الموسوعة الفقهية الكويتية

إِشْرَافٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْشْرَافُ لُغَةً: مَصْدَرُ أَشْرَفَ، أَيِ اطَّلَعَ عَلَى الشَّيْءِ مِنْ أَعْلَى (1) .
وَإِشْرَافُ الْمَوْضِعِ: ارْتِفَاعُهُ، وَالإِْشْرَافُ: الدُّنُوُّ وَالْمُقَارَبَةُ.
وَانْطِلاَقًا مِنَ الْمَعْنَى الأَْوَّل أَطْلَقَ الْمُحَدِّثُونَ كَلِمَةَ إِشْرَافٍ عَلَى " الْمُرَاقَبَةِ الْمُهَيْمِنَةِ " (2) .
وَهُوَ مَعْنًى اسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ كَالْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ الأُْخْرَى. فَقَدِ اسْتَعْمَلُوهُ فِي مُرَاقَبَةِ نَاظِرِ الْوَقْفِ وَالْوَصِيِّ وَالْقَيِّمِ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمُ.

الإِْشْرَافُ بِمَعْنَى الْعُلُوِّ:

أ - إِشْرَافُ الْقَبْرِ:
2 - لاَ يَحِل أَنْ يَكُونَ الْقَبْرُ مُشْرِفًا بِالاِتِّفَاقِ، لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي الْهَيَّاجِ الأَْسَدِيِّ قَال: قَال لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَلاَ أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ
__________
(1) لسان العرب، والصحاح، مادة: (شرف) .
(2) انظر: المرجع للعلايلي مادة: (شرف) .

(5/5)


رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلاَّ تَدَعَ تِمْثَالاً إِلاَّ طَمَسْتَهُ، وَلاَ قَبْرًا مُشْرِفًا إِلاَّ سَوَّيْتَهُ (1)
وَفِي اعْتِبَارِ تَسْنِيمِ الْقَبْرِ إِشْرَافًا خِلاَفٌ تَجِدُهُ مُفَصَّلاً فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ (2) .

ب - إِشْرَافُ الْبُيُوتِ:
3 - يُبَاحُ لِلإِْنْسَانِ أَنْ يَعْلُوَ بِبِنَائِهِ مَا شَاءَ بِشَرْطَيْنِ:
الأَْوَّل: أَلاَّ يَضُرَّ بِغَيْرِهِ، كَمَنْعِ النُّورِ أَوِ الْهَوَاءِ عَنِ الْغَيْرِ (3) .
الثَّانِي: أَلاَّ يَكُونَ صَاحِبُ الْبِنَاءِ ذِمِّيًّا، فَيُمْنَعُ مِنْ تَطْوِيل بِنَائِهِ عَلَى بِنَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ رَضِيَ الْمُسْلِمُ بِذَلِكَ، لِيَتَمَيَّزَ الْبِنَاءَانِ، وَلِئَلاَّ يَطَّلِعَ عَلَى عَوْرَةِ الْمُسْلِمِ (4) . وَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ.

الإِْشْرَافُ بِمَعْنَى الاِطِّلاَعِ مِنْ أَعْلَى:
4 - يُمْنَعُ الشَّخْصُ مِنَ الإِْشْرَافِ عَلَى دَارِ غَيْرِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَلِذَلِكَ يُمْنَعُ مِنْ أَنْ يَفْتَحَ فِي جِدَارِهِ كُوَّةً يُشْرِفُ مِنْهَا عَلَى جَارِهِ وَعِيَالِهِ (5) .
5 - أَمَّا الإِْشْرَافُ عَلَى الْكَعْبَةِ وَالنَّظَرُ إِلَيْهَا فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْقُرُبَاتِ، وَالسَّاعِي بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يَصْعَدُ عَلَى الصَّفَا وَعَلَى الْمَرْوَةِ حَتَّى يُشْرِفَ عَلَى الْكَعْبَةِ،
__________
(1) حديث: " ألا تدع تمثالا إلا طمسته. . . . " أخرجه مسلم (صحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 2 / 666 ط عيسى الحلبي) .
(2) مطالب أولي النهى 1 / 910 طبع المكتب الإسلامي، وجواهر الإكليل 1 / 111 طبع شقرون، وحاشية قليوبي 1 / 341 طبع مصطفى الحلبي، وحاشية ابن عابدين 1 / 601.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 361 الطبعة البولاقية الأولى.
(4) أسنى المطالب 2 / 220، 4 / 220 طبع المكتبة الإسلامية، وحاشية ابن عابدين 3 / 276، والمغني 8 / 532.
(5) حاشية ابن عابدين 4 / 361.

(5/5)


كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ عِنْدَ كَلاَمِهِمْ عَلَى السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.

الإِْشْرَافُ بِمَعْنَى الْمُرَاقَبَةِ الْمُهَيْمِنَةِ:
6 - إِقَامَةُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الإِْشْرَافِ وَاجِبٌ تَحْقِيقًا لِلْمَصَالِحِ الَّتِي هِيَ مَقْصِدٌ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّارِعِ، وَيَتَجَلَّى ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
أ - الْوِلاَيَةُ: سَوَاءٌ أَكَانَتْ وِلاَيَةً عَامَّةً كَوِلاَيَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْقَاضِي، وَنَحْوِهِمَا، أَمْ وِلاَيَةً خَاصَّةً كَوِلاَيَةِ الأَْبِ عَلَى ابْنِهِ الصَّغِيرِ، كَمَا سَيَأْتِي ذَلِكَ مُفَصَّلاً فِي مَبْحَثِ (وِلاَيَةٌ) .
ب - الْوِصَايَةُ: كَالْوِصَايَةِ عَلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَبْحَثِ (الْحَجْرِ) .
ج - الْقِوَامَةُ: كَقِوَامَةِ الرَّجُل عَلَى زَوْجَتِهِ، كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي مَبْحَثِ (النِّكَاحِ) .
د - النِّظَارَةُ: كَنَاظِرِ الْوَقْفِ، كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.

الإِْشْرَافُ بِمَعْنَى الْمُقَارَبَةِ وَالدُّنُوِّ:
7 - يَتَرَتَّبُ عَلَى الإِْشْرَافِ بِهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ مِنَ الأَْحْكَامِ، ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ فِي أَبْوَابِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ عَلَى
سَبِيل الْمِثَال لاَ الْحَصْرِ:
أ - عَدَمُ أَكْل الذَّبِيحَةِ إِذَا ذُبِحَتْ بَعْدَ أَنْ أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَوْتِ، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ مُبَيَّنٍ فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ (التَّذْكِيَةُ) .
ب - وُجُوبُ إِنْقَاذِ مَنْ أَشْرَفَ عَلَى الْمَوْتِ كَالْغَرِيقِ وَنَحْوِهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْمُمْكِنِ إِنْقَاذُهُ.
ج - وُجُوبُ الاِنْتِفَاعِ بِاللُّقَطَةِ إِذَا أَشْرَفَتْ عَلَى التَّلَفِ. كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي كِتَابِ (اللُّقَطَةِ) .

(5/6)


إِشْرَاكٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْشْرَاكُ: مَصْدَرُ أَشْرَكَ، وَهُوَ اتِّخَاذُ الشَّرِيكِ، يُقَال أَشْرَكَ بِاَللَّهِ: جَعَل لَهُ شَرِيكًا فِي مُلْكِهِ، وَالاِسْمُ الشِّرْكُ (1) . قَال اللَّهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ لُقْمَانَ: {يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاَللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (2) هَذَا هُوَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ.
كَمَا يُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْكُفْرِ الشَّامِل لِجَمِيعِ الْمِلَل غَيْرِ الإِْسْلاَمِ. فَالشِّرْكُ أَخَصُّ مِنَ الْكُفْرِ عَلَى الإِْطْلاَقِ الْعَامِّ، فَكُل شِرْكٍ كُفْرٌ وَلاَ عَكْسَ.
كَمَا يُطْلَقُ الإِْشْرَاكُ عَلَى مُخَالَطَةِ الشَّرِيكَيْنِ. يُقَال: أَشْرَكَ غَيْرَهُ فِي الأَْمْرِ أَوِ الْبَيْعِ: جَعَلَهُ لَهُ شَرِيكًا. كَمَا يُقَال: تَشَارَكَ الرَّجُلاَنِ، وَاشْتَرَكَا، وَشَارَكَ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ (3) . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحَيْ (تَوْلِيَةٍ، وَشَرِكَةٍ) .

الإِْشْرَاكُ بِاَللَّهِ تَعَالَى:
2 - الإِْشْرَاكُ بِاَللَّهِ تَعَالَى جِنْسٌ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ، وَكُلُّهُ مَذْمُومٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ أَكْبَرَ مِنْ بَعْضٍ.
وَالشِّرْكُ لَهُ مَرَاتِبُ، فَمِنْهُ الشِّرْكُ الأَْكْبَرُ، وَمِنْهُ الأَْصْغَرُ، وَهُوَ الشِّرْكُ الْخَفِيُّ.

أ - الشِّرْكُ الأَْكْبَرُ: وَهُوَ اتِّخَاذُ الشَّرِيكِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: (شرك) .
(2) سورة لقمان / 13.
(3) شرح الروض مع حاشية الرملي 3 / 163

(5/6)


أُلُوهِيَّتِهِ أَوْ عِبَادَتِهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (1) وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ قَال: سَأَلْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَال: أَنْ تَجْعَل لِلَّهِ نِدًّا، وَهُوَ خَلَقَكَ (2)

ب - الشِّرْكُ الأَْصْغَرُ وَهُوَ الشِّرْكُ الْخَفِيُّ: وَهُوَ مُرَاعَاةُ غَيْرِ اللَّهِ فِي الْعِبَادَةِ. مِثْل الرِّيَاءِ وَالنِّفَاقِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (3) قَال ابْنُ حَجَرٍ: نَزَلَتْ فِيمَنْ يَطْلُبُ الْحَمْدَ وَالأَْجْرَ بِعِبَادَاتِهِ وَأَعْمَالِهِ. وَقَوْل رَسُول اللَّهِ: إِنَّ أَدْنَى الرِّيَاءِ شِرْكٌ، وَأَحَبُّ الْعَبِيدِ إِلَى اللَّهِ الأَْتْقِيَاءُ الأَْسْخِيَاءُ الأَْخْفِيَاءُ (4) وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ (5) : إِنَّ
__________
(1) سورة لقمان / 13.
(2) حديث: " أي الذنب أعظم؟ . . . . . " أخرجه البخاري ومسلم واللفظ له من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (فتح الباري 8 / 492 ط السلفية، وصحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 1 / 90 ط عيسى الحلبي) .
(3) سورة الكهف / 110.
(4) حديث: " إن أدنى الرياء شرك. . . . . " أخرجه الحاكم وابن ماجه من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه مرفوعا بلفظ " إن اليسير من الرياء شرك، وإن من عادى ولي الله فقد بارز الله تعالى بالمحاربة، وإن الله يحب الأتقياء الأخفياء الذين إن غابوا لم يفتقدوا، وإن حضروا لم يدعوا ولم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى يخرجون وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي. وقال الحافظ البوصيري تعليقا على إسناد ابن ماجه: في إسناده عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف (المستدرك 4 / 328 نشر دار الكتاب العربي، وسنن ابن ماجه بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 2 / 1320 - 1321 ط عيسى الحلبي) .
(5) حديث: " إن أخوف ما أتخوف على أمتي الإشراك بالله. . . . . . " أخرجه ابن ماجه بهذا اللفظ من حديث شداد بن أوس مرفوعا. قال الحافظ البوصيري: في إسناده عامر بن عبد الله، لم أر من تكلم فيه. وباقي رجال الإسناد ثقات. وأخرجه أحمد والحاكم عن طريق عبد الواحد بن زيد من حديث شداد بن أوس مطولا ضمن قصة. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي بقوله: عبد الواحد متروك. علما بأن إسناد ابن ماجه ليس فيه عبد الواحد (سنن ابن ماجه بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 2 / 1406 ومسند أحمد بن حنبل 4 / 124 نشر المكتب الإسلامي، والمستدرك 4 / 330 نشر دار الكتاب العربي، والفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني 19 / 220) .

(5/7)


أَخْوَفَ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي الإِْشْرَاكُ بِاَللَّهِ، أَمَا أَنِّي لَسْتُ أَقُول يَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلاَ قَمَرًا وَلاَ وَثَنًا، وَلَكِنْ أَعْمَالاً لِغَيْرِ اللَّهِ وَشَهْوَةً خَفِيَّةً
مَا يَكُونُ بِهِ الشِّرْكُ:
3 - يَكُونُ الشِّرْكُ بِأُمُورٍ يَتَنَوَّعُ اسْمُهُ بِحَسَبِهَا إِلَى مَا يَأْتِي:
أ - شِرْكُ الاِسْتِقْلاَل، وَهُوَ إِثْبَاتُ إِلَهَيْنِ مُسْتَقِلَّيْنِ كَشِرْكِ الثَّنَوِيَّةِ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ إِلَهَيْنِ.
ب - شِرْكُ التَّبْعِيضِ، وَهُوَ اعْتِقَادُ أَنَّ الإِْلَهَ مُرَكَّبٌ مِنْ آلِهَةٍ، كَشِرْكِ النَّصَارَى الْقَائِلِينَ بِالأَْقَانِيمِ الثَّلاَثَةِ، وَشِرْكِ الْبَرَاهِمَةِ.
ج - شِرْكُ التَّقْرِيبِ، وَهُوَ عِبَادَةُ غَيْرِ اللَّهِ؛ لِيُقَرِّبَ إِلَى اللَّهِ زُلْفًى، كَشِرْكِ مُتَقَدِّمِي الْجَاهِلِيَّةِ.
د - شِرْكُ التَّقْلِيدِ، وَهُوَ عِبَادَةُ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى تَبَعًا لِلْغَيْرِ، كَشِرْكِ مُتَأَخِّرِي الْجَاهِلِيَّةِ.
هـ - الْحُكْمُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَل اللَّهُ مَعَ اسْتِحْلاَل ذَلِكَ: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (1) وَقَدْ وَرَدَ أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ (2) فَهُمْ لَمْ يَعْبُدُوهُمْ وَلَكِنْ شَرَعُوا لَهُمْ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ.
__________
(1) سورة التوبة / 31.
(2) حديث: " أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه ". أخرجه أحمد والترمذي وابن جرير وابن سعد، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه والبيهقي في سننه أثرا عن عدي بن حاتم الطائي. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث. قال عبد القادر الأرناؤوط: لكن في الباب عن حذيفة موقوفا أخرجه الطبري (16634) وربما يتقوى به (تحفة الأحوذي 8 / 492 - 494، والدر المنثور 3 / 230 - 231 ط المطبعة الإسلامية بطهران، وتفسير الطبري بتحقيق محمود محمد شاكر 14 / 209 - 211 ط دار المعارف بمصر، وجامع الأصول بتحقيق عبد القادر الأرناؤوط 2 / 161 نشر مكتبة الحلواني) .

(5/7)


وَشِرْكُ الأَْغْرَاضِ: وَهُوَ الْعَمَل لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
ز - شِرْكُ الأَْسْبَابِ: وَهُوَ إِسْنَادُ التَّأْثِيرِ لِلأَْسْبَابِ الْعَادِيَّةِ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْكُفْرُ:
4 - الْكُفْرُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى ضُرُوبٍ مِنَ الذُّنُوبِ، مِنْهَا الشِّرْكُ بِاَللَّهِ، وَمِنْهَا الْجَحْدُ لِلنُّبُوَّةِ، وَمِنْهَا اسْتِحْلاَل مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَمِنْهَا إِنْكَارُ مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ. أَمَّا الشِّرْكُ فَهُوَ خَصْلَةٌ وَاحِدَةٌ، هُوَ اتِّخَاذُ إِلَهٍ مَعَ اللَّهِ.
وَقَدْ يُطْلَقُ الشِّرْكُ عَلَى كُل كُفْرٍ عَلَى سَبِيل الْمُبَالَغَةِ.
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ كُل شِرْكٍ كُفْرًا، وَلاَ يَكُونُ كُل كُفْرٍ شِرْكًا إِلاَّ عَلَى سَبِيل الْمُبَالَغَةِ (2) .

ب - التَّشْرِيكُ:
5 - التَّشْرِيكُ مَصْدَرُ: شَرَّكَ، وَهُوَ جَعْلُكَ الْغَيْرَ لَكَ
__________
(1) الكليات لأبي البقاء 3 / 70، وتلخيص كتابة الاستغاثة لابن تيمية ص 147، وشرح العقيدة الطحاوية ص 85 ط المكتب الإسلامي.
(2) الفروق في اللغة لأبي هلال العسكري في مادة: (إلحاد، وشرك) .

(5/8)


شَرِيكًا فِي الأَْمْرِ أَوِ الْبَيْعِ (1) . فَهُوَ بِمَعْنَى الإِْشْرَاكِ. إِلاَّ أَنَّهُ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ يَنْصَرِفُ الإِْشْرَاكُ إِلَى: اتِّخَاذِ شَرِيكٍ لِلَّهِ، وَالتَّشْرِيكُ: اتِّخَاذُكَ لِلْغَيْرِ شَرِيكًا فِي الْمَال أَوِ الأَْمْرِ.

صِفَتُهُ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ) :
6 - الإِْشْرَاكُ بِاَللَّهِ تَعَالَى حَرَامٌ. وَحُكْمُ الأَْنْوَاعِ الْخَمْسَةِ الأُْولَى كُفْرُ مُرْتَكِبِهَا بِالإِْجْمَاعِ. وَحُكْمُ السَّادِسِ الْمَعْصِيَةُ مِنْ غَيْرِ كُفْرٍ بِالإِْجْمَاعِ. وَحُكْمُ السَّابِعِ التَّفْصِيل، فَمَنْ قَال فِي الأَْسْبَابِ الْعَادِيَّةِ: إِنَّهَا تُؤَثِّرُ بِطَبْعِهَا فَقَدْ حُكِيَ الإِْجْمَاعُ عَلَى كُفْرِهِ، وَمَنْ قَال إِنَّهَا مُؤَثِّرَةٌ (عَلَى سَبِيل الاِسْتِقْلاَل) بِقُوَّةٍ أَوْدَعَهَا اللَّهُ فِيهَا فَهُوَ فَاسِقٌ (&#
x662 ;) .

إِسْلاَمُ الْمُشْرِكِ:
7 - يَدْخُل الْمُشْرِكُ كَغَيْرِهِ مِنِ الْكُفَّارِ فِي الإِْسْلاَمِ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِل النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ. (3)
وَلَمْ تَشْتَرِطِ الْمَذَاهِبُ الأَْرْبَعَةُ إِضَافَةَ شَيْءٍ إِلَى الشَّهَادَتَيْنِ، كَالتَّبَرِّي مِنْ كُل دِينٍ يُخَالِفُ دِينَ الإِْسْلاَمِ (4) ، إِلاَّ فِي بَعْضِ الْحَالاَتِ. وَهُنَاكَ أُمُورٌ
__________
(1) المصباح المنير مادة: (شرك) .
(2) الكليات لأبي البقاء 3 / 71.
(3) حديث: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله. . . . . " أخرجه البخاري ومسلم من حديث عمر رضي الله عنه مرفوعا (فتح الباري 3 / 262 ط السلفية، وصحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 1 / 51، 52 ط عيسى الحلبي) .
(4) حاشية ابن عابدين 1 / 235، 3 / 286، 287، وجواهر الإكليل 1 / 22، وحاشية الدسوقي 1 / 130، 131، والمغني 8 / 142، ونهاية المحتاج 7 / 299.

(5/8)


أُخْرَى يَدْخُل بِهَا الْمُشْرِكُ فِي الإِْسْلاَمِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ كُلُّهُ تَحْتَ عُنْوَانِ (إِسْلاَمٌ) .

نِكَاحُ الْمُشْرِكِ وَالْمُشْرِكَةِ:
8 - أَنْكِحَةُ الْكُفَّارِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا بَيْنَهُمْ الأَْصْل فِيهَا الصِّحَّةُ، وَأَنَّهُمْ يُقَرُّونَ عَلَيْهَا (1) ، وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحَا: (نِكَاحٌ، وَكُفْرٌ) .
وَلاَ يَخْتَلِفُ نِكَاحُ الْمُشْرِكِينَ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنِ الْكُفَّارِ أَهْل الْكِتَابِ إِلاَّ فِي أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَ، وَكَانَتْ زَوْجَتُهُ كِتَابِيَّةً فَلَهُ اسْتِدَامَةُ نِكَاحِهَا، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إِنْ كَانَتْ مُشْرِكَةً غَيْرَ كِتَابِيَّةٍ، وَانْظُرِ التَّفْصِيل تَحْتَ عِنْوَانِ (نِكَاحٌ) .

الاِسْتِعَانَةُ بِالْمُشْرِكِينَ فِي الْجِهَادِ:
9 - الْمُرَادُ بِالْمُشْرِكِ هُنَا مَا يَعُمُّ كُل كَافِرٍ، فَيُنْظَرُ: إِنْ خَرَجَ لِلْخِدْمَةِ، كَسَائِقِ سَيَّارَةٍ وَنَحْوِهِ، فَذَلِكَ جَائِزٌ اتِّفَاقًا.
أَمَّا إِذَا خَرَجَ لِلْقِتَال فَهُنَاكَ ثَلاَثَةُ اتِّجَاهَاتٍ:
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى الْجَوَازِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ خُرُوجُهُ بِدَعْوَةٍ أَمْ بِغَيْرِ دَعْوَةٍ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَانَ بِنَاسٍ مِنَ الْيَهُودِ فِي حَرْبِهِ (2) ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَهُوَ عَلَى شِرْكِهِ، فَأَسْهَمَ لَهُ. (3)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 386 - 390، وحاشية الدسوقي 2 / 268، وشرح روض الطالب 3 / 163، والمغني 6 / 613، 614.
(2) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعان بناس من اليهود في حربه " أخرجه أبو داود في المراسيل كما في تحفة الأشراف (13 / 379 - ط الدار القيمة) وأعله ابن حجر في التلخيص بالإرسال (4 / 100 - ط الشركة الفنية) .
(3) حديث: " أن صفوان بن أمية خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين وهو على شركه فأسهم له ". أخرجه مسلم (2 / 737 - ط الحلبي) .

(5/9)


وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ إِلَى مَنْعِ الاِسْتِعَانَةِ بِالْمُشْرِكِ، لَكِنْ لاَ يُمْنَعُ إِذَا خَرَجَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ.
وَالرَّأْيُ الآْخَرُ لِلْمَالِكِيَّةِ - وَهُوَ اخْتِيَارُ أَصْبَغَ - أَنَّهُ يُمْنَعُ مُطْلَقًا (1) .

أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُقْبَل مِنْ أَهْل الْكِتَابِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآْخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (2) وَاتَّفَقُوا كَذَلِكَ عَلَى أَخْذِهَا مِنْ الْمَجُوسِ، لِنَصِّ الْحَدِيثِ سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْل الْكِتَابِ (3) وَلأَِنَّ لَهُمْ شُبْهَةَ كِتَابٍ. وَقَدْ وَضَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجِزْيَةَ عَلَيْهِمْ.
أَمَّا مَا عَدَا هَؤُلاَءِ فَهُمْ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ:

أ - مُرْتَدُّونَ:
وَهَؤُلاَءِ لاَ تُقْبَل مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ بِالإِْجْمَاعِ؛ لأَِنَّ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 235، والمغني 9 / 259 ط القاهرة، والدسوقي 2 / 178، 4 / 217.
(2) سورة التوبة / 29.
(3) حديث: " سنوا بهم. . . . . " أخرجه مالك عن طريق محمد بن علي من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه مرفوعا. قال ابن عبد البر: هذا منقطع لأن محمد بن علي لم يلق عمر ولا عبد الرحمن بن عوف، إلا أن معناه متصل من وجوه حسان. وأخرجه الطبراني من حديث السائب بن ومجمع الزوائد 6 / 13 نشر مكتبة القدسي، وفتح الباري 6 / 261 ط السلفية)

(5/9)


الْمُرْتَدَّ كَفَرَ بِرَبِّهِ بَعْدَ مَا هُدِيَ لِلإِْسْلاَمِ وَوَقَفَ عَلَى مَحَاسِنِهِ، فَلاَ يُقْبَل مِنْهُ إِلاَّ الإِْسْلاَمُ أَوِ السَّيْفُ.

ب - مُشْرِكُونَ مِنَ الْعَرَبِ:
وَهَؤُلاَءِ لاَ تُقْبَل مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَشَأَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَالْقُرْآنُ نَزَل بِلُغَتِهِمْ، فَالْمُعْجِزَةُ فِي حَقِّهِمْ أَظْهَرُ، وَلِذَلِكَ لاَ يُقْبَل مِنْهُمْ إِلاَّ الإِْسْلاَمُ، فَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا قُتِلُوا، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ تُقْبَل مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ.

ج - مُشْرِكُونَ مِنْ غَيْرِ الْعَرَبِ:
وَهَؤُلاَءِ لاَ تُقْبَل مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَظَاهِرِ مَذْهَبِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، وَلاَ يُقْبَل مِنْهُمْ إِلاَّ الإِْسْلاَمُ أَوِ السَّيْفُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (1) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِل النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا (2) وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَرِوَايَةً عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ تُقْبَل مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ؛ لأَِنَّهُ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ، فَيَجُوزُ ضَرْبُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ (3) .

إِعْطَاءُ الأَْمَانِ لِلْمُشْرِكِ:
11 - أَجَازَ الْعُلَمَاءُ إِعْطَاءَ الأَْمَانِ لِلْمُشْرِكِ؛ لِيَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ
__________
(1) سورة التوبة / 9.
(2) حديث: " أمرت أن أقاتل الناس. . . . . " سبق تخريجه (ف / 7) .
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 278، والهداية 2 / 160، وحاشية الدسوقي 2 / 201، ومغني المحتاج 4 / 244، وروضة الطالبين 10 / 305.

(5/10)


مَأْمَنَهُ} (1) قَال الأَْوْزَاعِيُّ: هِيَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. كَمَا أَجَازُوهُ لِلرُّسُل؛ لأَِنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُؤَمِّنُ رُسُل الْمُشْرِكِينَ، وَقَال لِرَسُولَيْ مُسَيْلِمَةَ: لَوْلاَ أَنَّ الرُّسُل لاَ تُقْتَل لَقَتَلْتُكُمَا. (2)
وَيَكُونُ الأَْمَانُ مِنَ الإِْمَامِ، لأَِنَّ وِلاَيَتَهُ عَامَّةٌ، وَمِنَ الأَْمِيرِ لِمَنْ يُوجَدُ بِإِزَائِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَمِنْ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ مُخْتَارٍ لِحَدِيثِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يُقْبَل مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ. (3) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مُسْتَأْمَنٌ) (4) .

صَيْدُ الْمُشْرِكِ وَذَبِيحَتُهُ:
12 - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ صَيْدِ الْمَجُوسِيِّ وَذَبِيحَتِهِ إِلاَّ مَا لاَ ذَكَاةَ لَهُ كَالسَّمَكِ وَالْجَرَادِ، فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى إِبَاحَتِهِ.
وَحُكْمُ سَائِرِ الْكُفَّارِ مِنْ عَبَدَةِ الأَْوْثَانِ وَالزَّنَادِقَةِ وَغَيْرِهِمْ حُكْمُ الْمَجُوسِ فِي تَحْرِيمِ ذَبَائِحِهِمْ
__________
(1) سورة التوبة / 9.
(2) حديث: " لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما " أخرجه أحمد وأبو داود من حديث نعيم بن مسعود الأشجعي بلفظ مقارب، والحديث سكت عنه أبو داود والمنذري. وقال صاحب الفتح الرباني: سنده جيد (مسند أحمد بن حنبل 3 / 487، 488) نشر المكتب الإسلامي 1398 هـ، وعون المعبود 3 / 38 ط الهند، والفتح الرباني: 14 / 62 الطبعة الأولى 1370 هـ.
(3) حديث: " ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم. . . . . " أخرجه البخاري من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه مرفوعا (فتح الباري 6 / 279، 280 ط السلفية) .
(4) ابن عابدين 3 / 227، والمغني 8 / 398، والجمل 5 / 205، 206، 207، وقليوبي 4 / 226، والدسوقي 2 / 184، 185، وجواهر الإكليل 1 / 257، 258، وبدائع الصنائع 9 / 4321 ط الإمام.

(5/10)


وَصَيْدِهِمْ إِلاَّ مَا لاَ ذَكَاةَ لَهُ كَالسَّمَكِ وَالْجَرَادِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ: الْحُوتُ وَالْجَرَادُ (1) وَقَال فِي الْبَحْرِ هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِل مَيْتَتُهُ. (2)
كَمَا اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى حِل صَيْدِ الْكِتَابِيِّ وَذَبِيحَتِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا
__________
(1) حديث: " أحلت لنا ميتتان الحوت والجراد " أخرجه ابن ماجه واللفظ له وأحمد والشافعي وعبد بن حميد والدارقطني وابن عدي وابن مردويه من طريق زيد بن أسلم عن ابن عمر مرفوعا، وقال ابن حجر: إسناده ضعيف. وأخرجه البيهقي موقوفا على عبد الله بن عمر وقال: هذا إسناد صحيح وهو في معنى المسند، وصوب الدارقطني أيضا وقفه. قال النووي: هو وإن كان الصحيح وقفه في حكم المرفوع، إذ لا يقال من قبل الرأي (سنن ابن ماجه 2 / 1073 ط عيسى الحلب والدارقطني 4 / 271، 272 ط دار المحاسن للطباعة، والسنن الكبرى للبيهقي 1 / 254، 9 / 257 ط دائرة المعارف العثمانية بالهند، والدراية في تخريج أحاديث الهداية 1 / 212 ط مطبعة الفجالة الجديدة 1384 هـ، وفيض القدير 1 / 200 نشر المكتبة التجارية 1356 هـ.) .
(2) رد المحتار على الدر المختار الشهير بابن عابدين 5 / 189، والكافي 1 / 647 ط المكتب الإسلامي، والمغني 8 / 567، 570، والدسوقي على الشرح الكبير 2 / 103، ونهاية المحتاج 8 / 106 ط المكتب الإسلامي - دمشق. وحديث: " هو الطهور ماؤه. . . . . " روي من حديث أبي هريرة، ومن حديث جابر، ومن حديث علي بن أبي طالب، ومن حديث أنس، ومن حديث عبد الله بن عمرو، ومن حديث الفراسي، ومن حديث أبي بكر رضي الله عنهم. أما حديث أبي هريرة فقد أخرجه الترمذي والنسائي وأبو داود وسنن النسائي 1 / 176 ط المطبعة المصرية بالأزهر، وعون المعبود 1 / 31، 32 ط الهند، وسنن ابن ماجه بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 1 / 136 ط عيسى الحلبي، ونصب الراية / 95، 96 ط دار المأمون، والتلخيص الحبير 1 / 9 - 12 ط شركة الطباعة الفنية المتحدة) .

(5/11)


الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (1) قَال الْبُخَارِيُّ: طَعَامُهُمْ: ذَبَائِحُهُمْ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَهْل الْعِلْمِ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ السَّكَنِ الأَْسَدِيِّ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكُمْ نَزَلْتُمْ بِفَارِسٍ مِنَ النَّبَطِ، فَإِذَا اشْتَرَيْتُمْ لَحْمًا فَإِنْ كَانَ مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ فَكُلُوا، وَإِنْ كَانَ ذَبِيحَةَ مَجُوسِيٍّ فَلاَ تَأْكُلُوا (2) وَلِلتَّفْصِيل ر - (صَيْدٌ، ذَبَائِحُ) .

الأَْشْرِبَةُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْشْرِبَةُ جَمْعُ شَرَابٍ، وَالشَّرَابُ: اسْمٌ لِمَا يُشْرَبُ مِنْ أَيِّ نَوْعٍ كَانَ، مَاءً أَوْ غَيْرَهُ، وَعَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ. وَكُل شَيْءٍ لاَ مَضْغَ فِيهِ فَإِنَّهُ يُقَال فِيهِ: يُشْرَبَ (3) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ تُطْلَقُ الأَْشْرِبَةُ عَلَى مَا كَانَ مُسْكِرًا مِنَ الشَّرَابِ، سَوَاءٌ كَانَ مُتَّخَذًا مِنَ الثِّمَارِ، كَالْعِنَبِ وَالرُّطَبِ وَالتِّينِ، أَوْ مِنَ الْحُبُوبِ كَالْحِنْطَةِ أَوْ
__________
(1) سورة المائدة / 5.
(2) حديث: " إنكم نزلتم بفارس من النبط، فإذا اشتريتم لحما. . . . . " أخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن طريق قيس بن سكن من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوفا عليه بلفظ ": " إنكم نزلتم أرضا لا يقصب بها المسلمون، إنما هم النبط - أو قال: النبيط - وفارس، (المصنف 4 / 487 - 488 نشر المكتب الإسلامي) .
(3) لسان العرب، وتاج العروس مع القاموس المحيط، ومختار الصحاح مادة: (شرب) .

(5/11)


الشَّعِيرِ، أَوِ الْحَلَوِيَّاتِ كَالْعَسَل. وَسَوَاءٌ كَانَ مَطْبُوخًا أَوْ نِيئًا (1) .
وَسَوَاءٌ كَانَ مَعْرُوفًا بِاسْمٍ قَدِيمٍ كَالْخَمْرِ، أَوْ مُسْتَحْدَثٍ (كَالْعَرَقِ وَالشَّمْبَانِيَا. . . إِلَخْ) ، لِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيَشْرَبَنَّ أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ وَيُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا. (2)
أَنْوَاعُ الأَْشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ وَحَقِيقَةُ كُل نَوْعٍ:
2 - تُطْلَقُ الأَْشْرِبَةُ الْمُسْكِرَةُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَلَى اخْتِلاَفِ مَذَاهِبِهِمْ عَلَى قِسْمَيْنِ: الْخَمْرِ، وَالأَْشْرِبَةِ الأُْخْرَى.

النَّوْعُ الأَْوَّل: الْخَمْرُ

التَّعْرِيفُ:
3 - الْخَمْرُ لُغَةً: مَا أَسْكَرَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لأَِنَّهَا تُخَامِرُ الْعَقْل. وَحَقِيقَةُ الْخَمْرِ إِنَّمَا
__________
(1) تبيين الحقائق 6 / 44 ط دار المعرفة، وتكملة فتح القدير مع الهداية 9 / 22 ط دار إحياء التراث، وابن عابدين 5 / 288 ط دار إحياء التراث، والمدونة 6 / 261 ط دار صادر، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 4 / 113 ط دار الفكر، والزرقاني 8 / 112 ط دار الفكر، والمحلى مع حاشيتيه القليوبي وعميرة 4 / 202 ط عيسى الحلبي، ومغني المحتاج 8 / 9 - 10 نشر المكتبة الإسلامية، وحاشية الجمل على شرح المنهج 5 / 157 - 158 ط إحياء التراث، والمغني 8 / 303 ط الرياض، وكشاف القناع 6 / 116 نشر مكتبة النصر.
(2) حديث: " ليشربن أناس من أمتي الخمر ويسمونها بغير أسمها ". أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث أبي مالك الأشعري مرفوعا، وفي إسناده مقال، وذكر له ابن حجر شواهد جيدة في الفتح (عون المعبود 3 / 379 ط الهند، وسنن ابن ماجه 2 / 1333 ط عيسى الحلبي، ومسند أحمد بن حنيل 5 / 342 ط الميمنية، وفتح الباري 10 / 51، 52 ط السلفية) .

(5/12)


هِيَ مَا كَانَ مِنَ الْعِنَبِ دُونَ مَا كَانَ مِنْ سَائِرِ الأَْشْيَاءِ (1) . قَال الْفَيْرُوزْآبَادِي: الْخَمْرُ مَا أَسْكَرَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ، أَوْ هُوَ عَامٌّ، وَالْعُمُومُ أَصَحُّ، لأَِنَّهَا حُرِّمَتْ وَمَا بِالْمَدِينَةِ خَمْرُ عِنَبٍ، وَمَا كَانَ شَرَابُهُمْ إِلاَّ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ (2) .
وَقَال الزُّبَيْدِيُّ يَشْرَحُ قَوْل صَاحِبِ الْقَامُوسِ: (أَوْ عَامٌّ) أَيْ: مَا أَسْكَرَ مِنْ عَصِيرِ كُل شَيْءٍ، لأَِنَّ الْمَدَارَ عَلَى السُّكْرِ وَغَيْبُوبَةِ الْعَقْل، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْجَمَاهِيرُ. وَسُمِّيَ الْخَمْرُ خَمْرًا، لأَِنَّهَا تُخَمِّرُ الْعَقْل وَتَسْتُرُهُ، أَوْ لأَِنَّهَا تُرِكَتْ حَتَّى أَدْرَكَتْ وَاخْتَمَرَتْ (3) .
فَعَلَى الْقَوْل الأَْوَّل يَكُونُ إِطْلاَقُ اسْمِ الْخَمْرِ عَلَى سَائِرِ الأَْنْبِذَةِ الْمُسْكِرَةِ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ اللُّغَوِيِّ لِمَا فِيهَا مِنْ مُخَامَرَةِ الْعَقْل (4) .
4 - وَاصْطِلاَحًا: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْرِيفِ الْخَمْرِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلاَفِهِمْ فِي حَقِيقَتِهَا فِي اللُّغَةِ وَإِطْلاَقِ الشَّرْعِ. فَذَهَبَ أَهْل الْمَدِينَةِ، وَسَائِرُ الْحِجَازِيِّينَ، وَأَهْل الْحَدِيثِ كُلُّهُمْ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْخَمْرَ تُطْلَقُ عَلَى مَا يُسْكِرُ قَلِيلُهُ أَوْ كَثِيرُهُ، سَوَاءٌ اتُّخِذَ مِنْ الْعِنَبِ أَوِ التَّمْرِ أَوِ الْحِنْطَةِ أَوِ الشَّعِيرِ أَوْ غَيْرِهَا. وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُل مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُل خَمْرٍ حَرَامٌ. (5)
وَبِقَوْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّهُ نَزَل تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ: مِنْ الْعِنَبِ،
__________
(1) لسان العرب مادة: (خمر)
(2) القاموس المحيط مادة: (خمر) .
(3) تاج العروس مادة: (خمر) .
(4) روضة الناظر ص 88 ط السلفية.
(5) حديث: " كل مسكر خمر، وكل خمر، وكل خمر حرام ". أخرجه مسلم (3 / 1587 ط الحلبي) وأبو داود (4 / 85 ط عزت عبيد) .

(5/12)


وَالتَّمْرِ، وَالْعَسَل، وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ. وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْل (1) .
وَإِنَّ الْقُرْآنَ لَمَّا نَزَل بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَهِمَ الصَّحَابَةُ - وَهُمْ أَهْل اللِّسَانِ - أَنَّ كُل شَيْءٍ يُسَمَّى خَمْرًا يَدْخُل فِي النَّهْيِ، فَأَرَاقُوا الْمُتَّخَذَ مِنْ التَّمْرِ وَالرُّطَبِ وَلَمْ يَخُصُّوا ذَلِكَ بِالْمُتَّخَذِ مِنْ الْعِنَبِ، عَلَى أَنَّ الرَّاجِحَ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ كَمَا تَقَدَّمَ هُوَ الْعُمُومُ. ثُمَّ عَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَمْرِ الْمُتَّخَذُ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ خَاصَّةً. فَإِنَّ تَسْمِيَةَ كُل مُسْكِرٍ خَمْرًا مِنَ الشَّرْعِ كَانَ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً، وَهِيَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ (2) .
وَذَهَبَ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْخَمْرَ هِيَ الْمُسْكِرُ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ إِذَا اشْتَدَّ، سَوَاءٌ أَقَذَفَ بِالزَّبَدِ أَمْ لاَ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشُّرُنْبُلاَلِيِّ (3)
__________
(1) الأثر عن عمر رضي الله عنه: " أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة. . . . . " أخرجه البخاري (10 / 35 - الفتح ط السلفية) ومسلم (4 / 2322 ط الحلبي) .
(2) المغني 9 / 159، وكشاف القناع 6 / 116، والمدونة 6 / 261، والروضة 10 / 168 ط المكتب الإسلامي، والخطابي على سنن أبي داود 4 / 262 - 263 ط العلمية حلب، وحاشية البناني على شرح الزرقاني 4 / 112، وفتح الباري 10 / 48 السلفية، وإحكام الأحكام لابن دقيق العيد مع العدة 4 / 483 - 484، وتفسير الرازي 6 / 42 وما بعدها ط المطبعة البهية، والمنتقى للباجي 3 / 147، وأحكام القرآن للقرطبي 3 / 52 و 6 / 286، وفتح القدير للشوكاني 2 / 74.
(3) ابن عابدين 5 / 288، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 353، وتحفة المحتاج 7 / 636 دار صادر، والروضة 10 / 168، ونهاية المحتاج 8 / 9، وتفسير الآلوسي 2 / 112، والطبري 2 / 357، والكرماني شرح البخاري 20 / 140، وعمدة القاري 21 / 166 وما بعدها.

(5/13)


وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْخَمْرَ هِيَ عَصِيرُ الْعِنَبِ إِذَا اشْتَدَّ (1) . وَقَيَّدَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَحْدَهُ بِأَنْ يَقْذِفَ بِالزَّبَدِ (2) بَعْدَ اشْتِدَادِهِ (3) .
وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ فِي عَصِيرِ الْعِنَبِ كَوْنَهُ نِيئًا.
يَتَبَيَّنُ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ إِطْلاَقَ اسْمِ الْخَمْرِ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمُسْكِرَاتِ عِنْدَ الْفَرِيقِ الأَْوَّل مِنْ بَابِ الْحَقِيقَةِ، فَكُل مُسْكِرٍ عِنْدَهُمْ خَمْرٌ.
وَأَمَّا الْفَرِيقُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ، فَحَقِيقَةُ الْخَمْرِ عِنْدَهُمْ عَصِيرُ الْعِنَبِ إِذَا غَلَى (4) وَاشْتَدَّ عِنْدَ الْفَرِيقِ الثَّانِي، وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ عِنْدَ الْفَرِيقِ الثَّالِثِ. وَإِطْلاَقُهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الأَْشْرِبَةِ مَجَازٌ وَلَيْسَ بِحَقِيقَةٍ.

النَّوْعُ الثَّانِي: الأَْشْرِبَةُ الْمُسْكِرَةُ الأُْخْرَى

5 - ذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنْ يَكُونَ كُل مُسْكِرٍ خَمْرًا هُوَ حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ أَوْ شَرْعِيَّةٌ كَمَا عُلِمَ مِمَّا سَبَقَ، وَجُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْخَمْرَ مَا كَانَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ لاَ يُخَالِفُونَ الْجُمْهُورَ فِي أَنَّ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ، وَالاِخْتِلاَفُ فِي الإِْطْلاَقِ بَيْنَ الْجُمْهُورِ، وَأَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ لَمْ يُغَيِّرَ الأَْحْكَامَ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ عِنْدَ شُرْبِ قَلِيلِهِ، وَالنَّجَاسَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْخَمْرِ، مَا عَدَا مَسْأَلَةَ تَكْفِيرِ مُسْتَحِل غَيْرِ الْخَمْرِ، فَلاَ يَكْفُرُ مُنْكِرُ
__________
(1) اشتد: قوي تأثيره بحيث يصير مسكرا (ابن عابدين 5 / 288) .
(2) قذف بالزبد: رمى بالرغوة (المرجع السابق) .
(3) ابن عابدين 5 / 288، وفتح القدير مع الهداية 9 / 26، وأسنى المطالب 4 / 158 ط الميمنية بمصر، ومغني المحتاج 4 / 186.
(4) الغليان: الفوران من غير نار.

(5/13)


حُكْمِهِ لِلاِخْتِلاَفِ فِيهِ، كَمَا سَيَأْتِي كُل ذَلِكَ مُفَصَّلاً.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخَمْرَ الَّتِي يَحْرُمُ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا، وَيُحَدُّ بِهَا، وَيَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ هِيَ الْمُتَّخَذَةُ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ خَاصَّةً، أَمَّا الأَْنْبِذَةُ عِنْدَهُمْ فَلاَ يُحَدُّ شَارِبُهَا إِلاَّ إِذَا سَكِرَ مِنْهَا (1) .
وَالأَْشْرِبَةُ الْمُحَرَّمَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَنْوَاعٍ

النَّوْعُ الأَْوَّل: الأَْشْرِبَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنَ الْعِنَبِ وَهِيَ
أ - الْخَمْرُ وَهِيَ الْمُتَّخَذَةُ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ النِّيءِ إِذَا غَلَى وَاشْتَدَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَبِقَوْل الصَّاحِبَيْنِ مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ قَذْفِ الزَّبَدِ (2) قَال الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ (مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ) . (3)
وَلِعَصِيرِ الْعِنَبِ أَنْوَاعٌ بِحَسَبِ ذَهَابِ جُزْءٍ مِنْهُ بِالطَّبْخِ، كَالْبَاذِقِ، وَالطِّلاَءِ، وَالْمُثَلَّثِ، وَالْمُنَصَّفِ وَلاَ يَخْتَلِفُ حُكْمُهَا كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ (4) . وَفِي حُكْمِ هَذَا النَّوْعِ مَا يُتَّخَذُ مِنَ الزَّبِيبِ، وَهُوَ صِنْفَانِ: (1) نَقِيعُ الزَّبِيبِ وَهُوَ أَنْ يُتْرَكَ الزَّبِيبُ فِي الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ طَبْخٍ حَتَّى تَخْرُجَ حَلاَوَتُهُ إِلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَشْتَدُّ وَيَغْلِي وَيَقْذِفُ بِالزَّبَدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، أَوْ لَمْ يَقْذِفْ بِالزَّبَدِ عِنْدَ صَاحِبَيْهِ.
__________
(1) الهداية مع فتح القدير 9 / 31.
(2) رد المحتار 5 / 288.
(3) المغني 8 / 317، والفواكه الدواني 2 / 289، والدسوقي مع الشرح الكبير 4 / 352، ومغني المحتاج 4 / 186، والمصباح المنير، وأساس البلاغة.
(4) الفتاوى الهندية 5 / 409، وابن عابدين مع الدر المختار 5 / 290، وبدائع الصنائع 6 / 2945 ط الإمام.

(5/14)


(2) نَبِيذُ الزَّبِيبِ وَهُوَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ الزَّبِيبِ إِذَا طُبِخَ أَدْنَى طَبْخٍ وَغَلَى وَاشْتَدَّ (1) .

النَّوْعُ الثَّانِي:
مَا يُتَّخَذُ مِنَ التَّمْرِ أَوِ الرُّطَبِ (وَهُوَ السُّكَّرُ) وَالْبُسْرُ (وَهُوَ الْفَضِيخُ) . وَفِي حُكْمِ هَذَا النَّوْعِ الْخَلِيطَانِ. وَهُوَ شَرَابٌ مِنْ مَاءِ الزَّبِيبِ وَمَاءِ التَّمْرِ أَوِ الْبُسْرِ أَوِ الرُّطَبِ الْمُخْتَلِطَيْنِ إِذَا طُبِخَا أَدْنَى طَبْخٍ وَإِنِ اشْتَدَّ، وَلاَ عِبْرَةَ بِذَهَابِ الثُّلُثَيْنِ (2)
النَّوْعُ الثَّالِثُ:
نَبِيذُ مَا عَدَا الْعِنَبَ وَالتَّمْرَ كَالْعَسَل أَوْ التِّينِ أَوِ الْبُرِّ وَنَحْوِهَا (3) . هَذِهِ هِيَ الأَْشْرِبَةُ الْمُحَرَّمَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، أَمَّا الْخَمْرُ فَبِإِجْمَاعِ الأُْمَّةِ، وَأَمَّا نَبِيذُ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ فَيَحْرُمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْقَدْرُ الْمُسْكِرُ مِنْهَا خِلاَفًا لِمُحَمَّدٍ، وَأَمَّا نَبِيذُ الْعَسَل وَالتِّينِ وَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَمُبَاحٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، بِشَرْطِ أَلاَّ يُشْرَبَ لِلَهْوٍ أَوْ طَرِبٍ، وَخَالَفَهُمَا مُحَمَّدٌ، وَرَأْيُهُ هُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (4) ، كَمَا سَيَتَّضِحُ فِيمَا يَأْتِي.

أَحْكَامُ الْخَمْرِ:
6 - الْمُرَادُ بِالْخَمْرِ هُنَا جَمِيعُ الْمُسْكِرَاتِ جَرْيًا عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، وَأَحْكَامُهَا مَا يَأْتِي:
__________
(1) المصباح المنير، والفتاوى الهندية 5 / 409، وفتح القدير مع الهداية 9 / 30 - 31.
(2) المغني 8 / 318 - 319، وتبيين الحقائق 6 / 45، والبدائع 6 / 2945
(3) البدائع 6 / 2946، والفتاوى الهندية 5 / 413، وابن عابدين 5 / 292 - 293، والهداية مع فتح القدير 9 / 32.
(4) نفس المراجع.

(5/14)


الأَْوَّل: تَحْرِيمُ شُرْبِهَا قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا:
7 - ثَبَتَتْ حُرْمَةُ الْخَمْرِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَإِجْمَاعِ الأُْمَّةِ. أَمَّا الْكِتَابُ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَْنْصَابُ وَالأَْزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَل الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَل أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} . (1) وَتَحْرِيمُ الْخَمْرِ كَانَ بِتَدْرِيجٍ وَبِمُنَاسَبَةِ حَوَادِثَ مُتَعَدِّدَةٍ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُولَعِينَ بِشُرْبِهَا. وَأَوَّل مَا نَزَل صَرِيحًا فِي التَّنْفِيرِ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُل فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (2) فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ تَرَكَهَا بَعْضُ النَّاسِ، وَقَالُوا: لاَ حَاجَةَ لَنَا فِيمَا فِيهِ إِثْمٌ كَبِيرٌ، وَلَمْ يَتْرُكْهَا بَعْضُهُمْ، وَقَالُوا: نَأْخُذُ مَنْفَعَتَهَا، وَنَتْرُكُ إِثْمَهَا. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ: {لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} (3) فَتَرَكَهَا بَعْضُ النَّاسِ، وَقَالُوا: لاَ حَاجَةَ لَنَا فِيمَا يُشْغِلُنَا عَنِ الصَّلاَةِ، وَشَرِبَهَا بَعْضُهُمْ فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ الصَّلاَةِ حَتَّى نَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ. . .} الآْيَةَ. فَصَارَتْ حَرَامًا عَلَيْهِمْ، حَتَّى صَارَ يَقُول بَعْضُهُمْ: مَا حَرَّمَ اللَّهُ شَيْئًا أَشَدَّ مِنَ الْخَمْرِ 8 - وَقَدْ أَكَّدَ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ بِوُجُوهٍ مِنَ التَّأْكِيدِ: مِنْهَا: تَصْدِيرُ الْجُمْلَةِ بِإِنَّمَا. وَمِنْهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَرَنَهُمَا بِعِبَادَةِ الأَْصْنَامِ.
__________
(1) سورة المائدة / 90 - 91.
(2) سورة البقرة / 219.
(3) سورة النساء / 43.

(5/15)


وَمِنْهَا: أَنَّهُ جَعَلَهُمَا رِجْسًا. وَمِنْهَا: أَنَّهُ جَعَلَهُمَا مِنْ عَمَل الشَّيْطَانِ، وَالشَّيْطَانُ لاَ يَأْتِي مِنْهُ إِلاَّ الشَّرُّ الْبَحْتُ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ أَمَرَ بِاجْتِنَابِهِمَا. وَمِنْهَا: أَنَّهُ جَعَل الاِجْتِنَابَ مِنَ الْفَلاَحِ، وَإِذَا كَانَ الاِجْتِنَابُ فَلاَحًا كَانَ الاِرْتِكَابُ خَيْبَةً وَمَمْحَقَةً. وَمِنْهَا: أَنَّهُ ذَكَرَ مَا يَنْتُجُ مِنْهُمَا مِنَ الْوَبَال، وَهُوَ وُقُوعُ التَّعَادِي وَالتَّبَاغُضِ مِنْ أَصْحَابِ الْخَمْرِ وَالْقِمَارِ، وَمَا يُؤَدِّيَانِ إِلَيْهِ مِنَ الصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَعَنْ مُرَاعَاةِ أَوْقَاتِ الصَّلاَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَهَل أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} مِنْ أَبْلَغِ مَا يُنْهَى بِهِ، كَأَنَّهُ قِيل: قَدْ تُلِيَ عَلَيْكُمْ مَا فِيهِمَا مِنْ أَنْوَاعِ الصَّوَارِفِ وَالْمَوَانِعِ، فَهَل أَنْتُمْ مَعَ هَذِهِ الصَّوَارِفِ مُنْتَهُونَ، أَمْ أَنْتُمْ عَلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ، كَأَنْ لَمْ تُوعَظُوا وَلَمْ تُزْجَرُوا (1) . 9 - وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا. وَقَدْ قَال جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ: كُل شَرَابٍ أَسْكَرَ كَثِيرُهُ حَرُمَ قَلِيلُهُ، فَيَعُمُّ الْمُسْكِرَ مِنْ نَقِيعِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَغَيْرِهِمَا، لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الآْيَةِ الْكَرِيمَةِ وَلِلأَْحَادِيثِ الشَّرِيفَةِ التَّالِيَةِ: عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: {كُل شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ} . (2)
__________
(1) تفسير الزمخشري 1 / 674 - 675 نشر دار الكتاب العربي، وتفسير القرطبي 6 / 285 وما بعدها مطبعة دار الكتب، وتفسير الطبري 7 / 31 وما بعدها ط مصطفى الحلبي، وتفسير الرازي 2 / 179 وما بعدها المطبعة البهية، وتفسير الآلوسي 7 / 15 وما بعدها الطباعة المنيرية.
(2) حديث: " كل شراب أسكر فهو حرام ". أخرجه البخاري (10 / 41 - الفتح - ط السلفية) ومسلم (3 / 1585 - ط الحلبي) .

(5/15)


وَقَال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: {كُل مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُل خَمْرٍ حَرَامٌ} . (1) وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: {أَنْهَاكُمْ عَنْ قَلِيل مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ} . (2) وَعَنِ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَال: {مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ} . (3) وَقَال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: {كُل مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَا أَسْكَرَ مِنْهُ الْفَرَقُ (4) فَمِلْءُ الْكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ} . (5) وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: {نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كُل مُسْكِرٍ وَمُفَتِّرٍ} . (6)
__________
(1) الحديث تقدم (ف 4) .
(2) حديث: " أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره " أخرجه الدارقطني (4 / 251 - ط دار المحاسن بالقاهرة) والنسائي (8 / 301 - ط المكتبة التجارية) وجوده المنذري في مختصر السنن (5 / 267 نشر دار المعرفة) .
(3) حديث: " ما أسكر كثيره فقليله حرام ". أخرجه ابن ماجه (2 / 1125 - ط الحلبي) والدارقطني (4 / 254 - ط دار المحاسن بالقاهرة) . وصححه ابن حجر في الفتح (10 / 43 - ط السلفية) .
(4) الفرق (بفتح الراء) مكيال يسع ستة عشر رطلا، والفرق (بالسكون) هو ما يسع مائة وعشرين رطلا، وهو المراد في الحديث - (النهاية لابن الأثير ولسان العرب مادة: فرق) .
(5) حديث: " كل مسكر حرام، وما أسكر منه الفرق، فملء الكفء منه حرام ". أخرجه أبو داود والترمذي وابن حبان من حديث عائشة رضي الله عنها، قال الترمذي: هذا حديث حسن، وأقره المنذري. قال الشوكاني: أعله الدارقطني بالوقف (عون المعبود 3 / 379 ط الهندية، وتحفة الأحوذي 5 / 607 نشر المكتبة السلفية، وموارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان ص 336 نشر دار الكتب العلمية، ونيل الأوطار 9 / 65، 66 نشر دار الجيل 1973 م) .
(6) حديث: " نهى عن كل مسكر ومفتر " أخرجه أبو داود من حديث أم سلمة رضي الله عنها. قال المنذري: فيه شهر بن حوشب وثقه الإمام أحمد بن حنيل ويحيى بن معين، وتكلم فيه غير واحد. قال الشوكاني: هذا الحديث صالح للاحتجاج به. قال عبد القادر الأرناؤوط محقق جامع الأصول: وفي سنده ضعف وقد حسنه الحافظ في الفتح، كما أن في إسناده الحكم بن عتيبة. وجامع الأصول 5 / 93 نشر مكتبة الحلواني، وتهذيب التهذيب 2 / 432 - 434 ط دار صادر) . قال الخطابي: المفتر كل شراب يورث الفتور والخدر في الأعضاء، وهذا لاشك أنه متناول لجميع أنواعه الأشربة المسكرة. (التفسير الكبير 6 / 45) .

(5/16)


فَهَذِهِ الأَْحَادِيثُ كُلُّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ كُل مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمِنْهَا مَا يَدُل عَلَى تَسْمِيَةِ كُل مُسْكِرٍ خَمْرًا، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كُل مُسْكِرٍ خَمْرٌ} . كَمَا يَدُل بَعْضُهَا عَلَى أَنَّ الْمُسْكِرَ حَرَامٌ لِعَيْنِهِ، قَل أَوْ كَثُرَ، سَكِرَ مِنْهُ شَارِبُهُ أَوْ لَمْ يَسْكَرْ، وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ (1) . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ النِّيءَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ إِذَا غَلَى وَاشْتَدَّ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ، وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، هُوَ الْخَمْرُ الَّتِي يَحْرُمُ شُرْبُ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا إِلاَّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، لأَِنَّهَا مُحَرَّمَةُ الْعَيْنِ، فَيَسْتَوِي فِي الْحُرْمَةِ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا. أَمَّا عَصِيرُ غَيْرِ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ، أَوِ الْمَطْبُوخُ مِنْهُمَا بِشَرْطِهِ، فَلَيْسَ حَرَامًا لِعَيْنِهِ (2) . وَمِنْ هُنَا فَلاَ يَحْرُمُ إِلاَّ السُّكْرُ مِنْهُ كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ. وَأَمَّا السَّكَرُ وَالْفَضِيخُ وَنَقِيعُ الزَّبِيبِ، فَيَحْرُمُ شُرْبُ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الأَْحَادِيثِ، وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: {الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ} . (3) وَأَشَارَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 187، والمغني 8 / 304، والمدونة 6 / 261، وكشاف القناع 6 / 117، والتفسير الكبير 6 / 44 - 45.
(2) هذه الأشياء تصنع من التمر أو من العنب كما تقدم.
(3) حديث: " الخمر من هاتين الشجرتين " أخرجه مسلم (3 / 1573 ط الحلبي) ، وأبو داود (4 / 84 - 85 ط عزت عبيد دعاس) . وحصر الأحناف الخمر في التمر والعنب بناء على هذا الحديث، وخالفهم الجمهور، فقالوا: ليس في الحديث حصر، ويجوز أن تكون الخمرة من غير هاتين الشجرتين. (انظر المغني 8 / 304 - 305، والمدونة 6 / 261، والمحلى 7 / 493 وما بعدها) .

(5/16)


إِلَى النَّخْلَةِ وَالْكَرْمَةِ. وَاَلَّذِي هَاهُنَا هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لاِسْمِ الْخَمْرِ، فَكَانَ حَرَامًا. هَذَا إِذَا كَانَ عَصِيرُهُمَا نِيئًا غَيْرَ مَطْبُوخٍ، وَغَلَى وَاشْتَدَّ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ، وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. أَمَّا الْمَطْبُوخُ مِنْ هَذِهِ الأَْشْيَاءِ فَسَيَأْتِي حُكْمُهُ عِنْدَ الأَْحْنَافِ.

شُرْبُ دُرْدِيِّ (1) الْخَمْرِ:
10 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى تَحْرِيمِ شُرْبِ دُرْدِيِّ الْخَمْرِ، وَيُحَدُّ شَارِبُهُ، لأَِنَّهُ خَمْرٌ بِلاَ شَكٍّ، وَسَوَاءٌ دُرْدِيُّ الْخَمْرِ أَوْ دُرْدِيُّ غَيْرِهِ، وَأَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْجَمِيعِ، وَيُحَدُّ بِالثَّخِينِ مِنْهَا إِذَا أَكَلَهُ. وَذَهَبَ الأَْحْنَافُ إِلَى كَرَاهَةِ (2) شُرْبِ دُرْدِيِّ الْخَمْرِ، لأَِنَّ فِيهِ ذَرَّاتِ الْخَمْرِ الْمُتَنَاثِرَةَ، وَقَلِيلُهُ كَكَثِيرِهِ، وَلَكِنْ لاَ يُحَدُّ شَارِبُ الدُّرْدِيِّ إِلاَّ إِذَا سَكِرَ، لأَِنَّهُ لاَ يُسَمَّى خَمْرًا، فَإِذَا سَكِرَ مِنْهُ وَجَبَ الْحَدُّ عَلَيْهِ، كَمَا فِي شُرْبِ الْبَاذِقِ أَوِ الْمُنَصَّفِ (3) .

حُكْمُ الْمَطْبُوخِ مِنَ الْعِنَبِ أَوْ عَصِيرِهِ:
11 - إِنَّ الْمَطْبُوخَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ أَدْنَى طَبْخٍ، بِحَيْثُ ذَهَبَ مِنْهُ أَقَل مِنَ الثُّلُثَيْنِ، وَكَانَ مُسْكِرًا
__________
(1) دردي الخمر: ما يبقى أسفله (ترتيب القاموس المحيط) .
(2) المراد بالكراهة هنا: كراهة التحريم، وهي ثبوت طلب الكف عن الفعل بدليل ظني. (مسلم الثبوت 1 / 85 ط بولاق) .
(3) البدائع 6 / 936، ومغني المحتاج 4 / 188، والمحلى 1 / 579.

(5/17)


يَحْرُمُ شُرْبُ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَامَّةً، لأَِنَّهُ إِذَا ذَهَبَ أَقَل مِنَ الثُّلُثَيْنِ بِالطَّبْخِ، فَالْحَرَامُ فِيهِ بَاقٍ، وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ. أَمَّا إِذَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ بِالطَّبْخِ، وَبَقِيَ ثُلُثُهُ فَهُوَ حَلاَلٌ وَإِنِ اشْتَدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَال مُحَمَّدٌ: يَحْرُمُ. وَهَذَا الْخِلاَفُ فِيمَا إِذَا قُصِدَ بِهِ التَّقَوِّي، أَمَّا إِذَا قُصِدَ بِهِ التَّلَهِّي فَإِنَّهُ لاَ يَحِل بِالاِتِّفَاقِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ مِثْل قَوْلِهِمَا. وَعَنْهُ أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ، وَعَنْهُ أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِيهِ. هَذَا إِذَا طُبِخَ عَصِيرُ الْعِنَبِ، فَأَمَّا إِذَا طُبِخَ الْعِنَبُ كَمَا هُوَ، فَقَدْ حَكَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْعَصِيرِ لاَ يَحِل حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الزَّبِيبِ، حَتَّى لَوْ طُبِخَ أَدْنَى طَبْخَةٍ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الزَّبِيبِ، أَيْ يَحِل مِنْهُ مَا دُونَ الْمُسْكِرِ وَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ ثُلُثَاهُ، لأَِنَّ طَبْخَهُ قَبْل عَصْرِهِ أَبْعَدُ عَنْ صِفَةِ الْخَمْرِ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ ذَهَابُ الثُّلُثَيْنِ (1) .

حُكْمُ الْمَطْبُوخِ مِنْ نَبِيذِ التَّمْرِ وَنَقِيعِ الزَّبِيبِ وَسَائِرِ الأَْنْبِذَةِ:
12 - مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ - كَمَا تَقَدَّمَ - أَنَّ مَا أَسْكَرَ مِنَ النِّيءِ وَالْمَطْبُوخِ، سَوَاءٌ اتُّخِذَ مِنْ الْعِنَبِ أَوِ التَّمْرِ أَوِ الزَّبِيبِ أَوْ غَيْرِهَا يَحْرُمُ شُرْبُ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ أَدِلَّتِهِمْ. أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَقَدْ قَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: إِنَّ الْمَطْبُوخَ مِنْ نَبِيذِ التَّمْرِ وَنَقِيعِ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 2941 - 2942. والهداية مع فتح القدير 9 / 35، والدر المختار 5 / 290.

(5/17)


الزَّبِيبِ أَدْنَى طَبْخَةٍ، يَحِل شُرْبُهُ وَلاَ يَحْرُمُ إِلاَّ السُّكْرُ مِنْهُ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ: الرِّوَايَةُ الأُْولَى: لاَ يَحِل شُرْبُهُ، لَكِنْ لاَ يَجِبُ الْحَدُّ إِلاَّ بِالسُّكْرِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: قَال مُحَمَّدٌ: لاَ أُحَرِّمُهُ، وَلَكِنْ لاَ أَشْرَبُ مِنْهُ. وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ لِقَوْلِهِمَا: بِأَنَّ طَبْخَ الْعَصِيرِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ - وَهِيَ أَنْ يَذْهَبَ أَقَل مِنْ ثُلُثَيْهِ - لاَ يَحْرُمُ إِلاَّ السُّكْرُ مِنْهُ، وَإِنِ اشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ، إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الشَّرَابَ لاَ يُسْكِرُهُ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ قُوَّةُ الإِْسْكَارِ بِنَفْسِهِ. هَذَا، وَإِنْ حَل شُرْبُ الْقَلِيل الَّذِي لاَ يُسْكِرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَيْسَ مُطْلَقًا، وَلَكِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِشُرُوطٍ هِيَ: (1) أَنْ يَكُونَ شُرْبُهُ لِلتَّقَوِّي وَنَحْوِهِ مِنْ غَرَضٍ صَحِيحٍ. (2) أَنْ يَشْرَبَهُ لاَ لِلَّهْوِ وَالطَّرِبِ، فَلَوْ شَرِبَهُ لِلَّهْوِ أَوِ الطَّرِبِ فَقَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ حَرَامٌ. (3) أَلاَّ يَشْرَبْ مَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مُسْكِرٌ، فَلَوْ شَرِبَ حِينَئِذٍ، فَيَحْرُمُ الْقَدَحُ الأَْخِيرُ الَّذِي يَحْصُل السُّكْرُ بِشُرْبِهِ، وَهُوَ الَّذِي يُعْلَمُ يَقِينًا، أَوْ بِغَالِبِ الرَّأْيِ، أَوْ بِالْعَادَةِ أَنَّهُ يُسْكِرُهُ (1) . وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِثْلُهُمَا بَقِيَّةُ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ: إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ مِنَ التَّابِعِينَ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى،
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 2943، وحاشية ابن عابدين مع الدر المختار 5 / 291 - 292.

