والتحبير لابن أمير الحاج 3 / 222 ط بولاق.
(2) سورة المائدة 107
(3) المطلع على أبواب المقنع ص 275، ولسان العرب والمصباح مادة (حق) بتصرف
(4) ابن عابدين 4 / 191

(3/219)


وَعَرَّفَهُ ابْنُ عَرَفَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّهُ: رَفْعُ مِلْكِ شَيْءٍ بِثُبُوتِ مِلْكٍ قَبْلَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ (1) .
وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ يَسْتَعْمِلُونَهُ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. وَلَمْ نَقِفْ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى تَعْرِيفٍ لِلاِسْتِحْقَاقِ، وَلَكِنْ بِاسْتِقْرَاءِ كَلاَمِهِمْ وُجِدَ أَنَّهُمْ يَسْتَعْمِلُونَهُ بِالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيِّ، وَلاَ يَخْرُجُونَ فِيهِ عَنِ الاِسْتِعْمَال اللُّغَوِيِّ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

التَّمَلُّكُ:
2 - التَّمَلُّكُ ثُبُوتُ مِلْكِيَّةٍ جَدِيدَةٍ، إِمَّا بِانْتِقَالِهَا مِنْ مَالِكٍ إِلَى مَالِكٍ جَدِيدٍ، أَوْ بِالاِسْتِيلاَءِ عَلَى مُبَاحٍ، وَالاِسْتِحْقَاقُ إِخْرَاجُ الْمُسْتَحَقِّ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ إِلَى الْمَالِكِ، فَالاِسْتِحْقَاقُ يَخْتَلِفُ عَنِ التَّمَلُّكِ؛ لأَِنَّ التَّمَلُّكَ يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنِ الْمَالِكِ وَرِضَاهُ، أَوْ حُكْمِ حَاكِمٍ فِي خُرُوجِ الْمِلْكِيَّةِ، بِخِلاَفِ الاِسْتِحْقَاقِ فَإِنَّ الْمُسْتَحَقَّ يَعُودُ لِمَالِكِهِ وَلَوْ دُونَ رِضَا الْمُسْتَحَقِّ مِنْهُ.

حُكْمُ الاِسْتِحْقَاقِ:
3 - الأَْصْل فِي الاِسْتِحْقَاقِ (بِمَعْنَى الطَّلَبِ) الْجَوَازُ، وَقَدْ يَصِيرُ وَاجِبًا إِذَا تَيَسَّرَتْ أَسْبَابُهُ وَتَرَتَّبَ عَلَى عَدَمِ الْقِيَامِ بِهِ الْوُقُوعُ فِي الْحَرَامِ، نَصَّ عَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ، وَقَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى لاَ تَأْبَى ذَلِكَ (3) .
__________
(1) حاشية البناني 6 / 158، والشرح الصغير 2 / 266، والخرشي على خليل مع حاشية العدوي 6 / 150، 151 نشر دار صادر، والحطاب 5 / 294، 295 نشر ليبيا، وجواهر الإكليل 2 / 154 نشر دار صادر.
(2) قليوبي وعميرة 3 / 195، والمغني 4 / 597
(3) الحطاب 5 / 295، وحاشية البناني هامش الزرقاني على خليل 6 / 157، والشرح الصغير 3 / 613، والشرواني على التحفة 10 / 336، والمغني 9 / 82، والفتاوى الهندية 4 / 143

(3/220)


إِثْبَاتُ الاِسْتِحْقَاقِ:
4 - يَثْبُتُ الاِسْتِحْقَاقُ بِالْبَيِّنَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، وَالْبَيِّنَةُ تَخْتَلِفُ مِنْ حَقٍّ لآِخَرَ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ فِي الْحَقِّ الْوَاحِدِ. كَذَلِكَ يَثْبُتُ بِإِقْرَارِ الْمُشْتَرِي لِلْمُسْتَحِقِّ، أَوْ بِنُكُولِهِ عَنْ يَمِينِ نَفْيِ الْعِلْمِ بِالاِسْتِحْقَاقِ (1) .
هَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي الْبَيِّنَاتِ.

مَا يَظْهَرُ بِهِ الاِسْتِحْقَاقُ:
5 - ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ سَبَبَ الاِسْتِحْقَاقِ (بِمَعْنَى ثُبُوتِ الْحَقِّ) قِيَامُ الْبَيِّنَةِ عَلَى عَيْنِ الشَّيْءِ الْمُسْتَحَقِّ أَنَّهُ مِلْكٌ لِلْمُدَّعِي، لاَ يَعْلَمُونَ خُرُوجَهُ، وَلاَ خُرُوجَ شَيْءٍ مِنْهُ عَنْ مِلْكِهِ حَتَّى الآْنِ، وَبَقِيَّةُ الْفُقَهَاءِ لاَ يُخَالِفُونَ فِي ذَلِكَ، فَالْبَيِّنَةُ سَبَبُ إِظْهَارِ الْوَاجِبِ لِغَيْرِ حَائِزِهِ، وَلاَ بُدَّ مِنْ إِقَامَتِهَا حَتَّى يَظْهَرَ الاِسْتِحْقَاقُ؛ لأَِنَّ الثُّبُوتَ كَانَ بِسَبَبٍ سَابِقٍ عَلَى الشَّهَادَةِ (2) .
وَأَمَّا سَبَبُ ادِّعَاءِ الْعَيْنِ الْمُسْتَحَقَّةِ فَهُوَ سَبَبُ تَمَلُّكِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ مِنْ إِرْثٍ، أَوْ شِرَاءٍ، أَوْ وَصِيَّةٍ، أَوْ وَقْفٍ، أَوْ هِبَةٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِيَّةِ. وَهَل يُشْتَرَطُ فِي دَعْوَى الاِسْتِحْقَاقِ بَيَانُ سَبَبِهِ وَشُرُوطِهِ فِي كُل الدَّعَاوَى؟ أَمْ فِي بَعْضِهَا كَالْمَال وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؟ لِلْفُقَهَاءِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ. مَوْضِعُ اسْتِيفَائِهِ مُصْطَلَحُ (دَعْوى (3)) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 4 / 143، وشرح الروض 2 / 349، 350 ط الميمنية، وكشاف القناع 4 / 131 مطبعة أنصار السنة.
(2) حاشية البناني 6 / 157، ومعين الحكام ص 79، والبجيرمي على الخطيب 4 / 345
(3) عابدين 4 / 194، والفتاوى الهندية 4 / 141، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 355 ط التجارية، ونهاية المحتاج 8 / 322، 323

(3/220)


مَوَانِعُ الاِسْتِحْقَاقِ:
6 - مَوَانِعُ الاِسْتِحْقَاقِ، كَمَا صَرَّحَ بِهَا الْمَالِكِيَّةُ نَوْعَانِ: فِعْلٌ، وَسُكُوتٌ.
فَالْفِعْل: مِثْل أَنْ يَشْتَرِيَ مَا ادَّعَاهُ مِنْ عِنْدِ حَائِزِهِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ - يَشْهَدُهَا سِرًّا - قَبْل الشِّرَاءِ بِأَنِّي إِنَّمَا اشْتَرَيْتُهُ خَوْفَ أَنْ يَغِيبَ عَلَيَّ، فَإِذَا أَثْبَتَهُ رَجَعْتُ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ. وَلَوِ اشْتَرَاهُ وَهُوَ يَرَى أَنْ لاَ بَيِّنَةَ لَهُ، ثُمَّ وَجَدَ بَيِّنَةً، فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ.
وَأَمَّا السُّكُوتُ: فَمِثْل أَنْ يَتْرُكَ الْمُطَالَبَةَ مِنْ غَيْرِ مَانِعٍ أَمَدِ الْحِيَازَةِ (1) .
وَبَقِيَّةُ الْفُقَهَاءِ لَمْ يُصَرِّحُوا بِذِكْرِ مَوَانِعِ الاِسْتِحْقَاقِ إِلاَّ أَنَّ قَوَاعِدَهُمْ لاَ تَأْبَى الْمَانِعَ الأَْوَّل (2) . وَهُوَ الْفِعْل، أَمَّا السُّكُوتُ مُدَّةَ أَمَدِ الْحِيَازَةِ وَكَوْنُهُ يُبْطِل الاِسْتِحْقَاقَ، فَلَمْ نَقِفْ عَلَى مَنْ صَرَّحَ بِهِ غَيْرُهُمْ سِوَى الْحَنَفِيَّةِ، عَلَى تَفْصِيلٍ عِنْدَهُمْ فِي مُدَّتِهِ، وَفِي الْحُقُوقِ الَّتِي تَسْقُطُ بِهِ وَاَلَّتِي لاَ تَسْقُطُ، وَيَتَعَرَّضُونَ لِذَلِكَ فِي بَابِ الدَّعْوَى (3) .

شُرُوطُ الْحُكْمِ بِالاِسْتِحْقَاقِ:
7 - عَدَّدَ الْمَالِكِيَّةُ لِلْحُكْمِ بِالاِسْتِحْقَاقِ ثَلاَثَةَ شُرُوطٍ، شَارَكَهُمْ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي اثْنَيْنِ مِنْهَا:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: الإِْعْذَارُ إِلَى الْحَائِزِ لِقَطْعِ حُجَّتِهِ، فَإِنِ ادَّعَى الْحَائِزُ مَا يَدْفَعُ بِهِ الدَّعْوَى أَجَّلَهُ الْقَاضِي بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ لِلإِْثْبَاتِ. وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِهَذَا الشَّرْطِ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ غَيْرُهُمْ فِي
__________
(1) الحطاب 5 / 296، والشرح الصغير 3 / 614 ط دار المعارف.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 122، وأدب القضاء لابن أبي الدم ص 173، ومطالب أولي النهى 6 / 672
(3) ابن عابدين 4 / 342، 343

(3/221)


الْبَيِّنَاتِ (1) .
الشَّرْطُ الثَّانِي: يَمِينُ الاِسْتِبْرَاءِ (وَتُسَمَّى أَيْضًا يَمِينَ الاِسْتِظْهَارِ) ، وَلِلْمَالِكِيَّةِ فِي لُزُومِهَا ثَلاَثَةُ آرَاءٍ أَشْهَرُهَا: أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْهَا فِي جَمِيعِ الأَْشْيَاءِ، قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ سَحْنُونٍ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ، وَالْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَكَيْفِيَّةُ الْحَلِفِ كَمَا فِي الْحَطَّابِ وَجَامِعِ الْفُصُولَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: أَنْ يَحْلِفَ الْمُسْتَحِقُّ بِاَللَّهِ أَنَّهُ مَا بَاعَهُ، وَلاَ وَهَبَهُ، وَلاَ فَوَّتَهُ، وَلاَ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ حَتَّى الآْنِ (2) .
وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ الَّذِي تَفَرَّدَ الْمَالِكِيَّةُ بِالْقَوْل بِهِ هُوَ: الشَّهَادَةُ عَلَى الْعَيْنِ الْمُسْتَحَقَّةِ إِنْ أَمْكَنَ، وَهُوَ فِي الْمَنْقُول، وَإِلاَّ فَعَلَى الْحِيَازَةِ، وَهُوَ فِي الْعَقَارِ، وَكَيْفِيَّتُهَا أَنْ يَبْعَثَ الْقَاضِي عَدْلَيْنِ، وَقِيل: أَوْ عَدْلاً مَعَ الشُّهُودِ الَّذِينَ شَهِدُوا بِالْمِلْكِيَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ دَارًا قَالُوا لَهُمَا مَثَلاً: هَذِهِ الدَّارُ هِيَ الَّتِي شَهِدْنَا فِيهَا عِنْدَ الْقَاضِي الشَّهَادَةَ الْمُقَيَّدَةَ أَعْلاَهُ (3) .

الاِسْتِحْقَاقُ فِي الْبَيْعِ
عِلْمُ الْمُشْتَرِي بِاسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ:
8 - يَحْرُمُ شِرَاءُ الشَّيْءِ الْمُسْتَحَقِّ عِنْدَ الْعِلْمِ بِالاِسْتِحْقَاقِ، فَإِنْ حَصَل الْبَيْعُ مَعَ عِلْمِ الْمُشْتَرِي بِالاِسْتِحْقَاقِ، فَلِلْمُشْتَرِي الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ عِنْدَ الاِسْتِحْقَاقِ إِذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ، فَإِنْ ثَبَتَ بِإِقْرَارِ الْمُشْتَرِي أَوْ نُكُولِهِ عَنِ الْيَمِينِ بِالاِسْتِحْقَاقِ، فَإِنَّهُ لاَ يَرْجِعُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ خِلاَفُ
__________
(1) البناني على الزرقاني 6 / 158، ومعين الحكام ص 74، وتبصرة الحكام المطبوع مع فتح العلي المالك 1 / 145
(2) جامع الفصولين 2 / 156، والحطاب 5 / 295
(3) الحطاب 5 / 295، وابن عابدين 4 / 423

(3/221)


الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يَرْجِعُ (1) . وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يَرِدُ فِيمَا يَأْتِي.

اسْتِحْقَاقُ الْمَبِيعِ كُلِّهِ.
9 - إِذَا اسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ كُلُّهُ فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْبَيْعَ يَبْطُل، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ إِنْ كَانَ الاِسْتِحْقَاقُ مُبْطِلاً لِلْمِلْكِ، وَهُوَ الاِسْتِحْقَاقُ الَّذِي يَرِدُ عَلَى مَحَلٍّ لاَ يَقْبَل التَّمَلُّكَ. وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ فُرُوعِ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ. فَإِنْ كَانَ الاِسْتِحْقَاقُ نَاقِلاً لِلْمِلْكِيَّةِ - وَهُوَ الَّذِي يَرِدُ عَلَى مَحَلٍّ قَابِلٍ لِلتَّمَلُّكِ - كَانَ الْعَقْدُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمُسْتَحِقِّ، فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ انْفَسَخَ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَهُمْ فِي وَقْتِ الاِنْفِسَاخِ بِالاِسْتِحْقَاقِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ، الصَّحِيحُ مِنْهَا: أَنَّهُ لاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ مَا لَمْ يَرْجِعِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ، وَقِيل: يَنْفَسِخُ بِنَفْسِ الْقَضَاءِ، وَقِيل: إِذَا قَبَضَهُ الْمُسْتَحِقُّ (2) .

الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ:
10 - عِنْدَ الْفَسْخِ يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي رُجُوعِ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ وَعَدَمِهِ إِذَا بَطَل الْبَيْعُ
__________
(1) الفروق 3 / 242 ط الميمنية، والفتاوى الهندية 4 / 134، وجامع الفصولين 1 / 152، وشرح الروض 2 / 10، 349، وشرح منتهى الإرادات 2 / 413، 418 نشر مكتبة أنصار السنة المحمدية، والزرقاني على خليل 5 / 4، والفتاوى البزازية 5 / 433، 436، 5 / 440، والحطاب 5 / 307، والشرواني على التحفة 6 / 52 نشر دار صادر، والجمل على المنهج 3 / 508، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 470، 471
(2) الخرشي 6 / 156، والحطاب والتاج والإكليل 4 / 461 ط ليبيا، والمهذب 1 / 288 ط عيسى الحلبي، ومغني ابن قدامة 4 / 598 ط الرياض، وابن عابدين 4 / 191، 193، وشرح منتهى الإرادات 2 / 417، وقواعد ابن رجب ص 383

(3/222)


بِالاِسْتِحْقَاقِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ رَأْيَانِ:
الأَْوَّل: أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَثَبَتَ الاِسْتِحْقَاقُ بِالْبَيِّنَةِ أَمْ بِالإِْقْرَارِ أَمْ بِالنُّكُول، وَهُوَ قَوْل الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَيْضًا قَوْل الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ إِنْ ثَبَتَ الاِسْتِحْقَاقُ بِالْبَيِّنَةِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْمُشْتَرِي بِصِحَّةِ مِلْكِ الْبَائِعِ وَلاَ عَدَمِهِ يَرْجِعُ. وَكَذَلِكَ إِنْ عَلِمَ عَدَمَ مِلْكِ الْبَائِعِ عَلَى الْمَشْهُورِ نَظَرًا لِسَبْقِ ظُلْمِ الْبَائِعِ، لِبَيْعِهِ مَا لَيْسَ فِي مِلْكِهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِالْحَمْل عَلَيْهِ (1) .
الثَّانِي: أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لاَ يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ إِنْ أَقَرَّ الْمُشْتَرِي بِاسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ، أَوْ نَكَل عَنِ الْيَمِينِ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَقَدْ عَلَّل الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ بِتَقْصِيرِ الْمُشْتَرِي بِاعْتِرَافِهِ بِالاِسْتِحْقَاقِ مَعَ الشِّرَاءِ، أَوْ بِنُكُولِهِ.
وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، إِنْ أَقَرَّ الْمُشْتَرِي أَنَّ جَمِيعَ الْمَبِيعِ لِلْبَائِعِ، وَقَال أَشْهَبُ وَغَيْرُهُ: لاَ يَمْنَعُ إِقْرَارُهُ مِنَ الرُّجُوعِ (2) .

اسْتِحْقَاقُ بَعْضِ الْمَبِيعِ:
11 - يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ كَذَلِكَ إِنْ حَصَل الاِسْتِحْقَاقُ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْكُل حَسَبَ الأَْقْوَال التَّالِيَةِ:
أ - بُطْلاَنُ الْبَيْعِ فِي الْجَمِيعِ سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَبِيعُ قِيَمِيًّا أَمْ مِثْلِيًّا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَقَوْلٌ
__________
(1) المغني 4 / 598 وابن عابدين 4 / 194، وجامع الفصولين 2 / 151، ونهاية المحتاج 5 / 445 ط مصطفى الحلبي، وشرح الروض 2 / 349، 350، 4 / 413، ط الميمنية، والشرواني على التحفة 1 / 336، والمهذب 1 / 288، والزرقاني على خليل 5 / 4، والحطاب 5 / 307
(2) جامع الفصولين 2 / 151، وشرح الروض 2 / 349، 350، والزرقاني على خليل 5 / 4، والحطاب 5 / 307، والفتاوى البزازية 5 / 440

(3/222)


لِلشَّافِعِيَّةِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الأُْمِّ؛ لأَِنَّ الصَّفْقَةَ جَمَعَتْ شَيْئَيْنِ: حَرَامًا وَهُوَ الْمُسْتَحَقُّ، وَحَلاَلاً وَهُوَ الْبَاقِي، فَبَطَل بَيْعُ الْجَمِيعِ
وَهُوَ أَيْضًا قَوْل الْمَالِكِيَّةِ إِنِ اسْتَحَقَّ الأَْكْثَرَ (1) .
ب - تَخْيِيرُ الْمُشْتَرِي بَيْنَ رَدِّ الْمَبِيعِ بِالْفَسْخِ، وَبَيْنَ التَّمَسُّكِ بِالْبَاقِي وَالرُّجُوعِ بِحِصَّةِ الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ وَالثَّمَنِ. وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ لِلْحَنَابِلَةِ.
وَالتَّخْيِيرُ أَيْضًا هُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ لَوِ اسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ قَبْل قَبْضِهِ، سَوَاءٌ أَوْرَثَ الاِسْتِحْقَاقُ فِي الْبَاقِي عَيْبًا أَمْ لاَ؛ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ قَبْل التَّمَامِ، وَكَذَا لَوِ اسْتُحِقَّ الْبَعْضُ بَعْدَ الْقَبْضِ وَأَوْرَثَ فِي الْبَاقِي عَيْبًا (2) .
ج - بُطْلاَنُ الْبَيْعِ فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ وَصِحَّتُهُ فِي الْبَاقِي، وَهُوَ الْقَوْل الآْخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَيْضًا قَوْل الْحَنَفِيَّةِ إِنِ اسْتُحِقَّ الْبَعْضُ بَعْدَ قَبْضِ الْكُل، وَلَمْ يُحْدِثِ الاِسْتِحْقَاقُ عَيْبًا فِي الْبَاقِي، كَثَوْبَيْنِ اسْتُحِقَّ أَحَدُهُمَا، أَوْ كَيْلِيٍّ أَوْ وَزْنِيٍّ اسْتُحِقَّ بَعْضُهُ، وَكَذَا كُل مَا لاَ يَضُرُّ تَبْعِيضُهُ (3) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ الاِسْتِحْقَاقِ فِي الشَّائِعِ وَغَيْرِهِ، وَكَوْنِ الْمُسْتَحَقِّ الثُّلُثَ أَوْ أَقَل مِنَ الثُّلُثِ.
قَال الْبُنَانِيُّ: حَاصِل اسْتِحْقَاقِ الْبَعْضِ أَنْ تَقُول: لاَ يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ شَائِعًا أَوْ مُعَيَّنًا
فَإِنْ كَانَ شَائِعًا مِمَّا لاَ يَنْقَسِمُ، وَلَيْسَ مِنْ رُبَاعِ الْغَلَّةِ - أَيِ الْعَقَارَاتِ الْمُسْتَغَلَّةِ - خُيِّرَ الْمُشْتَرِي فِي التَّمَسُّكِ وَالرُّجُوعِ بِحِصَّةِ الْمُسْتَحَقِّ مِنَ الثَّمَنِ،
__________
(1) الأم 3 / 222، والمجموع 10 / 367، 12 / 219، والجمل 3 / 94، والدسوقي 3 / 135 ط دار الفكر، والمغني 4 / 598، والإنصاف 6 / 290 ط أولى.
(2) ابن عابدين 4 / 201، والفتاوى البزازية 5 / 439
(3) ابن عابدين 4 / 201، وفتح القدير 5 / 543 ط بولاق، وفتح العزيز 10 / 367، والمجموع 12 / 219، والجمل 3 / 94

(3/223)


وَفِي رَدِّهِ لِضَرَرِ الشَّرِكَةِ، سَوَاءٌ اسْتَحَقَّ الأَْقَل أَوِ الأَْكْثَرَ.
وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَنْقَسِمُ، أَوْ كَانَ مُتَّخِذًا لِغَلَّةٍ خُيِّرَ فِي اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثِ، وَوَجَبَ التَّمَسُّكُ فِيمَا دُونَ الثُّلُثِ.
وَإِنِ اسْتُحِقَّ جُزْءٌ مُعَيَّنٌ، فَإِنْ كَانَ مُقَوَّمًا كَالْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ رَجَعَ بِحِصَّةِ الْبَعْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْقِيمَةِ لاَ بِالتَّسْمِيَةِ. وَإِنِ اسْتُحِقَّ وَجْهُ الصَّفْقَةِ تَعَيَّنَ رَدُّ الْبَاقِي، وَلاَ يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِالأَْقَل.
وَإِنْ كَانَ الْجُزْءُ الْمُعَيَّنُ مِثْلِيًّا، فَإِنِ اسْتَحَقَّ الأَْقَل رَجَعَ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، وَإِنِ اسْتَحَقَّ الأَْكْثَرَ خُيِّرَ فِي التَّمَسُّكِ وَالرُّجُوعِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، وَفِي الرَّدِّ (1) .
12 - وَكَيْفِيَّةِ الرُّجُوعِ هِيَ: أَنْ يَنْظُرَ لِقِيمَةِ الْمَبِيعِ كُلِّهِ يَوْمَ اسْتِحْقَاقِهِ، فَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِمَا يَخُصُّهُ مِنَ الثَّمَنِ بِمِيزَانِ الْقِيمَةِ. مَثَلاً إِذَا قِيل: قِيمَةُ الْمَبِيعِ كُلِّهِ (1000) وَقِيمَةُ الْمُسْتَحَقِّ (200) وَقِيمَةُ الْبَاقِي (800) فَيَكُونُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ بِخُمُسِ الثَّمَنِ (2) .

اسْتِحْقَاقُ الثَّمَنِ:
13 - أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ - خِلاَفًا لِرِوَايَةٍ ضَعِيفَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - عَلَى بُطْلاَنِ الْبَيْعِ إِنِ اسْتُحِقَّ الثَّمَنُ الْمُعَيَّنُ. قَال الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ: يَرْجِعُ الْبَائِعُ بِعَيْنِ الْمَبِيعِ إِنْ كَانَ قَائِمًا، وَبِقِيمَتِهِ إِنْ كَانَ تَالِفًا،
__________
(1) البناني على الزرقاني 6 / 166
(2) الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 469، والخرشي 6 / 159، والزرقاني 5 / 162، 6 / 166

(3/223)


وَلاَ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْمُسْتَحَقِّ. غَيْرَ أَنَّ بَعْضَ الشَّافِعِيَّةِ قَيَّدَ التَّعْيِينَ بِكَوْنِهِ فِي الْعَقْدِ لاَ بَعْدَهُ.
فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَلاَ يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِاسْتِحْقَاقِهِ، وَيَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ إِنْ كَانَ مُقَوَّمًا، وَبِمِثْلِهِ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، مَعَ مُلاَحَظَةِ خِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَمَا لاَ يَتَعَيَّنُ بِهِ. (1)

زِيَادَةُ الْمَبِيعِ الْمُسْتَحَقِّ:
14 - زِيَادَةُ الْمَبِيعِ الْمُسْتَحَقِّ مَحَل خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةً مُتَوَلِّدَةً - كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرِ - وَثَبَتَ الاِسْتِحْقَاقُ بِالْبَيِّنَةِ فَهِيَ لِلْمُسْتَحِقِّ. وَاخْتُلِفَ هَل يَجِبُ الْقَضَاءُ بِالزِّيَادَةِ مَقْصُودًا أَوْ يُكْتَفَى بِالْقَضَاءِ بِالأَْصْل؟ عَلَى رَأْيَيْنِ.
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةً غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ - كَالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ - وَاسْتُحِقَّ الأَْصْل، فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ الْمُسْتَحِقُّ بَيْنَ أَخْذِ الزِّيَادَةِ بِقِيمَتِهَا مَقْلُوعَةً، وَبَيْنَ أَمْرِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ بِقَلْعِهَا مَعَ تَضْمِينِهِ نُقْصَانَ الأَْرْضِ. وَلِهَذَا الأَْخِيرِ الرُّجُوعُ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ.
وَإِذَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةً مُتَوَلِّدَةً كَالسِّمَنِ فَاسْتُحِقَّ الأَْصْل فَهِيَ لِلْمُسْتَحِقِّ، وَجَاءَ فِي الْحَامِدِيَّةِ أَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ يَرْجِعُ عَلَى بَائِعِهِ بِمَا زَادَ، بِأَنْ تُقَوَّمَ قَبْل الزِّيَادَةِ وَبَعْدَهَا وَيَرْجِعُ بِالْفَرْقِ (وَلاَ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِمَا أَنْفَقَ (2)) .
__________
(1) الخرشي 6 / 159، 160، وشرح الروض 2 / 242 ط الميمنية، والإنصاف 6 / 290، وابن عابدين 4 / 473، والقليوبي 2 / 336، وتبيين الحقائق 5 / 34 نشر دار المعرفة، وقواعد ابن رجب ص 383
(2) الهندية 4 / 144، وابن عابدين 4 / 195، 202

(3/224)


وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ غَلَّةَ الْمُسْتَحَقِّ مِنْ أُجْرَةٍ أَوِ اسْتِعْمَالٍ، أَوْ لَبَنٍ، أَوْ صُوفٍ، أَوْ ثَمَرَةٍ هِيَ لِلْمُسْتَحَقِّ مِنْهُ مِنْ يَوْمِ وَضَعَ يَدَهُ إِلَى يَوْمِ الْحُكْمِ. وَهَذَا فِي غَيْرِ الْغَصْبِ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ مَغْصُوبًا وَالْمُشْتَرِي مِنَ الْغَاصِبِ يَجْهَل ذَلِكَ، فَالزِّيَادَةُ لِلْمُسْتَحِقِّ (1) .
وَالْحَنَابِلَةُ كَالْحَنَفِيَّةِ فِي أَنَّ الزِّيَادَةَ لِلْمُسْتَحِقِّ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُتَّصِلَةً أَمْ مُنْفَصِلَةً، فَإِنْ أَحْدَثَ فِيهَا شَيْئًا كَأَنْ أَتْلَفَهَا أَوْ أَكَل الثَّمَرَةَ أُخِذَتْ مِنْهُ الْقِيمَةُ، وَإِنْ تَلِفَتْ بِغَيْرِ فِعْل الْمُسْتَحَقِّ مِنْهُ فَإِنَّهُ لاَ يَغْرَمُ شَيْئًا، فَإِنْ رُدَّتِ الزِّيَادَةُ عَلَى الْمُسْتَحِقِّ، فَالْمَأْخُوذُ مِنْهُ يَرُدُّ لَهُ النَّفَقَةَ أَوْ قِيمَةَ الْغِرَاسِ، إِنْ كَانَ قَدْ غَرَسَ أَوْ زَرَعَ، وَالْعِبْرَةُ فِي الْقِيمَةِ بِيَوْمِ الاِسْتِحْقَاقِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى أَنَّ الَّذِي يَدْفَعُ النَّفَقَةَ هُوَ الْمَالِكُ (الْمُسْتَحِقُّ) ، وَيَرْجِعُ بِهَا عَلَى مَنْ غَرَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ. (2)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ لِلْمَأْخُوذِ مِنْهُ، وَقَيَّدُوا ذَلِكَ بِمَا إِذَا أُخِذَتِ الْعَيْنُ الْمُسْتَحَقَّةُ بِبَيِّنَةٍ مُطْلَقَةٍ لَمْ تُصَرِّحْ بِتَارِيخِ الْمِلْكِ، وَلاَ يَرْجِعُ بِالنَّفَقَةِ عِنْدَهُمْ، لأَِنَّهُ بَيْعٌ فَاسِدٌ (3) .
وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ فِي ذَلِكَ فَقَالُوا: إِنَّ الْغَلَّةَ لِلْمُسْتَحِقِّ مُطْلَقًا إِلاَّ كَانَتْ غَيْرَ ثَمَرَةٍ، أَوْ ثَمَرَةً غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ، (وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: إِنْ يَبِسَتْ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ: إِنْ جُذَّتْ) .
وَاخْتَلَفُوا فِي رُجُوعِ الْمُسْتَحَقِّ مِنْهُ بِمَا سَقَى وَعَالَجَ
__________
(1) الشرح الصغير 3 / 618
(2) قواعد ابن رجب ص 148، 154، 168، 213
(3) الشرواني على التحفة 10 / 336، والقليوبي 2 / 181، وشرح الروض 2 / 340، 341

(3/224)


إِنْ كَانَ فِيهِ سَقْيٌ وَعِلاَجٌ، وَكَانَتِ الثَّمَرَةُ لَمْ تُؤَبَّرْ - كَاخْتِلاَفِهِمْ فِي الرُّجُوعِ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ عَلَى رَأْيَيْنِ (1) .

اسْتِحْقَاقُ الأَْرْضِ الْمُشْتَرَاةِ:
15 - إِذَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ غَرْسًا أَوْ بِنَاءً، كَمَا لَوِ اشْتَرَى أَرْضًا فَبَنَى فِيهَا أَوْ غَرَسَ، فَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَظَاهِرِ الشَّافِعِيَّةِ) عَلَى أَنَّ لِلْمُسْتَحِقِّ قَلْعَ الزَّرْعِ وَالْبِنَاءِ (2) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِمَا غَرِمَ مِنْ ثَمَنٍ أَقْبَضَهُ، وَأُجْرَةِ الْبَانِي، وَثَمَنِ مُؤَنٍ مُسْتَهْلَكَةٍ، وَأَرْشِ نَقْصٍ بِقَلْعٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْبَائِعَ غَرَّ الْمُشْتَرِيَ بِبَيْعِهِ إِيَّاهَا، وَأَوْهَمَهُ أَنَّهَا مِلْكُهُ، وَكَانَ سَبَبًا فِي غِرَاسِهِ وَبِنَائِهِ وَانْتِفَاعِهِ فَرَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا غَرِمَهُ، قَال الْحَنَابِلَةُ: وَالْقِيمَةُ تُعْتَبَرُ بِيَوْمِ الاِسْتِحْقَاقِ (3) .
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَيَرْجِعُ بِالثَّمَنِ، وَلاَ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الشَّجَرَةِ، وَلاَ بِمَا ضَمِنَ مِنْ نُقْصَانِ الأَْرْضِ، هَذَا إِنِ اسْتُحِقَّتْ قَبْل ظُهُورِ الثَّمَرِ، فَإِنْ كَانَ الاِسْتِحْقَاقُ بَعْدَ ظُهُورِ الثَّمَرِ - بَلَغَ الْجُذَاذَ أَوْ لَمْ يَبْلُغْ - كَانَ لِلْمُسْتَحِقِّ قَلْعُ الشَّجَرِ أَيْضًا، فَإِنْ كَانَ بَائِعُ الأَْرْضِ حَاضِرًا كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ بِقِيمَةِ الشَّجَرِ نَابِتًا فِي الأَْرْضِ، وَيُسَلِّمُ
__________
(1) الخرشي 5 / 129، 150، 6 / 147، وحاشية البناني هامش الزرقاني على خليل 5 / 152، والمقدمات على المدونة 2 / 261، 262 ط السعادة.
(2) فتح العزيز 10 / 368، والروضة 4 / 249، والفتاوى الهندية 4 / 144، وكشاف القناع 4 / 86، وقواعد ابن رجب: القاعدة السابعة والسبعون والثالثة والتسعون، وشرح منتهى الإرادات 2 / 417
(3) هذا التعليل يدل على أن المسألة مفروضة في الغصب (اللجنة) .

(3/225)


الشَّجَرَ قَائِمًا إِلَى الْبَائِعِ، وَلاَ يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِقِيمَةِ الثَّمَرِ، وَيُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى قَطْعِ الثَّمَرِ بَلَغَ أَوْ لَمْ يَبْلُغْ. وَيُجْبَرُ الْبَائِعُ عَلَى قَلْعِ الشَّجَرِ، وَإِنِ اخْتَارَ الْمُسْتَحِقُّ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى الْمُشْتَرِي قِيمَةَ الشَّجَرِ مَقْلُوعًا وَيَمْسِكَ الشَّجَرَ، وَأَعْطَاهُ الْقِيمَةَ ثُمَّ ظَفِرَ الْمُشْتَرِي بِالْبَائِعِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ، وَلاَ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الشَّجَرِ، وَلاَ يَكُونُ لِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ وَلاَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِنُقْصَانٍ (1) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَيْسَ لِلْمُسْتَحِقِّ عِنْدَهُمْ قَلْعُ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَالزَّرْعِ، وَقَال الدَّرْدِيرُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ غَرَسَ ذُو الشُّبْهَةِ أَوْ بَنَى، وَطَالَبَهُ الْمُسْتَحِقُّ، قِيل لِلْمَالِكِ: أَعْطِهِ قِيمَتَهُ قَائِمًا مُنْفَرِدًا عَنِ الأَْرْضِ، فَإِنْ أَبَى الْمَالِكُ فَلِلْغَارِسِ أَوِ الْبَانِي دَفْعُ قِيمَةِ الأَْرْضِ بِغَيْرِ غَرْسٍ وَبِنَاءٍ، فَإِنْ أَبَى فَهُمَا شَرِيكَانِ بِالْقِيمَةِ، هَذَا بِقِيمَةِ أَرْضِهِ، وَهَذَا بِقِيمَةِ غَرْسِهِ أَوْ بِنَائِهِ، وَيُعْتَبَرُ التَّقْوِيمُ يَوْمَ الْحُكْمِ لاَ يَوْمَ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ. وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الأَْرْضُ الْمَوْقُوفَةُ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مَوْطِنِهِ. وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ لِلْمُسْتَحِقِّ كِرَاءَ تِلْكَ السَّنَةِ، إِنْ كَانَتْ تُزْرَعُ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي السَّنَةِ، وَكَانَ الاِسْتِحْقَاقُ قَبْل فَوَاتِ وَقْتِ مَا تُرَادُ تِلْكَ الأَْرْضُ لِزِرَاعَتِهِ، فَلَوِ اسْتُحِقَّتْ بَعْدَ فَوَاتِ إِبَّانِ الزَّرْعِ فَلاَ شَيْءَ لِمُسْتَحِقِّهَا؛ لأَِنَّ الزَّارِعَ قَدِ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ، وَالْغَلَّةُ لَهُ. (2)
وَغَرْسُ الْمُكْتَرِي، وَالْمَوْهُوبِ لَهُ، وَالْمُسْتَعِيرِ، كَغَرْسِ الْمُشْتَرِي عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي امْتِنَاعِ الْقَلْعِ. وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ هُنَاكَ شُبْهَةٌ، كَأَنْ لَمْ
__________
(1) الفتاوى الهندية 4 / 145 والخانية بهامشها 2 / 233
(2) الخرشي 6 / 152 نشر دار صادر.

(3/225)


يَعْلَمْ أَنَّهَا لَيْسَتْ لِلْبَائِعِ، أَوِ الْمُؤَجِّرِ وَنَحْوِهِمَا. وَقَدْ نَقَل ابْنُ رَجَبٍ مِثْل هَذَا فِي قَوَاعِدِهِ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَال: لَمْ يَصِحَّ عَنْ أَحْمَدَ غَيْرُهُ (1) .

الاِسْتِحْقَاقُ فِي الصَّرْفِ:
16 - إِذَا اسْتُحِقَّ الْعِوَضَانِ فِي الصَّرْفِ (بَيْعِ النَّقْدِ بِالنَّقْدِ) أَوْ أَحَدُهُمَا، فَلِلْفُقَهَاءِ فِي بُطْلاَنِهِ وَعَدَمِهِ ثَلاَثَةُ آرَاءٍ: أ - بُطْلاَنُ الْعَقْدِ وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ (2) ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (3) ، وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا فِي الْمَصُوغِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ قَبْل التَّفَرُّقِ وَطُول الْمَجْلِسِ أَمْ بَعْدَهُ؛ لأَِنَّ الْمَصُوغَ يُرَادُ لِعَيْنِهِ فَغَيْرُهُ لاَ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَفِي الْمَسْكُوكَيْنِ، أَوِ الْمَسْكُوكِ وَالْمَصُوغِ إِنْ اسْتُحِقَّ الْمَسْكُوكُ بَعْدَ افْتِرَاقِ الْمُتَصَارِفَيْنِ، أَوْ قَبْل أَنْ يَفْتَرِقَا وَلَكِنْ بَعْدَ طُول الْمَجْلِسِ طُولاً لاَ يَصِحُّ مَعَهُ الصَّرْفُ (4) ، وَمَعَ الْبُطْلاَنِ لاَ يَجُوزُ الْبَدَل، وَيَعْنِي بِالْمَسْكُوكِ مَا قَابَل الْمَصُوغَ، فَيَشْمَل التِّبْرَ وَالْمَصُوغَ الْمَكْسُورَ.
ب - صِحَّةُ الْعَقْدِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا فِي الْمَسْكُوكِ إِنْ كَانَ الاِسْتِحْقَاقُ قَبْل التَّفَرُّقِ وَطُول الْمَجْلِسِ. وَلِلْعَاقِدِ إِعْطَاءُ بَدَل الْمُسْتَحَقِّ، وَهَل الإِْبْدَال عَلَى سَبِيل التَّرَاضِي أَوِ الإِْجْبَارِ؟ لَمْ أَجِدْ مَنْ صَرَّحَ بِالإِْجْبَارِ إِلاَّ مُتَأَخِّرِي الْمَالِكِيَّةِ فِي طَرِيقَةٍ مِنْ طَرِيقَتَيْنِ لَهُمْ،
__________
(1) الدسوقي 3 / 466 نشر دار الفكر.
(2) المجموع 10 / 99 ط المنيرية.
(3) المغني 4 / 50، 51 ط الرياض.
(4) الحطاب 4 / 326، 327 ط ليبيا.

(3/226)


وَالأُْخْرَى بِالتَّرَاضِي (1) .
ج - الْبُطْلاَنُ فِي الدَّرَاهِمِ الْمُعَيَّنَةِ، وَعَدَمِهِ فِي غَيْرِهَا قَبْل التَّفَرُّقِ وَطُول الْمَجْلِسِ، وَهُوَ قَوْل أَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ (2) .

اسْتِحْقَاقُ الْمَرْهُونِ:
17 - إِنِ اسْتُحِقَّ الْمَرْهُونُ الْمُعَيَّنُ كُلُّهُ بَطَل الرَّهْنُ اتِّفَاقًا، وَإِنِ اسْتُحِقَّ الْمَرْهُونُ الْمُعَيَّنُ قَبْل الْقَبْضِ خُيِّرَ الْمُرْتَهِنُ بَيْنَ فَسْخِ عَقْدِ الْمُدَايَنَةِ مِنْ بَيْعٍ وَنَحْوِهِ، وَبَيْنَ إِمْضَائِهِ مَعَ إِبْقَاءِ الدَّيْنِ بِلاَ رَهْنٍ (3) ، وَكَذَلِكَ يُخَيَّرُ الْمُرْتَهِنُ إِنْ كَانَ الاِسْتِحْقَاقُ بَعْدَ الْقَبْضِ وَغَرَّهُ. الرَّاهِنُ، فَإِنْ لَمْ يَغُرَّهُ بَقِيَ الدَّيْنُ بِلاَ رَهْنٍ، وَإِنْ كَانَ الْمَرْهُونُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ وَاسْتُحِقَّ بَعْدَ قَبْضِهِ أُجْبِرَ الرَّاهِنُ عَلَى الإِْتْيَانِ بِرَهْنٍ بَدَلَهُ عَلَى الْقَوْل الرَّاجِحِ، وَلاَ يُتَصَوَّرُ اسْتِحْقَاقُ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ قَبْل قَبْضِهِ (4) .
18 - لَوِ اسْتُحِقَّ بَعْضُ الْمَرْهُونِ فَفِي بُطْلاَنِ الرَّهْنِ وَبَقَائِهِ ثَلاَثَةُ آرَاءٍ:
أ - صِحَّةُ الرَّهْنِ، وَالْبَاقِي مِنَ الْمَرْهُونِ رَهْنُ جَمِيعِ الدَّيْنِ، وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ (5) .
__________
(1) حاشية الشرنبلالي 2 / 203 ط أحمد كامل 1330 هـ، والمغني 4 / 50، 51، والحطاب 4 / 327 وما بعدها.
(2) الحطاب 4 / 327
(3) فتح القدير 8 / 305 ط بولاق الأولى، والبدائع 6 / 141 ط الجمالية، والدسوقي 3 / 258 ط دار الفكر.
(4) الخرشي وحاشية العدوي 5 / 258 ط دار صادر، والشرواني على التحفة 5 / 64
(5) الأم 3 / 198، والدسوقي 3 / 258، ومنح الجيل 3 / 106، 107 ط ليبيا، ونيل المآرب ص 113 ط بولاق، ومنتهى الإرادات 1 / 405 ط دار العروبة.

(3/226)


ب - بُطْلاَنُ الرَّهْنِ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ، إِنْ كَانَ الْبَاقِي مِمَّا لاَ يَجُوزُ رَهْنُهُ ابْتِدَاءً عِنْدَهُمْ، كَأَنْ كَانَ مُشَاعًا (1) .
ج - بُطْلاَنُ الرَّهْنِ بِحِصَّتِهِ، وَالْبَاقِي مِنَ الْمَرْهُونِ رَهْنٌ بِحِصَّتِهِ مِنَ الدَّيْنِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ شَعْبَانَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ إِنْ كَانَ الْبَاقِي مِمَّا يَجُوزُ رَهْنُهُ ابْتِدَاءً (2) .