(5/18)


وَشَرِيكٌ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَسَائِرُ فُقَهَاءِ الْكُوفِيِّينَ، وَأَكْثَرُ عُلَمَاءِ الْبَصْرِيِّينَ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الْمُحَرَّمَ مِنْ غَيْرِ الْخَمْرِ مِنْ سَائِرِ الأَْنْبِذَةِ الَّتِي يُسْكِرُ كَثِيرُهَا هُوَ السُّكْرُ نَفْسُهُ، لاَ الْعَيْنُ، وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ فِي الْمَطْبُوخِ مِنْهَا (1) . 13 - وَدَلِيل أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ السُّنَّةِ مَا يَأْتِي (2) : أ - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُتِيَ بِنَبِيذٍ فَشَمَّهُ، فَقَطَّبَ وَجْهَهُ لِشِدَّتِهِ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَصَبَّهُ عَلَيْهِ وَشَرِبَ مِنْهُ} (3) ب - {إِنَّ النَّبِيَّ قَال: لاَ تَنْبِذُوا الزَّهْوَ (4) وَالرُّطَبَ جَمِيعًا، وَلاَ تَنْبِذُوا الرُّطَبَ وَالزَّبِيبَ جَمِيعًا، وَلَكِنِ انْتَبِذُوا كُل وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى حِدَتِهِ} ، وَفِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ ذَكَرَ التَّمْرَ بَدَل الرُّطَبِ (5) . قَالُوا: وَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ الْمُتَّخَذَ مِنْ كُل وَاحِدٍ مِنْهَا مُبَاحٌ. ج - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ أَنْ يُخْلَطَ بَيْنَهُمَا، يَعْنِي فِي الاِنْتِبَاذِ} . وَزِيدَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَال: {مَنْ شَرِبَهُ مِنْكُمْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين مع الدر المختار 5 / 291 - 292، والهداية مع فتح القدير 9 / 27، وبداية المجتهد 1 / 487.
(2) البدائع 6 / 2943 وما بعدها، والهداية مع فتح القدير 9 / 33، والمبسوط 24 / 5 وما بعدها.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بنبيذ. . . . . " أخرجه الدارقطني (4 / 264 ط دار المحاسن) ، والبيهقي (8 / 304 ط دائرة المعارف العثمانية) ، وضعفه الدارقطني، ونقل البيهقي تضعيفه.
(4) الزهو: ثمرة النخل إذا خلص لونها إلى الحمرة أو الصفرة (المصباح) .
(5) حديث: " لا تنبذوا الزهو. . . . . " أخرجه مسلم (3 / 1576 ط الحلبي) ، وأخرجه البخاري بلفظ: " نهى أن يجمع بين التمر والزهو. . . . ". (10 / 67 - الفتح ط السلفية) .

(5/18)


فَلْيَشْرَبْهُ زَبِيبًا فَرْدًا، وَتَمْرًا فَرْدًا، وَبُسْرًا فَرْدًا} . (1) د - وَاسْتَدَلُّوا عَلَى إِبَاحَةِ الْخَلِيطَيْنِ بِمَا رَوَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: {كُنَّا نَنْتَبِذُ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سِقَاءٍ، فَنَأْخُذُ قَبْضَةً مِنْ تَمْرٍ، وَقَبْضَةً مِنْ زَبِيبٍ، فَنَطْرَحُهُمَا فِيهِ، ثُمَّ نَصُبُّ عَلَيْهِ الْمَاءَ فَنَنْتَبِذُهُ غَدْوَةً فَيَشْرَبُهُ عَشِيَّةً، وَنَنْتَبِذُهُ عَشِيَّةً فَيَشْرَبُهُ غَدْوَةً} (2) 14 - وَأَدِلَّتُهُمْ مِنَ الآْثَارِ: أ - مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنِّي أُتِيتُ بِشَرَابٍ مِنَ الشَّامِ طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ، فَذَهَبَ مِنْهُ شَيْطَانُهُ وَرِيحُ جُنُونِهِ، وَبَقِيَ طِيبُهُ وَحَلاَلُهُ، فَمُرِ الْمُسْلِمِينَ قِبَلَكَ، فَلْيَتَوَسَّعُوا بِهِ فِي أَشْرِبَتِهِمْ (3) . فَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ الزَّائِدَ عَلَى الثُّلُثِ حَرَامٌ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ مَا لَمْ يَذْهَبْ ثُلُثَاهُ فَالْقُوَّةُ الْمُسْكِرَةُ فِيهِ قَائِمَةٌ، وَرَخَّصَ فِي الشَّرَابِ الَّذِي ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ. ب - مَا رُوِيَ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ النَّبِيذَ الشَّدِيدَ، وَأَنَّهُ هُوَ وَعَلِيٌّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَمُعَاذُ بْنِ جَبَلٍ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَأَبُو مُوسَى الأَْشْعَرِيُّ أَحَلُّوا الطِّلاَءَ، وَكَانُوا يَشْرَبُونَهُ، وَهُوَ: مَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ، وَقَال عُمَرُ: هَذَا الطِّلاَءُ
__________
(1) حديث أبي سعيد رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن التمر. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1574، 1575 - ط الحلبي) .
(2) حديث عائشة: " كنا ننتبذ. . . . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 1126 - ط الحلبي) ، وأعله الشوكاني في النيل بجهالة أحد رواته (8 / 193 ط الحلبي) .
(3) نيل الأوطار 8 / 197، والبدائع 6 / 2944 وما بعدها، والمبسوط 24 / 5 وما بعدها.

(5/19)


مِثْل طِلاَءِ الإِْبِل، ثُمَّ أَمَرَ بِشُرْبِهِ، وَكَانَ عَلِيٌّ يَرْزُقُ النَّاسَ طِلاَءً يَقَعُ فِيهِ الذُّبَابُ، فَلاَ يَسْتَطِيعُ الْخُرُوجُ مِنْهُ، أَيْ لِحَلاَوَتِهِ.

حُكْمُ الأَْشْرِبَةِ الأُْخْرَى:
15 - تَقَدَّمَ أَنَّ مَذْهَبَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ تَحْرِيمُ كُل شَرَابٍ مُسْكِرٍ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ الأَْشْرِبَةَ الْمُتَّخَذَةَ مِنَ الْحُبُوبِ وَالْعَسَل وَاللَّبَنِ وَالتِّينِ وَنَحْوِهَا يَحْرُمُ شُرْبُ قَلِيلِهَا إِذَا أَسْكَرَ كَثِيرُهَا، وَبِهَذَا قَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَهُمْ (1) . وَذَلِكَ لِلأَْدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ أَنَّ " كُل شَرَابٍ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُل خَمْرٍ حَرَامٌ " وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَرَأْيُ الْجُمْهُورِ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَأَنَسٍ، وَعَائِشَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَبِذَلِكَ قَال ابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ، وَالْقَاسِمُ، وَقَتَادَةُ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، وَالأَْوْزَاعِيُّ، وَجُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ، وَجُمْهُورُ الْمُحَدِّثِينَ عَنْ فُقَهَاءِ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ (2) .

تَفْصِيلاَتٌ لِبَعْضِ الْمَذَاهِبِ فِي بَعْضِ الأَْشْرِبَةِ:
16 - اخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي حُكْمِ
__________
(1) البدائع 5 / 2946، وتبيين الحقائق 6 / 46 - 47، وابن عابدين 5 / 292 - 293.
(2) المغني 8 / 305 وما بعدها، والمواق 6 / 318، ومغني المحتاج 4 / 186، 187، والمنتقى على الموطأ 3 / 147، والروضة 10 / 168.

(5/19)


بَعْضِ الأَْشْرِبَةِ غَيْرِ الْمُسْكِرَةِ فِي تَقْدِيرِهِمْ، كَالْخَلِيطَيْنِ، وَالنَّبِيذِ، وَالْفُقَّاعِ.

أ - الْخَلِيطَانِ:
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى تَحْرِيمِ الْخَلِيطَيْنِ مِنَ الأَْشْيَاءِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَقْبَل الاِنْتِبَاذَ، كَالْبُسْرِ وَالرُّطَبِ، وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَلَوْ لَمْ يَشْتَدَّا، لأَِنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {نَهَى أَنْ يُنْبَذَ الرُّطَبُ وَالْبُسْرُ جَمِيعًا} . (1) وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تَصْرِفُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ كَالْكَرَاهَةِ. أَيْ أَخْذًا بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ يَحْرُمُ الْخَلِيطَانِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الشَّرَابُ مِنْهُمَا مُسْكِرًا سَدًّا لِلذَّرَائِعِ (2) . وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُكْرَهُ مِنْ غَيْرِ الْمُسْكِرِ: الْمُنَصَّفُ، وَهُوَ مَا يُعْمَل مِنْ تَمْرٍ وَرُطَبٍ، وَالْخَلِيطُ: وَهُوَ مَا يُعْمَل مِنْ بُسْرٍ وَرُطَبٍ، لأَِنَّ الإِْسْكَارَ يُسْرِعُ إِلَى ذَلِكَ بِسَبَبِ الْخَلْطِ قَبْل أَنْ يَتَغَيَّرَ، فَيَظُنُّ الشَّارِبُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْكِرٍ، وَيَكُونُ مُسْكِرًا، فَإِنْ أَمِنَ سُكْرَهُ وَلَمْ تَكُنْ فِيهِ شِدَّةٌ مُطْرِبَةٌ فَيَحِل (3) . وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُكْرَهُ الْخَلِيطَانِ، وَهُوَ أَنْ يُنْبَذَ فِي الْمَاءِ شَيْئَانِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْخَلِيطَيْنِ (4) وَعَنْ أَحْمَدَ: الْخَلِيطَانِ حَرَامٌ، قَال الْقَاضِي: يَعْنِي أَحْمَدُ بِقَوْلِهِ: " هُوَ حَرَامٌ ". إِذَا اشْتَدَّ وَأَسْكَرَ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَإِنَّمَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِلَّةِ إِسْرَاعِهِ إِلَى السُّكْرِ الْمُحَرَّمِ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ لَمْ يَثْبُتِ التَّحْرِيمُ (5) .
__________
(1) والحديث تقدم تخريجه (ف 12) .
(2) المنتقى على الموطأ 3 / 149، وبداية المجتهد 1 / 487 وما بعدها نشر مكتبة الكليات الأزهرية.
(3) مغني المحتاج 4 / 187.
(4) والحديث تقدم تخريجه (ف 16) .
(5) المغني 8 / 318 وما بعدها، وكشاف القناع 6 / 96 وما بعدها.

(5/20)


ب - النَّبِيذُ (1) غَيْرُ الْمُسْكِرِ:
17 - قَال الْحَنَابِلَةُ وَغَيْرُهُمْ: لاَ يُكْرَهُ إِذَا كَانَتْ مُدَّةُ الاِنْتِبَاذِ قَرِيبَةً أَوْ يَسِيرَةً، وَهِيَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ. أَمَّا إِذَا بَقِيَ النَّبِيذُ مُدَّةً يُحْتَمَل فِيهَا إِفْضَاؤُهُ إِلَى الإِْسْكَارِ، فَإِنَّهُ يُكْرَهُ، وَلاَ يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّة إِلاَّ بِالإِْسْكَارِ، فَلَمْ يَعْتَبِرُوا الْمُدَّةَ أَوِ الْغَلَيَانَ (2) . وَلاَ يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ مَا لَمْ يَغْل الْعَصِيرُ، أَوْ تَمْضِ عَلَيْهِ مُدَّةُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا. وَإِنْ طُبِخَ الْعَصِيرُ أَوِ النَّبِيذُ قَبْل فَوَرَانِهِ وَاشْتِدَادِهِ، أَوْ قَبْل أَنْ تَمْضِيَ عَلَيْهِ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ حَتَّى صَارَ غَيْرَ مُسْكِرٍ كَالدِّبْسِ، وَنَحْوِهِ مِنَ الْمُرَبَّيَاتِ، وَشَرَابِ الْخَرُّوبِ، فَهُوَ مُبَاحٌ، لأَِنَّ التَّحْرِيمَ إِنَّمَا ثَبَتَ فِي الْمُسْكِرِ، فَبَقِيَ مَا عَدَاهُ عَلَى أَصْل الإِْبَاحَةِ (3) . وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنْقَعُ لَهُ الزَّبِيبُ، فَيَشْرَبُهُ الْيَوْمَ وَالْغَدَ وَبَعْدَ الْغَدِ إِلَى مَسَاءِ الثَّالِثَةِ، ثُمَّ يَأْمُرُ بِهِ فَيُسْقَى أَوْ يُهْرَاقُ} . (4)
الاِنْتِبَاذُ فِي الأَْوْعِيَةِ:
18 - الاِنْتِبَاذُ: اتِّخَاذُ النَّبِيذِ الْمُبَاحِ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الاِنْتِبَاذُ فِي الأَْوْعِيَةِ الْمَصْنُوعَةِ مِنْ جِلْدٍ، وَهِيَ الأَْسْقِيَةُ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَاهَا.
__________
(1) هو ما يلقى من التمر أو الزبيب ونحوهما، أو الحبوب في الماء ليكسبه من طعمه بشرط ألا يمضي عليه ثلاثة أيام، وإلا حرم، كما سيتضح مما سيأتي (المعجم الوسيط مادة: نبذ) .
(2) الروضة 10 / 168، والمدونة 6 / 263، وبداية المجتهد 1 / 490.
(3) المغني 8 / 317 - 319.
(4) حديث: " أن النبي صلى كان ينقع. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1589 - ط الحلبي) .

(5/20)


فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الاِنْتِبَاذِ فِي كُل شَيْءٍ مِنَ الأَْوَانِي، سَوَاءٌ الدُّبَّاءُ (1) وَالْحَنْتَمُ (2) وَالْمُزَفَّتُ (3) وَالنَّقِيرُ (4) ، وَغَيْرُهَا، لأَِنَّ الشَّرَابَ الْحَاصِل بِالاِنْتِبَاذِ فِيهَا لَيْسَتْ فِيهِ شِدَّةٌ مُطْرِبَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الاِنْتِبَاذُ فِي هَذِهِ الأَْوْعِيَةِ وَغَيْرِهَا مُبَاحًا. وَمَا وَرَدَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الاِنْتِبَاذِ فِي هَذِهِ الأَْوْعِيَةِ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنِ الأَْشْرِبَةِ فِي ظُرُوفِ الأَْدَمِ، فَاشْرَبُوا فِي كُل وِعَاءٍ، غَيْرَ أَلاَ تَشْرَبُوا مُسْكِرًا} وَفِي رِوَايَةٍ {نَهَيْتُكُمْ عَنِ الظُّرُوفِ، وَإِنَّ ظَرْفًا لاَ يُحِل شَيْئًا وَلاَ يُحَرِّمُهُ، وَكُل مُسْكِرٍ حَرَامٌ} (5) فَهَذَا إِخْبَارٌ صَرِيحٌ عَنِ النَّهْيِ عَنْهُ فِيمَا مَضَى، فَكَانَ هَذَا الْحَدِيثُ نَاسِخًا لِلنَّهْيِ. وَيَدُل عَلَيْهِ أَيْضًا مَا رَوَى أَحْمَدُ عَنْ أَنَسٍ، قَال: {نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النَّبِيذِ فِي الدُّبَّاءِ وَالنَّقِيرِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ} (6) ، ثُمَّ قَال بَعْدَ ذَلِكَ: {أَلاَ كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنِ النَّبِيذِ فِي الأَْوْعِيَةِ، فَاشْرَبُوا فِيمَا شِئْتُمْ،
__________
(1) الدباء بضم الدال وتشديد الباء، والواحدة دباءة، هي: القرعة اليابسة المجعولة وعاء. المصباح المنير مادة: (دبو) .
(2) الحنتم: جرار مدهونة خضر، كانت تحمل الخمر فيها إلى المدينة (النهاية لابن الأثير) .
(3) المزفت: الوعاء المطلي بالزفت وهو القار، وهو مما يحدث التغير في الشراب سريعا (المصباح المنير مادة: زفت) .
(4) النقير: خشبة تنقر أو تحفر كقصعة وقدح وينبذ فيها. (المصباح المنير مادة: نقر) .
(5) حديث: " كنت نهيتكم عن الأشربة في ظروف الأدم. . . . " وفي رواية " نهيتكم عن الظروف، - وإن الظروف أو ظرفا - لا يحل شيئا ولا يحرمه، وكل مسكر حرام " أخرجه مسلم (3 / 1585 - ط الحلبي) .
(6) حديث: " نهى عن النبيذ في الدباء والنقير والحنتم والمزفت " أخرجه مسلم (3 / 1579 - ط الحلبي) .

(5/21)


وَلاَ تَشْرَبُوا مُسْكِرًا، مَنْ شَاءَ أَوْكَى سِقَاءَهُ عَلَى إِثْمٍ} (1) وَالْقَوْل بِنَسْخِ الاِنْتِبَاذِ فِي الأَْوْعِيَةِ الْمَذْكُورَةِ هُوَ قَوْل جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَمِنْهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ، فَلاَ يَحْرُمُ وَلاَ يُكْرَهُ الاِنْتِبَاذُ فِي أَيِّ وِعَاءٍ (2) . وَقَال جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمَالِكٌ وَإِسْحَاقُ: يُكْرَهُ الاِنْتِبَاذُ فِي الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ، وَعَلَيْهِمَا اقْتَصَرَ مَالِكٌ، فَلاَ يُكْرَهُ الاِنْتِبَاذُ فِي غَيْرِ الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ. وَكَرِهَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَالثَّوْرِيُّ الاِنْتِبَاذَ فِي الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ وَالْمُزَفَّتِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الاِنْتِبَاذِ فِيهَا، فَالنَّهْيُ عِنْدَ هَؤُلاَءِ بَاقٍ، سَدًّا لِلذَّرَائِعِ، لأَِنَّ هَذِهِ الأَْوْعِيَةَ تُعَجِّل شِدَّةَ النَّبِيذِ.

حَالاَتُ الاِضْطِرَارِ:
19 - مَا سَبَقَ مِنْ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ أَوِ الأَْنْبِذَةِ عِنْدَ الإِْسْكَارِ إِنَّمَا هُوَ فِي الأَْحْوَال الْعَادِيَّةِ. أَمَّا عِنْدَ الاِضْطِرَارِ فَإِنَّ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ، وَيُرَخَّصُ شَرْعًا تَنَاوُل الْخَمْرِ، وَلَكِنْ بِمِعْيَارِهِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي تُبَاحُ بِهِ الْمُحَرَّمَاتُ، كَضَرُورَةِ الْعَطَشِ، أَوِ الْغَصَصِ، أَوِ الإِْكْرَاهِ، فَيَتَنَاوَل الْمُضْطَرُّ بِقَدْرِ مَا تَنْدَفِعُ بِهِ
__________
(1) أي من شاء ربط بالخيط فم سقائه: (وعائه المصنوع من الجلد) للحفظ، مع أن فيه شرابا محرما، فيحتمل جزاء ذلك، والواجب عليه إراقته إن لم يتخلل (نيل الأوطار 8 / 183) . وحديث: " ألا كنت نهيتكم عن النبيذ في الأوعية. . . . " أخرجه أحمد (3 / 481 ط الميمنية) من حديث ابن الرسيم، وقال الهيثمي في المجمع (5 / 163 ط القدسي) : فيه يحيى بن عبد الله الجابر، وهو ضعيف عند الجمهور، وابن الرسيم لم أعرفه.
(2) المنتقى على الموطأ 3 / 148، وبداية المجتهد 1 / 490 - 491، والمغني 8 / 317، والمدونة 6 / 263.

(5/21)


الضَّرُورَةُ، وَهَذَا لَيْسَ مُجْمَعًا عَلَى جَمِيعِهِ، بَل فِيهِ خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أ - الإِْكْرَاهُ:
20 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ شُرْبِ الْخَمْرِ عِنْدَ الإِْكْرَاهِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: {إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ} (1) إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ مَعَ قَوْلِهِمْ بِالْجَوَازِ أَلْزَمُوا شَارِبَ الْخَمْرِ عِنْدَ الإِْكْرَاهِ - وَكُل آكِل حَرَامٍ أَوْ شَارِبِهِ - أَنْ يَتَقَيَّأَهُ إِنْ أَطَاقَهُ، لأَِنَّهُ أُبِيحَ شُرْبُهُ لِلإِْكْرَاهِ، وَلاَ يُبَاحُ بَقَاؤُهُ فِي الْبَطْنِ بَعْدَ زَوَال السَّبَبِ (2) . وَلِزِيَادَةِ التَّفْصِيل رَاجِعْ مُصْطَلَحَ: (إِكْرَاهٌ) .
ب - الْغَصَصُ أَوِ الْعَطَشُ:
21 - يَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ شُرْبُ الْخَمْرِ إِنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهَا (وَلَوْ مَاءً نَجِسًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) لإِِسَاغَةِ لُقْمَةٍ غَصَّ بِهَا، بِاتِّفَاقِ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ، خِلاَفًا لاِبْنِ عَرَفَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ الَّذِي يَرَى أَنَّ ضَرُورَةَ الْغَصَصِ تَدْرَأُ الْحَدَّ وَلاَ تَمْنَعُ الْحُرْمَةَ. وَإِنَّمَا حَلَّتْ عِنْدَ غَيْرِهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ لِدَفْعِ الْغَصَصِ إِنْقَاذًا لِلنَّفْسِ مِنَ الْهَلاَكِ، وَالسَّلاَمَةُ بِذَلِكَ قَطْعِيَّةٌ،
__________
(1) حديث: " إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " أخرجه ابن ماجه (1 / 659 ط الحلبي) ، وصححه ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم (ص 350 ط الحلبي) .
(2) الدسوقي مع الشرح الكبير 4 / 353، والفواكه الدواني 2 / 289، والحطاب 6 / 318، وكشاف القناع 6 / 117، ونهاية المحتاج 8 / 10، والفتاوى البزازية بهامش الهندية 6 / 127، وحاشية ابن عابدين 5 / 88.

(5/22)


وَهِيَ مِنْ قَبِيل الرُّخْصَةِ الْوَاجِبَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (1) . أَمَّا شُرْبُ الْخَمْرِ لِدَفْعِ الْعَطَشِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ قَوْلٌ يُقَابِل الأَْصَحَّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - إِلَى جَوَازِ شُرْبِهَا فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ، كَمَا يُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ تَنَاوُل الْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ، وَقَيَّدَهَا الْحَنَفِيَّةُ بِقَوْلِهِمْ: إِنْ كَانَتِ الْخَمْرُ تَرُدُّ ذَلِكَ الْعَطَشَ (2) وَمَفْهُومُهُ أَنَّهَا إِنْ لَمْ تَرُدَّ الْعَطَشَ لاَ يَجُوزُ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - إِلَى تَحْرِيمِ شُرْبِهَا لِدَفْعِ الْعَطَشِ، قَال الْمَالِكِيَّةُ: لأَِنَّهَا لاَ تُزِيل الْعَطَشَ، بَل تَزِيدُهُ حَرَارَةً لِحَرَارَتِهَا وَيُبُوسَتِهَا (3) . وَقَيَّدَ الْحَنَابِلَةُ حُرْمَةَ شُرْبِهَا بِكَوْنِهَا صَرْفًا، أَيْ غَيْرَ مَمْزُوجَةٍ بِمَا يَرْوِي مِنَ الْعَطَشِ، فَإِنْ مُزِجَتْ بِمَا يَرْوِي مِنَ الْعَطَشِ جَازَ شُرْبُهَا لِدَفْعِ الضَّرُورَةِ (4) . وَأَمَّا ضَرُورَةُ التَّدَاوِي فَسَيَأْتِي بَيَانُهَا فِي أَوَاخِرِ هَذَا الْبَحْثِ.

(الثَّانِي) مِنْ أَحْكَامِ الْخَمْرِ: أَنَّهُ يَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهَا:
22 - لَقَدْ ثَبَتَتْ حُرْمَةُ الْخَمْرِ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ وَالسُّنَّةُ وَالإِْجْمَاعُ، كَمَا سَبَقَ. فَمَنِ اسْتَحَلَّهَا فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ حَلاَل الدَّمِ وَالْمَال (5) . وَلِلتَّفْصِيل فِي ذَلِكَ انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (رِدَّةٌ) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 412، والدسوقي مع الشرح الكبير 4 / 352، والفواكه الدواني 2 / 289، والحطاب 6 / 318، والخرشي على خليل 8 / 108، وكشاف القناع 6 / 117، والإنصاف 10 / 229، ومغني المحتاج 4 / 188.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 412، ونهاية المحتاج 8 / 12.
(3) الدسوقي مع الشرح الكبير 4 / 353، والفواكه الدواني 2 / 289، والحطاب 6 / 318.
(4) كشاف القناع 6 / 117.
(5) الفتاوى الهندية 5 / 410، والهداية مع فتح القدير 9 / 28، والمغني 8 / 303 و 304، وشرح روض الطالب 4 / 158.

(5/22)


هَذَا، وَإِنَّ الْخَمْرَ الَّتِي يَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهَا هِيَ مَا اتُّخِذَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ، أَمَّا مَا أَسْكَرَ مِنْ غَيْرِ عَصِيرِ الْعِنَبِ النِّيءِ فَلاَ يَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهُ، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّ حُرْمَتَهَا دُونَ حُرْمَةِ الْخَمْرِ الثَّابِتَةِ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، وَهَذِهِ ثَبَتَتْ حُرْمَتُهَا بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ غَيْرِ مَقْطُوعٍ بِهِ مِنْ أَخْبَارِ الآْحَادِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ (1) .

(الثَّالِثُ) عُقُوبَةُ شَارِبِهَا

: 23 - ثَبَتَ حَدُّ شَارِبِ الْخَمْرِ بِالسُّنَّةِ، فَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي حَدِّ شَارِبِ الْخَمْرِ، مِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ {أَنَّ النَّبِيَّ أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَجَلَدَهُ بِجَرِيدَتَيْنِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ} . قَال: وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ النَّاسَ، فَقَال عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَخَفُّ الْحُدُودِ ثَمَانُونَ، فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ (2) . وَعَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَال: {كُنَّا نُؤْتَى بِالشَّارِبِ فِي عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِمْرَةِ أَبِي بَكْرٍ، فَصَدْرًا مِنْ خِلاَفَةِ عُمَرَ، فَنَقُومُ إِلَيْهِ بِأَيْدِينَا وَنِعَالِنَا وَأَرْدِيَتِنَا، حَتَّى كَانَ آخِرُ إِمْرَةِ عُمَرَ، فَجَلَدَ أَرْبَعِينَ، حَتَّى إِذَا عَتَوْا وَفَسَقُوا جَلَدَ ثَمَانِينَ} (3) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 410، والهداية مع تكملة فتح القدير 9 / 28، والمغني 8 / 303، 304، وشرح روض الطالب 4 / 158، وحاشية القليوبي على شرح المنهاج 4 / 202، ومغني المحتاج 4 / 186، والمحلى 7 / 491، وفيه أن الظاهرية يكفرون مستحل النبيذ ككفر مستحل الخمر المجمع عليه.
(2) حديث أنس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1330 - ط الحلبي) .
(3) حديث السائب بن يزيد قال: " كنا نؤتى بالشارب. . . . " أخرجه البخاري (12 / 66 - الفتح ط السلفية) .

(5/23)


وَقَدْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى جَلْدِ شَارِبِ الْخَمْرِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِهِ مَا بَيْنَ أَرْبَعِينَ أَوْ ثَمَانِينَ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْقَوْل بِالثَّمَانِينَ (1) . وَتَفْصِيلُهُ فِي (حَدِّ الشُّرْبِ) . وَعَلَى هَذَا يُحَدُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ شَارِبُ الْخَمْرِ سَوَاءٌ أَسَكِرَ أَمْ لَمْ يَسْكَرْ، وَكَذَا شَارِبُ كُل مُسْكِرٍ، سَوَاءٌ أَشَرِبَ كَثِيرًا أَمْ قَلِيلاً. وَالْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يُحَدُّ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ قَلِيلِهَا أَوْ كَثِيرِهَا، وَكَذَا يُحَدُّ مَنْ سَكِرَ مِنْ شُرْبِ غَيْرِهَا. (2)

ضَابِطُ السُّكْرِ:
24 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّ السَّكْرَانَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ غَالِبُ كَلاَمِهِ الْهَذَيَانَ، وَاخْتِلاَطَ الْكَلاَمِ، لأَِنَّ هَذَا هُوَ السَّكْرَانُ فِي عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ، فَإِنَّ السَّكْرَانَ فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ اسْمٌ لِمَنْ هَذَى، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الإِْمَامُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ (3) : إِذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، وَحَدُّ الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ. فَحَدُّ السُّكْرِ الَّذِي يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعِبَادَاتِ، وَيُوجِبُ الْفِسْقَ عَلَى شَارِبِ النَّبِيذِ وَنَحْوِهِ هُوَ الَّذِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين مع الدر المختار 5 / 289، والفواكه الدواني 2 / 290، ومغني المحتاج 4 / 187، والمغني 8 / 304 وما بعدها، ونيل الأوطار 7 / 146 وما بعدها.
(2) بدائع الصنائع 6 / 2935 وما بعدها، وتبيين الحقائق 6 / 45 - 47، ومغني المحتاج 4 / 187، والمغني 8 / 304 وما بعدها، والدسوقي على الشرح الكبير 4 / 352، وابن عابدين 3 / 162 - 163، 5 / 289 - 293.
(3) أثر علي رضي الله عنه: " إذا سكر هذى. . . . . " رواه مالك في الموطأ (2 / 842 - ط الحلبي) ، وأعله ابن حجر في التلخيص (4 / 75 ط دار المحاسن) .

(5/23)


هَذَا، وَإِنَّ الْخَمْرَ الَّتِي يَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهَا هِيَ مَا اتُّخِذَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ، أَمَّا مَا أَسْكَرَ مِنْ غَيْرِ عَصِيرِ الْعِنَبِ النِّيءِ فَلاَ يَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهُ، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّ حُرْمَتَهَا دُونَ حُرْمَةِ الْخَمْرِ الثَّابِتَةِ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، وَهَذِهِ ثَبَتَتْ حُرْمَتُهَا بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ غَيْرِ مَقْطُوعٍ بِهِ مِنْ أَخْبَارِ الآْحَادِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ (1) .

(الثَّالِثُ) عُقُوبَةُ شَارِبِهَا

: 23 - ثَبَتَ حَدُّ شَارِبِ الْخَمْرِ بِالسُّنَّةِ، فَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي حَدِّ شَارِبِ الْخَمْرِ، مِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ {أَنَّ النَّبِيَّ أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَجَلَدَهُ بِجَرِيدَتَيْنِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ} . قَال: وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ النَّاسَ، فَقَال عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَخَفُّ الْحُدُودِ ثَمَانُونَ، فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ (2) . وَعَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَال: {كُنَّا نُؤْتَى بِالشَّارِبِ فِي عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِمْرَةِ أَبِي بَكْرٍ، فَصَدْرًا مِنْ خِلاَفَةِ عُمَرَ، فَنَقُومُ إِلَيْهِ بِأَيْدِينَا وَنِعَالِنَا وَأَرْدِيَتِنَا، حَتَّى كَانَ آخِرُ إِمْرَةِ عُمَرَ، فَجَلَدَ أَرْبَعِينَ، حَتَّى إِذَا عَتَوْا وَفَسَقُوا جَلَدَ ثَمَانِينَ} (3) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 410، والهداية مع تكملة فتح القدير 9 / 28، والمغني 8 / 303، 304، وشرح روض الطالب 4 / 158، وحاشية القليوبي على شرح المنهاج 4 / 202، ومغني المحتاج 4 / 186، والمحلى 7 / 491، وفيه أن الظاهرية يكفرون مستحل النبيذ ككفر مستحل الخمر المجمع عليه.
(2) حديث أنس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1330 - ط الحلبي) .
(3) حديث السائب بن يزيد قال: " كنا نؤتى بالشارب. . . . " أخرجه البخاري (12 / 66 - الفتح ط السلفية) .

(5/23)


وَقَدْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى جَلْدِ شَارِبِ الْخَمْرِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِهِ مَا بَيْنَ أَرْبَعِينَ أَوْ ثَمَانِينَ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْقَوْل بِالثَّمَانِينَ (1) . وَتَفْصِيلُهُ فِي (حَدِّ الشُّرْبِ) . وَعَلَى هَذَا يُحَدُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ شَارِبُ الْخَمْرِ سَوَاءٌ أَسَكِرَ أَمْ لَمْ يَسْكَرْ، وَكَذَا شَارِبُ كُل مُسْكِرٍ، سَوَاءٌ أَشَرِبَ كَثِيرًا أَمْ قَلِيلاً. وَالْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يُحَدُّ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ قَلِيلِهَا أَوْ كَثِيرِهَا، وَكَذَا يُحَدُّ مَنْ سَكِرَ مِنْ شُرْبِ غَيْرِهَا. (2)

ضَابِطُ السُّكْرِ:
24 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّ السَّكْرَانَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ غَالِبُ كَلاَمِهِ الْهَذَيَانَ، وَاخْتِلاَطَ الْكَلاَمِ، لأَِنَّ هَذَا هُوَ السَّكْرَانُ فِي عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ، فَإِنَّ السَّكْرَانَ فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ اسْمٌ لِمَنْ هَذَى، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الإِْمَامُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ (3) : إِذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، وَحَدُّ الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ. فَحَدُّ السُّكْرِ الَّذِي يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعِبَادَاتِ، وَيُوجِبُ الْفِسْقَ عَلَى شَارِبِ النَّبِيذِ وَنَحْوِهِ هُوَ الَّذِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين مع الدر المختار 5 / 289، والفواكه الدواني 2 / 290، ومغني المحتاج 4 / 187، والمغني 8 / 304 وما بعدها، ونيل الأوطار 7 / 146 وما بعدها.
(2) بدائع الصنائع 6 / 2935 وما بعدها، وتبيين الحقائق 6 / 45 - 47، ومغني المحتاج 4 / 187، والمغني 8 / 304 وما بعدها، والدسوقي على الشرح الكبير 4 / 352، وابن عابدين 3 / 162 - 163، 5 / 289 - 293.
(3) أثر علي رضي الله عنه: " إذا سكر هذى. . . . . " رواه مالك في الموطأ (2 / 842 - ط الحلبي) ، وأعله ابن حجر في التلخيص (4 / 75 ط دار المحاسن) .

(5/23)


يَجْمَعُ بَيْنَ اضْطِرَابِ الْكَلاَمِ فَهْمًا وَإِفْهَامًا، وَبَيْنَ اضْطِرَابِ الْحَرَكَةِ مَشْيًا وَقِيَامًا، فَيَتَكَلَّمُ بِلِسَانٍ مُنْكَسِرٍ، وَمَعْنًى غَيْرِ مُنْتَظِمٍ، وَيَتَصَرَّفُ بِحَرَكَةِ مُخْتَبِطٍ، وَمَشْيِ مُتَمَايِلٍ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِمَّا يَذْكُرُهُ الإِْمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ فَهُوَ زِيَادَةٌ فِي حَدِّ السُّكْرِ أَيْ مِقْدَارِهِ. (1) وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ السُّكْرَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ هُوَ الَّذِي يُزِيل الْعَقْل بِحَيْثُ لاَ يَفْهَمُ السَّكْرَانُ شَيْئًا، وَلاَ يَعْقِل مَنْطِقًا، وَلاَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ، وَالأَْرْضِ وَالسَّمَاءِ، لأَِنَّ الْحُدُودَ يُؤْخَذُ فِي أَسْبَابِهَا بِأَقْصَاهَا، دَرْءًا لِلْحَدِّ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: {ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (2) وَقَوْل الصَّاحِبَيْنِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مَال إِلَيْهِ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى عِنْدَهُمْ. قَال فِي الدُّرِّ: يُخْتَارُ لِلْفَتْوَى لِضَعْفِ دَلِيل الإِْمَامِ. (3)

طُرُقُ إِثْبَاتِ السُّكْرِ:
25 - إِنَّ إِثْبَاتَ الشُّرْبِ الْمُوجِبِ لِعُقُوبَةِ الْحَدِّ لأَِجْل
__________
(1) مختصر الطحاوي ص 278، والبدائع 5 / 2947، وحاشية ابن عابدين 5 / 292، والتاج والإكليل 6 / 317، والأحكام السلطانية للماوردي ص 229، ولأبي يعلى ص 254، والمغني 8 / 312، والمحلى 7 / 506.
(2) البدائع 6 / 2946 - 2947، ونفي الحد عند أبي حنيفة قبل وصول السكر إلى غايته ليس معناه عدم استحقاق العقوبة، بل تجب عقوبة التعزيز بما يكفي للردع كما هو معلوم. وحديث: " ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم " أخرجه الترمذي (4 / 33 - ط الحلبي) والحاكم (4 / 384 - ط دائرة المعارف العثمانية) ، وضعفه ابن حجر في التلخيص (4 / 65 ط دار المحاسن) وصحح وقفه على ابن مسعود.
(3) الدر المختار بحاشية ابن عابدين 3 / 165.

(5/24)


إِقَامَتِهِ عَلَى الشَّارِبِ بِوَاسِطَةِ الشَّهَادَةِ أَوِ الإِْقْرَارِ أَوِ الْقَيْءِ وَنَحْوِهَا تَفْصِيلُهُ فِي حَدِّ شُرْبِ الْخَمْرِ. وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِثْبَاتٌ) .

حُرْمَةُ تَمَلُّكِ وَتَمْلِيكِ الْخَمْرِ:
26 - يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ تَمَلُّكُ أَوْ تَمْلِيكُ الْخَمْرِ بِأَيِّ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ الاِخْتِيَارِيَّةِ أَوِ الإِْرَادِيَّةِ، كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: {إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا} . (1) وَعَنْ جَابِرٍ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: {إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَْصْنَامِ} (2) أَمَّا إِذَا كَانَ التَّمَلُّكُ لِلْخَمْرِ بِسَبَبٍ جَبْرِيٍّ كَالإِْرْثِ، فَإِنَّهَا تَدْخُل فِي مِلْكِهِ وَتُورَثُ، كَمَا إِذَا كَانَتْ مِلْكًا لِذِمِّيٍّ فَأَسْلَمَ، أَوْ تَخَمَّرَ عِنْدَ الْمُسْلِمِ عَصِيرُ الْعِنَبِ قَبْل تَخَلُّلِهِ، ثُمَّ مَاتَ وَالْخَمْرُ فِي حَوْزَتِهِ، فَإِنَّهَا تَنْتَقِل مِلْكِيَّتُهَا إِلَى وَارِثِهِ بِسَبَبٍ غَيْرِ إِرَادِيٍّ، فَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّمَلُّكِ وَالتَّمْلِيكِ الاِخْتِيَارِيِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَيَنْبَنِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْخَمْرَ هَل هِيَ مَالٌ أَوْ لاَ؟ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى
__________
(1) حديث: " إن الذي حرم شربها حرم بيعها " أخرجه مسلم (3 / 1206 ط الحلبي) .
(2) حديث: " إن الله ورسوله حرم. . . . " أخرجه البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله عنهما مرفوعا. (فتح الباري 4 / 424 ط السلفية، وصحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 3 / 1207 ط عيسى الحلبي) .

(5/24)


أَنَّهَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، (1) لَكِنْ يَجُوزُ إِتْلاَفُهَا لِغَرَضٍ صَحِيحٍ، وَتُضْمَنُ إِذَا أُتْلِفَتْ لِذِمِّيٍّ. فِي حِينِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ - وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ، وَعَلَى هَذَا فَيَجُوزُ إِتْلاَفُهَا، لِمُسْلِمٍ كَانَتْ أَوْ ذِمِّيٍّ. أَمَّا غَيْرُ الْخَمْرِ مِنَ الْمُسْكِرِ الْمَائِعِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِتْلاَفُهُ خِلاَفًا لأَِبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (2) وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ فِي ذَلِكَ مُصْطَلَحَيْ (بَيْعٌ) (وَإِتْلاَفٌ) .

ضَمَانُ إِتْلاَفِ الْخَمْرِ أَوْ غَصْبِهَا:
27 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ إِنْ كَانَتْ لِمُسْلِمٍ فَلاَ يَضْمَنُ مُتْلِفُهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي ضَمَانِ مَنْ أَتْلَفَ خَمْرَ الذِّمِّيِّ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى الْقَوْل بِالضَّمَانِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى الْقَوْل بِعَدَمِ الضَّمَانِ، لاِنْتِفَاءِ تَقَوُّمِهَا كَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لاَ تُرَاقُ الْخَمْرَةُ الْمَغْصُوبَةُ مِنْ مُسْلِمٍ إِذَا كَانَتْ مُحْتَرَمَةً - وَهِيَ الَّتِي عُصِرَتْ لاَ بِقَصْدِ الْخَمْرِيَّةِ، وَإِنَّمَا بِقَصْدِ التَّخْلِيل - وَتُرَدُّ إِلَى الْمُسْلِمِ، لأَِنَّ لَهُ إِمْسَاكَهَا لِتَصِيرَ خَلًّا. وَالضَّمَانُ هُنَا
__________
(1) المتقوم بكسر الواو المشددة: ما يباح الانتفاع به شرعا، وغير المتقوم: ما لا يباح الانتفاع به شرعا، كالخمر والخنزير ونحوهما. (تكملة فتح القدير 9 / 31، وابن عابدين على الدر المختار 5 / 289) .
(2) ابن عابدين 5 / 289، 292، وتكملة فتح القدير 9 / 31، 5 / 280، والشرح الصغير 4 / 474، وشرح الروض 2 / 344، ومغني المحتاج 2 / 285، والمجموع 9 / 227، 230، والمغني 5 / 222 - 223 مطابع سجل العرب، والإنصاف 5 / 192 و 6 / 124 - 125، والمنتقى على الموطأ 3 / 158، والمهذب 1 / 261.

(5/25)


إِذَا وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ بِالْقِيمَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ لاَ بِالْمِثْل، لأَِنَّ الْمُسْلِمَ مَمْنُوعٌ عَنْ تَمْلِيكِهِ وَتَمَلُّكِهِ إِيَّاهَا، لِمَا فِيهِ مِنْ إِعْزَازِهَا. وَإِذَا وَجَبَ لِذِمِّيٍّ عَلَى ذِمِّيٍّ، فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ يَكُونُ بِالْمِثْل. (1) وَيُنْظَرُ أَيْضًا مُصْطَلَحُ (إِتْلاَفٌ) (وَضَمَانٌ) .

حُكْمُ الاِنْتِفَاعِ بِالْخَمْرِ:
28 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى تَحْرِيمِ الاِنْتِفَاعِ بِالْخَمْرِ لِلْمُدَاوَاةِ، وَغَيْرِهَا مِنْ أَوْجُهِ الاِنْتِفَاعِ، كَاسْتِخْدَامِهَا فِي دُهْنٍ، أَوْ طَعَامٍ، أَوْ بَل طِينٍ. وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَل شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} . (2) وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرِهِ {أَنَّ طَارِقَ بْنَ سُوَيْدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَل النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخَمْرِ فَنَهَاهُ - أَوْ كَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا - فَقَال: إِنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ، فَقَال: إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ، وَلَكِنَّهُ دَاءٌ} . (3) وَقَال الْجُمْهُورُ: يُحَدُّ مَنْ شَرِبَهَا لِدَوَاءٍ. (4) وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ حَرَامٌ فِي الأَْصَحِّ إِذَا كَانَتْ صَرْفًا غَيْرَ مَمْزُوجَةٍ بِشَيْءٍ آخَرَ
__________
(1) البدائع 6 / 2936، وحاشية ابن عابدين 5 / 292، وتبيين الحقائق 5 / 234، 235، والحطاب 5 / 280، والشرح الكبير مع المغني 5 / 376، ونهاية المحتاج 5 / 165، وحاشية القليوبي على شرح المنهاج 3 / 30 وما بعدها.
(2) حديث: " إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم " أخرجه ابن حبان (موارد الظمآن ص 39 ط السلفية) وأبو يعلى كما في مجمع الزوائد (5 / 86 - ط القدسي) ، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح ما عدا حسان بن مخارق.
(3) حديث طارق بن سويد: " إنه ليس بدواء ولكنه داء " أخرجه مسلم (3 / 1573 - ط الحلبي) .
(4) حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 4 / 352، ومغني المحتاج 4 / 188، وكشاف القناع 6 / 116 - 117، وبدائع الصنائع 6 / 2935.

(5/25)


تُسْتَهْلَكُ فِيهِ، وَيَجِبُ الْحَدُّ. أَمَّا إِذَا كَانَتْ مَمْزُوجَةً بِشَيْءٍ آخَرَ تُسْتَهْلَكُ فِيهِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ التَّدَاوِي بِهِ عِنْدَ فَقْدِ مَا يَقُومُ بِهِ التَّدَاوِي مِنَ الطَّاهِرَاتِ، وَحِينَئِذٍ تَجْرِي فِيهِ قَاعِدَةُ الضَّرُورَةِ الشَّرْعِيَّةِ. وَإِذًا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِذَلِكَ لِتَعْجِيل شِفَاءٍ، بِشَرْطِ إِخْبَارِ طَبِيبٍ مُسْلِمٍ عَدْلٍ بِذَلِكَ، أَوْ مَعْرِفَتِهِ لِلتَّدَاوِي بِهِ، وَبِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْقَدْرُ الْمُسْتَعْمَل قَلِيلاً لاَ يُسْكِرُ. وَذَهَبَ الإِْمَامُ النَّوَوِيُّ إِلَى الْجَزْمِ بِحُرْمَتِهَا فَقَال: الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ لِلتَّدَاوِي. (1)

حُكْمُ سَقْيِهَا لِغَيْرِ الْمُكَلَّفِينَ:
29 - يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْمُكَلَّفِ أَنْ يَسْقِيَ الْخَمْرَ الصَّبِيَّ، أَوِ الْمَجْنُونَ، فَإِنْ أَسْقَاهُمْ فَالإِْثْمُ عَلَيْهِ لاَ عَلَى الشَّارِبِ، وَلاَ حَدَّ عَلَى الشَّارِبِ، لأَِنَّ خِطَابَ التَّحْرِيمِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْبَالِغِ الْعَاقِل. (2) وَقَدْ قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الْخَمْرُ أُمُّ الْخَبَائِثِ} (3) وَقَال: {لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ وَآكِل ثَمَنِهَا} . (4) وَيَحْرُمُ أَيْضًا عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُسْقِيَ الْخَمْرَ لِلدَّوَابِّ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
__________
(1) المجموع 9 / 51، والقليوبي 4 / 203، ونهاية المحتاج 8 / 12، ومغني المحتاج 4 / 188.
(2) البدائع 6 / 2935، ومغني المحتاج 4 / 188، وحاشية عميرة على المحلي 4 / 202.
(3) حديث: " لعن الله الخمر. . . . . " أخرجه أبو داود وابن ماجه وزيادة " وآكل ثمنها " له من حديث ابن عمر مرفوعا، وأخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أنس بن مالك مرفوعا، ولفظ الترمذي: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة: عاصرها ومعتصرها وشاربها وسنن ابن ماجه بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 2 / 1121، 1122 ط عيسى الحلبي، وتحفة الأحوذي 4 / 516، 517 نشر المكتبة السلفية، والتلخيص الحبير 4 / 73 ط شركة الطباعة الفنية، والترغيب والترهيب 4 / 292، 293 ط مطبعة السعادة)
(4) حديث: " لعن الله الخمر. . . . . " أخرجه أبو داود وابن ماجه وزيادة " وآكل ثمنها " له من حديث ابن عمر مرفوعا، وأخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أنس بن مالك مرفوعا، ولفظ الترمذي: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة: عاصرها ومعتصرها وشاربها وسنن ابن ماجه بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 2 / 1121، 1122 ط عيسى الحلبي، وتحفة الأحوذي 4 / 516، 517 نشر المكتبة السلفية، والتلخيص الحبير 4 / 73 ط شركة الطباعة الفنية، والترغيب والترهيب 4 / 292، 293 ط مطبعة السعادة)

(5/26)


الاِحْتِقَانُ أَوِ الاِسْتِعَاطُ (1) بِالْخَمْرِ:
30 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ تَحْرِيمًا الاِحْتِقَانُ بِالْخَمْرِ (بِأَخْذِهَا حُقْنَةً شَرَجِيَّةً) أَوْ جَعْلِهَا فِي سَعُوطٍ، لأَِنَّهُ انْتِفَاعٌ بِالْمُحَرَّمِ النَّجِسِ، وَلَكِنْ لاَ يَجِبُ الْحَدُّ، لأَِنَّ الْحَدَّ مُرْتَبِطٌ بِالشُّرْبِ، فَهُوَ سَبَبُ تَطْبِيقِ الْحَدِّ. وَيُلاَحَظُ - كَمَا سَبَقَ - أَنَّهُ يَسْتَوْجِبُ عُقُوبَةً أُخْرَى زَاجِرَةً بِطَرِيقِ التَّعْزِيرِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الاِحْتِقَانَ بِهَا يُعْتَبَرُ حَرَامًا. وَخِلاَفُهُمْ مَعَ الْحَنَفِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ فِي التَّسْمِيَةِ، فَالْحَنَفِيَّةُ يُسَمُّونَ مَا طَلَبَ الشَّارِعُ تَرْكَهُ عَلَى وَجْهِ الْحَتْمِ وَالإِْلْزَامِ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ مَكْرُوهًا تَحْرِيمًا، وَالْجُمْهُورُ يُسَمُّونَهُ حَرَامًا. وَهُمْ يُوَافِقُونَ الْحَنَفِيَّةَ فِي أَنَّهُ لاَ حَدَّ فِي حَالَةِ الاِحْتِقَانِ بِالْخَمْرِ، لأَِنَّ الْحَدَّ لِلزَّجْرِ، وَلاَ حَاجَةَ لِلزَّجْرِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، لأَِنَّ النَّفْسَ لاَ تَرْغَبُ فِي مِثْل ذَلِكَ عَادَةً. وَلَكِنَّ الْحَنَابِلَةَ قَالُوا بِوُجُوبِ الْحَدِّ فِي حَالَةِ الاِسْتِعَاطِ، لأَِنَّ الشَّخْصَ أَوْصَل الْخَمْرَ إِلَى بَاطِنِهِ مِنْ حَلْقِهِ. (2)

حُكْمُ مُجَالَسَةِ شَارِبِي الْخَمْرِ:
31 - يَحْرُمُ مُجَالَسَةُ شُرَّابِ الْخَمْرِ وَهُمْ يَشْرَبُونَهَا، أَوِ الأَْكْل عَلَى مَائِدَةٍ يُشْرَبُ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنَ الْمُسْكِرَاتِ خَمْرًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ
__________
(1) استعاط الدواء إدخاله في الأنف.
(2) نهاية المحتاج 8 / 11، والمغني 8 / 307، والشرح الكبير 4 / 352، وحاشية ابن عابدين مع الدر المختار 5 / 290.

(5/26)


بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ فَلاَ يَقْعُدْ عَلَى مَائِدَةٍ يُشْرَبُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ} . (1)

نَجَاسَةُ الْخَمْرِ:
32 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْخَمْرَ نَجِسَةٌ نَجَاسَةً مُغَلَّظَةً، كَالْبَوْل وَالدَّمِ لِثُبُوتِ حُرْمَتِهَا وَتَسْمِيَتِهَا رِجْسًا. (2) كَمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَْنْصَابُ وَالأَْزْلاَمُ رِجْسٌ. . .} (3) وَالرِّجْسُ فِي اللُّغَةِ: الشَّيْءُ الْقَذِرُ وَالنَّتِنُ (4) . أَمَّا الأَْشْرِبَةُ الأُْخْرَى الْمُخْتَلَفُ فِيهَا فَالْحُكْمُ بِالْحُرْمَةِ يَسْتَتْبِعُ عِنْدَهُمُ الْحُكْمَ بِنَجَاسَتِهَا. (5) وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، مِنْهُمْ رَبِيعَةُ شَيْخُ مَالِكٍ وَالصَّنْعَانِيُّ وَالشَّوْكَانِيُّ، إِلَى طَهَارَتِهَا، تَمَسُّكًا بِالأَْصْل، وَحَمَلُوا الرِّجْسَ فِي الآْيَةِ عَلَى الْقَذَارَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ. (6) أَمَّا الْبَهِيمَةُ إِذَا سُقِيَتْ خَمْرًا، فَهَل تَحِل أَوْ تَحْرُمُ لأَِجْل الْخَمْرِ؟ فِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (أَطْعِمَةٌ) .
__________
(1) كشاف القناع 6 / 118. وحديث: " من كان يؤمن. . . . " أخرجه الدرمي من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعا، وأصله في سنن أبي داود من حديث سالم عن أبيه بلفظ: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مطعمين: عن الجلوس على مائدة يشرب عليها الخمر، وأن يأكل (الرجل) وهو منبطح على بطنه وسنن الدارمي 2 / 112 نشر دار إحياء السنة النبوية) .
(2) المجموع 2 / 564.
(3) سورة المائدة / 9.
(4) المصباح المنير.
(5) حاشية ابن عابدين مع الدر المختار 5 / 289 - 291، وتبيين الحقائق 6 / 45.
(6) ابن عابدين 5 / 289، والمجموع 2 / 564، والمغني 8 / 318، ومغني المحتاج 4 / 188، والمحلى 1 / 163.

(5/27)


أَثَرُ تَخَلُّل الْخَمْرِ وَتَخْلِيلِهَا:
33 - إِذَا تَخَلَّلَتِ الْخَمْرُ بِنَفْسِهَا بِغَيْرِ قَصْدِ التَّخْلِيل يَحِل ذَلِكَ الْخَل (1) بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. (2) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {نِعْمَ الأُْدْمُ الْخَل} . (3) وَيُعْرَفُ التَّخَلُّل بِالتَّغَيُّرِ مِنَ الْمَرَارَةِ إِلَى الْحُمُوضَةِ، بِحَيْثُ لاَ يَبْقَى فِيهَا مَرَارَةٌ أَصْلاً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، حَتَّى لَوْ بَقِيَ فِيهَا بَعْضُ الْمَرَارَةِ لاَ يَحِل شُرْبُهَا، لأَِنَّ الْخَمْرَ عِنْدَهُ لاَ تَصِيرُ خَلًّا إِلاَّ بَعْدَ تَكَامُل مَعْنَى الْخَلِيَّةِ فِيهِ. كَمَا لاَ يَصِيرُ الْعَصِيرُ خَمْرًا إِلاَّ بَعْدَ تَكَامُل مَعْنَى الْخَمْرِيَّةِ. وَقَال الصَّاحِبَانِ: تَصِيرُ الْخَمْرُ خَلًّا بِظُهُورِ قَلِيلٍ مِنَ الْحُمُوضَةِ فِيهَا، اكْتِفَاءً بِظُهُورِ الْخَلِّيَّةِ فِيهِ، كَمَا أَنَّ الْعَصِيرَ يَصِيرُ خَمْرًا بِظُهُورِ دَلِيل الْخَمْرِيَّةِ، كَمَا أَشَرْنَا فِي بَيَانِ مَذْهَبِهِمَا.

تَخْلِيل الْخَمْرِ بِعِلاَجٍ:
34 - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ لاَ يَحِل تَخْلِيل الْخَمْرِ بِالْعِلاَجِ كَالْخَل وَالْبَصَل وَالْمِلْحِ، أَوْ إِيقَادُ نَارٍ عِنْدَهَا، وَلاَ تَطْهُرُ حِينَئِذٍ، لأَِنَّنَا مَأْمُورُونَ بِاجْتِنَابِهَا، فَيَكُونُ التَّخْلِيل اقْتِرَابًا مِنَ الْخَمْرِ عَلَى وَجْهِ التَّمَوُّل، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلأَْمْرِ بِالاِجْتِنَابِ، وَلأَِنَّ الشَّيْءَ الْمَطْرُوحَ فِي الْخَمْرِ يَتَنَجَّسُ بِمُلاَقَاتِهَا
__________
(1) الخل معروف، والجمع خلول، سمي بذلك؛ لأنه اختل منه طعم الحلاوة، يقال: اختل الشيء: إذا تغير واضطرب (ر: المصباح المنير) .
(2) المحلى 1 / 117، والبحر الزخار 4 / 351 وما بعدها، والروضة البهية 2 / 290.
(3) وفي لفظ: " نعم الإدام الخل " رواه مسلم وأحمد وأصحاب السنن الأربعة عن جابر بن عبد الله، وأخرجه مسلم عن عائشة، ورواه الحاكم والبيهقي عن آخرين (نصب الراية 4 / 310، والمقاصد الحسنة للسخاوي ص 447) .

(5/27)


فَيُنَجِّسُهَا بَعْدَ انْقِلاَبِهَا خَلًّا، وَلأَِنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِإِهْرَاقِ الْخَمْرِ بَعْدَ نُزُول آيَةِ الْمَائِدَةِ بِتَحْرِيمِهَا. وَعَنْ {أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَأَل النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَيْتَامٍ وَرِثُوا خَمْرًا، فَقَال: أَهْرِقْهَا، قَال: أَفَلاَ أُخَلِّلُهَا؟ قَال: لاَ} (1) وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {أَهْدَى رَجُلٌ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاوِيَةَ خَمْرٍ، فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهَا؟ فَقَال: لاَ، فَسَارَّهُ رَجُلٌ إِلَى جَنْبِهِ، فَقَال: بِمَ سَارَرْتَهُ؟ فَقَال: أَمَرْتُهُ أَنْ يَبِيعَهَا، فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا، فَفَتَحَ الرَّجُل الْمَزَادَتَيْنِ حَتَّى ذَهَبَ مَا فِيهِمَا} . (2)
__________
(1) حديث: " سأل أبو طلحة النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمرا. . . " أخرجه أحمد وأبو داود والدارمي من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: قال شعيب الأرناؤوط: إسناده قوي. وأصله في صحيح مسلم من حديث أنس رضي الله عنه بلفظ: " أن النبي صلى الله عليه وسلم وعون المعبود 3 / 366، 367 ط الهند، وسنن الدارمي 2 / 118 نشر دار إحياء السنة النبوية، وشرح السنة للبغوي بتحقيق شعيب الأرناؤوط 8 / 32 نشر المكتب الإسلامي) . وأجاب الطحاوي عن الحديث بأنه محمول على التغليظ والتشديد؛ لأنه كان في ابتداء الإسلام، كما ورد ذلك في سؤر الكلب. يعني أن ذلك المعنى قد انعدم في زماننا لاستقرار التحريم، فلا يحتمل ال
(2) حديث ابن عباس " أهدى رجل. . . . " رواه مالك في الموطأ وأحمد ومسلم والنسائي (نيل الأوطار 8 / 169، والمنتقى على الموطأ 3 / 153) والرواية: المزادة من ثلاثة جلود ويوضع فيها الماء. والمزادة: جلود يضم بعضها إلى بعض، يوضع فيها الماء.

(5/28)


فَقَدْ أَرَاقَ الرَّجُل مَا فِي الْمَزَادَتَيْنِ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، وَلَوْ جَازَ تَخْلِيلُهَا لَمَا أَبَاحَ لَهُ إِرَاقَتَهَا، وَلَنَبَّهَهُ عَلَى تَخْلِيلِهَا. وَهَذَا نَهْيٌ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، وَلَوْ كَانَ إِلَى اسْتِصْلاَحِهَا سَبِيلٌ مَشْرُوعٌ لَمْ تَجُزْ إِرَاقَتُهَا، بَل أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ، سِيَّمَا وَهِيَ لأَِيْتَامٍ يَحْرُمُ التَّفْرِيطُ فِي أَمْوَالِهِمْ. وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - كَمَا يَقُولُونَ - فَقَدْ رَوَى أَسْلَمُ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَال: لاَ تَأْكُل خَلًّا مِنْ خَمْرٍ أُفْسِدَتْ، حَتَّى يَبْدَأَ اللَّهُ تَعَالَى إِفْسَادَهَا، وَذَلِكَ حِينَ طَابَ الْخَل، وَلاَ بَأْسَ عَلَى امْرِئٍ أَصَابَ خَلًّا مِنْ أَهْل الْكِتَابِ أَنْ يَبْتَاعَهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُمْ تَعَمَّدُوا إِفْسَادَهَا فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقَعُ النَّهْيُ. (1) وَهَذَا قَوْلٌ يَشْتَهِرُ بَيْنَ النَّاسِ لأَِنَّهُ إِعْلاَنٌ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ. وَبِهِ قَال الزُّهْرِيُّ. وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يَحِل شُرْبُهَا، وَيَكُونُ التَّخْلِيل جَائِزًا أَيْضًا، (2) لأَِنَّهُ إِصْلاَحٌ، وَالإِْصْلاَحُ مُبَاحٌ، قِيَاسًا عَلَى دَبْغِ الْجِلْدِ، فَإِنَّ الدِّبَاغَ يُطَهِّرُهُ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ} (3) وَقَال عَنْ جِلْدِ الشَّاةِ
__________
(1) أثر عمر رواه أبو عبيد في كتاب الأموال بنحو من هذا المعنى ص 104 وما بعدها (المغني 8 / 330) .
(2) البدائع 5 / 114، وابن عابدين 1 / 290، والمنتقى على الموطأ 3 / 153 - 154، وبداية المجتهد 1 / 461، والقوانين الفقهية ص 34.
(3) حديث: " أيما إهاب دبغ فقد طهر " أخرجه النسائي بهذا اللفظ (7 / 173 - ط المكتبة التجارية) ورواه مسلم (1 / 277 ط الحلبي) بلفظ: " إذا دبغ الإهاب فقد طهر "

(5/28)


الْمَيْتَةِ: {إِنَّ دِبَاغَهَا يُحِلُّهُ كَمَا يُحِل خَلٌّ الْخَمْرَ} (1) فَأَجَازَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّخْلِيل، كَمَا ثَبَتَ حِل الْخَل شَرْعًا، بِدَلِيل قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا: {خَيْرُ خَلِّكُمْ خَل خَمْرِكُمْ} (2) وَبِدَلِيل قَوْلِهِ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ أَيْضًا: {نِعْمَ الأُْدْمُ الْخَل} ، فَإِنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ التَّخَلُّل بِنَفْسِهِ وَالتَّخْلِيل، فَالنَّصُّ مُطْلَقٌ. (3) وَلأَِنَّ التَّخْلِيل يُزِيل الْوَصْفَ الْمُفْسِدَ، وَيَجْعَل فِي الْخَمْرِ صِفَةَ الصَّلاَحِ، وَالإِْصْلاَحُ مُبَاحٌ، لأَِنَّهُ يُشْبِهُ إِرَاقَةَ الْخَمْرِ. وَفِي رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ عَنْ مَالِكٍ - وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ - أَنَّهُ عَلَى سَبِيل الْكَرَاهَةِ.

تَخْلِيل الْخَمْرِ بِنَقْلِهَا، أَوْ بِخَلْطِهَا بِخَلٍّ:
35 - إِذَا نُقِلَتِ الْخَمْرُ مِنَ الظِّل إِلَى الشَّمْسِ، أَوْ بِالْعَكْسِ، وَلَوْ بِقَصْدِ التَّخْلِيل، فَتَخَلَّلَتْ يَحِل الْخَل الْحَاصِل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ لَوْ وَقَعَتِ الشَّمْسُ عَلَى الْخَمْرِ بِلاَ نَقْلٍ، كَرَفْعِ سَقْفٍ كَانَ فَوْقَهَا، لاَ يَحِل نَقْلُهَا. وَعَلَّل الشَّافِعِيَّةُ الْحِل بِقَوْلِهِمْ: لأَِنَّ الشِّدَّةَ الْمُطْرِبَةَ (أَيِ الإِْسْكَارَ) الَّتِي هِيَ عِلَّةُ النَّجَاسَةِ وَالتَّحْرِيمِ، قَدْ زَالَتْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُعَقِّبَ نَجَاسَةً فِي الْوِعَاءِ، فَتَطْهُرُ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ نُقِلَتِ الْخَمْرُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى آخَرَ، فَتَخَلَّلَتْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلْقَى فِيهَا شَيْءٌ، فَإِنْ لَمْ
__________
(1) حديث: " إن دباغها يحله كما يحل خل الخمر " (يعني جلد الشاة الميتة) . أخرجه الدارقطني (4 / 266 - ط دار المحاسن) وقال: تفرد به فرج بن فضالة وهو ضعيف.
(2) حديث: " خير خلكم خل خمركم " أخرجه البيهقي في المعرفة وقال: تفرد به المغيرة بن زياد وليس بالقوي (نصب الراية للزيلعي 4 / 311 - ط المجلس العلمي بالهند) . ويلاحظ أن أهل الحجاز يسمون خل العنب الخمر.
(3) تبيين الحقائق للزيلعي 6 / 48.

(5/29)


يَكُنْ قَصَدَ تَخْلِيلَهَا حَلَّتْ بِذَلِكَ، لأَِنَّهَا تَخَلَّلَتْ بِفِعْل اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ قُصِدَ بِذَلِكَ تَخْلِيلُهَا احْتَمَل أَنْ تَطْهُرَ، لأَِنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَهُمَا إِلاَّ الْقَصْدُ، فَلاَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَهَا. وَيُحْتَمَل أَلاَّ تَطْهُرَ، لأَِنَّهَا خُلِّلَتْ بِفِعْلٍ، كَمَا لَوْ أُلْقِيَ فِيهَا شَيْءٌ. (1)

إِمْسَاكُ الْخَمْرِ لِتَخْلِيلِهَا:
36 - اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ إِمْسَاكِ الْخَمْرِ بِقَصْدِ تَخْلِيلِهَا. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِهِ، وَهَذَا الْخَل عِنْدَهُمْ حَلاَلٌ طَاهِرٌ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى تَحْرِيمِ إِمْسَاكِ الْخَمْرِ بِقَصْدِ تَخْلِيلِهَا، لَكِنْ يَحِل عِنْدَهُمْ لِلْخَلاَّل إِمْسَاكُ الْخَمْرِ لِيَتَخَلَّل، لِئَلاَّ يَضِيعَ مَالُهُ. (2)

طَهَارَةُ الإِْنَاءِ:
37 - إِذَا تَخَلَّلَتِ الْخَمْرَةُ وَطَهُرَتْ - حَسَبَ اخْتِلاَفِ أَقْوَال الْعُلَمَاءِ السَّابِقَةِ فِي طَهَارَتِهَا أَوْ نَجَاسَتِهَا - فَإِنَّ الإِْنَاءَ الَّذِي فِيهِ الْخَمْرُ يَطْهُرُ أَعْلاَهُ وَأَسْفَلُهُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ. وَهُنَاكَ اخْتِلاَفٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ حَوْل طَهَارَةِ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 81، وحاشيتي قليوبي وعميرة على شرح المحلي 1 / 72، والمغني 8 / 319، وكشاف القناع 1 / 187، والمبسوط 24 / 2، 7، 20، والبدائع 5 / 112 - 114، ونتائج الأفكار تكملة فتح القدير 8 / 155، 166، وتبيين الحقائق للزيلعي 6 / 44، 48، والفتاوى الهندية 2 / 410، والدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 5 / 319، ومختصر الطحاوي ص 279، والخرشي مع خليل 1 / 88، والحطاب 1 / 97 - 98، والدسوقي 1 / 52.
(2) البدايع 6 / 2937، والهندية 5 / 410، والدسوقي 1 / 52، والحطاب 1 / 97، ومغني المحتاج 1 / 81 - 82، والمغني 8 / 319، وكشاف القناع 1 / 187.