تَلَفُ الْمَرْهُونِ الْمُسْتَحَقِّ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ:
19 - لَوْ تَلِفَتِ الْعَيْنُ الْمَرْهُونَةُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، ثُمَّ اسْتُحِقَّتْ، فَلِلْعُلَمَاءِ فِيمَنْ يَضْمَنُ الْعَيْنَ التَّالِفَةَ الْمَرْهُونَةَ ثَلاَثَةُ آرَاءٍ:
أ - لِلْمُسْتَحِقِّ تَضْمِينُ الرَّاهِنِ أَوِ الْمُرْتَهِنِ؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَدٍّ، أَمَّا الرَّاهِنُ فَإِنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالتَّسْلِيمِ، وَأَمَّا الْمُرْتَهِنُ فَإِنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالْقَبْضِ، وَاسْتِقْرَارُ الضَّمَانِ عَلَى الرَّاهِنِ فَلاَ يَرْجِعُ عَلَى غَيْرِهِ لَوْ ضَمِنَ، فَإِنْ ضَمِنَ الْمُرْتَهِنُ رَجَعَ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَا ضَمِنَ وَبِدَيْنِهِ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ اشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ الْمُرْتَهِنُ جَاهِلاً، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا فَالْقَرَارُ عَلَيْهِمَا (3) .
ب - لِلْمُسْتَحِقِّ تَضْمِينُ الرَّاهِنِ أَوِ الْمُرْتَهِنِ وَاسْتِقْرَارُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، فَإِنْ ضَمِنَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَابِلَةِ إِنْ عَلِمَ الْمُرْتَهِنُ بِالْغَصْبِ، وَإِنْ ضَمِنَ الرَّاهِنُ رَجَعَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ
__________
(1) فتح القدير 8 / 205 ط بولاق، والعناية على الهداية بهامشه 8 / 224، والبدائع 6 / 151
(2) منح الجليل 3 / 70، وفتح القدير 8 / 205، والعناية على الهداية 8 / 224
(3) فتح القدير 8 / 223، 224، والبدائع 6 / 149، والشرواني على التحفة 3 / 290

(3/227)


بِالْغَصْبِ حَتَّى تَلِفَ بِتَفْرِيطٍ فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ؛ لأَِنَّ الضَّمَانَ يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ، فَإِنْ تَلِفَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ فَفِيهِ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: يَضْمَنُ الْمُرْتَهِنُ وَيَسْتَقِرُّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ مَال غَيْرِهِ تَلِفَ تَحْتَ يَدِهِ الْعَادِيَةِ.
وَالثَّانِي: لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ لأَِنَّهُ قَبَضَهُ عَلَى أَنَّهُ أَمَانَةٌ مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ كَالْوَدِيعَةِ، فَعَلَى هَذَا يَرْجِعُ الْمَالِكُ عَلَى الْغَاصِبِ لاَ غَيْرُهُ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ لِلْمَالِكِ تَضْمِينَ أَيِّهِمَا شَاءَ، وَيَسْتَقِرُّ الضَّمَانُ عَلَى الْغَاصِبِ، فَإِنْ ضَمِنَ الْغَاصِبُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ ضَمِنَ الْمُرْتَهِنُ رَجَعَ عَلَى الْغَاصِبِ لأَِنَّهُ غَرَّهُ فَرَجَعَ عَلَيْهِ (1) .
ج - لِلْمُسْتَحِقِّ تَضْمِينُ الْمُرْتَهِنِ إِنْ حَدَثَ التَّلَفُ قَبْل ظُهُورِ الاِسْتِحْقَاقِ، فَإِنْ حَصَل الاِسْتِحْقَاقُ وَتَرَكَهَا الْمُسْتَحِقُّ تَحْتَ يَدِ الْمُرْتَهِنِ بِلاَ عُذْرٍ فَلاَ يَضْمَنُ، لأَِنَّ الْمَرْهُونَ خَرَجَ عَنِ الرَّهْنِيَّةِ بِالاِسْتِحْقَاقِ وَصَارَ الْمُرْتَهِنُ أَمِينًا فَلاَ يَضْمَنُ، وَهَذَا مَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ (2) .

اسْتِحْقَاقُ الْمَرْهُونِ بَعْدَ بَيْعِ الْعَدْل لَهُ:
20 - إِذَا وُضِعَ الْمَرْهُونُ بِيَدِ عَدْلٍ، وَبَاعَهُ الْعَدْل بِرِضَا الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ، وَأَوْفَى الْمُرْتَهِنُ الثَّمَنَ، ثُمَّ اسْتَحَقَّ الْمَرْهُونُ الْمَبِيعَ، فَلِلْفُقَهَاءِ فِيمَنْ يَرْجِعُ وَعَلَى مَنْ يَرْجِعُ آرَاءٌ:
أ - رُجُوعُ الْمُسْتَحِقِّ عَلَى الْعَدْل أَوِ الرَّاهِنِ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ إِنْ كَانَ الْمَبِيعُ هَالِكًا، فَإِنْ ضَمِنَ الرَّاهِنُ
__________
(1) المغني 4 / 440 ط الرياض.
(2) الخرشي 5 / 241، واللجنة ترى أن ما صرح به المالكية لا ينبغي أن يكون محل خلاف

(3/227)


قِيمَتَهُ صَحَّ الْبَيْعُ وَالْقَبْضُ؛ لأَِنَّهُ مَلَكَهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ، وَإِنْ ضَمِنَ الْعَدْل كَانَ الْعَدْل بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى الرَّاهِنِ بِالْقِيمَةِ؛ لأَِنَّهُ وَكِيلٌ مِنْ جِهَتِهِ عَامِلٌ لَهُ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا لَحِقَهُ مِنَ الْعُهْدَةِ، وَنَفَذَ الْبَيْعُ وَصَحَّ اقْتِضَاءُ الْمُرْتَهِنِ لِدَيْنِهِ، وَإِنْ شَاءَ الْعَدْل رَجَعَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ؛ لأَِنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخَذَ الثَّمَنَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَإِذَا رَجَعَ بَطَل اقْتِضَاءُ الْمُرْتَهِنِ دَيْنَهُ مِنْهُ، فَيَرْجِعُ عَلَى الرَّاهِنِ بِدَيْنِهِ (1) .
فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ قَائِمًا أَخَذَهُ الْمُسْتَحِقُّ مِنَ الْمُشْتَرِي؛ لأَِنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ، ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْعَدْل بِالثَّمَنِ، لأَِنَّهُ الْعَاقِدُ، فَتَتَعَلَّقُ بِهِ حُقُوقُ الْعَقْدِ لِصَيْرُورَتِهِ وَكِيلاً بَعْدَ الإِْذْنِ بِالْبَيْعِ، وَهَذَا مِنْ حُقُوقِهِ حَيْثُ وَجَبَ لَهُ بِالْبَيْعِ، وَإِنَّمَا أَدَّاهُ لِيَسْلَمَ لَهُ الْمَبِيعُ وَلَمْ يَسْلَمْ. ثُمَّ الْعَدْل بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى الرَّاهِنِ بِالْقِيمَةِ؛ لأَِنَّهُ هُوَ الَّذِي أَدْخَلَهُ فِي هَذِهِ الْعُهْدَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ تَخْلِيصُهُ، وَإِذَا رَجَعَ عَلَيْهِ صَحَّ قَبْضُ الْمُرْتَهِنِ؛ لأَِنَّ الْمَقْبُوضَ سَلِمَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ؛ لأَِنَّهُ إِذَا انْتَقَضَ الْعَقْدُ بَطَل الثَّمَنُ، وَقَدْ قَبَضَ ثَمَنًا فَيَجِبُ نَقْضُ قَبْضِهِ ضَرُورَةً، وَإِذَا رَجَعَ عَلَيْهِ عَادَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ كَمَا كَانَ فَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الرَّاهِنِ (2) .
ب - رُجُوعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الرَّاهِنِ؛ لأَِنَّ الْمَبِيعَ لَهُ، فَالْعُهْدَةُ عَلَيْهِ، وَلاَ يَرْجِعُ عَلَى الْعَدْل إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ وَكِيلٌ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْمَال رَجَعَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ (3) .
__________
(1) الهداية بشرح فتح القدير 8 / 223، وابن عابدين 5 / 226
(2) المرجعان السابقان.
(3) مطالب أولي النهى 3 / 277، وكشاف القناع 3 / 287، والمغني مع الشرح الكبير 4 / 394

(3/228)


ج - رُجُوعُ الْمُسْتَحِقِّ عَلَى الْمُرْتَهِنِ بِالثَّمَنِ وَإِجَازَةِ الْبَيْعِ، وَيَرْجِعُ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الرَّاهِنِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ، يَرْجِعُ عَلَى الرَّاهِنِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مُفْلِسًا فَيَرْجِعُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَرَأَى الْمَالِكِيَّةُ هَذَا عِنْدَ تَسْلِيمِ السُّلْطَانِ الثَّمَنَ لِلْمُرْتَهِنِ، إِذْ لَمْ يَظْهَرْ نَصٌّ صَرِيحٌ لَهُمْ فِي ضَمَانِ الْعَدْل غَيْرِ السُّلْطَانِ (1) .
د - تَخْيِيرُ الْمُشْتَرِي فِي الرُّجُوعِ عَلَى الْعَدْل، (مَا لَمْ يَكُنِ الْعَدْل حَاكِمًا أَوْ مَأْذُونًا مِنْ قِبَل الْحَاكِمِ) أَوِ الرَّاهِنِ، أَوِ الْمُرْتَهِنِ إِذَا كَانَ الْمُرْتَهِنُ قَدْ تَسَلَّمَ الثَّمَنَ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ (2) .

اسْتِحْقَاقُ مَا بَاعَهُ الْمُفْلِسُ:
21 - الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَوِ اسْتَحَقَّ مَا بَاعَهُ الْمُفْلِسُ قَبْل الْحَجْرِ فَالْمُشْتَرِي يُشَارِكُ الْغُرَمَاءَ مِنْ غَيْرِ نَقْصِ الْقِسْمَةِ، إِنْ كَانَ الثَّمَنُ تَالِفًا وَتَعَذَّرَ رَدُّهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ تَالِفٍ فَالْمُشْتَرِي أَوْلَى بِهِ.
وَإِنِ اسْتُحِقَّ شَيْءٌ بَعْدَ أَنْ بَاعَهُ الْحَاكِمُ قُدِّمَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ عَلَى بَاقِي الْغُرَمَاءِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُحَاصُّ الْغُرَمَاءُ (3) .
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لاَ يُمْكِنُ تَصَوُّرُهَا عَلَى قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ إِذْ لاَ يَرَى جَوَازَ الْحَجْرِ بِالإِْفْلاَسِ، وَلَكِنْ
__________
(1) الحطاب 5 / 309، 310
(2) الشرواني على التحفة 5 / 85، ونهاية المحتاج 4 / 270
(3) الزرقاني على خليل 5 / 274 والدسوقي 3 / 274 ط مصطفى الحلبي، وروضة الطالبين 4 / 144، وكشاف القناع 3 / 363 ط أنصار السنة المحمدية، وابن عابدين 5 / 92 ط بولاق الأولى، والسراج الوهاج ص 225 ط مصطفى الحلبي.

(3/228)


يُمْكِنُ تَصَوُّرُهَا عَلَى قَوْل الصَّاحِبَيْنِ، إِذْ أَنَّهُمَا قَالاَ بِالْحَجْرِ عَلَى الْمُفْلِسِ بِشُرُوطِهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَتَعَرَّضِ الْحَنَفِيَّةُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالذَّاتِ تَفْرِيعًا عَلَى قَوْلِهِمَا فِيمَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ.

الاِسْتِحْقَاقُ فِي الصُّلْحِ:
22 - يُفَرِّقُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصُّلْحِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَنْ إِقْرَارٍ، أَوْ عَنْ إِنْكَارٍ، أَوْ سُكُوتٍ. فَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إِقْرَارٍ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ عِنْدَهُمْ، بِالنِّسْبَةِ لِطَرَفَيِ الصُّلْحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُ الاِسْتِحْقَاقِ فِي الْمَبِيعِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إِنْكَارٍ أَوْ سُكُوتٍ، فَهُوَ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي مُعَاوَضَةٌ، وَفِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ افْتِدَاءٌ لِلْيَمِينِ وَقَطْعٌ لِلْخُصُومَةِ، وَيَنْبَنِي عَلَيْهِ أَنَّهُ إِذَا اسْتَحَقَّ بَدَل الصُّلْحِ كُلَّهُ يَبْطُل الصُّلْحُ، وَيَعُودُ الْمُدَّعِي إِلَى الْخُصُومَةِ، وَإِذَا اسْتَحَقَّ بَعْضَهُ عَادَ الْمُدَّعِي لِلْخُصُومَةِ فِي ذَلِكَ الْبَعْضِ.
أَمَّا إِذَا اسْتَحَقَّ مَحَل النِّزَاعِ (الْمُصَالَحَ عِنْدَهُ) فَإِنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَرْجِعُ عَلَى الْمُدَّعِي بِكُل الْبَدَل أَوْ بَعْضِهِ؛ لأَِنَّ الْمُدَّعِيَ إِنَّمَا أَخَذَ الْبَدَل بِدُونِ وَجْهِ حَقٍّ فَلِصَاحِبِهِ اسْتِرْدَادُهُ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إِقْرَارٍ فَاسْتَحَقَّ بَدَل الصُّلْحِ رَجَعَ الْمُدَّعِي بِالْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً، فَإِنْ فَاتَتْ رَجَعَ بِعِوَضِهَا - وَهُوَ الْقِيمَةُ - إِنْ كَانَتْ قِيَمِيَّةً، وَالْمِثْل إِنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً. . . فَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إِنْكَارٍ وَاسْتَحَقَّ بَدَل الصُّلْحِ رَجَعَ
__________
(1) رد المحتار 4 / 474، والاختيار 2 / 69، والمغني 4 / 546، والإنصاف 5 / 247، وكشاف القناع 3 / 333

(3/229)


بِالْعِوَضِ مُطْلَقًا، وَلاَ يَرْجِعُ بِالْعَيْنِ وَلَوْ كَانَتْ قَائِمَةً.
أَمَّا إِنِ اسْتَحَقَّ الْمُصَالَحَ عَنْهُ وَهُوَ مَحَل النِّزَاعِ، فَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إِنْكَارٍ رَجَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى الْمُدَّعِي بِمَا دَفَعَ لَهُ إِنْ كَانَ قَائِمًا، فَإِنْ فَاتَ رَجَعَ بِقِيمَتِهِ إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا، وَبِمِثْلِهِ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا. وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إِقْرَارٍ لاَ يَرْجِعُ الْمُقِرُّ عَلَى الْمُدَّعِي بِشَيْءٍ لاِعْتِرَافِهِ أَنَّهُ مِلْكُهُ، وَأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ أَخَذَهُ مِنْهُ ظُلْمًا (1) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ صُلْحَ إِلاَّ مَعَ الإِْقْرَارِ، فَإِنِ اسْتَحَقَّ بَدَل الصُّلْحِ وَكَانَ مُعَيَّنًا بَطَل الصُّلْحُ، سَوَاءٌ اسْتَحَقَّ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ، وَإِنْ كَانَ بَدَل الصُّلْحِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، أَيْ مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ أَخَذَ الْمُدَّعِي بَدَلَهُ، وَلاَ يَنْفَسِخُ الصُّلْحُ (2) .

اسْتِحْقَاقُ عِوَضِ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ:
23 - يَصِحُّ الصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ عَلَى مَالٍ، فَإِنِ اسْتَحَقَّ الْعِوَضَ فَلاَ يَبْطُل الصُّلْحُ، وَيَأْخُذُ الْمُسْتَحِقُّ عِوَضَ الْمُسْتَحَقِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَرْجِعُ إِلَى أَرْشِ الْجِنَايَةِ (3) .

ضَمَانُ الدَّرْكِ:
24 - مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَال: إِنَّ ضَمَانَ الدَّرْكِ اسْتُعْمِل فِي ضَمَانِ الاِسْتِحْقَاقِ عُرْفًا، وَهُوَ أَنْ
__________
(1) الزرقاني على خليل 6 / 9، والدسوقي 3 / 470
(2) شرح الروض 2 / 218، وروضة الطالبين 4 / 203
(3) الزرقاني على خليل 6 / 168، والدسوقي 3 / 471، والقواعد لابن رجب 4 / 2، ومطالب أولي النهى 3 / 188، وشرح الروض 4 / 45، والبحر الرائق 7 / 280

(3/229)


يَضْمَنَ الثَّمَنَ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ نَوْعًا مِنْ ضَمَانِ الْعُهْدَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَال: إِنَّ ضَمَانَ الدَّرْكِ هُوَ ضَمَانُ الْعُهْدَةِ (1) .
وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ ضَمَانُ الثَّمَنِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ، فِي نَحْوِ غَرِيبٍ لَوْ خَرَجَ مَبِيعُهُ أَوْ ثَمَنُهُ مُسْتَحَقًّا لَمْ يَظْفَرْ بِهِ. (2)
وَلِتَفْصِيل الْقَوْل فِي ضَمَانِ الدَّرْكِ (ر: ضَمَانُ الدَّرْكِ) .

الاِسْتِحْقَاقُ فِي الشُّفْعَةِ:
25 - يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوِ اسْتَحَقَّ الْمَشْفُوعَ بَطَلَتِ الشُّفْعَةُ، وَرَجَعَ الشَّفِيعُ بِالثَّمَنِ عَلَى مَنْ أَخَذَهُ مِنْهُ، وَقَرَارُ الضَّمَانِ (أَيْ نِهَايَتُهُ) عَلَى الْبَائِعِ (3) .
وَيَخْتَلِفُونَ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الثَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ الأَْوَّل، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ رَأْيَانِ:
أ - الأَْوَّل: بُطْلاَنُ الْبَيْعِ وَالشُّفْعَةِ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَوْل غَيْرِ الْمُقَدَّمِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ كَانَ الثَّمَنُ مُعَيَّنًا؛ لأَِنَّ مَالِكَهُ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ، وَيَرْجِعُ الشَّفِيعُ بِمِثْل مَا دَفَعَ، وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ إِنْ كَانَ الاِسْتِحْقَاقُ قَبْل الأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ
__________
(1) فتح القدير 5 / 435، وابن عابدين 4 / 281، والقليوبي 2 / 325، والمغني 4 / 595، ومنح الجليل 3 / 249، والزرقاني على خليل 5 / 139
(2) المراجع السابقة، وحاشية أبو السعود على الكنز 2 / 8 ط أولى، والبحر الرائق 6 / 237 ط العلمية.
(3) ابن عابدين 4 / 202، 5 / 148، والمبسوط 14 / 129، وفتح القدير 8 / 344 ط دار إحياء التراث العربي، والزرقاني على خليل 6 / 189، والمهذب 1 / 390 ط مصطفى الحلبي، وكشاف القناع 4 / 189 ط أنصار السنة المحمدية، والإنصاف 6 / 290

(3/230)


حَيْثُ كَانَ الثَّمَنُ غَيْرَ نَقْدٍ (1) .
ب - وَالثَّانِي: صِحَّةُ الشُّفْعَةِ، وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ الَّذِي هُوَ الْمَذْهَبُ إِنْ حَصَل الاِسْتِحْقَاقُ بَعْدَ الأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ، وَيَرْجِعُ الْبَائِعُ بِقِيمَةِ الشُّفْعَةِ لاَ بِقِيمَةِ الْمُسْتَحَقِّ، إِلاَّ إِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ نَقْدًا مَسْكُوكًا فَيَرْجِعُ بِمِثْلِهِ.
أَمَّا إِنْ كَانَ الثَّمَنُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَيَصِحُّ الْبَيْعُ وَالشُّفْعَةُ اتِّفَاقًا - كَأَنِ اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ وَدَفَعَ عَمَّا فِيهَا فَخَرَجَ الْمَدْفُوعُ مُسْتَحَقًّا - وَأَبْدَل الثَّمَنَ بِمَا يَحِل مَحَلَّهُ فِي الأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ عِنْدَ صِحَّةِ الْبَيْعِ وَالشُّفْعَةِ (2) .
فَإِنِ اسْتَحَقَّ بَعْضَ الثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ بَطَل الْبَيْعُ فِيهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَصَحَّ فِي الْبَاقِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِيهِ خِلاَفٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بِنَاءً عَلَى رِوَايَتَيْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ (3) .
وَإِنْ دَفَعَ الشَّفِيعُ بَدَلاً مُسْتَحَقًّا لَمْ تَبْطُل شُفْعَتُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، زَادَ الشَّافِعِيَّةُ: وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ، لأَِنَّهُ لَمْ يُقَصِّرْ فِي الطَّلَبِ وَالأَْخْذِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِمُعَيَّنٍ أَمْ لاَ، فَإِنْ كَانَ بِمُعَيَّنٍ احْتَاجَ إِلَى تَمَلُّكٍ جَدِيدٍ (4) .

الاِسْتِحْقَاقُ فِي الْمُسَاقَاةِ:
26 - الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْمُسَاقَاةَ تَنْفَسِخُ بِاسْتِحْقَاقِ الأَْشْجَارِ، وَلاَ حَقَّ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 201، 202، والفتاوى البزازية 5 / 437، والزرقاني على خليل 6 / 191، والحطاب 5 / 326، والمدونة 5 / 423، والدسوقي 3 / 495
(2) الجمل على المنهج 3 / 508، وشرح الروض 2 / 350، 371، والمغني 5 / 338، 339
(3) شرح الروض 2 / 371، والإنصاف 6 / 290
(4) الجمل على المنهج 3 / 508، والكافي 2 / 882 نشر مكتبة الرياض.

(3/230)


لِلْعَامِل فِي الثَّمَرَةِ حِينَئِذٍ؛ لأَِنَّهُ عَمِل فِيهَا بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَالِكِ.
وَلِلْعَامِل عَلَى مَنْ تَعَاقَدَ مَعَهُ أُجْرَةُ الْمِثْل، غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ اشْتَرَطُوا لِوُجُوبِ الأُْجْرَةِ ظُهُورَ الثَّمَرِ، فَإِنْ لَمْ تَظْهَرِ الثِّمَارُ حَتَّى اسْتُحِقَّتِ الأَْشْجَارُ فَلاَ أُجْرَةَ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الأُْجْرَةَ تُسْتَحَقُّ فِي حَالَةِ جَهْلِهِ بِالاِسْتِحْقَاقِ؛ لأَِنَّ الَّذِي تَعَاقَدَ مَعَهُ غَرَّهُ، فَإِنْ عَلِمَ فَلاَ أُجْرَةَ لَهُ. (1)
وَلَوْ خَرَجَ الثَّمَرُ فِي الشَّجَرِ ثُمَّ اسْتُحِقَّتِ الأَْرْضُ، فَالْكُل لِلْمُسْتَحِقِّ (الأَْرْضُ وَالشَّجَرُ وَالثَّمَرُ) وَيَرْجِعُ الْعَامِل عَلَى مَنْ تَعَاقَدَ مَعَهُ بِأَجْرِ مِثْل عَمَلِهِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْمُسْتَحِقَّ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إِبْقَاءِ الْعَامِل وَبَيْنَ فَسْخِ عَقْدِهِ، فَإِنْ فَسَخَ دَفَعَ لَهُ أَجْرَ عَمَلِهِ.
وَالْحُكْمُ فِي ضَمَانِ تَلَفِ الأَْشْجَارِ وَالثِّمَارِ - بَعْدَ الاِسْتِحْقَاقِ - يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى بَابِ الضَّمَانِ.

الاِسْتِحْقَاقُ فِي الإِْجَارَةِ
اسْتِحْقَاقُ الْعَيْنِ الْمُكْتَرَاةِ:
27 - يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْعَيْنِ الْمُكْتَرَاةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُول بِبُطْلاَنِ الإِْجَارَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُول بِتَوَقُّفِهَا عَلَى إِجَازَةِ الْمُسْتَحِقِّ، بِالأَْوَّل قَال الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَبِالثَّانِي قَال الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ احْتِمَالٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، بِنَاءً عَلَى جَوَازِ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 181، والفتاوى الهندية 5 / 256، 283، وشرح الروض 2 / 400، والقليوبي 3 / 66، والمغني 5 / 415، والفتاوى الهندية 5 / 283
(2) الزرقاني على خليل 6 / 244، والدسوقي 3 / 546 دار الفكر.

(3/231)


بَيْعِ الْفُضُولِيِّ وَتَوَقُّفِهِ عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ (1)
كَذَلِكَ يَخْتَلِفُونَ فِيمَنْ يَسْتَحِقُّ الأُْجْرَةَ، وَلَهُمْ فِي هَذَا ثَلاَثَةُ آرَاءٍ:
أ - الأُْجْرَةُ لِلْعَاقِدِ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ إِنْ كَانَتِ الإِْجَازَةُ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، وَلاَ اعْتِبَارَ لِلإِْجَازَةِ حِينَئِذٍ (2) ، وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ إِنْ كَانَ الاِسْتِحْقَاقُ بَعْدَ الأَْمَدِ (3) ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ إِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ الْمُكْتَرَاةُ غَيْرَ مَغْصُوبَةٍ؛ لأَِنَّهُ اسْتَحَقَّهَا بِالْمِلْكِ ظَاهِرًا (4) .
ب - إِنَّ الأُْجْرَةَ لِلْمُسْتَحِقِّ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ إِنْ كَانَتِ الإِْجَازَةُ قَبْل اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، وَكَذَا إِنْ كَانَتْ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الْمَنْفَعَةِ فِي قَوْل أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ إِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ الْمُؤَجَّرَةُ مَغْصُوبَةً وَيَجْهَل الْمُسْتَأْجِرُ الْغَصْبَ (5) .
وَيَرْجِعُ الْمَالِكُ عَلَى الْغَاصِبِ أَوِ الْمُسْتَأْجِرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِالْمَنْفَعَةِ الَّتِي اسْتَوْفَاهَا، وَالْقَرَارُ (أَيْ نِهَايَةُ الضَّمَانِ) عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ إِنْ كَانَ قَدِ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَوْفِهَا فَقَرَارُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُؤَجِّرِ الْغَارِّ (6) .
وَيَرْجِعُ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِمَا أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالْقَرَارُ
__________
(1) الفتاوى الهندية 4 / 436، والحطاب مع التاج والإكليل 5 / 296، والجمل على المنهج 5 / 430، والشرواني على التحفة 10 / 336، والمجموع 9 / 261، والمغني 5 / 475، والإنصاف 6 / 34 ط أولى، والزوائد ص 490 ط السلفية.
(2) الفتاوى الهندية 4 / 436
(3) التاج والإكليل 5 / 296
(4) الشرواني على التحفة 10 / 336، والجمل على المنهج 5 / 430، والمجموع 9 / 261
(5) الإنصاف 6 / 174، 181، والفتاوى الهندية 4 / 436، وشرح الروض 2 / 341، 361
(6) الأم 3 / 257

(3/231)


عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ (1) ، وَفِي الْمَوَاهِبِ السَّنِيَّةِ أَنَّ الأَْرْضَ الْمَوْقُوفَةَ الْمُسْتَحَقَّةَ إِنْ آجَرَهَا النَّاظِرُ وَأَخَذَ الأُْجْرَةَ وَسَلَّمَهَا لِلْمُسْتَحِقِّينَ، فَإِنَّ الْمَالِكَ يَرْجِعُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لاَ عَلَى النَّاظِرِ، وَرُجُوعُ الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى مَنْ أَخَذَ دَرَاهِمَهُ (2) .
ج - أَجْرُ مَا مَضَى لِلْعَاقِدِ، وَمَا بَعْدَهُ لِلْمُسْتَحِقِّ، وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَيَتَصَدَّقُ الْعَاقِدُ عِنْدَهُ بِنَصِيبِهِ بَعْدَ ضَمَانِ النَّقْصِ (3) . وَالْمُرَادُ بِمَا مَضَى عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَا قَبْل الْحُكْمِ بِالاِسْتِحْقَاقِ (4) .

تَلَفُ الْعَيْنِ الْمُسْتَحَقَّةِ الْمُكْتَرَاةِ:
28 - لَوْ تَلِفَتِ الْعَيْنُ الْمُؤَجَّرَةُ أَوْ نَقَصَتْ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ فَلِلْمُسْتَحِقِّ تَضْمِينُ الْمُسْتَأْجِرِ أَوِ الْمُؤَجِّرِ، وَالْقَرَارُ عَلَى الْمُؤَجِّرِ، هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ (5) .
وَالرُّجُوعُ يَكُونُ بِأَعْلَى قِيمَةٍ مِنْ يَوْمِ الْغَصْبِ إِلَى يَوْمِ التَّلَفِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّهَا مَغْصُوبَةٌ فِي الْحَال الَّتِي زَادَتْ فِيهَا قِيمَتُهَا، فَالزِّيَادَةُ لِمَالِكِهَا مَضْمُونَةٌ عَلَى الْغَاصِبِ (6) .
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 413
(2) المواهب السنية هامش الأشباه والنظائر للسيوطي ص 355، 356 ط التجارية.
(3) الفتاوى الهندية 4 / 436، والتاج والإكليل 5 / 300
(4) الخرشي 6 / 154
(5) البحر الرائق 7 / 321، 324 ط العلمية، والأم 3 / 257، وشرح الروض 2 / 341، ومطالب أولي النهى 3 / 188، وكشاف القناع 4 / 86، والإنصاف 6 / 174، وقواعد ابن رجب ص 68، 154، وشرح منتهى الإرادات 2 / 413
(6) شرح الروض 2 / 361، وشرح منتهى الإرادات 2 / 413، والمغني 5 / 279 ط الرياض، والقليوبي 2 / 181

(3/232)


وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَرْجِعُ الْمُسْتَحِقُّ عَلَى الْمُكْتَرِي إِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا، وَلاَ يَرْجِعُ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَتَعَدَّ وَفَعَل مَا يَجُوزُ لَهُ، فَلَوِ اكْتَرَى دَارًا فَهَدَمَهَا، ثُمَّ ظَهَرَ مُسْتَحِقٌّ، فَلَهُ أَخْذُ النَّقْصِ إِنْ وَجَدَهُ وَقِيمَةُ الْهَدْمِ مِنَ الْهَادِمِ، أَيْ قِيمَةُ مَا أَفْسَدَ الْهَدْمُ مِنَ الْبِنَاءِ (1) .

اسْتِحْقَاقُ الأُْجْرَةِ:
29 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأُْجْرَةَ لَوِ اسْتُحِقَّتْ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مِثْلِيَّةً أَوْ عَيْنًا قِيَمِيَّةً، فَإِنْ كَانَتِ الأُْجْرَةُ عَيْنًا قِيَمِيَّةً وَاسْتُحِقَّتْ بَطَلَتِ الإِْجَارَةُ، وَتَجِبُ قِيمَةُ الْمَنْفَعَةِ (أَجْرُ الْمِثْل) لاَ قِيمَةُ الْبَدَل، وَإِنْ كَانَتِ الأُْجْرَةُ مِثْلِيَّةً لَمْ تَبْطُل الإِْجَارَةُ وَيَجِبُ الْمِثْل. فَلَوْ دَفَعَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أُجْرَةً فَاسْتُحِقَّتْ يَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ عَشَرَةٌ مِثْلُهَا لاَ قِيمَةُ الْمَنْفَعَةِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنِ اسْتُحِقَّتِ الأُْجْرَةُ الْمُعَيَّنَةُ مِنْ يَدِ الْمُؤَجِّرِ، كَالدَّابَّةِ وَنَحْوِهَا، فَإِنْ كَانَ الاِسْتِحْقَاقُ قَبْل حَرْثِ الأَْرْضِ الْمُؤَجَّرَةِ أَوْ قَبْل زَرْعِهَا، فَإِنَّ الإِْجَارَةَ تَنْفَسِخُ مِنْ أَصْلِهَا، وَيَأْخُذُ الأَْرْضَ صَاحِبُهَا، وَإِنِ اسْتُحِقَّتْ بَعْدَ حَرْثِ الأَْرْضِ أَوْ زَرْعِهَا فَإِنَّ الإِْجَارَةَ بَيْنَ الْمُؤَجِّرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ لاَ تَنْفَسِخُ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِنْ أَخَذَ الْمُسْتَحِقُّ مَالَهُ مِنَ الْمُؤَجِّرِ، وَلَمْ يُجِزِ الإِْجَارَةَ، كَانَ لِلْمُؤَجِّرِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أُجْرَةُ الْمِثْل، وَتَبْقَى الأَْرْضُ لَهُ، كَمَا كَانَتْ أَوَّلاً.
وَإِنْ لَمْ يَأْخُذِ الْمُسْتَحِقُّ مَالَهُ مِنَ الْمُؤَجِّرِ وَأَبْقَاهُ لَهُ وَأَجَازَ الإِْجَارَةَ، فَإِنْ دَفَعَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أُجْرَةَ حَرْثِهِ كَانَ الْحَقُّ لَهُ فِي مَنْفَعَةِ الأَْرْضِ مُدَّةَ الإِْجَارَةِ، وَإِنْ أَبَى الْمُسْتَحِقُّ دَفْعَ أُجْرَةِ الْحَرْثِ قِيل لِلْمُسْتَأْجِرِ: ادْفَعْ
__________
(1) التاج والإكليل 5 / 303
(2) الفتاوى البزازية 5 / 438، وجامع الفصولين 1 / 163

(3/232)


لِلْمُسْتَحِقِّ أُجْرَةَ الأَْرْضِ، وَيَكُونُ لَكَ مَنْفَعَتُهَا، فَإِنْ دَفَعَ انْتَهَى الأَْمْرُ، وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْ قِيل لَهُ: سَلِّمْ الأَْرْضَ لَهُ مَجَّانًا مُدَّةَ الإِْجَارَةِ بِلاَ مُقَابِلٍ عَنِ الْحَرْثِ.
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الأُْجْرَةُ شَيْئًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ كَالنُّقُودِ وَالْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ وَاسْتُحِقَّ، فَإِنَّ الإِْجَارَةَ لاَ تَنْفَسِخُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الاِسْتِحْقَاقُ قَبْل الْحَرْثِ أَمْ بَعْدَهُ، وَذَلِكَ لِقِيَامِ عِوَضِهِ مَقَامَهُ (1) .

اسْتِحْقَاقُ الأَْرْضِ الَّتِي بِهَا غِرَاسٌ أَوْ بِنَاءٌ لِلْمُسْتَأْجِرِ:
30 - لَوِ اسْتُحِقَّتِ الأَْرْضُ الْمُؤَجَّرَةُ وَقَدْ غَرَسَ فِيهَا الْمُسْتَأْجِرُ، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي قَلْعِ الْغِرَاسِ، وَفِي إِبْقَائِهِ وَتَمَلُّكِهِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ ثَلاَثَةُ آرَاءٍ:
أَحَدُهَا: لِلْمُسْتَحِقِّ قَلْعُ الْغِرَاسِ دُونَ مُقَابِلٍ. وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ فِيمَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَلَيْسَ لِلْمَالِكِ تَمَلُّكُ الْغِرَاسِ بِالْقِيمَةِ أَوِ الإِْبْقَاءُ لَهُ بِالأُْجْرَةِ؛ لِتَمَكُّنِ الْغَاصِبِ مِنَ الْقَلْعِ (2) .
وَيُغَرِّمُ الْمُسْتَأْجِرُ الْمُؤَجِّرَ قِيمَةَ الشَّجَرِ مَقْلُوعًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَرْجِعُ الْمُسْتَأْجِرُ بِالأَْرْشِ عَلَى الْغَاصِبِ لِشُرُوعِهِ فِي الْعَقْدِ عَلَى ظَنِّ السَّلاَمَةِ.
وَالثَّانِي: لِلْمُسْتَحِقِّ تَمَلُّكُ الْغِرَاسِ بِقِيمَتِهِ قَائِمًا، وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ إِنْ فَسَخَ الْمُسْتَحِقُّ قَبْل مُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَلَيْسَ لَهُ قَلْعُ الْغِرَاسِ وَلاَ دَفْعُ قِيمَتِهِ مَقْلُوعًا، لأَِنَّ الْمُكْتَرِيَ غَرَسَ بِوَجْهِ شُبْهَةٍ، فَإِنْ أَبَى الْمُسْتَحِقُّ دَفْعَ قِيمَةِ الْغِرَاسِ قَائِمًا قِيل
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 462، والخرشي 6 / 152
(2) الفتاوى البزازية 5 / 435، وشرح الروض 2 / 359

(3/233)


لِلْمُكْتَرِي: ادْفَعْ لَهُ قِيمَةَ الأَْرْضِ، فَإِنْ أَبَى كَانَا شَرِيكَيْنِ (1) : الْمُكْتَرِي بِقِيمَةِ غَرْسِهِ، وَالْمُسْتَحِقُّ بِقِيمَةِ أَرْضِهِ، فَإِنْ أَجَازَ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ يَدْفَعُ قِيمَةَ الْغِرَاسِ مَقْلُوعًا بَعْدَ طَرْحِ أَجْرِ الْقَلْعِ (2) .
الثَّالِثُ: تَمَلُّكُ الْمُسْتَحِقِّ لِلْغِرَاسِ بِمَا أَنْفَقَهُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى الْغِرَاسِ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَالْمُتَوَجِّهُ عَلَى قَوْل الْقَاضِي وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّ غَرْسَهُ كَغَرْسِ الْغَاصِبِ، وَلَهُمْ قَوْلٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْغِرَاسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَعَلَيْهِ الأُْجْرَةُ لِصَاحِبِ الأَْرْضِ، وَيَرْجِعُ عَلَى مَنْ آجَرَهُ (3) . وَالْبِنَاءُ كَالْغِرَاسِ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ (4)

اسْتِحْقَاقُ الْهِبَةِ بَعْدَ التَّلَفِ:
31 - لِلْعُلَمَاءِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْهِبَةِ التَّالِفَةِ اتِّجَاهَانِ:
أ - تَخْيِيرُ الْمُسْتَحِقِّ بَيْنَ الرُّجُوعِ عَلَى الْوَاهِبِ أَوْ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ، أَمَّا عَلَى الْوَاهِبِ فَلأَِنَّهُ سَبَبُ إِتْلاَفِ مَالِهِ، وَأَمَّا عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ فَلأَِنَّهُ هُوَ الْمُسْتَهْلِكُ لَهُ، وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ جَعَلُوا الرُّجُوعَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الرُّجُوعِ عَلَى الْوَاهِبِ، وَيَكُونُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ مِنَ الْغَلَّةِ قِيمَةُ عَمَلِهِ وَعِلاَجِهِ.
فَإِنْ رَجَعَ عَلَى الْوَاهِبِ فَلاَ شَيْءَ لَهُ عَلَى
__________
(1) الخرشي 6 / 155، والروضة 5 / 47، وحاشية القليوبي على المحلي 3 / 39
(2) المرجع السابق.
(3) قواعد ابن رجب ص 154
(4) التاج والإكليل 5 / 300، وشرح الروض 2 / 356، 361، والفتاوى البزازية 5 / 435، والخرشي 6 / 155، وقواعد ابن رجب ص 154

(3/233)


الْمَوْهُوبِ لَهُ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ. وَإِنْ رَجَعَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ رَجَعَ هَذَا عَلَى الْوَاهِبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، ذَكَرَ ذَلِكَ صَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ قَوْلاً وَاحِدًا، وَشَهَّرَهُ ابْنُ رَجَبٍ لأَِنَّهُ دَخَل عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ ضَامِنٍ لِشَيْءٍ فَهُوَ مَغْرُورٌ. وَالْخِلاَفُ يَجْرِي كَذَلِكَ فِي رُجُوعِ الْمَوْهُوبِ لَهُ عَلَى الْوَاهِبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقِيل: لاَ يَرْجِعُ عَلَى الْوَاهِبِ؛ لأَِنَّ الْوَاهِبَ لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ عِوَضًا فَيَرْجِعُ بِعِوَضِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ غَرَّهُ مِنْ أَمْرٍ قَدْ كَانَ لَهُ أَلاَّ يَقْبَلَهُ.
ب - الرُّجُوعُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ دُونَ الْوَاهِبِ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْهِبَةَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ وَالْوَاهِبُ غَيْرُ عَامِلٍ لَهُ، فَلاَ يَسْتَحِقُّ الْمَوْهُوبُ لَهُ السَّلاَمَةَ، وَلاَ يَثْبُتُ بِهِ الْغُرُورُ؛ وَلأَِنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ يَقْبِضُ لِنَفْسِهِ (1) .

اسْتِحْقَاقُ الْمُوصَى بِهِ:
32 - تَبْطُل الْوَصِيَّةُ بِاسْتِحْقَاقِ الْمُوصَى بِهِ، فَإِنِ اسْتُحِقَّ بَعْضُهُ بَقِيَتِ الْوَصِيَّةُ فِي الْبَاقِي، لأَِنَّهَا تَبْطُل بِخُرُوجِ الْمُوصَى بِهِ عَنْ مِلْكِ الْمُوصِي، وَبِالاِسْتِحْقَاقِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَوْصَى بِمَالٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ لَهُ، وَالْوَصِيَّةُ بِمَا لاَ يَمْلِكُ بَاطِلَةٌ (2) .

اسْتِحْقَاقُ الصَّدَاقِ:
33 - يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ لاَ يَبْطُل بِاسْتِحْقَاقِ الصَّدَاقِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ شَرْطًا لِصِحَّةِ
__________
(1) الأم 3 / 257، والبحر الرائق 7 / 321 ط العلمية، والتاج والإكليل 5 / 291، والمدونة 5 / 361 نشر دار صادر، وكشاف القناع 4 / 84، وقواعد ابن رجب ص 216
(2) العناية على الهداية هامش تكملة فتح القدير 8 / 498، والشرح الكبير لابن أبي عمر 6 / 526، والمغني أعلاه 6 / 576 ط المنار الأولى، وجواهر الإكليل 2 / 318، 322

(3/234)


النِّكَاحِ. لَكِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِيمَا يَجِبُ لِلزَّوْجَةِ عِنْدَ الاِسْتِحْقَاقِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ اتِّجَاهَانِ:
الأَْوَّل: الرُّجُوعُ بِقِيمَةِ الْمُتَقَوِّمِ وَمِثْل الْمِثْلِيِّ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ مَعَهُمْ فِي الْمِثْلِيِّ مُطْلَقًا، وَفِي الْمُتَقَوِّمِ إِنْ كَانَ مُعَيَّنًا، فَإِنْ كَانَ مُتَقَوِّمًا مَوْصُوفًا رَجَعَتْ بِالْمِثْل (1) .
وَالثَّانِي: الرُّجُوعُ بِمَهْرِ الْمِثْل، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ (2) .

اسْتِحْقَاقُ الْعِوَضِ فِي الْخُلْعِ:
34 - اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الْمَشْهُورَةِ عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ لاَ يَبْطُل بِخُرُوجِ الْعِوَضِ مُسْتَحَقًّا (3) ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَجِبُ لِلزَّوْجِ عِنْدَ الاِسْتِحْقَاقِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ اتِّجَاهَانِ:
أَحَدُهُمَا: الرُّجُوعُ بِالْقِيمَةِ أَوْ بِالْمِثْل، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِتَعَذُّرِ تَسْلِيمِ الْعِوَضِ مَعَ بَقَاءِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ تَسْلِيمَهُ، وَهُوَ الْخُلْعُ إِذْ هُوَ لاَ يَقْبَل النَّقْضَ بَعْدَ تَمَامِهِ (4) . إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ قَالُوا بِالْقِيمَةِ إِنْ كَانَ الْعِوَضُ مُقَوَّمًا، وَبِالْمِثْل إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ بِوُجُوبِ الْقِيمَةِ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 350، وهامش جامع الفصولين 1 / 163، وفتح القدير 2 / 455 ط بولاق الأولى، والبدائع 5 / 378 المطبوعات العلمية، والزرقاني وعلى خليل 4 / 3، والخطاب 3 / 501، والمدونة 5 / 387 نشر دار صادر، والشرواني على التحفة 7 / 384، والجمل 3 / 98، والمغني 6 / 689 ط الرياض، ومطالب أولي النهى 3 / 188.
(2) الشرواني على التحفة 7 / 384. وشرح الروض 3 / 204، 205 ط الميمنية.
(3) فتح القدير 3 / 109، وجامع الفصولين 2 / 163، وشرح الروض 3 / 255، ومطالب أولي النهى 3 / 188
(4) فتح القدير 3 / 109، وجامع الفصولين 2 / 163

(3/234)


إِنْ كَانَ مُعَيَّنًا، فَإِنْ كَانَ مَوْصُوفًا فَفِيهِ الْمِثْل (1) .
وَالثَّانِي: بَيْنُونَةُ الْمَرْأَةِ بِمَهْرِ الْمِثْل، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ (2) ، لأَِنَّهُ الْمُرَادُ عِنْدَ فَسَادِ الْعِوَضِ.

اسْتِحْقَاقُ الأُْضْحِيَّةِ:
35 - الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الأُْضْحِيَّةَ الْمُسْتَحَقَّةَ لاَ تُجْزِئُ عَنِ الذَّابِحِ وَلاَ عَنِ الْمُسْتَحِقِّ، اسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ ضَمَّنَهُ الْمَالِكُ قِيمَتَهَا فَإِنَّهَا تُجْزِئُ عَنِ الذَّابِحِ.
وَفِي لُزُومِ الْبَدَل قَال الْحَنَفِيَّةُ، يَلْزَمُ كُلًّا مِنْهُمَا أَنْ يُضَحِّيَ عِنْدَ عَدَمِ الإِْجْزَاءِ، فَإِنْ فَاتَ وَقْتُ النَّحْرِ فَعَلَى الذَّابِحِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِقِيمَةِ شَاةٍ وَسَطٍ، وَقَال الْحَنَابِلَةُ يَلْزَمُهُ بَدَلُهَا إِنْ تَعَيَّنَتْ قَبْل الاِسْتِحْقَاقِ، وَكَانَتْ وَاجِبَةً قَبْل التَّعْيِينِ، كَأَنْ نَذَرَهَا لِلأُْضْحِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ الاِسْتِحْقَاقُ قَبْل التَّعْيِينِ فَلاَ يَلْزَمُهُ بَدَلُهَا لِعَدَمِ صِحَّةِ التَّعْيِينِ حِينَئِذٍ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: تَتَوَقَّفُ الأُْضْحِيَّةُ الْمُسْتَحَقَّةُ عَلَى إِجَازَةِ الْمُسْتَحِقِّ، فَإِنْ أَجَازَ الْبَيْعَ أَجْزَأَتْ قَطْعًا (4) .

اسْتِحْقَاقُ بَعْضِ الْمَقْسُومِ:
36 - لِلْفُقَهَاءِ فِي بُطْلاَنِ الْقِسْمَةِ وَبَقَائِهَا صَحِيحَةً - عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ بَعْضِ الْمَقْسُومِ - اتِّجَاهَاتٌ:
أ - أَوَّلُهَا: بَقَاءُ الْقِسْمَةِ صَحِيحَةً إِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ بَعْضًا مُعَيَّنًا وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ، سَوَاءٌ عِنْدَهُمْ فِي
__________
(1) الخرشي 3 / 16، والمغني 8 / 195، 202، وكشاف القناع 3 / 131، وقواعد ابن رجب ص 214
(2) شرح الروض 5 / 255
(3) البدائع 5 / 76، ونهاية المحتاج 8 / 136، وكشاف القناع 3 / 11، 12 ط مكتبة النصر.
(4) الزرقاني على خليل 3 / 43

(3/235)


ذَلِكَ كَوْنُ الْجُزْءِ الْمُسْتَحَقِّ الْمُعَيَّنِ فِي نَصِيبِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَمْ فِي نَصِيبِ كُلٍّ مِنْهُمَا، فَإِنْ كَانَ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا رَجَعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الْمُسْتَحِقِّ. وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يَرَوْنَ بَقَاءَهَا صَحِيحَةً إِنْ كَانَ الاِسْتِحْقَاقُ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ (1) .
ب - بُطْلاَنُ الْقِسْمَةِ وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ إِنْ كَانَ الاِسْتِحْقَاقُ شَائِعًا فِي الْكُل، أَوْ شَائِعًا فِي أَحَدِ الأَْنْصِبَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ. وَالْبُطْلاَنُ أَيْضًا قَوْل الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ إِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ بَعْضًا شَائِعًا؛ لأَِنَّ الْمُسْتَحَقَّ شَرِيكٌ لَهُمَا وَقَدِ اقْتَسَمَا مِنْ غَيْرِ حُضُورِهِ وَلاَ إِذْنِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ لَهُمَا شَرِيكٌ يُعَلِّمَانِهِ فَاقْتَسَمَا دُونَهُ، وَمِثْل الشَّائِعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَيْضًا الْمُعَيَّنُ الْمُسْتَحَقُّ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا فَقَطْ أَوْ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنَ الآْخَرِ؛ لأَِنَّهَا قِسْمَةٌ لَمْ تَعْدِل فِيهَا السِّهَامُ فَكَانَتْ بَاطِلَةً (2) .
ج - بُطْلاَنُ الْقِسْمَةِ فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ إِنْ كَانَ شَائِعًا وَثُبُوتُ الْخِيَارِ فِي الْبَاقِي بَيْنَ إِنْفَاذِهِ الْقِسْمَةَ أَوْ إِلْغَائِهَا. وَهُوَ أَظْهَرُ الطَّرِيقَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (3) .
د - التَّخْيِيرُ بَيْنَ التَّمَسُّكِ بِالْبَاقِي وَعَدَمِ الرُّجُوعِ بِشَيْءٍ، وَبَيْنَ رُجُوعِهِ فِيمَا بِيَدِ شَرِيكِهِ بِنِصْفِ قَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ إِنْ كَانَ قَائِمًا، وَإِلاَّ فَبِنِصْفِ قِيمَتِهِ يَوْمَ قَبْضِهِ، وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ إِنِ اسْتَحَقَّ النِّصْفَ أَوِ
__________
(1) الهداية مع نتائج الأفكار والكفاية 8 / 374 ط دار (إحياء التراث العربي، وشرح الروض 4 / 334، والمهذب 2 / 310 ط مصطفى الحلبي، والمغني 9 / 128، وقواعد ابن رجب ص 414
(2) الهداية مع نتائج الأفكار والكفاية 8 / 374، وابن عابدين 5 / 168، 169، وشرح الروض 4 / 334، والقليوبي 4 / 318، والمهذب 2 / 310، والمغني 9 / 128، وقواعد ابن رجب ص 415
(3) شرح الروض 4 / 334

(3/235)


الثُّلُثَ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ الرُّبُعَ فَلاَ خِيَارَ لَهُ وَالْقِسْمَةُ بَاقِيَةٌ لاَ تُنْقَضُ، وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ إِلاَّ بِنِصْفِ قِيمَةِ مَا اسْتَحَقَّ (1) .
هـ - التَّخْيِيرُ بَيْنَ إِبْقَاءِ الْقِسْمَةِ عَلَى حَالِهَا فَلاَ يَرْجِعُ بِشَيْءٍ وَبَيْنَ فَسْخِ الْقِسْمَةِ، وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ إِنِ اسْتَحَقَّ الأَْكْثَرَ، وَهُوَ مَا زَادَ عَنِ النِّصْفِ (2)
و التَّخَيُّرُ بَيْنَ رَدِّ الْبَاقِي وَالاِقْتِسَامِ ثَانِيًا، وَبَيْنَ الإِْبْقَاءِ عَلَى الْقِسْمَةِ وَالرُّجُوعِ عَلَى الشَّرِيكِ بِقَدْرِ مَا اسْتَحَقَّ، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ إِنِ اسْتُحِقَّ جُزْءٌ شَائِعٌ مِنْ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا وَحْدَهُ، وَتُنْتَقَضُ الْقِسْمَةُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ كَمَا تَقَدَّمَ (3) .

اسْتِحْلاَلٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - هُوَ مَصْدَرُ اسْتَحَل الشَّيْءَ: بِمَعْنَى اتَّخَذَهُ حَلاَلاً، أَوْ سَأَل غَيْرَهُ أَنْ يُحِلَّهُ لَهُ (4) وَتَحَلَّلْتُهُ وَاسْتَحْلَلْتُهُ: إِذَا سَأَلْتَهُ أَنْ يَجْعَلَكَ فِي حِلٍّ مِنْ قِبَلِهِ (5) .
وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَبِمَعْنَى اعْتِقَادِ الْحِل (6) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - الاِسْتِحْلاَل بِمَعْنَى: اعْتِبَارِ الشَّيْءِ حَلاَلاً، فَإِنْ
__________
(1) الدسوقي 3 / 514 ط دار الفكر.
(2) المرجع السابق.
(3) الكفاية مع نتائج الأفكار 8 / 374، وابن عابدين 5 / 168، 169
(4) ترتيب القاموس (حل)
(5) لسان العرب (حل)
(6) الزرقاني على خليل 8 / 65 ط دار الفكر.

(3/236)


كَانَ فِيهِ تَحْلِيل مَا حَرَّمَهُ الشَّارِعُ فَهُوَ حَرَامٌ، وَقَدْ يَكْفُرُ بِهِ إِذَا كَانَ التَّحْرِيمُ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ. فَمَنِ اسْتَحَل عَلَى جِهَةِ الاِعْتِقَادِ مُحَرَّمًا - عُلِمَ تَحْرِيمُهُ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ - دُونَ عُذْرٍ يَكْفُرُ (1) وَسَبَبُ التَّكْفِيرِ بِهَذَا أَنَّ إِنْكَارَ مَا ثَبَتَ ضَرُورَةً أَنَّهُ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ تَكْذِيبٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ ضَرَبَ الْفُقَهَاءُ أَمْثِلَةً لِذَلِكَ بِاسْتِحْلاَل الْقَتْل وَالزِّنَى (2) ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ (3) ،، وَالسِّحْرِ (4) .
وَقَدْ يَكُونُ الاِسْتِحْلاَل حَرَامًا، وَيَفْسُقُ بِهِ الْمُسْتَحِل، لَكِنَّهُ لاَ يَكْفُرُ، كَاسْتِحْلاَل الْبُغَاةِ أَمْوَال الْمُسْلِمِينَ وَدِمَاءَهُمْ. وَوَجْهُ عَدَمِ التَّكْفِيرِ أَنَّهُمْ مُتَأَوِّلُونَ. وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الْفِسْقِ بِالاِسْتِحْلاَل حِينَئِذٍ عَدَمُ قَبُول قَضَاءِ قَاضِيهِمْ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ رَأْيًا لِلْمَالِكِيَّةِ يَقْضِي بِتَعَقُّبِ أَقْضِيَتِهِمْ، فَمَا كَانَ مِنْهَا صَوَابًا نَفَذَ، وَمَا كَانَ عَلَى خِلاَفِ كَذَلِكَ رُدَّ.
وَرَدُّ شَهَادَتِهِمْ كَنَقْضِ قَضَائِهِمْ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ. وَلِتَفْصِيل هَذِهِ الأَْحْكَامِ (ر: بَغْي (5)) .
__________
(1) البحر الرائق 1 / 207 ط العلمية، والحطاب 6 / 280 ط ليبيا، ومنح الجليل 4 / 460، 463 ط ليبيا، وحاشية الشرواني على التحفة 9 / 27، 91 ط دار صادر، والمغني مع الشرح الكبير 10 / 85 ط المنار الأولى.
(2) الشرواني على التحفة 9 / 87، والمواق على خليل 6 / 280، والزرقاني على خيل 8 / 65
(3) المبسوط 24 / 2 ط دار المعرفة. والموق على خليل 6 / 280، والزرقاني على خليل 8 / 65
(4) الشرواني على التحفة 9 / 62، 87، وابن عابدين 3 / 317 ط الثالثة، والخطاب مع التاج والإكليل 6 / 280. والمغني مع الشرح الكبير 10 / 114
(5) البحر الرائق 5 / 154، ومنح الجليل 4 / 462، والدسوقي 4 / 300 ط دار الفكر، ونهاية المحتاج 8 / 9. والبجيرمي على المنهج 4 / 201 ط المكتبة الإسلامية، والمغني مع الشرح 10 / 70

(3/236)


وَأَمَّا الاِسْتِحْلاَل بِمَعْنَى: اتِّخَاذِ الشَّيْءِ حَلاَلاً. كَاسْتِحْلاَل الْفُرُوجِ بِطَرِيقِ النِّكَاحِ، فَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا، أَوْ مُبَاحًا، أَوْ مُسْتَحَبًّا.
وَأَمَّا الاِسْتِحْلاَل بِمَعْنَى: طَلَبِ جَعْل الشَّخْصِ فِي حِلٍّ فَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا، كَالاِسْتِحْلاَل مِنَ الْغِيبَةِ إِنْ عَلِمَ بِهَا الْمُغْتَابُ (1) ، وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا كَاسْتِحْلاَل الْغَاصِبِ مِنَ الْمَغْصُوبِ بَدَلاً مِنْ رَدِّ الْمَغْصُوبِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي أَحْكَامِ الْغِيبَةِ وَالْغَصْبِ.

مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - جَاءَ لَفْظُ الاِسْتِحْلاَل فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاطِنِ، كَالْقَتْل، وَحَدِّ الزِّنَى، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَالْبَغْيِ، وَالرِّدَّةِ، وَالتَّوْبَةِ، وَالْغِيبَةِ.
وَيُرْجَعُ فِي كُل مُحَرَّمٍ إِلَى مَوْطِنِهِ لِمَعْرِفَةِ حُكْمِ اسْتِحْلاَلِهِ.

اسْتِحْيَاءٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِحْيَاءُ يَأْتِي فِي اللُّغَةِ بِمَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْهَا:
أ - بِمَعْنَى الْحَيَاءِ، وَهُوَ: الاِنْزِوَاءُ وَالاِنْقِبَاضُ (2) ، وَقَيَّدَ بَعْضُهُمْ هَذَا الاِنْقِبَاضَ لِيَكُونَ اسْتِحْيَاءً بِأَنْ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 263، 264، وشرح الروض 4 / 357 ط الميمنية، ومطالب أولي النهى 6 / 210 ط المكتب الإسلامي، ومدارج السالكين 1 / 290، 291 ط السنة المحمدية.
(2) المصباح المنير.

(3/237)


يَكُونَ انْقِبَاضًا عَنِ الْقَبَائِحِ. وَقَدْ وَرَدَ الاِسْتِحْيَاءُ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي عَدَدٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، مِنْهَا قَوْلُهُ جَل شَأْنُهُ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوَك لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} (1) وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَل فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} (2) وَقَوْلُهُ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ فِي سُورَةِ الأَْحْزَابِ {وَاَللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} (3)
وَالاِسْتِحْيَاءُ - بِهَذَا الْمَعْنَى - مُرَغَّبٌ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (حَيَاء) .
ب - بِمَعْنَى الإِْبْقَاءِ عَلَى الْحَيَاةِ، فَيُقَال: اسْتَحْيَيْتُ فُلاَنًا إِذَا تَرَكْتُهُ حَيًّا وَلَمْ أَقْتُلْهُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقَصَصِ: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} (4) أَيْ يُبْقِيهِمْ أَحْيَاءً (5) .
وَاسْتَعْمَل الْفُقَهَاءُ كَلِمَةَ اسْتِحْيَاءٍ بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ، فَقَالُوا فِي الْبِكْرِ: تُسْتَأْذَنُ فِي النِّكَاحِ، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا، لأَِنَّهَا تَسْتَحْيِي مِنَ النُّطْقِ.
وَقَالُوا فِي الأَْسْرَى يَقَعُونَ فِي يَدِ الْمُسْلِمِينَ: إِنْ شَاءَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ اسْتَحْيَاهُمْ، وَإِنْ شَاءَ قَتَلَهُمْ.
وَكَثِيرًا مَا يُعَبِّرُونَ عَنِ الاِسْتِحْيَاءِ بِلَفْظِ الإِْبْقَاءِ عَلَى الْحَيَاةِ، فَيَقُولُونَ فِي الصَّغِيرِ يَأْبَى الرَّضَاعَ مِنْ غَيْرِ أُمِّهِ: تُجْبَرُ أُمُّهُ عَلَى إِرْضَاعِهِ إِبْقَاءً عَلَى حَيَاتِهِ
__________
(1) سورة القصص / 25
(2) سورة البقرة / 26
(3) سورة الأحزاب / 53
(4) سورة القصص / 4
(5) انظر في ذلك لسان العرب، ومفردات الراغب الأصفهاني، وتفسير النسفي للآية 53 من سورة الأحزاب، والآية 4 من سورة القصص.

(3/237)


الاِسْتِحْيَاءُ بِمَعْنَى إِدَامَةِ الْحَيَاةِ:

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
إِحْيَاءٌ:
2 - كَلِمَةُ " إِحْيَاءٌ " تُسْتَعْمَل فِي إِيجَادِ الْحَيَاةِ فِيمَا لاَ حَيَاةَ فِيهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاَللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} . (1)
أَمَّا كَلِمَةُ " اسْتِحْيَاءٌ " فَإِنَّهَا تُسْتَعْمَل فِي إِدَامَةِ الْحَيَاةِ الْمَوْجُودَةِ، وَعَدَمِ إِعْدَامِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الأَْمْثِلَةِ السَّابِقَةِ. فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الإِْحْيَاءَ مَسْبُوقٌ بِالْعَدَمِ، بِخِلاَفِ الاِسْتِحْيَاءِ.

صِفَتُهُ (الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ) :
3 - لاَ يُمْكِنُ اطِّرَادُ الاِسْتِحْيَاءِ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ، نَظَرًا لاِخْتِلاَفِ أَحْوَال الاِسْتِحْيَاءِ، بَل تَتَعَاقَبُهُ أَكْثَرُ الأَْحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ.
فَأَحْيَانًا يَكُونُ الاِسْتِحْيَاءُ وَاجِبًا، كَمَا هُوَ الْحَال فِي اسْتِحْيَاءِ مَنْ بَذَلْنَا لَهُ الأَْمَانَ (ر: أَمَان) ، وَاسْتِحْيَاءِ الصَّغِيرِ بِالإِْجْبَارِ عَلَى الرَّضَاعَةِ (ر: رَضَاع) ، وَاسْتِحْيَاءِ الإِْنْسَانِ الْعَاجِزِ عَنِ الْكَسْبِ، وَالْحَيَوَانِ الْمَحْبُوسِ بِالإِْنْفَاقِ عَلَيْهِ (ر: نَفَقَة) ، وَاسْتِحْيَاءِ الذَّرَارِيِّ وَالنِّسَاءِ مِنَ السَّبْيِ (ر: سَبْي) ، وَاسْتِحْيَاءِ الْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ (ر: إِجْهَاض) .
وَأَحْيَانًا يَكُونُ الاِسْتِحْيَاءُ مَكْرُوهًا، كَاسْتِحْيَاءِ الْحَيَوَانِ الْمُؤْذِي بِطَبْعِهِ. وَأَحْيَانًا يَكُونُ الاِسْتِحْيَاءُ مُحَرَّمًا، كَاسْتِحْيَاءِ مَنْ وَجَبَ قَتْلُهُ فِي حَدٍّ (ر: حَدّ) ، وَاسْتِحْيَاءِ مَا يَسْتَفِيدُ مِنْهُ جُنُودُ الْعَدُوِّ قَطْعًا فِي حَرْبِهِمْ لَنَا، كَالْحَيَوَانَاتِ
__________
(1) سورة البقرة / 28

(3/238)


الَّتِي عَجَزْنَا عَنْ حَمْلِهَا إِلَى بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ (ر: جِهَاد) .
وَأَحْيَانًا يَكُونُ الاِسْتِحْيَاءُ مُبَاحًا، كَتَخْيِيرِ الإِْمَامِ فِي أَسْرَى الْمُشْرِكِينَ بَيْنَ الْقَتْل أَوِ الْمَنِّ أَوِ الْفِدَاءِ أَوِ الاِسْتِرْقَاقِ.

الْمُسْتَحْيِي:
الْمُسْتَحْيِي: إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ نَفْسَ الْمُسْتَحْيَا (كَاسْتِحْيَاءِ الإِْنْسَانِ نَفْسَهُ) أَوْ غَيْرَهُ.

اسْتِحْيَاءُ الإِْنْسَانِ نَفْسَهُ:
4 - يَجِبُ عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَعْمَل عَلَى اسْتِحْيَاءِ نَفْسِهِ مَا اسْتَطَاعَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلاً، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا: بِدَفْعِ التَّلَفِ عَنْهَا بِإِزَالَةِ سَبَبِهِ، كَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ (1) ، وَإِطْفَاءِ الْحَرِيقِ أَوِ الْهَرَبِ مِنْهُ، كَمَا إِذَا احْتَرَقَتْ سَفِينَةٌ وَلَمْ يُمْكِنْ إِطْفَاؤُهَا، وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ رِكَابَهَا لَوْ أَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ فِي الْمَاءِ نَجَوْا، وَجَبَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ (2) .
وَلَيْسَ مِنْ هَذَا تَنَاوُل الدَّوَاءِ؛ لأَِنَّ الْمَرَضَ غَيْرُ مُفْضٍ إِلَى الْمَوْتِ حَتْمًا؛ وَلأَِنَّ الشِّفَاءَ بِتَنَاوُل الدَّوَاءِ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ (3) ، لَكِنِ التَّدَاوِي مَطْلُوبٌ شَرْعًا؛ لِحَدِيثِ تَدَاوَوْا عِبَادَ اللَّهِ (4)
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي دَفْعِ التَّلَفِ عَنْ نَفْسِهِ إِتْلاَفٌ لِلْغَيْرِ، أَوْ لِعُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، أَوْ كَانَ فِيهِ إِتْلاَفٌ لِنَفْسٍ غَيْرِ مُحْتَرَمَةٍ وَجَبَ عَلَيْهِ اسْتِحْيَاءُ نَفْسِهِ، كَمَا
__________
(1) حاشية عميرة 4 / 207. والمبسوط 30 / 265 و271 ط دار المعرفة.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 361
(3) الفتاوى الهندية 5 / 254 طبع بولاق.
(4) حديث (تداووا عباد الله) أخرجه الترمذي (6 / 190 تحفة الأحوذي نشر السلفية) وقال: حسن صحيح.

(3/238)


هُوَ الْحَال فِي طَلَبِ الزَّادِ مِمَّنْ هُوَ مَعَهُ وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ، أَوْ فِي دَفْعِ الصَّائِل عَلَى النَّفْسِ (1) .
وَإِنْ كَانَ فِي إِحْيَاءِ نَفْسِهِ إِتْلاَفٌ لِنَفْسٍ مُحْتَرَمَةٍ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ الإِْقْدَامُ عَلَى هَذَا الإِْتْلاَفِ إِحْيَاءً لِنَفْسِهِ؛ لأَِنَّ الضَّرَرَ لاَ يُزَال بِضَرَرٍ مِثْلِهِ.
ثَانِيهُمَا: عَدَمُ الإِْقْدَامِ عَلَى إِمَاتَةِ نَفْسِهِ بِشَكْلٍ مُبَاشِرٍ أَوْ غَيْرِ مُبَاشِرٍ، أَمَّا إِمَاتَةُ نَفْسِهِ بِشَكْلٍ مُبَاشِرٍ كَمَا إِذَا بَعَجَ بَطْنَهُ بِحَدِيدَةٍ، أَوْ أَلْقَى نَفْسَهُ مِنْ شَاهِقٍ لِيَمُوتَ، فَمَاتَ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، يَتَرَدَّى خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَسُمُّهُ بِيَدِهِ، يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ وَجَأَ بَطْنَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ، يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا (2) وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، أَوْ كِتَابِ الْحَظْرِ وَالإِْبَاحَةِ، عِنْدَ كَلاَمِهِمْ عَلَى الاِنْتِحَارِ (ر: انْتِحَار) .
وَأَمَّا إِمَاتَةُ نَفْسِهِ بِشَكْلٍ غَيْرِ مُبَاشِرٍ، كَمَا إِذَا اقْتَحَمَ عَدُوًّا، أَوْ مَجْمُوعَةً مِنَ اللُّصُوصِ، وَهُوَ مُوقِنٌ أَنَّهُ مَقْتُولٌ لاَ مَحَالَةَ، دُونَ أَنْ يَقْتُل مِنْهُمْ أَحَدًا، أَوْ يُوقِعَ فِيهِمْ نِكَايَةً، أَوْ يُؤَثِّرَ فِيهِمْ أَثَرًا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ؛ لأَِنَّ هَذَا إِلْقَاءٌ لِلنَّفْسِ فِي التَّهْلُكَةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُول: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (3) ، وَمَحَل تَفْصِيل ذَلِكَ كِتَابُ الْجِهَادِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ (ر: جِهَاد) .
5 - وَاسْتِحْيَاءُ نَفْسِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى اسْتِحْيَاءِ غَيْرِهِ؛ لأَِنَّ
__________
(1) المغني 8 / 328
(2) حديث (من تردى. . .) أخرجه مسلم 1 / 103 - 104 ط عيسى الحلبي.
(3) سورة البقرة / 195، وانظر تفسبر القرطبي لهذه الآية الكريمة 2 / 363 - 364 طبع دار الكتب المصربة.

(3/239)


حُرْمَةَ نَفْسِهِ عَلَيْهِ فَوْقَ حُرْمَةِ نَفْسٍ أُخْرَى (1) ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ مَنْ قَتَل نَفْسَهُ كَانَ إِثْمُهُ أَكْثَرَ مِمَّنْ قَتَل غَيْرَهُ (2) ، وَمِنْ هُنَا قَرَّرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْمَرْءَ يُكَلَّفُ بِالإِْنْفَاقِ عَلَى نَفْسِهِ أَوَّلاً، ثُمَّ عَلَى غَيْرِهِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي النَّفَقَاتِ (ر: نَفَقَة) ، وَكَمَنْ اضْطُرَّ إِلَى طَعَامِ غَيْرِهِ اسْتِحْيَاءً لِنَفْسِهِ، وَصَاحِبُ الطَّعَامِ مُضْطَرٌّ لِطَعَامِهِ اسْتِحْيَاءً لِنَفْسِهِ أَيْضًا، فَصَاحِبُ الطَّعَامِ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِهِ (3) .

اسْتِحْيَاءُ الإِْنْسَانِ غَيْرَهُ:
6 - يُشْتَرَطُ فِي الْمُسْتَحْيِي لِغَيْرِهِ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ الاِسْتِحْيَاءُ مَا يَلِي:
1 - أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَحْيِي مُكَلَّفًا عَالِمًا بِحَاجَةِ الْمُسْتَحْيَا إِلَى الاِسْتِحْيَاءِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَثْبُتُ الْوُجُوبُ عَلَى غَيْرِ الْمُكَلَّفِ.
2 - أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الاِسْتِحْيَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لاَ يُكَلَّفُ بِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (4) ، قَال فِي الْمُغْنِي: " كُل مَنْ رَأَى إِنْسَانًا فِي مُهْلِكَةٍ فَلَمْ يُنَجِّهِ مِنْهَا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهُ وَقَدْ أَسَاءَ " وَقَال أَبُو الْخَطَّابِ: يَضْمَنُهُ لأَِنَّهُ لَمْ يُنَجِّهِ مِنَ الْهَلاَكِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ مَنَعَهُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ (5) ، فَالْخِلاَفُ وَاقِعٌ فِي الضَّمَانِ، لاَ فِي الاِسْتِحْيَاءِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْجِنَايَاتِ (ر: جِنَايَة) .
فَإِذَا تَحَقَّقَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ فِي مَجْمُوعَةٍ مِنَ النَّاسِ
__________
(1) المبسوط 30 / 270
(2) الفتاوى الهندية 5 / 361
(3) المغني 8 / 834
(4) سورة البقرة 286
(5) الفروق للقرافي 2 / 56 طبع دار المعرفة.

(3/239)


وَجَبَ الاِسْتِحْيَاءُ عَلَى الأَْقْرَبِ مِنْهُمْ إِلَى الْمُسْتَحْيَا فَالأَْقْرَبِ، عَلَى حَسَبِ تَرْتِيبِهِمْ فِي النَّفَقَةِ (ر: نَفَقَة) .
فَإِذَا امْتَنَعَ أَحَدُهُمْ عَنْ الاِسْتِحْيَاءِ انْتَقَل الْوُجُوبُ إِلَى مَنْ يَلِيهِ، إِنْ كَانَ الْوَقْتُ لاَ يَتَّسِعُ إِلَى إِجْبَارِهِ عَلَى الاِسْتِحْيَاءِ، وَكَذَا إِنِ اخْتَل فِيهِ شَرْطٌ مِنَ الشُّرُوطِ السَّابِقَةِ، إِلَى أَنْ يَصِل الْوُجُوبُ إِلَى مَنْ عَلِمَ مِنَ النَّاسِ.

الْمُسْتَحْيَا:
7 - يُشْتَرَطُ فِي الْمُسْتَحْيَا حَتَّى يَجِبَ اسْتِحْيَاؤُهُ أَنْ يَكُونَ ذَا حَيَاةٍ مُحْتَرَمَةٍ - سَوَاءٌ أَكَانَ إِنْسَانًا أَمْ حَيَوَانًا - وَتَبْدَأُ الْحَيَاةُ الْمُحْتَرَمَةُ بِنَفْخِ الرُّوحِ فِي الْجَنِينِ بِلاَ خِلاَفٍ (1) . وَفِي ابْتِدَائِهَا قَبْل نَفْخِ الرُّوحِ خِلاَفٌ (2) . (ر: إِجْهَاض) .
وَتُهْدَرُ هَذِهِ الْحُرْمَةُ لِلْحَيَاةِ وَيَسْقُطُ وُجُوبُ الاِسْتِحْيَاءِ بِمَا يَلِي:
أ - بِإِهْدَارِ اللَّهِ تَعَالَى لَهَا أَصْلاً، كَمَا هُوَ الْحَال فِي إِهْدَارِ حُرْمَةِ حَيَاةِ الْخِنْزِيرِ.
ب - أَوْ بِتَصَرُّفِهِ تَصَرُّفًا اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ مُوجِبًا لإِِهْدَارِ دَمِهِ، كَقِتَال الْمُسْلِمِينَ (ر: بَغْي) (وَجِهَاد) وَالْقَتْل (ر: جِنَايَة) وَالرِّدَّةِ (ر: رِدَّة) وَزِنَى الْمُحْصَنِ (ر: إِحْصَان) وَالسِّحْرِ عِنْدَ الْبَعْضِ (رَ: سِحْرٍ) .
__________
(1) البحر الرائق 8 / 33 طبع المطبعة العلمية، وحاشية الرهوني على الزرقاني 3 / 264 طبع بولاق، وحاشية الجمل على شرح المنهاج 5 / 490 طبع المطبعة الميمنية، والمغني 8 / 418 طبع مكتبة القاهرة.
(2) البحر الرائق 8 / 233، وحاشية الدسوقي 2 / 266 طبع عيسى البابي الحلبي، وحاشية الرهوني على الزرقاني 3 / 263، وبداية المجتهد 2 / 453 طبع مكتبة الكليات الأزهرية سنة 1386 هـ.

(3/240)


ج - أَوْ بِالضَّرَرِ، بِأَصْل خِلْقَتِهِ، كَالْحَيَوَانَاتِ الْمُؤْذِيَةِ بِأَصْل خِلْقَتِهَا، كَالْخَمْسِ الْفَوَاسِقِ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ: الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ (1) وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ السَّبُعُ الْعَادِي (الْمُتَعَدِّي) وَنَحْوَ ذَلِكَ.
د - أَوْ بِالضَّرَرِ وُقُوعًا إِذَا لَمْ يُمْكِنْ دَفْعُ ضَرَرِهِ إِلاَّ بِقَتْلِهِ، كَالصَّائِل مِنَ الْحَيَوَانِ وَالإِْنْسَانِ.

وَسَائِل الاِسْتِحْيَاءِ:
8 - لاَ تَخْرُجُ وَسَائِل الاِسْتِحْيَاءِ عَنْ كَوْنِهَا عَمَلاً، أَوِ امْتِنَاعًا عَنْ عَمَلٍ:
أ - أَمَّا الْعَمَل، فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ تَعْتَبِرُ كُل عَمَلٍ مَشْرُوعًا - عَدَا قَتْل الْبَرِيءِ - إِذَا تَعَيَّنَ لاِسْتِحْيَاءِ نَفْسٍ مُشْرِفَةٍ عَلَى الْهَلاَكِ، سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْعَمَل مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ كَإِنْقَاذِ الْغَرِيقِ، أَوْ بَذْل الطَّعَامِ أَوِ الشَّرَابِ لِلْمُضْطَرِّ إِلَيْهِ. أَوْ تَمْدِيدِ إِجَارَةِ السَّفِينَةِ الَّتِي انْتَهَتْ مُدَّةُ إِجَارَتِهَا وَهِيَ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ (ر: إِجَارَة) ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَمْ كَانَ مُحَرَّمًا بِأَصْلِهِ كَأَكْل الْمَيْتَةِ مِنْ مَخْمَصَةٍ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ لِدَفْعِ غُصَّةٍ، وَالْكَذِبِ لِدَفْعِ ظَالِمٍ عَنْ بَرِيءٍ يُرِيدُ قَتْلَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ (2) .
ب - أَمَّا الاِمْتِنَاعُ عَنْ عَمَلٍ، كَالاِمْتِنَاعِ عَنْ قَتْل النَّفْسِ، وَالاِمْتِنَاعِ عَنْ قَتْل الْغَيْرِ فَهُوَ وَاجِبٌ.
__________
(1) حديث خمس من الدواب. . .) أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 34 ط السلفية) في الحج باب ما يقتله المحرم من الدواب، ومسلم 2 / 858 ط عيسى الحلبي في الحج باب ما يندب للمحرم وغيره قتله، وأبو داود (عون المعبود 2 / 108 ط المطبعة الأنصارية) .
(2) البحر الرائق 8 / 233، وحاشية ابن عابدين 1 / 602

(3/240)


الإِْجْبَارُ عَلَى الاِسْتِحْيَاءِ:
9 - إِذَا تَعَيَّنَ وُجُوبُ الاِسْتِحْيَاءِ أُجْبِرَ عَلَيْهِ عِنْدَ تَوَفُّرِ الشُّرُوطِ السَّابِقَةِ وَتَعَيَّنَ لِذَلِكَ، كَمَا إِذَا رَفَضَ الصَّغِيرُ الرَّضَاعَ مِنْ ثَدْيٍ غَيْرِ ثَدْيِ أُمِّهِ، فَإِنَّهَا تُجْبَرُ عَلَى إِرْضَاعِهِ اسْتِحْيَاءً لَهُ. (ر: رَضَاع) .

وُجُوبُ الاِسْتِحْيَاءِ فِي الزَّمَنِ الَّذِي يَتَّسِعُ لَهُ:
10 - يَجِبُ الاِسْتِحْيَاءُ فِي الزَّمَنِ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَتَحَقَّقَ بِهِ الاِسْتِحْيَاءُ، وَأَوَّلُهُ وَقْتُ الْحَاجَةِ إِلَى الاِسْتِحْيَاءِ، وَآخِرُهُ هُوَ الْفَرَاغُ مِنَ الاِسْتِحْيَاءِ، فَإِنْقَاذُ الْغَرِيقِ حَدَّدَ لَهُ الشَّرْعُ الزَّمَانَ، فَأَوَّلُهُ: مَا يَلِي زَمَنَ السُّقُوطِ، وَآخِرُهُ الْفَرَاغُ مِنْ إِنْقَاذِهِ (1) .

اسْتِخَارَةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِخَارَةُ لُغَةً: طَلَبُ الْخِيَرَةِ فِي الشَّيْءِ. يُقَال: اسْتَخِرِ اللَّهَ يَخِرْ لَكَ (2) . وَفِي الْحَدِيثِ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا الاِسْتِخَارَةَ فِي الأُْمُورِ كُلِّهَا. (3)
وَاصْطِلاَحًا: طَلَبُ الاِخْتِيَارِ. أَيْ طَلَبُ صَرْفِ الْهِمَّةِ لِمَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ اللَّهِ وَالأَْوْلَى، بِالصَّلاَةِ، أَوِ
__________
(1) الفروق للقرافي 2 / 56
(2) لسان العرب 5 / 351
(3) حديث: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها. . . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 183 ط السلفية) ، والنسائي 6 / 80، 81 ط المكتبة التجارية.

(3/241)


الدُّعَاءِ الْوَارِدِ فِي الاِسْتِخَارَةِ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الطِّيَرَةُ:
2 - الطِّيَرَةُ مَا يُتَشَاءَمُ بِهِ مِنَ الْفَأْل الرَّدِيءِ (2) ، وَفِي الْحَدِيثِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الْفَأْل، وَيَكْرَهُ الطِّيَرَةَ. (3)
ب - الْفَأْل:
3 - الْفَأْل مَا يُسْتَبْشَرُ بِهِ، كَأَنْ يَكُونَ مَرِيضًا فَيَسْمَعُ مَنْ يَقُول: يَا سَالِمُ، أَوْ يَكُونَ طَالِبًا فَيَسْمَعُ مَنْ يَقُول: يَا وَاجِدُ (4) ، وَفِي الْحَدِيثِ: كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الْفَأْل (5)
ج - الرُّؤْيَا:
4 - الرُّؤْيَا بِالضَّمِّ مَهْمُوزًا، وَقَدْ يُخَفَّفُ: مَا رَأَيْتَهُ فِي مَنَامِكَ (6) .

د - الاِسْتِقْسَامُ:
5 - الاِسْتِقْسَامُ بِالأَْزْلاَمِ: هُوَ ضَرْبٌ بِالْقِدَاحِ لِيَخْرُجَ لَهُ قَدَحٌ مِنْهَا يَأْتَمِرُ بِمَا كُتِبَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَْزْلاَمِ} . (7)
هـ - الاِسْتِفْتَاحُ:
6 - الاِسْتِفْتَاحُ: طَلَبُ النَّصْرِ (8) وَفِي الْحَدِيثِ:
__________
(1) العدوي على الخرشي 1 / 36
(2) الصحاح 2 / 728، والقرطبي 5 1 / 16
(3) حديث: " كان يحب الفأل ويكره الطيرة. . . . " أخرجه أحمد 2 / 332 ط الميمنية، وابن ماجه 2 / 1170 ط عيسى الحلبي. وقال البوصيري: " إسناد. صحيح، ورجاله ثقات.
(4) الصحاح 5 / 1788
(5) تقدم تخريجه في فقرة (2)
(6) تاج العروس 10 / 139
(7) لسان العرب 12 / مادة (قسم) ، والآية من سورة المائدة / 3
(8) تاج العروس 2 / 194 ط ليبيا.

(3/241)


كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَفْتِحُ وَيَسْتَنْصِرُ بِصَعَالِيكِ الْمُسْلِمِينَ (1) وَبَعْضُ النَّاسِ قَدْ يَسْتَفْتِحُ وَيَسْتَطْلِعُ الْغَيْبَ مِنَ الْمُصْحَفِ أَوِ الرَّمْل أَوِ الْقُرْعَةِ (2) ، وَهَذَا لاَ يَجُوزُ لِحُرْمَتِهِ. قَال الطُّرْطُوشِي وَأَبُو الْحَسَنِ الْمَغْرِبِيُّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ: هُوَ مِنَ الأَْزْلاَمِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ لأَِحَدٍ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلْغَيْبِ وَيَطْلُبَهُ؛ لأَِنَّ اللَّهَ قَدْ رَفَعَهُ بَعْدَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلاَّ فِي الرُّؤْيَا (3) .

صِفَتُهَا (حُكْمُهَا التَّكْلِيفِيُّ) :
7 - أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الاِسْتِخَارَةَ سُنَّةٌ، وَدَلِيل مَشْرُوعِيَّتِهَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا الاِسْتِخَارَةَ فِي الأُْمُورِ كُلِّهَا، كَالسُّورَةِ مِنَ الْقُرْآنِ: إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَْمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ يَقُول: إِلَخْ (4) ، وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ اسْتِخَارَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَل. (5)
__________
(1) حديث: " كان صلى الله عليه وسلم يستفتح ويستنصر بصعاليك المسلمين " أخرجه ابن أبي شيبة، والطبراني كما في فيض القدير (5 / 219 - ط المكتبة التجارية) وحكم عليه المناوي بالإرسال.
(2) المراد بالقرعة المحرمة هنا هي التي يقصد بها معرفة الغيب، بمعنى أن تستعمل ليعلم أفي هذا الأمر خير لي أم شر؟ أأخرج أم لا؟ أما القرعة التي تستعمل في تمييز الأنصباء في القسمة وأشباهها فهي جائزة. ولتفصيل ذلك انظر مصطلح (قرعة) .
(3) الرهوني 3 / 36، 37 ط بولاق.
(4) حديث: " إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين. . . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 183 - ط السلفية) ، والنسائي (6 / 80 - 81 - ط المكتبة التجارية) وانظر ابن عابدين 1 / 643 ط الثالثة، والمجموع 4 / 54 ط المطبعة المنيرية، وانظر تكملة الحديث في فقرة (16)
(5) حديث: " من سعادة ابن آدم استخارته لله عز وجل. . . " أخرجه أحمد (1 / 168 - ط الميمنية) وإسناده ضعيف كما في المسند (3 / 28 ط دار المعارف) .

(3/242)


حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّتِهَا:
8 - حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الاِسْتِخَارَةِ، هِيَ التَّسْلِيمُ لأَِمْرِ اللَّهِ، وَالْخُرُوجُ مِنَ الْحَوْل وَالطَّوْل، وَالاِلْتِجَاءُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ. لِلْجَمْعِ بَيْنَ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ. وَيَحْتَاجُ فِي هَذَا إِلَى قَرْعِ بَابِ الْمَلِكِ، وَلاَ شَيْءَ أَنْجَعُ لِذَلِكَ مِنَ الصَّلاَةِ وَالدُّعَاءِ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَالاِفْتِقَارِ إِلَيْهِ قَالاً وَحَالاً (1) .

سَبَبُهَا (مَا يَجْرِي فِيهِ الاِسْتِخَارَةُ) :
9 - اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ الأَْرْبَعَةُ عَلَى أَنَّ الاِسْتِخَارَةَ تَكُونُ فِي الأُْمُورِ الَّتِي لاَ يَدْرِي الْعَبْدُ وَجْهَ الصَّوَابِ فِيهَا، أَمَّا مَا هُوَ مَعْرُوفٌ خَيْرَهُ أَوْ شَرَّهُ كَالْعِبَادَاتِ وَصَنَائِعِ الْمَعْرُوفِ وَالْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ فَلاَ حَاجَةَ إِلَى الاِسْتِخَارَةِ فِيهَا، إِلاَّ إِذَا أَرَادَ بَيَانَ خُصُوصِ الْوَقْتِ كَالْحَجِّ مَثَلاً فِي هَذِهِ السُّنَّةِ؛ لاِحْتِمَال عَدُوٍّ أَوْ فِتْنَةٍ، وَالرُّفْقَةِ فِيهِ، أَيُرَافِقُ فُلاَنًا أَمْ لاَ؟ (2)
وَعَلَى هَذَا فَالاِسْتِخَارَةُ لاَ مَحَل لَهَا فِي الْوَاجِبِ وَالْحَرَامِ وَالْمَكْرُوهِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ فِي الْمَنْدُوبَاتِ وَالْمُبَاحَاتِ. وَالاِسْتِخَارَةُ فِي الْمَنْدُوبِ لاَ تَكُونُ فِي أَصْلِهِ؛ لأَِنَّهُ مَطْلُوبٌ، وَإِنَّمَا تَكُونُ عِنْدَ التَّعَارُضِ، أَيْ إِذَا تَعَارَضَ عِنْدَهُ أَمْرَانِ أَيُّهُمَا يَبْدَأُ بِهِ أَوْ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ؟
أَمَّا الْمُبَاحُ فَيُسْتَخَارُ فِي أَصْلِهِ. وَهَل يَسْتَخِيرُ فِي مُعَيَّنٍ أَوْ مُطْلَقٍ؟ اخْتَارَ بَعْضُهُمُ الأَْوَّل؛ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ. لأَِنَّ فِيهِ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَْمْرَ
__________
(1) العدوي على الخرشي 1 / 36، 37 ط الشرقية بمصر.
(2) العدوي على الخرشي 1 / 36، 37 ط الشرقية بمصر.