(5/29)


أَعْلَى الإِْنَاءِ، لَكِنْ فِي حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيِّ الْجَزْمُ بِالطَّهَارَةِ. (1) أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَالْمُفْتَى بِهِ فِي مَذْهَبِهِمْ أَنَّ أَعْلَى الإِْنَاءِ يَطْهُرُ تَبَعًا. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ أَعْلاَهُ لاَ يَطْهُرُ، لأَِنَّهُ خَمْرٌ يَابِسَةٌ إِلاَّ إِذَا غُسِل بِالْخَل، فَتَخَلَّل مِنْ سَاعَتِهِ فَيَطْهُرُ. (2)
إِشْعَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْشْعَارُ: الإِْعْلاَمُ، يُقَال أَشْعَرَ الْبَدَنَةَ: أَعْلَمَهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَشُقَّ جِلْدَهَا، أَوْ يَطْعَنَهَا فِي سَنَامِهَا فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ بِمِبْضَعٍ أَوْ نَحْوِهِ، لِيُعْرَفَ أَنَّهَا هَدْيٌ. (3) وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ

(4) . الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّقْلِيدُ:
2 - التَّقْلِيدُ: وَهُوَ لِلْبَدَنَةِ، أَنْ يُعَلَّقَ فِي عُنُقِهَا شَيْءٌ
__________
(1) حاشية الباجوري مع ابن القاسم 1 / 111، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 52، والرهوني على الزرقاني 1 / 74، وكشاف القناع 1 / 187.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 290.
(3) لسان العرب المحيط مادة: (شعر) . والمطلع على أبواب المقنع ص 205 - 206.
(4) حاشية ابن عابدين 2 / 197 ط بولاق، والمغني 3 / 549 ط الرياض، وجواهر الإكليل 1 / 203 ط المعرفة.

(5/30)


مِنْ نَعْلٍ أَوْ نَحْوِهِ، لِيُعْلَمَ أَنَّهَا هَدْيٌ، فَلَيْسَ فِي التَّقْلِيدِ خُرُوجُ دَمٍ. وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ. (1)

صِفَتُهُ (الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ) :
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ إِشْعَارِ بُدْنِ الْهَدْيِ وَهِيَ الإِْبِل خَاصَّةً، فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ) عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ إِشْعَارُهَا، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: {فَتَلْتُ قَلاَئِدَ هَدْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَشْعَرَهَا وَقَلَّدَهَا} (2) وَفَعَلَهُ الصَّحَابَةُ، وَلأَِنَّهُ إِيلاَمٌ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ فَجَازَ كَالْكَيِّ، وَالْوَسْمِ، وَالْفَصْدِ، وَالْحِجَامَةِ، وَتُشْعَرُ الْبَقَرَةُ كَالإِْبِل لأَِنَّهَا مِنَ الْبُدْنِ. وَكَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ الإِْشْعَارَ لِلْبَدَنَةِ، لأَِنَّهُ مُثْلَةٌ وَإِيلاَمٌ، وَلَمْ يَكْرَهْ أَبُو حَنِيفَةَ أَصْل الإِْشْعَارِ، وَإِنَّمَا كَرِهَ إِشْعَارَ أَهْل زَمَانِهِ الَّذِي يُخَافُ مِنْهُ الْهَلاَكُ، فَأَمَّا مَنْ قَطَعَ الْجِلْدَ دُونَ اللَّحْمِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ، وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ لِمَنْ أَحْسَنَهُ. (3)

مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
4 - أَوْرَدَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مَسْأَلَةَ إِشْعَارِ الْبُدْنِ فِي الْحَجِّ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ الْهَدْيِ، وَالْبَعْضُ الآْخَرُ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ النِّيَّةِ عِنْدَ الإِْحْرَامِ.
__________
(1) المطلع على أبواب المقنع ص 206، والمبسوط 4 / 137 ط دار المعرفة.
(2) حديث: " فتلت قلائد هدي النبي صلى الله عليه وسلم ثم أشعرها " أخرجه البخاري واللفظ له، ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها (فتح الباري 3 / 544 ط السلفية، وصحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 2 / 957 ط عيسى الحلبي) .
(3) جواهر الإكليل 1 / 177، والمهذب 1 / 242 - 243، والمغني 3 / 549، والمبسوط 4 / 438، وحاشية ابن عابدين 2 / 197

(5/30)


إِشْلاَءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْشْلاَءُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ: أَشْلَى الْكَلْبَ إِذَا دَعَاهُ بِاسْمِهِ، أَمَّا مَنْ قَال: أَشْلَيْتُ الْكَلْبَ عَلَى الصَّيْدِ، فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: دَعَوْتُهُ فَأَرْسَلْتُهُ عَلَى الصَّيْدِ. وَقَدْ ثَبَتَتْ صِحَّةُ إِشْلاَءِ الْكَلْبِ بِمَعْنَى إِغْرَائِهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ التَّسْلِيطُ عَلَى أَشْلاَءِ الصَّيْدِ، وَهِيَ أَعْضَاؤُهُ. (1) وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلإِْشْلاَءِ عَنْ مَعْنَى الإِْغْرَاءِ (2) وَالتَّسْلِيطِ عَلَيْهِ. الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الزَّجْرُ:
2 - الزَّجْرُ يَكُونُ بِمَعْنَى: النَّهْيِ وَالْمَنْعِ بِلَفْظٍ، يُقَال: زَجَرْتُهُ فَانْزَجَرَ، وَيُقَال: زَجَرَ الصَّيَّادُ الْكَلْبَ: أَيْ صَاحَ بِهِ فَانْزَجَرَ، أَيْ مَنَعَهُ عَنْ مُتَابَعَةِ الصَّيْدِ فَامْتَنَعَ، فَالزَّجْرُ عَلَى هَذَا ضِدُّ الإِْشْلاَءِ (3) .
__________
(1) لسان العرب المحيط، والمغرب في ترتيب المعرب، ومعجم مقاييس اللغة، والنهاية في غريب الحديث والأثر. مادة: (شلا) .
(2) المبسوط 11 / 223 ط السعادة، والحطاب 3 / 216 - 218، وحلية العلماء للقفال 3 / 369 ط الرسالة، وكشاف القناع 6 / 224 ط مكتبة النصر الحديثة.
(3) لسان العرب المحيط.

(5/31)


صِفَتُهُ (الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ) :
3 - اسْتِجَابَةُ الْكَلْبِ لِلإِْشْلاَءِ - بِمَعْنَى الدُّعَاءِ - لاَ يَكُونُ عَلاَمَةً عَلَى كَوْنِ الْجَارِحِ مُعَلَّمًا، وَخَاصَّةً الْكَلْبُ، لأَِنَّهُ أَلُوفٌ يَأْتِي إِلَى صَاحِبِهِ بِمُجَرَّدِ الدُّعَاءِ، وَعَلاَمَةُ التَّعَلُّمِ هُنَا: أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِطَبْعِهِ. أَمَّا اسْتِجَابَةُ الْكَلْبِ لِلإِْشْلاَءِ - بِمَعْنَى التَّسْلِيطِ وَالزَّجْرِ - فَقَدْ عَدَّهُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ عَلاَمَةِ كَوْنِ الْكَلْبِ مُعَلَّمًا، بِحَيْثُ يَسْتَجِيبُ لِهَذَا الإِْشْلاَءِ، فَيُنَفِّذُ مَا يُرِيدُهُ صَاحِبُهُ.

(1) مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
4 - اسْتَعْمَل الْفُقَهَاءُ الإِْشْلاَءَ فِي بَابِ الصَّيْدِ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ شُرُوطِ حِل الصَّيْدِ.

إِشْهَادٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْشْهَادُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ أَشْهَدَ، وَأَشْهَدْتُهُ عَلَى كَذَا فَشَهِدَ عَلَيْهِ أَيْ: صَارَ شَاهِدًا، وَأَشْهَدَنِي عَقْدَ زَوَاجِهِ: أَيْ أَحْضَرَنِي. (2) وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلإِْشْهَادِ عَنْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ.
__________
(1) المبسوط 11 / 222 - 223، والمدونة 2 / 51 ط دار صادر، ونهاية المحتاج مع حواشيه 8 / 116 ط الحلبي، وكشاف القناع 6 / 224.
(2) الصحاح، والمغرب مادة: (شهد) وتكملة فتح القدير 8 / 341 - 342.

(5/31)


وَسَيَقْتَصِرُ الْبَحْثُ عَلَى الإِْشْهَادِ بِالْمَعْنَى الأَْوَّل وَهُوَ: طَلَبُ تَحَمُّل الشَّهَادَةِ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الشَّهَادَةُ:
2 - قَدْ تَكُونُ الشَّهَادَةُ دُونَ سَبْقِ إِشْهَادٍ، تَحْصُل بِطَلَبٍ أَوْ دُونَهُ، وَالإِْشْهَادُ هُوَ طَلَبُ تَحَمُّل الشَّهَادَةِ.

ب - الاِسْتِشْهَادُ:
3 - الاِسْتِشْهَادُ يَأْتِي بِمَعْنَى الإِْشْهَادِ، أَيْ طَلَبُ تَحَمُّل الشَّهَادَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} (1) وَقَدْ يَأْتِي الاِسْتِشْهَادُ بِمَعْنَى طَلَبِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ (2) . كَمَا يَأْتِي الاِسْتِشْهَادُ بِمَعْنَى أَنْ يُقْتَل فِي سَبِيل اللَّهِ.

ج - الإِْعْلاَنُ (وَالإِْشْهَارُ)
4 - قَدْ يَتَحَقَّقُ الإِْعْلاَنُ دُونَ الإِْشْهَادِ، كَمَا لَوْ أَعْلَنُوا النِّكَاحَ بِحَضْرَةِ صِبْيَانٍ، أَوْ أَمَامَ نِسَاءٍ. (3) وَقَدْ يَتَحَقَّقُ الإِْشْهَادُ دُونَ الإِْعْلاَنِ، كَإِشْهَادِ رَجُلَيْنِ عَلَى النِّكَاحِ وَاسْتِكْتَامِهِمَا.
__________
(1) سورة البقرة / 282.
(2) طلبة الطلبة ص 132، والنظم المستعذب 2 / 104، 325 ط مصطفى الحلبي، والإقناع 4 / 66، والخرشي 7 / 188.
(3) فتح القدير 2 / 352 ط بولاق، ونهاية المحتاج 6 / 117 ط الحلبي.

(5/32)


صِفَتُهُ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ) :
5 - الإِْشْهَادُ تَعْتَرِيهِ الأَْحْكَامُ الْخَمْسَةُ، فَيَكُونُ وَاجِبًا كَمَا فِي النِّكَاحِ، (1) وَيَكُونُ مَنْدُوبًا، كَالإِْشْهَادِ فِي الْبَيْعِ (2) عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَجَائِزًا كَمَا فِي الْبَيْعِ (3) عِنْدَ الْبَعْضِ، وَمَكْرُوهًا كَالإِْشْهَادِ عَلَى الْعَطِيَّةِ، أَوِ الْهِبَةِ لِلأَْوْلاَدِ إِنْ حَصَل فِيهَا تَفَاوُتٌ عِنْدَ الْبَعْضِ، وَحَرَامًا كَالإِْشْهَادِ عَلَى الْجَوْرِ (4) وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ إِلَى إِيجَابِ الإِْشْهَادِ فِي كُل مَا وَرَدَ الأَْمْرُ بِهِ. (5)
مَوَاطِنُ الإِْشْهَادِ
:

رُجُوعُ الأَْجْنَبِيِّ بِقِيمَةِ مَا جَهَّزَ بِهِ الْمَيِّتَ إِذَا أَشْهَدَ:
6 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأَْجْنَبِيَّ أَوِ الْغَرِيبَ - الَّذِي لاَ يَلْزَمُهُ تَجْهِيزُ الْمَيِّتِ - لَوْ كَفَّنَ الْمَيِّتَ كَفَنَ الْمِثْل، وَكَذَا كُل مَا يَلْزَمُهُ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ مَا دَفَعَ إِنْ نَوَى الرُّجُوعَ، وَأَشْهَدَ بِذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّ الإِْشْهَادَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ يُعْتَدُّ بِهِ إِلاَّ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنِ اسْتِئْذَانِ الْحَاكِمِ، وَكَانَ مَال الْمَيِّتِ غَائِبًا، أَوِ امْتَنَعَ مَنْ يَلْزَمُهُ تَجْهِيزُ الْمَيِّتِ عَنْ ذَلِكَ. (6) وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ يُشْتَرَطُ الإِْشْهَادُ لِلرُّجُوعِ، وَيَرْجِعُ إِنْ نَوَى الرُّجُوعَ، أَشْهَدَ أَوْ لَمْ يُشْهِدْ،
__________
(1) العناية على الهداية 2 / 351 ط بولاق الأولى، ونهاية المحتاج 6 / 213، والحطاب 3 / 408 - 410.
(2) الطحطاوي على الدر 3 / 228، وتبصرة الحكام 1 / 186.
(3) المجموع 9 / 155 ط المنيرية.
(4) معين الحكام ص 102، ونهاية المحتاج 5 / 412، ومطالب أولي النهى 4 / 400، 402، والفروع 2 / 606.
(5) تبصرة الحكام 1 / 186، 187، والمغني 4 / 302.
(6) ابن عابدين 5 / 458 ط بولاق الأولى، والجمل على المنهج 2 / 163

(5/32)


اسْتَأْذَنَ الْحَاكِمَ أَوْ لاَ، (1) وَلَمْ أَقِفْ عَلَى حُكْمِ اشْتِرَاطِ الإِْشْهَادِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. (2)
الإِْشْهَادُ عَلَى إِخْرَاجِ زَكَاةِ الصَّغِيرِ:
7 - أَغْلَبُ الْفُقَهَاءِ مِمَّنْ أَوْجَبُوا الزَّكَاةَ فِي مَال الصَّغِيرِ لاَ يَطْلُبُونَ الإِْشْهَادَ عَلَى إِخْرَاجِهَا. (3) وَيَشْهَدُ الْوَصِيُّ عِنْدَ ابْنِ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى إِخْرَاجِ زَكَاةِ مَال الصَّغِيرِ، فَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ وَكَانَ مَأْمُونًا صُدِّقَ، وَغَيْرُ الْمَأْمُونِ هَل يَلْزَمُهُ غُرْمُ الْمَال أَوْ يَحْلِفُ؟ لَمْ يَجِدْ الْخَطَّابُ فِيهِ نَصًّا. وَكَالزَّكَاةِ عِنْدَهُ زَكَاةُ الْفِطْرِ (4)
الإِْشْهَادُ فِي الْبَيْعِ:

الإِْشْهَادُ عَلَى عَقْدِ الْبَيْعِ:
8 - الإِْشْهَادُ عَلَى عَقْدِ الْبَيْعِ أَقْطَعُ لِلنِّزَاعِ، وَأَبْعَدُ عَنِ التَّجَاحُدِ، لِذَلِكَ يَنْبَغِي الإِْشْهَادُ عَلَيْهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. إِلاَّ أَنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي حُكْمِهِ التَّكْلِيفِيِّ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ ثَلاَثَةُ آرَاءٍ: أ - نَدْبُ الإِْشْهَادِ فِيمَا لَهُ خَطَرٌ: وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مَا جَاءَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْل اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} (5) حَمَلُوا الأَْمْرَ عَلَى النَّدْبِ، وَصَرَفَهُ عَنِ الْوُجُوبِ عِنْدَهُمْ أَدِلَّةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا: {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا بِنَسِيئَةٍ
__________
(1) كشاف القناع 4 / 402 نشر مكتبة النصر.
(2) منح الجليل 3 / 97.
(3) الحطاب 6 / 399، ونهاية المحتاج 3 / 127، وقواعد ابن رجب ص 64.
(4) الحطاب 6 / 399.
(5) سورة البقرة / 282.

(5/33)


فَأَعْطَاهُ دِرْعًا لَهُ رَهْنًا} (1) ، وَاشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ سَرَاوِيل، (2) وَمِنْ أَعْرَابِيٍّ فَرَسًا (3) فَجَحَدَهُ الأَْعْرَابِيُّ حَتَّى شَهِدَ لَهُ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ، وَلَمْ يُنْقَل أَنَّهُ أَشْهَدَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلأَِنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ فِي عَصْرِهِ فِي الأَْسْوَاقِ فَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالإِْشْهَادِ وَلاَ نُقِل عَنْهُمْ فِعْلُهُ. أَمَّا الأَْشْيَاءُ الْقَلِيلَةُ الْخَطَرِ كَحَوَائِجِ الْبَقَّال وَالْعَطَّارِ وَشَبَهِهِمَا، فَلاَ يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ فِيهَا، لأَِنَّ الْعُقُودَ تَكْثُرُ فَيُشَقُّ الإِْشْهَادُ عَلَيْهَا وَتَقْبُحُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ
__________
(1) حديث: " اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهودي. . . . ". أخرجه البخاري، ومسلم واللفظ له من حديث عائشة رضي الله عنها (فتح الباري 4 / 433 ط السلفية، وصحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 3 / 1226 ط عيسى الحلبي) .
(2) حديث: " شراء النبي صلى الله عليه وسلم سراويل " أخرجه أحمد بن حنبل والترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث سويد بن قيس ولفظ الترمذي: " جلبت أنا ومخرفة العبدي بزا من هجر فجاءنا النبي صلى الله عليه وسلم فساومنا بسراويل، وعندي وزان يزن بالأجر فقال النبي صلى الله عليه وسلم للوزان: زن وأرجح ". وقال الترمذي: حديث سويد حديث حسن صحيح، وقال الحاك وتحفة الأحوذي 4 / 532، 533 نشر المكتبة السلفية، وسنن ابن ماجه بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 2 / 747، 748 ط عيسى الحلبي، والمستدرك 2 / 30، 31 نشر دار الكتاب العربي) .
(3) حديث: " اشترى من أعرابي فرسا فجحده الأعرابي. . . . . ". أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي، والحاكم من حديث عم عمارة بن خزيمة الأنصاري مطولا، والحديث سكت عنه أبو داود والمنذري، وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ورجاله باتفاق الشيخين ثقات ولم يخرجاه، وأقره الذهبي (مسند أحمد بن حنبل 5 / 215، 216 نشر المكتب الإسلامي، وعون المعبود 3 / 340، 341 ط الهند، وسنن النسائي 7 / 301، 302 ط المطبعة المصرية بالأزهر، والمستدرك 2 / 17، 18 نشر دار الكتاب العربي، والفتح الرباني للبناء الساعاتي 15 / 54، 55 الطبعة الأولى 1370 هـ) .

(5/33)


عَلَيْهَا، وَالتَّرَافُعُ إِلَى الْحَاكِمِ مِنْ أَجْلِهَا، بِخِلاَفِ الْكَبِيرَةِ الْخَطَرِ. (1) ب - جَوَازُ الإِْشْهَادِ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ، قَالُوا: إِنَّ الأَْمْرَ فِي الآْيَةِ لِلإِْرْشَادِ، لاَ ثَوَابَ فِيهِ إِلاَّ لِمَنْ قَصَدَ الاِمْتِثَال. (2) ج - وُجُوبُ الإِْشْهَادِ: وَهُوَ قَوْل طَائِفَةٍ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِمَّنْ رَأَى وُجُوبَ الإِْشْهَادِ عَلَى الْبَيْعِ عَطَاءٌ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالنَّخَعِيُّ لِظَاهِرِ الأَْمْرِ، وَلأَِنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيَجِبُ الإِْشْهَادُ عَلَيْهِ كَالنِّكَاحِ (3) .

طَلَبُ الإِْشْهَادِ مِنَ الْوَكِيل بِالْبَيْعِ:
9 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُوَكِّل لَوْ أَمَرَ الْوَكِيل بِالْبَيْعِ وَالإِْشْهَادِ، فَبَاعَ وَلَمْ يُشْهِدْ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ، لأَِنَّهُ أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا، وَأَمْرُهُ بِالإِْشْهَادِ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى الأَْمْرِ بِالْبَيْعِ، فَلاَ يَخْرُجُ بِهِ الأَْمْرُ بِالْبَيْعِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا، أَلاَ تَرَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل أَمَرَ بِالإِْشْهَادِ عَلَى الْبَيْعِ فَقَال تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} (4) ثُمَّ مَنْ بَاعَ وَلَمْ يُشْهِدْ كَانَ بَيْعُهُ جَائِزًا، أَمَّا إِذَا شُرِطَ عَلَيْهِ الإِْشْهَادُ، كَقَوْلِهِ: بِعْ بِشَرْطِ أَنْ تُشْهِدَ فَقَدْ قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهُ يُوجِبُ الإِْشْهَادَ (5) وَلاَ يَلْزَمُ الْمُوَكِّل بِدُونِهِ إِلاَّ بِإِجَازَتِهِ.
__________
(1) الطحطاوي على الدر 3 / 228، وأحكام القرآن للجصاص 1 / 372، 373 ط البهية، وتبصرة الحكام 1 / 186، والمجموع 9 / 155، نشر المكتبة السلفية، والمغني 4 / 302، 303 ط الرياض، وشرح منتهى الإرادات 2 / 157 ط الرياض.
(2) الجمل على المنهج 3 / 78.
(3) المغني 4 / 302.
(4) سورة البقرة / 282.
(5) المبسوط 19 / 78، وأشباه ابن نجيم ص 83 الحسينية، والقليوبي 2 / 154.

(5/34)


وَلَمْ أَقِفْ عَلَى حُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

الإِْشْهَادُ عَلَى بَيْعِ مَال الصَّغِيرِ نَسِيئَةً:
10 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الإِْشْهَادُ عَلَى بَيْعِ مَال الصَّغِيرِ نَسِيئَةً خَوْفَ جَحْدِهِ، (1) قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ تُرِكَ الإِْشْهَادُ بَطَل الْبَيْعُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، (2) فَإِنْ عَسُرَ الإِْشْهَادُ كَأَنْ كَانَ يَبِيعُ الْوَصِيُّ أَوِ الأَْمِينُ شَيْئًا فَشَيْئًا مِنْ مَال الصَّغِيرِ، فَإِنَّهُ يُقْبَل قَوْلُهُمَا، فَإِنْ بَاعَا مِقْدَارًا كَبِيرًا جُمْلَةً فَلاَ بُدَّ مِنَ الإِْشْهَادِ. (3) وَلاَ يَجِبُ الإِْشْهَادُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى بَيْعِ مَال الصَّغِيرِ نَسِيئَةً، وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلأَْبِ، (4) أَمَّا الْوَصِيُّ فَفِيهِ قَوْلاَنِ. أَحَدُهُمَا يُصَدَّقُ بِلاَ بَيِّنَةٍ، وَالثَّانِي تَلْزَمُهُ الْبَيِّنَةُ. (5)

الإِْشْهَادُ عَلَى سَائِرِ الْعُقُودِ:
11 - الإِْشْهَادُ عَلَى سَائِرِ الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ حُكْمُهُ حُكْمُ الإِْشْهَادِ عَلَى الْبَيْعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، بِاسْتِثْنَاءِ النِّكَاحِ عِنْدَهُمَا، وَالرَّجْعَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَالإِْشْهَادُ وَاجِبٌ وَسَيَأْتِي تَفْصِيل ذَلِكَ. (6) وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ سَائِرُ الْحُقُوقِ وَالْمُدَايَنَاتِ كَالْبَيْعِ يُسَنُّ الإِْشْهَادُ فِيهَا مَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حَقٌّ لِلْغَيْرِ
__________
(1) شرح الروض 3 / 73، ونهاية المحتاج 4 / 366، ومطالب أولي النهى 3 / 410.
(2) الجمل على المنهج 3 / 348.
(3) الشبراملسي على النهاية 4 / 370.
(4) الفتاوى البزازية 5 / 221.
(5) الدسوقي 3 / 299.
(6) الطحطاوي على الدر 3 / 228، والمجموع 9 / 154.

(5/34)


فَيَجِبُ، وَكَذَا إِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حَقٌّ لِلْغَيْرِ وَطَلَبَ الإِْشْهَادَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ. (1) وَذَكَرَ التَّسَوُّلِيُّ فِي شَرْحِ التُّحْفَةِ مَا يُفِيدُ وُجُوبَ الإِْشْهَادِ فِي عُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ كَالْوَقْفِ، وَالْهِبَةِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَكَذَلِكَ كُل مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ كَالتَّوْكِيل وَالضَّمَانِ وَنَحْوِهِمَا، حَيْثُ جُعِل الإِْشْهَادُ فِي هَذِهِ شَرْطَ صِحَّةٍ (2)

الإِْشْهَادُ عِنْدَ الاِمْتِنَاعِ عَنْ تَسْلِيمِ وَثِيقَةِ الدَّيْنِ:
12 - لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ حَقٌّ عَلَى آخَرَ بِوَثِيقَةٍ، فَدَفَعَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ مَا عَلَيْهِ، وَطَلَبَ الْوَثِيقَةَ مِنْهُ أَوْ حَرْقَهَا، فَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ دَفْعُ الْوَثِيقَةِ، وَإِنَّمَا لِلْمَدِينِ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ وَتَبْقَى الْوَثِيقَةُ بِيَدِهِ، لأَِنَّهُ يَدْفَعُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ، إِذْ لَعَل الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَنْ يَسْتَدْعِيَ بَيِّنَةً قَدْ سَمِعُوا إِقْرَارَ صَاحِبِ الدَّيْنِ بِقَبْضِهِ مِنْهُ، أَوْ حَضَرُوا دَفْعَهُ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَعْلَمُوا عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ الدَّفْعُ، فَيَدَّعِي أَنَّهُ إِنَّمَا دَفَعَ إِلَيْهِ ذَلِكَ الْمَال سَلَفًا أَوْ وَدِيعَةً، وَيَقُول: هَاتِ بَيِّنَةً تَشْهَدُ لَكَ أَنَّ مَا قَبَضْتَ مِنِّي هُوَ مِنْ حَقٍّ وَاجِبٍ لَكَ، فَبَقَاءُ الْوَثِيقَةِ وَقِيَامُهُ بِهَا يُسْقِطُ هَذِهِ الدَّعْوَى الَّتِي تَلْزَمُهُ، وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لأَِنَّهُ رُبَّمَا خَرَجَ مَا قَبَضَهُ مُسْتَحِقًّا فَيَحْتَاجُ إِلَى حُجَّةٍ بِحَقِّهِ، قَالُوا: وَلاَ يَجُوزُ لِحَاكِمٍ إِلْزَامُهُ. (3) وَقَال عِيسَى بْنُ دِينَارٍ وَأَصْبَغُ: لَهُ أَخْذُ الْوَثِيقَةِ، وَبِهِ قَال شَارِحُ الْمُنْتَهَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ (4) وَلَمْ نَقِفْ عَلَى حُكْمِ ذَلِكَ
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 186.
(2) البهجة شرح التحفة على الأرجوزة 2 / 228.
(3) الحطاب 5 / 55، 56، والفروع 2 / 606.
(4) الحطاب 5 / 55، 56 وشرح منتهى الإرادات 2 / 319.

(5/35)


عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (1) .

الإِْشْهَادُ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ عَنِ الْغَيْرِ:
13 - لَوْ قَضَى الرَّجُل دَيْنَ غَيْرِهِ وَنَوَى الرُّجُوعَ فَإِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ لاَ يَشْتَرِطُونَ الإِْشْهَادَ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ وَنِيَّةِ الرُّجُوعِ. وَقَال الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: الإِْشْهَادُ عَلَى نِيَّةِ الرُّجُوعِ شَرْطٌ لِلرُّجُوعِ، لأَِنَّ الْعُرْفَ جَرَى عَلَى أَنَّ مَنْ دَفَعَ دَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ إِشْهَادٍ كَانَ مُتَبَرِّعًا (2) .

الإِْشْهَادُ عَلَى رَدِّ الْمَرْهُونِ:
14 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَوِ ادَّعَى رَدَّ الْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ وَأَنْكَرَ الرَّاهِنُ، فَالْقَوْل قَوْل الرَّاهِنِ، وَلاَ يُصَدَّقُ الْمُرْتَهِنُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ. (3) وَقَوَاعِدُ الْحَنَفِيَّةِ تَقْضِي بِقَبُول قَوْل الْمُرْتَهِنِ، لأَِنَّهُ أَمِينٌ، وَالأَْمِينُ مُصَدَّقٌ فِيمَا يَدَّعِيهِ، وَيُوَافِقُ الْحَنَابِلَةُ - فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ - فِي هَذَا الْحَنَفِيَّةَ (4) .

الإِْشْهَادُ عِنْدَ إِقْرَاضِ مَال الصَّغِيرِ:
15 - يُشْتَرَطُ الإِْشْهَادُ عَلَى إِقْرَاضِ الْوَلِيِّ مَال الصَّغِيرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَمَّا عِنْدَ بَقِيَّةِ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ أَجَازُوا تَسْلِيفَ مَال الصَّغِيرِ، فَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ
__________
(1) المحلي على المنهاج 4 / 304، واللجنة ترى أن ما تعورف عليه من أخذ الوثيقة أو إلحاق بيان بحصول الوفاء مما تقتضيه طبيعة التعامل، ولا يخالف نصا شرعيا، فإن جرى عرف بذلك التزم.
(2) جامع الفصولين 2 / 156، 162، والبهجة شرح التحفة 1 / 189 نشر دار المعرفة والقليوبي 2 / 331، 332، وقواعد ابن رجب ص 137.
(3) الشرح الصغير 3 / 338 ط دار المعارف، والباجوري على ابن قاسم 1 / 378، والإنصاف 5 / 169.
(4) الاختيار 2 / 65 ط مصطفى الحلبي، وأشباه ابن نجيم ص 275، وابن عابدين 4 / 506، والإنصاف 5 / 169.

(5/35)


الإِْقْرَاضُ بِلاَ إِشْهَادٍ، وَإِنْ كَانَ الإِْشْهَادُ حِينَئِذٍ أَوْلَى احْتِيَاطًا (1) .

الإِْشْهَادُ عَلَى الْحُكْمِ بِالْحَجْرِ:
16 - لِلْفُقَهَاءِ فِي الإِْشْهَادِ عَلَى الْحَجْرِ رَأْيَانِ: أَحَدُهُمَا: الْوُجُوبُ، وَهُوَ قَوْل الصَّاحِبَيْنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْحَجْرِ عَلَى الْمَدِينِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الإِْشْهَادُ لأَِنَّ الْحَجْرَ حُكْمٌ مِنَ الْقَاضِي وَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ، وَرُبَّمَا يَقَعُ فِيهِ التَّجَاحُدُ فَيَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِهِ، وَيَأْخُذُ السَّفِيهُ حُكْمَ الْمَدِينِ فِي الْحَجْرِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، (2) أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ الْحَجْرَ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ كَانَ يَرَى الْحَجْرَ عَلَى مَنْ يَتَرَتَّبُ عَلَى تَصَرُّفَاتِهِ ضَرَرٌ عَامٌّ، كَالطَّبِيبِ الْجَاهِل وَالْمُفْتِي الْمَاجِنِ وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسِ. (3) وَوُجُوبُ الإِْشْهَادِ هُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوَاعِدِ الْمَالِكِيَّةِ، وَفُرُوعِهِمْ. جَاءَ فِي الْحَطَّابِ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَحْجُرَ عَلَى وَلَدِهِ أَتَى الإِْمَامَ لِيَحْجُرَ عَلَيْهِ، وَيُشْهِرُ ذَلِكَ فِي الْمَجَامِعِ وَالأَْسْوَاقِ، وَيُشْهِدُ عَلَى ذَلِكَ وَلأَِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقٌّ لِلْغَيْرِ فَوَجَبَ الإِْشْهَادُ عَلَيْهِ. (4) وَوُجُوبُ الإِْشْهَادِ وَجْهٌ مَحْكِيٌّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْحَاوِي وَالْمُسْتَظْهَرِي عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي
__________
(1) جامع الفصولين 2 / 13، 14، والحطاب 6 / 400، والقليوبي 2 / 208.
(2) ومقتضى الحجر هنا على هؤلاء وأمثالهم يقتضي الإشهاد والإشهار (اللجنة) .
(3) شرح أدب القاضي للخصاف 2 / 388، وأحكام القرآن للجصاص 1 / 582 ط البهية.
(4) الحطاب 5 / 64، وأحكام القرآن للجصاص 1 / 582، وتبصرة الحكام 1 / 187.

(5/36)


حَجْرِ السَّفِيهِ، وَوَصَفُوهُ بِأَنَّهُ شَاذٌّ. (1) الثَّانِي: اسْتِحْبَابُ الإِْشْهَادِ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْحَجْرُ لِمَصْلَحَةِ الإِْنْسَانِ نَفْسِهِ أَمْ بِسَبَبِ الدَّيْنِ. (2) وَالْحَاكِمُ هُوَ الَّذِي يُشْهِدُ. (3)

الإِْشْهَادُ عَلَى فَكِّ الْحَجْرِ:
17 - الصَّبِيُّ إِذَا بَلَغَ رَشِيدًا، وَكَانَ وَلِيُّهُ هُوَ الأَْبُ فَلاَ يَحْتَاجُ فِي فَكِّ الْحَجْرِ إِلَى إِشْهَادٍ. لأَِنَّهُ وَلِيُّهُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ. أَمَّا إِذَا بَلَغَ سَفِيهًا فَالْحَجْرُ عَلَيْهِ وَفَكُّهُ عَنْهُ مِنَ الْقَاضِي، وَلاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ إِشْهَادٍ أَمَّا إِذَا كَانَ الْقَائِمُ عَلَيْهِ الْوَصِيَّ الْمُخْتَارَ أَوِ الْوَصِيَّ مِنَ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ فِي فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ إِلَى الإِْشْهَادِ وَالإِْشْهَارِ، لأَِنَّ وِلاَيَتَهُمَا مُسْتَمَدَّةٌ مِنَ الْقَاضِي. (4)

الإِْشْهَادُ عَلَى دَفْعِ الْمَال إِلَى الصَّغِيرِ بَعْدَ بُلُوغِهِ:
18 - لِلْفُقَهَاءِ فِي الإِْشْهَادِ عَلَى تَسْلِيمِ مَال الصَّغِيرِ إِذَا بَلَغَ رَأْيَانِ: الأَْوَّل: وُجُوبُ الإِْشْهَادِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، (5) وَبِهِ قَال مَالِكٌ، وَابْنُ الْقَاسِمِ (6) ، عَمَلاً بِظَاهِرِ الأَْمْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ
__________
(1) روضة الطالبين 4 / 191.
(2) شرح الروض 2 / 184، 214، والروضة 4 / 130، 191، والمغني 4 / 520، وشرح منتهى الإرادات 2 / 277.
(3) المراجع السابقة.
(4) الشرح الصغير 3 / 383 ط دار المعارف والدسوقي 3 / 296.
(5) تفسير الفخر الرازي 9 / 192 ط البهية الأولى.
(6) التاج والإكليل 6 / 405.

(5/36)


أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} (1) ، وَلاَ يُصَدَّقُ الدَّافِعُ فِي دَعْوَى رَدِّ مَال الصَّغِيرِ حَتَّى يُشْهِدَ. (2) الثَّانِي: اسْتِحْبَابُ الإِْشْهَادِ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، لِلاِحْتِيَاطِ لِكُل وَاحِدٍ مِنَ الْيَتِيمِ وَوَلِيِّ مَالِهِ، وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، فَأَمَّا الْيَتِيمُ، فَلأَِنَّهُ إِذَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ كَانَ أَبْعَدَ مِنْ أَنْ يَدَّعِيَ مَا لَيْسَ لَهُ، وَأَمَّا الْوَصِيُّ فَلأَِنَّهُ يُبْطِل دَعْوَى الْيَتِيمِ بِأَنَّهُ لَمْ يَدْفَعْهُ إِلَيْهِ. (3) وَيُصَدَّقُ فِي دَعْوَى الرَّدِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ (4) وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي مُقَابِل الصَّحِيحِ. (5) وَقَرِيبٌ مِنْ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، قَوْل ابْنِ الْمَاجِشُونِ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، أَنَّهُ يُصَدَّقُ الْوَصِيُّ بِيَمِينِهِ وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ وَلَوْ طَال الزَّمَانُ، عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَفِي الْمَوَّازِيَّةِ: إِنْ طَال الزَّمَانُ كَعِشْرِينَ سَنَةً يُقِيمُونَ مَعَهُ وَلاَ يَطْلُبُونَ، فَالْقَوْل قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ، لأَِنَّ الْعُرْفَ قَبْضُ أَمْوَالِهِمْ إِذَا رَشَدُوا، وَجَعَل ابْنُ زَرْبٍ الطُّول ثَمَانِيَةَ أَعْوَامٍ (6) .

الإِْشْهَادُ عَلَى مَا وُكِّل فِي قَبْضِهِ:
19 - عِنْدَ تَنَازُعِ الْوَكِيل وَالْمُوَكِّل فِي دَعْوَى عَلَى مَا وُكِّل فِي قَبْضِهِ، فَالْوَكِيل كَالْمُودَعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي أَنَّهُ أَمِينٌ، إِلاَّ الْوَكِيل بِقَبْضِ الدَّيْنِ إِذَا ادَّعَى بَعْدَ مَوْتِ
__________
(1) سورة النساء / 4.
(2) الفخر الرازي 9 / 192، والتاج والإكليل 6 / 405.
(3) أحكام القرآن للجصاص 2 / 59، 82، ومطالب أولي النهى 3 / 402، والقليوبي 2 / 351.
(4) الفخر الرازي 9 / 192.
(5) القليوبي 2 / 351.
(6) الزرقاني على خليل 8 / 203.

(5/37)


الْمُوَكِّل أَنَّهُ قَبَضَهُ وَدَفَعَهُ فِي حَال حَيَاتِهِ، لَمْ يُقْبَل قَوْلُهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، (1) وَالْوَكِيل كَالْمُودَعِ أَيْضًا عِنْدَ الاِخْتِلاَفِ فِي الرَّدِّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، (2) وَكَذَا الْوَكِيل بِغَيْرِ أَجْرٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ يَخْتَلِفُ عَنِ الْمُودَعِ يُقْبَل قَوْلُهُ بِلاَ إِشْهَادٍ، فَإِنْ كَانَ وَكِيلاً بِأَجْرٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا أَبُو الْخَطَّابِ (3) ، وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ لِلشَّافِعِيَّةِ. (4)
إِشْهَادُ الْوَكِيل بِقَضَاءِ الدَّيْنِ وَنَحْوِهِ:
20 - يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُوَكِّل إِذَا دَفَعَ لِلْوَكِيل مَالاً وَأَمَرَهُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ وَبِالإِْشْهَادِ عَلَى الْقَضَاءِ، فَفَعَل وَلَمْ يُشْهِدْ، وَأَنْكَرَ الْمُسْتَحِقُّ، فَالْوَكِيل يَضْمَنُ وَيُصَدَّقُ الْمُسْتَحِقُّ، فَإِنْ أَمَرَهُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالإِْشْهَادِ فَقَال: قَبَضْتَهُ، وَأَنْكَرَ الْمُسْتَحِقُّ، فَإِنَّ الْمُسْتَحِقَّ يُصَدَّقُ بِاتِّفَاقٍ، وَلاَ يُقْبَل قَوْل الْوَكِيل عَلَى الْغَرِيمِ، وَلَهُ مُطَالَبَةُ الْمُوَكِّل، لأَِنَّ ذِمَّتَهُ لاَ تَبْرَأُ بِالدَّفْعِ إِلَى وَكِيلِهِ. (5) وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (الْوَكَالَةِ وَالشَّهَادَةِ) .

الإِْشْهَادُ عَلَى الْوَدِيعَةِ:

إِشْهَادُ الْمُودِعِ:
21 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الإِْشْهَادُ عِنْدَ تَسْلِيمِ الْوَدِيعَةِ إِلَى الْوَدِيعِ
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 275.
(2) الخرشي 6 / 82، والزرقاني على خليل 6 / 87، والقليوبي 2 / 351، وشرح الروض 3 / 85.
(3) المغني 5 / 105، ومطالب أولي النهى 3 / 477.
(4) القليوبي 2 / 350.
(5) المبسوط 19 / 71، والزرقاني على خليل 6 / 85، ونهاية المحتاج 5 / 62، والمغني 5 / 113.

(5/37)


لِلاِسْتِيثَاقِ، قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ. وَظَاهِرُ نُصُوصِ الْحَنَابِلَةِ الْجَوَازُ (1) .

الإِْشْهَادُ عَلَى رَدِّ الْوَدِيعَةِ إِلَى مَالِكِهَا:
22 - فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لاَ يَلْزَمُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُشْهِدَ الْمُودَعُ عَلَى رَدِّ الْوَدِيعَةِ إِلَى مَالِكِهَا، لأَِنَّهُ مُصَدَّقٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُودِعِ فَلاَ فَائِدَةَ فِي الإِْشْهَادِ، (2) وَعَدَمُ لُزُومِ الإِْشْهَادِ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ إِنْ كَانَ الْمُودِعُ أَخَذَهَا دُونَ إِشْهَادٍ، (3) فَإِنْ أَخَذَهَا بِإِشْهَادٍ فَإِنَّهُ لاَ يَبْرَأُ فِي دَعْوَى الرَّدِّ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، لأَِنَّهُ حِينَ أَشْهَدَ عَلَيْهِ لَمْ يَكْتَفِ بِأَمَانَتِهِ، وَلاَ بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْبَيِّنَةُ مَقْصُودَةً لِلتَّوَثُّقِ، أَمَّا إِذَا دَفَعَهَا أَمَامَ شُهُودٍ، وَلَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهَا، فَلَيْسَ بِشَهَادَةٍ حَتَّى يَقُول: اشْهَدُوا بِأَنِّي اسْتَوْدَعْتُهُ كَذَا وَكَذَا. (4) وَلَوْ تَبَرَّعَ الْوَدِيعُ بِالإِْشْهَادِ عَلَى نَفْسِهِ فَلاَ يَبْرَأُ إِلاَّ بِإِشْهَادٍ. (5) وَلُزُومُ الإِْشْهَادِ عَلَى الرَّدِّ - إِنْ أَخَذَهَا الْمُودَعُ بِإِشْهَادٍ - رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ، وَخَرَّجَهَا ابْنُ عَقِيلٍ عَلَى أَنَّ الإِْشْهَادَ عَلَى دَفْعِ الْحُقُوقِ الثَّابِتَةِ بِالْبَيِّنَةِ وَاجِبٌ، فَيَكُونُ تَرْكُهُ تَفْرِيطًا فَيَجِبُ فِيهِ الضَّمَانُ. (6)
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 2 / 83، وتبصرة الحكام 1 / 186، والمجموع 9 / 154، وشرح الروض 3 / 75، والإقناع للحجاوي 2 / 378.
(2) المبسوط 21 / 60 نشر دار المعرفة، وأحكام القرآن للجصاص 2 / 83، وحواشي شرح الروض 3 / 84، والمغني 6 / 396، وكشف المخدرات ص 303 ط السلفية.
(3) الخرشي 6 / 116 نشر دار صادر، ومنح الجليل 3 / 476 ط ليبيا.
(4) كفاية الطالب الرباني 2 / 221، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 327.
(5) منح الجليل 3 / 476.
(6) الإنصاف 6 / 338 الطبعة الأولى، وتصحيح الفروع 2 / 605 ط المنار.

(5/38)


فَإِذَا قَال الْمُودَعُ: لاَ أَرُدُّ حَتَّى تُشْهِدَ، فَمَنْ قَال يُقْبَل قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ - وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ، وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ - وَذَلِكَ حَيْثُ يَكُونُ عَلَيْهِ بَيِّنَةُ الْوَدِيعَةِ - فَلَيْسَ لَهُ التَّأْخِيرُ حَتَّى يُشْهِدَ، لِوُجُودِ مَا يُبَرِّئُ بِهِ ذِمَّتَهُ، وَهُوَ قَبُول قَوْلِهِ بِيَمِينِهِ. (1)

الإِْشْهَادُ فِي الرَّدِّ عَلَى رَسُول الْمَالِكِ أَوْ وَكِيلِهِ:
23 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ مَا صَحَّحَهُ الْبَغَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْوَدِيعَ إِنْ رَدَّ الْوَدِيعَةَ عَلَى رَسُول الْمَالِكِ أَوْ وَكِيلِهِ فَلَهُ التَّأْخِيرُ حَتَّى يُشْهِدَ، (2) فَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ فَلاَ يُصَدَّقُ فِي دَعْوَى التَّسْلِيمِ إِلَى الرَّسُول أَوِ الْوَكِيل. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ مَا صَحَّحَهُ الْغَزَالِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ وَلَوْ لَمْ يُشْهِدْ. (3) وَلَمْ يُصَرِّحِ الْحَنَفِيَّةُ بِالإِْشْهَادِ فِي الرَّدِّ عَلَى الْوَكِيل، لَكِنَّهُمْ قَالُوا: يَضْمَنُ الْمُودَعُ إِنْ سَلَّمَ الْوَدِيعَةَ دُونَ عُذْرٍ لِغَيْرِ الْمَالِكِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ عِيَال الْوَدِيعِ الَّذِينَ يُحْفَظُ بِهِمْ مَالُهُ عَادَةً. وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّ الأَْوْلَى الإِْشْهَادُ لِيَدْرَأَ الضَّمَانَ عَنْ نَفْسِهِ فِي حَال الْجُحُودِ. (4)

الإِْشْهَادُ عِنْدَ قِيَامِ بَعْضِ الأَْعْذَارِ بِالْمُودَعِ:
24 - الْمَالِكِيَّةُ يُلْزِمُونَ بِالإِْشْهَادِ عَلَى الأَْعْذَارِ الَّتِي تَمْنَعُ مِنْ بَقَاءِ الْوَدِيعَةِ تَحْتَ يَدِهِ، وَيَكُونُ بِمُعَايَنَةِ الْعُذْرِ، وَلاَ يَكْفِي قَوْلُهُ: اشْهَدُوا أَنِّي أُودِعَهَا لِعُذْرٍ. (5)
__________
(1) تبيين الحقائق 5 / 77، والروضة 4 / 345، 6 / 344، والفروع وتصحيحه 2 / 605.
(2) منح الجليل 3 / 474، والروضة 6 / 345 - 346.
(3) اللإنصاف 6 / 339، 352، والفروع 2 / 789، والروضة 6 / 346.
(4) المبسوط 11 / 113، 124.
(5) منح الجليل 3 / 365.

(5/38)


وَلاَ يُخَالِفُ الْحَنَفِيَّةُ فِي وُجُوبِ الإِْشْهَادِ عَلَى الأَْعْذَارِ، إِذْ لاَ يُصَدَّقُ الْمُودَعُ عِنْدَهُمْ إِنْ دَفَعَهَا لأَِجْنَبِيٍّ لِعُذْرٍ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ. (1) وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ تَعَذَّرَ الرَّدُّ إِلَى الْمَالِكِ فَإِنَّهُ يُسَلِّمُهَا إِلَى الْقَاضِي، وَيُشْهِدُ الْقَاضِي عَلَى نَفْسِهِ بِقَبْضِهَا كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالْمُعْتَمَدُ خِلاَفُهُ، فَإِنْ فُقِدَ الْقَاضِي سَلَّمَهَا لأَِمِينٍ. وَهَل يَلْزَمُهُ الإِْشْهَادُ عَلَيْهَا؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ أَوْجَهُهُمَا عَدَمُهُ. كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْقَاضِي. (2) هَذَا إِنْ أَرَادَ سَفَرًا وَالْحَرِيقُ وَالإِْغَارَةُ عُذْرَانِ كَالسَّفَرِ. فَإِذَا مَرِضَ مَرَضًا مَخُوفًا، وَعَجَزَ عَنِ الرَّدِّ إِلَى الْحَاكِمِ أَوِ الأَْمِينِ، أَشْهَدَ وُجُوبًا عَلَى الإِْيصَاءِ بِهَا إِلَيْهِمَا. (3) وَلَمْ يَنُصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى الإِْشْهَادِ عِنْدَ قِيَامِ الأَْعْذَارِ بِالْمُودَعِ، (4) وَلاَ يَضْمَنُ الْمُودَعُ عِنْدَهُمْ إِنْ سَلَّمَهَا لأَِجْنَبِيٍّ لِعِلَّةٍ، كَمَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْ أَرَادَ سَفَرًا (5) .

الإِْشْهَادُ فِي الشُّفْعَةِ:
25 - الشَّفِيعُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا وَقْتَ الْبَيْعِ أَوْ غَائِبًا، فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ لِثُبُوتِ الشُّفْعَةِ طَلَبُهَا عَلَى الْفَوْرِ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. عَلَى أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا: إِنَّ الأَْصْل إِشْهَادُ الشَّفِيعِ
__________
(1) تبيين الحقائق 5 / 77 نشر دار المعرفة، والمبسوط 11 / 125.
(2) اللجنة ترى أن الإشهاد من القاضي على نفسه هنا مسألة إجرائية، تخضع لتبدل الأوضاع الزمنية كالأكفاء بإثبات ذلك في سجل المحكمة أو بعض الجهات الضابطة المعتمدة.
(3) نهاية المحتاج والشبراملسي عليها 6 / 117، 118.
(4) الإنصاف 6 / 329 وما بعدها.
(5) مطالب أولي النهى 4 / 155.

(5/39)


عَلَى طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ لِلتَّوْثِيقِ، وَهَذَا الإِْشْهَادُ عَلَى الطَّلَبِ لَيْسَ شَرْطًا لِلثُّبُوتِ، لَكِنْ لِيَتَوَثَّقَ حَقُّ الشُّفْعَةِ إِذَا أَنْكَرَ الْمُشْتَرِي طَلَبَهَا. وَإِنَّمَا يَصِحُّ طَلَبُ الإِْشْهَادِ بِحَضْرَةِ الْمُشْتَرِي أَوِ الْبَائِعِ أَوِ الْمَبِيعِ. (1) ثُمَّ طَلَبُ الإِْشْهَادِ مُقَدَّرٌ بِالتَّمَكُّنِ مِنَ الإِْشْهَادِ، فَمَتَى تَمَكَّنَ مِنَ الإِْشْهَادِ عِنْدَ حَضْرَةِ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الأَْشْيَاءِ، وَلَمْ يَطْلُبِ الإِْشْهَادَ، بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ نَفْيًا لِلضَّرَرِ عَنِ الْمُشْتَرِي. (2) وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَى طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ، ثُمَّ إِلَى طَلَبِ الإِْشْهَادِ بَعْدَهُ، إِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الإِْشْهَادُ عِنْدَ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ، بِأَنْ سَمِعَ الشِّرَاءَ حَال غَيْبَتِهِ عَنِ الْمُشْتَرِي وَالْبَائِعِ وَالدَّارِ، أَمَّا إِذَا سَمِعَ عِنْدَ حَضْرَةِ أَحَدِ هَؤُلاَءِ الثَّلاَثِ، وَأَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ، فَذَلِكَ يَكْفِيهِ، وَيَقُومُ مَقَامَ الطَّلَبَيْنِ. (3) وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِنْ كَانَ الشَّفِيعُ فِي الْبَلْدَةِ فَلاَ يَلْزَمُهُ الإِْشْهَادُ عَلَى الطَّلَبِ، بَل يَكْفِيهِ الطَّلَبُ وَحْدَهُ، (4) وَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَالْحَنَابِلَةُ كَالْحَنَفِيَّةِ فِي لُزُومِ طَلَبِ الشُّفْعَةِ وَالإِْشْهَادِ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَل سَقَطَ حَقُّهُ، سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى التَّوْكِيل أَمْ عَجَزَ عَنْهُ، سَارَ عَقِيبَ الْعِلْمِ أَوْ أَقَامَ. (5) وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ كَانَ الشَّفِيعُ غَائِبًا يَلْزَمُهُ الطَّلَبُ، فَإِنْ عَجَزَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ التَّوْكِيل، فَإِنْ عَجَزَ
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 214، والقليوبي 3 / 50، والمغني 5 / 331، والفتاوى الهندية 5 / 172.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 172.
(3) الفتاوى الهندية 5 / 172، 173.
(4) مطالب أولي النهى 4 / 110، ونهاية المحتاج 5 / 214.
(5) المغني 5 / 331.

(5/39)


عَنِ التَّوْكِيل فَلْيُشْهِدْ، (1) وَلاَ يَكْفِي الإِْشْهَادُ عَنِ الطَّلَبِ وَالتَّوْكِيل عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمَا. (2) وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ الإِْشْهَادُ شَرْطًا لِثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ لِلشَّفِيعِ، بَل يَثْبُتُ حَقُّهُ وَلَوْ لَمْ يُشْهِدْ. إِلاَّ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِسُقُوطِ شُفْعَتِهِ بِالآْتِي: أ - سُكُوتُهُ عَنِ الْمُطَالَبَةِ مَعَ عِلْمِهِ بِهَدْمِ الْمُشْتَرِي أَوْ بِنَائِهِ أَوْ غَرْسِهِ. ب - أَنْ يَحْضُرَ الشَّفِيعُ عَقْدَ الْبَيْعِ وَيَشْهَدَ عَلَيْهِ وَيَسْكُتَ - بِلاَ مَانِعٍ - شَهْرَيْنِ. ج - أَنْ يَحْضُرَ الْعَقْدَ وَلاَ يَشْهَدَ وَيَسْكُتَ - بِلاَ عُذْرٍ - سَنَةً مِنْ يَوْمِ الْعَقْدِ (3) .

تَأْخِيرُ الرَّدِّ لِلإِْشْهَادِ:
26 - مَنْ كَانَ تَحْتَ يَدِهِ عَيْنٌ لِغَيْرِهِ، إِمَّا أَنْ يُقْبَل قَوْلُهُ عِنْدَ التَّجَاحُدِ فِي الرَّدِّ أَوْ لاَ، فَإِنْ كَانَ يُقْبَل قَوْلُهُ كَالأَْمَانَةِ فَفِي تَأْخِيرِ الرَّدِّ ثَلاَثَةُ آرَاءٍ: الأَْوَّل: مَنْعُ التَّأْخِيرِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، (4) وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. (5) وَلاَ يُخَالِفُ جُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ فِي هَذَا، فَإِنْ أَخَّرَهُ ضَمِنَ عِنْدَ الْهَلاَكِ (6) عِنْدَ الأَْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ. الثَّانِي: جَوَازُ التَّأْخِيرِ لِلإِْشْهَادِ، لأَِنَّ الْبَيِّنَةَ تُسْقِطُ الْيَمِينَ عَنِ الرَّادِّ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ عَبْدِ السَّلاَمِ
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 214، والقليوبي 3 / 50.
(2) القليوبي 3 / 50.
(3) الدسوقي 3 / 483.
(4) القليوبي 2 / 351، والنهاية 5 / 124.
(5) تصحيح الفروع 2 / 605، والمغني 5 / 117، والفروع 2 / 793، 794.
(6) الزرقاني على خليل 6 / 87، والخرشي 6 / 82.

(5/40)


مِنَ الْمَالِكِيَّةِ (1) ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، (2) وَمُقَابِل الصَّحِيحِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، قَالُوا وَهُوَ قَوِيٌّ خُصُوصًا فِي هَذِهِ الأَْزْمِنَةِ. (3) فَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْيَدِ لاَ يُقْبَل قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ كَالْغَصْبِ، فَإِنَّ لَهُ التَّأْخِيرَ لِلإِْشْهَادِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. (4) الثَّالِثُ: التَّفْرِيقُ بَيْنَ مَا إِذَا أَخَذَهَا بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِدُونِ ذَلِكَ، فَلَهُ التَّأْخِيرُ عِنْدَ الرَّدِّ حَتَّى يُشْهِدَ أَنَّهُ أَخَذَهَا بِبَيِّنَةٍ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، فَالأَْصَحُّ عِنْدَ الْبَغَوِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ التَّأْخِيرُ نَصًّا. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ يُؤْخَذُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ. (5) وَمِنْ تَتَبُّعِ فُرُوعِ الْحَنَفِيَّةِ نَجِدْ أَنَّهُمْ يَمْنَعُونَ تَأْخِيرَ الرَّدِّ لِلإِْشْهَادِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْيَدُ يَدَ ضَمَانٍ أَمْ يَدَ أَمَانَةٍ، وَلَمْ نَرَ عِنْدَهُمْ مَنْ يَقُول بِالتَّأْخِيرِ لِلإِْشْهَادِ. (6)
__________
(1) الحطاب، والتاج والإكليل 5 / 210، والزرقاني على خليل 6 / 87.
(2) القليوبي 2 / 351.
(3) تصحيح الفروع 2 / 605، وشرح منتهى الإرادات 2 / 319.
(4) الزرقاني على خليل 6 / 87، والخرشي 6 / 82. والحطاب 5 / 210.
(5) القليوبي 2 / 351، وتصحيح الفروع 2 / 605، والمغني 5 / 117.
(6) بدائع الصنائع 8 / 3888 ط الإمام، ودرر الحكام شرح غرر الأحكام 2 / 245 ط أحمد كامل، والخادمي على الدر ص 363، والبحر الرائق 7 / 308، 309 ط العلمية، وجامع الفصولين 2 / 112، 118.

(5/40)


قِيَامُ الإِْشْهَادِ مَقَامَ الْقَبْضِ فِي الْهِبَةِ:
27 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْوَلِيَّ لَوْ وَهَبَ لِمَحْجُورِهِ شَيْئًا، وَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ، فَالْهِبَةُ تَامَّةٌ، وَالإِْشْهَادُ يُغْنِي عَنِ الْقَبْضِ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: مَنْ نَحَل وَلَدًا لَهُ صَغِيرًا لَمْ يَبْلُغْ أَنْ يَحُوزَ نِحْلَتُهُ، فَأَعْلَنَ ذَلِكَ وَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ فَهِيَ جَائِزَةٌ، وَإِنَّ وَلِيَّهَا أَبُوهُ. وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ الدَّارَ الَّتِي يَسْكُنُهُمَا الْوَاهِبُ، وَالْمَلْبُوسَ الَّذِي هُوَ لاَبِسُهُ، إِذَا وَهَبَهُمَا لِمَحْجُورِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يُكْتَفَى بِالإِْشْهَادِ عَلَى الْهِبَةِ، بَل لاَ بُدَّ مِنْ إِخْلاَئِهِ لِلدَّارِ، وَمِثْلُهَا الْمَلْبُوسُ. وَلاَ بُدَّ مِنْ مُعَايَنَةِ الْبَيِّنَةِ لِلإِْخْلاَءِ. وَإِنْ لَمْ تُعَايِنِ الْبَيِّنَةُ الْحِيَازَةَ فَالإِْشْهَادُ بِالْهِبَةِ يُغْنِي عَنِ الْحِيَازَةِ فِيمَا لاَ يَسْكُنُهُ الْوَلِيُّ وَلاَ تَلْبَسُهُ. وَاسْتَثْنَوْا كَذَلِكَ مَا لاَ يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ، كَالْمَعْدُودِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَكِيل فَلاَ بُدَّ مِنْ حِيَازَتِهِ. (1) وَالْهِبَةُ تَتِمُّ كَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِالإِْعْلاَمِ وَالإِْشْهَادِ، إِلاَّ أَنَّ الإِْشْهَادَ لَيْسَ شَرْطًا، وَإِنَّمَا هُوَ لِلاِحْتِيَاطِ. (2) وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَتَوَلَّى الأَْبُ طَرَفَيِ الْعَقْدِ. وَكَيْفِيَّةُ الْقَبْضِ أَنْ يَنْقُلَهُ مِنْ مَكَانٍ لآِخَرَ. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى مَنَ اشْتَرَطَ الإِْشْهَادَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، لَكِنْ جَاءَ فِي الأُْمِّ: أَنَّ الْهِبَةَ لاَ تَتِمُّ إِلاَّ بِأَمْرَيْنِ: الإِْشْهَادِ، وَالْقَبْضِ، وَلاَ يُغْنِي الإِْشْهَادُ عَنِ الْقَبْضِ. (3)
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 301 ط التجارية، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 105، والمغني 5 / 662، 663.
(2) المبسوط 12 / 61.
(3) الروضة 5 / 367، والجمل على المنهج 3 / 598، والأم 4 / 52.

(5/41)


الإِْشْهَادُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْمَوْهُوبِ قَبْل قَبْضِهِ:
28 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ إِذَا بَاعَ مَا اتَّهَبَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ وَهَبَهُ قَبْل أَنْ يَقْبِضَهُ فَإِنَّ تَصَرُّفَهُ مَاضٍ، وَفِعْلَهُ ذَلِكَ حَوْزٌ لَهُ إِذَا أَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ وَأَعْلَنَ بِمَا فَعَلَهُ. (1) وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ لاَ يَكُونُ الإِْشْهَادُ بِمَنْزِلَةِ الْقَبْضِ، وَلاَ يَثْبُتُ حُكْمُ الْهِبَةِ إِلاَّ بِقَبْضِهَا. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ اللَّذَيْنِ لاَ تَصِحُّ هِبَتُهُمَا إِلاَّ بِالْقَبْضِ عِنْدَهُمْ. (2) وَالصَّدَقَةُ كَالْهِبَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، فَلَوْ دَفَعَ مَالاً لِمَنْ يُفَرِّقُهُ صَدَقَةً عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَلَمْ يُشْهِدْ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمْ يَتَصَدَّقْ بِهِ، وَاسْتَمَرَّ الْمَال عِنْدَهُ حَتَّى مَاتَ الْوَاهِبُ، فَإِنَّ الصَّدَقَةَ تَبْطُل وَتَرْجِعُ إِلَى وَرَثَتِهِ. أَمَّا إِذَا أَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ حِينَ دَفَعَ الْمَال إِلَى مَنْ يَتَصَدَّقُ بِهِ، فَإِنَّ الصَّدَقَةَ لاَ تَبْطُل بِمَوْتِ الْمُتَصَدِّقِ، وَتَرْجِعُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ. (3) وَيَنْطَبِقُ عَلَى الصَّدَقَةِ مَا يَنْطَبِقُ عَلَى الْهِبَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ مِنْ حَيْثُ عَدَمُ إِغْنَاءِ الإِْشْهَادِ عَنِ الْقَبْضِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ (4) .

الإِْشْهَادُ فِي الْوَقْفِ:
29 - عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَوْ وَقَفَ عَلَى مَحْجُورِهِ، وَهُوَ وَلَدُهُ الصَّغِيرُ الَّذِي فِي حِجْرِهِ، أَوِ السَّفِيهُ أَوِ الْوَصِيُّ عَلَى يَتِيمِهِ فَإِنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي حَوْزِ الْوَقْفِ الْحَوْزُ الْحِسِّيُّ،
__________
(1) الخرشي 7 / 108.
(2) المبسوط 12 / 48، والأم 4 / 55، والمغني 5 / 649 وما بعدها.
(3) الخرشي 7 / 106، 107.
(4) المبسوط 2 / 48، والأم 4 / 52، والمغني 5 / 649.

(5/41)


بَل يَكْفِي فِيهِ الْحَوْزُ الْحُكْمِيُّ، وَهُوَ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى ذَلِكَ. وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْحَائِزُ الأَْبَ أَمِ الْوَصِيَّ أَوِ الْمُقَامَ مِنْ قِبَل الْحَاكِمِ، فَيَصِحُّ الْوَقْفُ وَلَوْ كَانَ تَحْتَ يَدِ الْحَائِزِ إِلَى مَوْتِهِ أَوْ إِلَى فَلَسِهِ أَوْ إِلَى مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، إِذَا تَوَافَرَتْ بَقِيَّةُ الشُّرُوطِ مَعَ الإِْشْهَادِ. وَلاَ بُدَّ مِنْ مُعَايَنَةِ الْبَيِّنَةِ لِمَا وَقَعَ الإِْشْهَادُ عَلَى وَقْفِهِ إِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى أَجْنَبِيٍّ، فَلاَ يَكْفِي إِقْرَارُ الْوَاقِفِ، لأَِنَّ الْمُنَازِعَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ إِمَّا الْوَرَثَةُ وَإِمَّا الْغُرَبَاءُ. وَلاَ بُدَّ أَنْ يَشْهَدَ الْوَاقِفُ عَلَى الْوَقْفِ قَبْل حُصُول الْمَانِعِ لِلْوَاقِفِ مِنَ التَّصَرُّفِ. وَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُول عِنْدَ الإِْشْهَادِ عَلَى الْوَقْفِيَّةِ: رَفَعْتُ يَدَ الْمِلْكِ وَوَضَعْتُ يَدَ الْحَوْزِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. (1) وَالْمَذَاهِبُ الأُْخْرَى لَمْ يَتَكَلَّمُوا عَنِ الإِْشْهَادِ فِي الْوَقْفِ، لِعَدَمِ اشْتِرَاطِهِمُ الْقَبْضَ لِصِحَّتِهِ.

الإِْشْهَادُ عَلَى بِنَاءِ الإِْنْسَانِ لِنَفْسِهِ فِي أَرْضِ الْوَقْفِ:
30 - لَوْ بَنَى نَاظِرُ الْوَقْفِ لِنَفْسِهِ بِمَال نَفْسِهِ فِي أَرْضِ الْوَقْفِ، أَوْ زَرَعَ وَأَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ يَعْتَدُّونَ بِذَلِكَ الإِْشْهَادِ، وَيَجْعَلُونَ الْبِنَاءَ وَالْغِرَاسَ مِلْكًا لِلنَّاظِرِ إِنْ أَشْهَدَ. فَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ فَهُوَ تَابِعٌ لِلْوَقْفِ. قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ الإِْشْهَادُ قَبْل الْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ. (2) وَالْمَالِكِيَّةُ لاَ يَجْعَلُونَ لِلإِْشْهَادِ أَثَرًا. (3) وَتَفْصِيل مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْبِنَاءِ
__________
(1) الخرشي وحاشية العدوي 7 / 85، والتحفة شرح البهجة 2 / 228.
(2) جامع الفصولين 2 / 21، وابن عابدين 3 / 429، ومطالب أولي النهى 4 / 341.
(3) الدسوقي 4 / 96.

(5/42)


وَالْغِرَاسِ يُذْكَرُ فِي مَوْطِنِهِ الأَْصْلِيِّ (الْوَقْفُ) . وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَيْسَ لِلْوَاقِفِ - وَالنَّاظِرِ بِالأَْوْلَى - أَنْ يَزْرَعَ أَوْ يَبْنِيَ فِي أَرْضِ الْوَقْفِ لِنَفْسِهِ، وَغَرْسِهِ وَبِنَاؤُهُ فِيهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَالْحَال لاَ يَحْتَاجُ إِلَى إِشْهَادٍ عِنْدَهُمْ (1) وَتَفْصِيل أَحْكَامِ الْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ فِي الْوَقْفِ يُنْظَرُ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ.