(3/242)


إِلَخْ، وَاخْتَارَ ابْنُ عَرَفَةَ الثَّانِيَ، وَقَال الشَّعْرَانِيُّ: وَهُوَ أَحْسَنُ، وَقَدْ جَرَّبْنَاهُ فَوَجَدْنَاهُ صَحِيحًا (1) .

مَتَى يَبْدَأُ الاِسْتِخَارَةَ؟
10 - يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَخِيرُ خَالِيَ الذِّهْنِ، غَيْرَ عَازِمٍ عَلَى أَمْرٍ مُعَيَّنٍ، فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ: " إِذَا هَمَّ " يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الاِسْتِخَارَةَ تَكُونُ عِنْدَ أَوَّل مَا يَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ، فَيَظْهَرُ لَهُ بِبَرَكَةِ الصَّلاَةِ وَالدُّعَاءِ مَا هُوَ الْخَيْرُ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا تَمَكَّنَ الأَْمْرُ عِنْدَهُ، وَقَوِيَتْ فِيهِ عَزِيمَتُهُ وَإِرَادَتُهُ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ إِلَيْهِ مَيْلٌ وَحُبٌّ، فَيَخْشَى أَنْ يَخْفَى عَنْهُ الرَّشَادُ؛ لِغَلَبَةِ مَيْلِهِ إِلَى مَا عَزَمَ عَلَيْهِ.
وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْهَمِّ الْعَزِيمَةَ؛ لأَِنَّ الْخَاطِرَ لاَ يَثْبُتُ فَلاَ يَسْتَمِرُّ إِلاَّ عَلَى مَا يَقْصِدُ التَّصْمِيمَ عَلَى فِعْلِهِ مِنْ غَيْرِ مَيْلٍ. وَإِلاَّ لَوِ اسْتَخَارَ فِي كُل خَاطِرٍ لاَسْتَخَارَ فِيمَا لاَ يَعْبَأُ بِهِ، فَتَضِيعُ عَلَيْهِ أَوْقَاتُهُ (2) . وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَمْرًا فَلْيَقُل. . " (3)

الاِسْتِشَارَةُ قَبْل الاِسْتِخَارَةِ:
11 - قَال النَّوَوِيُّ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَشِيرَ قَبْل الاِسْتِخَارَةِ مَنْ يَعْلَمُ مَنْ حَالِهِ النَّصِيحَةَ وَالشَّفَقَةَ
__________
(1) العدوي على الخرشي 1 / 36، وكشاف القناع 1 / 408 والطحطاوي على مراقي الفلاح ص 217
(2) العدوي على الخرشي 1 / 37، وكشاف القناع ص 408 ط أنصار السنة المحمدية، وفتح الباري 11 / 154، والطحطاوي على مراقي الفلاح ص 217
(3) حديث أبي سعيد: " إذا أراد أحدكم أمرا فليقل. . . " أخرجه ابن حبان (مورد الظمآن ص 177 - ط السلفية) وأبو يعلى. كما في مجمع الزوائد (2 / 281 - ط القدسي) قال الهيثمي: " رجاله موثقون " وأخرجه الطبراني وصححه الحاكم (فتح الباري 11 / 153، 154)

(3/243)


وَالْخِبْرَةَ، وَيَثِقُ بِدِينِهِ وَمَعْرِفَتِهِ. قَال تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَْمْرِ} (1) وَإِذَا اسْتَشَارَ وَظَهَرَ أَنَّهُ مَصْلَحَةٌ، اسْتَخَارَ اللَّهَ تَعَالَى فِي ذَلِكَ.
قَال ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْثَمِيُّ: حَتَّى عِنْدَ التَّعَارُضِ (أَيْ تَقَدُّمِ الاِسْتِشَارَةِ) لأَِنَّ الطُّمَأْنِينَةَ إِلَى قَوْل الْمُسْتَشَارِ أَقْوَى مِنْهَا إِلَى النَّفْسِ لِغَلَبَةِ حُظُوظِهَا وَفَسَادِ خَوَاطِرِهَا. وَأَمَّا لَوْ كَانَتْ نَفْسُهُ مُطْمَئِنَّةً صَادِقَةً إِرَادَتُهَا مُتَخَلِّيَةً عَنْ حُظُوظِهَا، قَدَّمَ الاِسْتِخَارَةَ (2)

كَيْفِيَّةُ الاِسْتِخَارَةِ:
12 - وَرَدَ فِي الاِسْتِخَارَةِ حَالاَتٌ ثَلاَثٌ:
الأُْولَى: وَهِيَ الأَْوْفَقُ، وَاتَّفَقَتْ عَلَيْهَا الْمَذَاهِبُ الأَْرْبَعَةُ، تَكُونُ بِرَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ بِنِيَّةِ الاِسْتِخَارَةِ، ثُمَّ يَكُونُ الدُّعَاءُ الْمَأْثُورُ بَعْدَهَا.
الثَّانِيَةُ: قَال بِهَا الْمَذَاهِبُ الثَّلاَثَةُ: الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، تَجُوزُ بِالدُّعَاءِ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ صَلاَةٍ (3) ، إِذَا تَعَذَّرَتِ الاِسْتِخَارَةُ بِالصَّلاَةِ وَالدُّعَاءِ مَعًا.
الثَّالِثَةُ: وَلَمْ يُصَرِّحْ بِهَا غَيْرَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، فَقَالُوا: تَجُوزُ بِالدُّعَاءِ عَقِبَ أَيِّ صَلاَةٍ كَانَتْ مَعَ نِيَّتِهَا، وَهُوَ أَوْلَى، أَوْ بِغَيْرِ نِيَّتِهَا كَمَا فِي تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ (4) .
وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ قُدَامَةَ إِلاَّ الْحَالَةَ الأُْولَى، وَهِيَ الاِسْتِخَارَةُ بِالصَّلاَةِ وَالدُّعَاءِ (5) .
__________
(1) سورة آل عمران / 159
(2) الفتوحات الربانية على الأذكار 3 / 94، 95 ط المكتبة الإسلامية.
(3) ابن عابدين 1 / 643، وحاشية العدوي والخرشي 1 / 38، والفتوحات الربانية 3 / 348
(4) العدوي على الحرشي 1 / 37، والفتوحات 3 / 348
(5) المغني 1 / 769

(3/243)


وَإِذَا صَلَّى الْفَرِيضَةَ أَوِ النَّافِلَةَ، نَاوِيًا بِهَا الاِسْتِخَارَةَ، حَصَل لَهُ بِهَا فَضْل سُنَّةِ صَلاَةِ الاِسْتِخَارَةِ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ النِّيَّةُ؛ لِيَحْصُل الثَّوَابُ قِيَاسًا عَلَى تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَعَضَّدَ هَذَا الرَّأْيَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْثَمِيُّ، وَقَدْ خَالَفَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي ذَلِكَ وَنَفَوْا حُصُول الثَّوَابِ (1) وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقْتُ الاِسْتِخَارَةِ:
13 - أَجَازَ الْقَائِلُونَ بِحُصُول الاِسْتِخَارَةِ بِالدُّعَاءِ فَقَطْ وُقُوعَ ذَلِكَ فِي أَيِّ وَقْتٍ مِنَ الأَْوْقَاتِ؛ لأَِنَّ الدُّعَاءَ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهُ فِي جَمِيعِ الأَْوْقَاتِ (2) .
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الاِسْتِخَارَةُ بِالصَّلاَةِ وَالدُّعَاءِ فَالْمَذَاهِبُ الأَْرْبَعَةُ تَمْنَعُهَا فِي أَوْقَاتِ الْكَرَاهَةِ. نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ صَرَاحَةً عَلَى الْمَنْعِ (3) غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ أَبَاحُوهَا فِي الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ فِي أَوْقَاتِ الْكَرَاهَةِ، قِيَاسًا عَلَى رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ (4) . لِمَا رُوِيَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى فِي أَيِّ سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ. (5)
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (6) فَلِعُمُومِ الْمَنْعِ عِنْدَهُمْ.
__________
(1) الفتوحات الربانية 1 / 348، 354
(2) الخرشي والعدوي على الخرشي 1 / 38
(3) حاشية العدوي على الخرشي 1 / 37، والفتوحات الربانية على الأذكار 3 / 348
(4) المغني 1 / 747، والطحطاوي على مراقي الفلاح ص 101
(5) حديث " يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا الببت. . . " أخرجه الترمذي (3 / 220 - ط عيسي الحلبي) وقال: " حسن صحيح " وابن ماجه (1 / 398 - ط عيسى الحلبي)
(6) المغني 1 / 747 ط المنار، والطحطاوي على مراقي الفلاح ص 101

(3/244)


فَهُمْ يَمْنَعُونَ صَلاَةَ النَّفْل فِي أَوْقَاتِ الْكَرَاهَةِ، لِعُمُومِ أَحَادِيثِ النَّهْيِ، وَمِنْهَا:
رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَال: شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ، وَأَرْضَاهُمْ عِنْدِي عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَشْرُقَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ. (1)
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ قَال: قُلْتُ يَا رَسُول اللَّهِ: أَخْبِرْنِي عَنِ الصَّلاَةِ. قَال: صَل صَلاَةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ اقْصِرْ عَنِ الصَّلاَةِ حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ حَتَّى تَرْتَفِعَ، فَإِنَّهَا تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ، ثُمَّ صَل فَإِنَّ الصَّلاَةَ مَحْضُورَةٌ مَشْهُودَةٌ حَتَّى يَسْتَقِل الظِّل بِالرُّمْحِ، ثُمَّ اقْصِرْ عَنِ الصَّلاَةِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ، فَإِذَا أَقْبَل الْفَيْءُ فَصَل، فَإِنَّ الصَّلاَةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى تُصَلِّيَ الْعَصْرَ، ثُمَّ اقْصِرْ عَنِ الصَّلاَةِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَإِنَّهَا تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ (2)

كَيْفِيَّةُ صَلاَةِ الاِسْتِخَارَةِ:
14 - اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ عَلَى أَنَّ الأَْفْضَل فِي صَلاَةِ الاِسْتِخَارَةِ أَنْ تَكُونَ رَكْعَتَيْنِ. وَلَمْ يُصَرِّحِ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا، أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَأَجَازُوا أَكْثَرَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ، وَاعْتَبَرُوا التَّقْيِيدَ بِالرَّكْعَتَيْنِ لِبَيَانِ أَقَل مَا يَحْصُل بِهِ. (3)
__________
(1) حديث: " نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس. . . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 58 - ط السلفية) ومسلم (1 / 566 - ط عيسى الحلبي) برواية أبي هريرة وروي بنحوه عن عمرو بن عبسه (تلخيص الحبير 1 / 185) .
(2) حديث عمرو بن عبسه " صل صلاة الصبح، ثم أقصر عن الصلاة. . . " أخرجه مسلم 1 / 570 ط عيسى الحلبي.
(3) الفتوحات الربانية 3 / 348

(3/244)


الْقِرَاءَةُ فِي صَلاَةِ الاِسْتِخَارَةِ:
15 - فِيمَا يَقْرَأُ فِي صَلاَةِ الاِسْتِخَارَةِ ثَلاَثَةُ آرَاءٍ:
أ - قَال الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ (1) : يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى بَعْدَ الْفَاتِحَةِ {قُل يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وَفِي الثَّانِيَةِ {قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . وَذَكَر النَّوَوِيُّ تَعْلِيلاً لِذَلِكَ فَقَال: نَاسَبَ الإِْتْيَانُ بِهِمَا فِي صَلاَةٍ يُرَادُ مِنْهَا إِخْلاَصُ الرَّغْبَةِ وَصِدْقُ التَّفْوِيضِ وَإِظْهَارُ الْعَجْزِ، وَأَجَازُوا أَنْ يُزَادَ عَلَيْهِمَا مَا وَقَعَ فِيهِ ذِكْرُ الْخِيَرَةِ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.
ب - وَاسْتَحْسَنَ بَعْضُ السَّلَفِ أَنْ يَزِيدَ فِي صَلاَةِ الاِسْتِخَارَةِ عَلَى الْقِرَاءَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَهُوَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُْولَى وَالآْخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . (2) فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى، وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَل ضَلاَلاً مُبِينًا} (3)
ج - أَمَّا الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ فَلَمْ يَقُولُوا بِقِرَاءَةٍ مُعَيَّنَةٍ فِي صَلاَةِ الاِسْتِخَارَةِ (4) .
__________
(1) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص / 217، وابن عابدين 1 / 642، والفتوحات الربانية 3 / 354، والعدوي على الخرشي 1 / 38
(2) سورة القصص / 68، 70
(3) سورة الأحزاب / 36
(4) المغني 1 / 763

(3/245)


دُعَاءُ الاِسْتِخَارَةِ:
16 - رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا الاِسْتِخَارَةَ فِي الأُْمُورِ كُلِّهَا، كَالسُّورَةِ مِنَ الْقُرْآنِ إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَْمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيُقَل: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِك الْعَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ. اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَْمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قَال عَاجِل أَمْرِي وَآجِلِهِ - فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَْمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قَال عَاجِل أَمْرِي وَآجِلِهِ - فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ. وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ. قَال: وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ. (1)
قَال الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ افْتِتَاحُ الدُّعَاءِ الْمَذْكُورِ وَخَتْمُهُ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ وَالصَّلاَةِ وَالتَّسْلِيمِ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .

اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ فِي الدُّعَاءِ:
17 - يَسْتَقْبِل الْقِبْلَةَ فِي دُعَاءِ الاِسْتِخَارَةِ رَافِعًا يَدَيْهِ مُرَاعِيًا جَمِيعَ آدَابِ الدُّعَاءِ (3) .

مَوْطِنُ دُعَاءِ الاِسْتِخَارَةِ:
18 - قَال الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ: يَكُونُ الدُّعَاءُ عَقِبَ الصَّلاَةِ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ
__________
(1) تقدم تخريجه في هامش فقرة (7)
(2) ابن عابدين 1 / 643، والفتوحات الربانية والأذكار 3 / 354، وحاشية العدوي على الخرشي 1 / 36
(3) الفتوحات الربانية والأذكار 3 / 354

(3/245)


لِمَا جَاءَ فِي نَصِّ الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) . وَزَادَ الشَّوْبَرِيُّ وَابْنُ حَجَرٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْعَدَوِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ جَوَازَهُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ فِي السُّجُودِ، أَوْ بَعْدَ التَّشَهُّدِ (2) .

مَا يُطْلَبُ مِنَ الْمُسْتَخِيرِ بَعْدَ الاِسْتِخَارَةِ:
19 - يُطْلَبُ مِنَ الْمُسْتَخِيرِ أَلاَّ يَتَعَجَّل الإِْجَابَةَ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ، لِحَدِيثِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْتَجَابُ لأَِحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَل. يَقُول: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي. (3) كَمَا يُطْلَبُ مِنْهُ الرِّضَا بِمَا يَخْتَارُهُ اللَّهُ لَهُ. (4)

تَكْرَارُ الاِسْتِخَارَةِ:
20 - قَال الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ: يَنْبَغِي أَنْ يُكَرِّرَ الْمُسْتَخِيرُ الاِسْتِخَارَةَ بِالصَّلاَةِ وَالدُّعَاءِ سَبْعَ مَرَّاتٍ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ السُّنِّيِّ عَنْ أَنَسٍ. قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَنَسُ إِذَا هَمَمْتَ بِأَمْرٍ فَاسْتَخِرْ رَبَّكَ فِيهِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ اُنْظُرْ إِلَى الَّذِي يَسْبِقُ إِلَى قَلْبِكَ فَإِنَّ الْخَيْرَ فِيهِ. (5)
وَيُؤْخَذُ مِنْ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ أَنَّ تَكْرَارَ الاِسْتِخَارَةِ يَكُونُ عِنْدَ عَدَمِ ظُهُورِ شَيْءٍ لِلْمُسْتَخِيرِ، فَإِذَا ظَهَرَ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 643، وروض الطالب 1 / 205 وكشاف القناع 1 / 408، والمغني 1 / 769، والخرشي 1 / 37
(2) الفتوحات الربانية والأذكار 3 / 355 ط المكتبة الإسلامية، والعدوي على الخرشي 1 / 37، وفتح الباري 11 / 154
(3) حديث " يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي " أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 140 ط السلفية) ، ومسلم 4 / 2095 ط عيسى الحلبي.
(4) الآداب الشرعية 2 / 251 ط المنار.
(5) حديث " يا أنس إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات. . . . " أخرجه ابن السني ص 161 ط دائرة المعارف العثمانية. وقال ابن حجر: " إسناده واه جدا " 1 / 450 فيض القدير ط المكتبة التجارية.

(3/246)


لَهُ مَا يَنْشَرِحُ بِهِ صَدْرُهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَا يَدْعُو إِلَى التَّكْرَارِ. وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ شَيْءٌ بَعْدَ السَّابِعَةِ اسْتَخَارَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ (1) . أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلَمْ نَجِدْ لَهُمْ رَأْيًا فِي تَكْرَارِ الاِسْتِخَارَةِ فِي كُتُبِهِمُ الَّتِي تَحْتَ أَيْدِينَا رَغْمَ كَثْرَتِهَا (2) .

النِّيَابَةُ فِي الاِسْتِخَارَةِ:
21 - الاِسْتِخَارَةُ لِلْغَيْرِ قَال بِجَوَازِهَا الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ (3) أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعْهُ. (4)
وَجَعَلَهُ الْحَطَّابُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مَحَل نَظَرٍ. فَقَال: هَل وَرَدَ أَنَّ الإِْنْسَانَ يَسْتَخِيرُ لِغَيْرِهِ؟ لَمْ أَقِفْ فِي ذَلِكَ عَلَى شَيْءٍ، وَرَأَيْتُ بَعْضَ الْمَشَايِخِ يَفْعَلُهُ.
وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ، وَالْحَنَفِيَّةُ.

أَثَرُ الاِسْتِخَارَةِ:

أ - عَلاَمَاتُ الْقَبُول:
22 - اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ عَلَى أَنَّ عَلاَمَاتِ الْقَبُول فِي الاِسْتِخَارَةِ انْشِرَاحُ الصَّدْرِ، لِقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ فِي (فِقْرَةِ 20) : " ثُمَّ اُنْظُرْ إِلَى الَّذِي سَبَقَ إِلَى قَلْبِكَ فَإِنَّ الْخَيْرَ فِيهِ " أَيْ فَيَمْضِي إِلَى مَا انْشَرَحَ بِهِ صَدْرُهُ
__________
(1) المغني 1 / 763، وكشاف القناع 1 / 408، وابن عابدين 1 / 643، والطحطاوي على مراقي الفلاح ص 218، والخرشي 1 / 38، والفتوحات الربانية 3 / 356
(2) المغني 1 / 763، وكشاف القناع 1 / 408
(3) العدوي على الخرشي 1 / 38، والجمل 1 / 492
(4) حديث: " من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه " أخرجه مسلم 4 / 1727 ط عيسى الحلبي، وأحمد 3 / 302 ط الميمنية.

(3/246)


وَشَرْحُ الصَّدْرِ: عِبَارَةٌ عَنْ مَيْل الإِْنْسَانِ وَحُبِّهِ لِلشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ هَوًى لِلنَّفْسِ، أَوْ مَيْلٍ مَصْحُوبٍ بِغَرَضٍ، عَلَى مَا قَرَّرَهُ الْعَدَوِيُّ (1) . قَال الزَّمْلَكَانِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يُشْتَرَطُ شَرْحُ الصَّدْرِ. فَإِذَا اسْتَخَارَ الإِْنْسَانُ رَبَّهُ فِي شَيْءٍ فَلْيَفْعَل مَا بَدَا لَهُ، سَوَاءٌ انْشَرَحَ لَهُ صَدْرُهُ أَمْ لاَ، فَإِنَّ فِيهِ الْخَيْرَ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ انْشِرَاحُ الصَّدْرِ (2) .

ب - عَلاَمَاتُ عَدَمِ الْقَبُول:
23 - وَأَمَّا عَلاَمَاتُ عَدَمِ الْقَبُول فَهُوَ: أَنْ يُصْرَفَ الإِْنْسَانُ عَنِ الشَّيْءِ، لِنَصِّ الْحَدِيثِ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي هَذَا أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَعَلاَمَاتُ الصَّرْفِ: أَلاَّ يَبْقَى قَلْبُهُ بَعْدَ صَرْفِ الأَْمْرِ عَنْهُ مُعَلَّقًا بِهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ: فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ.

اسْتِخْدَامٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِخْدَامُ لُغَةً: سُؤَال الْخِدْمَةِ، أَوِ اتِّخَاذُ الْخَادِمِ (3) .
__________
(1) حاشية العدوي على الخرشي 1 / 38، وابن عابدين 1 / 643، والفتوحات الربانية 3 / 357، والمغي 1 / 769
(2) حاشية الجمل 1 / 492
(3) المصباح المنير (خدم) .

(3/247)


وَلاَ يَخْرُجُ الاِسْتِعْمَال الْفِقْهِيُّ عَنْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِسْتِعَانَةُ:
2 - الاِسْتِعَانَةُ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا: طَلَبُ الإِْعَانَةِ. فَيَتَّفِقُ الاِسْتِخْدَامُ مَعَ الاِسْتِعَانَةِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا فِيهِ نَوْعُ مُعَاوَنَةٍ، غَيْرَ أَنَّ الاِسْتِخْدَامَ يَكُونُ مِنَ الْعَبْدِ وَلَهُ، وَتَكُونُ الاِسْتِعَانَةُ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ تَكُونُ بِالْعَبْدِ (2) .

ب - الاِسْتِئْجَارُ:
3 - الاِسْتِئْجَارُ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا: طَلَبُ إِجَارَةِ الْعَيْنِ أَوِ الشَّخْصِ.
فَبَيْنَ الاِسْتِئْجَارِ وَالاِسْتِخْدَامِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ، فَالاِسْتِئْجَارُ لِلزِّرَاعَةِ، وَرَعْيِ الأَْغْنَامِ لاَ يُسَمَّى خِدْمَةً، وَكَذَلِكَ لاَ يُقَال لِلْمُسْتَأْجَرِ لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ خَادِمٌ، وَيَنْفَرِدُ الاِسْتِخْدَامُ إِنْ كَانَ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ (3) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الاِسْتِخْدَامِ بِاخْتِلاَفِ الْخَادِمِ وَالْمَخْدُومِ، وَالْغَرَضُ الدَّاعِي إِلَى الاِسْتِخْدَامِ، مِمَّا يَجْعَل الأَْحْكَامَ الْخَمْسَةَ تَعْتَرِيهِ.
__________
(1) ابن عابدين 2 / 334 ط بولاق، ونهاية المحتاج 1 / 179، 4 / 167، والقليوبي وعميرة 3 / 18، 19 ط الحلبي، والمغني مع الشرح 9 / 339 ط المنار الأولى.
(2) أحكام القرآن لابن العربي 1 / 5 ط عيسى الحلبي، وطلبة الطلبة ص 45، والفروق للعسكري ص 215ط بيروت
(3) ابن عابدين 2 / 334 ط بولاق، والشبراملسي على النهاية 4 / 167 ط الحلبي، وقليوبي وعميرة 3 / 18، 19

(3/247)


فَالْوَالِي يُبَاحُ أَنْ يُخَصَّصَ لَهُ خَادِمٌ - كَجُزْءٍ مِنْ عِمَالَتِهِ الَّتِي هِيَ أُجْرَةُ مِثْلِهِ - مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَرَفُّهًا (1) ".
وَيَكُونُ خِلاَفَ الأَْوْلَى إِنِ اسْتَعَانَ بِمَنْ يَصُبُّ عَلَيْهِ مَاءَ الْوُضُوءِ دُونَ عُذْرٍ. فَإِنِ اسْتَعَانَ بِدُونِ عُذْرٍ فِي غَسْل أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ كُرِهَ (2)
وَيَكُونُ وَاجِبًا، كَالْعَاجِزِ عَنِ الْوُضُوءِ يَسْتَخْدِمُ مَنْ يُعِينُهُ عَلَى تِلْكَ الْعِبَادَةِ (3) . وَيَكُونُ مَنْدُوبًا كَخِدْمَةِ أَهْل الْمُجَاهِدِ وَخِدْمَةِ الْمَسْجِدِ.
وَيَكُونُ حَرَامًا، كَاسْتِئْجَارِ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ، وَالاِبْنِ أَبَاهُ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِذَلِكَ عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَيَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ مَنْعُ الاِسْتِخْدَامِ الْمُحَرَّمِ (4) .
وَفِي اسْتِخْدَامِ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ وَعَكْسِهِ، وَاسْتِخْدَامِ الذَّكَرِ لِلأُْنْثَى وَعَكْسِهِ تَجْرِي الْقَاعِدَةُ فِي أَمْنِ الْفِتْنَةِ وَعَدَمِهِ، وَفِي الاِمْتِهَانِ وَالإِْذْلاَل وَعَدَمِهِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ إِجَارَة (ف: 102)
5 - وَيَمْتَنِعُ اسْتِخْدَامُ الاِبْنِ أَبَاهُ سَوَاءٌ أَكَانَ عَلَى سَبِيل الاِسْتِعَارَةِ أَمْ عَلَى سَبِيل الاِسْتِئْجَارِ؛ صِيَانَةً لَهُ عَنِ الإِْذْلاَل (5) .
6 - وَالاِسْتِخْدَامُ حَقٌّ لِلزَّوْجَةِ، وَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ لِلزَّوْجَةِ إِخْدَامُهَا إِنْ كَانَ مُوسِرًا، وَكَانَتْ شَرِيفَةً يُخْدَمُ مِثْلُهَا، وَلاَ يَحِل لِلزَّوْجَةِ اسْتِخْدَامُ زَوْجِهَا إِذَا كَانَ لِلإِْهَانَةِ وَالإِْذْلاَل (6) .
__________
(1) عون المعبود 3 / 95 ط دار الكتاب العربي.
(2) نهاية المحتاج 1 / 179
(3) المرجع السابق، وابن عابدين 2 / 334
(4) القليوبي وعميرة 3 / 18، 19، وابن عابدين 2 / 334
(5) الحطاب 5 / 393 ط النجاح - ليبيا، وابن عابدين 2 / 334، والقليوبي وعميرة 3 / 18، 19، والمغني مع الشرح 6 / 138، 139 ط المنار.
(6) ابن عابدين 2 / 334

(3/248)


اسْتِخْفَافٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الاِسْتِخْفَافِ لُغَةً: الاِسْتِهَانَةُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ ذَلِكَ.
وَقَدْ يُعَبِّرُ الْفُقَهَاءُ عَنِ الاِسْتِخْفَافِ بِالاِحْتِقَارِ، وَالاِزْدِرَاءِ، وَالاِنْتِقَاصِ.

حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - لَيْسَ لِلاِسْتِخْفَافِ حُكْمٌ عَامٌّ جَامِعٌ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِاخْتِلاَفِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ.
فَقَدْ يَكُونُ مَحْظُورًا، وَقَدْ يَكُونُ مَطْلُوبًا. فَمِنَ الْمَطْلُوبِ: الاِسْتِخْفَافُ بِالْكَافِرِ لِكُفْرِهِ، وَالْمُبْتَدِعِ لِبِدْعَتِهِ، وَالْفَاسِقِ لِفِسْقِهِ (2) . وَكَذَلِكَ الاِسْتِخْفَافُ بِالأَْدْيَانِ الْبَاطِلَةِ وَالْمِلَل الْمُنْحَرِفَةِ، وَعَدَمُ احْتِرَامِهَا، وَاعْتِقَادُ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَفْرَادًا وَجَمَاعَاتٍ إِذَا عَلِمَ تَحْرِيفَهَا، وَهَذَا مِنَ الدِّينِ؛ لأَِنَّهُ اسْتِخْفَافٌ بِكُفْرٍ أَوْ بِبَاطِلٍ (3) .
وَأَمَّا الْمَحْظُورُ: فَهُوَ مَا سَيَأْتِي.

مَا يَكُونُ بِهِ الاِسْتِخْفَافُ:
يَكُونُ الاِسْتِخْفَافُ بِالأَْقْوَال أَوِ الأَْفْعَال أَوْ الاِعْتِقَادَاتِ.
__________
(1) الصحاح وتاج العروس ولسان العرب مادة (خفف) .
(2) فتح القدير 5 / 645، والقليوبي 4 / 205
(3) الإعلام بقواطع الإسلام بهامش الزواجر 2 / 171 ط مصطفى الحلبي، والمغني 8 / 150

(3/248)


أ - الاِسْتِخْفَافُ بِاَللَّهِ تَعَالَى:
3 - قَدْ يَكُونُ بِالْقَوْل، مِثْل الْكَلاَمِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الاِنْتِقَاصُ وَالاِسْتِخْفَافُ فِي مَفْهُومِ النَّاسِ عَلَى اخْتِلاَفِ اعْتِقَادَاتِهِمْ، كَاللَّعْنِ وَالتَّقْبِيحِ، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الاِسْتِخْفَافُ الْقَوْلِيُّ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ أَمْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى، مُنْتَهِكًا لِحُرْمَتِهِ انْتِهَاكًا يَعْلَمُ هُوَ نَفْسُهُ أَنَّهُ مُنْتَهِكٌ مُسْتَخِفٌّ مُسْتَهْزِئٌ (1) . مِثْل وَصْفِ اللَّهِ بِمَا لاَ يَلِيقُ، أَوْ الاِسْتِخْفَافِ بِأَمْرٍ مِنْ أَوَامِرِهِ، أَوْ وَعْدٍ مِنْ وَعِيدِهِ، أَوْ قَدْرِهِ (2) .
وَقَدْ يَكُونُ بِالأَْفْعَال، وَذَلِكَ بِكُل عَمَلٍ يَتَضَمَّنُ الاِسْتِهَانَةَ، أَوِ الاِنْتِقَاصَ، أَوْ تَشْبِيهَ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ بِالْمَخْلُوقَاتِ، مِثْل رَسْمِ صُورَةٍ لِلْحَقِّ سُبْحَانَهُ، أَوْ تَصْوِيرِهِ فِي مُجَسَّمٍ كَتِمْثَالٍ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ يَكُونُ بِالاِعْتِقَادِ، مِثْل اعْتِقَادِ حَاجَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الشَّرِيكِ (3)
حُكْمُ الاِسْتِخْفَافِ بِاَللَّهِ تَعَالَى:
4 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الاِسْتِخْفَافَ بِاَللَّهِ تَعَالَى بِالْقَوْل، أَوِ الْفِعْل، أَوْ الاِعْتِقَادِ حَرَامٌ، فَاعِلُهُ مُرْتَدٌّ عَنِ الإِْسْلاَمِ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَازِحًا أَمْ جَادًّا (4) .
قَال تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُل أَبِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ (5) } .
__________
(1) فتح القدير 5 / 645، والقليوبي 4 / 205
(2) الإعلام بقواطع الإسلام 2 / 101، والدسوقي 4 / 310
(3) الإعلام بقواطع الإسلام 2 / 41 بهامش الزواجر.
(4) المغني 8 / 150 ط السعودية، والإعلام بقواطع الإسلام 2 / 101، والصارم المسلول ص 546، والحطاب 6 / 287، وابن عابدين 3 / 284
(5) سورة التوبة 65

(3/249)


الاِسْتِخْفَافُ بِالأَْنْبِيَاءِ:
5 - الاِسْتِخْفَافُ بِالأَْنْبِيَاءِ وَانْتِقَاصُهُمْ وَالاِسْتِهَانَةُ بِهِمْ، كَسَبِّهِمْ، أَوْ تَسْمِيَتِهِمْ بِأَسْمَاءٍ شَائِنَةٍ، أَوْ وَصْفِهِمْ بِصِفَاتٍ مُهِينَةٍ، مِثْل وَصْفِ النَّبِيِّ بِأَنَّهُ سَاحِرٌ، أَوْ خَادِعٌ، أَوْ مُحْتَالٌ، وَأَنَّهُ يَضُرُّ مَنِ اتَّبَعَهُ، وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ زُورٌ وَبَاطِلٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَإِنَّ نَظْمَ ذَلِكَ شَعْرًا كَانَ أَبْلَغَ فِي الشَّتْمِ؛ لأَِنَّ الشِّعْرَ يُحْفَظُ وَيُرْوَى، وَيُؤَثِّرُ فِي النُّفُوسِ كَثِيرًا - مَعَ الْعِلْمِ بِبُطْلاَنِهِ - أَكْثَرَ مِنْ تَأْثِيرِ الْبَرَاهِينِ، وَكَذَلِكَ إِذَا اسْتُعْمِل فِي الْغِنَاءِ أَوِ الإِْنْشَادِ (1) .

حُكْمُ الاِسْتِخْفَافِ بِالأَْنْبِيَاءِ:
6 - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الاِسْتِخْفَافَ بِالأَْنْبِيَاءِ حَرَامٌ، وَأَنَّ الْمُسْتَخِفَّ بِهِمْ مُرْتَدٌّ، وَهَذَا فِيمَنْ ثَبَتَتْ نُبُوَّتُهُ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ (2) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} (3) ، وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} . (4)
وقَوْله تَعَالَى: {لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (5) .
وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمُسْتَخِفُّ هَازِلاً أَمْ كَانَ جَادًّا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى، {قُل أَبِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} .
إِلاَّ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي اسْتِتَابَتِهِ قَبْل الْقَتْل، فَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّ الْمُسْتَخِفَّ بِالرَّسُول وَالأَْنْبِيَاءِ لاَ
__________
(1) الصارم المسلول ص 541
(2) المواقف 6 / 285
(3) سورة التوبة 61
(4) سورة الأحزاب 57
(5) سورة التوبة 65 - 66

(3/249)


يُسْتَتَابُ بَل يُقْتَل، وَلاَ تُقْبَل تَوْبَتُهُ فِي الدُّنْيَا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ: يُسْتَتَابُ مِثْل الْمُرْتَدِّ، وَتُقْبَل تَوْبَتُهُ إِنْ تَابَ وَرَجَعَ (1) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ (2) }
وَلِخَبَرِ: فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ (3)
7 - وَفَرَّقَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ الاِسْتِخْفَافِ بِالسَّلَفِ، وَبَيْنَ الاِسْتِخْفَافِ بِغَيْرِهِمْ، وَأَرَادُوا بِالسَّلَفِ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي سَابِّ الصَّحَابَةِ وَسَابِّ السَّلَفِ: إِنَّهُ يُفَسَّقُ وَيُضَلَّل، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُؤَدَّبُ (4) .
وَلَكِنْ مَنْ سَبَّ السَّيِّدَةَ عَائِشَةَ - بِالإِْفْكِ الَّذِي بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ - أَوْ أَنْكَرَ صُحْبَةَ أَبِي بَكْرٍ الَّتِي ثَبَتَتْ بِنَصِّ الْقُرْآنِ يَكْفُرُ؛ لإِِنْكَارِهِ تِلْكَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى بَرَاءَتِهَا وَصُحْبَةِ أَبِيهَا، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَال فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 291، و 292، ونهاية المحتاج 7 / 395، 398، 399، والدسوقي 4 / 309 - 312، والحطاب وهامشه التاج والإكليل 6 / 280، والصارم المسلول ص 337، والمغني 8 / 123
(2) سورة الأنفال 38
(3) أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 75 - ط السلفية) ، ومسلم 4 / 52
(4) ابن عابدين 3 / 293، ونهاية المحتاج 7 / 396، والدسوقي 4 / 312

(3/250)


وَالآْخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (1) قَال: هَذَا فِي شَأْنِ عَائِشَةَ وَأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، وَلَيْسَ فِيهَا تَوْبَةٌ (2) .
وَأَمَّا الاِسْتِخْفَافُ بِغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ كَانَ مَسْتُورَ الْحَال، فَقَدْ قَال فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ: إِنَّهُ ذَنْبٌ يُوجِبُ الْعِقَابَ وَالزَّجْرَ عَلَى مَا يَرَاهُ السُّلْطَانُ، مَعَ مُرَاعَاةِ قَدْرِ الْقَائِل وَسَفَاهَتِهِ، وَقَدْرِ الْمَقُول فِيهِ (3) ؛ لأَِنَّ الاِسْتِخْفَافَ وَالسُّخْرِيَةَ مِنَ الْمُسْلِمِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَْلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِْيمَانِ} . (4)

حُكْمُ الاِسْتِخْفَافِ بِالْمَلاَئِكَةِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنِ اسْتَخَفَّ بِمَلَكٍ، بِأَنْ وَصَفَهُ بِمَا لاَ يَلِيقُ بِهِ، أَوْ سَبَّهُ، أَوْ عَرَّضَ بِهِ كَفَرَ وَقُتِل (5) .
وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَا تَحَقَّقَ كَوْنُهُ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ كَجِبْرِيل، وَمَلَكِ الْمَوْتِ، وَمَالِكٍ خَازِنِ النَّارِ (6) .
__________
(1) سورة النور 23
(2) الصارم المسلول ص 337 - 338 ط تاج بطنطا، وابن عابدين 3 / 290
(3) الحطاب 6 / 303، والإنصاف 10 / 322، ونهاية المحتاج 8 / 17، وابن عابدين 4 / 383
(4) سورة الحجرات 11
(5) الحطاب 6 / 285 ط ليبيا، والإعلام بقواطع الإسلام 2 / 214، وابن عابدين 3 / 292، والمغني 8 / 150
(6) التاج والإكليل بهامش الحطاب 6 / 285 ليبيا.

(3/250)


حُكْمُ الاِسْتِخْفَافِ بِالْكُتُبِ وَالصُّحُفِ السَّمَاوِيَّةِ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ مَنِ اسْتَخَفَّ بِالْقُرْآنِ، أَوْ بِالْمُصْحَفِ، أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهُ، أَوْ جَحَدَ حَرْفًا مِنْهُ، أَوْ كَذَبَ بِشَيْءٍ مِمَّا صَرَّحَ بِهِ مِنْ حُكْمٍ أَوْ خَبَرٍ، أَوْ شَكَّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ حَاوَل إِهَانَتَهُ بِفِعْلٍ مُعَيَّنٍ، مِثْل إِلْقَائِهِ فِي الْقَاذُورَاتِ كَفَرَ بِهَذَا الْفِعْل.
وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْمَتْلُوُّ فِي جَمِيعِ الأَْمْصَارِ، الْمَكْتُوبُ فِي الْمُصْحَفِ الَّذِي بِأَيْدِينَا، وَهُوَ مَا جَمَعَتْهُ الدَّفَّتَانِ مِنْ أَوَّل {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} إِلَى آخِرِ {قُل أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} .
وَكَذَلِكَ مَنِ اسْتَخَفَّ بِالتَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيل، أَوْ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ، أَوْ كَفَرَ بِهَا، أَوْ سَبَّهَا فَهُوَ كَافِرٌ. وَالْمُرَادُ بِالتَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيل وَكُتُبِ الأَْنْبِيَاءِ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى، لاَ مَا فِي أَيْدِي أَهْل الْكِتَابِ بِأَعْيَانِهَا؛ لأَِنَّ عَقِيدَةَ الْمُسْلِمِينَ الْمَأْخُوذَةَ مِنَ النُّصُوصِ فِيهَا: أَنَّ بَعْضَ مَا فِي تِلْكَ الْكُتُبِ بَاطِلٌ قَطْعًا، وَبَعْضٌ مِنْهُ صَحِيحُ الْمَعْنَى وَإِنْ حَرَّفُوا لَفْظَهُ (1) . وَكَذَلِكَ مَنِ اسْتَخَفَّ بِالأَْحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ الَّتِي ظَهَرَ لَهُ ثُبُوتُهَا (2) .

الاِسْتِخْفَافُ بِالأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كُفْرِ مَنِ اسْتَخَفَّ بِالأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا أَحْكَامًا شَرْعِيَّةً، مِثْل الاِسْتِخْفَافِ بِالصَّلاَةِ، أَوِ الزَّكَاةِ، أَوِ الْحَجِّ، أَوِ الصِّيَامِ، أَوْ الاِسْتِخْفَافِ بِحُدُودِ اللَّهِ كَحَدِّ السَّرِقَةِ وَالزِّنَى (3) .
__________
(1) الآداب الشرعية 2 / 97، وابن عابدين 3 / 284، والإعلام بقواطع الإسلام 2 / 171، والحطاب 6 / 285، والمغني 8 / 150
(2) الإعلام بقواطع الإسلام 2 / 112، والاعتصام للشاطبي 2 / 75
(3) الإعلام بقواطع الإسلام 2 / 112، 116، 117، 135

(3/251)


الاِسْتِخْفَافُ بِالأَْزْمِنَةِ وَالأَْمْكِنَةِ الْفَاضِلَةِ وَغَيْرِهَا:
11 - مَنَعَ الْعُلَمَاءُ سَبَّ الدَّهْرِ وَالزَّمَانِ وَالاِسْتِخْفَافَ بِهِمَا، لِحَدِيثِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ تَقُولُوا خَيْبَةَ الدَّهْرِ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ (1)
وَحَدِيثِ يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي اللَّيْل وَالنَّهَارُ (2) .
وَكَذَلِكَ الأَْزْمِنَةُ وَالأَْمْكِنَةُ الْفَاضِلَةُ وَالاِسْتِخْفَافُ بِهَا، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْحُكْمَ السَّابِقَ مِنَ الْمَنْعِ وَالْحُرْمَةِ.
أَمَّا إِذَا قَصَدَ مِنْ ذَلِكَ الاِسْتِخْفَافَ بِالشَّرِيعَةِ، كَأَنْ يَسْتَخِفَّ بِشَهْرِ رَمَضَانَ، أَوْ بِيَوْمِ عَرَفَةَ، أَوْ بِالْحَرَمِ وَالْكَعْبَةِ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ حُكْمَ الاِسْتِخْفَافِ بِالشَّرِيعَةِ أَوْ بِحُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِهَا، وَقَدْ مَرَّ حُكْمُ ذَلِكَ.

اسْتِخْلاَفٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِخْلاَفُ لُغَةً: مَصْدَرُ اسْتَخْلَفَ فُلاَنٌ فُلاَنًا إِذَا جَعَلَهُ خَلِيفَةً، وَيُقَال: خَلَفَ فُلاَنٌ فُلاَنًا عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ صَارَ خَلِيفَتَهُ، وَخَلَفْتُهُ جِئْتُ بَعْدَهُ، فَخَلِيفَةٌ يَكُونُ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَبِمَعْنَى مَفْعُولٍ (3) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: اسْتِنَابَةُ الإِْنْسَانِ غَيْرَهُ لإِِتْمَامِ
__________
(1) أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 564 - ط السلفية) ، ومسلم 4 / 1763
(2) أخرجه البخاري 10 / 564 (فتح الباري ط السلفية) ، ومسلم 4 / 1762
(3) المصباح مادة (خلف)

(3/251)


عَمَلِهِ، وَمِنْهُ اسْتِخْلاَفُ الإِْمَامِ غَيْرَهُ مِنَ الْمَأْمُومِينَ لِتَكْمِيل الصَّلاَةِ بِهِمْ لِعُذْرٍ قَامَ بِهِ (1) ، وَمِنْهُ أَيْضًا إِقَامَةُ إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَخْلُفُهُ فِي الإِْمَامَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَمِنْهُ الاِسْتِخْلاَفُ فِي الْقَضَاءِ عَلَى مَا سَيَأْتِي.
وَسَيَقْتَصِرُ الْبَحْثُ هُنَا عَلَى الاِسْتِخْلاَفِ فِي الصَّلاَةِ وَالْقَضَاءِ، وَأَمَّا الاِسْتِخْلاَفُ فِي الإِْمَامَةِ الْعُظْمَى فَمَوْضِعُ بَيَانِهِ مُصْطَلَحُ (خِلاَفَة) وَمُصْطَلَحُ (وِلاَيَةُ الْعَهْدِ) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّوْكِيل:
2 - التَّوْكِيل فِي اللُّغَةِ: التَّفْوِيضُ (2) وَنَحْوُهُ الإِْنَابَةُ أَوْ الاِسْتِنَابَةُ أَوِ النِّيَابَةُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: إِقَامَةُ الإِْنْسَانِ غَيْرَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي تَصَرُّفٍ جَائِزٍ مَعْلُومٍ مِمَّنْ يَمْلِكُهُ (3) . وَيَتَبَيَّنُ مِنْ هَذَا أَنَّ الاِسْتِخْلاَفَ وَالتَّوْكِيل لَفْظَانِ مُتَقَارِبَانِ، إِلاَّ أَنَّ مَجَال الاِسْتِخْلاَفِ أَوْسَعُ، إِذْ هُوَ فِي بَعْضِ إِطْلاَقَاتِهِ يَظْهَرُ أَثَرُهُ بَعْدَ وَفَاةِ الْمُسْتَخْلِفِ، وَيَشْمَل الصَّلاَةَ وَغَيْرَهَا. فِي حِينِ أَنَّ التَّوْكِيل يَقْتَصِرُ أَثَرُهُ عَلَى حَيَاةِ الْمُوَكِّل.
صِفَةُ الاِسْتِخْلاَفِ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ) :
3 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الاِسْتِخْلاَفِ بِاخْتِلاَفِ الأَْمْرِ الْمُسْتَخْلَفِ فِيهِ، وَالشَّخْصِ الْمُسْتَخْلَفِ. فَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا عَلَى الْمُسْتَخْلِفِ وَالْمُسْتَخْلَفِ، كَمَا إِذَا تَعَيَّنَ شَخْصٌ لِلْقَضَاءِ، بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَصْلُحُ لِيَكُونَ
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 465
(2) المصباح حاشية الدسوقي 3 / 377
(3) شرح الدر وحاشيته 4 / 618 ط الأميرية.

(3/252)


قَاضِيًا غَيْرَهُ، فَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَى مَنْ بِيَدِهِ الاِسْتِخْلاَفُ أَنْ يَسْتَخْلِفَهُ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُسْتَخْلَفِ أَنْ يُجِيبَهُ.
وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا كَاسْتِخْلاَفِ مَنْ لاَ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ لِجَهْلِهِ، أَوْ لِطَلَبِهِ الْقَضَاءَ بِالرِّشْوَةِ.
وَقَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا فِي مِثْل مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ مِنِ اسْتِخْلاَفِ الإِْمَامِ غَيْرَهُ فِي الصَّلاَةِ إِذَا سَبَقَهُ حَدَثٌ لِيُتِمَّ الصَّلاَةَ بِالنَّاسِ، فَهُوَ مَنْدُوبٌ عِنْدَهُمْ عَلَى الإِْمَامِ، وَوَاجِبٌ عَلَى الْمَأْمُومِينَ إِنْ لَمْ يَسْتَخْلِفْ فِي الْجُمُعَةِ، وَمَنْدُوبٌ فِي غَيْرِهَا.
وَقَدْ يَكُونُ الاِسْتِخْلاَفُ جَائِزًا، كَاسْتِخْلاَفِ إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ مَنْ يَخْلُفُهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ، إِذْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ لَهُمُ الاِخْتِيَارَ بَعْدَهُ.

أَوَّلاً: الاِسْتِخْلاَفُ فِي الصَّلاَةِ

:
4 - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ، وَإِحْدَى رِوَايَتَيْنِ لِلإِْمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّ الاِسْتِخْلاَفَ جَائِزٌ فِي الصَّلاَةِ. وَغَيْرُ الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ أُخْرَى عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ. وَقَال أَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِذَا سَبَقَ الإِْمَامَ فِي الصَّلاَةِ حَدَثٌ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ وَصَلاَةُ الْمَأْمُومِينَ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ اسْتِخْلاَفَ الإِْمَامِ لِغَيْرِهِ مَنْدُوبٌ فِي الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا، وَوَاجِبٌ عَلَى الْمَأْمُومِينَ، فِي الْجُمُعَةِ إِنْ لَمْ يَسْتَخْلِفِ الإِْمَامُ. لأَِنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا الْجُمُعَةَ أَفْذَاذًا، بِخِلاَفِ غَيْرِهَا. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ أَحْدَث الإِْمَامُ وَكَانَ الْمَاءُ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ وَيَبْنِي، وَلاَ حَاجَةَ إِلَى الاِسْتِخْلاَفِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْجِدِ مَاءٌ،

(3/252)


فَالأَْفْضَل الاِسْتِخْلاَفُ. وَظَاهِرُ الْمُتُونِ أَنَّ الاِسْتِخْلاَفَ أَفْضَل فِي حَقِّ الْكُل (1)
اسْتَدَل الْمُجَوِّزُونَ بِأَنَّ عُمَرَ لَمَّا طُعِنَ - وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ - أَخَذَ بِيَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَقَدَّمَهُ، فَأَتَمَّ بِالْمَأْمُومِينَ الصَّلاَةَ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَلَمْ يُنْكَرْ، فَكَانَ إِجْمَاعًا.
وَاسْتَدَل الْمَانِعُونَ بِأَنَّ صَلاَةَ الإِْمَامِ قَدْ بَطَلَتْ؛ لأَِنَّهُ فَقَدَ شَرْطَ صِحَّةِ الصَّلاَةِ، فَتَبْطُل صَلاَةُ الْمَأْمُومِينَ كَمَا لَوْ تَعَمَّدَ الْحَدَثَ (2) .

كَيْفِيَّةُ الاِسْتِخْلاَفِ:
5 - قَال صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: يَأْخُذُ الإِْمَامُ بِثَوْبِ رَجُلٍ إِلَى الْمِحْرَابِ، أَوْ يُشِيرُ إِلَيْهِ، وَيَفْعَلُهُ مُحْدَوْدِبَ الظَّهْرِ، آخِذًا بِأَنْفِهِ، يُوهِمُ أَنَّهُ رَعَفَ، وَيُشِيرُ بِأُصْبُعٍ لِبَقَاءِ رَكْعَةٍ، وَبِأُصْبُعَيْنِ لِبَقَاءِ رَكْعَتَيْنِ، وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رُكْبَتِهِ لِتَرْكِ رُكُوعٍ، وَعَلَى جَبْهَتِهِ لِتَرْكِ سُجُودٍ، وَعَلَى فَمِهِ لِتَرْكِ قِرَاءَةٍ، وَعَلَى جَبْهَتِهِ وَلِسَانِهِ لِسُجُودِ تِلاَوَةٍ، وَصَدْرِهِ لِسُجُودِ سَهْوٍ. وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ ذَكَرُوا أَنَّهُ يُنْدَبُ لِلإِْمَامِ إِذَا خَرَجَ أَنْ يُمْسِكَ بِيَدِهِ عَلَى أَنْفِهِ سَتْرًا عَلَى نَفْسِهِ (3) .
وَإِذَا حَصَل لِلإِْمَامِ سَبَبُ الاِسْتِخْلاَفِ فِي رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ فَإِنَّهُ يَسْتَخْلِفُ، كَمَا يَسْتَخْلِفُ فِي الْقِيَامِ وَغَيْرِهِ، وَيَرْفَعُ بِهِمْ مِنَ السُّجُودِ الْخَلِيفَةُ بِالتَّكْبِيرِ،
__________
(1) الدر والحاشية 1 / 562، والبدائع 2 / 589 ط الإمام.
(2) ابن عابدين 1 / 422، والشرح الصغير 1 / 465 دار المعارف، والدسوقي 1 / 382، والمجموع 4 / 576، ونهاية المحتاج 2 / 336، 337 والمغني، 2 / 102 الرياض.
(3) الدر وحاشية ابن عابدين 1 / 422، 562، والزرقاني على خليل 2 / 33، والشرح الصغير 1 / 465

(3/253)


وَيَرْفَعُ الإِْمَامُ رَأْسَهُ بِلاَ تَكْبِيرٍ؛ لِئَلاَّ يَقْتَدُوا بِهِ، وَلاَ تَبْطُل صَلاَةُ الْمَأْمُومِينَ إِنْ رَفَعُوا رُءُوسَهُمْ بِرَفْعِهِ، وَقِيل تَبْطُل صَلاَتُهُمْ (1) .

أَسْبَابُ الاِسْتِخْلاَفِ:
6 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ يُجَوِّزُونَ الاِسْتِخْلاَفَ لِعُذْرٍ لاَ تَبْطُل بِهِ صَلاَةُ الْمَأْمُومِينَ، وَالْعُذْرُ إِمَّا خَارِجٌ عَنِ الصَّلاَةِ أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِهَا، وَالْمُتَعَلِّقُ بِهَا إِمَّا مَانِعٌ مِنَ الإِْمَامَةِ دُونَ الصَّلاَةِ، وَإِمَّا مَانِعٌ مِنَ الصَّلاَةِ.
وَالْقَائِلُونَ بِجَوَازِ الاِسْتِخْلاَفِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الإِْمَامَ إِذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي الصَّلاَةِ مِنْ بَوْلٍ، أَوْ رِيحٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، انْصَرَفَ وَاسْتَخْلَفَ، وَفِي كُل مَذْهَبٍ أَسْبَابٌ وَشُرُوطٌ (2) .
7 - فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ لِجَوَازِ الْبِنَاءِ شُرُوطًا، وَأَنَّ الأَْسْبَابَ الْمُجَوِّزَةَ لِلاِسْتِخْلاَفِ هِيَ الْمُجَوِّزَةُ لِلْبِنَاءِ (3) . وَالشُّرُوطُ هِيَ:
(1) أَنْ يَكُونَ سَبَبُ الاِسْتِخْلاَفِ حَدَثًا، فَلَوْ كَانَتْ نَجَاسَةً لَمْ يَجُزْ الاِسْتِخْلاَفُ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ مِنْ بَدَنِهِ، خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ الَّذِي أَجَازَ الاِسْتِخْلاَفَ إِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ خَارِجَةً مِنْ بَدَنِهِ.
(2) كَوْنُ الْحَدَثِ سَمَاوِيًّا، وَفَسَّرُوا السَّمَاوِيَّ بِأَنَّهُ: مَا لَيْسَ لِلْعَبْدِ - وَلَوْ غَيْرَ الْمُصَلِّي - اخْتِيَارٌ فِيهِ، وَلاَ فِي سَبَبِهِ، فَلَوْ أَحْدَثَ عَمْدًا لاَ يَجُوزُ لَهُ الاِسْتِخْلاَفُ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ لَوْ أَصَابَتْهُ شَجَّةٌ أَوْ عَضَّةٌ، أَوْ سَقَطَ عَلَيْهِ حَجَرٌ مِنْ رَجُلٍ مَثَلاً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ،
__________
(1) الدسوقي 1 / 350، 351
(2) عرضت الأسباب وشروطها تبعا للمذاهب ولم تعرض في اتجاهات، للتفاوت الواسع في الأسباب والشروط بين المذاهب (اللجنة)
(3) الدر المختار 1 / 562، والبدائع 2 / 589 ط الإمام.

(3/253)


لأَِنَّهُ حَدَثٌ حَصَل بِصُنْعِ الْعِبَادِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ الاِسْتِخْلاَفُ؛ لأَِنَّهُ لاَ صُنْعَ فِيهِ فَصَارَ كَالسَّمَاوِيِّ.
(3) أَنْ يَكُونَ الْحَدَثُ مِنْ بَدَنِهِ، فَلَوْ أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ مِنْ خَارِجٍ، أَوْ كَانَ مِنْ جُنُونٍ فَلاَ اسْتِخْلاَفَ. (1)
(4) أَنْ يَكُونَ الْحَدَثُ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلْغُسْل.
(5) أَلاَّ يَكُونَ الْحَدَثُ نَادِرَ الْوُجُودِ.
(6) وَأَلاَّ يُؤَدِّيَ الْمُسْتَخْلِفُ رُكْنًا مَعَ حَدَثٍ، وَيَحْتَرِزُ بِذَلِكَ عَمَّا إِذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ وَهُوَ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ فَرَفَعَ رَأْسَهُ قَاصِدًا الأَْدَاءَ.
(7) وَأَلاَّ يُؤَدِّيَ رُكْنًا مَعَ مَشْيٍ، كَمَا لَوْ قَرَأَ وَهُوَ آيِبٌ بَعْدَ الطَّهَارَةِ.
(8) وَأَلاَّ يَفْعَل فِعْلاً مُنَافِيًا، فَلَوْ أَحْدَثَ عَمْدًا بَعْدَ سَبْقِ الْحَدَثِ لاَ يَجُوزُ الاِسْتِخْلاَفُ.
(9) وَأَلاَّ يَفْعَل فِعْلاً لَهُ مِنْهُ بُدٌّ، فَلَوْ تَجَاوَزَ مَاءً إِلَى أَبْعَدَ مِنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ صَفَّيْنِ بِلاَ عُذْرٍ فَلاَ يَجُوزُ الاِسْتِخْلاَفُ.
(10) وَأَلاَّ يَتَرَاخَى قَدْرَ أَدَاءِ الرُّكْنِ بِلاَ عُذْرٍ. أَمَّا لَوْ تَرَاخَى بِعُذْرٍ كَزَحْمَةٍ أَوْ نُزُول دَمٍ فَإِنَّهُ يَبْنِي.
(11) وَأَلاَّ يَظْهَرَ حَدَثُهُ السَّابِقُ، كَمُضِيِّ مُدَّةِ مَسْحِهِ عَلَى الْخُفَّيْنِ.
(12) وَأَلاَّ يَتَذَكَّرَ فَائِتَةً وَهُوَ ذُو تَرْتِيبٍ، فَلَوْ تَذَّكَّرهَا فَلاَ يَصِحُّ بِنَاؤُهُ حَتْمًا.
(13) أَنْ يُتِمَّ الْمُؤْتَمُّ فِي مَكَانِهِ، وَذَلِكَ يَشْمَل الإِْمَامَ الَّذِي سَبَقَهُ الْحَدَثُ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُؤْتَمًّا بَعْدَ أَنْ كَانَ إِمَامًا، فَإِذَا تَوَضَّأَ وَكَانَ إِمَامُهُ لَمْ يَفْرُغْ مِنْ صَلاَتِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ لِيُتِمَّ صَلاَتَهُ خَلْفَ إِمَامِهِ، إِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مَا يَمْنَعُ الاِقْتِدَاءَ، فَلَوْ أَتَمَّ فِي مَكَانِهِ مَعَ وُجُودِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 403

(3/254)


مَا يَمْنَعُ الاِقْتِدَاءَ فَسَدَتْ صَلاَتُهُ خَاصَّةً، وَهَذَا شَرْطٌ لِصِحَّةِ بِنَاءِ مَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ صَلاَتِهِ، لاَ لِصِحَّةِ الاِسْتِخْلاَفِ.
(14) أَنْ يَسْتَخْلِفَ الإِْمَامُ مَنْ يَصْلُحُ لِلإِْمَامَةِ، فَلَوِ اسْتَخْلَفَ صَبِيًّا أَوِ امْرَأَةً أَوْ أُمِّيًّا - وَهُوَ مَنْ لاَ يُحْسِنُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ - فَسَدَتْ صَلاَةُ الإِْمَامِ وَالْمَأْمُومِينَ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا حُصِرَ الإِْمَامُ عَنْ قِرَاءَةِ مَا تَصِحُّ بِهِ الصَّلاَةُ، هَل لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ أَوْ لاَ؟ فَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لاَ يَجُوزُ الاِسْتِخْلاَفُ، لأَِنَّ الْحَصْرَ عَنِ الْقِرَاءَةِ يَنْدُرُ وُجُودُهُ فَأَشْبَهَ الْجَنَابَةَ فِي الصَّلاَةِ، وَيُتِمُّ الصَّلاَةَ بِلاَ قِرَاءَةٍ كَالأُْمِّيِّ إِذَا أَمَّ قَوْمًا أُمِّيِّينَ، وَعَنْهُمَا رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّ الصَّلاَةَ تَفْسُدُ، وَقَال الإِْمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ الاِسْتِخْلاَفُ؛ لأَِنَّهُ فِي بَابِ الْحَدَثِ جَازَ لِلْعَجْزِ عَنِ الْمُضِيِّ فِي الصَّلاَةِ، وَالْعَجْزُ هُنَا أَلْزَمُ؛ لأَِنَّ الْمُحْدِثَ قَدْ يَجِدُ فِي الْمَسْجِدِ مَاءً فَيُمْكِنُهُ إِتْمَامُ صَلاَتِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِخْلاَفٍ (1) ، أَمَّا الَّذِي نَسِيَ جَمِيعَ مَا يَحْفَظُ فَلاَ يَسْتَخْلِفُ بِإِجْمَاعِ الْحَنَفِيَّةِ، لأَِنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الإِْتْمَامِ إِلاَّ بِالتَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ وَالتَّذْكِيرِ، وَمَتَى عَجَزَ عَنِ الْبِنَاءِ لَمْ يَصِحَّ الاِسْتِخْلاَفُ عِنْدَهُمْ، وَذَكَرَ الإِْمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ أَنَّ الرَّازِيَّ قَال: إِنَّمَا يَسْتَخْلِفُ إِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَقْرَأَ شَيْئًا، فَإِنْ أَمْكَنَهُ قِرَاءَةُ آيَةٍ فَلاَ يَسْتَخْلِفُ، وَإِنِ اسْتَخْلَفَ فَسَدَتْ صَلاَتُهُ، وَقَال صَدْرُ الإِْسْلاَمِ: صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ إِذَا كَانَ حَافِظًا لِلْقُرْآنِ إِلاَّ أَنَّهُ لَحِقَهُ خَجَلٌ أَوْ خَوْفٌ فَامْتَنَعَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ، أَمَّا إِذَا نَسِيَ فَصَارَ أُمِّيًّا لَمْ يَجُزِ الاِسْتِخْلاَفُ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 565
(2) ابن عابدين 1 / 560 وما بعدها، والهداية وفتح القدير والكفاية 1 / 328 وما بعدها ط الميمنية.

(3/254)


8 - وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ يُنْدَبُ لِمَنْ ثَبَتَتْ إِمَامَتُهُ بِالنِّيَّةِ وَتَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ فِي ثَلاَثَةِ مَوَاضِعَ:
الأَْوَّل: إِذَا خَشِيَ تَلَفَ نَفْسٍ مُحْتَرَمَةٍ - وَلَوْ كَافِرَةً - أَوْ تَلَفَ مَالٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَال لَهُ أَمْ لِغَيْرِهِ، قَلِيلاً كَانَ الْمَال أَمْ كَثِيرًا، وَلَوْ كَانَ الْمَال لِكَافِرٍ، وَقَيَّدَ بَعْضُهُمُ الْمَال بِكَوْنِهِ ذَا بَالٍ بِحَسَبِ الأَْشْخَاصِ.
وَالثَّانِي: إِذَا طَرَأَ عَلَى الإِْمَامِ مَا يَمْنَعُ الإِْمَامَةَ لِعَجْزٍ عَنْ رُكْنٍ يُعْجِزُهُ عَنِ الرُّكُوعِ أَوْ عَنِ الْقِرَاءَةِ فِي بَقِيَّةِ صَلاَتِهِ، وَأَمَّا عَجْزُهُ عَنِ السُّورَةِ فَلاَ يُجِيزُ الاِسْتِخْلاَفَ.
وَالثَّالِثُ: مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ سَبْقِ الْحَدَثِ أَوِ الرُّعَافِ.
وَإِذَا طَرَأَ عَلَى الإِْمَامِ مَا يَمْنَعُهُ الإِْمَامَةَ كَالْعَجْزِ عَنْ بَعْضِ الأَْرْكَانِ فَإِنَّهُ يَسْتَخْلِفُ وَيَتَأَخَّرُ وُجُوبًا بِالنِّيَّةِ، بِأَنْ يَنْوِيَ الْمَأْمُومِيَّةَ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِهَا بَطَلَتْ صَلاَتُهُ (1) .
9 - وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لِلإِْمَامِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ إِذَا بَطَلَتْ صَلاَتُهُ، أَوْ أَبْطَلَهَا عَمْدًا، جُمُعَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا، بِحَدَثٍ أَوْ غَيْرِهِ، بِشُرُوطٍ هِيَ: أَنْ يَكُونَ الاِسْتِخْلاَفُ قَبْل أَنْ يَأْتِيَ الْمَأْمُومُونَ بِرُكْنٍ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُسْتَخْلَفُ صَالِحًا لِلإِْمَامَةِ، وَأَنْ يَكُونَ مُقْتَدِيًا بِالإِْمَامِ قَبْل حَدَثِهِ، وَلَوْ صَبِيًّا أَوْ مُتَنَفِّلاً (2) .
10 - وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لِلإِْمَامِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ إِذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي الرِّوَايَةِ الْمُقَدَّمَةِ عِنْدَهُمْ، كَأَنْ قَاءَ أَوْ رَعَفَ، وَكَذَلِكَ إِذَا تَذَكَّرَ نَجَاسَةً، أَوْ جَنَابَةً لَمْ يَغْتَسِل مِنْهَا، أَوْ تَنَجَّسَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ، أَوْ عَجَزَ عَنْ إِتْمَامِ الْفَاتِحَةِ، أَوْ عَنْ رُكْنٍ يَمْنَعُ الاِئْتِمَامَ كَالرُّكُوعِ
__________
(1) الخرشي 2 / 49 ببروت، والشرح الصغير 1 / 465 ط دار المعارف.
(2) شرح الروض 1 / 252 المكتبة الإسلامية.

(3/255)


وَالسُّجُودِ (1) .

ثَانِيًا: الاِسْتِخْلاَفُ لإِِقَامَةِ الْجُمُعَةِ وَنَحْوِهَا:
11 - اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي جَوَازِ الاِسْتِخْلاَفِ (بِمَعْنَى الإِْنَابَةِ) مِنَ الْخَطِيبِ الْمَأْذُونِ لَهُ مِنْ وَلِيِّ الأَْمْرِ بِالْخُطْبَةِ (بِنَاءً عَلَى اشْتِرَاطِهِمُ الإِْذْنَ لإِِقَامَةِ الْجُمُعَةِ) وَهَل يَمْلِكُ الاِسْتِنَابَةَ لِلْخُطْبَةِ؟ وَهَذَا الاِخْتِلاَفُ بَيْنَ الْمُتَأَخِّرِينَ نَاشِئٌ مِنِ اخْتِلاَفِهِمْ فِي فَهْمِ عِبَارَاتِ مَشَايِخِ الْمَذْهَبِ. فَقَال صَاحِبُ الدُّرِّ: لاَ يَمْلِكُ ذَلِكَ مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ أَكَانَ الاِسْتِخْلاَفُ لِضَرُورَةٍ أَمْ لاَ، إِلاَّ أَنْ يُفَوِّضَ إِلَيْهِ ذَلِكَ. وَقَال ابْنُ كَمَال بَاشَا: إِنْ دَعَتْ إِلَى الاِسْتِخْلاَفِ ضَرُورَةٌ جَازَ، وَإِلاَّ لاَ، وَقَال قَاضِي الْقُضَاةِ مُحِبُّ الدِّينِ بْنُ جِرْبَاشٍ وَالتُّمُرْتَاشِيُّ وَالْحَصْكَفِيُّ وَالْبُرْهَانُ الْحَلَبِيُّ وَابْنُ نُجَيْمٍ وَالشُّرُنْبِلاَلِيُّ (2) : يَجُوزُ مُطْلَقًا بِلاَ ضَرُورَةٍ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ خَاصَّةٌ بِالْحَنَفِيَّةِ؛ لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ غَيْرِهِمْ إِذْنَ وَلِيِّ الأَْمْرِ فِي الْخُطْبَةِ.

الاِسْتِخْلاَفُ فِي أَثْنَاءِ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ:
12 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الطَّهَارَةَ فِي الْخُطْبَةِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، فَلَوْ أَنَّ الْخَطِيبَ سَبَقَهُ الْحَدَثُ وَهُوَ يَخْطُبُ، فَإِمَّا أَنْ يُتِمَّ الْخُطْبَةَ وَهُوَ مُحْدِثٌ، وَذَلِكَ جَائِزٌ، وَإِمَّا أَنْ يَسْتَخْلِفَ فَيَكُونُ حُكْمُهُ عَلَى الْخِلاَفِ السَّابِقِ فِي جَوَازِ الاِسْتِنَابَةِ فِي الْخُطْبَةِ.
أَمَّا الْمَذَاهِبُ الأُْخْرَى فَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الطَّهَارَةَ سُنَّةٌ وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً لِصِحَّةِ الْخُطْبَةِ، فَإِذَا أَحْدَثَ جَازَ لَهُ إِتْمَامُ خُطْبَتِهِ، لَكِنِ الأَْفْضَل
__________
(1) المغني 2 / 102، 103، 560 ط 3
(2) شرح الدر وحاشية ابن عابدين 1 / 750 ط 3 بولاق.

(3/255)


الاِسْتِخْلاَفُ وَأَمَّا عَلَى الْقَوْل بِوُجُوبِ طَهَارَةِ الْخَطِيبِ فَإِذَا أَحْدَثَ وَجَبَ الاِسْتِخْلاَفُ مِنْهُ أَوْ مِنَ الْمَأْمُومِينَ، وَهَل يَبْدَأُ الْمُسْتَخْلَفُ مِنْ حَيْثُ انْتَهَى الْخَطِيبُ الأَْوَّل أَمْ يَسْتَأْنِفُ الْخُطْبَةَ مِنْ أَوَّلِهَا؟ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ انْتَهَى الأَْوَّل إِنْ عَلِمَ، وَإِلاَّ ابْتَدَأَ الْخُطْبَةَ (1) .

الاِسْتِخْلاَفُ فِي صَلاَةِ الْجُمُعَةِ:
13 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي الْجَدِيدِ - وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ هِيَ الْمَذْهَبُ إِلَى: جَوَازِ الاِسْتِخْلاَفِ فِي صَلاَةِ الْجُمُعَةِ لِعُذْرٍ، هَذَا إِذَا أَحْدَثَ الإِْمَامُ بَعْدَ الْخُطْبَةِ وَقَبْل الشُّرُوعِ فِي الصَّلاَةِ فَقَدَّمَ رَجُلاً يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَإِنْ كَانَ الْمُقَدَّمُ مِمَّنْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ أَوْ شَيْئًا مِنْهَا جَازَ اتِّفَاقًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَهِدَ شَيْئًا مِنَ الْخُطْبَةِ، أَوْ كَانَ الْحَدَثُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ فَهُنَاكَ تَفْصِيلٌ فِي الْمَذَاهِبِ إِلَيْكَ بَيَانُهُ:
14 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُقَدَّمُ قَدْ شَهِدَ شَيْئًا مِنَ الْخُطْبَةِ فَإِنِ اسْتَخْلَفَهُ الإِْمَامُ قَبْل أَنْ يَشْرَعَ فِي الصَّلاَةِ لَمْ يَجُزْ الاِسْتِخْلاَفُ، وَعَلَى مَنْ يَؤُمُّهُمْ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمُ الظُّهْرَ أَرْبَعًا؛ لأَِنَّهُ مُنْشِئٌ (2) لِلْجُمُعَةِ، وَلَيْسَ بِبَانٍ تَحْرِيمَتَهُ عَلَى تَحْرِيمَةِ الإِْمَامِ، وَالْخُطْبَةُ شَرْطُ إِنْشَاءِ الْجُمُعَةِ وَلَمْ تُوجَدْ.
أَمَّا لَوْ شَرَعَ الإِْمَامُ فِي الصَّلاَةِ ثُمَّ أَحْدَثَ، فَقَدَّمَ رَجُلاً جَاءَ سَاعَةَ الإِْقَامَةِ، أَيْ لَمْ يَشْهَدْ شَيْئًا مِنَ الْخُطْبَةِ جَازَ وَصَلَّى بِهِمُ الْجُمُعَةَ؛ لأَِنَّ تَحْرِيمَةَ الأَْوَّل
__________
(1) الطحطاوي ص 280، والشرح الكبير والدسوقي 1 / 386 والقوانين الفقهية لابن جزي ص 56، والمغني 2 / 307 ط الرياض، والوجيز 1 / 64، والدسوقي 1 / 382
(2) ما عدا المذهب القديم للشافعي فلا استخلاف عنده في الصلاة ومثلها الخطبة (المجموع 4 / 576)

(3/256)


انْعَقَدَتْ لِلْجُمُعَةِ لِوُجُودِ شَرْطِهَا وَهُوَ الْخُطْبَةُ، وَالثَّانِي بَنَى تَحْرِيمَتَهُ عَلَى تَحْرِيمَةِ الإِْمَامِ. وَالْخُطْبَةُ شَرْطُ انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ فِي حَقِّ مَنْ يُنْشِئُ التَّحْرِيمَةَ فِي الْجُمُعَةِ، لاَ فِي حَقِّ مَنْ يَبْنِي تَحْرِيمَتَهُ عَلَى تَحْرِيمَةِ غَيْرِهِ، بِدَلِيل أَنَّ الْمُقْتَدِيَ بِالإِْمَامِ تَصِحُّ جُمُعَتُهُ وَإِنْ لَمْ يُدْرِكِ الْخُطْبَةَ لِهَذَا الْمَعْنَى، فَكَذَا إِذَا اسْتَخْلَفَ الإِْمَامُ بَعْدَمَا شَرَعَ فِي الصَّلاَةِ (1) .
وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي الْمُخْتَصَرِ: أَنَّ الإِْمَام إِذَا أَحْدَثَ وَقَدَّمَ رَجُلاً لَمْ يَشْهَدِ الْخُطْبَةَ، فَأَحْدَثَ الْمُقَدَّمُ قَبْل الشُّرُوعِ لَمْ يَجُزْ لِلثَّانِي الاِسْتِخْلاَفُ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْل إِقَامَةِ الْجُمُعَةِ بِنَفْسِهِ.
15 - وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ أَحْدَثَ بَعْدَ الْخُطْبَةِ، أَوْ بَعْدَمَا أَحْرَمَ، فَاسْتَخْلَفَ مَنْ لَمْ يَشْهَدْهَا فَصَلَّى بِهِمْ أَجْزَأَتْهُمْ، وَإِنْ خَرَجَ الإِْمَامُ وَلَمْ يَسْتَخْلِفْ لَمْ يُصَلُّوا أَفْذَاذًا، وَيَسْتَخْلِفُونَ مَنْ يُتِمُّ بِهِمْ، وَأَوْلَى أَنْ يُقَدِّمُوا مَنْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ، وَإِنِ اسْتَخْلَفُوا مَنْ لَمْ يَشْهَدْهَا أَجْزَأَتْهُمْ، وَلاَ يَجُوزُ اسْتِخْلاَفُ مَنْ لاَ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ كَالْمُسَافِرِ، وَقَال مَالِكٌ: أَكْرَهُ اسْتِخْلاَفَ مَنْ لَمْ يَشْهَدِ الْخُطْبَةَ (2) .
16 - وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُسْتَخْلَفُ، وَفِي الْجَدِيدِ يُسْتَخْلَفُ، فَعَلَى الْقَوْل الْقَدِيمِ إِنْ أَحْدَثَ الإِْمَامُ بَعْدَ الْخُطْبَةِ وَقَبْل الإِْحْرَامِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ؛ لأَِنَّ الْخُطْبَتَيْنِ مَعَ الرَّكْعَتَيْنِ كَالصَّلاَةِ الْوَاحِدَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَخْلِفَ فِي صَلاَةِ الظُّهْرِ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ - كَمَا لاَ يَجُوزُ فِيهِمَا - لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ فِي صَلاَةِ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْخُطْبَتَيْنِ، وَإِنْ أَحْدَثَ بَعْدَ الإِْحْرَامِ فَفِيهِ قَوْلاَنِ.
__________
(1) البدائع 1 / 265
(2) الحطاب 2 / 172

(3/256)


أَحَدُهُمَا: يُتِمُّونَ الْجُمُعَةَ فُرَادَى؛ لأَِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزِ الاِسْتِخْلاَفُ بَقَوْا عَلَى حُكْمِ الْجَمَاعَةِ، فَجَازَ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا فُرَادَى.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْحَدَثُ قَبْل أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ رَكْعَةً صَلَّوُا الظُّهْرَ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الرَّكْعَةِ صَلَّوْا رَكْعَةً أُخْرَى فُرَادَى (كَالْمَسْبُوقِ إِذَا لَمْ يُدْرِكْ رَكْعَةً أَتَمَّ الظُّهْرَ، وَإِنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً أَتَمَّ جُمُعَةً) .
أَمَّا فِي الْمَذْهَبِ الْجَدِيدِ فَإِنِ اسْتَخْلَفَهُ مَنْ لَمْ يَحْضُرِ الْخُطْبَةَ لَمْ يَجُزْ؛ لأَِنَّ مَنْ حَضَرَ كَمَّل - أَيِ الْعَدَدَ الْمَطْلُوبَ وَهُوَ أَرْبَعُونَ - بِالسَّمَاعِ فَانْعَقَدَتْ بِهِ الْجُمُعَةُ، وَمَنْ لَمْ يَحْضُرْ لَمْ يُكْمِل، فَلَمْ تَنْعَقِدْ بِهِ الْجُمُعَةُ، وَلِهَذَا لَوْ خَطَبَ بِأَرْبَعِينَ فَقَامُوا وَصَلَّوُا الْجُمُعَةَ جَازَ، وَلَوْ حَضَرَ أَرْبَعُونَ لَمْ يَحْضُرُوا الْخُطْبَةَ فَصَلَّوُا الْجُمُعَةَ لَمْ يَجُزْ. وَإِنْ كَانَ الْحَدَثُ بَعْدَ الإِْحْرَامِ. فَإِنْ كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى فَاسْتَخْلَفَ مَنْ كَانَ مَعَهُ قَبْل الْحَدَثِ جَازَ؛ لأَِنَّهُ مِنْ أَهْل الْجُمُعَةِ، وَإِنِ اسْتَخْلَفَ مَسْبُوقًا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ قَبْل الْحَدَثِ لَمْ يَجُزْ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْجُمُعَةِ، وَلِهَذَا لَوْ صَلَّى الْمُسْتَخْلَفُ الْمَسْبُوقُ بِانْفِرَادِهِ الْجُمُعَةَ لَمْ تَصِحَّ.
وَإِنْ كَانَ الْحَدَثُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ. فَإِنْ كَانَ قَبْل الرُّكُوعِ فَاسْتَخْلَفَ مَنْ كَانَ مَعَهُ قَبْل الْحَدَثِ جَازَ، وَإِنِ اسْتَخْلَفَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ قَبْل الْحَدَثِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَاسْتَخْلَفَ مَنْ لَمْ يَحْضُرْ قَبْل الْحَدَثِ لَمْ يَجُزْ (1) .
17 - وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: السُّنَّةُ أَنْ يَتَوَلَّى الصَّلاَةَ مَنْ يَتَوَلَّى الْخُطْبَةَ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
__________
(1) المجموع 4 / 576 - 577

(3/257)


يَتَوَلاَّهُمَا بِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ مِنْ بَعْدِهِ.
فَإِنْ خَطَبَ رَجُلٌ وَصَلَّى آخَرُ لِعُذْرٍ جَازَ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ. وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ عُذْرٌ فَقَال أَحْمَدُ: لاَ يُعْجِبُنِي مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَيُحْتَمَل الْمَنْعُ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَوَلاَّهُمَا، وَقَدْ قَال: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي. (1) وَلأَِنَّ الْخُطْبَةَ أُقِيمَتْ مَقَامَ رَكْعَتَيْنِ، وَيُحْتَمَل الْجَوَازُ - مَعَ الْكَرَاهَةِ - لأَِنَّ الْخُطْبَةَ مُنْفَصِلَةٌ عَنِ الصَّلاَةِ فَأَشْبَهَتَا صَلاَتَيْنِ.
وَهَل يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَخْلَفُ مِمَّنْ حَضَرَ الْخُطْبَةَ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: يُشْتَرَطُ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْل كَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّهُ إِمَامٌ فِي الْجُمُعَةِ فَاشْتُرِطَ حُضُورُهُ الْخُطْبَةَ، كَمَا لَوْ لَمْ يُسْتَخْلَفْ.
وَالثَّانِيَةُ: لاَ يُشْتَرَطُ؛ لأَِنَّهُ مِمَّنْ تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ، فَجَازَ أَنْ يَؤُمَّ فِيهَا كَمَا لَوْ حَضَرَ الْخُطْبَةَ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الاِسْتِخْلاَفُ لِعُذْرٍ وَلاَ لِغَيْرِهِ، قَال فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: فِي الإِْمَامِ إِذَا أَحْدَثَ بَعْدَمَا خَطَبَ، فَقَدَّمَ رَجُلاً يُصَلِّي بِهِمْ، لَمْ يُصَل بِهِمْ إِلاَّ أَرْبَعًا، إِلاَّ أَنْ يُعِيدَ الْخُطْبَةَ ثُمَّ يُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ هَذَا لَمْ يُنْقَل عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ خُلَفَائِهِ (2) .

الاِسْتِخْلاَفُ فِي الْعِيدَيْنِ:
18 - إِذَا أَحْدَثَ الإِْمَامُ فِي أَثْنَاءِ صَلاَةِ الْعِيدِ فَإِنَّهُ تَجْرِي عَلَيْهِ الأَْحْكَامُ السَّابِقَةُ فِي الاِسْتِخْلاَفِ فِي أَيِّ صَلاَةٍ. أَمَّا إِذَا أَحْدَثَ الإِْمَامُ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْل الْخُطْبَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ: أَنَّهُ يَخْطُبُ النَّاسَ
__________
(1) حديث " صلوا كما رأيتموني. . . " أخرجه البخاري من حديث مالك بن الحويرث، مرفوعا (فتح الباري 2 / 111 ط السلفية)
(2) المغني 2 / 307 - 308 ط الرياض.

(3/257)


عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، وَلاَ يَسْتَخْلِفُ (1) . وَقَوَاعِدُ غَيْرِهِمْ لاَ تَأْبَى ذَلِكَ، عَلَى مَا مَرَّ فِي الاِسْتِخْلاَفِ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ.

الاِسْتِخْلاَفُ فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ:
19 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ الاِسْتِخْلاَفِ فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ لِلإِْمَامِ إِذَا اسْتَخْلَفَ فَذَهَبَ فَتَوَضَّأَ، وَقَدْ بَقِيَ بَعْضُ التَّكْبِيرِ مِنَ الصَّلاَةِ عَلَى الْجِنَازَةِ، أَنْ يَرْجِعَ فَيُصَلِّيَ مَا أَدْرَكَ، وَيَقْضِيَ مَا فَاتَهُ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا اجْتَمَعَ وَلِيَّانِ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا أَفْضَل، كَانَ أَوْلَى بِالصَّلاَةِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَنِيبَ أَجْنَبِيًّا - أَيْ غَيْرَ وَلِيٍّ - فَفِي تَمْكِينِهِ مِنْ ذَلِكَ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا صَاحِبُ الْعِدَّةِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لاَ يُمَكَّنُ إِلاَّ بِرِضَاءِ الآْخَرِ (3) .

الاِسْتِخْلاَفُ فِي صَلاَةِ الْخَوْفِ:
20 - الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ هُمُ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا عَنِ الاِسْتِخْلاَفِ فِي صَلاَةِ الْخَوْفِ فِي السَّفَرِ، وَلَمْ نَقِفْ لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى نَصٍّ فِي هَذَا
__________
(1) البدائع 4 / 707 ط الإمام، والمجموع 5 / 7 - 8 ط دار العلوم، والمغني 2 / 372 - 373، والمدونة 1 / 170 - 171 ط السعادة، والخرشي 4 / 103 لبنان.
(2) ابن عابدين 1 / 811، والمدونة 1 / 190، والمغني 2 / 484 ط الرياض.
(3) المجموع 5 / 170 ط دار العلوم.

(3/258)


الْمَوْضُوعِ (1) .
21 - فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِذَا صَلَّى الإِْمَامُ رَكْعَةً مِنْ صَلاَةِ الْخَوْفِ، ثُمَّ أَحْدَثَ قَبْل قِيَامِهِ إِلَى الثَّانِيَةِ، فَلْيُقَدِّمْ مَنْ يَؤُمَّهُمْ، ثُمَّ يَثْبُتُ الْمُسْتَخْلَفُ، وَيُتِمُّ مَنْ خَلْفَهُ صَلاَتَهُمْ، وَهُوَ قَائِمٌ سَاكِتًا أَوْ دَاعِيًا، ثُمَّ تَأْتِي الطَّائِفَةُ الأُْخْرَى فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً وَيُسَلِّمُ، ثُمَّ تُتِمُّ هَذِهِ الطَّائِفَةُ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ.
وَلَوْ أَحْدَثَ بَعْدَ قِيَامِهِ إِلَى الثَّانِيَةِ فَلاَ يَسْتَخْلِفُ؛ لأَِنَّ مَنْ خَلْفَهُ خَرَجُوا مِنْ إِمَامَتِهِ بِالاِقْتِدَاءِ بِهِ فِي رَكْعَةٍ، حَتَّى لَوْ تَعَمَّدَ حِينَئِذٍ الْحَدَثَ أَوِ الْكَلاَمَ لَمْ تَفْسُدْ عَلَيْهِمْ.
فَإِذَا أَتَمَّ هَؤُلاَءِ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ وَذَهَبُوا أَتَتْ الطَّائِفَةُ الأُْخْرَى بِإِمَامٍ فَقَدَّمُوهُ (2) .
22 - وَقَال الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ: إِذَا أَحْدَثَ الإِْمَامُ فِي صَلاَةِ الْخَوْفِ فَهُوَ كَحَدَثِهِ فِي غَيْرِهَا، وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَلاَّ يَسْتَخْلِفَ أَحَدًا. فَإِنْ كَانَ أَحْدَثَ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى أَوْ بَعْدَمَا صَلاَّهَا، وَهُوَ وَاقِفٌ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَقَرَأَ وَلَمْ تَدْخُل مَعَهُ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ، قَضَتِ الطَّائِفَةُ الأُْولَى مَا عَلَيْهِمْ مِنَ الصَّلاَةِ، وَأَمَّ الطَّائِفَةَ الأُْخْرَى إِمَامٌ مِنْهُمْ، أَوْ صَلَّوْا فُرَادَى، وَلَوْ قَدَّمَ رَجُلاً فَصَلَّى بِهِمْ أَجْزَأَ عَنْهُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِذَا أَحْدَث الإِْمَامُ وَقَدْ صَلَّى رَكْعَةً وَهُوَ قَائِمٌ يَقْرَأُ - يَنْتَظِرُ فَرَاغَ الَّتِي خَلْفَهُ - وَقَفَ الَّذِي قُدِّمَ كَمَا يَقِفُ الإِْمَامُ، وَقَرَأَ فِي وُقُوفِهِ، فَإِذَا فَرَغَتِ الطَّائِفَةُ الَّتِي خَلْفَهُ. وَدَخَلَتِ الطَّائِفَةُ الَّتِي وَرَاءَهُ قَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَقَدْرِ سُورَةٍ، ثُمَّ رَكَعَ بِهِمْ، وَكَانَ فِي صَلاَتِهِ لَهُمْ كَالإِْمَامِ الأَْوَّل لاَ يُخَالِفُهُ فِي شَيْءٍ إِذَا أَدْرَكَ
__________
(1) واللجنة ترى أن الاستخلاف في صلاة الخوف لا يخرج في الجملة عما ذكروه في الصلاة المطلقة.
(2) الحطاب 2 / 186 ليبيا.

(3/258)


الرَّكْعَةَ الأُْولَى مَعَ الإِْمَامِ الأَْوَّل، وَانْتَظَرَهُمْ حَتَّى يَتَشَهَّدُوا ثُمَّ يُسَلِّمُ بِهِمْ (1) ، وَهُنَاكَ صُوَرٌ أُخْرَى نَادِرَةٌ، مَوْطِنُ بَيَانِهَا صَلاَةُ الْخَوْفِ.

مَنْ يَحِقُّ لَهُ الاِسْتِخْلاَفُ:
23 - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الاِسْتِخْلاَفَ حَقُّ الإِْمَامِ. فَلَوِ اسْتَخْلَفَ هُوَ شَخْصًا، وَاسْتَخْلَفَ الْمَأْمُومُونَ سِوَاهُ، فَالْخَلِيفَةُ مَنْ قَدَّمَهُ الإِْمَامُ، فَمَنِ اقْتَدَى بِمَنْ قَدَّمَهُ الْمَأْمُومُونَ فَسَدَتْ صَلاَتُهُ، وَإِنْ قَدَّمَ الإِْمَامُ وَاحِدًا، أَوْ تَقَدَّمَ بِنَفْسِهِ لِعَدَمِ اسْتِخْلاَفِ الإِْمَامِ جَازَ إِنْ قَامَ مَقَامَ الأَْوَّل قَبْل أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَلَوْ خَرَجَ مِنْهُ فَسَدَتْ صَلاَةُ الْكُل دُونَ الإِْمَامِ، وَلَوْ تَقَدَّمَ رَجُلاَنِ فَالأَْسْبَقُ أَوْلَى (2) .
24 - وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ اسْتِخْلاَفَ الإِْمَامِ لِغَيْرِهِ مَنْدُوبٌ، وَلِلإِْمَامِ تَرْكُ الاِسْتِخْلاَفِ، وَيَتْرُكُ الْمُصَلِّينَ لِيَسْتَخْلِفُوا بِأَنْفُسِهِمْ أَحَدَهُمْ، وَإِنَّمَا نُدِبَ لَهُ الاِسْتِخْلاَفُ؛ لأَِنَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ التَّقْدِيمَ فَهُوَ مِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ؛ وَلِئَلاَّ يُؤَدِّيَ تَرْكُهُ إِلَى التَّنَازُعِ فِيمَنْ يَتَقَدَّمُ فَتَبْطُل صَلاَتُهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَخْلِفْ نُدِبَ ذَلِكَ لِلْمَأْمُومِينَ، وَإِنْ تَقَدَّمَ غَيْرُ مَنِ اسْتَخْلَفَهُ الإِْمَامُ وَأَتَمَّ بِهِمْ صَحَّتْ صَلاَتُهُمْ (3) .
25 - وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الإِْمَامَ أَوِ الْقَوْمَ إِنْ قَدَّمُوا رَجُلاً فَأَتَمَّ لَهُمْ مَا بَقِيَ مِنَ الصَّلاَةِ أَجْزَأَتْهُمْ صَلاَتُهُمْ، عَلَى أَنَّ مَنْ قَدَّمَهُ الْمَأْمُونُ أَوْلَى مِمَّنْ قَدَّمَهُ الإِْمَامُ لأَِنَّ الْحَظَّ لَهُمْ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الإِْمَامُ رَاتِبًا فَمُقَدَّمُهُ أَوْلَى. وَإِنْ تَقَدَّمَ وَاحِدٌ بِنَفْسِهِ جَازَ (4) .
__________
(1) الأم 1 / 227 ط دار المعرفة، ونهاية المحتاج 2 / 336 - 337 ط مصطفى الحلبي.
(2) الدر وحاشيته 1 / 562، والبدائع 2 / 589
(3) الشرح الصغير 1 / 468 - 469
(4) الأم 1 / 175 دار المعرفة، ونهاية المحتاج 2 / 337

(3/259)


26 - وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عِنْدَهُمْ، أَنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ يُتِمَّ الصَّلاَةَ بِالْمَأْمُومِينَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَل فَقَدَّمَ الْمَأْمُونُ رَجُلاً فَأَتَمَّ بِهِمْ جَازَ (1) .

مَنْ يَصِحُّ اسْتِخْلاَفُهُ، وَأَفْعَال الْمُسْتَخْلَفِ:
27 - الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ كُل مَنْ يَصْلُحُ إِمَامًا ابْتِدَاءً يَصِحُّ اسْتِخْلاَفُهُ، وَمَنْ لاَ يَصْلُحُ ابْتِدَاءً لاَ يَصِحُّ اسْتِخْلاَفُهُ (2) ، وَفِي كُل مَذْهَبٍ تَفْصِيلاَتٌ:
28 - فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الأَْوْلَى لِلإِْمَامِ أَلاَّ يَسْتَخْلِفَ مَسْبُوقًا، وَإِنِ اسْتَخْلَفَهُ يَنْبَغِي لَهُ أَلاَّ يَقْبَل، وَإِنْ قَبِل جَازَ، وَلَوْ تَقَدَّمَ يَبْتَدِئُ مِنْ حَيْثُ انْتَهَى إِلَيْهِ الإِْمَامُ، وَإِذَا انْتَهَى إِلَى السَّلاَمِ يُقَدِّمُ مُدْرِكًا يُسَلِّمُ بِهِمْ، وَلَوْ أَنَّ الْخَلِيفَةَ الْمَسْبُوقَ حِينَ أَتَمَّ الصَّلاَةَ الَّتِي ابْتَدَأَهَا الإِْمَامُ الْمُسْتَخْلِفُ أَتَى بِمُبْطِلٍ لِصَلاَتِهِ - كَأَنْ قَهْقَهَ أَوْ أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا أَوْ تَكَلَّمَ أَوْ خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ - فَسَدَتْ صَلاَتُهُ، وَصَلاَةُ الْقَوْمِ تَامَّةٌ. أَمَّا فَسَادُ صَلاَتِهِ فَلأَِنَّهُ أَتَى بِمُبْطِلٍ قَبْل إِكْمَال مَا سَبَقَ بِهِ، وَأَمَّا صِحَّةُ صَلاَةِ الْقَوْمِ فَلأَِنَّ الْمُبْطِل الْمُتَعَمَّدَ تَمَّتْ بِهِ صَلاَتُهُمْ لِتَحَقُّقِ الرُّكْنِ، وَهُوَ الْخُرُوجُ بِالصُّنْعِ، وَالإِْمَامُ إِنْ كَانَ فَرَغَ مِنْ صَلاَتِهِ فَصَلاَتُهُ صَحِيحَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَرَغَ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ فِي الأَْصَحِّ.
وَلَوِ اقْتَدَى رَجُلٌ بِالإِْمَامِ فِي صَلاَةٍ رُبَاعِيَّةٍ فَأَحْدَثَ الإِْمَامُ، وَقَدَّمَ الإِْمَامُ هَذَا الرَّجُل، وَالْمُقْتَدِي لاَ
__________
(1) المغني 2 / 112 ط الرياض.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 95، والشرح الكبير 1 / 325 وما بعدها، ونهاية المحتاج 2 / 157 وما بعدها، والمغني 2 / 176 ط الرياض.

(3/259)


يَدْرِي كَمْ صَلَّى الإِْمَامُ وَكَمْ بَقِيَ عَلَيْهِ؟ فَإِنَّ الْمُقْتَدِيَ يُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَيَقْعُدَ فِي كُل رَكْعَةٍ احْتِيَاطًا. وَلَوِ اسْتَخْلَفَ لاَحِقًا (1) فَلِلْخَلِيفَةِ أَنْ يُشِيرَ لِلْمَأْمُومِينَ حَتَّى يُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الصَّلاَةِ، ثُمَّ يُتِمَّ بِهِمْ الصَّلاَةَ. وَلَوْ لَمْ يَفْعَل ذَلِكَ وَمَضَى عَلَى صَلاَةِ الإِْمَامِ، وَأَخَّرَ مَا عَلَيْهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَوْضِعِ السَّلاَمِ، وَاسْتَخْلَفَ مَنْ سَلَّمَ بِهِمْ جَازَ. وَإِذَا كَانَ خَلْفَ الإِْمَامِ شَخْصٌ وَاحِدٌ، وَأَحْدَثَ الإِْمَامُ تَعَيَّنَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ لِلإِْمَامَةِ، عَيَّنَهُ الإِْمَامُ بِالنِّيَّةِ أَوْ لَمْ يُعَيِّنْهُ. وَلَوِ اقْتَدَى مُسَافِرٌ بِمُسَافِرٍ فَأَحْدَثَ الإِْمَامُ، فَاسْتَخْلَفَ مُقِيمًا لَمْ يَلْزَمِ الْمُسَافِرَ الإِْتْمَامُ (2) .
29 - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يَصِحُّ اسْتِخْلاَفُهُ أَنْ يُدْرِكَ مَعَ الإِْمَامِ الأَْصْلِيِّ قَبْل الْعُذْرِ جُزْءًا يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ الرَّكْعَةِ الْمُسْتَخْلَفِ هُوَ فِيهَا، قَبْل الاِعْتِدَال مِنَ الرُّكُوعِ، وَإِذَا اسْتَخْلَفَ الإِْمَامُ مَسْبُوقًا صَلَّى بِهِمْ عَلَى نِظَامِ صَلاَةِ الإِْمَامِ الأَْوَّل، فَإِذَا انْتَهَى إِلَى الرَّكْعَةِ الرَّابِعَةِ بِالنِّسْبَةِ لَهُمْ أَشَارَ إِلَيْهِمْ فَجَلَسُوا، وَقَامَ لِيُتِمَّ صَلاَتَهُ ثُمَّ يُسَلِّمَ مَعَهُمْ (3) .
30 - وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَصِحُّ اسْتِخْلاَفُ مَأْمُومٍ يُصَلِّي صَلاَةَ الإِْمَامِ أَوْ مِثْلَهَا فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ بِالاِتِّفَاقِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَسْبُوقًا أَمْ غَيْرَهُ، وَسَوَاءٌ اسْتَخْلَفَهُ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى أَمْ فِي غَيْرِهَا؛ لأَِنَّهُ مُلْتَزِمٌ بِتَرْتِيبِ الإِْمَامِ بِاقْتِدَائِهِ، فَلاَ يُؤَدِّي إِلَى الْمُخَالَفَةِ.
__________
(1) اللاحق. من اقتدى بالإمام ثم فاتته الركعات كلها أو بعضها بعذر كغفلة وزحمة وسبق حدث وصلاة خوف ومقيم ائتم بمسافر. وكذا بلا عذر بأن سبق إمامه في ركوع وسجود فإنه يقضي ركعة، وحكمه كمؤتم فلا يأتي بقراءة ولا سهو.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 95 وما بعدها.
(3) الشرح الصغير 1 / 471 - 472

(3/260)


وَإِذَا اسْتَخْلَفَ مَأْمُومًا مَسْبُوقًا لَزِمَهُ مُرَاعَاةُ تَرْتِيبِ الإِْمَامِ، فَيَقْعُدُ مَوْضِعَ قُعُودِهِ، وَيَقُومُ مَوْضِعَ قِيَامِهِ، كَمَا كَانَ يَفْعَل لَوْ لَمْ يَخْرُجِ الإِْمَامُ مِنَ الصَّلاَةِ. فَلَوِ اقْتَدَى الْمَسْبُوقُ فِي ثَانِيَةِ الصُّبْحِ، ثُمَّ أَحْدَثَ الإِْمَامُ فِيهَا فَاسْتَخْلَفَهُ فِيهَا قَنَتَ، وَقَعَدَ وَتَشَهَّدَ، ثُمَّ يَقْنُتُ فِي الثَّانِيَةِ لِنَفْسِهِ، وَلَوْ كَانَ الإِْمَامُ قَدْ سَهَا قَبْل اقْتِدَاءِ الْمُسْتَخْلَفِ أَوْ بَعْدَهُ، سَجَدَ فِي آخِرِ صَلاَةِ الإِْمَامِ، وَأَعَادَ فِي آخِرِ صَلاَةِ نَفْسِهِ، عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ.
وَإِذَا أَتَمَّ بِالْقَوْمِ صَلاَةَ الإِْمَامِ قَامَ لِتَدَارُكِ مَا عَلَيْهِ، وَالْمَأْمُومُونَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءُوا فَارَقُوهُ وَسَلَّمُوا، وَتَصِحُّ صَلاَتُهُمْ بِلاَ خِلاَفٍ لِلضَّرُورَةِ، وَإِنْ شَاءُوا صَبَرُوا جُلُوسًا لِيُسَلِّمُوا مَعَهُ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا عَرَفَ الْمَسْبُوقُ نَظْمَ صَلاَةِ الإِْمَامِ وَمَا بَقِيَ مِنْهَا، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ فَقَوْلاَنِ حَكَاهُمَا صَاحِبُ التَّلْخِيصِ وَآخَرُونَ، وَقِيل: هُمَا وَجْهَانِ أَقْيَسُهُمَا لاَ يَجُوزُ، وَقَال الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: أَصَحُّهُمَا الْجَوَازُ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ، فَعَلَى هَذَا يُرَاقِبُ الْمُسْتَخْلَفُ الْمَأْمُومِينَ إِذَا أَتَمَّ الرَّكْعَةَ، فَإِنْ هَمُّوا بِالْقِيَامِ قَامَ وَإِلاَّ قَعَدَ (1) .
31 - وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَجُوزُ اسْتِخْلاَفُ الْمَسْبُوقِ بِبَعْضِ الصَّلاَةِ، وَلِمَنْ جَاءَ بَعْدَ حَدَثِ الإِْمَامِ، فَيَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلاَةِ الإِْمَامِ مِنْ قِرَاءَةٍ أَوْ رَكْعَةٍ أَوْ سَجْدَةٍ، وَيَقْضِي بَعْدَ فَرَاغِ صَلاَةِ الْمَأْمُومِينَ، وَحُكِيَ هَذَا الْقَوْل عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَأَكْثَرَ مَنْ وَافَقَهُمَا فِي الاِسْتِخْلاَفِ. وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَبْنِيَ أَوْ يَبْتَدِيَ، فَإِذَا فَرَغُوا مِنْ صَلاَتِهِمْ قَعَدُوا
__________
(1) المجموع 4 / 243 - 244 ط السلفية.

(3/260)


وَانْتَظَرُوهُ حَتَّى يُتِمَّ وَيُسَلِّمَ مَعَهُمْ؛ لأَِنَّ اتِّبَاعَ الْمَأْمُومِينَ لِلإِْمَامِ أَوْلَى مِنِ اتِّبَاعِهِ لَهُمْ. فَإِنَّ الإِْمَامَ إِنَّمَا جُعِل لِيُؤْتَمَّ بِهِ وَعَلَى كِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ إِذَا فَرَغَ الْمَأْمُومُونَ قَبْل فَرَاغِ إِمَامِهِمْ، وَقَامَ لِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ فَإِنَّهُمْ يَجْلِسُونَ وَيَنْتَظِرُونَ حَتَّى يُتِمَّ وَيُسَلِّمَ بِهِمْ؛ لأَِنَّ الإِْمَامَ يَنْتَظِرُ الْمَأْمُومِينَ فِي صَلاَةِ الْخَوْفِ، فَانْتِظَارُهُمْ لَهُ أَوْلَى، وَإِنْ سَلَّمُوا وَلَمْ يَنْتَظِرُوهُ جَازَ.
وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ: يَسْتَخْلِفُ مَنْ يُسَلِّمُ بِهِمْ، وَالأَْوْلَى انْتِظَارُهُ. وَإِنْ سَلَّمُوا لَمْ يَحْتَاجُوا إِلَى خَلِيفَةٍ. فَإِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنَ الصَّلاَةِ إِلاَّ السَّلاَمُ، فَلاَ حَاجَةَ إِلَى الاِسْتِخْلاَفِ فِيهِ، وَيَقْوَى عِنْدِي أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الاِسْتِخْلاَفُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ؛ لأَِنَّهُ إِنْ بَنَى جَلَسَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ جُلُوسِهِ وَصَارَ تَابِعًا لِلْمَأْمُومِينَ، وَإِنِ ابْتَدَأَ جَلَسَ الْمَأْمُومُونَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ جُلُوسِهِمْ، وَلَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ بِهَذَا، وَإِنَّمَا ثَبَتَ الاِسْتِخْلاَفُ فِي مَوْضِعِ الإِْجْمَاعِ حَيْثُ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا، فَلاَ يُلْحَقُ بِهِ مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ.
وَإِذَا اسْتَخْلَفَ مَنْ لاَ يَدْرِي كَمْ صَلَّى الإِْمَامُ، احْتَمَل أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الْيَقِينِ، فَإِنْ وَافَقَ الْحَقَّ وَإِلاَّ سَبَّحُوا بِهِ فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ، وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ. وَفِي رِوَايَةٍ: إِنَّ الْمُسْتَخْلَفَ إِنْ شَكَّ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ الَّتِي صَلاَّهَا الإِْمَامُ لَمْ يَجُزْ لَهُ الاِسْتِخْلاَفُ لِلشَّكِّ، كَغَيْرِ الْمُسْتَخْلَفِ (1) ، وَرِوَايَةُ الْبِنَاءِ عَلَى الْيَقِينِ بُنِيَتْ عَلَى أَنَّهُ شَكٌّ مِمَّنْ لاَ ظَنَّ لَهُ فَوَجَبَ الْبِنَاءُ عَلَى الْيَقِينِ كَسَائِرِ الْمُصَلِّينَ.
__________
(1) المغني 2 / 103 - 105

(3/261)


ثَالِثًا: اسْتِخْلاَفُ الْقَاضِي

32 - اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى أَنَّ الإِْمَامَ إِذَا أَذِنَ لِلْقَاضِي فِي الاِسْتِخْلاَفِ فَلَهُ ذَلِكَ، وَعَلَى أَنَّهُ إِذَا نَهَاهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْقَاضِيَ إِنَّمَا يَسْتَمِدُّ وِلاَيَتَهُ مِنَ الإِْمَامِ، فَلاَ يَمْلِكُ أَنْ يُخَالِفَهُ إِذَا نَهَاهُ، كَالْوَكِيل مَعَ الْمُوَكِّل، فَإِنَّ الْمُوَكِّل إِذَا نَهَى الْوَكِيل عَنْ تَصَرُّفٍ مَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَالِفَهُ. قَال الدُّسُوقِيُّ: وَيَنْبَغِي أَنَّ الْعُرْفَ بِالاِسْتِخْلاَفِ وَعَدَمِهِ كَالنَّصِّ عَلَى ذَلِكَ (1) .
أَمَّا إِنْ أَطْلَقَ الإِْمَامُ فَلَمْ يَأْذَنْ وَلَمْ يَنْهَ فَهُنَاكَ اتِّجَاهَاتٌ فِي الْمَذَاهِبِ.
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَسَحْنُونٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ احْتِمَالٌ فِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ إِلَى: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ؛ لأَِنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِإِذْنِ الإِْمَامِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ إِلَى: أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مُطْلَقًا. وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْوَجْهُ الآْخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ الاِسْتِخْلاَفُ لِعُذْرٍ كَمَرَضٍ، أَوْ سَفَرٍ، أَوْ سِعَةِ الْجِهَاتِ الْمُوَلَّى عَلَيْهَا، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْقَاضِيَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَحْتَاجُ إِلَى الاِسْتِخْلاَفِ؛ وَلأَِنَّ قَرِينَةَ الْحَال تَقْتَضِي ذَلِكَ، فَإِنِ اسْتَخْلَفَ الْقَاضِي - بِغَيْرِ إِذْنٍ - وَقَضَى الْمُسْتَخْلَفُ فَإِنَّ قَضَاءَهُ يَنْفُذُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا أَنْفَذَهُ الْقَاضِي الْمُسْتَخْلِفُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَخْلَفُ بِحَالٍ يَصْلُحُ مَعَهَا أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا؛ لأَِنَّهُ
__________
(1) الدسوقي 4 / 133

(3/261)


بِإِجَازَةِ الْقَاضِي الْمُسْتَخْلِفِ صَارَ كَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَضَى (1)
33 - مَا يَثْبُتُ بِهِ الاِسْتِخْلاَفُ فِي الْقَضَاءِ: كُل لَفْظٍ يُفِيدُ الاِسْتِخْلاَفَ يَصِحُّ بِهِ وَيَنْعَقِدُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِمَّا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ فِي أَلْفَاظِ تَوْلِيَةِ الْقَضَاءِ أَمْ لاَ، وَكَذَلِكَ أَيُّ دَلِيلٍ أَوْ قَرِينَةٍ يَثْبُتُ بِهَا الاِسْتِخْلاَفُ يُعْمَل بِهَا وَيُعَوَّل عَلَيْهَا (2) .

اسْتِدَانَةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِدَانَةُ لُغَةً: الاِسْتِقْرَاضُ وَطَلَبُ الدَّيْنِ، أَوْ: صَيْرُورَةُ الشَّخْصِ مَدِينًا، أَوْ: أَخْذُهُ.
وَالْمُدَايَنَةُ: التَّبَايُعُ بِالأَْجَل. وَالْقَرْضُ: هُوَ مَا يُعْطَى مِنَ الْمَال لِيُقْضَى (3) .
وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ فَتُطْلَقُ الاِسْتِدَانَةُ وَيُرَادُ بِهَا: طَلَبُ أَخْذِ مَالٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَغْل الذِّمَّةِ، سَوَاءٌ
__________
(1) معين الحكام ص 26، وتبصرة الحكام 1 / 45، والدسوقي 4 / 133، ونهاية المحتاج 8 / 29، والمغني 9 / 105 ط الرياض، والاختيار 1 / 358 ط حجازي، وحاشية ابن عابدين 4 / 323
(2) قد وضعت في القوانين الحديثة قواعد وأحكام تنعقد بها ولاية القضاء وغيره بما لا يخالف نصا شرعيا ولا حكما مقررا، وسار عليها العمل وثبتت بها الولايات، فلا مانع من اتباعها وتطبيقها.
(3) لسان العرب، وتاج العروس مادة (دين، قرض) .

(3/262)


كَانَ عِوَضًا فِي مَبِيعٍ أَوْ سَلَمٍ أَوْ إِجَارَةٍ، أَوْ قَرْضًا، أَوْ ضَمَانَ مُتْلَفٍ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِسْتِقْرَاضُ:
2 - الاِسْتِقْرَاضُ: طَلَبُ الْقَرْضِ، وَكُلٌّ مِنَ الْقَرْضِ وَالدَّيْنِ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ.
وَعَلَى هَذَا فَالاِسْتِدَانَةُ أَعَمُّ مِنْ الاِسْتِقْرَاضِ، إِذْ الدَّيْنُ شَامِلٌ عَامٌّ لِلْقَرْضِ وَغَيْرِهِ.
وَفَرَّقَ الْمُرْتَضَى الزُّبَيْدِيُّ بَيْنَ الاِسْتِدَانَةِ وَالاِسْتِقْرَاضِ، بِأَنَّ الاِسْتِدَانَةَ لاَ بُدَّ أَنْ تَكُونَ إِلَى أَجَلٍ، فِي حِينِ أَنَّ الاِسْتِقْرَاضَ لاَ يَكُونُ إِلَى أَجَلٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَقُولُونَ بِلُزُومِ الأَْجَل فِي الْقَرْضِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُقْرِضِ (ر. أَجَل (1)) .

ب - الاِسْتِلاَفُ:
3 - الاِسْتِلاَفُ لُغَةً: أَخْذُ السَّلَفِ، وَسَلَفَ فِي كَذَا وَأَسْلَفَ: إِذَا قَدَّمَ الثَّمَنَ فِيهِ. وَالسَّلَفُ كَالسَّلَمِ وَالْقَرْضِ بِلاَ مَنْفَعَةٍ أَيْضًا. يُقَال: أَسْلَفَهُ مَالاً إِذَا أَقْرَضَهُ (2) .

صِفَةُ الاِسْتِدَانَةِ (حُكْمُهَا التَّكْلِيفِيُّ) :
4 - الأَْصْل فِي الاِسْتِدَانَةِ الإِْبَاحَةُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ
__________
(1) كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي 5 / 1198، ودستور العلماء 2 / 118
(2) المغرب للمطرزي مادة (سلف) ، وابن عابدين 4 / 203

(3/262)


مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} . (1) وَلأَِنَّ النَّبِيَّ كَانَ يَسْتَدِينُ.
وَقَدْ تَعْتَرِيهَا أَحْكَامٌ أُخْرَى بِحَسَبِ السَّبَبِ الْبَاعِثِ، كَالنَّدْبِ فِي حَال عُسْرِ الْمَدِينِ، وَكَالْوُجُوبِ لِلْمُضْطَرِّ، وَكَالتَّحْرِيمِ فِيمَنْ يَسْتَدِينُ قَاصِدًا الْمُمَاطَلَةَ، أَوْ جَحْدَ الدَّيْنِ (2) . وَكَالْكَرَاهَةِ إِذَا كَانَ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى الْوَفَاءِ، وَلَيْسَ مُضْطَرًّا وَلاَ قَاصِدًا الْمُمَاطَلَةَ.

صِيغَةُ الاِسْتِدَانَةِ:
5 - تَكُونُ الاِسْتِدَانَةُ بِكُل مَا يَدُل عَلَى الْتِزَامِ الذِّمَّةِ بِدَيْنٍ، قَرْضًا كَانَ أَوْ سَلَمًا، أَوْ ثَمَنًا لِمَبِيعٍ بِأَجَلٍ وَيُفَصِّل الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلاَمِ فِي مُصْطَلَحِ: (عَقْد) (وَقَرْض) (وَدَيْن (3)) .

الأَْسْبَابُ الْبَاعِثَةُ عَلَى الاِسْتِدَانَةِ:
أَوَّلاً: الاِسْتِدَانَةُ لِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى:
6 - حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى الْمَالِيَّةُ، كَالزَّكَاةِ، لاَ تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ إِلاَّ عَلَى الْغَنِيِّ الْقَادِرِ عَلَيْهَا - وَالْغَنِيُّ فِي كُل تَكْلِيفٍ بِحَسَبِهِ - فَلاَ يُكَلَّفُ بِالاِسْتِدَانَةِ لِيَصِيرَ مُلْزَمًا بِشَيْءٍ مِنْهَا بِالاِتِّفَاقِ (4) .
__________
(1) سورة البقرة / 282
(2) حاشية الشرواني على التحفة 5 / 37، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 223 طبع دار الفكر - بيروت.
(3) تحفة المحتاج 5 / 38، والمغني 4 / 315، والبدائع 10 / 4980 ط الثانية.
(4) مواهب الجليل 1 / 343، ومغني المحتاج 1 / 187، ومطالب أولي النهى 1 / 339 طبع المكتب الإسلامي، وحاشية ابن عابدين 3 / 346، والفتاوى الهندية 5 / 307، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 358 طبع بيروت - دار الهلال.

(3/263)


أَمَّا مَا شَرَطَ اللَّهُ لِوُجُوبِهِ الاِسْتِطَاعَةَ، كَالْحَجِّ، فَإِنْ كَانَ لاَ يَرْجُو الْوَفَاءَ فَالاِسْتِدَانَةُ لأَِجْلِهِ مَكْرُوهَةٌ أَوْ حَرَامٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَخِلاَفُ الأَْفْضَل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. أَمَّا إِنْ كَانَ يَرْجُو الْوَفَاءَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الأَْفْضَل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - يُفْهَمُ مِمَّا فِي الْمُغْنِي - أَنَّهُ إِنْ أَمْكَنَهُ الْحَجُّ بِالاِسْتِدَانَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ (2) .
فَإِذَا وَجَبَتْ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى الْمَالِيَّةُ عَلَى عَبْدٍ حَال غِنَاهُ، ثُمَّ افْتَقَرَ قَبْل أَدَائِهَا، فَهَل يُكَلَّفُ بِالاِسْتِدَانَةِ لأَِدَائِهَا؟ يُفَرِّقُ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ: إِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَالٌ وَأَرَادَ أَنْ يَسْتَقْرِضَ، فَإِنْ كَانَ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ إِذَا اسْتَقْرَضَ وَأَدَّى الزَّكَاةَ، وَاجْتَهَدَ لِقَضَاءِ دَيْنِهِ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، كَانَ الأَْفْضَل لَهُ أَنْ يَسْتَقْرِضَ، فَإِنِ اسْتَقْرَضَ وَأَدَّى وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ حَتَّى مَاتَ، يُرْجَى أَنْ يَقْضِيَ اللَّهُ تَعَالَى دَيْنَهُ فِي الآْخِرَةِ.
وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ إِذَا اسْتَقْرَضَ لاَ يَقْدِرُ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ، كَانَ الأَْفْضَل لَهُ أَلاَّ يَسْتَقْرِضَ، لأَِنَّ خُصُومَةَ صَاحِبِ الدَّيْنِ أَشَدُّ (3) . وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الاِسْتِقْرَاضُ عَلَى كُل حَالٍ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ إِذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، فَتَلِفَ الْمَال بَعْدَ وُجُوبِهَا، فَأَمْكَنَهُ أَدَاؤُهَا أَدَّاهَا، وَإِلاَّ أُمْهِل إِلَى مَيْسَرَتِهِ وَتَمَكُّنِهِ مِنْ أَدَائِهَا مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ عَلَيْهِ وَلاَ عَلَى غَيْرِهِ، قَالُوا: لأَِنَّهُ إِذَا لَزِمَ الإِْنْظَارُ فِي
__________
(1) ابن عابدين 2 / 114، 141، والحطاب 2 / 505 - 506، والأم 2 / 116 ط بيروت، والدسوقي 2 / 7
(2) المغني مع الشرح الكبير 3 / 170
(3) فتاوى قاضيخان بهامش الهندية 1 / 256، وحاشية ابن عابدين 2 / 140

(3/263)


دَيْنِ الآْدَمِيِّ الْمُعَيَّنِ فَهَذَا أَوْلَى (1) .
وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الشَّافِعِيَّةُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ.

ثَانِيًا: الاِسْتِدَانَةُ لأَِدَاءِ حُقُوقِ الْعِبَادِ:
أ - الاِسْتِدَانَةُ لِحَقِّ النَّفْسِ:
7 - تَجِبُ الاِسْتِدَانَةُ عَلَى الْمُضْطَرِّ لإِِحْيَاءِ نَفْسِهِ؛ لأَِنَّ حِفْظَ النَّفْسِ مُقَدَّمٌ عَلَى حِفْظِ الْمَال، صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ، وَقَوَاعِدُ غَيْرِهِمْ لاَ تَأْبَاهُ؛ لِمَا وَرَدَ فِي الضَّرُورَةِ مِنْ نُصُوصٍ مَعْرُوفَةٍ (2) .
أَمَّا الاِسْتِدَانَةُ لِسَدِّ حَاجَةٍ مِنَ الْحَاجِيَّاتِ، فَهُوَ جَائِزٌ إِنْ كَانَ يَرْجُو وَفَاءً، وَإِنْ كَانَ الأَْوْلَى لَهُ أَنْ يَصْبِرَ. لِمَا فِي الاِسْتِدَانَةِ مِنَ الْمِنَّةِ، قَال فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ. لاَ بَأْسَ أَنْ يَسْتَدِينَ الرَّجُل إِذَا كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ لاَ بُدَّ مِنْهَا، وَهُوَ يُرِيدُ قَضَاءَهَا (3) . وَكَلِمَةُ " لاَ بَأْسَ " إِذَا أَطْلَقَهَا فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّهُمْ يَعْنُونَ بِهَا: مَا كَانَ تَرْكُهُ أَوْلَى مِنْ فِعْلِهِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ لاَ يَرْجُو وَفَاءً فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ الاِسْتِدَانَةُ، وَالصَّبْرُ وَاجِبٌ؛ لِمَا فِي الاِسْتِدَانَةِ مِنْ تَعْرِيضِ مَال الْغَيْرِ إِلَى الإِْتْلاَفِ (4) .
أَمَّا الاِسْتِدَانَةُ مِنْ أَجْل غَايَةٍ غَيْرِ مَشْرُوعَةٍ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ، كَمَا إِذَا اسْتَدَانَ لِيُنْفِقَ فِي وَجْهٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ، مِثْل أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مِنَ الْمَال مَا يَكْفِيهِ، فَيَتَوَسَّعُ فِي النَّفَقَةِ. وَيَسْتَدِينُ لأَِجْل أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الزَّكَاةِ، فَإِنَّهُ لاَ يُعْطَى مِنْهَا؛ لأَِنَّ قَصْدَهُ مَذْمُومٌ (5) .
__________
(1) الشرح الكبير مع المغني 2 / 465
(2) مواهب الجليل 4 / 545، والشرواني 5 / 37
(3) الفتاوى الهندية 5 / 366
(4) حاشية الشرواني على التحفة 5 / 37
(5) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 497، والمغني 4 / 448

(3/264)


ب - الاِسْتِدَانَةُ لِحَقِّ الْغَيْرِ.

أَوَّلاً - الاِسْتِدَانَةُ لِوَفَاءِ الدَّيْنِ:
8 - لاَ يُلْزَمُ الْمُعْسِرُ بِالاِسْتِدَانَةِ لِقَضَاءِ دَيْنِ غُرَمَائِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (1) . وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مِنَّةٍ (2) . وَلأَِنَّ الضَّرَرَ لاَ يُزَال بِمِثْلِهِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَقَوَاعِدُ غَيْرِهِمْ لاَ تَأْبَاهُ.

ثَانِيًا: الاِسْتِدَانَةُ لِلنَّفَقَةِ عَلَى الزَّوْجَةِ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ وَاجِبَةٌ، سَوَاءٌ أَكَانَ الزَّوْجُ مُوسِرًا أَمْ مُعْسِرًا، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ حَاضِرًا، وَلَهُ مَالٌ، أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِ جَبْرًا عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَإِنَّ أَئِمَّةَ الْحَنَفِيَّةِ يَرَوْنَ أَنَّ الْقَاضِيَ يَفْرِضُ لَهَا النَّفَقَةَ، ثُمَّ يَأْمُرُهَا بِالاِسْتِدَانَةِ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ مَنْ تَسْتَدِينُ مِنْهُ أَوْجَبَ الْقَاضِي نَفَقَتَهَا عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ أَقَارِبِهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مُتَزَوِّجَةً، أَمَّا إِنْ كَانَ غَائِبًا وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ، فَإِنَّهُ لاَ تُفْرَضُ لَهَا نَفَقَةٌ عَلَيْهِ، خِلاَفًا لِزُفَرَ، وَقَوْلُهُ هُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لَهَا الاِسْتِدَانَةَ، لَهَا وَلأَِوْلاَدِهَا وَلَوْ بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَتَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا اسْتَدَانَتْ. وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ تَسْقُطُ بِالإِْعْسَارِ إِذَا ثَبَتَ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَثْبُتْ إِعْسَارُهُ فَلَهَا أَنْ تَسْتَدِينَ عَلَيْهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ يُنْفِقُ عَلَيْهَا مِنْهُ جَبْرًا عَنْهُ. وَإِذَا كَانَ لاَ مَال لَهُ وَهُوَ
__________
(1) سورة البقرة / 280
(2) جواهر الإكليل 2 / 90 طبع دار المعرفة، وحاشية الدسوقي 3 / 270، والمغني 4 / 448 ط المنار الثالثة.

(3/264)


قَادِرٌ عَلَى الْكَسْبِ، أُجْبِرَ عَلَى التَّكَسُّبِ، وَيَسْتَدِينُ لِلنَّفَقَةِ الْحَاضِرَةِ، أَمَّا إِنْ كَانَ مَالُهُ غَائِبًا فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الاِسْتِدَانَةِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَدِنْ كَانَ لَهَا طَلَبُ الْفَسْخِ (1) .

ثَالِثًا: الاِسْتِدَانَةُ لِلإِْنْفَاقِ عَلَى الأَْوْلاَدِ وَالأَْقَارِبِ:
10 - نَفَقَةُ الصِّغَارِ مِنَ الأَْوْلاَدِ الْفُقَرَاءِ غَيْرِ الْمُتَكَسِّبِينَ وَاجِبَةٌ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى الْوَالِدِ دُونَ غَيْرِهِ فِي الأَْصْل، فَإِنِ امْتَنَعَ عَنِ الإِْنْفَاقِ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ مُوسِرًا، أُجْبِرَ عَلَى ذَلِكَ، وَيُؤْمَرُونَ بِالاِسْتِدَانَةِ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: تُؤْمَرُ الأُْمُّ بِالإِْنْفَاقِ عَلَيْهِمْ مِنْ مَالِهَا إِنْ كَانَتْ مُوسِرَةً، وَإِلاَّ أُلْزِمَ بِنَفَقَتِهِمْ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ الأَْبُ مَيِّتًا، ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُنْفِقُ عَلَى الأَْبِ إِنْ أَيْسَرَ (2) . وَإِنْ كَانَ الأَْبُ زَمِنًا اعْتُبِرَ كَالْمَيِّتِ، فَلاَ رُجُوعَ لِلْمُنْفِقِ بَل هُوَ تَبَرُّعٌ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ كَالْحَنَفِيَّةِ فِي حَال الْيَسَارِ، وَيَنُوبُ عَنْ إِذْنِ الْقَاضِي عِنْدَهُمْ إِشْهَادُ الْمُنْفِقِ عَلَى أَنَّهُ أَنْفَقَ عَلَى سَبِيل الرُّجُوعِ، أَوْ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ (3) . أَمَّا إِذَا كَانَ مُعْسِرًا فَيُعْتَبَرُ الإِْنْفَاقُ عَلَى أَوْلاَدِهِ تَبَرُّعًا مِنَ الْمُنْفِقِ، لاَ رُجُوعَ لَهُ وَلَوْ أَيْسَرَ الأَْبُ بَعْدَئِذٍ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لِلأَْوْلاَدِ الاِسْتِدَانَةُ بِإِذْنِ
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 203 طبع المكتبة الإسلامية، وحاشية ابن عابدين 2 / 686، ومواهب الجليل 4 / 202، والحطاب 4 / 205، وشرح منتهى الإرادات 3 / 252، 257، ومطالب أولي النهى 5 / 646، 649
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 673، 677، 686، وتبيين الحقائق 3 / 54، والفتاوى الهندية 1 / 551، وفتح القدير 3 / 325 طبع بولاق، والهداية بشرح فتح القدير 3 / 346 طبع بولاق.
(3) مواهب الجليل 4 / 193، وحاشية الدسوقي 3 / 274

(3/265)


الْقَاضِي، وَلاَ رُجُوعَ إِلاَّ إِذَا حَصَل الاِقْتِرَاضُ بِالْفِعْل لِلْمُنْفِقِ الْمَأْذُونِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَدَانُ لِلأَْوْلاَدِ بِإِذْنٍ، لَكِنْ لَوِ اسْتَدَانَتِ الأُْمُّ لَهَا وَلأَِوْلاَدِهَا بِلاَ إِذْنٍ جَازَ تَبَعًا لِلأُْمِّ. أَمَّا الاِسْتِدَانَةُ لِغَيْرِ الزَّوْجَةِ وَالأَْوْلاَدِ فَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ كَبِيرٌ، مَوْطِنُهُ " نَفَقَة (2) ".

الاِسْتِدَانَةُ لِيَتَمَحَّضَ الْمَال حَلاَلاً:
11 - إِذَا أَرَادَ أَنْ يَحُجَّ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَحُجَّ بِمَالٍ حَلاَلٍ، فَإِنْ لَمْ يَتَوَفَّرْ لَهُ إِلاَّ مَالٌ فِيهِ شُبْهَةٌ، وَأَرَادَ أَنْ يَحُجَّ بِمَالٍ حَلاَلٍ، فَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: يَسْتَدِينُ لِلْحَجِّ، وَيَقْضِي دَيْنَهُ مِنْ مَالِهِ (3) .

شُرُوطُ صِحَّةِ الاِسْتِدَانَةِ:

الشَّرْطُ الأَْوَّل: عَدَمُ انْتِفَاعِ الدَّائِنِ:
12 - إِنَّ انْتِفَاعَ الدَّائِنِ مِنْ عَمَلِيَّةِ الاِسْتِدَانَةِ إِمَّا أَنْ يَتِمَّ بِشَرْطٍ فِي الْعَقْدِ، أَوْ بِغَيْرِ شَرْطٍ، فَإِنْ كَانَ بِشَرْطٍ فَهُوَ حَرَامٌ بِلاَ خِلاَفٍ، قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُسْلِفَ - أَيِ الدَّائِنَ - إِذَا شَرَطَ عَلَى الْمُسْتَلِفِ زِيَادَةً أَوْ هَدِيَّةً، فَأَسْلَفَ عَلَى ذَلِكَ، أَنَّ أَخْذَ الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ رِبًا، وَقَدْ رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُ: كُل قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً فَهُوَ رِبًا (4) . وَهُوَ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفَ السَّنَدِ إِلاَّ
__________
(1) الإقناع 4 / 144، وحاشية قليوبي 4 / 85، وتحفة المحتاج 8 / 346، ومغني المحتاج 4 / 448
(2) شرح منتهى الإرادات 3 / 257
(3) الفتاوى الهندية 1 / 220
(4) حديث: " كل قرض جر منفعة. . . " رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده من حديث علي مرفوعا، وفي إسناده سوار بن مصعب وهو متروك، قال عمر بن بدر في المغني: لم يصح فيه شيء (تلخيص الحبير 3 / 24 ط شركة الطباعة الفنية 1384 هـ، وفيض القدير 5 / 28 ط المكتبة التجارية 1356 هـ) وأخرجه البيهقي في المعرفة عن فضالة بن عبيد موقوفا بلفظ: (كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا) ورواه في السنن الكبرى عن ابن مسعود وأبي بن كعب وعبد الله بن سلام وابن عباس موقوفا عليهم (نيل الأوطار 5 / 350 - 351 ط دار الجيل ببيروت) .