الإِْشْهَادُ فِي اللُّقَطَةِ:
31 - وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: {مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ ذَا عَدْلٍ أَوْ ذَوَيْ عَدْلٍ، وَلاَ يَكْتُمْ، وَلاَ يُغَيِّبْ} . (2) وَهَذَا أَمْرٌ بِالإِْشْهَادِ عَلَى اللُّقَطَةِ لِيَحْفَظَهَا الإِْنْسَانُ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ أَنْ يَطْمَعَ فِيهَا، وَعَنْ وَرَثَتِهِ إِنْ مَاتَ، وَعَنْ غُرَمَائِهِ إِنْ أَفْلَسَ. وَفِي الأَْمْرِ الْوَارِدِ بِهِ رَأْيَانِ: أ - اسْتِحْبَابُ الإِْشْهَادِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ إِنْ خِيفَ أَنْ يَدَّعِيَهَا مَعَ طُول الزَّمَانِ. . (3) وَقَدْ حَمَلُوا الْحَدِيثَ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 378، 403 ط مصطفى الحلبي، والفتاوى الفقهية الكبرى 3 / 367.
(2) حديث: " من وجد لقطة فليشهد. . . . " أخرجه أبو داود واللفظ له، وابن ماجه من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه مرفوعا. والحديث سكت عنه أبو داود وصححه الألباني وعبد القادر الأرناؤوط (عون المعبود 2 / 66 ط الهند، وسنن ابن ماجه بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 2 / 837 ط عيسى الحلبي، وصحيح الجامع الصغير 5 / 366 نشر المكتب الإسلامي، وجامع الأصول بتحقيق عبد القادر الأرناؤوط 10 / 707، 708، نشر مكتبة الحلواني 1392 هـ) .
(3) شرح منتهى الإرادات 2 / 478، والشرواني على التحفة 6 / 319 ط دار صادر، والجمل على المنهج 3 / 603، والدسوقي 4 / 126 ط عيسى الحلبي، والزرقاني على خليل 7 / 120 نشر دار الفكر، وجواهر الإكليل 3 / 603، والمغني 5 / 708، 709.

(5/42)


السَّابِقَ عَلَى الاِسْتِحْبَابِ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى الاِسْتِحْبَابِ بِخَبَرِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ مَرْفُوعًا: {أُعَرِّفُ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا} (1) وَحَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَلَمْ يُؤْمَرْ بِالإِْشْهَادِ فِيهِمَا، (2) وَاكْتُفِيَ بِالتَّعْرِيفِ، وَلاَ يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ. فَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ، سِيَّمَا وَقَدْ سُئِل عَنْ حُكْمِ اللُّقَطَةِ فَلَمْ يَكُنْ لِيُخِل بِأَمْرٍ وَاجِبٍ فِيهَا فَيَتَعَيَّنُ حَمْل الأَْمْرِ عَلَى النَّدْبِ فِي خَبَرِ عِيَاضٍ. وَلأَِنَّهُ أَمَانَةٌ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى الإِْشْهَادِ كَالْوَدِيعَةِ (3) . ب - وُجُوبُ الإِْشْهَادِ: وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ. جَاءَ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الإِْشْهَادَ لاَ بُدَّ مِنْهُ عِنْدَ الإِْمَامِ: (4) وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ إِنْ تَحَقَّقَ الْمُلْتَقِطُ أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ سَيَجْحَدُ اللُّقَطَةَ. (5) وَوُجُوبُ الإِْشْهَادِ هُوَ مُقَابِل الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. قَالُوا: فِي الْحَدِيثِ زِيَادَةٌ عَلَى بَقِيَّةِ الأَْخْبَارِ، وَهِيَ الأَْمْرُ بِالإِْشْهَادِ، وَزِيَادَةُ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، وَالأَْصْل فِي الأَْمْرِ الْوُجُوبُ، وَلاَ مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ وَبَيْنَ بَقِيَّةِ الأَْخْبَارِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا أَمْرٌ. (6) وَالإِْشْهَادُ يَكُونُ حِينَ الأَْخْذِ إِنْ أَمْكَنَ، وَإِلاَّ أَشْهَدَ عِنْدَ أَوَّل التَّمَكُّنِ مِنْهُ. (7)
__________
(1) خبر زيد بن خالد مرفوعا: " اعرف وكاءها وعفاصها. . . . . " أخرجه البخاري ومسلم (فتح الباري 5 / 80 - ط السلفية، وصحيح مسلم 3 / 1348 ط الحلبي) .
(2) حديث أبي كعب: " احفظ وعاءها وعددها ووكاءها " أخرجه البخاري ومسلم (الفتح 5 / 78 ط السلفية، وصحيح مسلم 3 / 1350) .
(3) المغني 5 / 708، 709.
(4) ابن عابدين 3 / 319 ط بولاق الأولى.
(5) الدسوقي 4 / 126.
(6) الجمل على المنهج 3 / 603، والشرواني على التحفة 6 / 319.
(7) ابن عابدين 3 / 319، والزرقاني على خليل 7 / 120، والمغني 5 / 708.

(5/43)


نَفْيُ الضَّمَانِ مَعَ الإِْشْهَادِ:
32 - يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُلْتَقِطَ لاَ يَضْمَنُ اللُّقَطَةَ إِنْ أَشْهَدَ عَلَيْهَا. فَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا إِنْ تَلِفَتْ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ: لاَ ضَمَانَ عَلَى الْمُلْتَقِطِ سَوَاءٌ أَشْهَدَ أَمْ لَمْ يُشْهِدْ. وَفِي الْبَدَائِعِ: وَلاَ ضَمَانَ عَلَى الْمُلْتَقِطِ أَشْهَدَ أَوْ لَمْ يُشْهِدْ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَضْمَنُ إِنْ لَمْ يُشْهِدْ. (1)
فَإِنْ خَشِيَ اسْتِيلاَءَ ظَالِمٍ عَلَيْهَا، فَقَدْ قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهُ يَمْتَنِعُ الإِْشْهَادُ وَلَوْ أَشْهَدَ ضَمِنَ، (2) وَقَال الْحَنَفِيَّةُ لاَ يَضْمَنُ إِنْ لَمْ يُشْهِدْ خَوْفًا مِنَ اسْتِيلاَءِ ظَالِمٍ عَلَيْهَا، وَكَذَا لاَ يَضْمَنُ إِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الإِْشْهَادِ. (3)

الإِْشْهَادُ وَالتَّعْرِيفُ:
33 - لاَ يُغْنِي الإِْشْهَادُ عَنِ التَّعْرِيفِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُغْنِي عَنِ التَّعْرِيفِ. (4)

الإِْشْهَادُ عَلَى اللَّقِيطِ:
34 - لاَ يَخْتَلِفُ حُكْمُ الإِْشْهَادِ عَلَى الْتِقَاطِ اللَّقِيطِ عَنِ الإِْشْهَادِ فِي اللُّقَطَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، (5) وَعِنْدَ
__________
(1) الرهوني 7 / 249 ط بولاق، والبدائع 6 / 201 ط الجمالية، وكشف الحقائق 1 / 330، والجمل على المنهج 3 / 603، والمغني 5 / 708.
(2) الجمل على المنهج 3 / 603، وشرح الروض 2 / 487.
(3) الفتاوى الهندية 2 / 291، وابن عابدين 3 / 320، والمبسوط 11 / 12 نشر دار المعرفة.
(4) ابن عابدين 3 / 319، والدسوقي 4 / 120، 126، والجمل 3 / 603، والمغني 5 / 709.
(5) الدسوقي 4 / 126.

(5/43)


الشَّافِعِيَّةِ يَجِبُ الإِْشْهَادُ قَوْلاً وَاحِدًا، (1) وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَتْ بَعْضُ كُتُبِهِمْ. (2)
وَإِنَّمَا فَرَّقُوا بَيْنَ اللُّقَطَةِ وَاللَّقِيطِ فِي الإِْشْهَادِ، لأَِنَّ اللُّقَطَةَ الْغَرَضُ مِنْهَا الْمَال، وَالإِْشْهَادُ فِي التَّصَرُّفِ الْمَالِيِّ مُسْتَحَبٌّ، وَالْغَرَضُ مِنَ الْتِقَاطِ اللَّقِيطِ حِفْظُ حُرِّيَّتِهِ وَنَسَبِهِ، فَوَجَبَ الإِْشْهَادُ، كَمَا فِي النِّكَاحِ، وَلأَِنَّ اللُّقَطَةَ يَشِيعُ أَمْرُهَا بِالتَّعْرِيفِ وَلاَ تَعْرِيفَ فِي اللَّقِيطِ. (3)
وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ قُدَامَةَ وُجُوبَ ضَمِّ مُشْرِفٍ إِلَى الْمُلْتَقِطِ إِنْ كَانَ غَيْرَ أَمِينٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: اسْتِحْبَابُ الإِْشْهَادِ. (4)
وَيَجِبُ الإِْشْهَادُ عَلَى مَا مَعَ اللَّقِيطِ تَبَعًا لَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَلِئَلاَّ يَتَمَلَّكَهُ. وَقَيَّدَ الْمَاوَرْدِيُّ وُجُوبَ الإِْشْهَادِ عَلَى اللَّقِيطِ وَعَلَى مَا مَعَهُ بِحَالَةِ مَا إِذَا كَانَ هُوَ الْمُلْتَقِطُ.
أَمَّا مَنْ سَلَّمَهُ الْحَاكِمُ لَهُ لِيَكْفُلَهُ فَالإِْشْهَادُ مُسْتَحَبٌّ لَهُ قَطْعًا. (5)

الإِْشْهَادُ عَلَى نَفَقَةِ اللَّقِيطِ:
35 - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ اشْتَرَطُوا لِجَوَازِ الرُّجُوعِ بِمَا يُنْفِقُهُ الْمُلْتَقِطُ عَلَى اللَّقِيطِ الإِْشْهَادُ عَلَى إِرَادَتِهِ الرُّجُوعَ.
وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ بِمَا إِذَا لَمْ يَتَمَكَّنِ الْمُنْفِقُ مِنْ
__________
(1) شرح الروض 2 / 496.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 478.
(3) المغني 5 / 756، وشرح الروض 2 / 496.
(4) المغني 5 / 756.
(5) شرح الروض 2 / 496.

(5/44)


اسْتِئْذَانِ الْحَاكِمِ. (1) وَوُجُوبُ الإِْشْهَادِ هُوَ قَوْل شُرَيْحٍ وَالنَّخَعِيِّ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يُشْتَرَطُ. (3)
وَلاَ يَتَأَتَّى الْقَوْل بِالإِْشْهَادِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، فَالْمُلْتَقِطُ يُنْفِقُ، وَلاَ يَرْجِعُ عَلَى اللَّقِيطِ عِنْدَهُمْ، لأَِنَّهُ بِالاِلْتِقَاطِ أَلْزَمَ نَفْسَهُ. (4)

الإِْشْهَادُ بِالْبَاطِل لِلتَّوَصُّل إِلَى الْحَقِّ:
36 - فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الإِْشْهَادُ بِالْبَاطِل لِلتَّوَصُّل إِلَى الْحَقِّ فِي صُوَرٍ ذَكَرُوهَا. فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الصَّغِيرَةُ الَّتِي يُزَوِّجُهَا وَلِيٌّ غَيْرُ الأَْبِ وَالْجَدِّ، وَيَثْبُتُ لَهَا شَرْعًا خِيَارُ الْبُلُوغِ فِي النِّكَاحِ عَلَى الْفَوْرِ، فَإِنَّهَا إِذَا رَأَتِ الْحَيْضَ فِي اللَّيْل وَاخْتَارَتِ الْفَسْخَ فَوْرًا، فَإِنَّهَا حِينَ تُشْهِدُ فِي الصَّبَاحِ عَلَى الْبُلُوغِ تَقُول: بَلَغْتُ الآْنَ، ضَرُورَةُ إِحْيَاءِ الْحَقِّ، (5) لأَِنَّ خِيَارَ الْبُلُوغِ يَسْقُطُ بِالتَّرَاخِي، فَلَوْ أَخْبَرَتْ عَنِ اخْتِيَارِهَا مُتَبَاعِدًا عَنِ الإِْشْهَادِ لَمْ تَسْتَفِدْ مِنَ الْخِيَارِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يَجُوزُ لِلإِْنْسَانِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ مُعَيَّنٌ، وَلَمْ يَنْتَظِمْ بَيْتُ الْمَال أَنْ يَتَحَيَّل عَلَى إِخْرَاجِ مَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ بِشَيْءٍ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذِمَّتِهِ، كَزَكَاةٍ أَوْ كَفَّارَاتٍ وَجَبَ إِخْرَاجُهَا مِنْ رَأْسِ الْمَال، وَلَوْ أَتَى عَلَى جَمِيعِهِ بَعْدَ الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعَيْنِ. (6)
__________
(1) ابن عابدين 3 / 317، وشرح الروض 2 / 496.
(2) المغني 5 / 752.
(3) المغني 5 / 752.
(4) الدسوقي 4 / 124، 125 نشر دار الفكر.
(5) ابن عابدين 2 / 310.
(6) الصاوي علي الدردير 4 / 618.

(5/44)


وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ عِدَّةَ صُوَرٍ مِنْهَا: مَا يُسَمَّى بِمَسْأَلَةِ إِيدَاعِ الشَّهَادَةِ، كَأَنْ يَقُول لَهُ الْخَصْمُ: لاَ أُقِرُّ لَكَ حَتَّى تُبْرِئَنِي مِنْ نِصْفِ الدَّيْنِ أَوْ ثُلُثِهِ، وَأَشْهَدُ عَلَيْكَ إِنَّكَ لاَ تَسْتَحِقُّ عَلَى بُعْدِ ذَلِكَ شَيْئًا، فَيَأْتِي صَاحِبُ الْحَقِّ إِلَى رَجُلَيْنِ فَيَقُول: اشْهَدَا أَنِّي عَلَى طَلَبِ حَقِّي كُلِّهِ مِنْ فُلاَنٍ، وَأَنِّي لَمْ أُبْرِئْهُ مِنْ شَيْءٍ مِنْهُ، وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُظْهِرَ مُصَالَحَتَهُ عَلَى بَعْضِهِ، لأَِتَوَصَّل بِالصُّلْحِ إِلَى أَخْذِ بَعْضِ حَقِّي، وَأَنِّي إِذَا أَشْهَدْتُ أَنِّي لاَ أَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ سِوَى مَا صَالَحَنِي عَلَيْهِ فَهُوَ إِشْهَادٌ بَاطِلٌ، وَأَنِّي إِنَّمَا أَشْهَدْتُ عَلَى ذَلِكَ تَوَصُّلاً إِلَى أَخْذِ بَعْضِ حَقِّي، فَإِذَا فَعَل ذَلِكَ جَازَ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ بَقَاءَهُ عَلَى حَقِّهِ، وَيُقِيمَ الشَّهَادَةَ بِذَلِكَ. (1) فَالإِْنْسَانُ لَهُ التَّوَصُّل إِلَى حَقِّهِ بِكُل طَرِيقٍ جَائِزٍ، وَقَدْ تَوَصَّل الْمَظْلُومُ إِلَى حَقِّهِ بِطَرِيقٍ لَمْ يُسْقِطْ بِهَا حَقًّا لأَِحَدٍ، وَلَمْ يَأْخُذْ بِهَا مَا لاَ يَحِل لَهُ أَخْذُهُ، فَلاَ خَرَجَ بِهَا مِنْ حَقٍّ، وَلاَ دَخَل بِهَا فِي بَاطِلٍ.
وَنَظِيرُ هَذَا أَنْ يَكُونَ لِلْمَرْأَةِ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ فَيَجْحَدُهُ، وَيَأْبَى أَنْ يُقِرَّ بِهِ حَتَّى تُقِرَّ لَهُ بِالزَّوْجِيَّةِ، فَتَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهَا أَنَّهَا لَيْسَتِ امْرَأَةَ فُلاَنٍ، وَأَنِّي أُرِيدُ أَنْ أُقِرَّ لَهُ بِالزَّوْجِيَّةِ إِقْرَارًا كَاذِبًا لاَ حَقِيقَةَ لَهُ لأَِتَوَصَّل بِذَلِكَ إِلَى أَخْذِ مَالِي عِنْدَهُ، فَاشْهَدُوا أَنَّ إِقْرَارِي بِالزَّوْجِيَّةِ بَاطِلٌ أَتَوَصَّل بِهِ إِلَى أَخْذِ حَقِّي.
وَمِثْلُهُ أَيْضًا: أَنْ يُنْكِرَ نَسَبَ أَخِيهِ، وَيَأْبَى أَنْ يُقِرَّ لَهُ بِهِ حَتَّى يَشْهَدَ أَنَّهُ لاَ يَسْتَحِقُّ فِي تَرِكَةِ أَبِيهِ شَيْئًا، وَأَنَّهُ قَدْ أَبْرَأَهُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ فِي ذِمَّتِهِ مِنْهَا، أَوْ أَنَّهُ وَهَبَ لَهُ جَمِيعَ مَا يَخُصُّهُ مِنْهَا، أَوْ أَنَّهُ قَبَضَهُ، أَوِ اعْتَاضَ
__________
(1) إعلام الموقعين 4 / 30 ط الأولى التجارية.

(5/45)


عَنْهُ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَيُودِعُ الشَّهَادَةَ عَدْلَيْنِ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى حَقِّهِ، وَأَنَّهُ يُظْهِرُ ذَلِكَ الإِْقْرَارُ تَوَصُّلاً إِلَى إِقْرَارِ أَخِيهِ بِنَسَبِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ مِيرَاثِ أَبِيهِ شَيْئًا وَلاَ أَبْرَأَ أَخَاهُ وَلاَ عَاوَضَهُ وَلاَ وَهَبَهُ. (1)

الإِْشْهَادُ عَلَى كِتَابَةِ الْوَصِيَّةِ:
37 - يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى نَفَاذِ الْوَصِيَّةِ إِنْ كَتَبَ الْمُوصِي وَصِيَّتَهُ وَأَشْهَدَ عَلَيْهَا، ثُمَّ قَرَأَهَا عَلَى الْشُّهُودِ (2) .
وَيَخْتَلِفُونَ إِنْ كَتَبَهَا وَلَمْ يَعْلَمِ الشُّهُودُ بِمَا فِيهَا، سَوَاءٌ أَكَتَبَهَا وَلَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهَا أَمْ كَتَبَهَا فِي غَيْبَةِ الشُّهُودِ، ثُمَّ أَشْهَدَهُمْ عَلَيْهَا.
فَإِنْ كَتَبَهَا مُبْهَمَةً ثُمَّ دَعَا الشُّهُودَ، وَقَال: هَذِهِ وَصِيَّتِي فَاشْهَدُوا عَلَى مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، فَلِلْفُقَهَاءِ فِي نَفَاذِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ وَعَدَمِهِ رَأْيَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَدَمُ النَّفَاذِ، وَبِهِ قَال الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَجُمْهُورُ الأَْصْحَابِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ. وَبِهَذَا قَال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَأَبُو قِلاَبَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ. إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ أَطْلَقَتْ هَذَا الْقَوْل، وَبَعْضُهَا قَيَّدَهُ بِمَا إِذَا لَمْ يُعْرَفْ خَطُّ الْكَاتِبِ، وَقَالُوا فِي تَعْلِيل عَدَمِ النَّفَاذِ: إِنَّ الْحُكْمَ لاَ يَجُوزُ بِرُؤْيَةِ خَطِّ الشَّاهِدِ بِالشَّهَادَةِ بِالإِْجْمَاعِ فَكَذَا هُنَا. (3)
الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الإِْشْهَادَ يَصِحُّ وَيَنْفُذُ بِهِ الْوَصِيَّةُ وَإِنْ لَمْ يَقْرَأْهَا عَلَى الشُّهُودِ، وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ،
__________
(1) إعلام الموقعين 4 / 31.
(2) شرح أدب القاضي للخصاف 3 / 337 ط بغداد، والروضة 6 / 141، والخرشي 8 / 190، والمغني 6 / 69، وكشاف القناع 4 / 337.
(3) شرح أدب القاضي للخصاف 3 / 337، والروضة 6 / 141، والمغني 6 / 69.

(5/45)


وَقَوْل مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرِ الْمَرْوَزِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، (1) وَهُوَ قَوْل جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ مِنْهُمْ سَالِمٌ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ يَعْلَى قَاضِي الْبَصْرَةِ (2) .
فَإِنْ كَتَبَهَا بِحَضْرَتِهِمْ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَيْهَا، دُونَ عِلْمٍ بِمَا فِيهَا فَإِنَّهَا تَنْفُذُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إِذَا أَوْدَعَهُ عِنْدَهُ، (3) وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ إِنْ عُرِفَ خَطُّهُ. وَالْعَمَل حِينَئِذٍ بِالْخَطِّ لاَ بِالإِْشْهَادِ. وَمِمَّنْ قَال ذَلِكَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ يَعْلَى وَمَكْحُولٌ وَاللَّيْثُ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَإِسْحَاقُ، وَاحْتَجَّ أَبُو عُبَيْدٍ بِكَتْبِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عُمَّالِهِ وَأُمَرَائِهِ فِي أَمْرِ وِلاَيَتِهِ وَأَحْكَامِ سُنَنِهِ، ثُمَّ مَا عَمِل بِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ بَعْدَهُ مِنْ كَتْبِهِمْ إِلَى وُلاَتِهِمُ الأَْحْكَامُ الَّتِي تَتَضَمَّنُ أَحْكَامًا فِي الدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ وَالأَْمْوَال، يَبْعَثُونَ بِهَا مَخْتُومَةً لاَ يَعْلَمُ حَامِلُهَا مَا فِيهَا، وَأَمْضَوْهَا عَلَى وُجُوهِهَا. وَذَكَرَ اسْتِخْلاَفَ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِكِتَابٍ كَتَبَهُ وَخَتَمَ عَلَيْهِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلاَ نَعْلَمُ أَحَدًا أَنْكَرَ ذَلِكَ مَعَ شُهْرَتِهِ فِي عُلَمَاءِ الْعَصْرِ فَكَانَ إِجْمَاعًا (4) .
وَلاَ تَنْفُذُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَال صَاحِبُ الْمُغْنِي: وَوَجْهُهُ أَنَّهُ كِتَابٌ لاَ يَعْلَمُ الشَّاهِدُ مَا فِيهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهِ، كَكِتَابِ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي. (5)
__________
(1) الخرشي 8 / 190، والروضة 6 / 141.
(2) شرح أدب القاضي للخصاف 3 / 338.
(3) الخرشي 8 / 190، وشرح أدب القاضي للخصاف 3 / 342.
(4) كشاف القناع 4 / 337، والمغني 6 / 69، 70.
(5) شرح الروضة 3 / 42، والمغني 6 / 69، 70، وشرح أدب القاضي للخصاف 3 / 241.

(5/46)


الإِْشْهَادُ عَلَى النِّكَاحِ:
38 - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ عَقْدُ النِّكَاحِ إِلاَّ بِإِشْهَادٍ عَلَى الْعَقْدِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ. (1)
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَالْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَقَتَادَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَالأَْوْزَاعِيِّ.
وَالْمَعْنَى فِيهِ صِيَانَةُ الأَْنْكِحَةِ عَنِ الْجُحُودِ، وَالاِحْتِيَاطِ لِلأَْبْضَاعِ. (2)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الإِْشْهَادُ عَلَى الْعَقْدِ مُسْتَحَبٌّ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ الإِْشْهَادُ عِنْدَ الدُّخُول، فَإِنْ أَشْهَدَا قَبْل الدُّخُول صَحَّ النِّكَاحُ مَا لَمْ يَقْصِدَا الاِسْتِسْرَارَ بِالْعَقْدِ. فَإِنْ قَصَدَاهُ لَمْ يُقِرَّا عَلَى النِّكَاحِ عَلَيْهِ، لِنَهْيِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ نِكَاحِ السِّرِّ، وَيُؤْمَرُ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَلْقَةً وَإِنْ طَال الزَّمَانُ، ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ الْعَقْدَ.
__________
(1) حديث: " لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل " أخرجه الدارقطني والبيهقي من حديث الحسن عن عمران بن حصين مرفوعا، وفي إسناده عبد الله بن محرز، وهو متروك. ورواه الشافعي من وجه آخر عن الحسن مرسلا. وروي الحديث عن عائشة رضي الله عنها بعدة طرق وضعف ابن معين ذلك كله، ونقل الزيلعي عن الدارقطني أن هذا الحديث رجاله ثقات، إلا أن المحفوظ من قول ابن عباس ولم يرفعه إلا عدي بن الفضل. وللحديث طرق أخرى. وقال شعيب الأرناؤوط: هذه الطرق والشواهد يشبه بعضها بعضا، فيصلح الحديث للاستشهاد (السنن الكبرى للبيهقي 7 / 125 ط دائرة اوسنن الدارقطني 3 / 221 - 227 ط دار المحاسن للطباعة، ونيل الأوطار 6 / 258 - 260 ط دار الجيل، وفيض القدير 6 / 438 نشر المكتبة التجارية الكبرى، وشرح السنة بتحقيق شعيب الأرناؤوط 9 / 45 نشر المكتب الإسلامي، وإرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل 6 / 243 نشر المكتب الإسلامي) .
(2) العناية على الهداية 2 / 351، 352 ط بولاق الأولى، ونهاية المحتاج 6 / 213، والمغني 6 / 450.

(5/46)


وَإِنْ دَخَلاَ بِلاَ إِشْهَادٍ فُسِخَ النِّكَاحُ كَذَلِكَ، وَحُدَّا فِي الْحَالَتَيْنِ، مَا لَمْ يَكُنِ النِّكَاحُ فَاشِيًّا. (1)
وَهُنَاكَ شُرُوطٌ وَتَفْصِيلاَتٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالإِْشْهَادِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ، يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (نِكَاحٌ) .

الإِْشْهَادُ عَلَى الرَّجْعَةِ:
39 - لِلْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ الإِْشْهَادِ عَلَى الرَّجْعَةِ رَأْيَانِ:
أَوَّلُهُمَا: نَدْبُ الإِْشْهَادِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ. وَالإِْشْهَادُ عِنْدَهُمْ يَكُونُ عَلَى صِيغَةِ الرَّجْعَةِ أَوِ الإِْقْرَارِ بِهَا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَثَانِيهِمَا: وُجُوبُ الإِْشْهَادِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ بُكَيْرٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةً عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَاسْتَدَل الْفَرِيقَانِ عَلَى أَنَّ الإِْشْهَادَ مَطْلُوبٌ بِقَوْل اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} . (2)
فَحَمَل الْفَرِيقُ الأَْوَّل الأَْمْرَ عَلَى الاِسْتِحْبَابِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الرَّجْعَةَ لاَ تَفْتَقِرُ إِلَى قَبُولٍ، فَلَمْ تَفْتَقِرْ إِلَى شَهَادَةٍ، كَسَائِرِ حُقُوقِ الزَّوْجِ، وَلأَِنَّهَا اسْتِدَامَةٌ لِلنِّكَاحِ وَهَذَا لاَ يَتَطَلَّبُ الإِْشْهَادَ. وَحَمَل الْفَرِيقُ الثَّانِي الأَْمْرَ عَلَى الْوُجُوبِ وَهُوَ ظَاهِرُ الأَْمْرِ. (3)
__________
(1) الحطاب والتاج والإكليل 3 / 408 - 410، وجواهر الإكليل 1 / 275.
(2) سورة الطلاق / 2.
(3) المغني 7 / 283 ط الرياض.

(5/47)


ثُمَّ مَنْ أَوْجَبَ الإِْشْهَادَ إِذَا رَاجَعَهَا بِدُونِهِ هَل تَصِحُّ الرَّجْعَةُ؟
مَنِ اعْتَبَرَ الإِْشْهَادَ شَرْطًا قَال: لاَ تَصِحُّ، وَمَنِ اعْتَبَرَهُ وَاجِبًا دِيَانَةً فَقَطْ صَحَّتِ الرَّجْعَةُ مَعَ الإِْثْمِ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مَبْحَثِ الرَّجْعَةِ.

إِشْهَادُ الْمُنْفِقِ عَلَى الصَّغِيرِ:
40 - نَفَقَةُ الصَّغِيرِ فِي مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِلاَّ فَيُلْزَمُ بِالإِْنْفَاقِ عَلَيْهِ مَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ شَرْعًا، وَهَذَا لاَ يَحْتَاجُ إِلَى إِشْهَادٍ.
وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَأَنْفَقَ عَلَيْهِ وَلِيُّهُ أَوْ وَصِيُّهُ مِنْ مَالِهِمَا بِقَصْدِ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ، فَلاَ بُدَّ لِجَوَازِ الرُّجُوعِ عَلَى الصَّغِيرِ فِي مَالِهِ مِنَ الإِْشْهَادِ.
وَكَذَلِكَ إِنْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ مَنْ لاَ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ.
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (نَفَقَةٌ) .

الإِْشْهَادُ بِالإِْنْفَاقِ عَلَى مَنْ لاَ تَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ لِيَرْجِعَ بِمَا أَنْفَقَ:
41 - مَنْ أَنْفَقَ عَلَى مَنْ لاَ تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ بِقَصْدِ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ النَّفَقَةُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُشْهِدَ حَتَّى يَرْجِعَ بِمَا يُنْفِقُ، وَذَلِكَ إِنْ عَجَزَ عَنِ اسْتِئْذَانِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ أَوِ الْحَاكِمُ. وَهَذَا هُوَ رَأْيُ الشَّافِعِيَّةِ، وَإِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ، وَاكْتَفَى الْمَالِكِيَّةُ بِيَمِينِ الْمُنْفِقِ: أَنَّهُ أَنْفَقَ لِيَرْجِعَ. وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ قَيِّمَ الْوَقْفِ إِذَا أَنْفَقَ عَلَى الْوَقْفِ مِنْ مَالِهِ بِقَصْدِ الرُّجُوعِ فَلاَ بُدَّ مِنَ الإِْشْهَادِ. وَيُمْكِنُ التَّخْرِيجُ عَلَى هَذِهِ عِنْدَهُمْ فِيمَا

(5/47)


يُشْبِهُ الْوَقْفَ. (1)
وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي (الْوَقْفِ الْوَدِيعَةِ وَالرَّهْنِ وَالنَّفَقَةِ وَاللُّقَطَةِ وَاللَّقِيطِ) .

الإِْشْهَادُ عَلَى الْحَائِطِ الْمَائِل لِلضَّمَانِ:
42 - إِذَا سَقَطَ الْحَائِطُ الْمَائِل، فَتَلِفَ بِسُقُوطِهِ شَيْءٌ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لاَ يَضْمَنُ صَاحِبُ الْحَائِطِ، إِلاَّ إِذَا طُلِبَ إِلَيْهِ إِزَالَةُ الْحَائِطِ قَبْل سُقُوطِهِ، وَأَشْهَدُوا عَلَى ذَلِكَ. وَيَتَحَقَّقُ الطَّلَبُ مِنْ أَيِّ عَاقِلٍ وَلَوْ صَبِيًّا. وَيَكُونُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ إِنْ كَانَ الضَّرَرُ وَاقِعًا عَلَى مَال الْغَيْرِ، وَيَكُونُ الضَّمَانُ فِي هَلاَكِ النَّفْسِ عَلَى عَاقِلَةِ صَاحِبِ الْحَائِطِ إِلْحَاقًا بِالْقَتْل الْخَطَأِ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الإِْشْهَادَ لاَ يَتَحَقَّقُ إِلاَّ مِنَ الْقَاضِي أَوْ مِمَّنْ لَهُ النَّظَرُ فِي مِثْل هَذِهِ الأُْمُورِ كَالْبَلَدِيَّةِ الآْنَ. وَأَمَّا طَلَبُ النَّاسِ وَإِشْهَادُهُمْ فَلاَ عِبْرَةَ بِهِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ إِلاَّ إِذَا كَانَ فِي مَكَانٍ لَيْسَ بِهِ قَاضٍ وَلاَ مَسْئُولٌ عَنْ مِثْل هَذَا. وَيَكُونُ الضَّمَانُ عِنْدَهُمْ فِي الْمَال وَالنَّفْسِ عَلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ إِنْ قَصَّرَ.
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لاَ يُوجِبُونَ الإِْشْهَادَ عَلَى الطَّلَبِ، وَإِنَّمَا يَكْفِي عِنْدَهُمُ الطَّلَبُ وَحْدَهُ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ.
وَأَمَّا شُرُوطُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَيَرْجِعُ إِلَيْهَا فِي مَوْضُوعِ الضَّمَانِ وَالْجِنَايَاتِ (2) .
__________
(1) البجيرمي على الخطيب 4 / 68، 70، وتصحيح الفروع 2 / 599، 600، والدسوقي 4 / 124، 125، وتحفة الفقهاء 3 / 46.
(2) تبصرة الحكام 2 / 347، وابن عابدين 5 / 384، 385، وفتح القدير 8 / 342، والروضة 9 / 321، والمغني 7 / 827 وما بعدها، والهندية 3 / 340، والخرشي 7 / 217. وترى اللجنة أن ما ذكر من اشتراط إشهاد القاضي إنما هو أمر تنظيمي، ولولي الأمر أن يتخذ من الإجراءات ما يدفع الضرر عن العامة، مراعيا في ذلك ظروف العصر.

(5/48)


إِشْهَارٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْشْهَارُ: مَصْدَرُ أَشْهَرَ بِمَعْنَى أَعْلَنَ، وَالشَّهْرُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الإِْعْلاَنِ وَالإِْظْهَارِ. يُقَال: شَهَّرْتُهُ بَيْنَ النَّاسِ وَشَهَرْتُهُ. أَيْ أَبْرَزْتُهُ وَأَوْضَحْتُهُ. (1)
أَمَّا الإِْشْهَارُ فَغَيْرُ مَنْقُولٍ لُغَةً - كَمَا قَال الْفَيُّومِيُّ - وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اسْتَعْمَلُوهُ - وَلاَ سِيَّمَا الْمَالِكِيَّةُ - بِمَعْنَى الإِْعْلاَنِ.

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - يَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ الإِْشْهَارَ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ. مِنْهَا الْمَطْلُوبُ: كَإِشْهَارِ النِّكَاحِ، وَالْحَجْرِ، وَالْحُدُودِ، وَالْعُقُودِ وَالْعُهُودِ: وَمِنْهَا الْمَمْنُوعُ: كَإِشْهَارِ الْفَاحِشَةِ. فَفِي إِشْهَارِ النِّكَاحِ: يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ بِأَيِّ شَيْءٍ مُتَعَارَفٍ كَإِطْعَامِ الطَّعَامِ عَلَيْهِ، أَوْ إِحْضَارِ جَمْعٍ مِنَ النَّاسِ زِيَادَةً عَلَى الشَّاهِدَيْنِ، أَوْ بِالضَّرْبِ فِيهِ بِالدُّفِّ حَتَّى يَشْتَهِرَ وَيُعْرَفَ (2) لِقَوْلِهِ
__________
(1) المصباح المنير، ومعجم مقاييس اللغة، والصحاح مادة: (شهر) ، والدسوقي 2 / 216.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 261 ط بولاق، وحاشية الدسوقي 2 / 217 ط دار الفكر، وحاشية الشرواني 7 / 227، والمغني 6 / 537 ط الرياض.

(5/48)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَظْهِرُوا النِّكَاحَ (1) وَفِي لَفْظٍ: أَعْلِنُوا النِّكَاحَ (2) .

مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - تُبْحَثُ مَسْأَلَةُ إِشْهَارِ النِّكَاحِ فِي (النِّكَاحِ) عِنْدَ الْحَدِيثِ عَنْ أَرْكَانِهِ أَوِ الْوَلِيمَةِ فِيهِ. وَمَسْأَلَةُ إِشْهَارِ الصَّلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ فِي، (الصَّلاَةِ) عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ السُّنَنِ وَالنَّوَافِل. وَإِشْهَارُ قَرَارِ الْحَجْرِ فِي (الْحَجْرِ) عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ مُعَامَلَةِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ.

أَشْهُرُ الْحَجِّ

تَحْدِيدُ الْفُقَهَاءِ لأَِشْهُرِ الْحَجِّ:
1 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ هِيَ: شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، لأَِنَّ قَوْله تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (3) مَقْصُودٌ بِهِ
__________
(1) حديث: " أظهروا النكاح ". أخرجه الديلمي في مسند الفردوس من حديث أم سلمة رضي الله عنها. قال المناوي: وفيه من لا يعرف، لكن له شواهد تجبره (فيض القدير 1 / 549 ط المكتبة التجارية) .
(2) حديث: " أعلنوا النكاح ". أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم من حديث عبد الله بن الزبير مرفوعا وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي. وقال الهيثمي: رجال أحمد ثقات (موارد الظمآن ص 313 ط دار الكتب العلمية، والمستدرك 2 / 183 نشر دار الكتاب العربي، وفيض القدير 2 / 10 ط المكتبة التجارية، وشرح السنة للبغوي 9 / 47 نشر المكتب الإسلامي) .
(3) سورة البقرة / 197.

(5/49)


وَقْتُ الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ، لأَِنَّ الْحَجَّ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى أَشْهُرٍ، فَدَل عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ وَقْتَ الإِْحْرَامِ. وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْعَبَادِلَةِ الأَْرْبَعَةِ: ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَمْرٍو، وَابْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَلأَِنَّ الْحَجَّ يَفُوتُ بِمُضِيِّ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَمَعَ بَقَاءِ الْوَقْتِ لاَ يَتَحَقَّقُ الْفَوَاتُ، وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الآْيَةِ شَهْرَانِ وَبَعْضُ الثَّالِثِ لاَ كُلُّهُ، لأَِنَّ بَعْضَ الشَّهْرِ يَتَنَزَّل مَنْزِلَةَ كُلِّهِ. (1) وَهَذَا التَّحْدِيدُ يَدْخُل فِيهِ يَوْمُ النَّحْرِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالْحَنَفِيَّةِ غَيْرِ أَبِي يُوسُفَ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ لَيْسَ مِنْهَا يَوْمُ النَّحْرِ، بَل عَلَى وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ تَدْخُل لَيْلَةُ النَّحْرِ كَذَلِكَ، لأَِنَّ اللَّيَالِيَ تَبَعٌ لِلأَْيَّامِ، وَيَوْمُ النَّحْرِ لاَ يَصِحُّ فِيهِ الإِْحْرَامُ، فَكَذَا لَيْلَتُهُ.
وَالْمَالِكِيَّةُ - وَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ هِيَ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ - إِلاَّ أَنَّ مُرَادَهُمْ بِذَلِكَ أَنَّ وَقْتَ الإِْحْرَامِ يَبْدَأُ مِنْ شَوَّالٍ إِلَى فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ، أَمَّا الإِْحْلاَل مِنَ الْحَجِّ فَيَمْتَدُّ إِلَى آخِرِ ذِي الْحِجَّةِ (2) .

ثَمَرَةُ الْخِلاَفِ فِي تَحْدِيدِ أَشْهُرِ الْحَجِّ:
ثَمَرَةُ الْخِلاَفِ فِي تَحْدِيدِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ رُشْدٍ، هِيَ جَوَازُ تَأْخِيرِ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى آخِرِ ذِي الْحِجَّةِ، فَإِنْ أَخَّرَهُ إِلَى
__________
(1) تفسير القرطبي 2 / 405.
(2) ابن عابدين 2 / 154 ط بولاق ثالثة، والهداية 1 / 159 ط المكتبة الإسلامية، وشرح منتهى الإرادات 2 / 11 ط دار الفكر، ومغني المحتاج 1 / 471 ط مصطفى الحلبي، والمهذب 1 / 207 ط دار المعرفة بيروت، وجواهر الإكليل 1 / 168 ط دار المعرفة بيروت.

(5/49)


الْمُحَرَّمِ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ أَخَّرَهُ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ كَانَ عَلَيْهِ دَمٌ.
أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَإِنَّ آخِرَهُ غَيْرُ مُوَقَّتٍ، بَل يَبْقَى مَا دَامَ حَيًّا وَلاَ دَمَ عَلَيْهِ. (1)

عَلاَقَةُ أَشْهُرِ الْحَجِّ بِالأَْشْهُرِ الْحُرُمِ:
2 - تَظَاهَرَتِ الأَْخْبَارُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الأَْشْهُرَ الْحُرُمَ هِيَ: رَجَبٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَهُوَ قَوْل عَامَّةِ أَهْل التَّأْوِيل. (2) وَعَلَى ذَلِكَ فَأَشْهُرُ الْحَجِّ تَشْتَرِكُ مَعَ الأَْشْهُرِ الْحُرُمِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَعَشْرٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، أَمَّا شَوَّالٌ فَهُوَ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَقَطْ، وَرَجَبٌ وَبَقِيَّةُ ذِي الْحِجَّةِ مِنَ الأَْشْهُرِ الْحُرُمِ فَقَطْ.

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - تَحْدِيدُ أَشْهُرِ الْحَجِّ مَقْصُودٌ بِهِ أَنَّ الإِْحْرَامَ بِالْحَجِّ يَتِمُّ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَلِذَلِكَ يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ كَرَاهَةَ الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ هَذَا الْوَقْتِ، وَالْمُرَادُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِالْكَرَاهَةِ كَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ، وَبِذَلِكَ صَرَّحَ الْقُهُسْتَانِيُّ. أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَلاَ يَنْعَقِدُ عِنْدَهُمُ الإِْحْرَامُ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ هَذَا الْوَقْتِ، وَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ عُمْرَةً، لأَِنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ مُؤَقَّتَةٌ، فَإِذَا عَقَدَهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا انْعَقَدَ غَيْرُهَا مِنْ جِنْسِهَا، كَصَلاَةِ الظُّهْرِ إِذَا أَحْرَمَ بِهَا قَبْل الزَّوَال فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ إِحْرَامُهُ بِالنَّفْل.
__________
(1) منح الجليل 1 / 492، وبداية المجتهد 1 / 278، وابن عابدين 2 / 183، 184، والمجموع 8 / 224، والإفصاح ص 272.
(2) الطبري 10 / 88.

(5/50)


مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
4 - أَشْهُرُ الْحَجِّ تَتِمُّ فِيهَا مَنَاسِكُهُ بِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إِحْرَامٍ وَطَوَافٍ وَسَعْيٍ وَوُقُوفٍ. ر: (حَجٌّ - طَوَافٌ - سَعْيٌ - إِحْرَامٌ) .

الأَْشْهُرُ الْحُرُمُ

الْمُرَادُ بِالأَْشْهُرِ الْحُرُمِ:
1 - الأَْشْهُرُ الْحُرُمُ (1) هِيَ الَّتِي وَرَدَ ذِكْرُهَا فِي قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} (2) .
وَهُنَّ: رَجَبُ مُضَرَ (3) ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمِ.
وَهَذَا التَّحْدِيدُ تَظَاهَرَتْ بِهِ الأَْخْبَارُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ قَال: إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ: ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ، ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ. وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ (4) .
__________
(1) المصباح مادة: (شهر) .
(2) سورة التوبة / 36.
(3) نسبة إلى قبيلة مضر، وإنما قيل رجب مضر، لأنهم كانوا أشد تعظيما له من غيرهم.
(4) حديث: " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض. . . . ". أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي بكرة مرفوعا (فتح الباري 8 / 324 ط السلفية، وصحيح مسلم 3 / 1305 ط الحلبي) .

(5/50)


وَرُوِيَ مِثْل ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَتَادَةَ، وَهُوَ أَيْضًا قَوْل عَامَّةِ أَهْل التَّأْوِيل. (1)

الْمُقَارَنَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَشْهُرِ الْحَجِّ:
2 - ذِكْرُ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَرَدَ فِي قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} . (2) وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي ذَلِكَ. فَقِيل: إِنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ كُلُّهُ، يُرِيدُونَ بِذَلِكَ أَنَّهُنَّ أَشْهُرُ الْحَجِّ، لاَ أَشْهُرُ الْعُمْرَةِ، وَأَنَّ أَشْهُرَ الْعُمْرَةِ سِوَاهُنَّ مِنْ شُهُورِ السَّنَةِ. وَقِيل: يَعْنِي بِالأَْشْهُرِ الْمَعْلُومَاتِ شَوَّالاً وَذَا الْقَعْدَةِ وَعَشْرًا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ.
وَقَدْ صَوَّبَ الطَّبَرِيُّ ذَلِكَ الْقَوْل، لأَِنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ مِيقَاتِ الْحَجِّ، وَلاَ عَمَل لِلْحَجِّ يُعْمَل بَعْدَ انْقِضَاءِ أَيَّامِ مِنًى (3)
وَعَلَى ذَلِكَ فَبَيْنَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَالأَْشْهُرِ الْحُرُمِ بَعْضُ التَّدَاخُل، إِذْ أَنَّ ذَا الْقَعْدَةِ وَعَشْرًا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَالأَْشْهُرِ الْحُرُمِ، أَمَّا شَوَّالٌ فَهُوَ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَقَطْ، وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبٌ مِنَ الأَْشْهُرِ الْحُرُمِ فَقَطْ.

فَضْل الأَْشْهُرِ الْحُرُمِ:
3 - الأَْشْهُرُ الْحُرُمُ فَضَّلَهَا اللَّهُ عَلَى سَائِرِ شُهُورِ الْعَامِ، وَشَرَّفَهُنَّ عَلَى سَائِرِ الشُّهُورِ. فَخَصَّ الذَّنْبَ فِيهِنَّ بِالتَّعْظِيمِ، كَمَا خَصَّهُنَّ بِالتَّشْرِيفِ، وَذَلِكَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى} (4) قَال ابْنُ عَبَّاسٍ: خَصَّ اللَّهُ مِنْ شُهُورِ
__________
(1) الطبري 10 / 88.
(2) البقرة / 197.
(3) الطبري 2 / 150.
(4) البقرة / 238.

(5/51)


الْعَامِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَجَعَلَهُنَّ حُرُمًا، وَعَظَّمَ حُرُمَاتِهِنَّ، وَجَعَل الذَّنْبَ فِيهِنَّ وَالْعَمَل الصَّالِحَ وَالأَْجْرَ أَعْظَمَ، وَعَنْ قَتَادَةَ: الظُّلْمُ فِي الأَْشْهُرِ الْحُرُمِ أَعْظَمُ خَطِيئَةً وَوِزْرًا مِنَ الظُّلْمِ فِيمَا سِوَاهَا، وَإِنْ كَانَ الظُّلْمُ فِي كُل حَالٍ عَظِيمًا، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُعَظِّمُ مِنْ أَمْرِهِ مَا شَاءَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اصْطَفَى صَفَايَا مِنْ خَلْقِهِ، اصْطَفَى مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً، وَمِنَ النَّاسِ رُسُلاً، وَاصْطَفَى مِنَ الْكَلاَمِ ذِكْرَهُ، وَاصْطَفَى مِنَ الأَْرْضِ الْمَسَاجِدَ، وَاصْطَفَى مِنَ الشُّهُورِ رَمَضَانَ وَالأَْشْهُرَ الْحُرُمَ، وَاصْطَفَى مِنَ الأَْيَّامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَاصْطَفَى مِنَ اللَّيَالِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ. قَال قَتَادَةُ: فَعَظِّمُوا مَا عَظَّمَ اللَّهُ، فَإِنَّمَا تُعَظَّمُ الأُْمُورُ بِمَا عَظَّمَهَا اللَّهُ عِنْدَ أَهْل الْفَهْمِ وَأَهْل الْعَقْل (1) .

مَا تَخْتَصُّ بِهِ مِنَ الأَْحْكَامِ:

أ - الْقِتَال فِي الأَْشْهُرِ الْحُرُمِ:
4 - كَانَ الْقِتَال فِي الأَْشْهُرِ الْحُرُمِ مُحَرَّمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْل الإِْسْلاَمِ، فَكَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تُعَظِّمُهُنَّ وَتُحَرِّمُ الْقِتَال فِيهِنَّ، حَتَّى لَوْ لَقِيَ الرَّجُل مِنْهُمْ فِيهِنَّ قَاتِل أَبِيهِ أَوْ أَخِيهِ تَرَكَهُ.
قَال النَّيْسَابُورِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (2) ، أَيْ هُوَ الدِّينُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيل عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقَدْ تَوَارَثَتْهُ الْعَرَبُ مِنْهُمَا فَكَانُوا يُحَرِّمُونَ الْقِتَال فِيهَا. (3) ثُمَّ جَاءَ الإِْسْلاَمُ يُؤَيِّدُ حُرْمَةَ الْقِتَال فِي الأَْشْهُرِ الْحُرُمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ
__________
(1) الطبري 10 / 89.
(2) سورة التوبة / 36.
(3) النيسابوري بهامش الطبري 10 / 79.

(5/51)


قِتَالٍ فِيهِ قُل قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيل اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْل} (1) .

ب - هَل نُسِخَ الْقِتَال فِي الأَْشْهُرِ الْحُرُمِ؟
5 - اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي الآْيَةِ الَّتِي أَثْبَتَتْ حُرْمَةَ الْقِتَال فِي الأَْشْهُرِ الْحُرُمِ، وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُل قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} هَل هُوَ مَنْسُوخٌ أَمْ ثَابِتُ الْحُكْمِ؟
قَال بَعْضُهُمْ: إِنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ ثَابِتٌ، لاَ يَحِل الْقِتَال لأَِحَدٍ فِي الأَْشْهُرِ الْحُرُمِ، لأَِنَّ اللَّهَ جَعَل الْقِتَال فِيهِ كَبِيرًا.
وَقَال بَعْضُهُمْ: هُوَ مَنْسُوخٌ بِقَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} (2) وَرَدَ ذَلِكَ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَعَطَاءِ بْنِ مَيْسَرَةَ.
قَال عَطَاءُ بْنُ مَيْسَرَةَ: أُحِل الْقِتَال فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فِي بَرَاءَةٌ قَوْله تَعَالَى: {فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} ، يَقُول: فِيهِنَّ وَفِي غَيْرِهِنَّ.
وَعَنْ الزُّهْرِيِّ قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بَلَغَنَا يُحَرِّمُ الْقِتَال فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ ثُمَّ أُحِل بَعْدُ (3) . قَال
__________
(1) سورة البقرة / 217.
(2) سورة التوبة / 36.
(3) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا يحرم القتال في الشهر الحرام ثم أحل بعد. . . " أورده الطبري عند تفسير قوله تعالى: (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه) . وقال أحمد محمد شاكر عند تخريجه: هذا حديث مرسل، مروي بإسنادين عن اثنين من التابعين

(5/52)


الطَّبَرِيُّ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْل فِي ذَلِكَ مَا قَال عَطَاءُ بْنُ مَيْسَرَةَ مِنْ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ قِتَال الْمُشْرِكِينَ فِي الأَْشْهُرِ الْحُرُمِ مَنْسُوخٌ (1) بِقَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} . (2) وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُل قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} لِتَظَاهُرِ الأَْخْبَارِ بِذَلِكَ عَنْ رَسُول اللَّهِ.

تَغْلِيظُ الدِّيَاتِ فِي الأَْشْهُرِ الْحُرُمِ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَغْلِيظِ دِيَةِ الْقَتْل فِي الأَْشْهُرِ الْحُرُمِ أَوْ عَدَمِ تَغْلِيظِهَا، فَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يَرَوْنَ تَغْلِيظَ الدِّيَةِ لِلْقَتْل فِي الأَْشْهُرِ الْحُرُمِ. (3) وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالإِْمَامِ مَالِكٍ لاَ تُغَلَّظُ الدِّيَةُ.
وَمَنْ قَال بِالتَّغْلِيظِ اخْتَلَفَ فِي صِفَتِهَا، فَقِيل: إِنَّهَا ثَلاَثُونَ حِقَّةً وَثَلاَثُونَ جَذَعَةً وَأَرْبَعُونَ خِلْفَةً، وَقِيل غَيْرُ ذَلِكَ، وَيُفَصِّل الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي الدِّيَاتِ.

إِصْبَعٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْصْبَعُ: مَعْرُوفَةٌ لُغَةً وَعُرْفًا.
__________
(1) الطبري 2 / 206.
(2) سورة التوبة / 36.
(3) نهاية المحتاج 7 / 300، والمغني 9 / 499، والمدونة 16 / 107، والميزان للشعراني 2 / 149.

(5/52)


الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
أ - تَخْلِيل أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ:
2 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ تَخْلِيل أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ مَطْلُوبٌ، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ مَسْنُونٌ فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَالْمَالِكِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّهُ وَاجِبٌ فِي الْيَدَيْنِ. وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِهِ فِي الرِّجْلَيْنِ. فَقَال جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ بِالْوُجُوبِ، وَقَال الآْخَرُونَ بِأَنَّهُ مَسْنُونٌ فِي الرِّجْلَيْنِ، وَاَلَّذِينَ فَرَّقُوا يَرَوْنَ أَنَّ التَّخْلِيل فِي أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ فِيهِ نَوْعٌ مِنَ الْعُسْرِ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى الْوُجُوبِ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا تَوَضَّأْتَ فَخَلِّل بَيْنَ أَصَابِعِ يَدَيْكَ وَرِجْلَيْكَ. (1)
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ عَلَى السُّنِّيَّةِ بِأَنَّ آيَةَ الْوُضُوءِ وَرَدَتْ مُطْلَقَةً عَنِ التَّخْلِيل (2) .

كَيْفِيَّةُ التَّخْلِيل:
3 - يَكْفِي فِي تَحَقُّقِ التَّخْلِيل أَيْ كَيْفِيَّةٍ يُخَلِّل بِهَا بَيْنَ الأَْصَابِعِ، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ تَوَسَّعَ فِي بَيَانِ
__________
(1) حديث: " إذا توضأت فخلل. . . . " أخرجه الترمذي - واللفظ له - وابن ماجه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. قال ابن حجر والشوكاني: فيه صالح مولى التوأمة، وهو ضعيف، ولكن الحديث حسنه البخاري، لأنه من رواية موسى بن عقبة عن وسنن ابن ماجه بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 1 / 153 ط عيسى الحلبي، والتلخيص الحبير 1 / 94 ط شركة الطباعة الفنية المتحدة، ونيل الأوطار 1 / 190 ط دار الجيل) .
(2) المحلى على المنهاج بحاشية القليوبي 1 / 54 ط مصطفى الحلبي، وابن عابدين 1 / 80 ط بولاق الأولى، والمغني 1 / 108 ط الرياض، والخرشي وحاشية العدوي 1 / 123، 126 نشر دار صادر، والزرقاني على خليل 1 / 57 نشر دار الفكر.

(5/53)


الْكَيْفِيَّةِ، فَقَالُوا: إِنَّ تَخْلِيل الأَْصَابِعِ فِي الْيَدَيْنِ يَكُونُ بِتَشْبِيكِ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ، مَعَ وَضْعِ بَاطِنِ الْيُسْرَى عَلَى ظَاهِرِ الْيُمْنَى وَالْعَكْسُ، وَفِي الرِّجْلَيْنِ يُخَلِّل بِخِنْصَرِ يَدِهِ الْيُمْنَى، مُبْتَدِئًا بِخِنْصَرِ رِجْلِهِ الْيُمْنَى مُنْتَهِيًا بِإِبْهَامِهَا، وَفِي الْيُسْرَى يَبْتَدِئُ بِإِبْهَامِهَا مُنْتَهِيًا بِخِنْصَرِهَا. (1)

ب - وَضْعُ الأَْصَابِعِ فِي الأُْذُنَيْنِ عِنْدَ الأَْذَانِ:
4 - يُسَنُّ أَنْ يَجْعَل الْمُؤَذِّنُ أُصْبُعَيْهِ فِي صِمَاخَيْ أُذُنَيْهِ عِنْدَ الأَْذَانِ، لأَِنَّهُ أَجْمَعُ لِلصَّوْتِ، (2) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبِلاَلٍ: اجْعَل إِصْبَعَيْكَ فِي أُذُنَيْكَ فَإِنَّهُ أَرْفَعُ لِصَوْتِكَ. (3)

ج - مَا يَتَعَلَّقُ بِالأَْصَابِعِ فِي الصَّلاَةِ:
5 - يُكْرَهُ فِي الصَّلاَةِ تَشْبِيكُ الأَْصَابِعِ، وَفَرْقَعَتُهَا، وَتَحْرِيكُهَا إِلاَّ عِنْدَ التَّشَهُّدِ، فَإِنَّهُ يَرْفَعُ السَّبَّابَةَ عِنْدَ النَّفْيِ، وَيَضَعُهَا عِنْدَ الإِْثْبَاتِ. (4)
__________
(1) المحلي على المنهاج 1 / 54، وابن عابدين 1 / 80، والزرقاني على خليل 1 / 57، وكشاف القناع 1 / 102 نشر مكتبة النصر الحديثة.
(2) ابن عابدين 1 / 260، والمجموع 3 / 108 نشر المكتبة السلفية، والمغني 1 / 422، 423.
(3) حديث: " اجعل إصبعيك في أذنيك فإنه أرفع لصوتك " أخرجه ابن ماجه والحاكم من حديث سعد بن عائذ، مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولفظ ابن ماجه: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلالا أن يجعل إصبعيه في أذنيه، وقال: إنه أرفع لصوتك ". والحديث سكت عل سنن ابن ماجه بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 1 / 236 ط عيسى الحلبي، والمستدرك 3 / 607، 608 نشر دار الكتاب العربي.
(4) جواهر الإكليل 1 / 52، 54، وشرح الروض 1 / 183 ط الميمنية، والمغني 2 / 10 ط الرياض، وفتح القدير 1 / 220 ط بولاق، والقليوبي 1 / 164.

(5/53)


د - قَطْعُ الأَْصَابِعِ:
6 - قَطْعُ الإِْصْبَعِ الأَْصْلِيَّةِ إِنْ كَانَ عَمْدًا فَفِيهِ الْقِصَاصُ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَفِيهِ الدِّيَةُ، وَهِيَ عُشْرُ دِيَةِ النَّفْسِ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ زَائِدَةً فَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ فِي قُوَّةِ الإِْصْبَعِ الأَْصْلِيَّةِ فَفِيهَا دِيَةُ الإِْصْبَعِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْجِنَايَاتِ وَالدِّيَاتِ (1) .

إِصْرَارٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْصْرَارُ لُغَةً: مُدَاوَمَةُ الشَّيْءِ وَمُلاَزَمَتُهُ وَالثُّبُوتُ عَلَيْهِ (2)
وَاصْطِلاَحًا: الإِْصْرَارُ: هُوَ الْعَزْمُ بِالْقَلْبِ عَلَى الأَْمْرِ وَعَلَى تَرْكِ الإِْقْلاَعِ عَنْهُ. (3) وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَل الإِْصْرَارُ فِي الشَّرِّ وَالإِْثْمِ وَالذُّنُوبِ. (4)

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - الإِْصْرَارُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ جَهْلٍ، أَوْ عَنْ عِلْمٍ. فَإِذَا كَانَ الإِْصْرَارُ عَنْ جَهْلٍ فَقَدْ يُعْذَرُ مَنْ لاَ يَعْلَمُ حُرْمَةَ الْفِعْل الَّذِي أَصَرَّ عَلَيْهِ. أَمَّا إِذَا كَانَ عَنْ عِلْمٍ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 371، 374، وجواهر الإكليل 2 / 270، والقليوبي 4 / 147، والمغني 8 / 35، 36.
(2) المصباح المنير ولسان العرب مادة (صرر) .
(3) القرطبي 4 / 211، والتعريفات للجرجاني.
(4) لسان العرب مادة (صرر) .

(5/54)


بِالْحُكْمِ فَإِنَّ الْفَاعِل يَكُونُ آثِمًا إِذَا كَانَ عَلَى مَعْصِيَةٍ، وَيَتَضَاعَفُ إِثْمُهُ بِمِقْدَارِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ جُرْمٍ، لأَِنَّ الإِْصْرَارَ عَلَى الصَّغِيرَةِ كَبِيرَةٌ، وَالإِْصْرَارُ عَلَى الْكَبَائِرِ يُؤَدِّي إِلَى عِظَمِ ذَنْبِهَا وَزِيَادَةِ وِزْرِهَا. (1) وَأَمَّا إِذَا كَانَ الإِْصْرَارُ عَلَى غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ، كَالإِْصْرَارِ عَلَى عَدَمِ إِفْشَاءِ أَسْرَارِ الْمُسْلِمِينَ لِلْعَدُوِّ رَغْمَ مَا يُلاَقِيهِ مِنْ عَنَتِ الأَْعْدَاءِ.
وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا، كَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى فِعْل الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الْمَعَاصِي.
أَمَّا الإِْصْرَارُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ دُونَ تَحَقُّقِهَا فَفِيهِ رَأْيَانِ:
الأَْوَّل: يُؤَاخَذُ بِهِ الإِْنْسَانُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} ، (2) وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِل وَالْمَقْتُول فِي النَّارِ. قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ هَذَا الْقَاتِل فَمَا بَال الْمَقْتُول، قَال: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْل صَاحِبِهِ. (3)
الثَّانِي: لاَ يُؤَاخَذُ بِهِ الإِْنْسَانُ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ وَاحِدَةٌ (4)
__________
(1) طهارة القلوب للدريني ص 112، والقليوبي 2 / 94، والفخر الرازي 9 / 11.
(2) سورة الحج / 25.
(3) حديث: " إذا التقى المسلمان. . . . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 85 ط السلفية) وأخرجه مسلم (4 / 2213 - 2214 ط الحلبي) بلفظ مقارب.
(4) حديث: " من هم بسيئة. . . . " أخرجه البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا بلفظ: " من هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة " (فتح الباري 11 / 323 ط السلفية) .

(5/54)


وَقَدْ ضَعَّفَ الْقُرْطُبِيُّ هَذَا الرَّأْيَ، وَحَمَل الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ مَعْنَى فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَلَمْ يَعْزِمْ عَلَى عَمَلِهَا. (1)

مُبْطِلاَتُ الإِْصْرَارِ:
3 - أ - يَبْطُل الإِْصْرَارُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ بِالتَّوْبَةِ، حَيْثُ لاَ إِصْرَارَ مَعَ التَّوْبَةِ، لِمَا رُوِيَ: مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ، وَإِنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً (2) وَلِلْقَاعِدَةِ الْمَعْرُوفَةِ: " لاَ كَبِيرَةَ مَعَ الاِسْتِغْفَارِ، وَلاَ صَغِيرَةَ مَعَ الإِْصْرَارِ ".
ب - يَبْطُل الإِْصْرَارُ بِتَرْكِ الْمُصَرِّ عَلَيْهِ وَاتِّبَاعِ غَيْرِهِ. (3)

مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
4 - أ - قَرَّرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الإِْصْرَارَ عَلَى الصَّغَائِرِ مُسْقِطٌ لِلْعَدَالَةِ - انْظُرْ (شَهَادَةٌ، وَتَوْبَةٌ) .
ب - إِصْرَارُ الْمُرْتَدِّ بَعْدَ اسْتِتَابَتِهِ يُوجِبُ الْقَتْل، لِحَدِيثِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ بَدَّل دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ (4) اُنْظُرْ (رِدَّةٌ) .
ج - إِصْرَارُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى السُّكُوتِ عَلَى جَوَابِ الدَّعْوَى يُعَدُّ مِنْهُ إِنْكَارًا وَنُكُولاً. انْظُرْ (دَعْوَى) (5) .
__________
(1) القرطبي 4 / 215.
(2) حديث: " ما أصر من استغفر. . . . " أخرجه أبو داود (2 / 177 - ط عزت عبيد دعاس) والترمذي (5 / 558 ط الحلبي) . وقال الترمذي: هذا حديث غريب، وليس إسناده بالقوي.
(3) القرطبي 4 / 211، والنسفي 1 / 183، والشهاب 3 / 64.
(4) حديث: " من بدل دينه فاقتلوه ". أخرجه البخاري (الفتح 12 / 267 ط السلفية) .
(5) ابن عابدين 3 / 303، 4 / 376، 4 / 430 ط بولاق، وقليوبي 4 / 177، 319، 338، ومسلم الثبوت 2 / 143، والخرشي 7 / 175، وجواهر الإكليل 2 / 278، والمغني 6 / 167، 674، 8 / 124، 9 / 64، 66، 271 ط الرياض.

(5/55)


اصْطِيَادٌ

انْظُرْ: صَيْدٌ

أَصْلٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْصْل يُجْمَعُ عَلَى أُصُولٍ. (1)
وَقَدْ كَثُرَ اسْتِعْمَال الأَْصْل، فَاسْتُعْمِل فِي كُل مَا يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ غَيْرُهُ وَيَبْتَنِي عَلَيْهِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَبْتَنِي عَلَيْهِ وَيَتَفَرَّعُ عَنْهُ، فَالأَْبُ أَصْلٌ لِلْوَلَدِ، وَالأَْسَاسُ أَصْلٌ لِلْجِدَارِ، وَالنَّهْرُ أَصْلٌ لِلْجَدْوَل. وَسَوَاءٌ أَكَانَ الاِبْتِنَاءُ حِسِّيًّا كَمَا مُثِّل، أَمْ عَقْلِيًّا كَابْتِنَاءِ الْمَدْلُول عَلَى الدَّلِيل.
2 - وَيُطْلَقُ الأَْصْل فِي الاِصْطِلاَحِ بِمَعَانٍ تَرْجِعُ كُلُّهَا إِلَى اسْتِنَادِ الْفَرْعِ إِلَى أَصْلِهِ وَابْتِنَائِهِ عَلَيْهِ، وَمِنْ تِلْكَ الْمَعَانِي الاِصْطِلاَحِيَّةِ:
(1) الدَّلِيل فِي مُقَابَلَةِ الْمَدْلُول.
(2) الْقَاعِدَةُ الْكُلِّيَّةُ.
__________
(1) اللسان، والقاموس، مادة (أصل) .

(5/55)


(3) الْمُسْتَصْحَبُ، وَهُوَ الْحَالَةُ الْمَاضِيَةُ.
(4) مَا يُقَابِل الأَْوْصَافَ.
(5) وَعَلَى أُصُول الإِْنْسَانِ: أَبِيهِ وَأُمِّهِ، وَأَجْدَادِهِ وَجَدَّاتِهِ وَإِنْ عَلَوْا.
(6) عَلَى الْمُبْدَل مِنْهُ فِي مُقَابَلَةِ الْبَدَل.
(7) وَعَلَى أَصْل الْقِيَاسِ (الْمَحَل الْمَقِيسِ عَلَيْهِ)
(8) وَعَلَى الأُْصُول فِي بَابِ الْبُيُوعِ، وَنَحْوُهَا الأَْشْجَارُ وَالدُّورُ وَنَحْوُ ذَلِكَ فِي مُقَابَلَةِ الثَّمَرَةِ وَالْمَنْفَعَةِ.
(9) وَعَلَى أُصُول الْمَسَائِل فِي الْمِيرَاثِ، يُخْرَجُ مِنْهُ فَرْضُ الْمَسْأَلَةِ أَوْ فُرُوضُهَا بِلاَ كَسْرٍ.
(10) وَعَلَى الأَْصْل فِي بَابِ رِوَايَةِ الأَْخْبَارِ: (الشَّيْخُ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ فِي مُقَابَلَةِ الْفَرْعِ، وَهُوَ الرَّاوِي، أَوِ النُّسْخَةُ الْمَنْقُول مِنْهَا فِي مُقَابَلَةِ النُّسْخَةِ الْمَنْقُولَةِ) .
(11) وَعَلَى أُصُول كُل عِلْمٍ (مَبَادِئُهُ وَالْقَوَاعِدُ الْعَامَّةُ الَّتِي تُسْتَخْدَمُ فِي دِرَاسَتِهِ) .
وَفِيمَا يَلِي بَيَانَ هَذِهِ الأَْنْوَاعِ بِإِيجَازٍ:

أ - الأَْصْل بِمَعْنَى الدَّلِيل:
3 - يُطْلَقُ الأَْصْل بِمَعْنَى الدَّلِيل، (1) كَقَوْل الْفُقَهَاءِ: الأَْصْل فِي وُجُوبِ الْحَجِّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإِْجْمَاعُ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} . (2)
وَالأُْصُول الَّتِي يُسْتَدَل بِهَا فِي عِلْمِ الشَّرِيعَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ هِيَ: الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، وَالسُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ الشَّرِيفَةُ، وَالإِْجْمَاعُ، وَالْقِيَاسُ. وَهُنَاكَ أَدِلَّةٌ مُخْتَلَفٌ
__________
(1) كشاف اصطلاحات الفنون، وشرح مسلم الثبوت 1 / 8 ط بولاق.
(2) سورة آل عمران / 97.

(5/56)


فِيهَا. وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
وَأُصُول الإِْثْبَاتِ: الأَْدِلَّةُ الَّتِي تَقَدَّمَ فِي التَّقَاضِي، مِثْل الْبَيِّنَةِ وَالْيَمِينِ وَالإِْقْرَارِ وَالنُّكُول.

ب - الأَْصْل بِمَعْنَى الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ:
4 - الْقَاعِدَةُ الْكُلِّيَّةُ حُكْمٌ أَكْثَرِيٌّ، يَنْطَبِقُ عَلَى مُعْظَمِ جُزْئِيَّاتِ مَوْضُوعِهَا. (1) وَتُسَمَّى الأَْحْكَامُ الدَّاخِلَةُ فِيهَا فُرُوعَهَا، وَاسْتِخْرَاجُهَا مِنَ الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ تَفْرِيعٌ عَلَيْهَا.
فَقَوْل الْفُقَهَاءِ: " الْيَقِينُ لاَ يَزُول بِالشَّكِّ " أَصْلٌ مِنْ أُصُول الْفِقْهِ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَتْ لاَ تَدْخُل فِي (أُصُول الْفِقْهِ) بِمَعْنَاهُ الْعِلْمِيِّ، كَمَا سَيَأْتِي.
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (قَوَاعِدُ) وَالْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ.

ج - الأَْصْل بِمَعْنَى الْحَالَةِ الْمَاضِيَةِ الْمُسْتَصْحَبَةِ:
5 - يُطْلَقُ الأَْصْل عَلَى الْمُسْتَصْحَبِ، وَهُوَ الْحَالَةُ الْمَاضِيَةُ، فِي مُقَابَلَةِ الْحَالَةِ الطَّارِئَةِ، كَقَوْلِهِمْ: إِذَا شَكَّ فِي الطَّهَارَةِ وَالْحَدَثِ يُسْتَصْحَبُ الأَْصْل. (2)

د - الأَْصْل بِمَعْنَى مَا قَابَل الْوَصْفَ:
6 - مِنْ ذَلِكَ تَفْرِقَةُ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ الْبَاطِل وَالْفَاسِدِ فِي الْمُعَامَلاَتِ، فَمَا كَانَ الْخَلَل فِي أَصْلِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ، وَمَا كَانَ فِي وَصْفِهِ فَهُوَ مُنْعَقِدٌ فَاسِدٌ، وَتَفْصِيلُهُ فِي (بُطْلاَنٌ، وَفَسَادٌ) . (3)

هـ - أُصُول الإِْنْسَانِ:
7 - أُصُول الإِْنْسَانِ هُمْ: أَبُوهُ وَأُمُّهُ وَأَجْدَادُهُ وَجَدَّاتُهُ
__________
(1) الأشباه والنظائر بحاشية الحموي ص 22.
(2) نهاية السول في شرح منهاج الأصول 3 / 121 ط التوفيق الأدبية، والمستصفى 1 / 218 ط بولاق، والكليات لأبي البقاء، والكشاف، وشرح مسلم الثبوت 1 / 8.
(3) شرح مسلم الثبوت 1 / 396، 379 ط بولاق.

(5/56)


مِنَ الطَّرَفَيْنِ. وَسُمُّوا بِذَلِكَ لأَِنَّهُ فَرْعٌ لَهُمْ. وَيُقَال لِلأُْصُول وَالْفُرُوعِ: عَمُودَا النَّسَبِ، وَالْقَرَابَةِ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ تُسَمَّى قَرَابَةَ الْوِلاَدِ، أَوِ الْوِلاَدَةِ.
وَالأُْصُول مِنْ أَقْرَبِ الْقَرَابَاتِ إِلَى الإِْنْسَانِ، وَلِذَا كَانَ لَهُمْ فِي الشَّرْعِ أَحْكَامٌ يُشَارِكُونَ فِيهَا سَائِرَ الْقَرَابَاتِ، مِنَ الْمَحْرَمِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ وَالْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
ثُمَّ إِنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ لِلأُْصُول إِذَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ، وَلاَ يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إِلَيْهِمْ. وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ (ر: زَكَاةٌ. نَفَقَةٌ) وَلِكُلٍّ نَوْعٍ مِنَ الأُْصُول أَحْكَامٌ تَخُصُّهُ (ر: أَبٌ. أُمٌّ. جَدٌّ. جَدَّةٌ) .
8 - وَلِلأُْصُول وَلِلْفُرُوعِ - كُلٌّ تُجَاهُ الآْخَرِ - أَحْكَامٌ مُعَيَّنَةٌ يَخْتَصُّونَ بِهَا دُونَ سَائِرِ الأَْقَارِبِ، عَدَّهَا السُّيُوطِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ كَمَا يَلِي:
(1) لاَ يُقْطَعُ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ بِسَرِقَةِ مَال الآْخَرِ.
(2) وَلاَ يَقْضِي وَلاَ يَشْهَدُ لِلآْخَرِ.
(3) وَلاَ يَدْخُلُونَ فِي الْوَصِيَّةِ لِلأَْقَارِبِ.
(4) وَتَحْرُمُ مَوْطُوءَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا وَمَنْكُوحَتُهُ عَلَى الآْخَرِ.
(5) وَمَنْ مَلَكَ مِنْهُمُ الآْخَرَ عَتَقَ عَلَيْهِ.
(6) جَوَازُ بَيْعِ الْمُسْلِمِ مِنْهُمْ لِلْكَافِرِ إِنْ كَانَ مَمْلُوكًا، لأَِنَّهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ.
(7) وُجُوبُ النَّفَقَةِ عِنْدَ الْعَجْزِ وَوُجُوبُ الْفِطْرَةِ (ر: زَكَاةُ الْفِطْرِ) .
وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْمَسَائِل تَفْصِيلاَتٌ وَاشْتِرَاطَاتٌ وَخِلاَفٌ.
وَلِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ تُنْظَرُ كُل مَسْأَلَةٍ فِي بَابِهَا. (1)
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 216، والأشباه لابن نجيم بحاشية الحموي ص 518 الطبعة الهندية.

(5/57)


9 - وَلِلأُْصُول أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ يَنْفَرِدُونَ بِهَا عَنْ الْفُرُوعِ وَسَائِرِ الْقَرَابَاتِ، حَصَرَ مِنْهَا السُّيُوطِيُّ - مِنَ الشَّافِعِيَّةِ - جُمْلَةً هِيَ مَا يَلِي:
(1) لاَ يُقْتَل الأَْصْل بِالْفَرْعِ قِصَاصًا، وَكَذَلِكَ لاَ يُقْتَل الأَْصْل قِصَاصًا إِذَا كَانَ وَلِيُّ الْقِصَاصِ الْفَرْعَ، أَمَّا الْفَرْعُ فَيُقْتَل بِالأَْصْل. كَمَا يُقْتَل لِلأَْصْل أَيْضًا، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ الأَْصْل وَلِيَّ الدَّمِ، كَمَا لَوْ قَتَل الْوَلَدُ عَمَّهُ وَكَانَ أَبُو الْوَلَدِ وَلِيَّ الدَّمِ.
(2) لاَ يُحَدُّ الأَْصْل بِقَذْفِهِ لِلْفَرْعِ، وَيُحَدُّ الْفَرْعُ بِقَذْفِهِ.
(3) لاَ يُحْبَسُ الأَْصْل بِدَيْنِ الْفَرْعِ.
(4) لاَ تُقْبَل شَهَادَةُ الْفَرْعِ عَلَى أَصْلِهِ بِمَا يُوجِبُ قَتْلاً.
(5) لاَ يَجُوزُ الْمُسَافَرَةُ بِالْفَرْعِ الصَّغِيرِ إِلاَّ بِإِذْنِ أُصُولِهِ.
(6) وَلاَ يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ لِلْجِهَادِ إِلاَّ بِإِذْنِهِمْ.
(7) لاَ يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الأَْصْل وَالْفَرْعِ بِالْبَيْعِ إِنْ كَانَا مَمْلُوكَيْنِ.
(8) لِلأَْصْل أَنْ يَمْنَعَ الْفَرْعَ مِنَ الإِْحْرَامِ.
(9) إِذَا دَعَاهُ أَصْلُهُ وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ يُجِيبُهُ، وَفِي بُطْلاَنِ الصَّلاَةِ بِذَلِكَ اخْتِلاَفٌ.
(10) لِلأَْصْل تَأْدِيبُ الْفَرْعِ وَتَعْزِيرُهُ.
(11) لِلأَْصْل الرُّجُوعُ فِيمَا وَهَبَ لِلْفَرْعِ.
(12) يَتْبَعُ الْفَرْعُ - إِنْ كَانَ صَغِيرًا - أَصْلَهُ فِي الإِْسْلاَمِ.
(13) يُهَنَّأُ كُلٌّ مِنَ الأُْصُول بِالْمَوْلُودِ.
وَوَافَقَ ابْنُ نُجَيْمٍ - مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - عَلَى أَكْثَرِ هَذِهِ الْفُرُوعِ، وَأَضَافَ:

(5/57)


(14) لاَ يَجُوزُ لِلْفَرْعِ قَتْل أَصْلِهِ الْحَرْبِيِّ إِلاَّ دِفَاعًا عَنْ نَفْسِهِ. (1)
وَفِي كُل مَا سَبَقَ مِنْ هَذِهِ الأَْحْكَامِ الْخَاصَّةِ بِأُصُول الإِْنْسَانِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِي كُل شَيْءٍ مِنْهَا إِلَى بَابِهِ
و الأَْصْل بِمَعْنَى الْمُتَفَرَّعِ مِنْهُ:
10 - تَتَعَلَّقُ بِالأَْصْل بِهَذَا الْمَعْنَى أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ مِنْهَا قَوَاعِدُ فِقْهِيَّةٌ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ فِي الْمَادَّتَيْنِ التَّالِيَتَيْنِ:
أ - قَدْ يَثْبُتُ الْفَرْعُ مَعَ عَدَمِ ثُبُوتِ الأَْصْل (م 81) فَلَوْ ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى اثْنَيْنِ أَنَّ أَحَدَهُمَا اسْتَقْرَضَ مِنْهُ مَبْلَغًا، وَأَنَّ الثَّانِيَ قَدْ كَفَلَهُ، فَاعْتَرَفَ الْكَفِيل وَأَنْكَرَ الآْخَرُ، وَعَجَزَ الْمُدَّعِي عَنْ إِثْبَاتِ دَعْوَاهُ، يُؤْخَذُ الْمَبْلَغُ مِنَ الْكَفِيل، لأَِنَّ الْمَرْءَ مُؤَاخَذٌ بِإِقْرَارِهِ.
وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ شَخْصٌ لِمَجْهُول النَّسَبِ أَنَّهُ أَخُوهُ، وَأَنْكَرَ الأَْبُ، وَلاَ بَيِّنَةَ، يُؤَاخَذُ الْمُقِرُّ بِإِقْرَارِهِ، فَيُقَاسِمُهُ الْمُقَرُّ لَهُ حِصَّتَهُ مِنَ الْمِيرَاثِ، وَلاَ تَثْبُتُ الأُْبُوَّةُ.
ب - إِذَا سَقَطَ الأَْصْل سَقَطَ الْفَرْعُ (م 50) وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ سُقُوطِ الْفَرْعِ سُقُوطُ الأَْصْل. فَلَوْ أَبْرَأَ الدَّائِنُ الْمَدِينَ بَرِئَ الْكَفِيل أَيْضًا، وَسَقَطَ الرَّهْنُ إِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُوَثَّقًا بِكَفِيلٍ أَوْ رَهْنٍ. بِخِلاَفِ مَا لَوْ أَبْرَأَ الدَّائِنُ الْكَفِيل، أَوْ رَدَّ الرَّهْنَ، فَإِنَّ الدَّيْنَ لاَ يَسْقُطُ.

ز - الأَْصْل بِمَعْنَى الْمُبْدَل مِنْهُ:
11 - وَذَلِكَ كَمَا فِي إِحْدَى قَوَاعِدِ الْمَجَلَّةِ وَنَصُّهَا:
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ولابن نجيم الصفحات السابقة.

(5/58)


" إِذَا تَعَذَّرَ الأَْصْل يُصَارُ إِلَى الْبَدَل، (م 53) وَمِثَالُهُ:
يَجِبُ رَدُّ عَيْنِ الْمَغْصُوبِ مَا دَامَتْ قَائِمَةً، فَإِذَا هَلَكَتْ يُرَدُّ بَدَلُهَا مِنْ مِثْلِهَا أَوْ قِيمَتِهَا.
وَإِذَا تَعَذَّرَ رَدُّ الْمَبِيعِ الْمَعِيبِ لِمَانِعٍ شَرْعِيٍّ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ ظَهَرَ فِيهِ عَيْبٌ قَدِيمٌ، يَسْتَرِدُّ الْمُشْتَرِي مِنَ الْبَائِعِ فَرْقَ نُقْصَانِ الْعَيْبِ.
لَكِنْ إِذَا وُجِدَتِ الْقُدْرَةُ عَلَى الأَْصْل قَبْل اسْتِيفَاءِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْبَدَل يَنْتَقِل الْحُكْمُ إِلَى الأَْصْل، كَالْمُعْتَدَّةِ بِالأَْشْهُرِ بَدَلاً عَنِ الْحَيْضِ، فَلَوْ حَاضَتْ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ يَرْجِعُ الْحُكْمُ إِلَى الأَْصْل، فَتَعْتَدُّ بِالْحَيْضِ، وَكَالْمُتَيَمِّمِ إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ خِلاَل صَلاَتِهِ يَلْزَمُهُ التَّوَضُّؤُ لَهَا. (1)

ح - الأَْصْل فِي الْقِيَاسِ:
12 - الأَْصْل أَحَدُ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ الأَْرْبَعَةِ، وَهِيَ: الأَْصْل وَالْفَرْعُ وَالْعِلَّةُ وَالْحُكْمُ. فَمَنْ قَاسَ الذُّرَةَ عَلَى الْبُرِّ فِي جَرَيَانِ الرِّبَا فِيهِ، بِجَامِعِ الْكَيْل فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، فَإِنَّ الْبُرَّ فِي هَذَا الْقِيَاسِ هُوَ الأَْصْل، وَالذُّرَةُ فَرْعٌ، وَالْكَيْل الْعِلَّةُ، وَتَحْرِيمُ الرِّبَا هُوَ الْحُكْمُ. (2)
وَيُرْجَعُ فِي تَفْصِيل ذَلِكَ إِلَى مَبَاحِثِ الْقِيَاسِ مِنَ الْكُتُبِ الأُْصُولِيَّةِ، وَإِلَى الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.

ط - الأُْصُول بِمَعْنَى الدُّورِ وَالأَْشْجَارِ فِي مُقَابِل الْمَنْفَعَةِ وَالثَّمَرَةِ:
13 - يَتَحَدَّثُ الْفُقَهَاءُ عَنْ بَيْعِ الأَْصْل دُونَ الثَّمَرَةِ، وَالثَّمَرَةِ دُونَ الأَْصْل، وَبَيْعِ الأَْصْل بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ مَعَهُ الثَّمَرَةُ. فَيَذْكُرُونَ أَنَّهُ إِنْ بَاعَ النَّخْل مَثَلاً، وَلَمْ
__________
(1) شرح المجلة للأتاسي 1 / 116 وما بعدها.
(2) شرح مسلم الثبوت 2 / 248، والمستصفى 2 / 334 ط بولاق.

(5/58)


يَنُصَّا عَلَى الثَّمَرَةِ لِمَنْ تَكُونُ، فَإِنَّهَا بَعْدَ التَّأْبِيرِ لِلْبَائِعِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مَتْرُوكَةٌ إِلَى الْجُذَاذِ، وَكَذَا سَائِرُ الشَّجَرِ سِوَى النَّخْل، إِذَا بِيعَ بَعْدَ أَنْ تَفَتَّحَتْ أَكْمَامُهُ أَوْ ظَهَرَتِ الثَّمَرَةُ. وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ ضِمْنَ (بَابِ بَيْعِ الأُْصُول وَالثِّمَارِ) مِنْ كِتَابِ الْبَيْعِ. (1)
ي - أَصْل الْمَسْأَلَةِ:
أَصْل الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَالأُْصُولِيِّينَ:
14 - يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ " أَصْل الْمَسْأَلَةِ " عَلَى الْقَاعِدَةِ الْفِقْهِيَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَاَلَّتِي تَشْهَدُ لَهَا الْفُرُوعُ بِالصِّحَّةِ، (2) كَمَا سَبَقَ.
كَمَا يُطْلِقُونَهُ فِي الْمِيرَاثِ عَلَى أَقَل عَدَدٍ يَخْرُجُ مِنْهُ فَرْضُ الْمَسْأَلَةِ أَوْ فُرُوضُهَا. (3)
وَيُعْرَفُ أَصْل الْمَسْأَلَةِ فِي الْمِيرَاثِ بِالنَّظَرِ فِي مَخَارِجِ فُرُوضِ الْوَرَثَةِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْمِيرَاثِ:
فَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَارِثٌ وَاحِدٌ فَأَصْل الْمَسْأَلَةِ مِنْ مَخْرَجِ فَرْضِهِ.
وَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ أَكْثَرُ مِنْ وَارِثٍ، وَلَكِنَّ مَخَارِجَ فَرَائِضِ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ مِنْ مُضَاعَفَاتِ مَخْرَجِ النِّصْفِ فَقَطْ، أَوْ مِنْ مُضَاعَفَاتِ مَخْرَجِ الثُّلُثِ فَقَطْ، فَأَصْل الْمَسْأَلَةِ يَكُونُ أَكْبَرَ مَخْرَجٍ مِنْ هَذِهِ الْفَرَائِضِ.
كَمَا إِذَا اجْتَمَعَ فِي الْمَسْأَلَةِ 2: 1 (نِصْفٌ) وَ 4: 1
__________
(1) المغني 4 / 74 - 103.
(2) المقدمات الممهدات لابن رشد 1 / 22 طبع مطبعة السعادة، والموافقات للشاطبي 1 / 29 وما بعدها - المقدمة الأولى، طبع المكتبة التجارية الكبرى.
(3) العذب الفائض شرح عمدة الفارض 1 / 158 طبع مصطفى البابي الحلبي، وحاشية القليوبي 3 / 151 طبع عيسى البابي الحلبي.

(5/59)


(رُبْعٌ) وَ 8: 1 (ثُمُنٌ) فَأَصْل الْمَسْأَلَةِ مِنْ (8) لأَِنَّهُ أَكْبَرُ هَذِهِ الْمَخَارِجِ.
وَكَمَا إِذَا اجْتَمَعَ 3: 1 (ثُلُثٌ) ، 3: 2 (ثُلُثَانِ) ، 6: 1 (سُدُسٌ) فَأَصْل الْمَسْأَلَةِ مِنْ (6) ، لأَِنَّهُ أَكْبَرُ هَذِهِ الْمَخَارِجِ.
أَمَّا إِذَا اجْتَمَعَ فِي الْمَسْأَلَةِ مَا كَانَ مَخْرَجَهُ 2: 1 (نِصْفٌ) أَوْ مُضَاعَفَاتُهُ، مَعَ مَا كَانَ مَخْرَجَهُ 3: 1 (ثُلُثٌ) أَوْ مُضَاعَفَاتُهُ فَيُنْظَرُ:
فَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ 2: 1 (نِصْفٌ) وَ 3: 1 (ثُلُثٌ) فَأَصْل الْمَسْأَلَةِ مِنْ (6)
وَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ 4: 1 (رُبْعٌ) وَ 3: 1 (ثُلُثٌ) فَأَصْل الْمَسْأَلَةِ مِنْ (12)
وَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ 8: 1 (ثُمُنٌ) وَ 6: 1 (سُدُسٌ) فَأَصْل الْمَسْأَلَةِ مِنْ (24)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ كُلِّهِ مَوْجُودٌ فِي الإِْرْثِ عِنْدَ بَحْثِ (أُصُول الْمَسَائِل) .

تَغَيُّرُ أُصُول الْمَسَائِل:
15 - هَذِهِ الأُْصُول قَدْ يَحْدُثُ أَنْ تَكُونَ صَالِحَةً لِلْقِسْمَةِ عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ، وَقَدْ لاَ تَكُونُ صَالِحَةً، وَعِنْدَئِذٍ تَحْتَاجُ إِلَى تَصْحِيحٍ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهَا، أَوِ الإِْنْقَاصِ مِنْهَا أَوْ إِجْرَاءِ إِصْلاَحٍ عَلَيْهَا.
أ - تَكُونُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا إِذَا زَادَتْ سِهَامُ الْمُسْتَحِقِّينَ عَلَى أَصْل الْمَسْأَلَةِ، وَعِنْدَئِذٍ يُقَال: إِنَّ الْمَسْأَلَةَ قَدْ عَالَتْ (ر: عَوْلٌ) .
ب - وَيَكُونُ الإِْنْقَاصُ مِنْهَا إِذَا نَقَصَتْ سِهَامُ الْمُسْتَحِقِّينَ عَنْ عَدَدِ سِهَامِ أَصْل الْمَسْأَلَةِ، وَعِنْدَئِذٍ يُقَال: إِنَّ الْمَسْأَلَةَ رَدِّيَّةٌ (ر: رَدٌّ) .

(5/59)


ج - وَيَكُونُ الإِْصْلاَحُ بِتَغْيِيرٍ يَطْرَأُ عَلَى الشَّكْل لاَ عَلَى الْقِيمَةِ، وَذَلِكَ فِي حَالاَتٍ:

الْحَالَةُ الأُْولَى: إِذَا كَانَتْ الْحِصَّةُ الْخَارِجَةُ مِنْ أَصْل الْمَسْأَلَةِ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ غَيْرَ صَالِحَةٍ لِلْقِسْمَةِ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ كَسْرٍ، وَعِنْدَئِذٍ يُضْطَرُّ لإِِجْرَاءِ الإِْصْلاَحِ لإِِزَالَةِ الْكَسْرِ، وَيُسَمَّى هَذَا الإِْصْلاَحُ بِ (تَصْحِيحِ الْمَسَائِل) .

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا اضْطُرَّ لِتَقْسِيمِ التَّرِكَةِ بِاعْتِبَارَيْنِ، لإِِعْطَاءِ الْوَرَثَةِ الأَْقَل مِنَ الْحَظَّيْنِ - كَمَا فِي حَالَةِ وُجُودِ حَمْلٍ فِي بَطْنِ زَوْجَةِ الْمَيِّتِ حِينَ وَفَاتِهِ - حَيْثُ تُحْسَبُ الْمَسْأَلَةُ مَرَّتَيْنِ: الأُْولَى يُفْرَضُ فِيهَا الْحَمْل ذَكَرًا، وَالثَّانِيَةُ يُفْرَضُ فِيهَا الْحَمْل أُنْثَى، ثُمَّ يَجْرِي إِصْلاَحٌ عَلَى أَصْلَيِ الْمَسْأَلَتَيْنِ، بِصُنْعِ الْمَسْأَلَةِ الْجَامِعَةِ، كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي كُتُبِ الْمَوَارِيثِ فِي مَبْحَثِ (إِرْثِ الْحَمْل) .

الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا اتَّفَقَ الْوَرَثَةُ مَعَ أَحَدِهِمْ عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنَ الْبَيِّنِ عَلَى مَبْلَغٍ يُؤَدُّونَهُ إِلَيْهِ، اقْتِسَامُ حِصَّتِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَهَذَا مَا يُعْرَفُ بِ (التَّخَارُجِ) (ر: تَخَارُجٌ) .

الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: إِذَا تُوُفِّيَ رَجُلٌ وَلَمْ يُقْسَمْ مِيرَاثُهُ إِلاَّ بَعْدَ وَفَاةِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ، وَكَانَ لِهَذَا الْمَيِّتِ الثَّانِي وَرَثَةٌ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالْمُنَاسَخَةِ (ر: مُنَاسَخَةٌ) . وَكُل ذَلِكَ مَبْسُوطٌ بِالتَّفْصِيل فِي كُتُبِ الْمَوَارِيثِ.

ك - الأَْصْل فِي بَابِ الرِّوَايَةِ:
16 - الأَْصْل عِنْدَ رُوَاةِ الأَْحَادِيثِ وَنَقَلَةِ الأَْخْبَارِ هُوَ: الشَّيْخُ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ، فِي مُقَابَلَةِ " الْفَرْعِ " وَهُوَ: الرَّاوِي عَنْ ذَلِكَ الشَّيْخِ. (1) وَيُقَال مِثْل ذَلِكَ فِي
__________
(1) شرح مسلم الثبوت 2 / 170.

(5/60)


نُسَخِ الْكُتُبِ، فَالأَْصْل هُوَ النُّسْخَةُ الْمَنْقُول مِنْهَا، وَالْفَرْعُ النُّسْخَةُ الْمَنْقُولَةُ.
هَذَا وَيَذْكُرُ الأُْصُولِيُّونَ أَنَّ الأَْصْل إِذَا كَذَّبَ الْفَرْعَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْهُ سَقَطَ الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ اتِّفَاقًا، لاِنْتِفَاءِ صِدْقِهِمَا مَعًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، إِذْ يُشْتَرَطُ لِلصِّحَّةِ صِدْقُهُمَا جَمِيعًا.
وَبِفَوَاتِ ذَلِكَ تَفُوتُ الْحُجِّيَّةُ. فَقَدْ أَوْرَثَ هَذَا التَّكْذِيبُ رِيبَةً قَوِيَّةً لاَ حُجِّيَّةَ بَعْدَهَا.
لَكِنْ لَوْ قَال الأَْصْل: " لاَ أَدْرِي " أَيْ لَمْ يُكَذِّبِ الْفَرْعَ صَرِيحًا، فَالأَْكْثَرُ قَالُوا: يَبْقَى الْمَرْوِيُّ حُجَّةً وَلاَ تَسْقُطُ بِذَلِكَ حُجِّيَّتُهُ، خِلاَفًا لِلْكَرْخِيِّ وَأَبِي زَيْدٍ، وَلِلإِْمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ. وَيُنْظَرُ تَمَامُ الْبَحْثِ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ، وَبَابِ السُّنَّةِ مِنْ كُتُبِ الأُْصُول. (1)

ل - أُصُول الْعُلُومِ:
17 - كَثِيرًا مَا يُضَافُ لَفْظُ (الأُْصُول) إِلَى أَسْمَاءِ الْعُلُومِ، وَيُرَادُ بِهِ حِينَئِذٍ الْقَوَاعِدُ الْعَامَّةُ الَّتِي يَتْبَعُهَا أَصْحَابُ ذَلِكَ الْعِلْمِ فِي دِرَاسَتِهِ، وَاَلَّتِي تَحْكُمُ طُرُقَ الْبَحْثِ وَالاِسْتِنْبَاطِ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ. وَقَدْ تَكُونُ تِلْكَ الأُْصُول عِلْمًا مُسْتَقِلًّا.
فَمِنْ ذَلِكَ أُصُول التَّفْسِيرِ، وَأُصُول الْحَدِيثِ، وَأُصُول الْفِقْهِ. أَمَّا (أُصُول الدِّينِ) - وَيُسَمَّى أَيْضًا عِلْمَ الْعَقَائِدِ، وَعِلْمَ الْكَلاَمِ، وَالْفِقْهَ الأَْكْبَرَ - فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، بَل هُوَ - كَمَا قَال صَاحِبُ كَشْفِ الظُّنُونِ -: " عِلْمٌ يُقْتَدَرُ بِهِ عَلَى إِثْبَاتِ الْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ بِإِيرَادِ الْحُجَجِ عَلَيْهَا، وَدَفْعِ الشُّبَهِ عَنْهَا ". (2) وَسُمِّيَ أُصُولاً لاَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ قَوَاعِدُ اسْتِنْبَاطٍ وَدِرَاسَةٍ، بَل مِنْ حَيْثُ إِنَّ الدِّينَ يَبْتَنِي
__________
(1) شرح مسلم الثبوت 2 / 172.
(2) كشاف اصطلاحات الفنون 1 / 27.

(5/60)


عَلَيْهِ، فَإِنَّ الإِْيمَانَ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَسَاسُ الإِْسْلاَمِ بِفُرُوعِهِ الْمُخْتَلِفَةِ.

أ - أُصُول التَّفْسِيرِ:
18 - عِلْمُ أُصُول التَّفْسِيرِ: مَجْمُوعَةُ الْقَوَاعِدِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يَسِيرَ عَلَيْهَا الْمُفَسِّرُونَ فِي فَهْمِ الْمَعَانِي الْقُرْآنِيَّةِ، وَتَعَرُّفِ الْعِبَرِ وَالأَْحْكَامِ مِنَ الآْيَاتِ. أَوْ - عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ - هُوَ قَوَاعِدُ كُلِّيَّةٌ تُعِينُ عَلَى فَهْمِ الْقُرْآنِ وَمَعْرِفَةِ تَفْسِيرِهِ وَمَعَانِيهِ، وَعَلَى التَّمْيِيزِ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِل. (1)
ب - أُصُول الْحَدِيثِ:
19 - وَيُسَمَّى أَيْضًا (عُلُومَ الْحَدِيثِ) (وَمُصْطَلَحَ الْحَدِيثِ) وَعِلْمَ (دِرَايَةِ الْحَدِيثِ) وَعِلْمَ (الإِْسْنَادِ) . وَهُوَ مَجْمُوعَةُ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا صَحِيحُ الْحَدِيثِ مِنْ سَقِيمِهِ، وَمَقْبُولُهُ مِنْ مَرْدُودِهِ، وَذَلِكَ بِمَعْرِفَةِ أَحْوَال الْحَدِيثِ سَنَدًا وَمَتْنًا، لَفْظًا وَمَعْنًى، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ كَيْفِيَّةِ تَحَمُّل الْحَدِيثِ وَكِتَابَتِهِ وَآدَابِ رُوَاتِهِ وَطَالِبِيهِ.

ج - أُصُول الْفِقْهِ:
20 - وَهُوَ عِلْمٌ يُتَعَرَّفُ مِنْهُ كَيْفِيَّةُ اسْتِنْبَاطِ الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ مِنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ. وَمَوْضُوعُ عِلْمِ أُصُول الْفِقْهِ الأَْدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ مِنْ حَيْثُ كَيْفِيَّةُ اسْتِنْبَاطِ الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ مِنْهَا، وَمَبَادِئُهُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ وَبَعْضُ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ كَعِلْمِ الْكَلاَمِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ، وَبَعْضُ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ.
__________
(1) مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية ص 3 مطبعة الترقي بدمشق.

(5/61)


وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَحْصِيل مَلَكَةِ اسْتِنْبَاطِ الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ مِنْ أَدِلَّتِهَا الأَْرْبَعَةِ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإِْجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ. وَفَائِدَتُهُ اسْتِنْبَاطُ تِلْكَ الأَْحْكَامِ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ.
وَالدَّاعِي إِلَى وَضْعِهِ: أَنَّهُمْ نَظَرُوا فِي تَفَاصِيل الأَْحْكَامِ وَالأَْدِلَّةِ وَعُمُومِهَا، فَوَجَدُوا الأَْدِلَّةَ رَاجِعَةً إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ، وَوَجَدُوا الأَْحْكَامَ رَاجِعَةً إِلَى الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَالإِْبَاحَةِ وَالْكَرَاهَةِ وَالْحُرْمَةِ، وَتَأَمَّلُوا فِي كَيْفِيَّةِ الاِسْتِدْلاَل بِتِلْكَ الأَْدِلَّةِ عَلَى تِلْكَ الأَْحْكَامِ إِجْمَالاً مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى تَفَاصِيلِهَا إِلاَّ عَلَى سَبِيل التَّمْثِيل. فَحَصَل لَهُمْ قَضَايَا كُلِّيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِكَيْفِيَّةِ الاِسْتِدْلاَل بِتِلْكَ الأَْدِلَّةِ عَلَى الأَْحْكَامِ إِجْمَالاً، وَبَيَانُ طُرُقِهِ وَشَرَائِطِهِ، لِيُتَوَصَّل بِكُلٍّ مِنْ تِلْكَ الْقَضَايَا إِلَى اسْتِنْبَاطِ كَثِيرٍ مِنَ الأَْحْكَامِ الْجُزْئِيَّةِ مِنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ، فَضَبَطُوهَا وَدَوَّنُوهَا وَأَضَافُوا إِلَيْهَا مِنَ اللَّوَاحِقِ، وَسَمَّوْا الْعِلْمَ الْمُتَعَلِّقَ بِهَا أُصُول الْفِقْهِ. وَأَوَّل مَنْ صَنَّفَ فِيهِ الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. (1)
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفِقْهِ وَأُصُول الْفِقْهِ: أَنَّ الْفِقْهَ مَعْرِفَةُ الأَْحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ الْمُسْتَمَدَّةِ مِنَ الأَْدِلَّةِ التَّفْصِيلِيَّةِ. فَقَوْلُهُمُ الصَّلاَةُ وَاجِبَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ} ، (2) وَالأَْمْرُ لِلْوُجُوبِ، يَشْتَمِل عَلَى حُكْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِقْهِيٌّ، وَالآْخَرُ أُصُولِيٌّ أَمَّا قَوْلُهُمْ: الصَّلاَةُ وَاجِبَةٌ، فَهِيَ مَسْأَلَةٌ فِقْهِيَّةٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: الأَْمْرُ لِلْوُجُوبِ، فَهُوَ قَاعِدَةٌ أُصُولِيَّةٌ.
__________
(1) كشف الظنون 1 / 110، وكشاف اصطلاحات الفنون 1 / 27.
(2) سورة البقرة / 43.

(5/61)


أَصْل الْمَسْأَلَةِ
انْظُرْ: أَصْلٌ
إِصْلاَحٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْصْلاَحُ لُغَةً: نَقِيضُ الإِْفْسَادِ، وَالإِْصْلاَحُ: التَّغْيِيرُ إِلَى اسْتِقَامَةِ الْحَال عَلَى مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحِكْمَةُ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى. وَمِنْ هَذَا التَّعْرِيفِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ كَلِمَةَ " إِصْلاَحٌ " تُطْلَقُ عَلَى مَا هُوَ مَادِّيٌّ، وَعَلَى مَا هُوَ مَعْنَوِيٌّ، فَيُقَال: أَصْلَحْتُ الْعِمَامَةَ، وَأَصْلَحْتُ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّرْمِيمُ:
2 - تُطْلَقُ كَلِمَةُ تَرْمِيمٍ عَلَى إِصْلاَحِ نَحْوِ الْحَبْل
__________
(1) لسان العرب، والصحاح، والقاموس المحيط، والمصباح المنير مادة: " صلح " والفروق في اللغة لأبي هلال العسكري ص 204.

(5/62)


وَالدَّارِ إِذَا فَسَدَ بَعْضُهَا. وَهِيَ أُمُورٌ مَادِّيَّةٌ مَحْضَةٌ. وَإِنْ أُطْلِقَتْ كَلِمَةُ " تَرْمِيمٌ " عَلَى مَا هُوَ مَعْنَوِيٌّ فَهُوَ إِطْلاَقٌ مَجَازِيٌّ، يُقَال: " أَحْيَا رَمِيمَ الأَْخْلاَقِ " مِنْ بَابِ الْمَجَازِ. (1)
فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الإِْصْلاَحَ أَعَمُّ، لأَِنَّهُ يُطْلَقُ حَقِيقَةً عَلَى الْمَادِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ، وَيَكُونُ فِي الْغَالِبِ شَامِلاً، فِي حِينِ أَنَّ التَّرْمِيمَ جُزْئِيٌّ فِي الْغَالِبِ.

ب - الإِْرْشَادُ:
3 - الإِْرْشَادُ فِي اللُّغَةِ: الدَّلاَلَةُ، وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ بِمَعْنَى الدَّلاَلَةِ عَلَى الْخَيْرِ وَالْمَصْلَحَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ دُنْيَوِيَّةً أَمْ أُخْرَوِيَّةً.
وَيُطْلَقُ لَفْظُ الإِْرْشَادِ عَلَى التَّبْيِينِ، وَلاَ يَلْزَمُ أَنْ يُلاَزِمَ التَّبَيُّنُ الإِْصْلاَحَ، فِي حِينِ أَنَّ الإِْصْلاَحَ يَتَضَمَّنُ حُصُول الصَّلاَحِ.

مَا يَدْخُلُهُ الإِْصْلاَحُ وَمَا لاَ يَدْخُلُهُ:
4 - التَّصَرُّفَاتُ عَلَى، نَوْعَيْنِ:

أ - تَصَرُّفَاتٌ هِيَ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ إِذَا طَرَأَ الْخَلَل عَلَى شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهَا، أَوْ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهَا فَإِنَّهَا لاَ يَلْحَقُهَا إِصْلاَحٌ أَلْبَتَّةَ، كَمَا إِذَا تَرَكَ الْمُصَلِّي قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِي صَلاَتِهِ، وَتَرَكَ الْحَاجُّ الْوُقُوفَ فِي عَرَفَاتٍ، فَإِنَّهُ لاَ سَبِيل لإِِصْلاَحِ هَذِهِ الصَّلاَةِ وَلاَ ذَلِكَ الْحَجُّ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي كِتَابَيِ الصَّلاَةِ وَالْحَجِّ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
أَمَّا إِذَا طَرَأَ الْخَلَل عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ فِيهَا، فَإِنَّهَا يَلْحَقُهَا الإِْصْلاَحُ، كَإِصْلاَحِ الصَّلاَةِ بِسُجُودِ السَّهْوِ، وَإِصْلاَحِ الْحَجِّ بِالدَّمِ فِي حَال حُدُوثِ مُخَالَفَةٍ
__________
(1) انظر لإظهار الفرق: لسان العرب، وأساس البلاغة، المواد المشار إليها، والفروق في اللغة من صفحة 203 - 207.

(5/62)


مِنْ مُخَالَفَاتِ الإِْحْرَامِ مَثَلاً، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

ب - وَتَصَرُّفَاتٌ هِيَ حُقُوقُ الْعِبَادِ، وَهِيَ عَلَى نَوْعَيْنِ:
(1) تَصَرُّفَاتٌ غَيْرُ عَقَدِيَّةٍ، كَالإِْتْلاَفِ، وَالْقَذْفِ، وَالْغَصْبِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذِهِ إِذَا وَقَعَتْ لاَ يَلْحَقُهَا إِصْلاَحٌ أَلْبَتَّةَ، وَلَكِنْ ذَلِكَ لاَ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَلْحَقَ الإِْصْلاَحُ الآْثَارَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَيْهَا، وَعَلَى هَذَا فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ الضَّرَرُ مِنْ آثَارِ الإِْتْلاَفِ مَثَلاً، فَإِنَّ الضَّرَرَ يُرْفَعُ بِالضَّمَانِ، كَمَا سَيَأْتِي.
(2) تَصَرُّفَاتٌ عَقَدِيَّةٌ: وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ إِنْ كَانَ الْخَلَل طَارِئًا عَلَى أَحَدِ أَرْكَانِهَا، حَتَّى يُصْبِحَ الْعَقْدُ غَيْرَ مَشْرُوعٍ بِأَصْلِهِ وَلاَ بِوَصْفِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَلْحَقُهُ إِصْلاَحٌ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مُصْطَلَحِ (بُطْلاَنٌ) .
أَمَّا إِنْ كَانَ الْخَلَل طَارِئًا عَلَى الْوَصْفِ دُونَ الأَْصْل، فَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَقُولُونَ بِلَحَاقِ الإِْصْلاَحِ هَذَا الْعَقْدَ، وَيُخَالِفُهُمُ الْجُمْهُورُ فِي ذَلِكَ، كَمَا يَأْتِي فِي مُصْطَلَحِ (فَسَادٌ) . (1)

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ لِلإِْصْلاَحِ:
5 - مِنَ اسْتِقْرَاءِ كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ أَقَل دَرَجَاتِ الإِْصْلاَحِ النَّدْبُ، كَإِصْلاَحِ الْمَالِكِ الشَّيْءَ الْمُعَارَ لاِسْتِمْرَارِ الاِنْتِفَاعِ بِالْعَارِيَّةِ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي كِتَابِ الْعَارِيَّةِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَقَدْ يَكُونُ الإِْصْلاَحُ وَاجِبًا، كَمَا هُوَ الْحَال فِي سُجُودِ السَّهْوِ الْوَاجِبِ لإِِصْلاَحِ الْخَلَل الَّذِي وَقَعَ فِي الصَّلاَةِ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ، بَابُ سُجُودِ السَّهْوِ، وَفِي ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي كِتَابِ الضَّمَانِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَالإِْصْلاَحُ بَيْنَ
__________
(1) المستصفى 1 / 95، وقليوبي 3 / 19.

(5/63)


الْفِئَتَيْنِ الْبَاغِيَتَيْنِ. (1) كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ وَالْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} . (2)
وَسَائِل الإِْصْلاَحِ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
6 - مِنَ اسْتِقْرَاءِ الأَْحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الإِْصْلاَحَ يَتِمُّ بِوَسَائِل عَدِيدَةٍ مِنْهَا:
أ - إِكْمَال النَّقْصِ، فَمَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ دُونَ أَنْ يَمَسَّهُ الْمَاءُ يَصْلُحُ وُضُوءُهُ بِغُسْل ذَلِكَ الْجُزْءِ الْمَتْرُوكِ بِالْمَاءِ، بِشُرُوطٍ ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ فِي الْوُضُوءِ، وَمِثْل ذَلِكَ الْغُسْل.
وَمِنْ ذَلِكَ وُجُوبُ إِصْلاَحِ الشَّيْءِ الْمُسْتَأْجَرِ عَلَى الْمُؤَجِّرِ، إِنْ كَانَ ذَلِكَ الْخَلَل أَوِ النَّقْصُ مِمَّا تَتَعَطَّل بِهِ الْمَنَافِعُ، كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الإِْجَارَةِ.
ب - التَّعْوِيضُ عَنِ الضَّرَرِ: وَيَتَمَثَّل ذَلِكَ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى الْجِنَايَاتِ، كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ، وَفِي ضَمَانِ الإِْتْلاَفَاتِ فِي كِتَابِ الضَّمَانِ، وَكَمَا سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ (إِتْلاَفٌ) .
ج - (الزَّكَوَاتُ) : كَزَكَاةِ الْمَال الَّتِي هِيَ طُهْرَةٌ لِلْمُزَكِّي وَكِفَايَةٌ لِلْفَقِيرِ، وَزَكَاةُ الْفِطْرِ الَّتِي هِيَ طُهْرَةٌ لِلصَّائِمِ وَكِفَايَةٌ لِلْفَقِيرِ. (3)
د - (الْعُقُوبَاتُ) : مِنْ حُدُودٍ وَقِصَاصٍ وَتَعْزِيرَاتٍ وَتَأْدِيبٍ، وَكُلُّهَا شُرِعَتْ لِتَكُونَ وَسِيلَةَ إِصْلاَحٍ، قَال تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَْلْبَابِ} . (4)
هـ - (الْكَفَّارَاتُ) : فَإِنَّهَا شُرِعَتْ لإِِصْلاَحِ خَلَلٍ فِي
__________
(1) تفسير القرطبي 16 / 317 طبع دار الكتب، وأحكام القرآن للجصاص 3 / 490 الطبعة الأولى.
(2) سورة الحجرات / 9.
(3) إحياء علوم الدين 1 / 214.
(4) سورة البقرة / 179.

(5/63)


تَصَرُّفَاتٍ خَاصَّةٍ، كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَالظِّهَارِ، وَالْقَتْل الْخَطَأِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي أَبْوَابِهِ.
وَمَنْعُ التَّصَرُّفِ بِنَزْعِ الْيَدِ لإِِيقَافِ الضَّرَرِ: وَإِيقَافُ الضَّرَرِ يَعْنِي الإِْصْلاَحَ. وَنَزْعُ الْيَدِ يَكُونُ إِصْلاَحًا فِي أَحْوَالٍ مِنْهَا: عَزْل الْقَاضِي، الَّذِي لاَ يُحْسِنُ الْقَضَاءَ، وَإِنْهَاءُ حَضَانَةِ الأُْمِّ إِذَا تَزَوَّجَتْ، وَالْحَجْرُ عَلَى، السَّفِيهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي أَبْوَابِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
ز - الْوِلاَيَةُ وَالْوِصَايَةُ وَالْحَضَانَةُ: وَهِيَ مَا شُرِعَتْ إِلاَّ لإِِصْلاَحِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ، أَوْ إِصْلاَحِ مَالِهِ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَفِي الْحَجْرِ، وَفِي الْحَضَانَةِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
ح - (الْوَعْظُ) : كَوَعْظِ الزَّوْجَةِ الَّتِي يُخَافُ نُشُوزُهَا، قَال تَعَالَى: {وَاَللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ. . .} (1) الآْيَةَ. وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ بَابَ الْعِشْرَةِ، وَكَالأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ عُمُومًا، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي أَبْوَابِ الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي كُتُبِ الآْدَابِ الشَّرْعِيَّةِ.
ط - (التَّوْبَةُ) وَهِيَ تُصْلِحُ شَأْنَ الإِْنْسَانِ، وَتَمْحُو الذَّنْبَ الَّذِي ارْتَكَبَهُ، وَتَفْصِيل الْكَلاَمِ عَنْهَا فِي بَابِ الْقَذْفِ، وَفِي كُتُبِ الآْدَابِ الشَّرْعِيَّةِ.
ي - (إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ) : وَيَتِمُّ إِصْلاَحُ الأَْرْضِ بِإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ فِيهَا، كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي كِتَابِ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَفِي الْجُمْلَةِ: كُل مَا يُؤَدِّي إِلَى الْكَفِّ عَنِ الْمَعَاصِي، أَوْ إِلَى فِعْل الْخَيْرِ، فَهُوَ إِصْلاَحٌ.
__________
(1) سورة النساء / 34.

(5/64)


أَصَمُّ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْصَمُّ: مَنْ بِهِ صَمَمٌ، وَالصَّمَمُ: فِقْدَانُ السَّمْعِ، وَيَأْتِي وَصْفًا لِلأُْذُنِ وَلِلشَّخْصِ، فَيُقَال: رَجُلٌ أَصَمُّ، وَامْرَأَةٌ صَمَّاءُ، وَأُذُنٌ صَمَّاءُ، وَالْجَمْعُ صُمٌّ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
يَتَعَلَّقُ بِالأَْصَمِّ أَوِ الصَّمَّاءِ عِدَّةُ أَحْكَامٍ أَهَمُّهَا مَا يَلِي:

فِي الْعِبَادَاتِ:
2 - هَل يُجْتَزَأُ بِالصُّمِّ فِي الْعَدَدِ الْمَشْرُوطِ لِسَمَاعِ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ؟ عَلَى اخْتِلاَفِ الْمَذَاهِبِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يُجْتَزَأُ بِهِمْ، خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ اشْتَرَطُوا أَلاَّ يَكُونَ فِي الْحَدِّ الأَْدْنَى مَنْ هُوَ أَصَمُّ، وَيَجْتَزِئُ الْحَنَابِلَةُ بِهِمْ إِنْ لَمْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ كَذَلِكَ.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةَ وَالشَّافِعِيَّةُ صِحَّةَ الصَّلاَةِ خَلْفَ الأَْصَمِّ، وَإِمَامَتُهُ صَحِيحَةٌ.
وَلاَ يَنْبَغِي ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلإِْمَامِ الرَّاتِبِ، لأَِنَّهُ قَدْ يَسْهُو فَيُسَبَّحُ لَهُ فَلاَ يَسْمَعُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لإِِفْسَادِ الصَّلاَةِ (2) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: " صمم "
(2) منتهى الإرادات 1 / 257، ومغني المحتاج 1 / 241 ط مصطفى الحلبي، والحطاب 2 / 113 ط النجاح ليبيا.

(5/64)


فِي الْمُعَامَلاَتِ:
أ - قَضَاءُ الأَْصَمِّ وَشَهَادَتُهُ:
3 - لاَ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى الأَْصَمُّ الْقَضَاءَ، وَإِذَا وُلِّيَ يَجِبُ عَزْلُهُ، لأَِنَّ فِي تَوْلِيَتِهِ ضَيَاعَ حُقُوقِ النَّاسِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ. (1)
أَمَّا شَهَادَتُهُ فَمَا يَتَّصِل بِالسَّمْعِ كَالأَْقْوَال فَلاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ فِيهِ، وَأَمَّا مَا يَرَاهُ مِنَ الأَْفْعَال كَالأَْكْل وَالضَّرْبِ، فَهَذَا تُقْبَل شَهَادَتُهُ فِيهِ. (2)
ب - الْجِنَايَةُ عَلَى السَّمْعِ:
4 - تَجِبُ الدِّيَةُ بِذَهَابِ مَنْفَعَةِ السَّمْعِ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، لِحَدِيثِ: وَفِي السَّمْعِ الدِّيَةُ، (3) وَلأَِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَضَى فِي رَجُلٍ ضَرَبَ رَجُلاً، فَذَهَبَ سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَنِكَاحُهُ وَعَقْلُهُ، بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ وَالرَّجُل حَيٌّ (4) . هَذَا مَعَ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَعَدَمِهِ (5) .

مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
5 - يَتَعَلَّقُ بِالأَْصَمِّ أَحْكَامٌ مُتَعَدِّدَةٌ، مِثْل حُكْمِ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 315، والحطاب 6 / 100، ومنتهى الإرادات 3 / 465، ونهاية المحتاج 8 / 226.
(2) ابن عابدين 4 / 385، وجواهر الإكليل 2 / 233 ط دار المعرفة بيروت، ومنتهى الإرادات 3 / 552، والمهذب 2 / 336 ط دار المعرفة.
(3) حديث: " في السمع الدية ". أخرجه البيهقي (8 / 85 - ط دائرة المعارف العثمانية) وضعف إسناده.
(4) الأثر عن عمر رضي الله عنه. أخرجه البيهقي (8 / 98 - ط دائرة المعارف العثمانية) . وعبد الرزاق (10 / 12 - ط المجلس العلمي) وإسناده متصل ورجاله ثقات. وانظر التلخيص لابن حجر (4 / 35 - 36 ط دار المحاسن) .
(5) المهذب 2 / 202، وجواهر الإكليل 2 / 268، ومنتهى الإرادات 3 / 317، والاختيار 5 / 43 ط المعرفة - بيروت.

(5/65)


سُجُودِ التِّلاَوَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلأَْصَمِّ، سَوَاءٌ كَانَ تَالِيًا أَوْ مُسْتَمِعًا، وَمِثْل عُقُودِ الأَْصَمِّ، مِنْ نِكَاحٍ وَبَيْعٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَتُنْظَرُ فِي مَوَاضِعِهَا.

أَصِيلٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْصِيل فِي اللُّغَةِ مُشْتَقٌّ مِنْ أَصْلٍ، وَأَصْل الشَّيْءِ أَسَاسُهُ وَمَا يَسْتَنِدُ وُجُودُ ذَلِكَ الشَّيْءِ إِلَيْهِ، وَيُطْلَقُ الأَْصِيل عَلَى الأَْصْل. (1) وَيَأْتِي بِمَعْنَى الْوَقْتِ بَعْدَ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ. (2)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ اللُّغَوِيَّيْنِ، فَيُطْلِقُونَهُ فِي الْكَفَالَةِ وَالْحَوَالَةِ عَلَى الْمُطَالَبِ ابْتِدَاءً بِالْحَقِّ، وَفِي الْوَكَالَةِ عَلَى مَنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ ابْتِدَاءً.

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ تَبَعًا لِلاِسْتِعْمَالاَتِ الْفِقْهِيَّةِ، فَالْحَوَالَةُ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الأَْصِيل عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (3) لأَِنَّ مَعْنَاهَا نَقْل الْحَقِّ، وَذَلِكَ لاَ يَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِفَرَاغِ ذِمَّةِ الأَْصِيل، وَأَمَّا الْكَفَالَةُ فَلاَ تُوجِبُ بَرَاءَةَ
__________
(1) المفردات للأصبهاني، والمصباح المنير، والكليات لأبي البقاء، والفروق في اللغة، والصحاح مادة: (أصل) .
(2) مختار الصحاح.
(3) المبسوط 19 / 160 - 161، وجواهر الإكليل 2 / 108 ط دار المعرفة، ومغني المحتاج 2 / 195، والمغني 4 / 521 - 522 ط الرياض.

(5/65)


الأَْصِيل، (1) لأَِنَّ مَعْنَاهَا ضَمُّ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ فِي الْمُطَالَبَةِ، وَأَمَّا الْوَكَالَةُ فَفِيهَا حُلُول الْوَكِيل مَحَل الأَْصِيل فِي الْجُمْلَةِ، وَتَفْصِيل كُلٍّ مِنْ ذَلِكَ فِي بَابِهِ.

أَضَاحِي

انْظُرْ: أُضْحِيَّةٌ

إِضَافَةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْضَافَةُ: مَصْدَرٌ فِعْلُهُ أَضَافَ، عَلَى وَزْنِ أَفْعَل.
وَمِنْ مَعَانِي الإِْضَافَةِ فِي اللُّغَةِ: ضَمُّ الشَّيْءِ إِلَى الشَّيْءِ، أَوْ إِسْنَادُهُ أَوْ نِسْبَتُهُ.
وَالإِْضَافَةُ عِنْدَ النُّحَاةِ: ضَمُّ اسْمٍ إِلَى اسْمٍ عَلَى وَجْهٍ يُفِيدُ تَعْرِيفًا أَوْ تَخْصِيصًا. (2)
وَالإِْضَافَةُ عِنْدَ الْحُكَمَاءِ هِيَ: نِسْبَةٌ مُتَكَرِّرَةٌ، بِحَيْثُ لاَ تُعْقَل إِحْدَاهُمَا إِلاَّ مَعَ الأُْخْرَى، كَالأُْبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ.
أَمَّا الإِْضَافَةُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: فَلاَ تُخْرَجُ فِي مَعْنَاهَا عَنِ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ السَّابِقَةِ، وَهِيَ الإِْسْنَادُ وَالنِّسْبَةُ وَضَمُّ الشَّيْءِ إِلَى الشَّيْءِ.
__________
(1) المبسوط 19 / 160 - 161.
(2) الصحاح للجوهري، والقاموس المحيط، والمصباح المنير ولسان العرب مادة (ضيف) .

(5/66)


2 - وَيُقْصَدُ بِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إِلَى الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَل إِرْجَاءُ آثَارِ التَّصَرُّفِ إِلَى الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَل الَّذِي حَدَّدَهُ الْمُتَصَرِّفُ، فَالإِْضَافَةُ تُؤَخِّرُ تَرَتُّبَ الْحُكْمِ عَلَى السَّبَبِ إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ السَّبَبُ، فَيَتَحَقَّقُ السَّبَبُ الْمُضَافُ قَبْل تَحَقُّقِ الْوَقْتِ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ بِلاَ مَانِعٍ. وَعَدَمُ الْمَانِعِ وَهُوَ التَّكَلُّمُ بِالسَّبَبِ بِلاَ تَعْلِيقٍ يَقْتَضِي تَحَقُّقَهُ، غَايَةُ الأَْمْرِ أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى الإِْضَافَةِ تَأْخِيرُ الْحُكْمِ الْمُسَبَّبِ إِلَى وُجُودِ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ الَّذِي هُوَ كَائِنٌ لاَ مَحَالَةَ، إِذِ الزَّمَانُ مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ، فَالإِْضَافَةُ إِلَيْهِ إِضَافَةٌ إِلَى مَا قُطِعَ بِوُجُودِهِ، وَفِي مِثْلِهِ يَكُونُ الْغَرَضُ مِنَ الإِْضَافَةِ تَحْقِيقُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. (1)
وَإِذَا كَانَتِ الإِْضَافَةُ بِمَعْنَى الضَّمِّ فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ تَكُونُ بِمَعْنَى الزِّيَادَةِ، فَتُحَال أَحْكَامُهَا حِينَئِذٍ إِلَى مُصْطَلَحِ (زِيَادَةٌ) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّعْلِيقُ:
3 - التَّعْلِيقُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ رَبْطُ حُصُول مَضْمُونِ جُمْلَةٍ بِحُصُول مَضْمُونِ جُمْلَةٍ أُخْرَى. وَبَعْضُ صُوَرِ التَّعْلِيقِ تُسَمَّى يَمِينًا مَجَازًا. (2)
هَذَا، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ فِي فَتْحِ الْغَفَّارِ الْفَرْقَ مِنْ وَجْهَيْنِ بَيْنَ التَّعْلِيقِ وَالإِْضَافَةِ الَّتِي بِمَعْنَى إِسْنَادِ الْحُكْمِ إِلَى زَمَنٍ آخَرَ، وَلَكِنْ لَمْ يَسْلَمُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مِنَ الاِعْتِرَاضِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّعْلِيقَ يَمِينٌ، وَهِيَ إِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ بِهَا الْبِرَّ أَفَادَتِ انْتِفَاءَ الْمُعَلَّقِ، وَلاَ يُفْضِي
__________
(1) تيسير التحرير 1 / 129.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 492.

(5/66)


إِلَى الْحُكْمِ، أَمَّا الإِْضَافَةُ فَهِيَ لِثُبُوتِ حُكْمِ السَّبَبِ فِي وَقْتِهِ، لاَ لِمَنْعِهِ، فَيَتَحَقَّقُ السَّبَبُ بِلاَ مَانِعٍ. إِذِ الزَّمَانُ مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُودِ.
وَالْفَرْقُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّرْطَ عَلَى خَطَرِ (احْتِمَال الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ) وَلاَ خَطَرَ فِي الإِْضَافَةِ. (1) وَيُرْجَعُ إِلَى كُتُبِ الأُْصُول لِلاِعْتِرَاضَاتِ عَلَى هَذَيْنِ الْفَرْقَيْنِ، وَالأَْجْوِبَةِ عَنْهَا.

ب - التَّقْيِيدُ:
4 - التَّقْيِيدُ فِي الْعُقُودِ هُوَ: الْتِزَامُ حُكْمٍ فِي التَّصَرُّفِ الْقَوْلِيِّ، لاَ يَسْتَلْزِمُهُ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ فِي حَال إِطْلاَقِهِ.

ج - الاِسْتِثْنَاءُ:
5 - الاِسْتِثْنَاءُ: قَوْلٌ ذُو صِيَغٍ مَخْصُوصَةٍ مَحْصُورَةٍ، دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْمَذْكُورَ فِيهِ لَمْ يَرُدَّ بِالْقَوْل الأَْوَّل. (2)
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الإِْضَافَةِ: أَنَّ الْحُكْمَ فِي الاِسْتِثْنَاءِ يَثْبُتُ فِي الْحَال، فَلَوْ قَال الْمُقِرُّ: لِفُلاَنٍ عَلَيَّ عَشْرَةٌ إِلاَّ ثَلاَثًا فَإِنَّهُ يَكُونُ مُقِرًّا بِسَبْعٍ، بِخِلاَفِ الإِْضَافَةِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهَا لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ عِنْدَ وُجُودِ الزَّمَنِ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ الْحُكْمُ، كَمَا لَوْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ أَوَّل الشَّهْرِ، فَإِنَّهَا لاَ تَطْلُقُ إِلاَّ إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ. أَمَّا الاِسْتِثْنَاءُ فَإِنَّ تَأْخِيرَ الْمُسْتَثْنَى عَنِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ (أَيِ الْفَصْل) لِغَيْرِ عُذْرٍ يُبْطِلُهُ.

د - التَّوَقُّفُ:
6 - الْمُرَادُ بِالتَّوَقُّفِ هُنَا: عَدَمُ نَفَاذِ حُكْمِ التَّصَرُّفِ الصَّادِرِ مِنْ ذِي أَهْلِيَّةٍ لَكِنْ لاَ وِلاَيَةَ لَهُ فِيهِ. وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْعُقُودِ الْقَابِلَةِ لَهُ، كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَالنِّكَاحِ، فَإِذَا بَاعَ الْفُضُولِيُّ أَوِ اشْتَرَى فَعِنْدَ
__________
(1) فتح الغفار على المنار 2 / 55، 56، وتيسير التحرير 1 / 128.
(2) المستصفى مع مسلم الثبوت 2 / 163، والأحكام للآمدي 2 / 83، والمنهاج للبيضاوي مع شرح الأسنوي 2 / 93.

(5/67)


الْقَائِلِينَ بِصِحَّةِ تَصَرُّفِهِ يَكُونُ الْعَقْدُ مَوْقُوفًا، لاَ يَنْفُذُ إِلاَّ بَعْدَ إِجَازَةِ الْمَالِكِ فِي الْبَيْعِ، وَالْمُشْتَرِي لَهُ فِي الشِّرَاءِ. (1)
هَذَا، وَإِنَّ بَيْنَ الْعُقُودِ الْمُضَافَةِ وَالْعُقُودِ الْمَوْقُوفَةِ شَبَهًا وَفَرْقًا، فَأَمَّا الشَّبَهُ: فَهُوَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُوجَدُ عِنْدَ وُجُودِ الصِّيغَةِ، مَعَ تَأَخُّرِ الْحُكْمِ إِلَى الزَّمَنِ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ فِي الْعَقْدِ الْمُضَافِ، أَوْ إِلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ فِي الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ.

وَأَمَّا الْفَرْقُ فَمِنْ ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ:
أَوَّلُهَا: أَنَّ تَرَاخِيَ الْحُكْمِ عَنِ الصِّيغَةِ فِي الْعَقْدِ الْمُضَافِ نَشَأَ مِنَ الصِّيغَةِ نَفْسِهَا، لأَِنَّ الإِْيجَابَ فِيهَا مُضَافٌ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، أَمَّا تَرَاخِي الْحُكْمِ فِي الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ فَلَيْسَ مَرْجِعُهُ الصِّيغَةَ، لأَِنَّهَا مُنَجَّزَةٌ،
وَإِنَّمَا مَرْجِعُهُ صُدُورُ التَّصَرُّفِ مِمَّنْ لاَ وِلاَيَةَ لَهُ فِي الْعَقْدِ.
ثَانِيهَا: أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ يُنَفَّذُ بَعْدَ الإِْجَازَةِ مُسْتَنِدًا إِلَى وَقْتِ صُدُورِ التَّصَرُّفِ، لأَِنَّ الإِْجَازَةَ اللاَّحِقَةَ فِيهِ كَالإِْذْنِ السَّابِقِ. بِخِلاَفِ الْعَقْدِ الْمُضَافِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهِ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ عِنْدَ مَجِيءِ الزَّمَنِ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ الْحُكْمُ.
ثَالِثُهَا: أَنَّ الْعَقْدَ الْمُضَافَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ فِي الزَّمَنِ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ الإِْيجَابُ، مَا دَامَ صَحِيحًا. بِخِلاَفِ الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ، فَإِنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الإِْجَازَةِ وَالرَّدِّ فِيمَا إِذَا لَمْ يُجِزْهُ مَنْ لَهُ الْوِلاَيَةُ. فَبَيْعُ الْفُضُولِيِّ مَثَلاً لاَ يَنْفُذُ إِذَا لَمْ يُجِزْهُ الْمَالِكُ. (2)
__________
(1) فتح القدير 7 / 145، وبدائع الصنائع 6 / 319، وجواهر الإكليل 2 / 184، ومواهب الجليل 4 / 369.
(2) بدائع الصنائع 6 / 3019، وقليوبي وعميرة 2 / 160.

(5/67)


هـ - التَّعْيِينُ:
7 - التَّعْيِينُ مَعْنَاهُ: التَّحْدِيدُ وَالاِخْتِيَارُ، فَمَنْ طَلَّقَ إِحْدَى نِسَائِهِ، وَلَمْ يُعَيِّنِ الْمُطَلَّقَةَ مِنْهُنَّ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ التَّعْيِينُ عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ بِهِ. فَلَوْ قَال عِنْدَ التَّعْيِينِ: هَذِهِ الْمُطَلَّقَةُ وَهَذِهِ، أَوْ بَل هَذِهِ، أَوْ ثُمَّ هَذِهِ، تَعَيَّنَتِ الأُْولَى، لأَِنَّ التَّعْيِينَ إِنْشَاءُ اخْتِيَارٍ، لاَ إِخْبَارٌ عَنْ سَابِقٍ، وَالْبَيَانُ عَكْسُهُ، فَهُنَاكَ شَبَهٌ بَيْنَ التَّعْيِينِ وَالإِْضَافَةِ مِنْ حَيْثُ تَرَاخِي حُكْمِ التَّصَرُّفِ إِلَى التَّعْيِينِ، أَوِ الزَّمَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ.
وَالتَّعْيِينُ يَأْتِي فِي خِصَال كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَإِنَّ مَنْ حَنِثَ، فَخُيِّرَ فِي الْكَفَّارَةِ بَيْنَ الإِْعْتَاقِ وَالإِْطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ، فَلاَ يَنْتَقِل إِلَى الصَّوْمِ إِلاَّ بَعْدَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى خَصْلَةٍ مِنْ تِلْكَ الْخِصَال الثَّلاَثَةِ. وَعِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى خَصْلَةٍ مِنْهَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُعَيِّنَهَا (1) .

شُرُوطُ الإِْضَافَةِ:
8 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الإِْضَافَةِ ثَلاَثَةُ شُرُوطٍ:
الأَْوَّل: صُدُورُهَا مِنْ أَهْلِهَا، وَهُوَ شَرْطٌ مُشْتَرَكٌ فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ.
الثَّانِي: مُقَارَنَتُهَا لِلْعَقْدِ أَوِ التَّصَرُّفِ.
الثَّالِثُ: مُصَادَفَتُهَا مَحَلَّهَا الْمَشْرُوعَ مِنَ الْعُقُودِ وَغَيْرِهَا. وَسَيَأْتِي تَفْصِيل هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ.