(3/265)


أَنَّهُ صَحِيحٌ مَعْنًى، وَرُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُمْ نَهَوْا عَنْ كُل قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً لِلْمُقْرِضِ. وَلأَِنَّ عَقْدَ الاِسْتِدَانَةِ عَقْدُ إِرْفَاقٍ وَقُرْبَةٍ، وَاشْتِرَاطُ الْمَنْفَعَةِ فِيهِ لِلدَّائِنِ إِخْرَاجٌ لَهُ عَنْ مَوْضُوعِهِ، وَهُوَ شَرْطٌ لاَ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَلاَ يُلاَئِمُهُ، وَقَدْ أَوْرَدَ الْفُقَهَاءُ كَثِيرًا مِنَ التَّطْبِيقَاتِ الْعَمَلِيَّةِ عَلَى الْقَرْضِ الَّذِي يَجُرُّ نَفْعًا لِلدَّائِنِ (1) . وَمِنْ ذَلِكَ:
أَنْ يَشْتَرِطَ الدَّائِنُ أَنْ يَرُدَّ لَهُ الْمَدِينُ أَكْثَرَ مِمَّا أَخَذَ، أَوْ أَجْوَدَ مِمَّا أَخَذَ، وَهَذَا هُوَ الرِّبَا بِعَيْنِهِ (ر: رِبا) . وَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ اشْتِرَاطُ الدَّائِنِ عَلَى الْمَدِينِ أَنْ يُعْطِيَهُ رَهْنًا بِالدَّيْنِ، أَوْ كَفِيلاً ضَمَانًا لِدَيْنِهِ؛ لأَِنَّ هَذَا شَرْطٌ يُلاَئِمُ الْعَقْدَ كَمَا سَيَأْتِي.
أَمَّا إِنْ كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ الَّتِي حَصَل عَلَيْهَا الدَّائِنُ مِنَ الْمَدِينِ غَيْرَ مَشْرُوطَةٍ، فَيَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ (2) . وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَعَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَمَكْحُولٍ، وَقَتَادَةَ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ.
__________
(1) فتح القدير 4 / 452، وأسنى المطالب 2 / 142
(2) المغني 4 / 321، وتحفة المحتاج 5 / 47، وأسهل المدارك 2 / 218، وابن عابدين 4 / 295

(3/266)


وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَال: {
أَقْبَلْنَا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْتَل جَمَلِي. وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِقِصَّتِهِ، وَفِيهِ ثُمَّ قَال: بِعْنِي جَمَلَكَ هَذَا، قَال: فَقُلْتُ: لاَ، بَل هُوَ لَكَ، قَال: بَل بِعْنِيهِ، قَال: قُلْتُ: لاَ، بَل هُوَ لَكَ يَا رَسُول اللَّهِ، قَال: لاَ، بَل بِعْنِيهِ، قَال: قُلْتُ: فَإِنَّ لِرَجُلٍ عَلَيَّ أُوقِيَّةَ ذَهَبٍ فَهُوَ لَكَ بِهَا، قَال: قَدْ أَخَذْتُهُ، فَتَبَلَّغْ عَلَيْهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبِلاَلٍ: أَعْطِهِ أُوقِيَّةً مِنْ ذَهَبٍ وَزِيَادَةً، قَال: فَأَعْطَانِي أُوقِيَّةً مِنْ ذَهَبٍ وَزَادَنِي قِيرَاطًا (1) وَهَذِهِ زِيَادَةٌ فِي الْقَدْرِ.
13 - أَمَّا الزِّيَادَةُ فِي الصِّفَةِ: فَعَنْ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا، فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلٌ مِنْ إِبِل الصَّدَقَةِ، فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُل بَكْرَهُ (2) ، فَرَجَعَ أَبُو رَافِعٍ فَقَال: لَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلاَّ خِيَارًا بَعِيرًا رُبَاعِيًّا، فَقَال: أَعْطِهِ إِيَّاهُ، إِنَّ خَيْرَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً. (3)
وَلأَِنَّهُ لَمْ يَجْعَل تِلْكَ الزِّيَادَةَ عِوَضًا عَنِ الْقَرْضِ، وَلاَ وَسِيلَةً إِلَيْهِ، وَلاَ إِلَى اسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ.
وَقَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهِيَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أُبَيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ النَّخَعِيِّ: لاَ يَجُوزُ لِلْمُقْرِضِ قَبُول هَدِيَّةِ الْمُقْتَرِضِ، وَلاَ الْحُصُول عَلَى
__________
(1) حديث: " أقبلنا من مكة. . . " أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله 3 / 1222 ط عيسى الحلبي.
(2) هو من الإبل ما بلغ سبع سنين.
(3) حديث: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل. . . . " أخرجه مسلم من حديث أبي رافع مرفوعا 3 / 1224 ط عيسى الحلبي.

(3/266)


مَا بِهِ الاِنْتِفَاعُ لَهُ، كَرُكُوبِ دَابَّتِهِ، وَشُرْبِ شَيْءٍ عِنْدَهُ فِي بَيْتِهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَعْرُوفًا بَيْنَهُمَا قَبْل الْقَرْضِ، أَوْ حَدَثَ مَا يَسْتَدْعِي ذَلِكَ؛ لِزَوَاجٍ وَوِلاَدَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ (1) .
قَال الدُّسُوقِيُّ: " وَالْمُعْتَمَدُ جَوَازُ الشُّرْبِ وَالتَّظَلُّل، وَكَذَلِكَ الأَْكْل إِنْ كَانَ لأَِجْل الإِْكْرَامِ لاَ لأَِجْل الدَّيْنِ " لأَِنَّهُ إِنْ أَخَذَ فَضْلاً، أَوْ حَصَل عَلَى مَنْفَعَةٍ يَكُونُ قَدْ تَعَاطَى قَرْضًا جَرَّ مَنْفَعَةً بِالْفِعْل، فَقَدْ رَوَى الأَْثْرَمُ أَنَّ رَجُلاً كَانَ لَهُ عَلَى، سَمَّاكٍ عِشْرُونَ دِرْهَمًا، فَجَعَل يُهْدِي إِلَيْهِ السَّمَكَ وَيُقَوِّمُهُ، حَتَّى بَلَغَ ثَلاَثَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، فَسَأَل ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَال لَهُ: أَعْطِهِ سَبْعَةَ دَرَاهِمَ.
وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّ عُمَرَ أَسْلَفَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، فَأَهْدَى إِلَيْهِ أُبَيٌّ بْنُ كَعْبٍ مِنْ ثَمَرَةِ أَرْضِهِ، فَرَدَّهَا عَلَيْهِ وَلَمْ يَقْبَلْهَا، فَأَتَاهُ أُبَيٌّ فَقَال: لَقَدْ عَلِمَ أَهْل الْمَدِينَةِ أَنِّي مِنْ أَطْيَبِهِمْ ثَمَرَةً، وَأَنَّهُ لاَ حَاجَةَ لَنَا، فَبِمَ مَنَعْتَ هَدِيَّتَنَا؟ ثُمَّ أَهْدَى إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَبِل. وَهَذَا يَدُل عَلَى رَدِّهَا عِنْدَ الشُّبْهَةِ، وَقَبُولِهَا عِنْدَ انْتِفَائِهَا.
وَعَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَال: قُلْتُ لأُِبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسِيرَ إِلَى أَرْضِ الْجِهَادِ إِلَى الْعِرَاقِ، فَقَال: إِنَّكَ تَأْتِي أَرْضًا فَاشٍ فِيهَا الرِّبَا، فَإِنْ أَقْرَضْتَ رَجُلاً قَرْضًا فَأَتَاكَ بِقَرْضِكَ، وَمَعَهُ هَدِيَّةٌ، فَاقْبِضْ قَرْضَكَ، وَأَرْدُدْ عَلَيْهِ هَدِيَّتَهُ (2) .

الشَّرْطُ الثَّانِي: عَدَمُ انْضِمَامِ عَقْدٍ آخَرَ:
14 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الاِسْتِدَانَةِ أَلاَّ يَنْضَمَّ إِلَيْهَا عَقْدٌ
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 224، وأسهل المدارك 2 / 318، والمغني 4 / 322، والمحلى 8 / 86، وآثار محمد بن الحسن ص 132
(2) المغني 4 / 320 وما بعدها.

(3/267)


آخَرُ، سَوَاءٌ اشْتُرِطَ ذَلِكَ فِي عَقْدِ الاِسْتِدَانَةِ، أَمْ تَمَّ التَّوَافُقُ عَلَيْهِ خَارِجَهُ، كَأَنْ يُؤَجِّرَ الْمُسْتَقْرِضُ دَارَهُ لِلْمُقْرِضِ (1) ، أَوْ يَسْتَأْجِرَ الْمُسْتَقْرِضُ دَارَ الْمُقْرِضِ، لأَِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ. (2)
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي (الْبُيُوعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا) .

الاِسْتِدَانَةُ مِنْ بَيْتِ الْمَال، وَلِبَيْتِ الْمَال، وَنَحْوِهِ، كَالْوَقْفِ:
15 - الأَْصْل فِي ذَلِكَ أَنَّ الاِسْتِدَانَةَ لِبَيْتِ الْمَال، أَوْ مِنْهُ جَائِزَةٌ شَرْعًا.
أَمَّا الاِسْتِدَانَةُ مِنْهُ: فَلِمَا وَرَدَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَقْرَضَ مِنْ بَيْتِ الْمَال سَبْعَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ، فَمَاتَ وَهِيَ عَلَيْهِ، فَأَوْصَى أَنْ تُقْضَى عَنْهُ.
وَقَال عُمَرُ: إِنِّي أَنْزَلْتُ مَال اللَّهِ مِنِّي مَنْزِلَةَ مَال الْيَتِيمِ، إِنِ احْتَجْتُ إِلَيْهِ أَخَذْتُ مِنْهُ، فَإِذَا أَيْسَرْتُ قَضَيْتُ.
أَمَّا الاِسْتِدَانَةُ عَلَيْهِ: فَلِمَا رَوَى أَبُو رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا، فَقَدِمَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبِل الصَّدَقَةِ، فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُل بَكْرَهُ. (3) . . الْحَدِيثَ. فَهَذِهِ اسْتِدَانَةٌ عَلَى
__________
(1) المغني 4 / 320، وتحفة المحتاج 5 / 47، وحاشية ابن عابدين 5 / 39
(2) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وسلف " رواه مالك بلاغا، والبيهقي موصولا، وصححه الترمذي، ورواه النسائي والحاكم عن عبد الله بن عمرو مرفوعا وهو عند البيهقي من حديث ابن عباس بسند ضعيف، وفي الطبراني من حديث حكيم بن حزام (تلخيص الحبير 3 / 17 ط شركة الطباعة الفنية 1384 هـ) .
(3) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسلف. . . " تقدم تخريجه فقرة (13)

(3/267)


بَيْتِ الْمَال؛ لأَِنَّ الرَّدَّ كَانَ مِنْ مَال الصَّدَقَةِ، وَكُل هَذَا يُرَاعَى فِيهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ، وَالْحَيْطَةُ الشَّدِيدَةُ فِي تَوْثِيقِ الدَّيْنِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِيفَائِهِ.
وَيُشْتَرَطُ لِذَلِكَ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْوَقْفِ - وَبَيْتِ الْمَال مِثْلُهُ - أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ مَنْ لَهُ الْوِلاَيَةُ، وَأَنْ يَكُونَ الإِْقْرَاضُ لِمَلِيءٍ مُؤْتَمَنٍ، وَأَلاَّ يُوجَدَ مَنْ يَقْبَل الْمَال مُضَارَبَةً، وَأَلاَّ يُوجَدَ مُسْتَغَلاَّتٌ تُشْتَرَى بِذَلِكَ الْمَال.
وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ لِلْوَقْفِ بِأَنَّهُ يُسْتَغْنَى بِشَرْطِ الْوَاقِفِ عَنْ إِذْنِ الْقَاضِي. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي مَال الْيَتِيمِ وَمَال الْغَائِبِ وَاللُّقَطَةِ (1) . وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ، مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ: (قَرْض) (وَدَيْن) .

آثَارُ الاِسْتِدَانَةِ:

أ - ثُبُوتُ الْمِلْكِ:
16 - يَمْلِكُ الْمُسْتَدِينُ الْمَحَل الْمُقَابِل لِلدَّيْنِ بِالْعَقْدِ نَفْسِهِ إِلاَّ فِي الْقَرْضِ، فَفِيهِ ثَلاَثَةُ اتِّجَاهَاتٍ هِيَ: أَنَّهُ يَمْلِكُ بِالْعَقْدِ، أَوْ بِالْقَبْضِ، أَوْ بِالاِسْتِهْلاَكِ (2) ، عَلَى تَفْصِيلٍ مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ: (قَرْض) .

ب - حَقُّ الْمُطَالَبَةِ، وَحَقُّ الاِسْتِيفَاءِ:
17 - مِنْ آثَارِ الاِسْتِدَانَةِ وُجُوبُ الْوَفَاءِ عَلَى الْمُسْتَدِينِ عِنْدَ حُلُول الأَْجَل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (3) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَطْل الْغَنِيِّ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 341، والمغني 4 / 243، والقليوبي 3 / 109، وآثار أبي يوسف ص 913، والمحلى 8 / 324 ط المنيرية.
(2) شرح الخرشي 5 / 232، وبدائع الصنائع 10 / 4984، وأحكام القرآن للجصاص 1 / 574، والمغني 4 / 317، ومطالب أولي النهى 3 / 240، وتحفة المحتاج 5 / 48
(3) سورة البقرة / 178

(3/268)


ظُلْمٌ. (1) وَنَدْبُ الإِْحْسَانِ فِي الْمُطَالَبَةِ، وَوُجُوبُ إِنْظَارِ الْمَدِينِ الْمُعْسِرِ إِلَى حِينِ الْمَيْسَرَةِ بِالاِتِّفَاقِ (2) .
وَاسْتَدَل لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (3) وَأَنَّهَا عَامَّةٌ فِي الدُّيُونِ كُلِّهَا وَلَيْسَتْ خَاصَّةً بِالرِّبَا.

ج - حَقُّ الْمَنْعِ مِنَ السَّفَرِ:
18 - لِلدَّائِنِ فِي الْجُمْلَةِ حَقُّ مَنْعِ الْمَدِينِ مِنَ السَّفَرِ فِي الدَّيْنِ الْحَال، إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَدِينِ مَالٌ حَاضِرٌ يُمْكِنُهُ الاِسْتِيفَاءُ مِنْهُ، أَوْ كَفِيلٌ، أَوْ رَهْنٌ. وَإِنَّمَا ثَبَتَ هَذَا الْحَقُّ لأَِنَّ سَفَرَ الْمَدِينِ قَدْ يُفَوِّتُ عَلَى الدَّائِنِ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ وَالْمُلاَزَمَةِ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ تَبَعًا لِنَوْعِ الدَّيْنِ، وَالأَْجَل، وَالسَّفَرِ، وَالْمَدِينِ. (ر: دَيْن (4))

د - حَقُّ مُلاَزَمَةِ الْمَدِينِ:
19 - مِنْ حَقِّ الدَّائِنِ أَنْ يُلاَزِمَ الْمَدِينَ - عَلَى تَفْصِيلٍ فِي هَذِهِ الْمُلاَزَمَةِ - إِلاَّ إِذَا كَانَ الدَّائِنُ رَجُلاً وَالْمَدِينُ امْرَأَةً؛ لِمَا فِي مُلاَزَمَتِهَا مِنَ الإِْفْضَاءِ إِلَى الْخَلْوَةِ بِالأَْجْنَبِيَّةِ، وَلَكِنْ يَجُوزُ لِلدَّائِنِ أَنْ يَبْعَثَ بِالْمَرْأَةِ تَنُوبُ عَنْهُ فِي مُلاَزَمَتِهَا، وَكَذَلِكَ الْعَكْسُ (5) .
__________
(1) حديث: " مطل الغني. . . " أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا 3 / 1197 ط عيسى الحلبي.
(2) أسنى المطالب 2 / 186، والفتاوى الهندية 5 / 63، وتفسير القرطبي 3 / 372
(3) سورة البقرة / 280
(4) أسنى المطالب 4 / 177، وحاشية الدسوقي 2 / 175، 3 / 262، وحاشية ابن عابدين 3 / 221، والمغني 8 / 360، 4 / 455
(5) أسنى المطالب 2 / 44، والفتاوى الهندية 5 / 63

(3/268)


هـ - طَلَبُ الإِْجْبَارِ عَلَى الْوَفَاءِ:
20 - يَلْزَمُ الْمَدِينَ وَفَاءُ دَيْنِهِ مَا دَامَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ، فَإِنِ امْتَنَعَ وَكَانَ الدَّيْنُ الَّذِي عَلَيْهِ مِثْلِيًّا وَعِنْدَهُ مِثْلُهُ، قَضَى الْقَاضِي الدَّيْنَ مِمَّا عِنْدَهُ جَبْرًا عَنْهُ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الدَّيْنُ مِثْلِيًّا، وَمَا عِنْدَهُ قِيَمِيٌّ، فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ) إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَبِيعُ مَا عِنْدَ الْمَدِينِ جَبْرًا عَنْهُ - عَدَا حَاجَاتِهِ الضَّرُورِيَّةِ - وَيَقْضِي دَيْنَهُ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُجْبِرُهُ الْقَاضِي عَلَى الْبَيْعِ، وَلَكِنْ يَحْبِسُهُ إِلَى أَنْ يُؤَدِّيَ الدَّيْنَ (1) .

و الْحَجْرُ عَلَى الْمَدِينِ الْمُفْلِسِ:
21 - الْحَجْرُ عَلَى الْمَدِينِ الْمُفْلِسِ أَجَازَهُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَمَنَعَهُ الإِْمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ سَيَأْتِي فِي (حَجْر) (وَإِفْلاَس) .

ز - حَبْسُ الْمَدِينِ:
22 - لِلدَّائِنِ أَنْ يَطْلُبَ حَبْسَ الْمَدِينِ الْغَنِيِّ الْمُمْتَنِعِ عَنِ الْوَفَاءِ (2) .

اخْتِلاَفُ الدَّائِنِ وَالْمَدِينِ:
23 - إِذَا اخْتَلَفَ الدَّائِنُ وَالْمَدِينُ وَلاَ بَيِّنَةَ لَهُمَا، فَالْقَوْل قَوْل الْمَدِينِ مَعَ يَمِينِهِ فِي الصِّفَةِ، وَالْقَدْرِ،
__________
(1) أسنى المطالب 2 / 193،187، وحاشية الدسوقي 3 / 269، 270، والمغني 4 / 137، 444 وما بعدها، والفتاوى الهندية 5 / 61 وما بعدها، وتبيين الحقائق 5 / 200 وما بعدها، وحاشية ابن عابدين 5 / 92
(2) أسنى المطالب 2 / 186، وحاشية ابن عابدين 4 / 315 وما بعدها، والفتاوى الهندية 5 / 64، والدسوقي 3 / 578

(3/269)


وَالْيَسَارِ. وَإِنْ كَانَتْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الدَّائِنِ فِي الْيَسَارِ وَالإِْعْسَارِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ مَكَانُهُ مَبْحَثُ (دَعْوَى) .

اسْتِدْرَاكٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِدْرَاكُ لُغَةً: اسْتِفْعَالٌ مِنْ (دَرَكَ) . وَالدَّرْكُ الدَّرَكُ: اللَّحَاقُ وَالْبُلُوغُ. يُقَال: أَدْرَكَ الشَّيْءُ إِذَا بَلَغَ وَقْتُهُ وَانْتَهَى، وَعِشْتُ حَتَّى أَدْرَكْتُ زَمَانَهُ.
وَلِلاِسْتِدْرَاكِ فِي اللُّغَةِ اسْتِعْمَالاَنِ:
الأَْوَّل: أَنْ يَسْتَدْرِكَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ، إِذَا حَاوَل اللَّحَاقَ بِهِ، يُقَال: اسْتَدْرَكَ النَّجَاةَ بِالْفِرَارِ.
وَالثَّانِي: فِي مِثْل قَوْلِهِمْ: اسْتَدْرَكَ الرَّأْيَ وَالأَْمْرَ، إِذَا تَلاَفَى مَا فَرَّطَ فِيهِ مِنَ الْخَطَأِ أَوِ النَّقْصِ (1) .
وَلِلاِسْتِدْرَاكِ فِي الاِصْطِلاَحِ مَعْنَيَانِ:
الأَْوَّل. وَهُوَ لِلأُْصُولِيِّينَ وَالنَّحْوِيِّينَ: رَفْعُ مَا يُتَوَهَّمُ ثُبُوتُهُ مِنْ كَلاَمٍ سَابِقٍ. أَوْ إِثْبَاتُ مَا يُتَوَهَّمُ نَفْيُهُ. وَزَادَ بَعْضُهُمْ: (بِاسْتِعْمَال أَدَاةِ الاِسْتِدْرَاكِ وَهِيَ لَكِنَّ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِنْ أَدَوَاتِ الاِسْتِثْنَاءِ) .
الثَّانِي: وَهُوَ مَا يَرِدُ فِي كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ كَثِيرًا وَهُوَ: إِصْلاَحُ مَا حَصَل فِي الْقَوْل أَوِ الْعَمَل مِنْ خَلَلٍ أَوْ قُصُورٍ أَوْ فَوَاتٍ. وَمِنْهُ عِنْدَهُمْ: اسْتِدْرَاكُ نَقْصِ
__________
(1) لسان العرب، ومحيط المحيط، والأساس، والمرجع في اللغة مادة (درك) .

(3/269)


الصَّلاَةِ بِسُجُودِ السَّهْوِ، وَاسْتِدْرَاكُ الصَّلاَةِ إِذَا بَطَلَتْ بِإِعَادَتِهَا، وَاسْتِدْرَاكُ الصَّلاَةِ الْمَنْسِيَّةِ بِقَضَائِهَا، وَالاِسْتِدْرَاكُ بِإِبْطَال خَطَأِ الْقَوْل وَإِثْبَاتِ صَوَابِهِ.
وَيُخَصُّ الاِسْتِدْرَاكُ الَّذِي بِمَعْنَى فِعْل الشَّيْءِ الْمَتْرُوكِ بَعْدَ مَحِلِّهِ بِعِنْوَانِ " التَّدَارُكُ " سَوَاءٌ تُرِكَ سَهْوًا أَوْ تُرِكَ عَمْدًا. كَقَوْل الرَّمْلِيِّ: " إِذَا سَلَّمَ الإِْمَامُ مِنْ صَلاَةِ الْجِنَازَةِ تَدَارَكَ الْمَسْبُوقُ بَاقِيَ التَّكْبِيرَاتِ بِأَذْكَارِهَا (1) " وَقَوْلُهُ: " لَوْ نَسِيَ تَكْبِيرَاتِ صَلاَةِ الْعِيدِ فَتَذَّكَّرَهَا - وَقَدْ شَرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ - فَاتَتْ فَلاَ يَتَدَارَكُهَا (2) ".

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الإِْضْرَابُ:
2 - وَهُوَ لُغَةً: الإِْعْرَاضُ عَنِ الشَّيْءِ وَالْكَفُّ عَنْهُ، بَعْدَ الإِْقْبَال عَلَيْهِ (3) .
وَفِي اصْطِلاَحِ النَّحْوِيِّينَ قَدْ يَلْتَبِسُ بِالاِسْتِدْرَاكِ " بِالْمَعْنَى الأَْوَّل " فَالإِْضْرَابُ: إِبْطَال الْحُكْمِ السَّابِقِ بِبَل، أَوْ نَحْوِهَا مِنَ الأَْدَوَاتِ الْمَوْضُوعَةِ لِذَلِكَ، أَوْ بِبَدَل الإِْضْرَابِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الاِسْتِدْرَاكِ، أَنَّكَ فِي الاِسْتِدْرَاكِ لاَ تُبْطِل الْحُكْمَ السَّابِقَ، كَمَا فِي قَوْلِكَ: جَاءَ زَيْدٌ لَكِنَّ أَخَاهُ لَمْ يَأْتِ، فَإِثْبَاتُ الْمَجِيءِ لِزَيْدٍ لَمْ يُلْغَ، بَل نَفْيُ الْمَجِيءِ عَنْ أَخِيهِ، وَفِي الإِْضْرَابِ تُبْطِل الْحُكْمَ السَّابِقَ، فَإِذَا قُلْتَ: جَاءَ زَيْدٌ، ثُمَّ ظَهَرَ لَكَ أَنَّكَ غَلِطْتَ فِيهِ فَقُلْتَ: بَل عَمْرٌو أَبْطَلْتَ
__________
(1) نهاية المحتاج 2 / 473 ط مصطفى الحلبي.
(2) نهاية المحتاج 2 / 376
(3) المرجع في اللغة مادة (درك) ، وكشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي مصطلح (استدراك) .

(3/270)


حُكْمَكَ الأَْوَّل بِإِثْبَاتِ الْمَجِيءِ لِزَيْدٍ، وَجَعَلْتَهُ فِي حُكْمِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ.

الاِسْتِثْنَاءُ:
3 - حَقِيقَةُ الاِسْتِثْنَاءِ: إِخْرَاجُ بَعْضِ مَا دَخَل فِي الْكَلاَمِ السَّابِقِ بِإِلاَّ، أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا. وَمِنْ هُنَا كَانَ الاِسْتِثْنَاءُ مِعْيَارَ الْعُمُومِ. أَمَّا الاِسْتِدْرَاكُ فَهُوَ إِثْبَاتُ نَقِيضِ الْحُكْمِ السَّابِقِ لِمَا يُتَوَهَّمُ انْطِبَاقُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ. فَالْفَرْقُ أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ لِلدَّاخِل فِي الأَْوَّل، وَأَنَّ الاِسْتِدْرَاكَ لِمَا لَمْ يَدْخُل فِي الأَْوَّل، وَلَكِنْ تُوُهِّمَ دُخُولُهُ، أَوْ سَرَيَانُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ.
وَلأَِجْل هَذَا التَّقَارُبِ تُسْتَعْمَل أَدَوَاتُ الاِسْتِثْنَاءِ مَجَازًا فِي الاِسْتِدْرَاكِ. وَهُوَ مَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ النُّحَاةِ: الاِسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ، وَحَقِيقَتُهُ الاِسْتِدْرَاكُ (ر: اسْتِثْنَاء) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ (1) } كَمَا يَجُوزُ اسْتِعْمَال لَكِنْ - مِثْل غَيْرِهَا مِمَّا يُؤَدِّي مُؤَدَّاهَا - فِي الاِسْتِثْنَاءِ بِالْمَعْنَى، إِذْ الاِسْتِثْنَاءُ بِالْمَعْنَى لَيْسَ لَهُ صِيغَةٌ مُحَدَّدَةٌ، كَقَوْلِكَ: مَا جَاءَ الْقَوْمُ لَكِنْ جَاءَ بَعْضُهُمْ.

الْقَضَاءُ:
4 - الْمُرَادُ بِهِ هُنَا: فِعْل الْعِبَادَةِ إِذَا خَرَجَ وَقْتُهَا الْمُقَدَّرُ لَهَا شَرْعًا قَبْل فِعْلِهَا صَحِيحَةً، سَوَاءٌ أَتُرِكَتْ عَمْدًا أَمْ سَهْوًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمُكَلَّفُ قَدْ تَمَكَّنَ مِنْ فِعْلِهَا فِي الْوَقْتِ، كَالْمُسَافِرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّوْمِ. أَمْ لَمْ يَتَمَكَّنْ (2) ، كَالنَّائِمِ وَالنَّاسِي بِالنِّسْبَةِ لِلصَّلاَةِ. أَمَّا الاِسْتِدْرَاكُ فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْقَضَاءِ، إِذْ أَنَّهُ يَشْمَل
__________
(1) سورة النساء / 157
(2) شرح مسلم الثبوت1 / 85 مطبوع مع المستصفى.

(3/270)


تَلاَفِيَ النَّقْصِ بِكُل وَسِيلَةٍ مَشْرُوعَةٍ، وَمِنْهُ قَوْل صَاحِبِ مُسَلَّمِ الثُّبُوتِ وَشَارِحِهِ: " الْقَضَاءُ فِعْل الْوَاجِبِ بَعْدَ وَقْتِهِ الْمُقَدَّرِ شَرْعًا اسْتِدْرَاكًا لِمَا فَاتَ (1) " فَجَعَل الْقَضَاءَ اسْتِدْرَاكًا.

الإِْعَادَةُ:
5 - هِيَ: فِعْل الْعِبَادَةِ ثَانِيًا فِي الْوَقْتِ لِخَلَلٍ وَاقِعٍ فِي الْفِعْل الأَْوَّل (2)
وَالاِسْتِدْرَاكُ أَعَمُّ مِنَ الإِْعَادَةِ كَذَلِكَ.

التَّدَارُكُ:
6 - لَمْ نَجِدْ أَحَدًا مِنَ الْفُقَهَاءِ عَرَّفَ التَّدَارُكَ، وَلَكِنَّهُ دَائِرٌ فِي كَلاَمِهِمْ كَثِيرًا، وَيَعْنُونَ بِهِ فِي الأَْفْعَال: فِعْل الْعِبَادَةِ أَوْ فِعْل جُزْئِهَا إِذَا تَرَكَ الْمُكَلَّفُ فِعْل ذَلِكَ فِي مَحَلِّهِ الْمُقَرَّرِ شَرْعًا مَا لَمْ يَفُتْ. كَمَا فِي قَوْل صَاحِبِ كَشَّافِ الْقِنَاعِ (3) : " لَوْ دُفِنَ الْمَيِّتُ قَبْل الْغُسْل وَقَدْ أَمْكَنَ غُسْلُهُ لَزِمَ نَبْشُهُ، وَأَنْ يُخْرَجَ وَيُغَسَّل تَدَارُكًا لِوَاجِبِ غُسْلِهِ ".
وَقَدْ يَقَعُ الْغَلَطُ فِي الأَْقْوَال فَيَحْتَاجُ الإِْنْسَانُ إِلَى تَدَارُكِهِ، بِأَنْ يُبْطِلَهُ وَيُثْبِتَ الصَّوَابَ، وَلِذَلِكَ طُرُقٌ مِنْهَا: بَدَل الْغَلَطِ، وَمِنْهَا " بَل " فِي الإِْيجَابِ وَالأَْمْرِ. وَفَسَّرَ بَعْضُهُمُ التَّدَارُكَ بِبَل بِكَوْنِ الإِْخْبَارِ الأَْوَّل أَوْلَى مِنْهُ الإِْخْبَارُ الثَّانِي، فَيَعْرِضُ عَنِ الأَْوَّل إِلَى الثَّانِي، لاَ أَنَّهُ إِبْطَال الأَْوَّل وَإِثْبَاتُ الثَّانِي (4) .
__________
(1) انظر أيضا شرح مسلم الثبوت 1 / 85
(2) ابن عابدين 1 / 486 ط الأولى بولاق 1274 هـ، وشرح مسلم الثبوت 1 / 85، والمستصفى 1 / 95 والمطبوع مع شرح مسلم الثبوت.
(3) كشاف القناع 2 / 86
(4) التوضيح على التنقيح 1 / 362 المطبعة الخيرية، وتيسير التحرير 2 / 202

(3/271)


الإِْصْلاَحُ:
7 - وَهُوَ اصْطِلاَحٌ لِلْمَالِكِيَّةِ ذَكَرُوهُ فِي بَابِ سُجُودِ السَّهْوِ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا: قَوْل الدَّرْدِيرِ " مَنْ كَثُرَ مِنْهُ الشَّكُّ فَلاَ إِصْلاَحَ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَصْلَحَ بِأَنْ أَتَى بِمَا شَكَّ فِيهِ لَمْ تَبْطُل صَلاَتُهُ (1) " (فَهُوَ بِمَعْنَى التَّدَارُكِ) .

الاِسْتِئْنَافُ:
8 - اسْتِئْنَافُ الْعَمَل: ابْتِدَاؤُهُ، أَيْ فِعْلُهُ مُرَّةً أُخْرَى إِذَا نُقِضَ الْفِعْل الأَْوَّل قَبْل تَمَامِهِ. فَاسْتِئْنَافُ الصَّلاَةِ تَجْدِيدُ التَّحْرِيمَةِ بَعْدَ إِبْطَال التَّحْرِيمَةِ الأُْولَى، وَبِهَذَا الْمَعْنَى وَقَعَ فِي قَوْلِهِمْ: " الْمُصَلِّي إِذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ يَتَوَضَّأُ، ثُمَّ يَبْنِي عَلَى صَلاَتِهِ، أَوْ يَسْتَأْنِفُ، وَالاِسْتِئْنَافُ أَوْلَى (2) "
وَكَاسْتِئْنَافِ الأَْذَانِ إِذَا قَطَعَهُ بِفَاصِلٍ طَوِيلٍ، وَاسْتِئْنَافِ الصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ إِذَا انْقَطَعَ التَّتَابُعُ.
فَالاِسْتِئْنَافُ عَلَى هَذَا طَرِيقَةٌ مِنْ طُرُقِ الاِسْتِدْرَاكِ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِئْنَاف) .
هَذَا وَبِسَبَبِ اسْتِعْمَال هَذَا الْمُصْطَلَحِ " الاِسْتِدْرَاكُ " بِمَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الاِسْتِدْرَاكُ الْقَوْلِيُّ بِأَدَاةِ الاِسْتِدْرَاكِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَهَا، وَالآْخَرُ: الاِسْتِدْرَاكُ بِإِصْلاَحِ الْخَلَل فِي الأَْفْعَال وَالأَْقْوَال، يَنْقَسِمُ الْبَحْثُ قِسْمَيْنِ تَبَعًا لِذَلِكَ.
__________
(1) الدسوقي والشرح الكبير 1 / 276، 278 ط دار الفكر.
(2) كشاف اصطلاحات الفنون مادة (استدراك) .

(3/271)


الْقِسْمُ الأَْوَّل
الاِسْتِدْرَاكُ الْقَوْلِيُّ بِ " لَكِنَّ " وَأَخَوَاتِهَا
صِيَغُ الاِسْتِدْرَاكِ:
هِيَ: لَكِنَّ (مُشَدَّدَةٌ) وَلَكِنْ (مُخَفَّفَةٌ) وَبَل وَعَلَى، وَأَدَوَاتُ الاِسْتِثْنَاءِ.

9 - أ - لَكِنَّ: وَهِيَ أُمُّ الْبَابِ. وَهِيَ الْمَوْضُوعَةُ لَهُ (1) .
وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الأُْصُولِيِّينَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي اسْتِعْمَال " لَكِنَّ " وَمَا فِي مَعْنَاهَا لِلاِسْتِدْرَاكِ: الاِخْتِلاَفُ بَيْنَ مَا قَبْل (لَكِنَّ) وَمَا بَعْدَهَا بِالإِْيجَابِ وَالسَّلْبِ لَفْظًا، نَحْوُ مَا جَاءَ زَيْدٌ لَكِنَّ أَخَاهُ جَاءَ.
وَلَوْ كَانَ الاِخْتِلاَفُ مَعْنَوِيًّا جَازَ أَيْضًا (2) . كَقَوْل الْقَائِل: عَلِيٌّ حَاضِرٌ لَكِنَّ أَخَاهُ مُسَافِرٌ، أَيْ لَيْسَ بِحَاضِرٍ.

ب - لَكِنْ:
" بِسُكُونِ النُّونِ " فَهِيَ فِي الأَْصْل مُخَفَّفَةٌ مِنْ " لَكِنَّ "، وَتَكُونُ عَلَى حَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الأَْغْلَبُ أَنْ تَكُونَ ابْتِدَائِيَّةً فَتَلِيهَا جُمْلَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (3)
وَالْحَال الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ عَاطِفَةً، وَيُشْتَرَطُ لِذَلِكَ: أَنْ يَسْبِقَهَا نَفْيٌ أَوْ نَهْيٌ، وَأَنْ يَلِيَهَا مُفْرَدٌ، وَأَلاَّ تَدْخُل عَلَيْهَا الْوَاوُ مِثْل: مَا جَاءَ زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو.
__________
(1) مغني اللبيب لابن هشام بحاشية الدسوقي 1 / 292
(2) شرح مسلم الثبوت 2 / 237، وشرح التوضيح على التنقيح مع حاشية التفتازاني والفنري ص 263
(3) سورة الإسراء / 44

(3/272)


وَلاَ تَخْلُو فِي كِلاَ الْحَالَيْنِ مِنْ مَعْنَى الاِسْتِدْرَاكِ، فَتُقَرِّرُ حُكْمَ مَا قَبْلَهَا، وَتُثْبِتُ نَقِيضَهُ لِمَا بَعْدَهَا (1) .

ج - بَل:
إِذَا سَبَقَهَا نَفْيٌ أَوْ نَهْيٌ تَكُونُ حَرْفَ اسْتِدْرَاكٍ (2) مِثْل (لَكِنْ) تُقَرِّرُ حُكْمَ مَا قَبْلَهَا، وَتُثْبِتُ نَقِيضَهُ لِمَا بَعْدَهَا.
فَإِنْ وَقَعَتْ بَعْدَ إِيجَابٍ أَوْ أَمْرٍ لَمْ تُفِدْ ذَلِكَ، بَل تُفِيدُ الإِْضْرَابَ عَنِ الأَْوَّل، حَتَّى كَأَنَّهُ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، وَتَنْقُل حُكْمَهُ لِمَا بَعْدَهَا، كَقَوْلِكَ: جَاءَ زَيْدٌ بَل عَمْرٌو، وَهَذَا مَا يُسَمَّى بِالإِْضْرَابِ الإِْبْطَالِيِّ. قَال السَّعْدُ: " أَيْ إِنَّ الإِْخْبَارَ عَنْهُ مَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ. وَإِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ " لاَ " صَارَ نَصًّا فِي نَفْيِ الأَْوَّل ".
وَلِذَا لاَ يَقَعُ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ وَلاَ فِي السُّنَّةِ، إِلاَّ عَلَى سَبِيل الْحِكَايَةِ.
وَقَدْ تَكُونُ لِلإِْضْرَابِ الاِنْتِقَالِيِّ، أَيْ مِنْ غَرَضٍ إِلَى آخَرَ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَل تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} . (3)
__________
(1) شرح ابن عقيل وحاشية الخضري 2 / 65، 66 ط مصطفى الحلبي 1341 هـ، وشرح الكوكب المنير ص 84 ط حامد الفقي. وشرح التوضيح1 / 363
(2) ابن هشام في المغني في أوائل الباب السادس. ونقله الصبان في حاشيته على الأشموني 3 / 113 وأقره، والخضري على شرح ابن عقيل 2 / 65، 66، وحاشية السعد على التوضيح شرح التنقيح 1 / 362
(3) المنار وحواشيه ص 451، وتيسير التحرير 2 / 202، والآية من سورة الأعلى / 14 - 16

(3/272)


د - عَلَى:
تُسْتَعْمَل لِلاِسْتِدْرَاكِ، كَمَا فِي قَوْل الشَّاعِرِ:

بِكُلٍّ تَدَاوَيْنَا فَلَمْ يَشْفِ مَا بِنَا
عَلَى أَنَّ قُرْبَ الدَّارِ خَيْرٌ مِنَ الْبُعْدِ
عَلَى أَنَّ قُرْبَ الدَّارِ لَيْسَ بِنَافِعٍ
إِذَا كَانَ مَنْ تَهْوَاهُ لَيْسَ بِذِي وُدِّ (1) .

هـ - أَدَوَاتُ الاِسْتِثْنَاءِ:
قَدْ تُسْتَخْدَمُ أَدَوَاتُ الاِسْتِثْنَاءِ فِي الاِسْتِدْرَاكِ، فَيَقُولُونَ: زَيْدٌ غَنِيٌّ غَيْرَ أَنَّهُ بَخِيلٌ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {قَال لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ} وَهَذَا مَا يُسَمَّى الاِسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ (ر: اسْتِثْنَاء) ، فَيُسْتَعْمَل فِي ذَلِكَ (إِلاَّ وَغَيْرُ) ، وَيُسْتَعْمَل فِيهِ أَيْضًا (سِوَى) عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَ أَهْل اللُّغَةِ (2) .

شُرُوطُ الاِسْتِدْرَاكِ:
10 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الاِسْتِدْرَاكِ شُرُوطٌ، وَهِيَ:

الشَّرْطُ الأَْوَّل:
اتِّصَالُهُ بِمَا قَبْلَهُ وَلَوْ حُكْمًا. فَلاَ يَضُرُّ انْفِصَالُهُ بِمَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْكَلاَمِ الأَْوَّل، أَوْ بِمَا لاَ بُدَّ لَهُ مِنْهُ، كَتَنَفُّسٍ وَسُعَالٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِنْ حَال بَيْنَهُ وَبَيْنَ الأَْوَّل سُكُوتٌ يُمْكِنُهُ الْكَلاَمُ فِيهِ، أَوْ كَلاَمٌ أَجْنَبِيٌّ عَنِ الْمَوْضُوعِ، اسْتَقَرَّ حُكْمُ الْكَلاَمِ الأَْوَّل، وَبَطَل الاِسْتِدْرَاكُ.
فَلَوْ أَقَرَّ لِزَيْدٍ بِثَوْبٍ، فَقَال زَيْدٌ: مَا كَانَ لِي قَطُّ، لَكِنْ لِعَمْرٍو، فَإِنْ وَصَل فَلِعَمْرٍو، وَإِنْ فَصَل
__________
(1) مغني اللبيب بحاشية الدسوقي 1 / 157
(2) شرح ابن عقيل وحاشية الخضري 2 / 209، 210، والآية من سورة هود / 43

(3/273)


فَلِلْمُقِرِّ، لأَِنَّ النَّفْيَ يَحْتَمِل أَمْرَيْنِ: يَحْتَمِل أَنْ يَكُونَ تَكْذِيبًا لِلْمُقِرِّ وَرَدًّا لإِِقْرَارِهِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْكَلاَمِ، فَيَكُونُ النَّفْيُ رَدًّا إِلَى الْمُقِرِّ. وَيَحْتَمِل أَلاَّ يَكُونَ تَكْذِيبًا، إِذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الثَّوْبُ مَعْرُوفًا بِكَوْنِهِ لِزَيْدٍ، ثُمَّ وَقَعَ فِي يَدِ الْمُقِرِّ فَأَقَرَّ بِهِ لِزَيْدٍ، فَقَال زَيْدٌ: الثَّوْبُ مَعْرُوفٌ بِكَوْنِهِ لِي، لَكِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ لِعَمْرٍو، فَقَوْلُهُ: " لَكِنَّهُ لِعَمْرٍو " بَيَانُ تَغْيِيرٍ لِذَلِكَ النَّفْيِ، فَيَتَوَقَّفُ عَلَى الاِتِّصَال؛ لأَِنَّ بَيَانَ التَّغْيِيرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ مَوْصُولاً، وَلاَ يَصِحُّ مُتَرَاخِيًا، فَإِنْ وَصَل يَثْبُتُ النَّفْيُ عَنْ زَيْدٍ وَالإِْثْبَاتُ لِعَمْرٍو مَعًا، إِذْ صَدْرُ الْكَلاَمِ مَوْقُوفٌ عَلَى آخِرِهِ فَيَثْبُتُ حُكْمُهُمَا مَعًا.
وَلَوْ فَصَل يَصِيرُ النَّفْيُ رَدًّا لِلإِْقْرَارِ. ثُمَّ لاَ تَثْبُتُ الْمِلْكِيَّةُ لِعَمْرٍو بِمُجَرَّدِ إِخْبَارِهِ بِذَلِكَ (1) .