أَنْوَاعُ الإِْضَافَةِ:
9 - (الإِْضَافَةُ) نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: الإِْضَافَةُ إِلَى الْوَقْتِ.
وَثَانِيهِمَا: الإِْضَافَةُ إِلَى الشَّخْصِ.
__________
(1) حاشية قليوبي وعميرة 2 / 53، 3 / 346، 4 / 253، ومسلم الثبوت 1 / 69.

(5/68)


وَمَعْنَى الإِْضَافَةِ إِلَى الْوَقْتِ: تَأْخِيرُ الآْثَارِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى الْعَقْدِ إِلَى حُلُول الْوَقْتِ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ ذَلِكَ الْعَقْدُ، فَإِنَّ مِنَ الْعُقُودِ مَا يَقْبَل الإِْضَافَةَ إِلَى الْوَقْتِ، وَمِنْهَا مَا لاَ يَقْبَل. وَمَعْنَى الإِْضَافَةِ إِلَى الشَّخْصِ، أَنْ يُنْسَبَ حُكْمُ التَّصَرُّفِ إِلَى شَخْصٍ مَعْلُومٍ.

النَّوْعُ الأَْوَّل
الإِْضَافَةُ إِلَى الْوَقْتِ
10 - الإِْضَافَةُ تَتْبَعُ طَبِيعَةَ التَّصَرُّفَاتِ، وَمِنَ التَّصَرُّفَاتِ مَا يُضَافُ إِلَى الْوَقْتِ، وَمِنْهَا مَا لاَ يُضَافُ إِلَيْهِ.
فَالتَّصَرُّفَاتُ الَّتِي تَصِحُّ إِضَافَتُهَا إِلَى الْوَقْتِ هِيَ: الطَّلاَقُ، وَتَفْوِيضُهُ، وَالْخُلْعُ، وَالإِْيلاَءُ، وَالظِّهَارُ، وَالْيَمِينُ، وَالنَّذْرُ، وَالْعِتْقُ، وَالإِْجَارَةُ، وَالْمُعَامَلَةُ، وَالإِْيصَاءُ، وَالْوَصِيَّةُ، وَالْقَضَاءُ، وَالْمُضَارَبَةُ، وَالْكَفَالَةُ، وَالْوَقْفُ، وَالْمُزَارَعَةُ، وَالْوَكَالَةُ.
وَهُنَاكَ تَصَرُّفَاتٌ لاَ تَصِحُّ إِضَافَتُهَا إِلَى الْوَقْتِ كَالنِّكَاحِ، وَالْبَيْعِ، وَغَيْرِهِمَا.
التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي تَقْبَل الإِْضَافَةَ إِلَى الْوَقْتِ:

الطَّلاَقُ:
11 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَضَافَ الطَّلاَقَ إِلَى الْمَاضِي وَقَعَ فِي الْحَال. وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ أَنَّهُ يَلْغُو. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى وُقُوعِ الطَّلاَقِ إِنْ نَوَاهُ، وَإِلاَّ فَهُوَ لَغْوٌ.
أَمَّا إِضَافَةُ الطَّلاَقِ إِلَى الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَل فَالْجُمْهُورُ عَلَى وُقُوعِهِ فِي أَوَّل الْوَقْتِ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا أُضِيفَ إِلَى وَقْتٍ مُحَقَّقِ

(5/68)


الْوُقُوعِ وَقَعَ فِي الْحَال، لأَِنَّ إِضَافَةَ الطَّلاَقِ إِلَى الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَل أَوِ الْمُحَقَّقِ مَجِيئُهُ تَجْعَل النِّكَاحَ مُؤَقَّتًا، فَحِينَئِذٍ يُشْبِهُ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ، وَهُوَ حَرَامٌ، فَيُنَجَّزُ الطَّلاَقُ. (1)

إِضَافَةُ تَفْوِيضِ الطَّلاَقِ لِلْمُسْتَقْبَل:
12 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ قَدِيمٌ لِلشَّافِعِيَّةِ (بِنَاءً عَلَى قَوْلٍ بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ الْفَوْرِيَّةِ فِي تَفْوِيضِ الطَّلاَقِ إِلَى الْمَرْأَةِ، وَأَنَّهُ بِمَعْنَى التَّوْكِيل) إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ إِضَافَةُ تَفْوِيضِ الطَّلاَقِ إِلَى الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَل.
وَالْقَوْل الْجَدِيدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْفَوْرِيَّةُ، فَلاَ يُحْتَمَل الإِْضَافَةُ إِلَى الْوَقْتِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّفْوِيضَ بِمَعْنَى التَّمْلِيكِ. (2)

إِضَافَةُ الْخُلْعِ إِلَى الْوَقْتِ:
13 - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ إِضَافَةِ الْخُلْعِ إِلَى الْوَقْتِ. فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْل الْوَقْتِ، وَكَانَ يُرَادُ بِهِ التَّعْجِيل وَقَعَ الطَّلاَقُ بَائِنًا، وَاسْتَحَقَّ الزَّوْجُ الْعِوَضَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا إِذَا طَلَّقَ بَعْدَ مُضِيِّ الْوَقْتِ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ الْخُلْعُ فَإِنَّهُ يَقَعُ الطَّلاَقُ،
__________
(1) البدائع 4 / 1838، 1839 ط الإمام، وجواهر الإكليل 1 / 350، 351، والدسوقي 2 / 389، 390، 406، ومواهب الجليل 4 / 66 - 68، 91، 92، وكشاف القناع 5 / 273 - 275، والفروع 3 / 214 - 220، والقليوبي 3 / 329، 350 - 352، وشرح الروض 3 / 302، ومغني المحتاج 3 / 313، والمهذب 2 / 81.
(2) تحفة المحتاج 8 / 23 - 25، والمهذب 2 / 81، والبدائع 4 / 1838 - 1839، والدسوقي 2 / 406، 407، وكشاف القناع 5 / 254، 256.

(5/69)


وَلاَ شَيْءَ لِلزَّوْجِ. (1) وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي كَوْنِ هَذَا الطَّلاَقِ رَجْعِيًّا أَوْ بَائِنًا، يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (خُلْعٌ) .

إِضَافَةُ الإِْيلاَءِ إِلَى الْوَقْتِ:
14 - الإِْيلاَءُ يَقْبَل الإِْضَافَةَ إِلَى الْوَقْتِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّ الإِْيلاَءَ يَمِينٌ، وَالْيَمِينُ يَحْتَمِل التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَالإِْضَافَةِ إِلَى الْوَقْتِ. (2)

إِضَافَةُ الظِّهَارِ إِلَى الْوَقْتِ:
15 - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَعَلَى قَوْلٍ ضَعِيفٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، أَنَّهُ يَصِحُّ إِضَافَةُ الظِّهَارِ إِلَى الْوَقْتِ. وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ إِضَافَتُهُ إِلَى الْوَقْتِ. (3) وَلَمْ نَجِدْ لِلشَّافِعِيَّةِ رَأْيًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

إِضَافَةُ الْيَمِينِ إِلَى الْوَقْتِ:
16 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ يَجُوزُ إِضَافَتُهَا إِلَى الْوَقْتِ، مَعَ تَفْصِيلٍ ذَكَرُوهُ فِي كُتُبِهِمْ. (4) وَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (أَيْمَانٌ) .

إِضَافَةُ النَّذْرِ إِلَى الْوَقْتِ:
17 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ إِضَافَةِ النَّذْرِ إِلَى وَقْتٍ
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 1893، والخرشي 4 / 25، وشرح روض الطالب 3 / 259، وكشاف القناع 5 / 335.
(2) بدائع الصنائع 4 / 1938 ط الإمام، والخرشي 4 / 90، والقليوبي وعميرة 4 / 11 - 12.
(3) بدائع الصنائع 3 / 232، والتاج والإكليل 4 / 111، وكشاف القناع 5 / 373، وراجع في هذا مصطلح (ظهار) .
(4) بدائع الصنائع 3 / 11 - 13، وبلغة السالك 1 / 330، 331، ونهاية المحتاج 8 / 170، وكشاف القناع 6 / 235.

(5/69)


مُسْتَقْبَلٍ، كَأَنْ يَقُول: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرَ رَجَبٍ، أَوْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ يَوْمَ كَذَا، (1) عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي (بَابِ النَّذْرِ) .

إِضَافَةُ الإِْجَارَةِ إِلَى الْوَقْتِ:
18 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ إِضَافَةِ الإِْجَارَةِ إِلَى الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَل فِي الْجُمْلَةِ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِجَارَةٌ) (2) .

إِضَافَةُ الْمُضَارَبَةِ إِلَى الْمُسْتَقْبَل:
19 - أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ إِضَافَةَ الْمُضَارَبَةِ إِلَى الْوَقْتِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ الْجَوَازِ. (3) وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (مُضَارَبَةٌ) .

إِضَافَةُ الْكَفَالَةِ:
20 - أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِضَافَةَ الْكَفَالَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ فِي الْمَال أَمْ فِي الْبَدَنِ، لأَِنَّهَا تَبَرُّعٌ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، وَضَرْبُ أَجَلٍ لَهَا لاَ يُخِل بِالْمَقْصُودِ، فَصَحَّتْ كَالنَّذْرِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ تَجُوزُ إِضَافَتُهَا أَوْ تَعْلِيقُهَا إِنْ كَانَتْ فِي الْمَال اتِّفَاقًا، وَكَذَلِكَ فِي الْبَدَنِ عَلَى
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 93 - 95، ومواهب الجليل 3 / 337، 338، ومغني المحتاج 4 / 354، 361، وكشاف القناع 6 / 280.
(2) الزيلعي 5 / 148، والدسوقي 4 / 12، وقليوبي 3 / 71، وكشاف القناع 4 / 5 - 7.
(3) تبيين الحقائق 5 / 148، وحاشية الطحطاوي 3 / 365، وشرح منح الجليل 3 / 670، وحاشية قليوبي وعميرة 3 / 53، ونهاية المحتاج 5 / 223، وكشاف القناع 3 / 427.

(5/70)


الأَْصَحِّ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا تَجُوزُ (1) وَتَفْصِيل آرَاءِ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (كَفَالَةٌ) .

إِضَافَةُ الْوَقْفِ:
21 - يَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ إِضَافَةُ الْوَقْفِ إِلَى الْوَقْتِ. وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يُجِيزُونَ إِضَافَتَهُ، إِلاَّ أَنَّ الظَّاهِرَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُمْ يُجِيزُونَ إِضَافَةَ الْوَقْفِ إِذَا أَشْبَهَ التَّحْرِيرَ، كَمَا لَوْ جَعَل دَارَهُ مَسْجِدًا إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ، حَيْثُ جَعَلَهَا مُحَرَّرَةً مِنْ كُل مِلْكٍ إِلاَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَل. (2)

إِضَافَةُ الْمُزَارَعَةِ وَالْمُعَامَلَةِ:
22 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ إِضَافَةَ الْمُعَامَلَةِ (الْمُسَاقَاةُ) إِلَى الْمُسْتَقْبَل جَائِزَةٌ. وَأَمَّا الْمُزَارَعَةُ، فَالْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يَرَوْنَ قَبُولَهَا الإِْضَافَةَ. لأَِنَّ الْمُزَارَعَةَ وَالْمُعَامَلَةَ عِنْدَهُمْ فِي مَعْنَى الإِْجَارَةِ، وَالإِْجَارَةُ تَصِحُّ إِضَافَتُهَا إِلَى الْوَقْتِ فَكَذَلِكَ الْمُزَارَعَةُ وَالْمُعَامَلَةُ. (3) وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْمَالِكِيَّةُ
__________
(1) تبيين الحقائق 4 / 153، 5 / 148، ورد المحتار على الدر المختار 4 / 255، وبدائع الصنائع 6 / 3، ومواهب الجليل 5 / 101، ومغني المحتاج 2 / 306، ومنتهى الإرادات 1 / 414، وكشاف القناع 3 / 313، وراجع مصطلح (كفالة أو ضمان) .
(2) تبيين الحقائق 5 / 148، والفتاوى الهندية 3 / 305، 4 / 396، وحاشية الدسوقي 4 / 87، ونهاية المحتاج 5 / 373، ومغني المحتاج 2 / 385، وحاشية قليوبي وعميرة 3 / 103، والمغني مع الشرح الكبير 6 / 221، وراجع مصطلح (وقف) .
(3) تبيين الحقائق 5 / 148، وحاشية الدسوقي 3 / 373، 377، 542، وجواهر الإكليل 3 / 123، 125، وروضة الطالبين 5 / 170، ومغني المحتاج 2 / 326، وكشاف القناع 3 / 543.

(5/70)


إِلَى ذِكْرِ الْمُدَّةِ فِيهَا. وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ وَالْمُسَاقَاةَ لاَ يَفْتَقِرَانِ لِلتَّصْرِيحِ بِمُدَّةٍ يَحْصُل الْكَمَال فِيهَا، بَل لَوْ زَارَعَهُ أَوْ سَاقَاهُ دُونَ أَنْ يَذْكُرَ مُدَّةً جَازَ، لأَِنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَضْرِبْ لأَِهْل خَيْبَرَ مُدَّةً. (1)

إِضَافَةُ الْوَصِيَّةِ وَالإِْيصَاءِ إِلَى الْوَقْتِ:
23 - الْوَصِيَّةُ وَالإِْيصَاءُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي اللُّغَةِ، وَيُفَرِّقُ الْفُقَهَاءُ بَيْنَهُمَا فِي الاِسْتِعْمَال، فَالإِْيصَاءُ مَعْنَاهُ أَنْ يَعْهَدَ إِلَى غَيْرِهِ، بِأَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَالْوَصِيَّةُ تَصَرُّفٌ مُضَافٌ إِلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ تُسْتَعْمَل غَالِبًا فِي الأَْمْوَال. وَيَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ وَالإِْيصَاءَ يَقْبَلاَنِ الإِْضَافَةَ إِلَى الْوَقْتِ. (2)

إِضَافَةُ الْوَكَالَةِ إِلَى الْوَقْتِ:
24 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ تَفْرِيعَاتِ الشَّافِعِيَّةِ، إِلَى جَوَازِ إِضَافَةِ الْوَكَالَةِ إِلَى الْوَقْتِ. قَال صَاحِبُ الْبَدَائِعِ: رُكْنُ التَّوْكِيل قَدْ يَكُونُ مُضَافًا إِلَى وَقْتٍ، بِأَنْ يَقُول وَكَّلْتُكَ فِي بَيْعِ هَذِهِ الدَّارِ غَدًا، وَيَصِيرُ وَكِيلاً فِي الْغَدِ فَمَا بَعْدَهُ، وَلاَ يَكُونُ وَكِيلاً قَبْل الْغَدِ، لأَِنَّ التَّوْكِيل إِطْلاَقُ التَّصَرُّفِ، وَالإِْطْلاَقَاتُ مِمَّا تَحْتَمِل التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 543، وراجع مصطلح (مزارعة) و (مساقاة) .
(2) تبيين الحقائق 5 / 148، والفتاوى الهندية 4 / 396، والخرشي 8 / 191، وجواهر الإكليل 2 / 335، وحاشية الدسوقي 4 / 451، ومغني المحتاج 3 / 39 ط الحلبي، وكشاف القناع 4 / 351، 395.

(5/71)


وَالإِْضَافَةِ إِلَى الْوَقْتِ، كَالطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ. (1)

الْعُقُودُ الَّتِي لاَ تَصِحُّ إِضَافَتُهَا إِلَى الْمُسْتَقْبَل:
25 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ عُقُودَ الْبَيْعِ، وَالنِّكَاحِ، وَالصُّلْحِ عَلَى مَالٍ، وَالرَّجْعَةِ، وَالْقِسْمَةِ لاَ تَقْبَل الإِْضَافَةَ إِلَى الْمُسْتَقْبَل. وَمِثْلُهَا الشَّرِكَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَمْ يُعْثَرْ لِلآْخَرِينَ عَلَى قَوْلٍ فِيهَا. (2) وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ قَاعِدَةِ عَدَمِ قَبُول النِّكَاحِ لِلإِْضَافَةِ الصُّورَةَ التَّالِيَةَ: لَوْ أَضَافَ الأَْبُ نِكَاحَ ابْنَتِهِ إِلَى مَوْتِهِ، وَكَانَ مَرِيضًا مَرَضًا مَخُوفًا أَمْ لاَ، طَال أَوْ قَصُرَ فَيَصِحُّ النِّكَاحُ إِذَا مَاتَ مِنْهُ، لأَِنَّهُ مِنْ وَصَايَا الْمُسْلِمِينَ. (3) وَكَذَلِكَ عَقْدُ الْهِبَةِ لاَ يَقْبَل الإِْضَافَةَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، ذَكَرُوهَا فِي مَوْضِعِهَا. (4) وَلِلتَّفْصِيل وَبَيَانِ الأَْدِلَّةِ فِي كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْمَوْضُوعَاتِ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحَاتِهَا.
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 30، والفتاوى الهندية 4 / 396، وتبيين الحقائق 5 / 148، ومواهب الجليل 5 / 196، وجواهر الإكليل 2 / 137، وحاشية الدسوقي 3 / 383، ونهاية المحتاج 5 / 28، 29، وقليوبي وعميرة، 2 / 340، 341، وكشاف القناع 3 / 463، وراجع مصطلح (وصية) .
(2) الزيلعي 5 / 148، 149، والفتاوى الهندية 4 / 396، والقليوبي 2 / 306، 332، 4 / 3، وجواهر الإكليل 1 / 164، 2 / 102، 115 - 123، والدسوقي 2 / 239، 420، 3 / 498 - 517، وكشاف القناع 3 / 506، 507، 5 / 343، والفروع 3 / 846 - 856.
(3) الدسوقي 2 / 224، والمواق بهامش الحطاب 3 / 428.
(4) الزيلعي 5 / 148، والقليوبي 3 / 111، وجواهر الإكليل 2 / 212، وكشاف القناع 4 / 299.

(5/71)


النَّوْعُ الثَّانِي
الإِْضَافَةُ إِلَى الشَّخْصِ
26 - التَّصَرُّفَاتُ إِمَّا أَنْ يُضِيفَهَا مُبَاشِرُهَا إِلَى نَفْسِهِ، وَإِمَّا أَنْ يُضِيفَهَا إِلَى غَيْرِهِ.

أ - إِضَافَةُ التَّصَرُّفِ إِلَى الْمُبَاشِرِ نَفْسِهِ:
27 - الأَْصْل أَنْ يُضِيفَ مُبَاشِرُ التَّصَرُّفِ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ إِلَى نَفْسِهِ، وَأَنْ يُبَاشِرَ الْعَقْدَ مَنْ يَمْلِكُ السِّلْعَةَ، وَكَذَلِكَ الطَّلاَقُ، فَإِنَّ الزَّوْجَ هُوَ الَّذِي يَمْلِكُهُ، فَلاَ بُدَّ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ، فَإِنْ صَدَرَ عَنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنَّهُ لاَ يَقَعُ.

ب - إِضَافَةُ الْمُبَاشِرِ التَّصَرُّفَ إِلَى غَيْرِهِ:
28 - إِذَا أَضَافَ الْمُبَاشِرُ التَّصَرُّفَ إِلَى غَيْرِهِ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الإِْضَافَةُ بِإِذْنِ ذَلِكَ الْغَيْرِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَإِنْ أُضِيفَ بِإِذْنِ ذَلِكَ الْغَيْرِ كَالْوَكَالَةِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ، فَمَنْ وَكَّل غَيْرَهُ فِي بَيْعٍ أَوْ طَلاَقٍ أَوْ إِيصَال هِبَةٍ أَوْ وَدِيعَةٍ، فَإِنَّ التَّوْكِيل يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَكِّل فِيمَا وَكَّل بِهِ، وَتَصَرُّفَاتُ الْوَكِيل مُعْتَبَرَةٌ. (1) وَأَمَّا إِنْ أُضِيفَ التَّصَرُّفُ إِلَى الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إِلَى ذَلِكَ التَّصَرُّفِ، فَإِنْ كَانَ لاَ يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنِ الْغَيْرِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ، وَذَلِكَ كَتَصَرُّفِ الْوَصِيِّ فِي شَأْنِ الْمُوصَى عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ مَنْ أَوْصَى غَيْرَهُ لِيَقُومَ مَقَامَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي رِعَايَةِ أَبْنَائِهِ لاَ يَحْتَاجُ الْوَصِيُّ فِي تَصَرُّفَاتِهِ إِلَى إِذْنِ الْمُوصَى عَلَيْهِمْ، لأَِنَّهُمْ تَحْتَ وِصَايَتِهِ، فَتَصَرُّفَاتُهُ - أَيِ الْوَصِيِّ - تَنْفُذُ عَلَيْهِمْ عَمَلاً بِكَلاَمِ الْمُوصِي. (2)
__________
(1) راجع مصطلح (وكالة) .
(2) راجع مصطلح (وصية) .

(5/72)


وَمِثْل الْوَصِيَّةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى الْوِلاَيَةُ. فَإِنَّ تَصَرُّفَاتِ الْوَلِيِّ تَنْفُذُ عَلَى مَنْ لَهُ الْوِلاَيَةُ عَلَيْهِمْ وَلاَ يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنِهِمْ. (1) وَكَذَلِكَ الْقَيِّمُ الَّذِي يُعِينُهُ الْقَاضِي، فَإِنَّ تَصَرُّفَاتِهِ صَحِيحَةٌ، وَلاَ يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنِ مَنْ لَهُ الْقِوَامَةُ عَلَيْهِ. 29 - وَأَمَّا إِنْ كَانَ يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنِ الْغَيْرِ فَهُوَ تَصَرُّفُ الْفُضُولِيِّ الَّذِي يَتَصَرَّفُ بِلاَ إِذْنٍ وَلاَ وِصَايَةٍ وَلاَ وِلاَيَةٍ وَلاَ قِوَامَةٍ فِي بَيْعٍ وَغَيْرِهِ. وَفِي صِحَّةِ تَصَرُّفَاتِ الْفُضُولِيِّ خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ - عَلَى قَوْلٍ عِنْدَهُمْ - وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّ الْفُضُولِيَّ إِذَا تَصَرَّفَ بِبَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ فَإِنَّ تَصَرُّفَهُ هَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ، فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ وَإِلاَّ فَلاَ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ - عَلَى قَوْلٍ عِنْدَهُمْ - وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ تَصَرُّفَ الْفُضُولِيِّ بِالْبَيْعِ أَوِ الشِّرَاءِ بَاطِلٌ، حَتَّى وَإِنْ أَجَازَهُ الْمَالِكُ. وَاسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ مَا لَوْ اشْتَرَى لِغَيْرِهِ شَيْئًا فِي ذِمَّتِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَيَصِحُّ إِنْ لَمْ يُسَمِّ الْمُشْتَرِي مَنِ اشْتَرَى لَهُ فِي الْعَقْدِ، بِأَنْ قَال: اشْتَرَيْتُ هَذَا، وَلَمْ يَقُل: لِفُلاَنٍ، فَيَصِحُّ الْعَقْدُ، سَوَاءٌ نَقَدَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ مِنْ مَال الَّذِي اشْتَرَى لَهُ، أَوْ مِنْ مَال نَفْسِهِ، أَوْ لَمْ يَنْقُدْهُ بِالْكُلِّيَّةِ، لأَِنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِي ذِمَّتِهِ، وَهِيَ قَابِلَةٌ لِلتَّصَرُّفِ، وَاَلَّذِي نَقَدَهُ إِنَّمَا هُوَ عِوَضٌ عَمَّا فِي الذِّمَّةِ. فَإِنْ سَمَّاهُ فِي الْعَقْدِ لَمْ يَصِحَّ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَذِنَ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ - فِي قَوْلٍ ثَالِثٍ عِنْدَهُمْ - إِلَى أَنَّ تَصَرُّفَ الْفُضُولِيِّ بِالْبَيْعِ أَوِ الشِّرَاءِ بَاطِلٌ فِي الْعَقَارِ
__________
(1) راجع مصطلح (ولاية) .

(5/72)


وَجَائِزٌ فِي الْعُرُوضِ، أَيْ يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ فِي الْمَنْقُولاَتِ دُونَ غَيْرِهَا كَالأَْرَاضِيِ وَالْبُيُوتِ (1) .

إِضْجَاعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْضْجَاعُ مَصْدَرُ أَضْجَعَ، يُقَال: أَضْجَعْتُهُ إِضْجَاعًا: وَضَعْتُ جَنْبَهُ بِالأَْرْضِ. (2) وَهُوَ كَذَلِكَ فِي الاِصْطِلاَحِ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِضْطِجَاعُ:
2 - الاِضْطِجَاعُ وَضْعُ الإِْنْسَانِ جَنْبَهُ عَلَى الأَْرْضِ بِنَفْسِهِ، فَهُوَ لاَزِمٌ، وَالاِضْطِجَاعُ مُتَعَدٍّ. (3) وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الإِْضْجَاعِ، أَنَّ الإِْضْجَاعَ يُقَال فِيمَنْ ضَجَعَ نَفْسَهُ. أَمَّا الإِْضْجَاعُ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِفِعْل الْغَيْرِ لَهُ. وَالاِضْطِجَاعُ فِي السُّجُودِ أَنْ يَتَضَامَّ فِيهِ وَلاَ يُجَافِي بَطْنَهُ عَنْ فَخِذَيْهِ (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 3015 ط الإمام، وحاشية ابن عابدين 4 / 140 ط الأميرية، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 12 ط دار الفكر، وجواهر الإكليل 2 / 5 ط دار المعرفة، وحاشية قليوبي وعميرة 2 / 160 ط دار إحياء الكتب العربية، ونهاية المحتاج 3 / 389، 390 ط المكتبة الإسلامية، وكشاف القناع 3 / 157 ط مكتبة النصر، ومطالب أولي النهى 3 / 19 ط المكتب الإسلامي، وانظر مصطلح (بيع الفضولي) .
(2) تاج العروس ولسان العرب، والمصباح المنير. مادة (ضجع) .
(3) لسان العرب، والمصباح المنير في المادة.
(4) لسان العرب في المادة، والمغرب للمطرزي، وقواعد الفقه، لمحمد المجددي ص 183، طبع دكة، المدرسة العالية.

(5/73)


ب - اسْتِلْقَاءٌ:
3 - الاِسْتِلْقَاءُ: النَّوْمُ عَلَى الْقَفَا (1) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
4 - يُفَصِّل الْفُقَهَاءُ فِي (الذَّبَائِحِ) حُكْمَ إِضْجَاعِ الذَّبِيحَةِ وَإِرَاحَتِهَا، وَيَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، لِمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ آثَارٍ، وَلأَِنَّ فِيهِ إِرَاحَةً لِلذَّبِيحَةِ وَتَخْفِيفًا عَنْهَا. كَمَا يَتَكَلَّمُ الْفُقَهَاءُ عَلَى الإِْضْجَاعِ فِي الْجَنَائِزِ عِنْدَ احْتِضَارِ الشَّخْصِ، وَعِنْدَ دَفْنِهِ حَيْثُ يُسَنُّ إِضْجَاعُهُ عَلَى جَنْبِهِ الأَْيْمَنِ جِهَةَ الْقِبْلَةِ، وَهَذَا مَوْضِعُ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، لِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الآْثَارِ (ر: جِنَازَةٌ) (2)
__________
(1) لسان العرب في مادة (لقى) .
(2) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 305، والفتاوى الهندية 1 / 157 - 166 ط بولاق، والمغني 2 / 448 - 451 ط الرياض، ومواهب الجليل 2 / 219، 233 ط دار الفكر، ونهاية المحتاج 2 / 266 ط المكتبة الإسلامية.

(5/73)


أُضْحِيَّةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الأُْضْحِيَّةُ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَبِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَوْ كَسْرِهَا، وَجَمْعُهَا الأَْضَاحِيُّ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيْضًا، وَيُقَال لَهَا: الضَّحِيَّةُ بِفَتْحِ الضَّادِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَجَمْعُهَا الضَّحَايَا، وَيُقَال لَهَا أَيْضًا: الأَْضْحَاةُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَجَمْعُهَا الأَْضْحَى، وَهُوَ عَلَى التَّحْقِيقِ اسْمُ جِنْسٍ جَمْعِيٍّ، (1) وَبِهَا سُمِّيَ يَوْمُ الأَْضْحَى، أَيِ الْيَوْمُ الَّذِي يُضَحِّي فِيهِ النَّاسُ. (2) وَقَدْ عَرَّفَهَا اللُّغَوِيُّونَ بِتَعْرِيفَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) الشَّاةُ الَّتِي تُذْبَحُ ضَحْوَةً، أَيْ وَقْتَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ وَالْوَقْتَ الَّذِي يَلِيهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى نَقَلَهُ صَاحِبُ اللِّسَانِ عَنْ ابْنِ الأَْعْرَابِيِّ. (وَثَانِيهُمَا) الشَّاةُ الَّتِي تُذْبَحُ يَوْمَ الأَْضْحَى، وَهَذَا الْمَعْنَى ذَكَرَهُ صَاحِبُ اللِّسَانِ أَيْضًا. أَمَّا مَعْنَاهَا فِي الشَّرْعِ: فَهُوَ مَا يُذَكَّى تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَيَّامِ النَّحْرِ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ. (3) فَلَيْسَ، مِنَ الأُْضْحِيَّةِ مَا يُذَكَّى (4) لِغَيْرِ التَّقَرُّبِ إِلَى
__________
(1) اسم الجنس الجمعي هو ما يفرق بينه وبين واحده بهاء التأنيث مثل شجر وشجرة، أو بالياء المشددة مثل عرب وعربي.
(2) القاموس وشرحه، ولسان العرب، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط مادة (ضحى) .
(3) شرح المنهج بحاشية البجيرمي 4 / 294، والدر المختار بحاشية ابن عابدين 5 / 111
(4) التذكية: إزهاق روح الحيوان ليتوصل إلى حل أكله، فتشمل الذبح والنحر بل تشمل العقر أيضا، كما لو شرد الثور أو البعير فطعن برمح أو نحوه مع التسمية ونية التضحية، كما هو موضح في الذبائح.

(5/74)


اللَّهِ تَعَالَى، كَالذَّبَائِحِ الَّتِي تُذْبَحُ لِلْبَيْعِ أَوِ الأَْكْل أَوْ إِكْرَامِ الضَّيْفِ، وَلَيْسَ مِنْهَا مَا يُذَكَّى فِي غَيْرِ هَذِهِ الأَْيَّامِ، وَلَوْ لِلتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ مَا يُذَكَّى بِنِيَّةِ الْعَقِيقَةِ عَنِ الْمَوْلُودِ، أَوْ جَزَاءِ التَّمَتُّعِ أَوِ الْقِرَانِ فِي النُّسُكِ، أَوْ جَزَاءِ تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْل مَحْظُورٍ فِي النُّسُكِ، أَوْ يُذَكَّى بِنِيَّةِ الْهَدْيِ كَمَا سَيَأْتِي.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقُرْبَانُ:
2 - الْقُرْبَانُ: مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْعَبْدُ إِلَى رَبِّهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ الذَّبَائِحِ أَمْ مِنْ غَيْرِهَا. وَالْعَلاَقَةُ الْعَامَّةُ بَيْنَ الأُْضْحِيَّةِ وَسَائِرِ الْقَرَابِينِ أَنَّهَا كُلُّهَا يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ كَانَتِ الْقَرَابِينُ مِنَ الذَّبَائِحِ كَانَتْ عَلاَقَةُ الأُْضْحِيَّةِ بِهَا أَشَدَّ، لأَِنَّهَا يَجْمَعُهَا كَوْنُهَا ذَبَائِحَ يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، فَالْقُرْبَانُ أَعَمُّ مِنَ الأُْضْحِيَّةِ.

ب - الْهَدْيُ:
3 - الْهَدْيُ: مَا يُذَكَّى مِنَ الأَْنْعَامِ فِي الْحَرَمِ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ لِتَمَتُّعٍ أَوْ قِرَانٍ، أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ مِنْ وَاجِبَاتِ النُّسُكِ، أَوْ فِعْل مَحْظُورٍ مِنْ مَحْظُورَاتِ النُّسُكِ، حَجًّا كَانَ أَوْ عُمْرَةً، أَوْ لِمَحْضِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى تَطَوُّعًا. وَيَشْتَرِكُ الْهَدْيُ مَعَ الأُْضْحِيَّةِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا ذَبِيحَةٌ، وَمِنَ الأَْنْعَامِ، وَتُذْبَحُ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ، وَيُقْصَدُ بِهَا التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَيَفْتَرِقُ الْهَدْيُ ذُو السَّبَبِ عَنِ الأُْضْحِيَّةِ افْتِرَاقًا ظَاهِرًا، فَإِنَّ الأُْضْحِيَّةَ لاَ تَقَعُ عَنْ تَمَتُّعٍ وَلاَ قِرَانٍ، وَلاَ تَكُونُ كَفَّارَةً لِفِعْلٍ مَحْظُورٍ أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ. وَأَمَّا الْهَدْيُ الَّذِي قُصِدَ بِهِ التَّقَرُّبُ الْمَحْضُ فَإِنَّهُ

(5/74)


يَشْتَبِهُ بِالأُْضْحِيَّةِ اشْتِبَاهًا عَظِيمًا، لاَ سِيَّمَا أُضْحِيَّةُ الْمُقِيمِينَ بِمِنًى مِنْ أَهْلِهَا وَمِنَ الْحُجَّاجِ، فَإِنَّهَا ذَبِيحَةٌ مِنَ الأَْنْعَامِ ذُبِحَتْ فِي الْحَرَمِ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَكُل هَذِهِ الصِّفَاتِ صِفَاتٌ لِلْهَدْيِ فَلاَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، فَمَا نُوِيَ بِهِ الْهَدْيُ كَانَ هَدْيًا، وَمَا نُوِيَ بِهِ التَّضْحِيَةُ كَانَ أُضْحِيَّةً. فَإِنْ قِيل: إِنَّ النِّيَّةَ لَيْسَتْ نِيَّةَ أَلْفَاظٍ، وَإِنَّمَا هِيَ مَعَانٍ، فَمَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يَخْطِرُ بِبَال النَّاوِي، حِينَ يَنْوِي الْهَدْيَ، وَحِينَ يَنْوِي الأُْضْحِيَّةَ حَتَّى تَكُونَ النِّيَّةُ فَارِقَةً بَيْنَهُمَا؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ نَاوِيَ الْهَدْيِ يَخْطِرُ بِبَالِهِ الإِْهْدَاءُ إِلَى الْحَرَمِ وَتَكْرِيمُهُ، وَنَاوِيَ الأُْضْحِيَّةِ يَخْطِرُ بِبَالِهِ الذَّبْحُ الْمُخْتَصُّ بِالأَْيَّامِ الْفَاضِلَةِ مِنْ غَيْرِ مُلاَحَظَةِ الإِْهْدَاءِ إِلَى الْحَرَمِ. هَذَا، وَالْمَالِكِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّ الْحَاجَّ لاَ يُضَحِّي كَمَا سَيَأْتِي، فَيَكُونُ الْفَرْقُ عِنْدَهُمْ بَيْنَ هَدْيِ التَّطَوُّعِ وَالأُْضْحِيَّةِ ظَاهِرًا، فَإِنَّ مَا يَقُومُ بِهِ الْحَاجُّ يَكُونُ هَدْيًا، وَمَا يَقُومُ بِهِ غَيْرُ الْحَاجِّ يَكُونُ أُضْحِيَّةً.

ج - الْعَقِيقَةُ:
4 - الْعَقِيقَةُ مَا يُذَكَّى مِنَ النَّعَمِ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ، مِنْ وِلاَدَةِ مَوْلُودٍ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَلاَ شَكَّ أَنَّهَا تُخَالِفُ الأُْضْحِيَّةَ الَّتِي هِيَ شُكْرٌ عَلَى نِعْمَةِ الْحَيَاةِ، لاَ عَلَى الإِْنْعَامِ بِالْمَوْلُودِ، فَلَوْ وُلِدَ لإِِنْسَانٍ مَوْلُودٌ فِي عِيدِ الأَْضْحَى فَذَبَحَ عَنْهُ شُكْرًا عَلَى إِنْعَامِ اللَّهِ بِوِلاَدَتِهِ كَانَتِ الذَّبِيحَةُ عَقِيقَةً. وَإِنْ ذَبَحَ عَنْهُ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى إِنْعَامِهِ عَلَى الْمَوْلُودِ نَفْسِهِ بِالْوُجُودِ وَالْحَيَاةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ الْخَاصِّ، كَانَتِ الذَّبِيحَةُ أُضْحِيَّةً.

(5/75)


د - الْفَرَعُ وَالْعَتِيرَةُ:
5 - الْفَرْعُ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالرَّاءِ، وَيُقَال لَهُ الْفَرَعَةُ: أَوَّل نِتَاجِ الْبَهِيمَةِ، كَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ يَذْبَحُونَهُ لِطَوَاغِيتِهِمْ، رَجَاءَ الْبَرَكَةِ فِي الأُْمِّ وَكَثْرَةِ نَسْلِهَا، ثُمَّ صَارَ الْمُسْلِمُونَ يَذْبَحُونَهُ لِلَّهِ تَعَالَى. وَالْعَتِيرَةُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ: ذَبِيحَةٌ كَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ يَذْبَحُونَهَا فِي الْعَشْرِ الأُْوَل مِنْ رَجَبٍ لآِلِهَتِهِمْ وَيُسَمُّونَهَا الْعِتْرَ (بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ) وَالرَّجِيبَةُ أَيْضًا، ثُمَّ صَارَ الْمُسْلِمُونَ يَذْبَحُونَهَا لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ وَلاَ تَقَيُّدٍ بِزَمَنٍ. وَعَلاَقَةُ الأُْضْحِيَّةِ بِهِمَا أَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ مَعَهَا فِي أَنَّ الْجَمِيعَ ذَبَائِحُ يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَل، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ. فَإِنَّ الْفَرَعَ يَقْصِدُ بِهِ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى أَوَّل نِتَاجٍ تُنْتِجُهُ النَّاقَةُ وَغَيْرُهَا وَرَجَاءَ الْبَرَكَةِ فِيهَا، وَالْعَتِيرَةُ يَقْصِدُ بِهَا شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى نِعْمَةِ الْحَيَاةِ إِلَى وَقْتِ ذَبْحِهَا. وَالأُْضْحِيَّةُ يَقْصِدُ بِهَا شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى نِعْمَةِ الْحَيَاةِ إِلَى حُلُول الأَْيَّامِ الْفَاضِلَةِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ الْحَرَامِ. (1)

مَشْرُوعِيَّةُ الأُْضْحِيَّةِ وَدَلِيلُهَا:
6 - الأُْضْحِيَّةُ مَشْرُوعَةٌ إِجْمَاعًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَصَل لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (2) قِيل فِي تَفْسِيرِهِ: صَل صَلاَةَ الْعِيدِ وَانْحَرِ الْبُدْنَ. (3)
__________
(1) المجموع 8 / 443، 444.
(2) سورة الكوثر / 2.
(3) البدن بضم الباء وسكون الدال جمع بدنة، وهي الواحدة من الإبل ذكورها وإناثها، وسميت بذلك لضخامة بدنها، وربما أطلقت البدنة على الواحدة من كل من الإبل والبقر، ويجوز في البقر النحر والذبح وإن كان الذبح أفضل كما هو موضح في الذبائح.

(5/75)


وَأَمَّا السُّنَّةُ فَأَحَادِيثُ تَحْكِي فِعْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا، وَأُخْرَى تَحْكِي قَوْلَهُ فِي بَيَانِ فَضْلِهَا وَالتَّرْغِيبِ فِيهَا وَالتَّنْفِيرِ مِنْ تَرْكِهَا. فَمِنْ ذَلِكَ مَا صَحَّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: {ضَحَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ، وَسَمَّى وَكَبَّرَ، وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا} . (1) وَأَحَادِيثُ أُخْرَى سَيَأْتِي بَعْضُهَا مِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ وَلَمْ يُضَحِّ فَلاَ يَقْرَبَنَّ مُصَلاَّنَا} . (2) وَقَدْ شُرِعَتِ التَّضْحِيَةُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَهِيَ السَّنَةُ الَّتِي شُرِعَتْ فِيهَا صَلاَةُ الْعِيدَيْنِ وَزَكَاةُ الْمَال. (3) أَمَّا حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّتِهَا، فَهِيَ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى نِعْمَةِ الْحَيَاةِ، وَإِحْيَاءُ سُنَّةِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيل عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ حِينَ أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ اسْمُهُ بِذَبْحِ الْفِدَاءِ عَنْ وَلَدِهِ إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ، وَأَنْ يَتَذَكَّرَ الْمُؤْمِنُ أَنَّ صَبْرَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيل عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ وَإِيثَارَهُمَا طَاعَةَ اللَّهِ وَمَحَبَّتَهُ عَلَى مَحَبَّةِ النَّفْسِ وَالْوَلَدِ كَانَا سَبَبَ الْفِدَاءِ وَرَفْعَ الْبَلاَءِ، فَإِذَا تَذَكَّرَ الْمُؤْمِنُ ذَلِكَ اقْتَدَى بِهِمَا فِي الصَّبْرِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَتَقْدِيمِ مَحَبَّتِهِ عَزَّ وَجَل عَلَى هَوَى النَّفْسِ وَشَهْوَتِهَا (4) .
__________
(1) حديث أنس بن مالك رضي الله عنه " ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1556 - 1557 ط عيسى الحلبي) .
(2) حديث: " من كان له سعة. . . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 1044 ط الحلبي) والحاكم (2 / 389، 390 ط دائرة المعارف العثمانية) والحديث صححه الحاكم وأقره الذهبي.
(3) البجيرمي على المنهج 4 / 294، والمجموع للنووي 8 / 383.
(4) محاسن الإسلام لمحمد بن عبد الرحمن البخاري (الزاهد) ص 104 ط. دار الكتاب العربي.

(5/76)


وَقَدْ يُقَال: أَيُّ عَلاَقَةٍ بَيْنَ إِرَاقَةِ الدَّمِ وَبَيْنَ شُكْرِ الْمُنْعِمِ عَزَّ وَجَل وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ هَذِهِ الإِْرَاقَةَ وَسِيلَةٌ لِلتَّوْسِعَةِ عَلَى النَّفْسِ وَأَهْل الْبَيْتِ، وَإِكْرَامِ الْجَارِ وَالضَّيْفِ، وَالتَّصَدُّقِ عَلَى الْفَقِيرِ، وَهَذِهِ كُلُّهَا مَظَاهِرُ لِلْفَرَحِ وَالسُّرُورِ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى الإِْنْسَانِ، وَهَذَا تَحَدُّثٌ بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَال عَزَّ اسْمُهُ: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} . (1) (ثَانِيهِمَا) الْمُبَالَغَةُ فِي تَصْدِيقِ مَا أَخْبَرَ بِهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَل مِنْ أَنَّهُ خَلَقَ الأَْنْعَامَ لِنَفْعِ الإِْنْسَانِ، وَأَذِنَ فِي ذَبْحِهَا وَنَحْرِهَا لِتَكُونَ طَعَامًا لَهُ. فَإِذَا نَازَعَهُ فِي حِل الذَّبْحِ وَالنَّحْرِ مُنَازِعٌ تَمْوِيهًا بِأَنَّهُمَا مِنَ الْقَسْوَةِ وَالتَّعْذِيبِ لِذِي رُوحٍ تَسْتَحِقُّ الرَّحْمَةَ وَالإِْنْصَافَ، كَانَ رَدُّهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل الَّذِي خَلَقَنَا وَخَلَقَ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ، وَأَمَرَنَا بِرَحْمَتِهَا وَالإِْحْسَانِ إِلَيْهَا، أَخْبَرَنَا وَهُوَ الْعَلِيمُ بِالْغَيْبِ أَنَّهُ خَلَقَهَا لَنَا وَأَبَاحَ تَذْكِيَتَهَا، وَأَكَّدَ هَذِهِ الإِْبَاحَةَ بِأَنْ جَعَل هَذِهِ التَّذْكِيَةَ قُرْبَةً فِي بَعْضِ الأَْحْيَانِ.

حُكْمُ الأُْضْحِيَّةِ:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَمِنْهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ أَرْجَحُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ مَالِكٍ، وَإِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إِلَى أَنَّ الأُْضْحِيَّةَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ. وَهَذَا قَوْل أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَبِلاَلٍ وَأَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ وَسُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعَطَاءٍ وَعَلْقَمَةَ وَالأَْسْوَدِ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ.
__________
(1) سورة الضحى / 8

(5/76)


وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ عَلَى السُّنِّيَّةِ بِأَدِلَّةٍ: مِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: {إِذَا دَخَل الْعَشْرُ، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلاَ يَمَسَّ مِنْ شَعْرِهِ وَلاَ مِنْ بَشَرِهِ شَيْئًا} . (1) وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: {وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ} فَجَعَلَهُ مُفَوَّضًا إِلَى إِرَادَتِهِ، وَلَوْ كَانَتِ التَّضْحِيَةُ وَاجِبَةً لاَقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: {فَلاَ يَمَسَّ مِنْ شَعْرِهِ شَيْئًا حَتَّى يُضَحِّيَ} . وَمِنْهَا أَيْضًا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَا لاَ يُضَحِّيَانِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ، مَخَافَةَ أَنْ يُرَى ذَلِكَ وَاجِبًا (2) . وَهَذَا الصَّنِيعُ مِنْهُمَا يَدُل عَلَى أَنَّهُمَا عَلِمَا مِنَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدَمَ الْوُجُوبِ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ خِلاَفُ ذَلِكَ. 8 - وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ. وَهَذَا الْمَذْهَبُ هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَبِهِ قَال رَبِيعَةُ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَصَل لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (3) فَقَدْ قِيل فِي تَفْسِيرِهِ صَل صَلاَةَ الْعِيدِ وَانْحَرِ الْبُدْنَ، وَمُطْلَقُ الأَْمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَمَتَى وَجَبَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَ عَلَى الأُْمَّةِ لأَِنَّهُ قُدْوَتُهَا. وَبِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ وَلَمْ يُضَحِّ فَلاَ يَقْرَبَنَّ مُصَلاَّنَا} ، (4) وَهَذَا كَالْوَعِيدِ عَلَى تَرْكِ
__________
(1) حديث: " إذا دخل العشر. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1565 ط عيسى الحلبي) .
(2) والأثر عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما " كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما لا يضحيان السنة والسنتين " أخرجه البيهقي (9 / 265 - ط دار المعارف العثمانية) وحسنه النووي في المجموع (8 / 383 - ط المنيرية) .
(3) سورة الكوثر / 2.
(4) حديث: " من كان له سعة. . . . . " سبق تخريجه (ف / 6) .

(5/77)


التَّضْحِيَةِ، وَالْوَعِيدُ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ. وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: {مَنْ ذَبَحَ قَبْل الصَّلاَةِ فَلْيَذْبَحْ شَاةً مَكَانَهَا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ} ، (1) فَإِنَّهُ أَمَرَ بِذَبْحِ الأُْضْحِيَّةِ وَبِإِعَادَتِهَا إِذَا ذُكِّيَتْ قَبْل الصَّلاَةِ، وَذَلِكَ دَلِيل الْوُجُوبِ. (2) ثُمَّ إِنَّ الْحَنَفِيَّةَ الْقَائِلِينَ بِالْوُجُوبِ يَقُولُونَ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ عَيْنًا عَلَى كُل مَنْ وُجِدَتْ فِيهِ شَرَائِطُ الْوُجُوبِ. فَالأُْضْحِيَّةُ الْوَاحِدَةُ كَالشَّاةِ وَسُبْعِ الْبَقَرَةِ وَسُبْعِ الْبَدَنَةِ إِنَّمَا تُجْزِئُ عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ. 9 - وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالسُّنِّيَّةِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُول: إِنَّهَا سُنَّةُ عَيْنٍ أَيْضًا، كَالْقَوْل الْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فَعِنْدَهُ لاَ يُجْزِئُ الأُْضْحِيَّةُ الْوَاحِدَةُ عَنِ الشَّخْصِ وَأَهْل بَيْتِهِ أَوْ غَيْرِهِمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُول: إِنَّهَا سُنَّةُ عَيْنٍ وَلَوْ حُكْمًا، بِمَعْنَى أَنَّ كُل وَاحِدٍ مُطَالَبٌ بِهَا، وَإِذَا فَعَلَهَا وَاحِدٌ بِنِيَّةِ نَفْسِهِ وَحْدَهُ لَمْ تَقَعْ إِلاَّ عَنْهُ، وَإِذَا فَعَلَهَا بِنِيَّةِ إِشْرَاكِ غَيْرِهِ فِي الثَّوَابِ، أَوْ بِنِيَّةِ كَوْنِهَا لِغَيْرِهِ أَسْقَطَتِ الطَّلَبَ عَمَّنْ أَشْرَكَهُمْ أَوْ أَوْقَعَهَا عَنْهُمْ. وَهَذَا رَأْيُ الْمَالِكِيَّةِ، وَإِيضَاحُهُ أَنَّ الشَّخْصَ إِذَا ضَحَّى نَاوِيًا نَفْسَهُ فَقَطْ سَقَطَ الطَّلَبُ عَنْهُ، وَإِذَا ضَحَّى نَاوِيًا نَفْسَهُ وَأَبَوَيْهِ الْفَقِيرَيْنِ وَأَوْلاَدَهُ الصِّغَارَ، وَقَعَتِ التَّضْحِيَةُ عَنْهُمْ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُشْرِكَ غَيْرَهُ فِي الثَّوَابِ - قَبْل الذَّبْحِ - وَلَوْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةٍ بِثَلاَثِ شَرَائِطَ: (الأُْولَى) : أَنْ يَسْكُنَ مَعَهُ.
__________
(1) حديث: " من ذبح قبل الصلاة. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1551 - ط الحلبي) .
(2) بدائع الصنائع 5 / 62.

(5/77)


(الثَّانِيَةُ) : أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا لَهُ وَإِنْ بَعُدَتِ الْقَرَابَةُ، أَوْ زَوْجَةً. (الثَّالِثَةُ) : أَنْ يُنْفِقَ عَلَى مَنْ يُشْرِكُهُ وُجُوبًا كَأَبَوَيْهِ وَصِغَارِ وَلَدِهِ الْفُقَرَاءِ، أَوْ تَبَرُّعًا كَالأَْغْنِيَاءِ مِنْهُمْ وَكَعَمٍّ وَأَخٍ وَخَالٍ. فَإِذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الشَّرَائِطُ سَقَطَ الطَّلَبُ عَمَّنْ أَشْرَكَهُمْ. وَإِذَا ضَحَّى بِشَاةٍ أَوْ غَيْرِهَا نَاوِيًا غَيْرَهُ فَقَطْ، وَلَوْ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةٍ، مِنْ غَيْرِ إِشْرَاكِ نَفْسِهِ مَعَهُمْ سَقَطَ الطَّلَبُ عَنْهُمْ بِهَذِهِ التَّضْحِيَةِ، وَإِنْ لَمْ تَتَحَقَّقْ فِيهِمُ الشَّرَائِطُ الثَّلاَثُ السَّابِقَةُ. وَلاَ بُدَّ فِي كُل ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الأُْضْحِيَّةُ مِلْكًا خَاصًّا لِلْمُضَحِّي، فَلاَ يُشَارِكُوهُ فِيهَا وَلاَ فِي ثَمَنِهَا، وَإِلاَّ لَمْ تُجْزِئْ، كَمَا سَيَأْتِي فِي شَرَائِطِ الصِّحَّةِ. (1) 10 - وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِالسُّنِّيَّةِ مَنْ يَجْعَلُهَا سُنَّةَ عَيْنٍ فِي حَقِّ الْمُنْفَرِدِ، وَسُنَّةَ كِفَايَةٍ فِي حَقِّ أَهْل الْبَيْتِ الْوَاحِدِ، وَهَذَا رَأْيُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. فَقَدْ قَالُوا: إِنَّ الشَّخْصَ يُضَحِّي بِالأُْضْحِيَّةِ الْوَاحِدَةِ - وَلَوْ كَانَتْ شَاةً - عَنْ نَفْسِهِ وَأَهْل بَيْتِهِ. وَلِلشَّافِعِيَّةِ تَفْسِيرَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ لأَِهْل الْبَيْتِ الْوَاحِدِ (وَالرَّاجِحُ) تَفْسِيرَانِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِمْ مَنْ تَلْزَمُ الشَّخْصَ نَفَقَتُهُمْ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ الشَّمْسُ الرَّمْلِيُّ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ. (ثَانِيهِمَا) مَنْ تَجْمَعُهُمْ نَفَقَةُ مُنْفِقٍ وَاحِدٍ وَلَوْ تَبَرُّعًا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ الشِّهَابُ الرَّمْلِيُّ بِهَامِشِ شَرْحِ الرَّوْضِ.
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 118، 119.

(5/78)


قَالُوا: وَمَعْنَى كَوْنِهَا سُنَّةَ كِفَايَةٍ - مَعَ كَوْنِهَا تُسَنُّ لِكُل قَادِرٍ مِنْهُمْ عَلَيْهَا - سُقُوطُ الطَّلَبِ عَنْهُمْ بِفِعْل وَاحِدٍ رَشِيدٍ مِنْهُمْ، لاَ حُصُول الثَّوَابِ لِكُلٍّ مِنْهُمْ، إِلاَّ إِذَا قَصَدَ الْمُضَحِّي تَشْرِيكَهُمْ فِي الثَّوَابِ. (1) وَمِمَّا اسْتَدَل بِهِ عَلَى كَوْنِ التَّضْحِيَةِ سُنَّةَ كِفَايَةٍ عَنِ الرَّجُل وَأَهْل بَيْتِهِ حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ الأَْنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: {كُنَّا نُضَحِّي بِالشَّاةِ الْوَاحِدَةِ يَذْبَحُهَا الرَّجُل عَنْهُ وَعَنْ أَهْل بَيْتِهِ، ثُمَّ تَبَاهَى النَّاسُ بَعْدُ فَصَارَتْ مُبَاهَاةً} . (2) وَهَذِهِ الصِّيغَةُ الَّتِي قَالَهَا أَبُو أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَقْتَضِي أَنَّهُ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ.

الأُْضْحِيَّةُ الْمَنْذُورَةُ:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نَذْرَ التَّضْحِيَةِ يُوجِبُهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ النَّاذِرُ غَنِيًّا أَمْ فَقِيرًا، وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَذْرًا لِمُعَيَّنَةٍ نَحْوُ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُضَحِّيَ بِهَذِهِ الشَّاةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَذْرًا فِي الذِّمَّةِ لِغَيْرِ مُعَيَّنَةٍ لِمَضْمُونَةٍ، كَأَنْ يَقُول: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُضَحِّيَ، أَوْ يَقُول: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُضَحِّيَ بِشَاةٍ. (3) فَمَنْ نَذَرَ التَّضْحِيَةَ بِمُعَيَّنَةٍ لَزِمَهُ التَّضْحِيَةُ بِهَا فِي
__________
(1) المجموع للنووي 8 / 383 - 386، ونهاية المحتاج بحاشيتي الرشيدي والشبراملسي 8 / 123، وتحفة المحتاج مع حاشية الشرواني 8 / 141.
(2) حديث أبي أيوب رضي الله عنه: " كنا نضحي بالشاة الواحدة. . . . . . " أخرجه مالك 2 / 486 - ط الحلبي) . وقال النووي: هذا حديث صحيح (المجموع للنووي 8 / 384 ط الطباعة المنيرية) .
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 125، والبجيرمي على المنهج 4 / 295، والمجموع للنووي 8 / 383 - 386 والمغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 11 / 94، 106، 107، ومطالب أولي النهى 2 / 480.

(5/78)


الْوَقْتِ، وَكَذَلِكَ مَنْ نَذَرَ التَّضْحِيَةَ فِي الذِّمَّةِ بِغَيْرِ مُعَيَّنَةٍ، ثُمَّ عَيَّنَ شَاةً مَثَلاً عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّضْحِيَةُ بِهَا فِي الْوَقْتِ. وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ مَنْ نَذَرَ مُعَيَّنَةً، وَبِهَا عَيْبٌ مُخِلٌّ بِالإِْجْزَاءِ صَحَّ نَذْرُهُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ ذَبْحُهَا فِي الْوَقْتِ، وَفَاءً بِمَا الْتَزَمَهُ، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ بَدَلُهَا. وَمَنْ نَذَرَ أُضْحِيَّةً فِي ذِمَّتِهِ، ثُمَّ عَيَّنَ شَاةً بِهَا عَيْبٌ مُخِلٌّ بِالإِْجْزَاءِ لَمْ يَصِحَّ تَعْيِينُهُ إِلاَّ إِذَا كَانَ قَدْ نَذَرَهَا مَعِيبَةً، كَأَنْ قَال: عَلَيَّ أَنْ أُضَحِّيَ بِشَاةٍ عَرْجَاءَ بَيِّنَةِ الْعَرَجِ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ مِثْل مَا قَال الشَّافِعِيَّةُ، إِلاَّ أَنَّهُمْ أَجَازُوا إِبْدَال الْمُعَيَّنَةِ بِخَيْرٍ مِنْهَا، لأَِنَّ هَذَا أَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ. وَدَلِيل وُجُوبِ الأُْضْحِيَّةِ بِالنَّذْرِ: أَنَّ التَّضْحِيَةَ قُرْبَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ جِنْسِهَا وَاجِبٌ كَهَدْيِ التَّمَتُّعِ، فَتَلْزَمُ بِالنَّذْرِ كَسَائِرِ الْقُرَبِ، وَالْوُجُوبُ بِسَبَبِ النَّذْرِ يَسْتَوِي فِيهِ الْفَقِيرُ وَالْغَنِيُّ.

أُضْحِيَّةُ التَّطَوُّعِ:
12 - مَنْ لَمْ تَجِبِ التَّضْحِيَةُ عَلَيْهِ لِعَدَمِ تَوَفُّرِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِهَا عِنْدَ مَنْ قَال بِالْوُجُوبِ، وَلِعَدَمِ تَوَفُّرِ شُرُوطِ السُّنِّيَّةِ عِنْدَ مَنْ قَال بِأَنَّهَا سُنَّةٌ، فَالأُْضْحِيَّةُ تُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِ تَطَوُّعًا.

شُرُوطُ وُجُوبِ الأُْضْحِيَّةِ أَوْ سُنِّيَّتُهَا:
13 - الأُْضْحِيَّةُ إِذَا كَانَتْ وَاجِبَةً بِالنَّذْرِ فَشَرَائِطُ وُجُوبِهَا هِيَ شَرَائِطُ النَّذْرِ، وَهِيَ: الإِْسْلاَمُ وَالْبُلُوغُ وَالْعَقْل وَالْحُرِّيَّةُ وَالاِخْتِيَارُ، وَلِتَفْصِيلِهَا يُرَاجَعُ بَابُ النَّذْرِ.

(5/79)


وَإِذَا كَانَتْ وَاجِبَةً بِالشَّرْعِ (عِنْدَ مَنْ يَقُول بِذَلِكَ) فَشُرُوطُ وُجُوبِهَا أَرْبَعَةٌ، وَزَادَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ شَرْطَيْنِ، وَهَذِهِ الشُّرُوطُ أَوْ بَعْضُهَا مُشْتَرَطَةٌ فِي سُنِّيَّتِهَا أَيْضًا عِنْدَ مَنْ قَال بِعَدَمِ الْوُجُوبِ، وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ شَرْطًا فِي سُنِّيَّتِهَا، وَبَيَانُ ذَلِكَ كَمَا يَلِي: 14 - (الشَّرْطُ الأَْوَّل) : الإِْسْلاَمُ، فَلاَ تَجِبُ عَلَى الْكَافِرِ، وَلاَ تُسَنُّ لَهُ، لأَِنَّهَا قُرْبَةٌ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْقُرَبِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وُجُودُ الإِْسْلاَمِ فِي جَمِيعِ الْوَقْتِ الَّذِي تُجْزِئُ فِيهِ التَّضْحِيَةُ، بَل يَكْفِي وُجُودُهُ آخِرَ الْوَقْتِ، لأَِنَّ وَقْتَ الْوُجُوبِ يَفْضُل عَنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ، فَيَكْفِي فِي وُجُوبِهَا بَقَاءُ جُزْءٍ مِنَ الْوَقْتِ كَالصَّلاَةِ، وَكَذَا يُقَال فِي جَمِيعِ الشُّرُوطِ الآْتِيَةِ، وَهَذَا الشَّرْطُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِالْوُجُوبِ وَالْقَائِلِينَ بِالسُّنِّيَّةِ، بَل إِنَّهُ أَيْضًا شَرْطٌ لِلتَّطَوُّعِ. 15 - (الشَّرْطُ الثَّانِي) : الإِْقَامَةُ، فَلاَ تَجِبُ عَلَى الْمُسَافِرِ، لأَِنَّهَا لاَ تَتَأَدَّى بِكُل مَالٍ وَلاَ فِي كُل زَمَانٍ، بَل بِحَيَوَانٍ مَخْصُوصٍ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ، وَالْمُسَافِرُ لاَ يَظْفَرُ بِهِ فِي كُل مَكَانٍ فِي وَقْتِ التَّضْحِيَةِ، فَلَوْ أَوْجَبْنَاهَا عَلَيْهِ لاَحْتَاجَ لِحَمْل الأُْضْحِيَّةِ مَعَ نَفْسِهِ، وَفِيهِ مِنَ الْحَرَجِ مَا لاَ يَخْفَى، أَوِ احْتَاجَ إِلَى تَرْكِ السَّفَرِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ، فَدَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى امْتِنَاعِ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ، بِخِلاَفِ الْمُقِيمِ وَلَوْ كَانَ حَاجًّا، لِمَا رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يُخَلِّفُ لِمَنْ لَمْ يَحُجَّ مِنْ أَهْلِهِ أَثْمَانَ الضَّحَايَا، وَذَلِكَ لِيُضَحُّوا عَنْهُ تَطَوُّعًا (1) . وَيُحْتَمَل أَنَّهُ لِيُضَحُّوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ لاَ عَنْهُ، فَلاَ يَثْبُتُ الْوُجُوبُ مَعَ الاِحْتِمَال.
__________
(1) والأثر عن ابن عمر رضي الله عنهما.

(5/79)


هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِالْوُجُوبِ، وَأَمَّا مَنْ قَال بِالسُّنِّيَّةِ فَلاَ يُشْتَرَطُ هَذَا الشَّرْطُ، وَكَذَلِكَ لاَ يُشْتَرَطُ فِي التَّطَوُّعِ، لأَِنَّهُ لاَ يَتَرَتَّبُ عَلَى سُنِّيَّتِهَا وَلاَ التَّطَوُّعِ بِهَا حَرَجٌ.
16 - (الشَّرْطُ الثَّالِثُ) : الْغِنَى - وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْيَسَارِ - لِحَدِيثِ {مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ وَلَمْ يُضَحِّ فَلاَ يَقْرَبَنَّ مُصَلاَّنَا} (1) وَالسَّعَةُ هِيَ الْغِنَى، وَيَتَحَقَّقُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنْ يَكُونَ فِي مِلْكِ الإِْنْسَانِ مِائَتَا دِرْهَمٍ أَوْ عِشْرُونَ دِينَارًا، أَوْ شَيْءٌ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ ذَلِكَ، سِوَى مَسْكَنِهِ وَحَوَائِجِهِ الأَْصْلِيَّةِ وَدُيُونِهِ. (2) وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَتَحَقَّقُ الْغِنَى بِأَلاَّ تُجْحِفَ الأُْضْحِيَّةُ بِالْمُضَحِّي، بِأَلاَّ يَحْتَاجَ لِثَمَنِهَا فِي ضَرُورِيَّاتِهِ فِي عَامِهِ. (3) وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّمَا تُسَنُّ لِلْقَادِرِ عَلَيْهَا، وَهُوَ مَنْ مَلَكَ مَا يَحْصُل بِهِ الأُْضْحِيَّةُ، فَاضِلاً عَمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ وَلَيْلَتِهِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ الثَّلاَثَةِ وَلَيَالِيِهَا. (4)
17 - (الشَّرْطَانِ الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ) : الْبُلُوغُ وَالْعَقْل، وَهَذَانِ الشَّرْطَانِ اشْتَرَطَهُمَا مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ، وَلَمْ يَشْتَرِطْهُمَا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ، فَعِنْدَهُمَا تَجِبُ التَّضْحِيَةُ فِي مَال الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ إِذَا كَانَا مُوسِرَيْنِ، فَلَوْ ضَحَّى الأَْبُ أَوِ الْوَصِيُّ عَنْهَا مِنْ مَالِهِمَا لَمْ يَضْمَنْ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَيَضْمَنُ فِي قَوْل مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ، وَهَذَا الْخِلاَفُ
__________
(1) حديث: " من كان له سعة ولم يضح. . . . " سبق تخريجه (ف / 6) .
(2) ابن عابدين 5 / 198.
(3) الدسوقي 2 / 118.
(4) البجيرمي على المنهج 4 / 295.

(5/80)


كَالْخِلاَفِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ. وَلِتَفْصِيل حُجَجِ الْفَرِيقَيْنِ يُرْجَعُ لِمُصْطَلَحِ (صَدَقَةُ الْفِطْرِ) . 18 - وَاَلَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ يُعْتَبَرُ حَالُهُ فِي الْجُنُونِ وَالإِْفَاقَةِ، فَإِنْ كَانَ مَجْنُونًا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ فَهُوَ عَلَى الاِخْتِلاَفِ، وَإِنْ كَانَ مُفِيقًا وَجَبَتْ مِنْ مَالِهِ بِلاَ خِلاَفٍ، وَقِيل: إِنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الصَّحِيحِ كَيْفَمَا كَانَ. وَهَذَا الَّذِي قَرَّرَهُ صَاحِبُ " الْبَدَائِعِ " يَقْتَضِي تَرْجِيحَ الْقَوْل بِالْوُجُوبِ، لَكِنْ صَحَّحَ صَاحِبُ الْكَافِي الْقَوْل بِعَدَمِ الْوُجُوبِ وَرَجَّحَهُ ابْنُ الشِّحْنَةِ وَاعْتَمَدَهُ صَاحِبُ " الدُّرِّ الْمُخْتَارِ " نَاقِلاً عَنْ مَتْنِ " مَوَاهِبِ الرَّحْمَنِ " أَنَّهُ أَصَحُّ مَا يُفْتَى بِهِ، وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ هَذَا الْقَوْل اخْتَارَهُ صَاحِبُ الْمُلْتَقَى حَيْثُ قَدَّمَهُ، وَعَبَّرَ عَنْ مُقَابِلِهِ بِصِيغَةِ التَّضْعِيفِ، وَهِيَ " قِيل ". (1) هَذَا كُلُّهُ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يُشْتَرَطُ فِي سُنِّيَّةِ التَّضْحِيَةِ الْبُلُوغُ وَلاَ الْعَقْل، فَيُسَنُّ لِلْوَلِيِّ التَّضْحِيَةُ عَنِ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ مِنْ مَالِهِمَا، وَلَوْ كَانَا يَتِيمَيْنِ. (2) وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ مَحْجُورِيهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْهُمْ مِنْ مَالِهِ إِنْ كَانَ أَبًا أَوْ جَدًّا، وَكَأَنَّهُ مَلَكَهَا لَهُمْ وَذَبَحَهَا عَنْهُمْ، فَيَقَعُ لَهُ ثَوَابُ التَّبَرُّعِ لَهُمْ، وَيَقَعُ لَهُمْ ثَوَابُ التَّضْحِيَةِ. (3) وَقَال الْحَنَابِلَةُ فِي الْيَتِيمِ الْمُوسِرِ: يُضَحِّي عَنْهُ وَلِيُّهُ مِنْ مَالِهِ، أَيْ مَال الْمَحْجُورِ، وَهَذَا عَلَى سَبِيل
__________
(1) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 5 / 201.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 119.
(3) البجيرمي على المنهج 4 / 300.

(5/80)


التَّوْسِعَةِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ لاَ عَلَى سَبِيل الإِْيجَابِ. (1) 19 - هَذَا وَقَدِ انْفَرَدَ الْمَالِكِيَّةُ بِذِكْرِ شَرْطٍ لِسُنِّيَّةِ التَّضْحِيَةِ، وَهُوَ أَلاَّ يَكُونَ الشَّخْصُ حَاجًّا، فَالْحَاجُّ لاَ يُطَالَبُ بِالتَّضْحِيَةِ شَرْعًا، سَوَاءٌ، أَكَانَ بِمِنًى أَمْ بِغَيْرِهَا، وَغَيْرُ الْحَاجِّ هُوَ الْمُطَالَبُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا أَوْ كَانَ بِمِنًى (2) . وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ تَجِبُ عَلَى حَاجٍّ مُسَافِرٍ. (3) 20 - هَذَا وَلَيْسَتِ الذُّكُورَةُ وَلاَ الْمِصْرُ مِنْ شُرُوطِ الْوُجُوبِ وَلاَ السُّنِّيَّةِ، فَكَمَا تَجِبُ عَلَى الذُّكُورِ تَجِبُ عَلَى الإِْنَاثِ، وَكَمَا تَجِبُ عَلَى الْمُقِيمِينَ فِي الأَْمْصَارِ تَجِبُ عَلَى الْمُقِيمِينَ فِي الْقُرَى وَالْبَوَادِي، لأَِنَّ أَدِلَّةَ الْوُجُوبِ أَوِ السُّنِّيَّةِ شَامِلَةٌ لِلْجَمِيعِ.

تَضْحِيَةُ الإِْنْسَانِ مِنْ مَالِهِ عَنْ وَلَدِهِ:
21 - إِذَا كَانَ الْوَلَدُ كَبِيرًا فَلاَ يَجِبُ عَلَى أَبِيهِ أَوْ جَدِّهِ التَّضْحِيَةُ عَنْهُ، أَمَّا الْوَلَدُ وَوَلَدُ الْوَلَدِ الصَّغِيرَانِ فَإِنْ كَانَ لَهُمَا مَالٌ فَقَدْ سَبَقَ الْكَلاَمُ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَالٌ، فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ:
(أُولاَهُمَا) : أَنَّهَا لاَ تَجِبُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، لأَِنَّ الأَْصْل أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَى الإِْنْسَانِ شَيْءٌ عَنْ غَيْرِهِ، وَخُصُوصًا الْقُرُبَاتُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِْنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} . (4) وَقَوْلُهُ جَل شَأْنُهُ {لَهَا مَا كَسَبَتْ} . (5)
وَلِهَذَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ عَنْ وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ الْكَبِيرَيْنِ.
__________
(1) المغني لابن قدامة 11 / 95، 108.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 119.
(3) ابن عابدين 5 / 200.
(4) سورة النجم / 39.
(5) سورة البقرة / 286.

(5/81)


(ثَانِيَتُهُمَا) : أَنَّهَا تَجِبُ، لأَِنَّ وَلَدَ الرَّجُل جُزْؤُهُ وَكَذَا وَلَدَ ابْنِهِ، فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ نَفْسِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ وَلَدِهِ وَوَلَدِ ابْنِهِ قِيَاسًا عَلَى صَدَقَةِ الْفِطْرِ.
ثُمَّ عَلَى الْقَوْل بِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ - وَهُوَ عَدَمُ الْوُجُوبِ - يُسْتَحَبُّ لِلإِْنْسَانِ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ وَلَدِهِ وَوَلَدِ ابْنِهِ الصَّغِيرَيْنِ مِنْ مَال نَفْسِهِ، (1) وَالْمَقْصُودُ بِوَلَدِ ابْنِهِ هُوَ الْيَتِيمُ الَّذِي تَحْتَ وِلاَيَةِ جَدِّهِ. وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا سَبَقَ مِنْ مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ.

شُرُوطُ صِحَّةِ الأُْضْحِيَّةِ
22 - لِلتَّضْحِيَةِ شَرَائِطُ تَشْمَلُهَا وَتَشْمَل كُل الذَّبَائِحِ، وَلِتَفْصِيلِهَا (ر: ذَبَائِحُ) . وَشَرَائِطُ تَخْتَصَّ بِهَا، وَهِيَ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ: نَوْعٌ يَرْجِعُ إِلَى الأُْضْحِيَّةِ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إِلَى الْمُضَحِّي، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إِلَى وَقْتِ التَّضْحِيَةِ.

النَّوْعُ الأَْوَّل: شُرُوطُ الأُْضْحِيَّةِ فِي ذَاتِهَا:
23 - (الشَّرْطُ الأَْوَّل) وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ: أَنْ تَكُونَ مِنَ الأَْنْعَامِ، وَهِيَ الإِْبِل عِرَابًا كَانَتْ أَوْ بَخَاتِيَّ، (2) وَالْبَقَرَةُ الأَْهْلِيَّةُ وَمِنْهَا الْجَوَامِيسُ (3) ،
__________
(1) البدائع 5 / 64، 65 والدر المختار مع حاشية ابن عابدين 5 / 200.
(2) العراب جمع عربي والبخاتي بفتح الباء وتشديد الياء مع كسر التاء، وقد تفتح التاء وتقلب ألفا، وهي الإبل الخراسانية (ر: القاموس والمعجم الوسيط) والمراد هنا الإبل غير العربية وواحدها بختي بضم الباء وسكون الخاء وتشديد الياء.
(3) الجواميس جمع جاموس وهو نوع من البقر أسود اللون ضخم الجثة وهو معرب كاوميس وواحدته جاموسة (القاموس والمعجم الوسيط) .

(5/81)


وَالْغَنَمُ ضَأْنًا كَانَتْ أَوْ مَعْزًا (1) ، وَيُجْزِئُ مِنْ كُل ذَلِكَ الذُّكُورُ وَالإِْنَاثُ.
فَمَنْ ضَحَّى بِحَيَوَانٍ مَأْكُولٍ غَيْرِ الأَْنْعَامِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ الدَّوَابِّ أَمِ الطُّيُورِ، لَمْ تَصِحَّ تَضْحِيَتُهُ بِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِكُل أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَْنْعَامِ} (2) وَلأَِنَّهُ لَمْ تُنْقَل التَّضْحِيَةُ بِغَيْرِ الأَْنْعَامِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ ذَبَحَ دَجَاجَةً أَوْ دِيكًا بِنِيَّةِ التَّضْحِيَةِ لَمْ يُجْزِئْ.
وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا الشَّرْطِ أَنَّ الشَّاةَ تُجْزِئُ عَنْ وَاحِدٍ، وَالْبَدَنَةُ وَالْبَقَرَةُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ سَبْعَةٍ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: نَحَرْنَا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ (3) ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَبِهِ قَال عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَسَالِمٌ وَالْحَسَنُ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَالثَّوْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَكْثَرُ أَهْل الْعِلْمِ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. (4)
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ قَال: لاَ تُجْزِئُ نَفْسٌ وَاحِدَةٌ عَنْ سَبْعَةٍ (5) وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يُجْزِئُ الاِشْتِرَاكُ فِي اللَّحْمِ أَوِ الثَّمَنِ، لاَ فِي الشَّاةِ وَلاَ فِي الْبَدَنَةِ وَلاَ فِي الْبَقَرَةِ، وَلَكِنْ تُجْزِئُ الأُْضْحِيَّةُ الْوَاحِدَةُ الَّتِي يَمْلِكُهَا شَخْصٌ وَاحِدٌ أَنْ
__________
(1) المعز بفتح الميم مع سكون العين أو فتحها ذو الشعر من الغنم خلاف الضأن (القاموس والمعجم الوسيط) .
(2) سورة الحج / 34.
(3) حديث جابر رضي الله عنه: " نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم " أخرجه مسلم (2 / 955 - الحلبي) .
(4) البدائع 5 / 69، والمجموع للنووي 8 / 398، والمغني لابن قدامة 11 / 96، 118.
(5) المغني لابن قدامة أيضا.

(5/82)


يُضَحِّيَ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ أَبَوَيْهِ الْفَقِيرَيْنِ وَأَوْلاَدِهِ الصِّغَارِ، وَكَذَلِكَ يُجْزِئُ أَنْ يُضَحِّيَ الإِْنْسَانُ بِالأُْضْحِيَّةِ الْوَاحِدَةِ الَّتِي يَمْلِكُهَا وَحْدَهُ نَاوِيًا إِشْرَاكَ غَيْرِهِ مَعَهُ فِي الثَّوَابِ، أَوْ نَاوِيًا كَوْنَهَا كُلَّهَا عَنْ غَيْرِهِ كَمَا سَبَقَ (ف 9) .

24 - (الشَّرْطُ الثَّانِي) : أَنْ تَبْلُغَ سِنَّ التَّضْحِيَةِ، بِأَنْ تَكُونَ ثَنِيَّةً أَوْ فَوْقَ الثَّنِيَّةِ مِنَ الإِْبِل وَالْبَقَرِ وَالْمَعْزِ، وَجَذَعَةً أَوْ فَوْقَ الْجَذَعَةِ مِنْ الضَّأْنِ، فَلاَ تُجْزِئُ التَّضْحِيَةُ بِمَا دُونَ الثَّنِيَّةِ مِنْ غَيْرِ الضَّأْنِ، وَلاَ بِمَا دُونَ الْجَذَعَةِ مِنَ الضَّأْنِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَذْبَحُوا إِلاَّ مُسِنَّةً، إِلاَّ أَنْ يَعْسُرَ عَلَيْكُمْ، فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنْ الضَّأْنِ (1) . وَالْمُسِنَّةُ مِنْ كُل الأَْنْعَامِ هِيَ الثَّنِيَّةُ فَمَا فَوْقَهَا. حَكَاهُ النَّوَوِيُّ عَنْ أَهْل اللُّغَةِ. (2)
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نِعْمَتِ الأُْضْحِيَّةُ الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ. (3)
وَهَذَا الشَّرْطُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الثَّنِيَّةِ وَالْجَذَعَةِ. (4)
25 - فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْجَذَعَ مِنْ الضَّأْنِ مَا أَتَمَّ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَقِيل: مَا أَتَمَّ سِتَّةَ أَشْهُرٍ
__________
(1) حديث: " لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم. . . . " أخرجه مسلم وغيره من حديث جابر (صحيح مسلم 3 / 1555 ط. الحلبي) وقوله: (إلا أن يعسر) إلخ ظاهره أن الجذع لا يجزئ إلا عند عسر المسنة، لكنه محمول على أن من أراد الأكمل ينبغي له ألا يقدم على التضحية
(2) المجموع 8 / 393.
(3) حديث: " نعمت الأضحية. . . . " أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب (سنن الترمذي 4 / 87، ونصب الراية 4 / 216) .
(4) الثني من الحيوان ما ألقى ثنيته وفي الفم أربع من الثنايا، ويكون ذلك عند بلوغ الحيوان سنا معينة كما هو مبين فيما سبق.

(5/82)


وَشَيْئًا. وَأَيًّا مَا كَانَ فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَظِيمًا بِحَيْثُ لَوْ خُلِطَ بِالثَّنَايَا لاَشْتَبَهَ عَلَى النَّاظِرِينَ مِنْ بَعِيدٍ. وَالثَّنِيُّ
مِنَ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ ابْنُ سَنَةٍ، وَمِنَ الْبَقَرِ ابْنُ سَنَتَيْنِ، وَمِنَ الإِْبِل ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجَذَعَ مِنْ الضَّأْنِ مَا بَلَغَ سَنَةً (قَمَرِيَّةً) وَدَخَل فِي الثَّانِيَةِ وَلَوْ مُجَرَّدَ دُخُولٍ، وَفَسَّرُوا الثَّنِيَّ مِنْ الْمَعْزِ بِمَا بَلَغَ سَنَةً، وَدَخَل فِي الثَّانِيَةِ دُخُولاً بَيِّنًا، كَمُضِيِّ شَهْرٍ بَعْدَ السَّنَةِ، وَفَسَّرُوا الثَّنِيَّ مِنَ الْبَقَرِ بِمَا بَلَغَ ثَلاَثَ سِنِينَ، وَدَخَل فِي الرَّابِعَةِ وَلَوْ دُخُولاً غَيْرَ بَيِّنٍ، وَالثَّنِيَّ مِنْ الإِْبِل بِمَا بَلَغَ خَمْسًا وَدَخَل فِي السَّادِسَةِ وَلَوْ دُخُولاً غَيْرَ بَيِّنٍ. (2)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجَذَعَ مَا بَلَغَ سَنَةً، وَقَالُوا: لَوْ أَجْذَعَ بِأَنْ أَسْقَطَ مُقَدَّمَ أَسْنَانِهِ قَبْل السَّنَةِ وَبَعْدَ تَمَامِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ يَكْفِي، وَفَسَّرُوا الثَّنِيَّ مِنْ الْمَعْزِ بِمَا بَلَغَ سَنَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ الْبَقَرُ (3) .

26 - (الشَّرْطُ الثَّالِثُ) : سَلاَمَتُهَا مِنَ الْعُيُوبِ الْفَاحِشَةِ، وَهِيَ الْعُيُوبُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُنْقِصَ الشَّحْمَ أَوِ اللَّحْمَ إِلاَّ مَا اسْتُثْنِيَ.
وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الشَّرْطِ لاَ تُجْزِئُ التَّضْحِيَةُ بِمَا يَأْتِي:
(1) الْعَمْيَاءُ.
(2) الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَهِيَ الَّتِي ذَهَبَ بَصَرُ إِحْدَى عَيْنَيْهَا، وَفَسَّرَهَا الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهَا الَّتِي انْخَسَفَتْ عَيْنُهَا وَذَهَبَتْ، لأَِنَّهَا عُضْوٌ مُسْتَطَابٌ، فَلَوْ لَمْ تَذْهَبِ
__________
(1) الهداية بأعلى تكملة فتح القدير 8 / 76، البدائع 5 / 69، وابن عابدين 5 / 211، والمغني 11 / 99، 100.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 119.
(3) المجموع للنووي 8 / 394، وحاشية البجيرمي على المنهج 4 / 295.

(5/83)


الْعَيْنُ أَجْزَأَتْ عِنْدَهُمْ، وَإِنْ كَانَ عَلَى عَيْنِهَا بَيَاضٌ يَمْنَعُ الإِْبْصَارَ.
(3) مَقْطُوعَةُ اللِّسَانِ بِالْكُلِّيَّةِ.
(4) مَا ذَهَبَ مِنْ لِسَانِهَا مِقْدَارٌ كَثِيرٌ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَضُرُّ قَطْعُ بَعْضِ اللِّسَانِ وَلَوْ قَلِيلاً.
(5) الْجَدْعَاءُ وَهِيَ مَقْطُوعَةُ الأَْنْفِ.
(6) مَقْطُوعَةُ الأُْذُنَيْنِ أَوْ إِحْدَاهُمَا، وَكَذَا السَّكَّاءُ وَهِيَ: فَاقِدَةُ الأُْذُنَيْنِ أَوْ إِحْدَاهُمَا خِلْقَةً وَخَالَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي السَّكَّاءِ.
(7) مَا ذَهَبَ مِنْ إِحْدَى أُذُنَيْهَا مِقْدَارٌ كَثِيرٌ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَفْسِيرِ الْكَثِيرِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ مَا زَادَ عَنِ الثُّلُثِ فِي رِوَايَةٍ، وَالثُّلُثُ فَأَكْثَرُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، وَالنِّصْفُ أَوْ أَكْثَرُ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ، وَالرُّبْعُ أَوْ أَكْثَرُ فِي رِوَايَةٍ رَابِعَةٍ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَضُرُّ ذَهَابُ ثُلُثِ الأُْذُنِ أَوْ أَقَل.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَضُرُّ ذَهَابُ بَعْضِ الأُْذُنِ مُطْلَقًا.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَضُرُّ ذَهَابُ أَكْثَرِ الأُْذُنِ.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ كُلِّهِ حَدِيثُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُضَحِّيَ بِعَضْبَاءِ الأُْذُنِ. (1)
(8) الْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرَجُهَا، وَهِيَ الَّتِي لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَمْشِيَ بِرِجْلِهَا إِلَى الْمَنْسَكِ - أَيِ الْمَذْبَحِ - وَفَسَّرَهَا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِاَلَّتِي لاَ تَسِيرُ بِسَيْرِ صَوَاحِبِهَا.
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يضحى بعضباء الأذن " أخرجه أبو داود (3 / 238 - ط عزت عبيد دعاس) وأحمد (1 / 84 ط الميمنية) والترمذي (4 / 90 - ط الحلبي) وصححه، وقال المنذري: " في تصحيح الترمذي لهذا الحديث نظر. كذا في مختصره (4 / 108 - نشر دار المعرفة) .

(5/83)


(9) الْجَذْمَاءُ وَهِيَ: مَقْطُوعَةُ الْيَدِ أَوِ الرِّجْل، وَكَذَا فَاقِدَةُ إِحْدَاهُمَا خِلْقَةً.
(10) الْجَذَّاءُ وَهِيَ: الَّتِي قُطِعَتْ رُءُوسُ ضُرُوعِهَا أَوْ يَبِسَتْ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَضُرُّ قَطْعُ بَعْضِ الضَّرْعِ، وَلَوْ قَلِيلاً.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الَّتِي لاَ تُجْزِئُ هِيَ يَابِسَةُ الضَّرْعِ جَمِيعِهِ، فَإِنْ أَرْضَعَتْ بِبَعْضِهِ أَجْزَأَتْ.
(11) مَقْطُوعَةُ الأَْلْيَةِ، وَكَذَا فَاقِدَتُهَا خِلْقَةً، وَخَالَفَ الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا بِإِجْزَاءِ فَاقِدَةِ الأَْلْيَةِ خِلْقَةً، بِخِلاَفِ مَقْطُوعَتِهَا.
(12) مَا ذَهَبَ مِنْ أَلْيَتِهَا مِقْدَارٌ كَثِيرٌ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَضُرُّ ذَهَابُ بَعْضِ الأَْلْيَةِ وَلَوْ قَلِيلاً.
(13) مَقْطُوعَةُ الذَّنَبِ، وَكَذَا فَاقِدَتُهُ خِلْقَةً، وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالْبَتْرَاءِ، وَخَالَفَ الْحَنَابِلَةُ فِيهِمَا فَقَالُوا: إِنَّهُمَا يُجْزِئَانِ. وَخَالَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الثَّانِيَةِ دُونَ الأُْولَى.
(14) مَا ذَهَبَ مِنْ ذَنَبِهَا مِقْدَارٌ كَثِيرٌ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ تُجْزِئُ ذَاهِبَةُ ثُلُثِهِ فَصَاعِدًا.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَضُرُّ قَطْعُ بَعْضِهِ وَلَوْ قَلِيلاً.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَضُرُّ قَطْعُ الذَّنَبِ كُلًّا أَوْ بَعْضًا.
(15) الْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، أَيِ الَّتِي يَظْهَرُ مَرَضُهَا لِمَنْ يَرَاهَا.
(16) الْعَجْفَاءُ الَّتِي لاَ تُنْقِي، وَهِيَ الْمَهْزُولَةُ الَّتِي ذَهَبَ نَقْيُهَا، وَهُوَ الْمُخُّ الَّذِي فِي دَاخِل الْعِظَامِ، فَإِنَّهَا لاَ تُجْزِئُ، لأَِنَّ تَمَامَ الْخِلْقَةِ أَمْرٌ ظَاهِرٌ، فَإِذَا تَبَيَّنَ خِلاَفُهُ كَانَ تَقْصِيرًا.
(17) مُصَرَّمَةُ الأَْطِبَّاءِ، وَهِيَ الَّتِي عُولِجَتْ حَتَّى انْقَطَعَ لَبَنُهَا.

(5/84)


(18) الْجَلاَّلَةُ، وَهِيَ الَّتِي تَأْكُل الْعَذِرَةَ وَلاَ تَأْكُل غَيْرَهَا، مِمَّا لَمْ تُسْتَبْرَأْ بِأَنْ تُحْبَسَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا إِنْ كَانَتْ مِنَ الإِْبِل، أَوْ عِشْرِينَ يَوْمًا إِنْ كَانَتْ مِنْ الْبَقَرِ، أَوْ عَشْرَةً إِنْ كَانَتْ مِنَ الْغَنَمِ.
27 - هَذِهِ الأَْمْثِلَةُ ذُكِرَتْ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ. وَهُنَاكَ أَمْثِلَةٌ أُخْرَى لِلأَْنْعَامِ الَّتِي لاَ تُجْزِئُ التَّضْحِيَةُ بِهَا ذُكِرَتْ فِي كُتُبِ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى.
(مِنْهَا) مَا ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ حَيْثُ قَالُوا: لاَ تُجْزِئُ (الْبَكْمَاءُ) وَهِيَ فَاقِدَةُ الصَّوْتِ وَلاَ (الْبَخْرَاءُ) وَهِيَ مُنْتِنَةُ رَائِحَةِ الْفَمِ، وَلَمْ يُقَيِّدُوا ذَلِكَ بِكَوْنِهَا جَلاَّلَةً وَلاَ بَيِّنَةَ الْبَشَمِ، وَهُوَ التُّخَمَةُ. وَلاَ (الصَّمَّاءُ) وَهِيَ الَّتِي لاَ تَسْمَعُ (1) .
(وَمِنْهَا) مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيَّةُ مِنْ أَنَّ (الْهَيْمَاءَ) لاَ تُجْزِئُ، وَهِيَ الْمُصَابَةُ بِالْهُيَامِ وَهُوَ عَطَشٌ شَدِيدٌ لاَ تَرْتَوِي مَعَهُ بِالْمَاءِ، فَتَهِيمُ فِي الأَْرْضِ وَلاَ تَرْعَى.
وَكَذَا (الْحَامِل) عَلَى الأَْصَحِّ، لأَِنَّ الْحَمْل يُفْسِدُ الْجَوْفَ وَيَصِيرُ اللَّحْمُ رَدِيئًا. (2)
(وَمِنْهَا) مَا ذَكَرَهُ الْحَنَابِلَةُ مِنْ عَدَمِ إِجْزَاءِ (الْعَصْمَاءِ) (3) وَهِيَ الَّتِي انْكَسَرَ غِلاَفُ قَرْنِهَا (4) (وَالْخَصِيُّ الْمَجْبُوبُ) ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ أُنْثَيَاهُ وَذَكَرُهُ مَعًا، بِخِلاَفِ ذَاهِبِ أَحَدِهِمَا (5) .
__________
(1) بلغة السالك 1 / 309.
(2) المجموع للنووي 8 / 400.
(3) كذا هي بالصاد في نسخة مطالب أولي النهى، لكن في حاشية ابن عابدين تسمية ما ذهب بعض قرنها بالعظماء بالظاء وهي مجزئة عند الحنفية.
(4) مطالب أولي النهى 2 / 465.
(5) انظر في جميع الأمثلة السابقة. البدائع 5 / 75 - 76، وابن عابدين 5 / 212 - 214، والدسوقي على الشرح الكبير 2 / 120، وبلغة السالك 1 / 309، والمجموع للنووي 8 / 400، وحاشية البجيرمي على المنهج 4 / 296، ومطالب أولي النهى 2 / 465، والمغني لابن قدامة 11 / 102.

(5/84)


وَالأَْصْل الَّذِي دَل عَلَى اشْتِرَاطِ السَّلاَمَةِ مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ كُلِّهَا مَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لاَ تُجْزِئُ مِنَ الضَّحَايَا أَرْبَعٌ: الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرَجُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لاَ تُنْقِي. (1) وَمَا صَحَّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَال: اسْتَشْرِفُوا الْعَيْنَ وَالأُْذُنَ (2) أَيْ تَأَمَّلُوا سَلاَمَتَهَا عَنِ الآْفَاتِ، وَمَا صَحَّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُضَحَّى بِعَضْبَاءِ الأُْذُنِ. (3)
وَأَلْحَقَ الْفُقَهَاءُ بِمَا فِي هَذِهِ الأَْحَادِيثِ كُل مَا فِيهِ عَيْبٌ فَاحِشٌ.
28 - أَمَّا الأَْنْعَامُ الَّتِي تُجْزِئُ التَّضْحِيَةُ بِهَا لأَِنَّ عَيْبَهَا لَيْسَ بِفَاحِشٍ فَهِيَ كَالآْتِي:
(1) الْجَمَّاءُ: وَتُسَمَّى الْجَلْحَاءُ، وَهِيَ الَّتِي لاَ قَرْنَ لَهَا خِلْقَةً، وَمِثْلُهَا مَكْسُورَةُ الْقَرْنِ إِنْ لَمْ يَظْهَرْ عَظْمُ دِمَاغِهَا، لِمَا صَحَّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ مَكْسُورَةِ الْقَرْنِ: لاَ بَأْسَ، أُمِرْنَا أَنْ
__________
(1) حديث: " لا تجزئ من الضحايا أربع. . . . " أخرجه أبو داود (3 / 235 - ط عزت عبيد دعاس) والنسائي (7 / 214 - ط المكتبة التجارية) ، والترمذي (سنن الترمذي 4 / 86 ط استانبول) ولفظ الترمذي: " لا يضحى بالعرجاء بين ظلعها، ولا بالعوراء بين عورها، ولا بالمريضة بين مرضها، ولا بالعجفاء التي لا تنقي " وقال الترمذي: هذا الحديث حسن صحيح.
(2) حديث: " استشرفوا العين والأذن " أخرجه أحمد (1 / 108، 149 ط الميمنية) وأبو داود (3 / 237 ط عزت عبيد دعاس) والترمذي بلفظ: " أمرنا أن نستشرف العين والأذن " (تحفة الأحوذي 5 / 82، 83 نشر السلفية) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن نضحي بعضباء الأذن " سبق تخريجه (ف / 26) .

(5/85)


نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَيْنِ وَالأُْذُنَيْنِ (1) .
وَقَدِ اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ عَلَى إِجْزَاءِ الْجَمَّاءِ، وَاخْتَلَفَتْ فِي مَكْسُورَةِ الْقَرْنِ، فَقَال الْمَالِكِيَّةُ: تُجْزِئُ مَا لَمْ يَكُنْ مَوْضِعُ الْكَسْرِ دَامِيًا، وَفَسَّرُوا الدَّامِيَ بِمَا لَمْ يَحْصُل الشِّفَاءُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ دَمٌ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تُجْزِئُ وَإِنْ أَدْمَى مَوْضِعُ الْكَسْرِ، مَا لَمْ يُؤَثِّرْ أَلَمُ الاِنْكِسَارِ فِي اللَّحْمِ، فَيَكُونُ مَرَضًا مَانِعًا مِنَ الإِْجْزَاءِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ تُجْزِئُ إِنْ كَانَ الذَّاهِبُ مِنَ الْقَرْنِ أَكْثَرُ مِنَ النِّصْفِ، وَتُسَمَّى عَضْبَاءَ الْقَرْنِ.
(2) الْحَوْلاَءُ، وَهِيَ الَّتِي فِي عَيْنِهَا حَوَلٌ لَمْ يَمْنَعِ الْبَصَرَ.
(3) الصَّمْعَاءُ، وَهِيَ الصَّغِيرَةُ إِحْدَى الأُْذُنَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا.
وَخَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: لاَ يُجْزِئُ الصَّمْعَاءُ، وَفَسَّرُوهَا بِالصَّغِيرَةِ الأُْذُنَيْنِ جِدًّا، كَأَنَّهَا خُلِقَتْ بِدُونِهِمَا.
(4) الشَّرْقَاءُ وَهِيَ مَشْقُوقَةُ الأُْذُنِ، وَإِنْ زَادَ الشَّقُّ عَلَى الثُّلُثِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ تُجْزِئُ إِلاَّ إِنْ كَانَ الشَّقُّ ثُلُثًا فَأَقَل.
(5) الْخَرْقَاءُ وَهِيَ مَثْقُوبَةُ الأُْذُنِ، وَيُشْتَرَطُ فِي إِجْزَائِهَا أَلاَّ يَذْهَبَ بِسَبَبِ الْخَرْقِ مِقْدَارٌ كَثِيرٌ.
(6) الْمُدَابَرَةُ وَهِيَ الَّتِي قُطِعَ مِنْ مُؤَخَّرِ أُذُنِهَا شَيْءٌ وَلَمْ يُفَصَّل، بَل تُرِكَ مُعَلَّقًا، فَإِنْ فُصِّل فَهِيَ مَقْطُوعَةُ بَعْضِ الأُْذُنِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ حُكْمِهَا.
__________
(1) حديث علي رضي الله عنه: " أمرنا أن نستشرف العينين. . . . " سبق تخريجه (ف / 27) .

(5/85)


(7) الْهَتْمَاءُ وَهِيَ الَّتِي لاَ أَسْنَانَ لَهَا، لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي إِجْزَائِهَا أَلاَّ يَمْنَعَهَا الْهُتْمُ عَنِ الرَّعْيِ وَالاِعْتِلاَفِ، فَإِنْ مَنَعَهَا عَنْهُمَا لَمْ تُجْزِئْ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ تُجْزِئُ مَكْسُورُ سِنَّيْنِ فَأَكْثَرُ أَوْ مَقْلُوعَتُهُمَا، إِلاَّ إِذَا كَانَ ذَلِكَ لإِِثْغَارٍ أَوْ كِبَرٍ، أَمَّا لِهَذَيْنِ الأَْمْرَيْنِ فَتُجْزِئُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تُجْزِئُ ذَاهِبَةُ بَعْضِ الأَْسْنَانِ إِنْ لَمْ يُؤَثِّرْ نَقْصًا فِي الاِعْتِلاَفِ، وَلاَ ذَاهِبَةُ جَمِيعِهَا وَلاَ مَكْسُورَةُ جَمِيعِهَا، وَتُجْزِئُ الْمَخْلُوقَةُ بِلاَ أَسْنَانٍ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ تُجْزِئُ مَا ذَهَبَ ثَنَايَاهَا مِنْ أَصْلِهَا، بِخِلاَفِ مَا لَوْ بَقِيَ مِنَ الثَّنَايَا بَقِيَّةٌ.
(8) الثَّوْلاَءُ وَهِيَ الْمَجْنُونَةُ، وَيُشْتَرَطُ فِي إِجْزَائِهَا أَلاَّ يَمْنَعَهَا الثَّوْل عَنِ الاِعْتِلاَفِ، فَإِنْ مَنَعَهَا مِنْهُ لَمْ تُجْزِئْ، لأَِنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى هَلاَكِهَا.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: لاَ تُجْزِئُ الثَّوْلاَءُ، وَفَسَّرَهَا الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهَا الدَّائِمَةُ الْجُنُونُ الَّتِي فَقَدَتِ التَّمْيِيزَ بِحَيْثُ لاَ تَهْتَدِي لِمَا يَنْفَعُهَا وَلاَ تُجَانِبُ مَا يَضُرُّهَا، وَقَالُوا: إِنْ كَانَ جُنُونُهَا غَيْرَ دَائِمٍ لَمْ يَضُرَّ.
وَفَسَّرَهَا الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا الَّتِي تَسْتَدِيرُ فِي الْمَرْعَى، وَلاَ تَرَى إِلاَّ قَلِيلاً، فَتَهْزَل.
(9) الْجَرْبَاءُ السَّمِينَةُ، بِخِلاَفِ الْمَهْزُولَةِ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ تُجْزِئُ الْجَرْبَاءُ مُطْلَقًا.
(10) الْمَكْوِيَّةُ وَهِيَ الَّتِي كُوِيَتْ أُذُنُهَا أَوْ غَيْرُهَا مِنَ الأَْعْضَاءِ.
(11) الْمَوْسُومَةُ وَهِيَ: الَّتِي فِي أُذُنِهَا سِمَةٌ.
(12) الْعَاجِزَةُ عَنِ الْوِلاَدَةِ لِكِبَرِ سِنِّهَا.
(13) الْخَصِيُّ وَإِنَّمَا أَجْزَأَ، لأَِنَّ مَا ذَهَبَ بِخِصَائِهِ يُعَوَّضُ بِمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ مِنْ كَثْرَةِ لَحْمِهِ وَشَحْمِهِ، وَقَدْ صَحَّ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ

(5/86)


مَوْجُوءَيْنِ (1) أَيْ مَرْضُوضَيِ الْخُصْيَتَيْنِ، وَيُلْحَقُ بِالْمَرَضِ الْخِصَاءُ، لأَِنَّ أَثَرَهُمَا وَاحِدٌ.
وَقَدِ اتَّفَقَتْ عَلَى إِجْزَائِهِ الْمَذَاهِبُ الأَْرْبَعَةُ.
وَحَكَى صَاحِبُ " الْمُغْنِي " الإِْجْزَاءَ عَنْ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.
وَكَالْخَصِيِّ الْمَوْجُوءُ وَهُوَ الْمَرْضُوضُ الْخُصْيَةُ.
وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ.
(14) الْمَجْبُوبُ وَهُوَ مَا قُطِعَ ذَكَرُهُ وَسَبَقَ قَوْل الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمَجْبُوبَ الْخَصِيُّ - وَهُوَ: مَا ذَهَبَ أُنْثَيَاهُ وَذَكَرُهُ مَعًا - لاَ يُجْزِئُ، بِخِلاَفِ ذَاهِبِ أَحَدِهِمَا فَقَطْ (ف: 26) .
(15) الْمَجْزُوزَةُ وَهِيَ الَّتِي جُزَّ صُوفُهَا.
(16) السَّاعِلَةُ وَهِيَ الَّتِي تَسْعُل - بِضَمِّ الْعَيْنِ - وَيَجِبُ تَقْيِيدُ ذَلِكَ بِمَا لَمْ يَصْحَبْهُ مَرَضٌ بَيِّنٌ.
29 - هَذِهِ الأَْمْثِلَةُ ذَكَرَهَا الْحَنَفِيَّةُ وَجَاءَ فِي كُتُبِ غَيْرِهِمْ أَمْثِلَةٌ أُخْرَى لِمَا يُجْزِئُ.
(وَمِنْهَا) مَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ أَنَّ الْمُقْعَدَةَ - وَهِيَ الْعَاجِزَةُ عَنِ الْقِيَامِ لِكَثْرَةِ الشَّحْمِ عَلَيْهَا - تُجْزِئُ.
(مِنْهَا) مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيَّةُ مِنْ أَنَّ الْعَشْوَاءَ تُجْزِئُ، وَهِيَ الَّتِي تُبْصِرُ بِالنَّهَارِ دُونَ اللَّيْل، وَكَذَا الْعَمْشَاءُ وَضَعِيفَةُ الْبَصَرِ.
وَكَذَا الَّتِي قُطِعَ مِنْهَا قِطْعَةٌ صَغِيرَةٌ مِنْ عُضْوٍ كَبِيرٍ، كَاَلَّتِي أَخَذَ الذِّئْبُ مِقْدَارًا قَلِيلاً مِنْ فَخِذِهَا، بِخِلاَفِ الْمِقْدَارِ الْبَيِّنِ الَّذِي يُعَدُّ كَثِيرًا بِالنِّسْبَةِ لِجَمِيعِ الْفَخِذِ.
__________
(1) حديث " ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين موجوءين ". أخرجه أحمد (6 / 8 - ط الميمنية) وأورده الهيثمي في المجمع (4 / 21 - القدسي) وقال: إسناده حسن.

(5/86)


طُرُوءُ الْعَيْبِ الْمُخِل بَعْدَ تَعْيِينِ الأُْضْحِيَّةِ:
30 - لَوِ اشْتَرَى رَجُلٌ شَاةً بِنِيَّةِ الأُْضْحِيَّةِ فَعَجَفَتْ عِنْدَهُ عَجَفًا بَيِّنًا لَمْ تُجْزِئْهُ، إِنْ كَانَ عِنْدَ الشِّرَاءِ مُوسِرًا مُقِيمًا، وَكَانَ شِرَاؤُهُ إِيَّاهَا فِي وَقْتِ الْوُجُوبِ، لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ شِرَاءَهُ لِلأُْضْحِيَّةِ لاَ يُوجِبُهَا، لأَِنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ أُضْحِيَّةٌ فِي ذِمَّتِهِ بِأَصْل الشَّرْعِ، وَإِنَّمَا أَقَامَ مَا اشْتَرَاهُ مَقَامَ مَا فِي الذِّمَّةِ، فَإِذَا نَقَصَ لَمْ يَصْلُحْ لِهَذِهِ الإِْقَامَةِ فَيَبْقَى مَا فِي ذِمَّتِهِ بِحَالِهِ.
فَإِنْ كَانَ عِنْدَ الشِّرَاءِ فَقِيرًا، أَوْ غَنِيًّا مُسَافِرًا، أَوْ غَنِيًّا مُقِيمًا، وَاشْتَرَاهَا قَبْل وَقْتِ النَّحْرِ، أَجْزَأَتْهُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا، لأَِنَّهُ لَمْ تَكُنْ فِي ذِمَّتِهِ أُضْحِيَّةٌ وَاجِبَةٌ وَقْتَ الشِّرَاءِ، فَكَانَ الشِّرَاءُ بِنِيَّةِ التَّضْحِيَةِ إِيجَابًا لَهَا بِمَنْزِلَةِ نَذْرِ الأُْضْحِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ، فَكَانَ نُقْصَانُهَا كَهَلاَكِهَا يَسْقُطُ بِهِ إِيجَابُهَا.
وَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْفَقِيرَ أَوِ الْغَنِيَّ لَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ أُضْحِيَّةً غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ، ثُمَّ اشْتَرَى شَاةً بِنِيَّةِ التَّضْحِيَةِ، فَتَعَيَّبَتْ، لَمْ تُجْزِئْ، لأَِنَّ الشِّرَاءَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَيْسَ إِيجَابًا، وَإِنَّمَا هُوَ إِقَامَةٌ لِمَا يَشْتَرِيهِ مَقَامَ الْوَاجِبِ. وَمِنْ شَرْطِ الإِْقَامَةِ السَّلاَمَةُ، فَإِذَا لَمْ تُجْزِئْ إِقَامَتُهَا مَقَامَ الْوَاجِبِ بَقِيَ الْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِ كَمَا كَانَ.
وَكَالشَّاةِ الَّتِي عَجَفَتْ بَعْدَ الشِّرَاءِ، كُل النَّعَمِ الَّتِي يَحْدُثُ لَهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ عَيْبٌ مُخِلٌّ، أَوْ تَمُوتُ، أَوْ تُسْرَقُ، فَفِيهَا التَّفْصِيل السَّابِقُ.
31 - وَلَوْ قَدَّمَ الْمُضَحِّي أُضْحِيَّةً لِيَذْبَحَهَا، فَاضْطَرَبَتْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَذْبَحُهَا فِيهِ، فَانْكَسَرَتْ رِجْلُهَا، أَوِ انْقَلَبَتْ فَأَصَابَتْهَا الشَّفْرَةُ فِي عَيْنِهَا فَاعْوَرَّتْ أَجْزَأَتْهُ، لأَِنَّ هَذَا مِمَّا لاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ

(5/87)


عَنْهُ، لأَِنَّ الشَّاةَ تَضْطَرِبُ عَادَةً، فَتَلْحَقُهَا الْعُيُوبُ مِنَ اضْطِرَابِهَا. (1)
هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأُْضْحِيَّةَ الْمُعَيَّنَةَ بِالنَّذْرِ أَوْ بِغَيْرِهِ إِذَا حَدَثَ بِهَا عَيْبٌ مُخِلٌّ لَمْ تُجْزِئْ، وَلَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ، وَعَلَيْهِ التَّضْحِيَةُ بِأُخْرَى إِنْ كَانَتْ مَنْذُورَةً، وَيُسَنُّ لَهُ التَّضْحِيَةُ بِأُخْرَى إِنْ لَمْ تَكُنْ مَنْذُورَةً.
هَذَا إِنْ تَعَيَّبَتْ قَبْل الإِْضْجَاعِ لِلذَّبْحِ، أَمَّا لَوْ تَعَيَّبَتْ بَعْدَ الإِْضْجَاعِ لَهُ فَيُجْزِئُ ذَبْحُهَا. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ أَوْجَبَ أُضْحِيَّةً مُعَيَّنَةً بِالنَّذْرِ أَوِ الْجُعْل، ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهَا - عَيْبٌ يَمْنَعُ إِجْزَاءَهَا قَبْل دُخُول الْوَقْتِ الَّذِي تُجْزِئُ فِيهِ التَّضْحِيَةُ، أَوْ بَعْدَ دُخُولِهِ وَقَبْل تَمَكُّنِهِ مِنَ الذَّبْحِ، وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُ تَفْرِيطٌ وَلاَ اعْتِدَاءٌ - لَمْ يَلْزَمْهُ بَدَلُهَا، لِزَوَال مِلْكِهِ عَنْهَا مِنْ حِينِ الإِْيجَابِ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَذْبَحَهَا فِي الْوَقْتِ وَيَتَصَدَّقُ بِهَا كَالأُْضْحِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أُضْحِيَّةً.
وَإِذَا طَرَأَ الْعَيْبُ بِاعْتِدَائِهِ أَوْ تَفْرِيطِهِ أَوْ تَأَخُّرِهِ عَنِ الذَّبْحِ فِي أَوَّل الْوَقْتِ بِلاَ عُذْرٍ لَزِمَهُ ذَبْحُهَا فِي الْوَقْتِ وَالتَّصَدُّقِ بِهَا، وَلَزِمَهُ أَيْضًا أَنْ يُضَحِّيَ بِأُخْرَى لِتَبْرَأَ ذِمَّتَهُ.
وَلَوِ اشْتَرَى شَاةً وَأَوْجَبَهَا بِالنَّذْرِ أَوِ الْجُعْل، ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا قَدِيمًا، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ، لأَِنَّهُ زَال مِلْكُهُ عَنْهَا بِمُجَرَّدِ الإِْيجَابِ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يُبْقِيَهَا، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَرْشُ النَّقْصِ مِنَ الْبَائِعِ، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِهِ، لأَِنَّهُ مِلْكُهُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَهَا فِي الْوَقْتِ، وَيَتَصَدَّقَ بِهَا كُلِّهَا لِشَبَهِهَا
__________
(1) البدائع 5 / 75 - 76.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 125.

(5/87)


بِالأُْضْحِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أُضْحِيَّةً، وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْوُجُوبُ بِهَذَا الذَّبْحِ، وَيُسَنُّ لَهُ أَنْ يُرْدِفَهَا بِسَلِيمَةٍ، لِتَحْصُل لَهُ سُنَّةُ التَّضْحِيَةِ.
وَلَوْ زَال عَيْبُهَا قَبْل الذَّبْحِ لَمْ تَصِرْ أُضْحِيَّةً إِذِ السَّلاَمَةُ لَمْ تُوجَدْ إِلاَّ بَعْدَ زَوَال مِلْكِهِ عَنْهَا.
وَمَنْ عَيَّنَ شَاةً لِيُضَحِّيَ بِهَا مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ بِنَذْرٍ وَلاَ جُعْلٍ، فَطَرَأَ عَلَيْهَا عَيْبٌ مُخِلٌّ بِالإِْجْزَاءِ لَمْ تُجْزِئِ التَّضْحِيَةُ بِهَا، وَلاَ فَرْقَ فِي طُرُوءِ الْعَيْبِ بَيْنَ كَوْنِهِ عِنْدَ الذَّبْحِ أَوْ قَبْلَهُ، فَلَوْ أَضْجَعَ شَاةً لِيُضَحِّيَ بِهَا وَهِيَ، سَلِيمَةٌ فَاضْطَرَبَتْ، وَانْكَسَرَتْ رِجْلُهَا، أَوْ عَرَجَتْ تَحْتَ السِّكِّينِ لَمْ تُجْزِئْهُ عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. (1)
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ قَرِيبٌ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْوَاجِبَةَ لاَ يَجِبُ التَّصَدُّقُ بِجَمِيعِهَا بَل بِبَعْضِهَا، كَمَا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِإِجْزَاءِ التَّضْحِيَةِ إِذَا عَيَّنَ شَاةً صَحِيحَةً لِلتَّضْحِيَةِ، ثُمَّ حَدَثَ بِهَا عَيْبٌ يَمْنَعُ الإِْجْزَاءَ (2) .

32 - (الشَّرْطُ الرَّابِعُ) : أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكَةً لِلذَّابِحِ، أَوْ مَأْذُونًا لَهُ فِيهَا صَرَاحَةً أَوْ دَلاَلَةً، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ تُجْزِئِ التَّضْحِيَةُ بِهَا عَنِ الذَّابِحِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ مَالِكًا لَهَا وَلاَ نَائِبًا عَنْ مَالِكِهَا، لأَِنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي ذَبْحِهَا عَنْهُ، وَالأَْصْل فِيمَا يَعْمَلُهُ الإِْنْسَانُ أَنْ يَقَعَ لِلْعَامِل، وَلاَ يَقَعَ لِغَيْرِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ.
فَلَوْ غَصَبَ إِنْسَانٌ شَاةً، فَضَحَّى بِهَا عَنْ مَالِكِهَا - مِنْ غَيْرِ إِجَازَتِهِ - لَمْ تَقَعْ أُضْحِيَّةً عَنْهُ، لِعَدَمِ الإِْذْنِ مِنْهُ، وَلَوْ ضَحَّى بِهَا عَنْ نَفْسِهِ لَمْ تُجْزِئْ عَنْهُ، لِعَدَمِ
__________
(1) تحفة المحتاج بشرح المنهاج مع حاشية الشرواني 8 / 152 - 156 والمجموع للنووي 8 / 400.
(2) المغني بأعلى الشرح الكبير 11 / 103 - 107.

(5/88)


الْمِلْكِ، ثُمَّ إِنْ أَخَذَهَا صَاحِبُهَا مَذْبُوحَةً، وَضَمَّنَهُ النُّقْصَانَ، فَكَذَلِكَ لاَ تُجْزِئُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهَا صَاحِبُهَا، وَضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا حَيَّةً، أَجْزَأَتْ عَنِ الذَّابِحِ، لأَِنَّهُ مَلَكَهَا بِالضَّمَانِ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ، فَصَارَ ذَابِحًا لِشَاةٍ هِيَ مِلْكُهُ، لَكِنَّهُ آثِمٌ، لأَِنَّ ابْتِدَاءَ فِعْلِهِ وَقَعَ مَحْظُورًا، فَتَلْزَمُهُ التَّوْبَةُ وَالاِسْتِغْفَارُ.
وَهَذَا قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ وَقَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ.
وَقَال زُفَرُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الْمَالِكِيَّةِ، وَأَحَدُ رِوَايَتَيِ الْحَنَابِلَةِ، لاَ تُجْزِئُ عَنْهُ، لأَِنَّ الضَّمَانَ لاَ يُوجِبُ الْمِلْكَ عِنْدَهُمْ. ر: (غَصْبٌ) (1) .
33 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى إِنْسَانٌ شَاةً فَأَضْجَعَهَا، وَشَدَّ قَوَائِمَهَا لِلتَّضْحِيَةِ بِهَا، فَجَاءَ إِنْسَانٌ آخَرُ فَذَبَحَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ صَحَّتْ أُضْحِيَّةً لِمَالِكِهَا، لِوُجُودِ الإِْذْنِ مِنْهُ دَلاَلَةً.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِذَا عَيَّنَ الأُْضْحِيَّةَ فَذَبَحَهَا غَيْرُهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ أَجْزَأَتْ عَنْ صَاحِبِهَا، وَلاَ ضَمَانَ عَلَى ذَابِحِهَا.
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لإِِجْزَائِهَا وُجُودَ الإِْذْنِ صَرَاحَةً أَوِ اعْتِيَادِهِ ذَلِكَ. (2)
وَلَوِ اشْتَرَى إِنْسَانٌ شَاةً لِيُضَحِّيَ بِهَا، فَلَمَّا ذَبَحَهَا تَبَيَّنَ بِبَيِّنَةٍ أَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ - أَيْ أَنَّهَا كَانَتْ مِلْكَ إِنْسَانٍ غَيْرِ الْبَائِعِ - فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمَغْصُوبَةِ، وَشِرَاؤُهُ إِيَّاهَا بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ. (3)
__________
(1) البدائع 5 / 77 - 78، والحطاب 3 / 253، والإنصاف 4 / 90.
(2) البدائع 5 / 77 - 78، والشرح الصغير 2 / 145، والمغني 11 / 117.
(3) الإنصاف 4 / 90، والبدائع 5 / 78.

(5/88)


34 - وَلَوْ أَوْدَعَ رَجُلٌ رَجُلاً شَاةً، فَضَحَّى بِهَا عَنْ نَفْسِهِ، فَاخْتَارَ صَاحِبُهَا الْقِيمَةَ فَأَخَذَهَا، فَإِنَّ الشَّاةَ لاَ تَكُونُ أُضْحِيَّةً عَنِ الذَّابِحِ، بِخِلاَفِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْمُسْتَحَقَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ فِي الْوَدِيعَةِ هُوَ الذَّبْحُ، فَلاَ يُعْتَبَرُ الذَّابِحُ مَالِكًا إِلاَّ بَعْدَ الذَّبْحِ، فَحِينَ الذَّبْحِ لَمْ يَذْبَحْ مَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ، فَلَمْ يُجْزِئْهُ أُضْحِيَّةً، وَسَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فِي الْغَصْبِ وَالاِسْتِحْقَاقِ هُوَ الأَْخْذُ السَّابِقُ عَلَى الذَّبْحِ، وَالضَّمَانُ يُوجِبُ الْمِلْكِيَّةَ كَمَا سَبَقَ، فَيَكُونُ الذَّابِحُ فِي حَالَتَيِ الْغَصْبِ وَالاِسْتِحْقَاقِ ذَابِحًا مَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ فَيُجْزِئُ عَنْهُ.
وَمَا قِيل فِي الْوَدِيعَةِ يُقَال فِي الْعَارِيَّةِ وَالْمُسْتَأْجَرَةِ (1) .

النَّوْعُ الثَّانِي: شَرَائِطُ تَرْجِعُ إِلَى الْمُضَحِّي
يُشْتَرَطُ فِي الْمُضَحِّي لِصِحَّةِ التَّضْحِيَةِ ثَلاَثَةُ شُرُوطٍ:
35 - (الشَّرْطُ الأَْوَّل) : نِيَّةُ التَّضْحِيَةِ: لأَِنَّ الذَّبْحَ قَدْ يَكُونُ لِلَّحْمِ، وَقَدْ يَكُونُ لِلْقُرْبَةِ، وَالْفِعْل لاَ يَقَعُ قُرْبَةً إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُل امْرِئٍ مَا نَوَى. (2)
وَالْمُرَادُ بِالأَْعْمَال الْقُرُبَاتُ، ثُمَّ إِنَّ الْقُرُبَاتِ مِنَ الذَّبَائِحِ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ، كَهَدْيِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَالإِْحْصَارِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَكَفَّارَةِ الْحَلِفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَلاَ تَتَعَيَّنُ الأُْضْحِيَّةُ مِنْ بَيْنِ هَذِهِ الْقُرُبَاتِ إِلاَّ بِنِيَّةِ التَّضْحِيَةِ، وَتَكْفِي النِّيَّةُ بِالْقَلْبِ دُونَ التَّلَفُّظِ بِهَا كَمَا فِي الصَّلاَةِ، لأَِنَّ
__________
(1) البدائع 5 / 77 - 78.
(2) حديث: " إنما الأعمال بالنيات " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 9 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1515 - 1516 - ط الحلبي) .

(5/89)


النِّيَّةَ عَمَل الْقَلْبِ، وَالذِّكْرُ بِاللِّسَانِ دَلِيلٌ عَلَى مَا فِيهِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ. (1)
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِاسْتِثْنَاءِ الْمُعَيَّنَةِ بِالنَّذْرِ، كَأَنْ قَال بِلِسَانِهِ - مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ بِقَلْبِهِ - لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ أَنْ أُضَحِّيَ بِهَذِهِ الشَّاةِ، فَإِنَّ نَذْرَهُ يَنْعَقِدُ بِاللَّفْظِ وَلَوْ بِلاَ نِيَّةٍ، وَلاَ تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ عِنْدَ ذَبْحِهَا، بِخِلاَفِ الْمَجْعُولَةِ، بِأَنْ قَال بِلِسَانِهِ: جَعَلْتُ هَذِهِ الشَّاةَ أُضْحِيَّةً، فَإِنَّ إِيجَابَهُ يَنْعَقِدُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ عِنْدَ النُّطْقِ، لَكِنْ لاَ بُدَّ مِنَ النِّيَّةِ عِنْدَ ذَبْحِهَا إِنْ لَمْ يَنْوِ عِنْدَ النُّطْقِ.
وَقَالُوا: لَوْ وَكَّل فِي الذَّبْحِ كَفَتْ نِيَّتُهُ وَلاَ حَاجَةَ لِنِيَّةِ الْوَكِيل، بَل لاَ حَاجَةَ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهَا أُضْحِيَّةٌ.
وَقَالُوا أَيْضًا: يَجُوزُ لِصَاحِبِ الأُْضْحِيَّةِ أَنْ يُفَوِّضَ فِي نِيَّةِ التَّضْحِيَةِ مُسْلِمًا مُمَيِّزًا يَنْوِي عِنْدَ الذَّبْحِ أَوِ التَّعْيِينِ، بِخِلاَفِ الْكَافِرِ وَغَيْرِ الْمُمَيِّزِ بِجُنُونٍ أَوْ نَحْوِهِ. (2)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الأُْضْحِيَّةَ الْمُعَيَّنَةَ لاَ تَجِبُ فِيهَا النِّيَّةُ عِنْدَ الذَّبْحِ، لَكِنْ لَوْ ذَبَحَهَا غَيْرُ مَالِكِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَنَوَاهَا عَنْ نَفْسِهِ عَالِمًا بِأَنَّهَا مِلْكُ غَيْرِهِ لَمْ تُجْزِئْ عَنْهُمَا، أَمَّا مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ فَتُجْزِئُ عَنِ الْمَالِكِ وَلاَ أَثَرَ لِنِيَّةِ الْفُضُولِيِّ.
36 - (الشَّرْطُ الثَّانِي) : أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِلذَّبْحِ أَوْ مُقَارِنَةً لِلتَّعْيِينِ السَّابِقِ عَلَى الذَّبْحِ، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا التَّعْيِينُ بِشِرَاءِ الشَّاةِ أَمْ بِإِفْرَازِهَا مِمَّا يَمْلِكُهُ،
__________
(1) البدائع 5 / 71، والمنهج بحاشية البجيرمي 4 / 296، والمغني 11 / 117، والدسوقي 2 / 123.
(2) المنهج على البجيرمي 4 / 296، والبدائع 5 / 72، وابن عابدين 5 / 198.

(5/89)


وَسَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ لِلتَّطَوُّعِ أَمْ لِنَذْرٍ فِي الذِّمَّةِ، وَمِثْلُهُ الْجُعْل كَأَنْ يَقُول: جَعَلْتُ هَذِهِ الشَّاةَ أُضْحِيَّةً، فَالنِّيَّةُ فِي هَذَا كُلِّهِ تَكْفِي عَنِ النِّيَّةِ عِنْدَ الذَّبْحِ، وَأَمَّا الْمَنْذُورَةُ الْمُعَيَّنَةُ فَلاَ تَحْتَاجُ لِنِيَّةٍ كَمَا سَبَقَ. هَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَتَكْفِي عِنْدَهُمُ النِّيَّةُ السَّابِقَةُ عِنْدَ الشِّرَاءِ أَوِ التَّعْيِينِ (1) .

37 - (الشَّرْطُ الثَّالِثُ) : أَلاَّ يُشَارِكَ الْمُضَحِّي فِيمَا يَحْتَمِل الشَّرِكَةَ مَنْ لاَ يُرِيدُ الْقُرْبَةَ رَأْسًا، فَإِنْ شَارَكَ لَمْ يَصِحَّ عَنِ الأُْضْحِيَّةِ.
وَإِيضَاحُ هَذَا، أَنَّ الْبَدَنَةَ (2) وَالْبَقَرَةَ كُلٌّ مِنْهُمَا يُجْزِئُ عَنْ سَبْعَةٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَا مَرَّ.
فَإِذَا اشْتَرَكَ فِيهَا سَبْعَةٌ، فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُرِيدًا لِلْقُرْبَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ نَوْعُهَا. فَلَوِ اشْتَرَى سَبْعَةٌ أَوْ أَقَل بَدَنَةً، أَوِ اشْتَرَاهَا وَاحِدٌ بِنِيَّةِ التَّشْرِيكِ فِيهَا، ثُمَّ شَرِكَ فِيهَا سِتَّةً أَوْ أَقَل، وَأَرَادَ وَاحِدٌ مِنْهُمُ التَّضْحِيَةَ، وَآخَرُ هَدْيَ الْمُتْعَةِ، وَثَالِثٌ هَدْيَ الْقِرَانِ، وَرَابِعٌ كَفَّارَةَ الْحَلِفِ، وَخَامِسٌ كَفَّارَةَ الدَّمِ عَنْ تَرْكِ الْمِيقَاتِ، وَسَادِسٌ هَدْيَ التَّطَوُّعِ، وَسَابِعٌ الْعَقِيقَةَ عَنْ وَلَدِهِ أَجْزَأَتْهُمْ الْبَدَنَةُ. بِخِلاَفِ مَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمْ يُرِيدُ سُبْعَهَا لِيَأْكُلَهُ، أَوْ لِيُطْعِمَ أَهْلَهُ، أَوْ لِيَبِيعَهُ، فَلاَ تُجْزِئُ عَنِ الآْخَرِينَ الَّذِينَ أَرَادُوا الْقُرْبَةَ.
__________
(1) الإنصاف 4 / 93 - 94، والمغني 8 / 642، وحاشية الدسوقي 2 / 123.
(2) البدنة بفتح الباء والدال تشمل الإبل والبقر فتطلق على الثور والبقرة والجمل والناقة، وسميت بذلك لضخامة بدنها، وتجمع على " بدن " بضم الباء وسكون الدال، وبعضهم يخصها بالإبل فتعطف عليها البقرة فيقول: " تجزئ البدنة والبقرة كل منهما عن سبعة "

(5/90)


هَذَا قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ.
وَذَلِكَ، لأَِنَّ الْقُرْبَةَ الَّتِي فِي الأُْضْحِيَّةِ، وَفِي هَذِهِ الأَْنْوَاعِ كُلِّهَا إِنَّمَا هِيَ فِي إِرَاقَةِ الدَّمِ، وَإِرَاقَةُ الدَّمِ فِي الْبَدَنَةِ الْوَاحِدَةِ لاَ تَتَجَزَّأُ، لأَِنَّهَا ذَبْحٌ وَاحِدٌ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الإِْرَاقَةُ قُرْبَةً مِنْ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ تَكُنْ قُرْبَةً مِنَ الْبَاقِينَ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الإِْرَاقَةُ قُرْبَةً مِنَ الْجَمِيعِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ جِهَتُهَا، أَوْ كَانَ بَعْضُهَا وَاجِبًا وَبَعْضُهَا تَطَوُّعًا.
وَقَال زُفَرُ: لاَ يُجْزِئُ الذَّبْحُ عَنِ الأُْضْحِيَّةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْقُرَبِ عِنْدَ الاِشْتِرَاكِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِكُونَ مُتَّفِقِينَ فِي جِهَةِ الْقُرْبَةِ، كَأَنْ يَشْتَرِكَ سَبْعَةٌ كُلُّهُمْ يُرِيدُ الأُْضْحِيَّةَ، أَوْ سَبْعَةٌ كُلُّهُمْ يُرِيدُ جَزَاءَ الصَّيْدِ، فَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي الْجِهَةِ لَمْ يَصِحَّ الذَّبْحُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، لأَِنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى الاِشْتِرَاكَ، إِذِ الذَّبْحُ فِعْل وَاحِدٍ لاَ يَتَجَزَّأُ، فَلاَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَقَعَ بَعْضُهُ عَنْ جِهَةٍ، وَبَعْضُهُ عَنْ جِهَةٍ أُخْرَى، لَكِنْ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِهَةِ يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَل كَقُرْبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلاَ يُمْكِنُ ذَلِكَ عِنْدَ الاِخْتِلاَفِ، فَبَقِيَ الأَْمْرُ فِيهِ مَرْدُودًا إِلَى الْقِيَاسِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كَرِهَ الاِشْتِرَاكَ عِنْدَ اخْتِلاَفِ الْجِهَةِ، وَقَال: لَوْ كَانَ هَذَا مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ، وَهَكَذَا قَال أَبُو يُوسُفَ (1) .
38 - وَلَوِ اشْتَرَى رَجُلٌ بَقَرَةً يُرِيدُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا، ثُمَّ أَشْرَكَ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ غَيْرَهُ، فَإِنْ كَانَ فَقِيرًا حِينَ اشْتَرَاهَا فَقَدْ أَوْجَبَهَا عَلَى نَفْسِهِ كَمَا سَبَقَ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُشْرِكَ فِيهَا غَيْرَهُ. وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا مُقِيمًا، وَقَدِ اشْتَرَاهَا قَبْل وَقْتِ الْوُجُوبِ، أَوْ غَنِيًّا مُسَافِرًا فَكَذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا مُقِيمًا، وَاشْتَرَاهَا بَعْدَ وَقْتِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 207، 208 ط بولاق.

(5/90)


الْوُجُوبِ فَإِنَّ شِرَاءَهَا لاَ يُوجِبُهَا كَمَا تَقَدَّمَ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُشْرِكَ فِيهَا مَعَهُ سِتَّةً أَوْ أَقَل يُرِيدُونَ الْقُرْبَةَ، لَكِنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ لأَِنَّهُ لَمَّا اشْتَرَاهَا بِنِيَّةِ التَّضْحِيَةِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ وَعْدًا أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا كُلَّهَا عَنْ نَفْسِهِ، وَإِخْلاَفُ الْوَعْدِ مَكْرُوهٌ، وَيَنْبَغِي فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالثَّمَنِ الَّذِي أَخَذَهُ مِمَّنْ أَشْرَكَهُمْ مَعَهُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَعَ إِلَى حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دِينَارًا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ أُضْحِيَّةً، فَاشْتَرَى شَاةً وَبَاعَهَا بِدِينَارَيْنِ، وَاشْتَرَى بِأَحَدِهِمَا شَاةً وَجَاءَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِشَاةٍ وَدِينَارٍ، وَأَخْبَرَهُ بِمَا صَنَعَ، فَأَمَرَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُضَحِّيَ بِالشَّاةِ، وَيَتَصَدَّقَ بِالدِّينَارِ (1) هَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ. (2)
وَخَالَفَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَأَجَازُوا أَنْ يَشْتَرِكَ مُرِيدُ التَّضْحِيَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْقُرُبَاتِ مَعَ مُرِيدِ اللَّحْمِ، حَتَّى لَوْ كَانَ لِمُرِيدِ التَّضْحِيَةِ سُبْعُ الْبَدَنَةِ، وَلِمُرِيدِ الْهَدْيِ سُبْعُهَا، وَلِمُرِيدِ الْعَقِيقَةِ سُبْعُهَا، وَلِمُرِيدِ اللَّحْمِ بَاقِيهَا، فَذُبِحَتْ بِهَذِهِ النِّيَّاتِ جَازَ، لأَِنَّ
__________
(1) حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه أخرجه الترمذي وأبو داود بهذا المعنى. أما حديث الترمذي فمنقطع لعدم سماع حبيب من حكيم. كما أن في إسناد أبي داود راويا مجهولا. وأخرج البخاري القصة من حديث عروة، وليس فيه ذكر التصدق، وقال ابن حجر: له متابع عند أحمد وأبي دا وعون المعبود 3 / 264 - 266 ط الهند، وفتح الباري 6 / 632 - 635 ط السلفية، ونيل الأوطار 6 / 5 - 6 ط دار الجيل) .
(2) البدائع 5 / 71 - 72، حاشية ابن عابدين على الدر المختار 5 / 201.

(5/91)


الْفِعْل إِنَّمَا يَصِيرُ قُرْبَةً مِنْ كُل وَاحِدٍ بِنِيَّتِهِ لاَ بِنِيَّةِ شَرِيكِهِ، فَعَدَمُ النِّيَّةِ مِنْ أَحَدِهِمْ لاَ يَقْدَحُ فِي قُرْبَةِ الْبَاقِينَ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ الاِشْتِرَاكُ فِي الثَّمَنِ أَوِ اللَّحْمِ، فَإِنِ اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي الثَّمَنِ، بِأَنْ دَفَعَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ جُزْءًا مِنْهُ، أَوِ اشْتَرَكُوا فِي اللَّحْمِ، بِأَنْ كَانَتِ الشَّاةُ أَوِ الْبَدَنَةُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمْ لَمْ تُجْزِئْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، بِخِلاَفِ إِشْرَاكِهِمْ فِي الثَّوَابِ مِمَّنْ ضَحَّى بِهَا قَبْل الذَّبْحِ كَمَا مَرَّ.

وَقْتُ التَّضْحِيَةِ مَبْدَأٌ وَنِهَايَةٌ
مَبْدَأُ الْوَقْتِ:
39 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: يَدْخُل وَقْتُ التَّضْحِيَةِ عِنْدَ طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَهُوَ يَوْمُ الْعِيدِ، وَهَذَا الْوَقْتُ لاَ يَخْتَلِفُ فِي ذَاتِهِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يُضَحِّي فِي الْمِصْرِ أَوْ غَيْرِهِ. لَكِنَّهُمُ اشْتَرَطُوا فِي صِحَّتِهَا لِمَنْ يُضَحِّي فِي الْمِصْرِ أَنْ يَكُونَ الذَّبْحُ بَعْدَ صَلاَةِ الْعِيدِ، وَلَوْ قَبْل الْخُطْبَةِ، إِلاَّ أَنَّ الأَْفْضَل تَأْخِيرُهُ إِلَى مَا بَعْدَ الْخُطْبَةِ، وَإِذَا صُلِّيَتْ صَلاَةُ الْعِيدِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْمِصْرِ كَفَى فِي صِحَّةِ التَّضْحِيَةِ الْفَرَاغُ مِنَ الصَّلاَةِ فِي أَحَدِ الْمَوَاضِعِ.
وَإِذَا عُطِّلَتْ صَلاَةُ الْعِيدِ يُنْتَظَرُ حَتَّى يَمْضِيَ وَقْتُ الصَّلاَةِ بِأَنْ تَزُول الشَّمْسُ، ثُمَّ يَذْبَحَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَأَمَّا مَنْ يُضَحِّي فِي غَيْرِ الْمِصْرِ فَإِنَّهُ لاَ تُشْتَرَطُ لَهُ هَذِهِ الشَّرِيطَةُ، بَل يَجُوزُ أَنْ يَذْبَحَ بَعْدَ طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ، لأَِنَّ أَهْل غَيْرِ الْمِصْرِ لَيْسَ عَلَيْهِمْ صَلاَةُ الْعِيدِ.
__________
(1) المجموع للنووي 8 / 397، والمغني لابن قدامة 11 / 97، 118.