الشَّرْطُ الثَّانِي:
اتِّسَاقُ الْكَلاَمِ أَيِ انْتِظَامُهُ وَارْتِبَاطُهُ. وَالْمُرَادُ أَنْ يَصْلُحَ لِلاِسْتِدْرَاكِ، بِأَنْ يَكُونَ الْكَلاَمُ السَّابِقُ لِلأَْدَاةِ بِحَيْثُ يَفْهَمُ مِنْهُ الْمُخَاطَبُ عَكْسَ الْكَلاَمِ اللاَّحِقِ لَهَا، أَوْ يَكُونُ فِيمَا بَعْدَ الأَْدَاةِ تَدَارُكٌ لِمَا فَاتَ مِنْ مَضْمُونِ الْكَلاَمِ. نَحْوُ: مَا قَامَ زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو، بِخِلاَفِ نَحْوِ: مَا جَاءَ زَيْدٌ لَكِنْ رَكِبَ الأَْمِيرُ، وَفَسَّرَ صَاحِبُ الْمَنَارِ الاِتِّسَاقَ: بِكَوْنِ مَحَل النَّفْيِ غَيْرَ مَحَل الإِْثْبَاتِ (2) ، لِيُمْكِنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَلاَ يُنَاقِضُ آخِرُ الْكَلاَمِ أَوَّلَهُ، ثُمَّ إِنِ اتَّسَقَ الْكَلاَمُ فَهُوَ اسْتِدْرَاكٌ، وَإِلاَّ فَهُوَ كَلاَمٌ مُسْتَأْنَفٌ. وَمَثَّل فِي
__________
(1) التوضيح على التنقيح وحاشية الفنري 1 / 364
(2) التوضيح على التنقيح وحواشيه 1 / 365، والمنار وحواشيه ص 453

(3/273)


التَّوْضِيحِ لِلْمُتَّسَقِ مِنْ الاِسْتِدْرَاكِ بِمَا لَوْ قَال الْمُقِرُّ: لَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ قَرْضٌ، فَقَال لَهُ الْمُقَرُّ لَهُ: لاَ، لَكِنْ غَصْبٌ. الْكَلاَمُ مُتَّسِقٌ فَصَحَّ الْوَصْل عَلَى أَنَّهُ نَفْيٌ لِسَبَبِ الْحَقِّ، وَهُوَ كَوْنُ الْمُقَرِّ بِهِ عَنْ قَرْضٍ، لاَ نَفْيٍ لِلْوَاجِبِ وَهُوَ الأَْلْفُ. فَإِنَّ قَوْلَهُ: " لاَ " لاَ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى نَفْيِ الْوَاجِبِ؛ لأَِنَّ حَمْلَهُ عَلَى نَفْيِ الْوَاجِبِ لاَ يَسْتَقِيمُ مَعَ قَوْلِهِ: " لَكِنْ غَصْبٌ " وَلاَ يَكُونُ الْكَلاَمُ مُتَّسِقًا مُرْتَبِطًا. فَلَمَّا نَفَى كَوْنَهُ قَرْضًا تَدَارَكَ بِكَوْنِهِ غَصْبًا، فَصَارَ الْكَلاَمُ مُرْتَبِطًا، وَلاَ يَكُونُ رَدًّا لإِِقْرَارِهِ بَل يَكُونُ لِمُجَرَّدِ نَفْيِ السَّبَبِ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الاِسْتِئْنَافِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: مَا إِذَا تَزَوَّجَتِ الصَّغِيرَةُ الْمُمَيِّزَةُ مِنْ كُفْءٍ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا بِمِائَةٍ، فَقَال الْوَلِيُّ: لاَ أُجِيزُ النِّكَاحَ لَكِنْ أُجِيزُهُ بِمِائَتَيْنِ. قَالُوا: يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ، وَيَجْعَل " لَكِنْ " وَمَا بَعْدَهَا كَلاَمًا مُبْتَدَأً؛ لأَِنَّهُ لَمَّا قَال: " لاَ أُجِيزُ النِّكَاحَ " انْفَسَخَ النِّكَاحُ الأَْوَّل، فَإِنَّ النَّفْيَ انْصَرَفَ إِلَى أَصْل النِّكَاحِ، فَلاَ يُمْكِنُ إِثْبَاتُ ذَلِكَ النِّكَاحِ بَعْدَ ذَلِكَ بِمِائَتَيْنِ؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ نَفْيُ النِّكَاحِ وَإِثْبَاتُهُ بِعَيْنِهِ، فَيَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرَ مُتَّسِقٍ، فَيُحْمَل " لَكِنْ بِمِائَتَيْنِ " عَلَى أَنَّهُ كَلاَمٌ مُسْتَأْنَفٌ، فَيَكُونُ إِجَازَةً لِنِكَاحٍ آخَرَ، الْمَهْرُ فِيهِ مِائَتَانِ. وَإِنَّمَا يَكُونُ كَلاَمُهُ مُتَّسِقًا لَوْ قَال بَدَل ذَلِكَ: لاَ أُجِيزُ هَذَا النِّكَاحَ بِمِائَةٍ لَكِنْ أُجِيزُهُ بِمِائَتَيْنِ؛ لأَِنَّ النَّفْيَ يَنْصَرِفُ إِلَى الْقَيْدِ وَهُوَ كَوْنُهُ بِمِائَةٍ، لاَ إِلَى أَصْل النِّكَاحِ، فَيَكُونُ الاِسْتِدْرَاكُ فِي الْمَهْرِ لاَ فِي أَصْل النِّكَاحِ. وَبِذَلِكَ لاَ يَكُونُ قَوْلُهُ إِبْطَالاً لِلنِّكَاحِ، فَلاَ يَنْفَسِخُ بِهِ. (1) وَفِي
__________
(1) التوضيح لمتن التنقيح وحواشيه 1 / 365، 366، وتيسير التحرير 2 / 202

(3/274)


د - عَلَى:
تُسْتَعْمَل لِلاِسْتِدْرَاكِ، كَمَا فِي قَوْل الشَّاعِرِ:

بِكُلٍّ تَدَاوَيْنَا فَلَمْ يَشْفِ مَا بِنَا
عَلَى أَنَّ قُرْبَ الدَّارِ خَيْرٌ مِنَ الْبُعْدِ
عَلَى أَنَّ قُرْبَ الدَّارِ لَيْسَ بِنَافِعٍ
إِذَا كَانَ مَنْ تَهْوَاهُ لَيْسَ بِذِي وُدِّ (1) .

هـ - أَدَوَاتُ الاِسْتِثْنَاءِ:
قَدْ تُسْتَخْدَمُ أَدَوَاتُ الاِسْتِثْنَاءِ فِي الاِسْتِدْرَاكِ، فَيَقُولُونَ: زَيْدٌ غَنِيٌّ غَيْرَ أَنَّهُ بَخِيلٌ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {قَال لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ} وَهَذَا مَا يُسَمَّى الاِسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ (ر: اسْتِثْنَاء) ، فَيُسْتَعْمَل فِي ذَلِكَ (إِلاَّ وَغَيْرُ) ، وَيُسْتَعْمَل فِيهِ أَيْضًا (سِوَى) عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَ أَهْل اللُّغَةِ (2) .

شُرُوطُ الاِسْتِدْرَاكِ:
10 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الاِسْتِدْرَاكِ شُرُوطٌ، وَهِيَ:

الشَّرْطُ الأَْوَّل:
اتِّصَالُهُ بِمَا قَبْلَهُ وَلَوْ حُكْمًا. فَلاَ يَضُرُّ انْفِصَالُهُ بِمَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْكَلاَمِ الأَْوَّل، أَوْ بِمَا لاَ بُدَّ لَهُ مِنْهُ، كَتَنَفُّسٍ وَسُعَالٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِنْ حَال بَيْنَهُ وَبَيْنَ الأَْوَّل سُكُوتٌ يُمْكِنُهُ الْكَلاَمُ فِيهِ، أَوْ كَلاَمٌ أَجْنَبِيٌّ عَنِ الْمَوْضُوعِ، اسْتَقَرَّ حُكْمُ الْكَلاَمِ الأَْوَّل، وَبَطَل الاِسْتِدْرَاكُ.
فَلَوْ أَقَرَّ لِزَيْدٍ بِثَوْبٍ، فَقَال زَيْدٌ: مَا كَانَ لِي قَطُّ، لَكِنْ لِعَمْرٍو، فَإِنْ وَصَل فَلِعَمْرٍو، وَإِنْ فَصَل
__________
(1) مغني اللبيب بحاشية الدسوقي 1 / 157
(2) شرح ابن عقيل وحاشية الخضري 2 / 209، 210، والآية من سورة هود / 43

(3/274)


أَوَّلاً:
الاِسْتِدْرَاكُ بِمَعْنَى تَلاَفِي النَّقْصِ
عَنِ الأَْوْضَاعِ الشَّرْعِيَّةِ
:
12 - هَذَا النَّقْصُ يَقَعُ فِي الْعِبَادَاتِ الَّتِي لَهَا أَوْضَاعٌ شَرْعِيَّةٌ مُقَرَّرَةٌ، كَالْوُضُوءِ وَالصَّلاَةِ، فَإِنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَرْكَانًا وَسُنَنًا وَهَيْئَاتٍ، تُفْعَل بِتَرْتِيبَاتٍ مُعَيَّنَةٍ. ثُمَّ قَدْ يَتْرُكُ الْمُكَلَّفُ فِعْل شَيْءٍ مِنْهَا فِي مَحَلِّهِ لِسَبَبٍ مِنَ الأَْسْبَابِ الْخَارِجَةِ عَنْ إِرَادَتِهِ، كَالْمَسْبُوقِ فِي الصَّلاَةِ أَوِ النَّاسِي أَوِ الْمُكْرَهِ، وَقَدْ يَتْرُكُ ذَلِكَ عَمْدًا، وَقَدْ يَفْعَل الْمُكَلَّفُ الْفِعْل عَمْدًا عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا، أَوْ يَقَعُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ إِرَادَتِهِ مَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعِبَادَةِ أَوْ صِحَّةَ جُزْءٍ مِنْهَا.
وَالشَّرِيعَةُ قَدْ أَتَاحَتِ الْفُرْصَةَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الصُّوَرِ لاِسْتِدْرَاكِ النَّقْصِ الْحَاصِل فِي الْعَمَل.

وَسَائِل اسْتِدْرَاكِ النَّقْصِ فِي الْعِبَادَةِ:
13 - لاِسْتِدْرَاكِ النَّقْصِ فِي الْعِبَادَةِ طُرُقٌ مُخْتَلِفَةٌ بِحَسَبِ أَحْوَال ذَلِكَ النَّقْصِ. وَمِنْ تِلْكَ الْوَسَائِل:
(1) الْقَضَاءُ: وَيَكُونُ الاِسْتِدْرَاكُ بِالْقَضَاءِ فِي الْعِبَادَةِ الْوَاجِبَةِ أَوِ الْمَسْنُونَةِ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا الْمُقَدَّرِ لَهَا شَرْعًا، سَوَاءٌ فَاتَتْ عَمْدًا، أَوْ سَهْوًا كَمَا تَقَدَّمَ. وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُكَلَّفُ لَمْ يَفْعَل الْعِبَادَةَ أَصْلاً، أَوْ فَعَلَهَا عَلَى فَسَادٍ؛ لِتَرْكِ رُكْنٍ، أَوْ لِفَوَاتِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ، أَوْ لِوُجُودِ مَانِعٍ.
وَفِي اسْتِدْرَاكِ الْعِبَادَةِ الْمَسْنُونَةِ بِالْقَضَاءِ خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي (قَضَاءِ الْفَوَائِتِ) .
(2) الإِْعَادَةُ: وَهِيَ فِعْل الْعِبَادَةِ مَرَّةً أُخْرَى فِي وَقْتِهَا لِمَا وَقَعَ فِي فِعْلِهَا أَوَّلاً مِنَ الْخَلَل. وَلِمَعْرِفَةِ مَوَاقِعِ الاِسْتِدْرَاكِ بِالإِْعَادَةِ وَأَحْكَامِ الإِْعَادَةِ (ر: إِعَادَة)
(3) الاِسْتِئْنَافُ: فِعْل الْعِبَادَةِ مِنْ أَوَّلِهَا مَرَّةً أُخْرَى

(3/275)


بَعْدَ قَطْعِهَا وَالتَّوَقُّفِ فِيهَا لِسَبَبٍ مِنَ الأَْسْبَابِ، وَلِمَعْرِفَةِ مَوَاقِعِ الاِسْتِدْرَاكِ بِالاِسْتِئْنَافِ (ر: اسْتِئْنَاف) .
(4) الْفِدْيَةُ: كَاسْتِدْرَاكِ فَائِتِ الصَّوْمِ بِفِدْيَةِ طَعَامِ مِسْكِينٍ لِكُل يَوْمٍ مِمَّنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الصَّوْمَ؛ لِكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ مُزْمِنٍ. وَكَاسْتِدْرَاكِ النَّقْصِ الْحَاصِل فِي الإِْحْرَامِ مِمَّنْ قَصَّ شَعْرَهُ، أَوْ لَبِسَ ثِيَابًا بِفِدْيَةٍ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ (ر: إِحْرَام) وَشَبِيهٌ بِذَلِكَ هَدْيُ الْجُبْرَانِ فِي الْحَجِّ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (الْحَجّ) .
(5) الْكَفَّارَةُ: كَاسْتِدْرَاكِ الْمُكَلَّفِ مَا أَفْسَدَهُ مِنَ الصَّوْمِ بِالْجِمَاعِ بِالْكَفَّارَةِ (ر: كَفَّارَة) .
(6) سُجُودُ السَّهْوِ: يُسْتَدْرَكُ بِهِ النَّقْصُ الْحَاصِل فِي الصَّلاَةِ فِي بَعْضِ الأَْحْوَال. (ر: سُجُودُ السَّهْوِ) .
(7) التَّدَارُكُ: هُوَ الإِْتْيَانُ بِجُزْءِ الْعِبَادَةِ بَعْدَ مَوْضِعِهِ الْمُقَرَّرِ شَرْعًا.
ثُمَّ قَدْ يَكُونُ الاِسْتِدْرَاكُ بِوَاحِدٍ مِمَّا ذَكَرَ، وَقَدْ يَكُونُ بِأَكْثَرَ، كَمَا فِي تَرْكِ شَيْءٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ، فَإِنَّ الْمُكَلَّفَ يَتَدَارَكُهُ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، وَكَمَا فِي الْحَامِل وَالْمُرْضِعِ إِذَا خَافَتَا عَلَى وَلَدَيْهِمَا لَوْ صَامَتَا، فَإِنَّ لَهُمَا الإِْفْطَارَ، وَيَلْزَمُهُمَا الْقَضَاءُ وَالْفِدْيَةُ عَلَى قَوْل الْحَنَابِلَةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ (1) .

ثَانِيًا:
14 - تَلاَفِي الْقُصُورِ فِي الإِْخْبَارِ وَالإِْنْشَاءِ.

مَنْ تَكَلَّمَ بِكَلاَمٍ خَبَرِيٍّ أَوْ إِنْشَائِيٍّ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنَّهُ غَلِطَ فِي كَلاَمِهِ، أَوْ نَقَصَ مِنَ الْحَقِيقَةِ، أَوْ زَادَ عَلَيْهَا، أَوْ بَدَا لَهُ أَنْ يُنْشِئَ كَلاَمًا مُخَالِفًا لِمَا كَانَ قَدْ
__________
(1) المغني 3 / 139 ط 3

(3/275)


قَالَهُ فَلَهُ أَنْ يَفْعَل ذَلِكَ، بَل قَدْ يَجِبُ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الأَْحْوَال، وَخَاصَّةً فِي الْكَلاَمِ الْخَبَرِيِّ، إِذْ أَنَّهُ بِذَلِكَ يَتَدَارَكُ مَا وَقَعَ فِي كَلاَمِهِ مِنَ الْكَذِبِ وَالإِْخْبَارِ بِخِلاَفِ الْحَقِّ، وَلَكِنْ إِنْ ثَبَتَ بِالْكَلاَمِ الأَْوَّل حَقٌّ، كَمَنْ حَلَفَ يَمِينًا، أَوْ قَذَفَ غَيْرَهُ، أَوْ أَقَرَّ لَهُ، فَفِي حُكْمِ الْكَلاَمِ الْمُخَالِفِ التَّالِي لَهُ تَفْصِيلٌ، فَإِنَّ لَهُ صُورَتَيْنِ.

الصُّورَةَ الأُْولَى: أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلاً بِالأَْوَّل. فَلَهُ حَالَتَانِ.
الْحَالَةُ الأُْولَى: أَنْ يَرْتَبِطَ الثَّانِي بِالأَْوَّل بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ التَّخْصِيصِ، فَيَثْبُتُ حُكْمُهُمَا تَبَعًا حَيْثُ أَمْكَنَ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِمَّا يُمْكِنُ الرُّجُوعُ عَنْهُ كَالْوَصَايَا، أَمْ كَانَ مِمَّا لاَ رُجُوعَ فِيهِ كَالإِْقْرَارِ، فَلَوْ كَانَ الثَّانِي اسْتِثْنَاءً ثَبَتَ حُكْمُ الْمُسْتَثْنَى، وَخَرَجَ مِنْ حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، كَمَنْ قَال: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ ثَلاَثَةً، أَوْ قَال: أَعْطِهِ عَشَرَةً إِلاَّ ثَلاَثَةً، كَانَ الْبَاقِي سَبْعَةً فِي كُلٍّ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ.
وَهَكَذَا فِي كُل مَا يَتَغَيَّرُ بِهِ الْحُكْمُ فِي الْمُتَكَلَّمِ بِهِ، كَالشَّرْطِ وَالصِّفَةِ وَالْغَايَةِ وَسَائِرِ الْمُخَصِّصَاتِ الْمُتَّصِلَةِ.
فَالشَّرْطُ كَمَا لَوْ قَال: وَهَبْتُكَ مِائَةَ دِينَارٍ إِنْ نَجَحْتَ.
وَالصِّفَةُ كَمَا لَوْ قَال: أَبْرَأْتُكَ مِنْ ثَمَنِ الإِْبِل الَّتِي هَلَكَتْ عِنْدَكَ.
وَالْغَايَةُ كَمَا لَوْ قَال لِلْوَصِيِّ: أَعْطِهِ كُل يَوْمٍ دِرْهَمًا إِلَى شَهْرٍ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْ هَذِهِ الْمُخَصِّصَاتِ تَغَيَّرَ بِهِ الْحُكْمُ كُلًّا أَوْ بَعْضًا.
قَال الْقَرَافِيُّ: الْقَاعِدَةُ أَنَّ كُل كَلاَمٍ لاَ يَسْتَقِل بِنَفْسِهِ إِذَا اتَّصَل بِكَلاَمٍ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ صَيَّرَهُ غَيْرَ

(3/276)


مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ الصِّفَةُ وَالاِسْتِثْنَاءُ وَالشَّرْطُ وَالْغَايَةُ وَنَحْوُهَا. وَجُعِل مِنْهُ مَا لَوْ قَال الْمُقِرُّ: " لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ " فَقَال فِيهَا: لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَتَقْيِيدُ حُكْمِ هَذِهِ الْحَالَةِ بِأَنَّهُ " حَيْثُ أَمْكَنَ " لِيَخْرُجَ نَحْوُ قَوْل الْمُقِرِّ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ تِسْعَةً، إِذْ تَلْزَمُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الْعَشَرَةُ وَيَسْقُطُ حُكْمُ الاِسْتِثْنَاءِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ عِنْدَهُمُ اسْتِثْنَاءُ أَكْثَرَ مِنَ النِّصْفِ.
وَمِثْلُهَا عِنْدَهُمْ لَوْ قَال: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ (1) . وَلاَ خِلاَفَ فِي ذَلِكَ فِي الْمُخَصِّصَاتِ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَغَيَّرَ الْحُكْمُ بِكَلاَمٍ مُسْتَقِلٍّ، وَمِثَالُهُ مَا لَوْ قَال الْمُقِرُّ: لَهُ الدَّارُ وَهَذَا الْبَيْتُ مِنْهَا لِي، فَيُؤْخَذُ بِإِقْرَارِهِ، وَيُعْمَل بِالْقَيْدِ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ الْمَعْطُوفَ بِالْوَاوِ مَعَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي حُكْمِ الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ، خِلاَفًا لاِخْتِيَارِ ابْنِ عَقِيلٍ بِأَنَّهُ لاَ يَعْمَل الْقَيْدُ قَضَاءً؛ لأَِنَّ الْمَعْطُوفَ بِالْوَاوِ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ (2) . وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَا يُفِيدُ أَنَّ مَذْهَبَهُمْ كَمَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ (3) .
لَكِنْ لَوْ عَطَفَ فِي الإِْثْبَاتِ أَوِ الأَْمْرِ بِ " بَل ". قَال صَدْرُ الشَّرِيعَةِ " إِنَّ (بَل) لِلإِْعْرَاضِ عَمَّا قَبْلَهُ وَإِثْبَاتِ مَا بَعْدَهُ عَلَى سَبِيل التَّدَارُكِ (4) " فَإِنْ كَانَ فِيمَا يُقْبَل الرُّجُوعُ فِيهِ كَالْوَصِيَّةِ أَوِ التَّوْلِيَةِ أَوِ الْخَبَرِ الْمُجَرَّدِ، لَغَا الأَْوَّل وَثَبَتَ الثَّانِي، كَمَا لَوْ قَال: أَوْصَيْتُ لِزَيْدٍ بِأَلْفٍ بَل بِأَلْفَيْنِ، يَثْبُتُ أَلْفَانِ فَقَطْ. أَوْ قَوْل الإِْمَامِ: وَلَّيْتُ فُلاَنًا قَضَاءَ كَذَا بَل فُلاَنًا، أَوْ قَوْل الْقَائِل: ذَهَبْتُ إِلَى زَيْدٍ بَل إِلَى عَمْرٍو.
__________
(1) كشاف القناع 6 / 467
(2) القواعد لابن رجب ص 270
(3) حاشية الدسوقي 3 / 411
(4) التوضيح 1 / 361

(3/276)


وَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ رُجُوعَ فِيهِ كَالإِْقْرَارِ وَالطَّلاَقِ ثَبَتَ حُكْمُ الأَْوَّل، وَلَمْ يُمْكِنْ إِبْطَالُهُ، فَلَوْ قَال الْمُقِرُّ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ، بَل أَلْفُ ثَوْبٍ، يَلْزَمُهُ الْجَمِيعُ؛ لأَِنَّهُمَا مِنْ جِنْسَيْنِ. وَلَوْ قَال: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ، بَل أَلْفَانِ يَثْبُتُ الأَْلْفَانِ، قَال التَّفْتَازَانِيُّ: " لأَِنَّ التَّدَارُكَ فِي الأَْعْدَادِ يُرَادُ بِهِ نَفْيُ انْفِرَادِ مَا أَقَرَّ بِهِ أَوَّلاً، لاَ نَفْيُ أَصْلِهِ، فَكَأَنَّهُ قَال أَوَّلاً: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ، ثُمَّ تَدَارَكَ ذَلِكَ الاِنْفِرَادَ وَأَبْطَلَهُ " وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلاَفُ زُفَرَ إِذْ قَال: " بَل يَثْبُتُ ثَلاَثَةُ آلاَفٍ ".
وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ فِي أَنَّهُ لَوْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً بَل طَلْقَتَيْنِ أَنَّهُ يَقَعُ بِهِ - فِي الْمَدْخُول بِهَا - ثَلاَثُ طَلْقَاتٍ. وَوَجَّهَ صَاحِبُ مُسَلَّمِ الثُّبُوتِ وَشَارِحِهِ الْفَرْقَ بَيْنَ مَسْأَلَتَيِ الإِْقْرَارِ وَالطَّلاَقِ بِأَنَّ الإِْقْرَارَ إِخْبَارٌ عَلَى الأَْصَحِّ فَلاَ يَثْبُتُ شَيْئًا، فَلَهُ أَنْ يُعْرِضَ عَنْ خَبَرٍ كَانَ أَخْبَرَ بِهِ، وَيُخْبِرَ بَدَلَهُ بِخَبَرٍ آخَرَ، بِخِلاَفِ الإِْنْشَاءِ إِذْ بِهِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ، وَلَيْسَ فِي يَدِهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ أَنْ يُعْرِضَ عَنْهُ (1) .
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: فَلاَ يَقَعُ فِي مَسْأَلَةِ الطَّلاَقِ الْمَذْكُورَةِ إِلاَّ طَلْقَتَانِ، كَمَا لاَ يَلْزَمُهُ فِي مَسْأَلَةِ الإِْقْرَارِ إِلاَّ أَلْفَانِ (2) .

الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ:
أَنْ يَكُونَ الْكَلاَمُ الثَّانِي مُتَرَاخِيًا عَنِ الأَْوَّل مُنْفَصِلاً عَنْهُ. فَلَهُ حَالَتَانِ:
الْحَالَةُ الأُْولَى: أَنْ يَكُونَ فِي كَلاَمٍ لاَ يُمْكِنُ الرُّجُوعُ عَنْهُ، وَلاَ يُقْبَل مِنْهُ، كَالأَْقَارِيرِ وَالْعُقُودِ، فَلاَ
__________
(1) التلويح على التوضيح 1 / 362، وانظر شرح مسلم الثبوت 2 / 232
(2) كشاف القناع 5 / 267، 6 / 484

(3/277)


يَكُونُ الإِْقْرَارُ الثَّانِي وَلاَ الْعَقْدُ الثَّانِي رُجُوعًا عَنِ الأَْوَّل. فَلَوْ أَقَرَّ لَهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ سَكَتَ سُكُوتًا يُمْكِنُهُ الْكَلاَمُ فِيهِ، ثُمَّ قَال " زَائِفَةٌ " أَوْ " إِلَى شَهْرٍ " لَزِمَهُ مِائَةٌ جَيِّدَةٌ حَالَّةٌ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ رُجُوعُهُ مُمْكِنًا، كَالْوَصِيَّةِ وَعَزْل الإِْمَامِ أَحَدًا مِمَّنْ يُمْكِنُهُ عَزْلُهُمْ وَتَوْلِيَتُهُمْ، فَإِنْ صَرَّحَ بِرُجُوعِهِ عَنِ الأَْوَّل، أَوْ بِإِلْحَاقِهِ شَرْطًا، أَوْ تَقْيِيدِهِ بِحَالٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لَحِقَ - وَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ قَصَدَ الرُّجُوعَ - فَهَذَا يُشْبِهُ التَّعَارُضَ فِي الأَْدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَهُوَ تَبْدِيلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُطْلَقًا. وَلَوْ كَانَ خَاصًّا بَعْدَ عَامٍّ أَوْ عَكْسَهُ فَالْعَمَل بِالثَّانِي بِكُل حَالٍ. وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ قَدْ يَجْرِي فِيهِ تَقْدِيمُ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ سَوَاءٌ أَكَانَ الْخَاصُّ سَابِقًا أَمْ مُتَأَخِّرًا (1) .

اسْتِدْلاَلٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِدْلاَل لُغَةً: طَلَبُ الدَّلِيل (2) ، وَهُوَ مِنْ دَلَّهُ عَلَى الطَّرِيقِ دَلاَلَةً: إِذَا أَرْشَدَهُ إِلَيْهِ (3) .
وَلَهُ فِي عُرْفِ الأُْصُولِيِّينَ إِطْلاَقَاتٌ (4) . أَهَمُّهَا اثْنَانِ:
الأَْوَّل: أَنَّهُ إِقَامَةُ الدَّلِيل مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ أَكَانَ الدَّلِيل نَصًّا، أَمْ إِجْمَاعًا، أَمْ غَيْرَهُمَا.
__________
(1) القواعد لابن رجب ص 270، وكشاف القناع 6 / 470
(2) كشاف اصطلاحات الفنون، وكليات أبي البقاء 1 / 174 ط دمشق.
(3) تاج العروس مادة: (دل) .
(4) كشاف اصطلاحات الفنون 2 / 498، 499

(3/277)


وَالثَّانِي: أَنَّهُ الدَّلِيل الَّذِي لَيْسَ بِنَصٍّ وَلاَ إِجْمَاعٍ وَلاَ قِيَاسٍ.
وَفِي قَوْلٍ: الدَّلِيل الَّذِي لَيْسَ بِنَصٍّ وَلاَ إِجْمَاعٍ وَلاَ قِيَاسٍ عِلَّةٌ. قَال الشِّرْبِينِيُّ: " الاِسْتِفْعَال يَرِدُ لِمَعَانٍ. وَعِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا هُنَا (أَيْ فِي هَذَا الإِْطْلاَقِ الثَّانِي) الاِتِّخَاذُ. وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ اتُّخِذَتْ أَدِلَّةً، أَمَّا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإِْجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ فَقِيَامُهَا أَدِلَّةً لَمْ يَنْشَأْ عَنْ صَنِيعِ الْمُجْتَهِدِينَ وَاجْتِهَادِهِمْ، أَمَّا الاِسْتِصْحَابُ وَنَحْوُهُ مِمَّا اعْتُبِرَ اسْتِدْلاَلاً فَشَيْءٌ قَالَهُ كُل إِمَامٍ بِمُقْتَضَى اجْتِهَادِهِ، فَكَأَنَّهُ اتَّخَذَهُ دَلِيلاً (1) ".
2 - فَعَلَى هَذَا الإِْطْلاَقِ الثَّانِي يَدْخُل فِي الاِسْتِدْلاَل الأَْدِلَّةُ التَّالِيَةُ:
(1، 2) - الْقِيَاسُ الاِقْتِرَانِيُّ، وَالْقِيَاسُ الاِسْتِثْنَائِيُّ، وَهُمَا نَوْعَا الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ. مِثَال الاِقْتِرَانِيِّ: النَّبِيذُ مُسْكِرٌ، وَكُل مُسْكِرٍ حَرَامٌ، يُنْتِجُ: النَّبِيذُ حَرَامٌ. وَمِثَال الاِسْتِثْنَائِيِّ: إِنْ كَانَ النَّبِيذُ مُسْكِرًا فَهُوَ حَرَامٌ، لَكِنَّهُ مُسْكِرٌ، يُنْتِجُ: فَهُوَ حَرَامٌ. أَوْ: إِنْ كَانَ النَّبِيذُ مُبَاحًا فَهُوَ لَيْسَ بِمُسْكِرٍ، لَكِنَّهُ مُسْكِرٌ، يُنْتِجُ: فَهُوَ لَيْسَ بِمُبَاحٍ.
(3) وَقِيَاسُ الْعَكْسِ: ذَكَرَ السُّبْكِيُّ أَنَّهُ مِنْ الاِسْتِدْلاَل. وَقِيَاسُ الْعَكْسِ هُوَ: إِثْبَاتُ عَكْسِ حُكْمِ شَيْءٍ لِمِثْلِهِ، لِتَعَاكُسِهِمَا فِي الْعِلَّةِ، كَمَا فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ: وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ قَالُوا: أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَلَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَال: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا
__________
(1) جمع الجوامع بتقريرات الشربيني 2 / 358 ط الأزهرية.

(3/278)


وَضَعَهَا فِي الْحَلاَل كَانَ لَهُ أَجْرٌ (1)
(4) وَقَوْل الْعُلَمَاءِ: الدَّلِيل يَقْتَضِي أَلاَّ يَكُونَ الأَْمْرُ كَذَا، خُولِفَ فِي صُورَةِ كَذَا، لِمَعْنًى مَفْقُودٍ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ، فَتَبْقَى هِيَ عَلَى الأَْصْل الَّذِي اقْتَضَاهُ الدَّلِيل.
(5) انْتِفَاءُ الْحُكْمِ لاِنْتِفَاءِ دَلِيلِهِ، بِأَنْ لَمْ يَجِدْهُ الْمُجْتَهِدُ بَعْدَ الْفَحْصِ الشَّدِيدِ، فَعَدَمُ وِجْدَانِهِ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ. قَال فِي الْمُحَلَّى: خِلاَفًا لِلأَْكْثَرِ.
(6) قَوْل الْعُلَمَاءِ: وُجِدَ السَّبَبُ فَوُجِدَ الْحُكْمُ، أَوْ وُجِدَ الْمَانِعُ أَوْ فُقِدَ الشَّرْطُ فَانْتَفَى الْحُكْمُ، قَال السُّبْكِيُّ: خِلاَفًا لِلأَْكْثَرِ.
(7) الاِسْتِقْرَاءُ وَهُوَ: الاِسْتِدْلاَل بِالْجُزْئِيِّ عَلَى الْكُلِّيِّ. قَال السُّبْكِيُّ: فَإِنْ كَانَ تَامًّا بِكُل الْجُزْئِيَّاتِ إِلاَّ صُورَةَ النِّزَاعِ، فَهُوَ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ عِنْدَ الأَْكْثَرِ، وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا، أَيْ بِأَكْثَرِ الْجُزْئِيَّاتِ، فَدَلِيلٌ ظَنِّيٌّ. وَيُسَمَّى هَذَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِإِلْحَاقِ الْفَرْدِ بِالأَْغْلَبِ.
(8) الاِسْتِصْحَابُ وَهُوَ كَمَا عَرَّفَهُ السَّعْدُ: الْحُكْمُ بِبَقَاءِ أَمْرٍ كَانَ فِي الزَّمَانِ الأَْوَّل، وَلَمْ يَظُنَّ عَدَمَهُ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل الْقَوْل فِيهِ فِي بَحْثِ الاِسْتِصْحَابِ، وَفِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ. وَنَفَى قَوْمٌ أَنْ يَكُونَ اسْتِدْلاَلاً.
(9) شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا، عَلَى تَفْصِيلٍ فِيهِ، يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ. وَنَفَى قَوْمٌ أَنْ يَكُونَ اسْتِدْلاَلاً.
__________
(1) حديث " وفي بضع أحدكم. . . " أخرجه مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه 2 / 297 ط عيسى الحلبي.

(3/278)


ذَكَرَ هَذِهِ الأَْنْوَاعَ التِّسْعَةَ السُّبْكِيُّ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ (1) .
(10) وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ الاِسْتِحْسَانَ، وَاسْتَدَل بِهِ غَيْرُهُمْ لَكِنْ سَمَّوْهُ بِأَسْمَاءٍ أُخْرَى.
(11) وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ الْمَصَالِحَ الْمُرْسَلَةَ. وَسَمَّاهُ الْغَزَالِيُّ الاِسْتِدْلاَل الْمُرْسَل (2) . وَسَمَّاهُ أَيْضًا الاِسْتِصْلاَحَ، وَاسْتَدَل بِهِ غَيْرُهُمْ.
(12) وَيَدْخُل فِي الاِسْتِدْلاَل أَيْضًا: الْقِيَاسُ فِي مَعْنَى الأَْصْل، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِتَنْقِيحِ الْمَنَاطِ.
(13) وَفِي كَشْفِ الأَْسْرَارِ لِلْبَزْدَوِيِّ: الاِسْتِدْلاَل هُوَ: انْتِقَال الذِّهْنِ مِنَ الْمُؤَثِّرِ إِلَى الأَْثَرِ، وَقِيل بِالْعَكْسِ، وَقِيل مُطْلَقًا. وَقِيل: بَل الاِنْتِقَال مِنَ الْمُؤَثِّرِ إِلَى الأَْثَرِ يُسَمَّى تَعْلِيلاً، وَالاِنْتِقَال مِنَ الأَْثَرِ إِلَى الْمُؤَثِّرِ يُسَمَّى اسْتِدْلاَلاً (3) .
3 - وَأَكْثَرُ هَذِهِ الأَْنْوَاعِ يُفَصَّل الْقَوْل فِيهَا تَحْتَ مُصْطَلَحَاتِهَا الْخَاصَّةِ، وَيُرْجَعُ إِلَيْهَا أَيْضًا فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.

مَوَاطِنُ الْبَحْثِ فِي كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ:
4 - يَرِدُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ ذِكْرُ الاِسْتِدْلاَل فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ. مِنْهَا فِي مَبْحَثِ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ: الاِسْتِدْلاَل بِالنُّجُومِ، وَمَهَابِّ الرِّيَاحِ، وَالْمَحَارِيبِ الْمَنْصُوبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ عَلَى الْقِبْلَةِ. وَمِنْهَا فِي مَبْحَثِ مَوَاقِيتِ الصَّلاَةِ: الاِسْتِدْلاَل بِالنُّجُومِ وَمَقَادِيرِ الظِّلاَل عَلَى
__________
(1) جمع الجوامع وشرح المحلي 2 / 342 - 345 ط مصطفى الحلبي، وحاشية التفتازاني على شرح العضد لمختصر ابن الحاجب 2 / 280 وما بعدها، نشر جامعة البيضاء - ليبيا، والتلويح على التوضيح 2 / 101، وإرشاد الفحول ص 238، والبناني على جمع الجوامع 2 / 348
(2) المستصفى 2 / 306 ط بولاق.
(3) كشاف اصطلاحات الفنون 2 / 498، 499 ط كلكتة.

(3/279)


سَاعَاتِ اللَّيْل وَالنَّهَارِ، وَمَوَاعِيدِ الصَّلاَةِ. وَمِنْهَا فِي مَبْحَثِ الدَّعَاوَى وَالْبَيِّنَاتِ: الاِسْتِدْلاَل عَلَى الْحَقِّ بِالشَّهَادَاتِ، وَالْقَرَائِنِ وَالْفِرَاسَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

اسْتِرَاقُ السَّمْعِ
التَّعْرِيفُ:
1 - قَال أَهْل اللُّغَةِ: اسْتِرَاقُ السَّمْعِ يَعْنِي التَّسَمُّعَ مُسْتَخْفِيًا. وَقَال الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: هُوَ الْخَطْفَةُ الْيَسِيرَةُ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّجَسُّسُ:
2 - التَّجَسُّسُ هُوَ: التَّفْتِيشُ عَنْ بَوَاطِنِ الأُْمُورِ، وَمِنَ الْفُرُوقِ بَيْنَ التَّجَسُّسِ وَاسْتِرَاقِ السَّمْعِ مَا يَلِي:
أَنَّ التَّجَسُّسَ هُوَ التَّنْقِيبُ عَنْ أُمُورٍ مُعَيَّنَةٍ، يَبْغِي الْمُتَجَسِّسُ الْحُصُول عَلَيْهَا، أَمَّا اسْتِرَاقُ السَّمْعِ فَيَكُونُ بِحَمْل مَا يَقَعُ لَهُ مِنْ مَعْلُومَاتٍ. وَأَنَّ التَّجَسُّسَ مَبْنَاهُ عَلَى الصَّبْرِ وَالتَّأَنِّي لِلْحُصُول عَلَى الْمَعْلُومَاتِ الْمَطْلُوبَةِ، أَمَّا اسْتِرَاقُ السَّمْعِ فَإِنَّ مَبْنَاهُ عَلَى التَّعَجُّل.
وَيَرَى الْبَعْضُ: أَنَّ التَّجَسُّسَ يَعْنِي الْبَحْثَ
__________
(1) لسان العرب، وتاج العروس، والنهاية، ومفردات الراغب الأصفهاني، والمصباح: مادة (سرق) .

(3/279)


عَنِ الْعَوْرَاتِ، وَأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا يُقَال فِي الشَّرِّ (1) . أَمَّا اسْتِرَاقُ السَّمْعِ فَيَكُونُ فِيهِ حَمْل مَا يَقَعُ لَهُ مِنْ أَقْوَالٍ، خَيْرًا كَانَتْ أَمْ شَرًّا.

ب - التَّحَسُّسُ:
3 - التَّحَسُّسُ أَعَمُّ مِنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ، قَال فِي عَوْنِ الْمَعْبُودِ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلاَ تَحَسَّسُوا أَيْ: لاَ تَطْلُبُوا الشَّيْءَ بِالْحَاسَّةِ، كَاسْتِرَاقِ السَّمْعِ. وَيَقْرَبُ مِنْ هَذَا مَا فِي شَرْحِ النَّوَوِيِّ لِصَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَمَا فِي فَتْحِ الْبَارِي وَعُمْدَةِ الْقَارِي لِشَرْحِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ (2) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - الأَْصْل تَحْرِيمُ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ، وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ عَلَى لِسَانِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ اسْتَمَعَ إِلَى حَدِيثِ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، أَوْ يَفِرُّونَ مِنْهُ، صُبَّ فِي أُذُنَيْهِ الآْنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلاَ تَحَسَّسُوا وَلاَ تَجَسَّسُوا (3) وَلأَِنَّ الأَْسْرَارَ الشَّخْصِيَّةَ لِلنَّاسِ مُحْتَرَمَةٌ لاَ يَجُوزُ انْتِهَاكُهَا إِلاَّ بِحَقٍّ مَشْرُوعٍ.
5 - يُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا النَّهْيِ: الْحَالاَتُ الَّتِي يُشْرَعُ فِيهَا التَّجَسُّسُ (الَّذِي هُوَ أَشَدُّ تَحْرِيمًا مِنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ) كَمَا لَوْ تَعَيَّنَ التَّجَسُّسُ أَوِ اسْتِرَاقُ السَّمْعِ
__________
(1) تفسير القرطبي 10 / 10 طبع دار الكتب المصرية.
(2) حديث: " ولا تجسسوا. . . " أخرجه البخاري ومسلم ومالك وأحمد بن حنبل وأبو داود والترمذي من حديث أبي هريرة (فيض القدير 3 / 122 المطبعة التجارية 1356 هـ)
(3) عون المعبود 4 / 432 طبع الهند، وشرح النووي بصحيح مسلم 16 / 119 - طبع المطبعة المصرية، وفتح الباري 10 / 396 طبع البهية المصرية، وعمدة القاري 22 / 136 طبع المنيرية.

(3/280)


طَرِيقًا إِلَى إِنْقَاذِ نَفْسٍ مِنَ الْهَلاَكِ، كَأَنْ يُخْبِرَ ثِقَةٌ بِأَنَّ فُلاَنًا خَلاَ بِشَخْصٍ لِيَقْتُلَهُ ظُلْمًا، فَيُشْرَعُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ التَّجَسُّسُ، وَمَا هُوَ أَدْنَى مِنْهُ مِنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ (1) .
كَمَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا: اسْتِرَاقُ وَلِيِّ الأَْمْرِ السَّمْعَ بِنِيَّةِ مَعْرِفَةِ الْخَلَل الْوَاقِعِ فِي الْمُجْتَمَعِ؛ لِيَقُومَ بِإِصْلاَحِهِ، فَيَحِل لِلْمُحْتَسِبِ اسْتِرَاقُ السَّمْعِ، كَمَا يَحِل لَهُ أَنْ يَنْشُرَ عُيُونَهُ؛ لِيَنْقُلُوا لَهُ أَخْبَارَ النَّاسِ وَأَحْوَال السُّوقَةِ، لِيَعْرِفَ أَلاَعِيبَهُمْ وَطُرُقَ تَحَايُلِهِمْ، فَيَضَعُ لَهُمْ مِنْ أَسَالِيبِ الْقَمْعِ مَا يَدْرَأُ ضَرَرَهُمْ عَنِ الْمُجْتَمَعِ، قَال فِي نِهَايَةِ الرُّتْبَةِ فِي طَلَبِ الْحِسْبَةِ: " وَيُلاَزِمُ الْمُحْتَسِبُ الأَْسْوَاقَ وَالدُّرُوبَ فِي أَوْقَاتِ الْغَفْلَةِ عَنْهُ، وَيَتَّخِذُ لَهُ فِيهَا عُيُونًا يُوَصِّلُونَ إِلَيْهِ الأَْخْبَارَ وَأَحْوَال السُّوقَةِ (2) ". وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَعُسُّ فِي شَوَارِعِ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ لَيْلاً يَسْتَرِقُ السَّمْعَ، وَيَتَسَقَّطُ أَخْبَارَ الْمُسْلِمِينَ لِمَعْرِفَةِ أَحْوَالِهِمْ، وَيُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ، وَيَرْفَعُ الظُّلْمَ عَنِ الْمَظْلُومِ، وَيَكْتَشِفُ الْخَلَل لِيُسَارِعَ إِلَى إِصْلاَحِهِ، وَقَصَصُهُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ لاَ تُحْصَى (3) .

عُقُوبَةُ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ:
6 - إِذَا كَانَ اسْتِرَاقُ السَّمْعِ مَنْهِيًّا عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ إِلاَّ فِي حَالاَتٍ - وَإِتْيَانُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ يُوجِبُ التَّعْزِيرَ (4) - فَإِنَّ اسْتِرَاقَ السَّمْعِ فِي غَيْرِ الْحَالاَتِ الْمَسْمُوحِ بِهِ
__________
(1) عمدة القاري 22 / 136
(2) نهاية الرتبة في طلب الحسبة ص 10 طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر 1365، وقريب من هذا ما جاء في معالم القربة وأحكام الحسبة ص 219 طبع دار الفنون بكيمبرج 1937
(3) سيرة عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص 71، والمغني 7 / 301 طبع مكتبة الرياض، والخراج لأبي يوسف ص 141
(4) حاشية ابن عابدين 3 / 177 طبعة بولاق الأولى.

(3/280)


فِيهَا يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهُ التَّعْزِيرَ.
وَيُرْجَعُ فِي تَفْصِيل أَحْكَامِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ إِلَى مُصْطَلَحِ (تَجَسُّس) . وَإِلَى بَابِ الْجِهَادِ (قَتْل الْجَاسُوسِ) وَإِلَى الْحَظْرِ وَالإِْبَاحَةِ (أَحْكَامُ النَّظَرِ) .