(5/91)


وَإِذَا كَانَ مَنْ عَلَيْهِ الأُْضْحِيَّةُ مُقِيمًا فِي الْمِصْرِ، وَوَكَّل مَنْ يُضَحِّي عَنْهُ فِي غَيْرِهِ أَوْ بِالْعَكْسِ، فَالْعِبْرَةُ بِمَكَانِ الذَّبْحِ لاَ بِمَكَانِ الْمُوَكِّل الْمُضَحِّي، لأَِنَّ الذَّبْحَ هُوَ الْقُرْبَةُ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَال الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ أَوَّل وَقْتِ التَّضْحِيَةِ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الإِْمَامِ هُوَ وَقْتُ الْفَرَاغِ مِنْ ذَبْحِ أُضْحِيَّةِ الإِْمَامِ بَعْدَ الصَّلاَةِ وَالْخُطْبَتَيْنِ فِي الْيَوْمِ الأَْوَّل، وَبِالنِّسْبَةِ لِلإِْمَامِ هُوَ وَقْتُ الْفَرَاغِ مِنْ صَلاَتِهِ وَخُطْبَتِهِ، فَلَوْ ذَبَحَ الإِْمَامُ قَبْل الْفَرَاغِ مِنْ خُطْبَتَيْهِ لَمْ يُجْزِئْهُ، وَلَوْ ذَبَحَ النَّاسُ قَبْل الْفَرَاغِ مِنْ ذَبْحِ أُضْحِيَّةِ الإِْمَامِ لَمْ يُجْزِئْهُمْ، إِلاَّ إِذَا بَدَءُوا بَعْدَ بَدْئِهِ، وَانْتَهَوْا بَعْدَ انْتِهَائِهِ أَوْ مَعَهُ.
وَإِذَا لَمْ يَذْبَحِ الإِْمَامُ أَوْ تَوَانَى فِي الذَّبْحِ بَعْدَ فَرَاغِ خُطْبَتَيْهِ بِلاَ عُذْرٍ أَوْ بِعُذْرٍ تَحَرَّى النَّاسُ الْقَدْرَ الَّذِي يُمْكِنُ فِيهِ الذَّبْحُ، ثُمَّ ذَبَحُوا أَضَاحِيَّهُمْ، فَتُجْزِئُهُمْ وَإِنْ سَبَقُوهُ لَكِنْ عِنْدَ التَّوَانِي بِعُذْرٍ، كَقِتَال عَدُوٍّ أَوْ إِغْمَاءٍ أَوْ جُنُونٍ يُنْدَبُ انْتِظَارُهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ تَضْحِيَتِهِ، إِلاَّ إِذَا قَرُبَ زَوَال الشَّمْسِ فَيَنْبَغِي لِلنَّاسِ حِينَئِذٍ أَنْ يُضَحُّوا وَلَوْ قَبْل الإِْمَامِ. ثُمَّ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ إِلاَّ نَائِبُ الإِْمَامِ الْحَاكِمِ أَوْ إِمَامُ الصَّلاَةِ فَالْمُعْتَبَرُ نَائِبُ الإِْمَامِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا هَذَا وَذَاكَ، وَأَخْرَجَ نَائِبُ الإِْمَامِ أُضْحِيَّتَهُ إِلَى الْمُصَلَّى فَهُوَ الْمُعْتَبَرُ، وَإِلاَّ فَالْمُعْتَبَرُ إِمَامُ الصَّلاَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا وَلاَ ذَاكَ تَحَرَّوْا تَضْحِيَةَ إِمَامِ أَقْرَبِ الْبِلاَدِ إِلَيْهِمْ إِنْ كَانَ وَاحِدًا، فَإِنْ تَعَدَّدَ تَحَرَّوْا تَضْحِيَةَ أَقْرَبِ الأَْئِمَّةِ لِبَلَدِهِمْ. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالٍ لِلْحَنَابِلَةِ: يَدْخُل وَقْتُ التَّضْحِيَةِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يَوْمَ عِيدِ
__________
(1) البدائع 5 / 73، 74، وحاشية ابن عابدين 5 / 403.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 120.

(5/92)


النَّحْرِ بِمِقْدَارِ مَا يَسَعُ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ وَخُطْبَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، وَالْمُرَادُ بِالْخِفَّةِ الاِقْتِصَارُ عَلَى مَا يُجْزِئُ فِي الصَّلاَةِ وَالْخُطْبَتَيْنِ.
قَالُوا: وَإِنَّمَا لَمْ تَتَوَقَّفْ صِحَّةُ التَّضْحِيَةِ عَلَى الْفَرَاغِ مِنْ صَلاَةِ الإِْمَامِ وَخُطْبَتَيْهِ بِالْفِعْل لأَِنَّ الأَْئِمَّةَ يَخْتَلِفُونَ تَطْوِيلاً وَتَقْصِيرًا، فَاعْتُبِرَ الزَّمَانُ لِيَكُونَ أَشْبَهَ بِمَوَاقِيتِ الصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا، وَأَضْبَطُ لِلنَّاسِ فِي الأَْمْصَارِ وَالْقُرَى وَالْبَوَادِي، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالأَْحَادِيثِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي صَلاَةَ عِيدِ الأَْضْحَى عَقِبَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. (1)
وَالأَْفْضَل تَأْخِيرُ التَّضْحِيَةِ عَنِ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ قَدْرَ رُمْحٍ بِالْمِقْدَارِ السَّابِقِ الذِّكْرِ. (2)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ ثَالِثٍ لَهُمْ وَهُوَ الأَْرْجَحُ، إِلَى أَنَّ وَقْتَهَا يَبْتَدِئُ بَعْدَ صَلاَةِ الْعِيدِ وَلَوْ قَبْل الْخُطْبَةِ لَكِنَّ الأَْفْضَل انْتِظَارُ الْخُطْبَتَيْنِ.
وَلاَ يَلْزَمُ انْتِظَارُ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلاَةِ فِي جَمِيعِ الأَْمَاكِنِ إِنْ تَعَدَّدَتْ، بَل يَكْفِي الْفَرَاغُ مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، وَإِذَا كَانَ مُرِيدُ التَّضْحِيَةِ فِي جِهَةٍ لاَ يُصَلَّى فِيهَا الْعِيدُ - كَالْبَادِيَةِ وَأَهْل الْخِيَامِ مِمَّنْ لاَ عِيدَ عَلَيْهِمْ - فَالْوَقْتُ يَبْتَدِئُ بَعْدَ مُضِيِّ قَدْرِ صَلاَةِ الْعِيدِ مِنْ
__________
(1) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة عيد الأضحى عقب طلوع الشمس " يدل عليه ما أخرجه الحسن بن أحمد البناء في كتاب الأضاحي من طريق المعلى بن هلال عن الأسود بن قيس عن جندب قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بنا يوم الفطر والشمس على قيد رمحين ونيل الأوطار 3 / 293 ط المطبعة العثمانية المصرية 1357 هـ، ومنية الألمعي ص 30) .
(2) المجموع للنووي 8 / 387 - 391، وحاشية البجيرمي على شرح المنهج 4 / 294، 297.

(5/92)


ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ قَدْرَ رُمْحٍ.
وَإِذَا فَاتَتْ صَلاَةُ الْعِيدِ بِالزَّوَال فِي الأَْمَاكِنِ الَّتِي تُصَلَّى فِيهَا ضَحَّوْا مِنْ حِينِ الْفَوَاتِ (1) .

نِهَايَةُ وَقْتِ التَّضْحِيَةِ:
40 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَيَّامَ التَّضْحِيَةِ ثَلاَثَةٌ، وَهِيَ يَوْمُ الْعِيدِ، وَالْيَوْمَانِ الأَْوَّلاَنِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَيَنْتَهِي وَقْتُ التَّضْحِيَةِ بِغُرُوبِ شَمْسِ الْيَوْمِ الأَْخِيرِ مِنَ الأَْيَّامِ الْمَذْكُورَةِ، وَهُوَ ثَانِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ عُمَرَ وَعَلِيًّا وَأَبَا هُرَيْرَةَ وَأَنَسًا وَابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَخْبَرُوا أَنَّ أَيَّامَ النَّحْرِ ثَلاَثَةٌ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقَادِيرَ لاَ يُهْتَدَى إِلَيْهَا بِالرَّأْيِ، فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ هَؤُلاَءِ الصَّحَابَةُ الْكِرَامُ أَخْبَرُوا بِذَلِكَ سَمَاعًا. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ - وَهُوَ الْقَوْل الآْخَرُ لِلْحَنَابِلَةِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - أَيَّامُ التَّضْحِيَةِ أَرْبَعَةٌ، تَنْتَهِي بِغُرُوبِ شَمْسِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهَذَا الْقَوْل مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَيْضًا، وَمَرْوِيٌّ كَذَلِكَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَعَنْ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى الأَْسَدِيِّ وَمَكْحُولٍ.
وَحُجَّةُ الْقَائِلِينَ بِهَذَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
__________
(1) المغني لابن قدامة بأعلى الشرح الكبير 11 / 113 - 115، ومطالب أولي النهى 2 / 470.
(2) البدائع 5 / 75، والشرح الكبير بحاشية الدسوقي 2 / 120، والمغني لابن قدامة 11 / 114.

(5/93)


كُل أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ (1) .

التَّضْحِيَةُ فِي لَيَالِي أَيَّامِ النَّحْرِ:
41 - أَمَّا لَيْلَةُ عِيدِ الأَْضْحَى فَلَيْسَتْ وَقْتًا لِلتَّضْحِيَةِ بِلاَ خِلاَفٍ، وَكَذَلِكَ اللَّيْلَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ، وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ فِي اللَّيْلَتَيْنِ أَوِ اللَّيَالِي الْمُتَوَسِّطَةِ بَيْنَ أَيَّامِ النَّحْرِ.
فَالْمَالِكِيَّةُ يَقُولُونَ: لاَ تُجْزِئُ التَّضْحِيَةُ الَّتِي تَقَعُ فِي اللَّيْلَتَيْنِ الْمُتَوَسِّطَتَيْنِ، وَهُمَا لَيْلَتَا يَوْمَيِ التَّشْرِيقِ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ. (2)
وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيِ الْحَنَابِلَةِ. (3)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ (4) : إِنَّ التَّضْحِيَةَ فِي اللَّيَالِيِ الْمُتَوَسِّطَةِ تُجْزِئُ مَعَ الْكَرَاهَةِ، لأَِنَّ الذَّابِحَ قَدْ يُخْطِئُ الْمَذْبَحَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْجُمْهُورُ. وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. (5)
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ (6) مِنْ كَرَاهِيَةِ التَّضْحِيَةِ لَيْلاً مَا لَوْ كَانَ ذَلِكَ لِحَاجَةٍ، كَاشْتِغَالِهِ نَهَارًا بِمَا يَمْنَعُهُ مِنَ التَّضْحِيَةِ، أَوْ مَصْلَحَةٍ كَتَيَسُّرِ الْفُقَرَاءِ لَيْلاً، أَوْ سُهُولَةِ حُضُورِهِمْ.

مَا يَجِبُ بِفَوَاتِ وَقْتِ التَّضْحِيَةِ:
42 - وَلَمَّا كَانَتِ الْقُرْبَةُ فِي الأُْضْحِيَّةِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ،
__________
(1) حديث: " كل أيام التشريق ذبح ". أخرجه ابن حبان (موارد الظمآن ص 249 ط السلفية) ، وأحمد (4 / 82 ط الميمنية) وقال الهيثمي: ورجاله موثقون (3 / 251 - ط القدسي) .
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 121.
(3) المغني لابن قدامة 11 / 113 - 115.
(4) البدائع 5 / 73، والمجموع للنووي 8 / 387 - 391.
(5) مطالب أولي النهى 2 / 470 وهذا لا يتأتى الآن غالبا لتغير ظروف الإضاءة.
(6) البجيرمي على المنهج 4 / 297.

(5/93)


وَكَانَتْ هَذِهِ الإِْرَاقَةُ لاَ يُعْقَل السِّرُّ فِي التَّقَرُّبِ بِهَا، وَجَبَ الاِقْتِصَارُ فِي التَّقَرُّبِ بِهَا عَلَى الْوَقْتِ الَّذِي خَصَّهَا الشَّارِعُ بِهِ. فَلاَ تُقْضَى بِعَيْنِهَا بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِهَا، بَل يَنْتَقِل التَّغَرُّبُ إِلَى التَّصَدُّقِ بِعَيْنِ الشَّاةِ حَيَّةً، أَوْ بِقِيمَتِهَا أَوْ بِقِيمَةِ أُضْحِيَّةٍ مُجْزِئَةٍ، فَمَنْ عَيَّنَ أُضْحِيَّةً شَاةً أَوْ غَيْرَهَا بِالنَّذْرِ أَوْ بِالشِّرَاءِ بِالنِّيَّةِ فَلَمْ يُضَحِّ بِهَا حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا حَيَّةً، لأَِنَّ الأَْصْل فِي الأَْمْوَال التَّقَرُّبُ بِالتَّصَدُّقِ بِهَا لاَ بِالإِْتْلاَفِ وَهُوَ الإِْرَاقَةُ. إِلاَّ أَنَّ الشَّارِعَ نَقَلَهُ إِلَى إِرَاقَةِ دَمِهَا مُقَيَّدَةً بِوَقْتٍ مَخْصُوصٍ حَتَّى أَنَّهُ يَحِل أَكْل لَحْمِهَا لِلْمَالِكِ وَالأَْجْنَبِيِّ وَالْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ، لأَِنَّ النَّاسَ أَضْيَافُ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْوَقْتِ.
43 - وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِالْبَهِيمَةِ حَيَّةً لَمْ يَحِل لَهُ ذَبْحُهَا وَلاَ الأَْكْل مِنْهَا وَلاَ إِطْعَامُ الأَْغْنِيَاءِ وَلاَ إِتْلاَفُ شَيْءٍ مِنْهَا، فَإِنْ ذَبَحَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِهَا مَذْبُوحَةً، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا بَعْدَ الذَّبْحِ أَقَل مِنْ قِيمَتِهَا حَيَّةً تَصَدَّقَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ فَضْلاً عَنِ التَّصَدُّقِ بِهَا. فَإِنْ أَكَل مِنْهَا بَعْدَ الذَّبْحِ شَيْئًا أَوْ أَطْعَمَ مِنْهَا غَنِيًّا أَوْ أَتْلَفَ شَيْئًا وَجَبَ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِقِيمَتِهِ.
44 - وَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ التَّضْحِيَةُ وَلَمْ يُضَحِّ حَتَّى فَاتَ الْوَقْتُ ثُمَّ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِالتَّصَدُّقِ بِقِيمَةِ شَاةٍ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ هِيَ الطَّرِيقُ إِلَى تَخْلِيصِهِ مِنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ. هَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ. (1)
وَلِلإِْيصَاءِ بِالتَّضْحِيَةِ صُوَرٌ نَكْتَفِي بِالإِْشَارَةِ إِلَيْهَا، وَلِتَفْصِيلِهَا وَبَيَانِ أَحْكَامِهَا (ر: وَصِيَّةٌ) .
__________
(1) البدائع 5 / 68 - 69.

(5/94)


وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: مَنْ لَمْ يُضَحِّ حَتَّى فَاتَ الْوَقْتُ فَإِنْ كَانَتْ مَسْنُونَةً - وَهُوَ الأَْصْل - لَمْ يُضَحِّ، وَفَاتَتْهُ تَضْحِيَةُ هَذَا الْعَامِ، فَإِنْ ذَبَحَ وَلَوْ بِنِيَّةِ التَّضْحِيَةِ لَمْ تَكُنْ ذَبِيحَتُهُ أُضْحِيَّةً، وَيُثَابُ عَلَى مَا يُعْطِي الْفُقَرَاءَ مِنْهَا ثَوَابَ الصَّدَقَةِ. وَإِنْ كَانَتْ مَنْذُورَةً لَزِمَهُ أَنْ يُضَحِّيَ قَضَاءً، وَهُوَ رَأْيٌ لِبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، لأَِنَّهَا قَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ فَلَمْ تَسْقُطْ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ، فَإِذَا وَجَبَتِ الأُْضْحِيَّةُ بِإِيجَابِهِ لَهَا فَضَلَّتْ أَوْ سُرِقَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، لأَِنَّهَا أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، فَإِنْ عَادَتْ إِلَيْهِ ذَبَحَهَا سَوَاءٌ أَكَانَتْ عَوْدَتُهَا فِي زَمَنِ الأُْضْحِيَّةِ أَوْ بَعْدَهُ. (1)
فَإِذَا مَضَى الْوَقْتُ وَلَمْ يُضَحِّ بِالشَّاةِ الْمُعَيَّنَةِ عَادَ الْحُكْمُ إِلَى الأَْصْل، وَهُوَ التَّصَدُّقُ بِعَيْنِ الأُْضْحِيَّةِ حَيَّةً سَوَاءٌ أَكَانَ الَّذِي عَيَّنَهَا مُوسِرًا أَمْ مُعْسِرًا أَوْ بِقِيمَتِهَا. وَفِي هَذِهِ الْحَال لاَ تَحِل لَهُ وَلاَ لأَِصْلِهِ وَلاَ لِفَرْعِهِ وَلاَ لِغَنِيٍّ.

مَا يُسْتَحَبُّ قَبْل التَّضْحِيَةِ:
45 - يُسْتَحَبُّ قَبْل التَّضْحِيَةِ أُمُورٌ:
(1) أَنْ يَرْبِطَ الْمُضَحِّي الأُْضْحِيَّةَ قَبْل يَوْمِ النَّحْرِ بِأَيَّامٍ، لِمَا فِيهِ مِنَ الاِسْتِعْدَادِ لِلْقُرْبَةِ وَإِظْهَارِ الرَّغْبَةِ فِيهَا، فَيَكُونُ لَهُ فِيهِ أَجْرٌ وَثَوَابٌ.
(2) أَنْ يُقَلِّدَهَا (2) وَيُجَلِّلَهَا (3) قِيَاسًا عَلَى الْهَدْيِ، لأَِنَّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِتَعْظِيمِهَا، قَال تَعَالَى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} . (4)
__________
(1) المجموع للنووي 8 / 388، والمغني 11 / 115، 116.
(2) التقليد: تعليق شيء في عنق الحيوان ليعلم أنه هدي أو أضحية.
(3) والتجليل: إلباس الدابة الجل بضم الجيم، ويجوز فتحها مع تشديد اللام، وهو ما تغطى به الدابة لصيانتها.
(4) سورة الحج / 32.

(5/94)


(3) أَنْ يَسُوقَهَا إِلَى مَكَانِ الذَّبْحِ سَوْقًا جَمِيلاً لاَ عَنِيفًا وَلاَ يَجُرُّ بِرِجْلِهَا إِلَيْهِ، (1) لأَِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ الإِْحْسَانَ عَلَى كُل شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ. (2)
(4) وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: يُسَنُّ لِمَنْ يُرِيدُ التَّضْحِيَةَ وَلِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّ غَيْرَهُ يُضَحِّي عَنْهُ أَلاَّ يُزِيل شَيْئًا مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ أَوْ بَدَنِهِ بِحَلْقٍ أَوْ قَصٍّ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَلاَ شَيْئًا مِنْ أَظْفَارِهِ بِتَقْلِيمٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَلاَ شَيْئًا مِنْ بَشَرَتِهِ كَسِلْعَةٍ لاَ يَضُرُّهُ بَقَاؤُهَا، (3) وَذَلِكَ مِنْ لَيْلَةِ الْيَوْمِ الأَْوَّل مِنْ ذِي الْحِجَّةِ إِلَى الْفَرَاغِ مِنْ ذَبْحِ الأُْضْحِيَّةِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ، لاَ مَسْنُونٌ، وَحُكِيَ الْوُجُوبُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَرَبِيعَةَ وَإِسْحَاقَ.
وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ عَدَمَ الْكَرَاهَةِ. (4) وَعَلَى الْقَوْل بِالسُّنِّيَّةِ يَكُونُ الإِْقْدَامُ عَلَى هَذِهِ الأُْمُورِ مَكْرُوهًا تَنْزِيهًا، وَعَلَى الْقَوْل بِالْوُجُوبِ يَكُونُ مُحَرَّمًا.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا دَخَل الْعَشْرُ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلاَ يَمَسَّ مِنْ شَعْرِهِ وَلاَ مِنْ
__________
(1) البدائع 5 / 78، والفتاوى الهندية 5 / 300.
(2) حديث: " إن الله كتب الإحسان على كل شيء " أخرجه مسلم (4 / 1548 - ط الحلبي) .
(3) السلعة - كما نقل الفيومي عن الأطباء: هي ورم غليظ غير ملتزق باللحم يتحرك بالتحريك (المصباح المنير) .
(4) المجموع للنووي 8 / 392، والمغني لابن قدامة 11 / 96، والشرح الصغير وحاشية الصاوي 2 / 141 ط دار المعارف.

(5/95)


بَشَرِهِ شَيْئًا. (1)
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا رَأَيْتُمْ هِلاَل ذِي الْحِجَّةِ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ. (2)
وَالْقَائِلُونَ بِالسُّنِّيَّةِ جَعَلُوا النَّهْيَ لِلْكَرَاهَةِ.
وَالْحَدِيثُ الدَّال عَلَى عَدَمِ تَحْرِيمِ الْفِعْل هُوَ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: كُنْتُ أَفْتِل قَلاَئِدَ هَدْيِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يُقَلِّدُهُ وَيَبْعَثُ بِهِ وَلاَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ. (3) قَال الشَّافِعِيُّ: الْبَعْثُ بِالْهَدْيِ، أَكْثَرُ مِنْ إِرَادَةِ التَّضْحِيَةِ فَدَل عَلَى أَنَّهُ لاَ يَحْرُمُ ذَلِكَ.
وَالْحِكْمَةُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الإِْمْسَاكِ عَنِ الشَّعْرِ وَالأَْظْفَارِ وَنَحْوِهِمَا قِيل: إِنَّهَا التَّشَبُّهُ بِالْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ، وَالصَّحِيحُ: أَنَّ الْحِكْمَةَ أَنْ يَبْقَى مُرِيدُ التَّضْحِيَةِ كَامِل الأَْجْزَاءِ رَجَاءَ أَنْ يُعْتَقَ مِنَ النَّارِ بِالتَّضْحِيَةِ.

مَا يُكْرَهُ قَبْل التَّضْحِيَةِ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ تَحْرِيمًا قَبْل التَّضْحِيَةِ أُمُورٌ:
46 - (الأَْمْرُ الأَْوَّل) : حَلْبُ الشَّاةِ الَّتِي اشْتُرِيَتْ لِلتَّضْحِيَةِ أَوْ جَزُّ صُوفُهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ الَّذِي اشْتَرَاهَا مُوسِرًا أَمْ مُعْسِرًا، وَكَذَا الشَّاةُ الَّتِي تَعَيَّنَتْ بِالنَّذْرِ، كَأَنْ قَال: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُضَحِّيَ بِهَذِهِ، أَوْ قَال:
__________
(1) حديث: " إذا دخل العشر. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1565 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " إذا رأيتم هلال ذي الحجة. . . " أخرجه مسلم (3 / 1565 - ط الحلبي) .
(3) حديث: " كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . . " أخرجه البخاري (4 / 492 - الفتح ط السلفية) ، ومسلم (2 / 957 ط الحلبي) .

(5/95)


جَعَلْتُ هَذِهِ أُضْحِيَّةً.
وَإِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ، لأَِنَّهُ عَيَّنَهَا لِلْقُرْبَةِ فَلاَ يَحِل الاِنْتِفَاعُ بِهَا قَبْل إِقَامَةِ الْقُرْبَةِ فِيهَا، كَمَا لاَ يَحِل لَهُ الاِنْتِفَاعُ بِلَحْمِهَا إِذَا ذَبَحَهَا قَبْل وَقْتِهَا، وَلأَِنَّ الْحَلْبَ وَالْجَزَّ يُوجِبَانِ نَقْصًا فِيهَا وَالأُْضْحِيَّةُ يَمْتَنِعُ إِدْخَال النَّقْصِ فِيهَا.
وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمُ الشَّاةَ الَّتِي اشْتَرَاهَا الْمُوسِرُ بِنِيَّةِ التَّضْحِيَةِ، لأَِنَّ شِرَاءَهُ إِيَّاهَا لَمْ يَجْعَلْهَا وَاجِبَةً، إِذِ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ شَاةٌ فِي ذِمَّتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَهَذَا الاِسْتِثْنَاءُ ضَعِيفٌ، فَإِنَّهَا مُتَعَيَّنَةٌ لِلْقُرْبَةِ مَا لَمْ يَقُمْ غَيْرُهَا مَقَامَهَا، فَقَبْل أَنْ يَذْبَحَ غَيْرَهَا بَدَلاً مِنْهَا لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْلُبَهَا، وَلاَ أَنْ يَجُزَّ صُوفَهَا لِلاِنْتِفَاعِ بِهِ.
وَلِهَذَا لاَ يَحِل لَهُ لَحْمُهَا إِذَا ذَبَحَهَا قَبْل وَقْتِهَا. فَإِنْ كَانَ فِي ضَرْعِ الأُْضْحِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ لَبَنٌ وَهُوَ يَخَافُ عَلَيْهَا الضَّرَرَ وَالْهَلاَكَ إِنْ لَمْ يَحْلُبْهَا نَضَحَ ضَرْعَهَا بِالْمَاءِ الْبَارِدِ حَتَّى يَتَقَلَّصَ اللَّبَنُ، لأَِنَّهُ لاَ سَبِيل إِلَى الْحَلْبِ.
فَإِنْ حَلَبَهُ تَصَدَّقَ بِاللَّبَنِ، لأَِنَّهُ جُزْءٌ مِنْ شَاةٍ مُتَعَيِّنَةٍ لِلْقُرْبَةِ.
فَإِنْ لَمْ يَتَصَدَّقْ بِهِ حَتَّى تَلِفَ أَوْ شَرِبَهُ مَثَلاً وَجَبَ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِمِثْلِهِ أَوْ بِقِيمَتِهِ.
وَمَا قِيل فِي اللَّبَنِ يُقَال فِي الصُّوفِ وَالشَّعْرِ وَالْوَبَرِ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: (2) يُكْرَهُ - أَيْ تَنْزِيهًا - شُرْبُ لَبَنِ الأُْضْحِيَّةِ بِمُجَرَّدِ شِرَائِهَا أَوْ تَعْيِينِهَا مِنْ بَيْنِ بَهَائِمِهِ
__________
(1) البدائع 5 / 76، والفتاوى 5 / 201.
(2) الدسوقي 2 / 123، والشرح الصغير 2 / 146 ط دار المعارف.

(5/96)


لِلتَّضْحِيَةِ، وَيُكْرَهُ أَيْضًا جَزُّ صُوفِهَا قَبْل الذَّبْحِ، لِمَا فِيهِ مِنْ نَقْصِ جَمَالِهَا، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ صُورَتَانِ:
أُولاَهُمَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ يَنْبُتُ مِثْلُهُ أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ قَبْل الذَّبْحِ.
ثَانِيَتُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخَذَهَا بِالشِّرَاءِ وَنَحْوِهِ، أَوْ عَيَّنَهَا لِلتَّضْحِيَةِ بِهَا مِنْ بَيْنِ بَهَائِمِهِ نَاوِيًا جَزَّ صُوفِهَا، فَفِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ لاَ يُكْرَهُ جَزُّ الصُّوفِ.
وَإِذَا جَزَّهُ فِي غَيْرِ هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ كُرِهَ لَهُ بَيْعُهُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: (1) لاَ يُشْرَبُ مِنْ لَبَنِ الأُْضْحِيَّةِ إِلاَّ الْفَاضِل عَنْ وَلَدِهَا، فَإِنْ لَمْ يَفْضُل عَنْهُ شَيْءٌ أَوْ كَانَ الْحَلْبُ يَضُرُّ بِهَا أَوْ يُنْقِصُ لَحْمَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَخْذُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَهُ أَخْذُهُ وَالاِنْتِفَاعُ بِهِ.
وَقَالُوا أَيْضًا: إِنْ كَانَ بَقَاءُ الصُّوفِ لاَ يَضُرُّ بِهَا أَوْ كَانَ أَنْفَعَ مِنَ الْجَزِّ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُهُ، وَإِنْ كَانَ يَضُرُّ بِهَا أَوْ كَانَ الْجَزُّ أَنْفَعَ مِنْهُ جَازَ الْجَزُّ وَوَجَبَ التَّصَدُّقُ بِالْمَجْزُوزِ.
47 - (الأَْمْرُ الثَّانِي) : مِنَ الأُْمُورِ الَّتِي تُكْرَهُ تَحْرِيمًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَبْل التَّضْحِيَةِ - بَيْعُ الشَّاةِ الْمُتَعَيِّنَةِ لِلْقُرْبَةِ بِالشِّرَاءِ أَوْ بِالنَّذْرِ، وَإِنَّمَا كُرِهَ بَيْعُهَا، لأَِنَّهَا تَعَيَّنَتْ لِلْقُرْبَةِ، فَلَمْ يَحِل الاِنْتِفَاعُ بِثَمَنِهَا كَمَا لَمْ يَحِل الاِنْتِفَاعُ بِلَبَنِهَا وَصُوفِهَا، ثُمَّ إِنَّ الْبَيْعَ مَعَ كَرَاهَتِهِ يَنْفُذُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، لأَِنَّهُ بَيْعُ مَالٍ مَمْلُوكٍ مُنْتَفَعٍ بِهِ مَقْدُورٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لاَ يَنْفُذُ، لأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ.
وَبِنَاءً عَلَى نَفَاذِ بَيْعِهَا فَعَلَيْهِ مَكَانَهَا مِثْلُهَا أَوْ أَرْفَعُ مِنْهَا فَيُضَحِّي بِهَا، فَإِنْ فَعَل ذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ
__________
(1) المغني بأعلى الشرح الكبير 11 / 105، 106، تحفة المحتاج 8 / 163.

(5/96)


آخَرُ، وَإِنِ اشْتَرَى دُونَهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِفَرْقِ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ، وَلاَ عِبْرَةَ بِالثَّمَنِ الَّذِي حَصَل بِهِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ إِنْ كَانَ مُغَايِرًا لِلْقِيمَةِ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَحْرُمُ بَيْعُ الأُْضْحِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ بِالنَّذْرِ وَإِبْدَالُهَا، وَأَمَّا الَّتِي لَمْ تَتَعَيَّنْ بِالنَّذْرِ فَيُكْرَهُ أَنْ يَسْتَبْدِل بِهَا مَا هُوَ مِثْلُهَا أَوْ أَقَل مِنْهَا.
فَإِذَا اخْتَلَطَتْ مَعَ غَيْرِهَا وَاشْتَبَهَتْ وَكَانَ بَعْضُ الْمُخْتَلَطِ أَفْضَل مِنْ بَعْضٍ كُرِهَ لَهُ تَرْكُ الأَْفْضَل بِغَيْرِ قُرْعَةٍ. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الأُْضْحِيَّةِ الْوَاجِبَةِ وَلاَ إِبْدَالُهَا وَلَوْ بِخَيْرٍ مِنْهَا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو ثَوْرٍ وَاخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ.
وَلَكِنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْ أَحْمَدَ - وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُبَدِّل الأُْضْحِيَّةَ الَّتِي أَوْجَبَهَا بِخَيْرٍ مِنْهَا، وَبِهِ قَال عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ (3) .
47 - (الأَْمْرُ الثَّالِثُ) : - مِنَ الأُْمُورِ الَّتِي تُكْرَهُ تَحْرِيمًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَبْل التَّضْحِيَةِ - بَيْعُ مَا وُلِدَ لِلشَّاةِ الْمُتَعَيِّنَةِ بِالنَّذْرِ أَوْ بِالشِّرَاءِ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا كُرِهَ بَيْعُهُ، لأَِنَّ أُمَّهُ تَعَيَّنَتْ لِلأُْضْحِيَّةِ، وَالْوَلَدُ يَتْبَعُ الأُْمَّ فِي الصِّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ كَالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، فَكَانَ يَجِبُ الإِْبْقَاءُ عَلَيْهِ حَتَّى يُذْبَحَ مَعَهَا. فَإِذَا بَاعَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِثَمَنِهِ.
وَقَال الْقُدُورِيُّ: يَجِبُ ذَبْحُ الْوَلَدِ، وَلَوْ تَصَدَّقَ بِهِ حَيًّا جَازَ، لأَِنَّ الْحَقَّ لَمْ يَسْرِ إِلَيْهِ وَلَكِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ،
__________
(1) البدائع 5 / 79.
(2) الدسوقي 2 / 123، وبلغة السالك 1 / 311.
(3) المغني لابن قدامة 11 / 112.

(5/97)


فَكَانَ كَجِلِّهَا وَخِطَامِهَا، (1) فَإِنْ ذَبَحَهُ تَصَدَّقَ بِقِيمَتِهِ، وَإِنْ بَاعَهُ تَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ.
وَفِي الْفَتَاوَى الْخَانِيَّةِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ التَّصَدُّقُ بِهِ حَيًّا، وَيَجُوزُ ذَبْحُهُ، وَإِذَا ذُبِحَ وَجَبَ التَّصَدُّقُ بِهِ، فَإِنْ أَكَل مِنْهُ تَصَدَّقَ بِقِيمَةِ مَا أَكَل.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَحْرُمُ بَيْعُ وَلَدِ الأُْضْحِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ بِالنَّذْرِ، وَيُنْدَبُ ذَبْحُ وَلَدِ الأُْضْحِيَّةِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُعَيَّنَةً بِالنَّذْرِ أَمْ لاَ إِذَا خَرَجَ قَبْل ذَبْحِهَا، فَإِذَا ذُبِحَ سُلِكَ بِهِ مَسْلَكَ الأُْضْحِيَّةِ، وَإِذَا لَمْ يُذْبَحْ جَازَ إِبْقَاؤُهُ وَصَحَّتِ التَّضْحِيَةُ بِهِ فِي عَامٍ آخَرَ.
وَأَمَّا الْوَلَدُ الَّذِي خَرَجَ بَعْدَ الذَّبْحِ، فَإِنْ خَرَجَ مَيِّتًا، وَكَانَ قَدْ تَمَّ خَلْقُهُ وَنَبَتَ شَعْرُهُ كَانَ كَجُزْءٍ مِنَ الأُْضْحِيَّةِ، وَإِنْ خَرَجَ حَيًّا حَيَاةً مُحَقَّقَةً وَجَبَ ذَبْحُهُ لاِسْتِقْلاَلِهِ بِنَفْسِهِ. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا نَذَرَ شَاةً مُعَيَّنَةً أَوْ قَال: جَعَلْتُ هَذِهِ الشَّاةَ أُضْحِيَّةً، أَوْ نَذَرَ أُضْحِيَّةً فِي الذِّمَّةِ ثُمَّ عَيَّنَ شَاةً عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ، فَوَلَدَتْ الشَّاةُ الْمَذْكُورَةُ وَجَبَ ذَبْحُ وَلَدِهَا فِي الصُّوَرِ الثَّلاَثِ، وَالأَْصَحُّ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ تَفْرِقَتُهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِخِلاَفِ أُمِّهِ، إِلاَّ إِذَا مَاتَتْ أُمُّهُ فَيَجِبُ تَفْرِقَتُهُ عَلَيْهِمْ، وَوَلَدُ الأُْضْحِيَّةِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الصُّوَرِ الثَّلاَثِ لاَ يَجِبُ ذَبْحُهُ، وَإِذَا ذُبِحَ لَمْ يَجِبِ التَّصَدُّقُ بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَيَجُوزُ فِيهِ الأَْكْل وَالتَّصَدُّقُ وَالإِْهْدَاءُ، وَإِذَا تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ مِنْهُ لَمْ يُغْنِ عَنْ وُجُوبِ التَّصَدُّقِ بِشَيْءٍ مِنْهَا. (3)
__________
(1) الجل: بضم الجيم وفتحها هو ما تغطى به الدابة لصيانتها ويجمع على جلال. والخطام، بكسر الخاء الزمام الذي تقاد به البهيمة وسمي خطاما، لأنه في كثير من الأحيان يوضع في خطمها أي أنفها.
(2) الدسوقي 2 / 122.
(3) المنهج مع حاشية البجيرمي 4 / 299.

(5/97)


وَقَال الْحَنَابِلَةُ: (1) إِذَا عَيَّنَ أُضْحِيَّةً فَوَلَدَتْ فَوَلَدُهَا تَابِعٌ لَهَا، حُكْمُهُ حُكْمُهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ حَامِلاً بِهِ حِينَ التَّعْيِينِ، أَوْ حَدَثَ الْحَمْل بَعْدَهُ، فَيَجِبُ ذَبْحُهُ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَهُ فَقَال: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنِّي اشْتَرَيْتُ هَذِهِ الْبَقَرَةَ لأُِضَحِّيَ بِهَا، وَإِنَّهَا وَضَعَتْ هَذَا الْعِجْل؟ فَقَال عَلِيٌّ: لاَ تَحْلُبْهَا إِلاَّ فَضْلاً عَنْ تَيْسِيرِ وَلَدِهَا فَإِذَا كَانَ يَوْمَ الأَْضْحَى فَاذْبَحْهَا وَوَلَدَهَا عَنْ سَبْعَةٍ (2) .
48 - (الأَْمْرُ الرَّابِعُ) : - مِنَ الأُْمُورِ الَّتِي تُكْرَهُ تَحْرِيمًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَبْل التَّضْحِيَةِ - رُكُوبُ الأُْضْحِيَّةِ وَاسْتِعْمَالُهَا وَالْحَمْل عَلَيْهَا.
فَإِنْ فَعَل شَيْئًا مِنْهَا أَثِمَ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِشَيْءٍ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْفِعْل نَقَّصَ قِيمَتَهَا، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِقِيمَةِ النَّقْصِ.
فَإِنْ آجَرَهَا لِلرُّكُوبِ أَوِ الْحَمْل تَصَدَّقَ بِقِيمَةِ النَّقْصِ فَضْلاً عَنْ تَصَدُّقِهِ بِالْكِرَاءِ. (3)
وَلِلْمَالِكِيَّةِ فِي إِجَارَةِ الأُْضْحِيَّةِ قَبْل ذَبْحِهَا قَوْلاَنِ: (أَحَدُهُمَا) الْمَنْعُ (وَثَانِيهِمَا) الْجَوَازُ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ. (4)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ لِصَاحِبِ الأُْضْحِيَّةِ الْوَاجِبَةِ رُكُوبُهَا وَإِرْكَابُهَا بِلاَ أُجْرَةٍ، وَإِنْ تَلِفَتْ أَوْ
__________
(1) المغني لابن قدامة 11 / 105.
(2) الأثر عن علي رضي الله عنه أن رجلا سأله فقال: يا أمير المؤمنين إني اشتريت هذه البقرة لأضحي بها. . . رواه سعيد ابن منصور عن أبي منصور عن أبي الأحوص عن زهير العبسي عن المغيرة بن حذف عن علي، (المغني لابن قدامة 11 / 105) .
(3) البدائع 5 / 78 - 79، وحاشية ابن عابدين على الدر المختار 5 / 205.
(4) الدسوقي 2 / 122.

(5/98)


نَقَصَتْ بِذَلِكَ ضَمِنَهَا.
لَكِنْ إِنْ حَصَل ذَلِكَ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ ضَمِنَهَا الْمُسْتَعِيرُ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُهَا هُوَ أَوِ الْمُسْتَعِيرُ إِذَا تَلِفَتْ أَوْ نَقَصَتْ بَعْدَ دُخُول الْوَقْتِ وَالتَّمَكُّنِ مِنَ الذَّبْحِ، أَمَّا قَبْلَهُ فَلاَ ضَمَانَ، لأَِنَّهَا أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُعِيرِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ إِنَّمَا يَضْمَنُ إِذَا لَمْ تَكُنْ يَدُ مُعِيرِهِ يَدَ أَمَانَةٍ. (1)
49 - هَذَا وَهُنَاكَ مَكْرُوهَاتٌ ذُكِرَتْ فِي غَيْرِ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ: مِنْهَا: مَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ أَنَّ التَّغَالِيَ بِكَثْرَةِ ثَمَنِهَا زِيَادَةٌ عَلَى عَادَةِ أَهْل الْبَلَدِ يُكْرَهُ - أَيْ تَنْزِيهًا - لأَِنَّ شَأْنَ ذَلِكَ الْمُبَاهَاةُ. وَكَذَا زِيَادَةُ الْعَدَدِ.
فَإِنْ نَوَى بِزِيَادَةِ الثَّمَنِ أَوِ الْعَدَدِ الثَّوَابَ وَكَثْرَةَ الْخَيْرِ لَمْ يُكْرَهْ بَل يُنْدَبُ (2) .

مَا يُسْتَحَبُّ وَمَا يُكْرَهُ عِنْدَ إِرَادَةِ التَّضْحِيَةِ:
50 - لَمَّا كَانَتِ التَّضْحِيَةُ نَوْعًا مِنَ التَّذْكِيَةِ، كَانَتْ مُسْتَحَبَّاتُ التَّذْكِيَةِ مِنْ ذَبْحٍ وَنَحْرٍ مُسْتَحَبَّةً فِيهَا، وَمَكْرُوهَاتُهَا مَكْرُوهَةٌ فِيهَا. وَلِتَفْصِيل مَا يُسْتَحَبُّ وَمَا يُكْرَهُ فِي التَّذْكِيَةِ (ر: ذَبَائِحُ) .
وَلِلتَّضْحِيَةِ مُسْتَحَبَّاتٌ وَمَكْرُوهَاتٌ خَاصَّةٌ تَكُونُ عِنْدَهَا، وَهِيَ إِمَّا أَنْ تَرْجِعَ إِلَى الأُْضْحِيَّةِ، أَوْ إِلَى الْمُضَحِّي، أَوْ إِلَى الْوَقْتِ. وَلْنَذْكُرْ ذَلِكَ فِي ثَلاَثَةِ مَبَاحِثَ:

مَا يَرْجِعُ إِلَى الأُْضْحِيَّةِ مِنَ الْمُسْتَحَبَّاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ عِنْدَ التَّضْحِيَةِ:
51 - يُسْتَحَبُّ فِي الأُْضْحِيَّةِ أَنْ تَكُونَ أَسْمَنَ وَأَعْظَمَ
__________
(1) المنهج مع حاشية البجيرمي 4 / 300.
(2) الدسوقي 2 / 122.

(5/98)


بَدَنًا مِنْ غَيْرِهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} . (1) وَمِنْ تَعْظِيمِهَا أَنْ يَخْتَارَهَا صَاحِبُهَا عَظِيمَةَ الْبَدَنِ سَمِينَةً.
وَإِذَا اخْتَارَ التَّضْحِيَةَ بِالشِّيَاهِ، فَأَفْضَلُهَا الْكَبْشُ الأَْمْلَحُ الأَْقْرَنُ الْمَوْجُوءُ (أَيِ الْمَخْصِيُّ) ، لِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ضَحَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، وَلأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ، (3) وَالأَْقْرَنُ: الْعَظِيمُ الْقَرْنِ، وَالأَْمْلَحُ: الأَْبْيَضُ، وَالْمَوْجُوءُ: قِيل: هُوَ الْمَدْقُوقُ الْخُصْيَتَيْنِ، وَقِيل: هُوَ الْخَصِيُّ (4) ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: دَمُ عَفْرَاءَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ دَمِ سَوْدَاوَيْنِ. (5)
قَال الْحَنَفِيَّةُ: الشَّاةُ أَفْضَل مِنْ سُبْعِ الْبَقَرَةِ. بَل أَفْضَل مِنَ الْبَقَرَةِ إِنِ اسْتَوَتَا فِي الْقِيمَةِ وَمِقْدَارِ اللَّحْمِ. وَالأَْصْل فِي هَذَا أَنَّ مَا اسْتَوَيَا فِي مِقْدَارِ اللَّحْمِ وَالْقِيمَةِ فَأَطْيَبُهُمَا لَحْمًا أَفْضَل. وَمَا اخْتَلَفَا فِيهِمَا فَالْفَاضِل أَوْلَى، وَالذَّكَرُ مِنْ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ إِذَا كَانَ مَوْجُوءًا فَهُوَ أَوْلَى مِنَ الأُْنْثَى، وَإِلاَّ فَالأُْنْثَى أَفْضَل عِنْدَ الاِسْتِوَاءِ فِي الْقِيمَةِ وَمِقْدَارِ اللَّحْمِ. وَالأُْنْثَى مِنْ الإِْبِل وَالْبَقَرِ أَفْضَل مِنَ الذَّكَرِ عِنْدَ اسْتِوَاءِ اللَّحْمِ وَالْقِيمَةِ.
__________
(1) سورة الحج / 32.
(2) حديث أنس رضي الله عنه: " ضحى النبي. . . " أخرجه مسلم (3 / 1556 - 1557 - ط الحلبي) .
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين موجوءين ". أخرجه أحمد من حديث أبي رافع وقال الهيثمي: إسناده حسن (مسند أحمد بن حنبل 6 / 8 ط الميمنية ومجمع الزوائد 4 / 21) .
(4) البدائع 5 / 80 والدر المختار مع حاشية ابن عابدين 5 / 205.
(5) حديث: " دم عفراء أحب إلى الله من دم سوداوين ". أخرجه أحمد (2 / 417 ط الميمنية) ، والحاكم (4 / 227 ط دار المعارف) وسكت عنه الذهبي فلم يصرح بإقراره أو بتعقبه.

(5/99)


وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُنْدَبُ أَنْ تَكُونَ جَيِّدَةً، بِأَنْ تَكُونَ أَعْلَى النَّعَمِ، وَأَنْ تَكُونَ سَمِينَةً، وَيُنْدَبُ أَيْضًا تَسْمِينُهَا، لِحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَال: كُنَّا نُسَمِّنُ الأُْضْحِيَّةَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُسَمِّنُونَ ".
وَالذَّكَرُ أَفْضَل مِنَ الأُْنْثَى، وَالأَْقْرَنُ أَفْضَل مِنَ الأَْجَمِّ، وَيُفَضَّل الأَْبْيَضُ عَلَى غَيْرِهِ، وَالْفَحْل عَلَى الْخَصِيِّ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْخَصِيُّ أَسْمَنَ، وَأَفْضَل الأَْضَاحِيِّ ضَأْنٌ مُطْلَقًا: فَحْلُهُ، فَخَصِيُّهُ، فَأُنْثَاهُ، فَمَعْزٌ كَذَلِكَ، وَاخْتُلِفَ فِيمَا يَلِيهِمَا أَهِيَ الإِْبِل أَمِ الْبَقَرُ.
وَالْحَقُّ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْبِلاَدِ، فَفِي بَعْضِهَا تَكُونُ الإِْبِل أَطْيَبَ لَحْمًا فَتَكُونُ أَفْضَل، وَفِي بَعْضِهَا يَكُونُ الْبَقَرُ أَطْيَبَ لَحْمًا فَيَكُونُ أَفْضَل. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: أَفْضَل الأَْضَاحِيِّ سَبْعُ شِيَاهٍ، فَبَدَنَةٌ فَبَقَرَةٌ، فَشَاةٌ وَاحِدَةٌ، فَسُبْعُ بَدَنَةٍ، فَسُبْعُ بَقَرَةٍ، وَالضَّأْنُ أَفْضَل مِنَ الْمَعْزِ، وَالذَّكَرُ الَّذِي لَمْ يَنْزُ أَفْضَل مِنَ الأُْنْثَى الَّتِي لَمْ تَلِدْ، وَيَلِيهِمَا الذَّكَرُ الَّذِي يَنْزُو، فَالأُْنْثَى الَّتِي تَلِدُ.
وَالْبَيْضَاءُ أَفْضَل، فَالْعَفْرَاءُ، فَالصَّفْرَاءُ، فَالْحَمْرَاءُ، فَالْبَلْقَاءُ، وَيَلِي ذَلِكَ السَّوْدَاءُ.
وَيُسْتَحَبُّ تَسْمِينُ الأُْضْحِيَّةِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: أَفْضَل الأَْضَاحِيِّ الْبَدَنَةُ، ثُمَّ الْبَقَرَةُ، ثُمَّ الشَّاةُ، ثُمَّ شِرْكٌ فِي بَدَنَةٍ، ثُمَّ شِرْكٌ فِي
__________
(1) الدسوقي 2 / 122.

(5/99)


بَقَرَةٍ (1) .
52 - وَيُكْرَهُ فِي الأُْضْحِيَّةِ أَنْ تَكُونَ مَعِيبَةً بِعَيْبٍ لاَ يُخِل بِالإِْجْزَاءِ.

مَا يُسْتَحَبُّ فِي التَّضْحِيَةِ مِنْ أُمُورٍ تَرْجِعُ إِلَى الْمُضَحِّي:
53 - أَنْ يَذْبَحَ بِنَفْسِهِ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ قُرْبَةٌ، وَمُبَاشَرَةُ الْقُرْبَةِ أَفْضَل مِنْ تَفْوِيضِ إِنْسَانٍ آخَرَ فِيهَا، فَإِنْ لَمْ يُحْسِنِ الذَّبْحَ فَالأَْوْلَى تَوْلِيَتُهُ مُسْلِمًا يُحْسِنُهُ، وَيُسْتَحَبُّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ يَشْهَدَ الأُْضْحِيَّةَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: يَا فَاطِمَةُ قُومِي إِلَى أُضْحِيَّتِكِ فَاشْهَدِيهَا. (2)
وَقَدِ اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ عَلَى هَذَا. غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: الأَْفْضَل لِلأَْكْثَرِ وَالْخُنْثَى وَالأَْعْمَى التَّوْكِيل وَإِنْ قَدَرُوا عَلَى الذَّبْحِ. (3) وَلِهَذِهِ النُّقْطَةِ تَتِمَّةٌ سَتَأْتِي.
54 - أَنْ يَدْعُوَ فَيَقُول: " اللَّهُمَّ مِنْكَ وَلَكَ، إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ، وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ " لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنْ تَقُول: " إِنَّ
__________
(1) المجموع للنووي 8 / 395، والمنهج مع حاشية البجيرمي 4 / 297، وكشاف القناع 2 / 476 ط. السنة المحمدية.
(2) حديث: " يا فاطمة. . . . " أخرجه الحاكم (4 / 222 - ط دار المعارف) من حديث سعيد الخدري. ثم رواه من حديث عمران بن الحصين، وقال ابن حجر في التلخيص (4 / 143 - نشر اليماني) : " قال ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه: حديث منكر، وفي حديث عمران أبو حمزة الثمالي وهو ضعيف جدا "
(3) البدائع 5 / 78، والدسوقي 2 / 121، والمنهج مع حاشية البجيرمي 4 / 295، والمغني 11 / 116.

(5/100)


صَلاَتِي وَنُسُكِي. . . " (1) إِلَخْ.
وَلِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: ذَبَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الذَّبْحِ كَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ فَلَمَّا وَجَّهَهُمَا قَال: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضَ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. اللَّهُمَّ مِنْكَ وَلَكَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ، بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ ثُمَّ ذَبَحَ. (2)
هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ. (3)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ يُكْرَهُ قَوْل الْمُضَحِّي عِنْدَ التَّسْمِيَةِ " اللَّهُمَّ مِنْكَ وَإِلَيْكَ "، لأَِنَّهُ لَمْ يَصْحَبْهُ عَمَل أَهْل الْمَدِينَةِ. (4)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ بَعْدَ التَّسْمِيَةِ التَّكْبِيرُ ثَلاَثًا وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالدُّعَاءُ بِالْقَبُول، بِأَنْ يَقُول: اللَّهُمَّ هَذَا مِنْكَ وَإِلَيْكَ، وَاخْتَلَفُوا فِي إِكْمَال التَّسْمِيَةِ بِأَنْ يُقَال: " الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " فَقِيل: لاَ يُسْتَحَبُّ، لأَِنَّ الذَّبْحَ لاَ
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر فاطمة رضي الله عنها أن تقول: إن صلاتي ونسكي. . . . " جزء من حديث فاطمة الذي سبق تخريجه. ر: (ف / 54) .
(2) حديث: " ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الذبح كبشين أقرنين موجوءين. . . " أخرجه أبو داود واللفظ له وابن ماجه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وفي إسناده محمد بن إسحاق ولم يصرح بالتحديث، وقال عنه الحافظ بن حجر: صدوق يدلس (عون المعبود 3 / وسنن ابن ماجه 2 / 1043 ط عيسى الحلبي، وتقريب التهذيب 2 / 144) .
(3) البدائع 5 / 78.
(4) بلغة السالك 1 / 310، وقولهم: " لم يصحبه عمل أهل المدينة " إيضاحه أن عمل أهل المدينة بمنزلة المتواتر، وهو مقدم على الآحاد.

(5/100)


تُنَاسِبُهُ الرَّحْمَةُ، وَقِيل: يُسْتَحَبُّ وَهُوَ أَكْمَل، لأَِنَّ فِي الذَّبْحِ رَحْمَةً بِالآْكِلِينَ. (1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَقُول الْمُضَحِّي عِنْدَ الذَّبْحِ: " بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ. وَالتَّسْمِيَةُ وَاجِبَةٌ عِنْدَ التَّذَكُّرِ وَالْقُدْرَةِ، وَالتَّكْبِيرُ مُسْتَحَبٌّ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا ذَبَحَ قَال: بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ. وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ وَسَمَّى وَكَبَّرَ (2) وَإِنْ زَادَ فَقَال: اللَّهُمَّ هَذَا مِنْكَ وَلَكَ، اللَّهُمَّ تَقَبَّل مِنِّي أَوْ مِنْ فُلاَنٍ فَحَسَنٌ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِكَبْشٍ لَهُ لِيَذْبَحَهُ فَأَضْجَعَهُ ثُمَّ قَال: اللَّهُمَّ تَقَبَّل مِنْ مُحَمَّدٍ وَآل مُحَمَّدٍ وَأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ثُمَّ ضَحَّى بِهِ. (3)
55 - أَنْ يَجْعَل الدُّعَاءَ الْمَذْكُورَ قَبْل ابْتِدَاءِ الذَّبْحِ أَوْ بَعْدَ انْتِهَائِهِ وَيَخُصُّ حَالَةَ الذَّبْحِ بِالتَّسْمِيَةِ مُجَرَّدَةً. هَكَذَا قَال الْحَنَفِيَّةُ.
وَيُكْرَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ خَلْطُ التَّسْمِيَةِ بِكَلاَمٍ آخَرَ حَالَةَ الذَّبْحِ وَلَوْ كَانَ دُعَاءً، لأَِنَّهُ يَنْبَغِي كَمَا تَقَدَّمَ أَنْ تُجْعَل الأَْدْعِيَةُ سَابِقَةً عَلَى ابْتِدَاءِ الذَّبْحِ أَوْ مُتَأَخِّرَةً عَنِ الْفَرَاغِ مِنْهُ (4) .

مَا يَرْجِعُ إِلَى وَقْتِ التَّضْحِيَةِ مِنَ الْمُسْتَحَبَّاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ:
56 - تُسْتَحَبُّ الْمُبَادَرَةُ إِلَى التَّضْحِيَةِ، فَالتَّضْحِيَةُ فِي
__________
(1) البجيرمي على الإقناع 4 / 284، 285، والشبراملسي على نهاية المحتاج للرملي 8 / 112.
(2) حديث: " كان إذا ذبح قال: بسم الله والله أكبر ". وفي حديث أنس: " وسمي وكبر ". أخرجه البخاري (10 / 18 - الفتح - ط السلفية) وأبو عوانة (5 / 192 - ط دار المعارف العثمانية) .
(3) حديث: " اللهم تقبل من محمد. . . . " أخرجه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها مطولا (صحيح مسلم 3 / 1557 ط عيسى الحلبي) .
(4) البدائع 5 / 78 - 80.

(5/101)


الْيَوْمِ الأَْوَّل أَفْضَل مِنْهَا فِيمَا يَلِيهِ، لأَِنَّهَا مُسَارَعَةٌ إِلَى الْخَيْرِ، وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَْرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} . (1)
وَالْمَقْصُودُ الْمُسَارَعَةُ إِلَى سَبَبِ الْمَغْفِرَةِ وَالْجَنَّةِ، وَهُوَ الْعَمَل الصَّالِحُ. (2)
وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، غَيْرَ أَنَّ لِلْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلاً وَهُوَ أَنَّ التَّضْحِيَةَ قَبْل الزَّوَال فِي كُل يَوْمٍ أَفْضَل مِنْهَا بَعْدَ الزَّوَال، وَالتَّضْحِيَةُ مِنَ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ إِلَى مَا قَبْل الزَّوَال فِي الْيَوْمَيْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ أَفْضَل مِنَ التَّضْحِيَةِ قَبْل ذَلِكَ مِنَ الْفَجْرِ إِلَى الاِرْتِفَاعِ، وَقَدْ تَرَدَّدُوا فِي التَّضْحِيَةِ بَيْنَ زَوَال الْيَوْمِ الثَّانِي وَغُرُوبِهِ، وَالتَّضْحِيَةِ بَيْنَ فَجْرِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَزَوَالِهِ، أَيَّتُهُمَا أَفْضَل؟ وَالرَّاجِحُ: أَنَّ التَّضْحِيَةَ فِي الْوَقْتِ الأَْوَّل أَفْضَل، (3) وَلاَ تَضْحِيَةَ عِنْدَهُمْ فِي اللَّيْل كَمَا تَقَدَّمَ.
وَتَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّ التَّضْحِيَةَ فِي اللَّيْل تُكْرَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. (4)
وَمَعْلُومٌ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ لاَ يُجِيزُ لأَِهْل الْقُرَى أَنْ يُضَحُّوا إِلاَّ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُضَحِّي فِيهِ أَهْل الْمُدُنِ.

مَا يُسْتَحَبُّ وَمَا يُكْرَهُ بَعْدَ التَّضْحِيَةِ:

أ - يُسْتَحَبُّ لِلْمُضَحِّي بَعْدَ الذَّبْحِ أُمُورٌ:
57 - مِنْهَا: أَنْ يَنْتَظِرَ حَتَّى تَسْكُنَ جَمِيعُ أَعْضَاءِ
__________
(1) سورة آل عمران / 133.
(2) البدائع 5 / 80.
(3) الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي 2 / 120 - 122.
(4) البدائع 5 / 80.

(5/101)


الذَّبِيحَةِ فَلاَ يَنْخَعُ (1) وَلاَ يَسْلُخُ قَبْل زَوَال الْحَيَاةِ عَنْ جَمِيعِ جَسَدِهَا.
58 - وَمِنْهَا: أَنْ يَأْكُل مِنْهَا وَيُطْعِمَ وَيَدَّخِرَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُل ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُل فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَْنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} . (2)
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَل: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} . (3)
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا ضَحَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُل مِنْ أُضْحِيَّتِهِ. (4)
59 - وَالأَْفْضَل أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالثُّلُثِ، وَيَتَّخِذَ الثُّلُثَ ضِيَافَةً لأَِقَارِبِهِ وَأَصْدِقَائِهِ، وَيَدَّخِرَ الثُّلُثَ، وَلَهُ أَنْ يَهَبَ الْفَقِيرَ وَالْغَنِيَّ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي صِفَةِ أُضْحِيَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: " وَيُطْعِمُ أَهْل بَيْتِهِ الثُّلُثَ، وَيُطْعِمُ فُقَرَاءَ جِيرَانِهِ الثُّلُثَ، وَيَتَصَدَّقُ عَلَى السُّؤَال بِالثُّلُثِ ". (5)
__________
(1) ينخع: بفتح الخاء أي: يتجاوز محل الذبح إلى النخاع وهو الخيط الأبيض الذي في داخل العظم.
(2) سورة الحج / 27، 28.
(3) سورة الحج / 36.
(4) حديث: " إذا ضحى أحدكم فليأكل من أضحيته ". أخرجه أحمد (2 / 391 ط الميمنية) وذكره الهيثمي في المجمع (4 / 25 - ط القدسي) وقال: رجاله رجال الصحيح.
(5) حديث: " ويطعم أهل بيته الثلث. . . " رواه أبو موسى الأصفهاني في الوظائف وحسنه كما في المغني (11 / 109 ط المنار) .

(5/102)


قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَلَوْ تَصَدَّقَ بِالْكُل جَازَ، وَلَوْ حَبَسَ الْكُل لِنَفْسِهِ جَازَ، لأَِنَّ الْقُرْبَةَ فِي إِرَاقَةِ الدَّمِ، وَلَهُ أَنْ يَزِيدَ فِي الاِدِّخَارِ عَنْ ثَلاَثِ لَيَالٍ، لأَِنَّ نَهْيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَجْل الدَّافَّةِ، وَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَرَاءِ دَفَّتْ (أَيْ نَزَلَتْ) بِالْمَدِينَةِ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَصَدَّقَ أَهْل الْمَدِينَةِ عَلَيْهِمْ بِمَا فَضَل عَنْ أَضَاحِيِّهِمْ، فَنَهَى عَنِ الاِدِّخَارِ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ.
فَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: قَالُوا يَا رَسُول اللَّهِ: إِنَّ النَّاسَ يَتَّخِذُونَ الأَْسْقِيَةَ مِنْ ضَحَايَاهُمْ وَيَجْعَلُونَ فِيهَا الْوَدَكَ، قَال: وَمَا ذَاكَ؟ قَالُوا: نَهَيْتَ أَنْ تُؤْكَل لُحُومُ الأَْضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلاَثٍ، فَقَال: إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْل الدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ، فَكُلُوا، وَادَّخِرُوا وَتَصَدَّقُوا. (1) وَفِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الأَْكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ ضَحَّى مِنْكُمْ فَلاَ يُصْبِحَنَّ بَعْدَ ثَالِثَةٍ وَفِي بَيْتِهِ مِنْهُ شَيْءٌ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِل. قَالُوا يَا رَسُول اللَّهِ نَفْعَل كَمَا فَعَلْنَا عَامَ الْمَاضِي؟ قَال: كُلُوا وَأَطْعِمُوا وَادَّخِرُوا، فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَامَ كَانَ بِالنَّاسِ جَهْدٌ، فَأَرَدْتُ أَنْ تُعِينُوا فِيهَا. (2)
وَإِطْعَامُهَا وَالتَّصَدُّقُ بِهَا أَفْضَل مِنَ ادِّخَارِهَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمُضَحِّي ذَا عِيَالٍ وَهُوَ غَيْرُ مُوَسَّعِ الْحَال، فَإِنَّ الأَْفْضَل لَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَدَّخِرَهُ لِعِيَالِهِ تَوْسِعَةً عَلَيْهِمْ، لأَِنَّ حَاجَتَهُ وَحَاجَةَ عِيَالِهِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى حَاجَةِ غَيْرِهِمْ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا،
__________
(1) حديث: " إنما نهيتكم من أجل الدافة. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1561 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " من ضحى منكم. . . . . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 24 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1563 ط الحلبي) .

(5/102)


فَإِنْ فَضَل شَيْءٌ فَلأَِهْلِكَ، فَإِنْ فَضَل شَيْءٌ عَنْ أَهْلِكَ فَلِذِي قَرَابَتِكَ، فَإِنْ فَضَل عَنْ ذِي قَرَابَتِكَ شَيْءٌ فَهَكَذَا وَهَكَذَا. (1)
هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ. (2)
60 - وَهَاهُنَا تَنْبِيهٌ مُهِمٌّ وَهُوَ أَنَّ أَكْل الْمُضَحِّي مِنَ الأُْضْحِيَّةِ وَإِطْعَامَ الأَْغْنِيَاءِ وَالاِدِّخَارَ لِعِيَالِهِ تَمْتَنِعُ كُلُّهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي صُوَرٍ.
مِنْهَا: الأُْضْحِيَّةُ الْمَنْذُورَةُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَنْذُورَةَ كَغَيْرِهَا فِي جَوَازِ الأَْكْل.
وَمِنْهَا: أَنْ يُمْسِكَ عَنِ التَّضْحِيَةِ بِالشَّاةِ الَّتِي عَيَّنَهَا لِلتَّضْحِيَةِ بِالنَّذْرِ أَوْ بِالنِّيَّةِ عِنْدَ الشِّرَاءِ حَتَّى تَغْرُبَ شَمْسُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَيَجِبُ التَّصَدُّقُ بِهَا حَيَّةً.
وَمِنْهَا: أَنْ يُضَحِّيَ عَنِ الْمَيِّتِ بِأَمْرِهِ فَيَجِبُ التَّصَدُّقُ بِالأُْضْحِيَّةِ كُلِّهَا عَلَى الْمُخْتَارِ.
وَمِنْهَا: أَنْ تَلِدَ الأُْضْحِيَّةُ فَيَجِبَ ذَبْحُ الْوَلَدِ عَلَى قَوْلٍ، وَإِذَا ذُبِحَ وَجَبَ التَّصَدُّقُ بِهِ كُلِّهِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَبْلُغِ السِّنَّ الَّتِي تُجْزِئُ التَّضْحِيَةُ فِيهَا، فَلاَ تَكُونُ الْقُرْبَةُ بِإِرَاقَةِ دَمِهِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ الْقُرْبَةُ بِالتَّصَدُّقِ بِهِ، وَلِهَذَا قِيل: إِنَّ الْمُسْتَحَبَّ فِي الْوَلَدِ التَّصَدُّقُ بِهِ حَيًّا.
وَمِنْهَا: أَنْ يَشْتَرِكَ فِي الْبَدَنَةِ سَبْعَةٌ أَوْ أَقَل، وَيَنْوِي بَعْضُهُمْ بِنَصِيبِهِ الْقَضَاءَ عَنْ أُضْحِيَّةٍ فَاتَتْهُ مِنْ عَامٍ أَوْ أَعْوَامٍ مَضَتْ، فَيَجِبُ عَلَى جَمِيعِ الشُّرَكَاءِ التَّصَدُّقُ بِجَمِيعِ حِصَصِهِمْ، لأَِنَّ الَّذِي نَوَى الْقَضَاءَ لَمْ تَصِحَّ
__________
(1) حديث: " ابدأ بنفسك. . . . . " أخرجه مسلم (2 / 693 - ط الحلبي) .
(2) بدائع الصنائع 5 / 81.

(5/103)


نِيَّتُهُ، فَكَانَ نَصِيبُهُ تَطَوُّعًا مَحْضًا وَهُوَ لَمْ يَنْوِ التَّقَرُّبَ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ، لأَِنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ إِنَّمَا يَقْضِي بِالتَّصَدُّقِ بِالْقِيمَةِ، وَنَصِيبُ الْمُضَحِّي الَّذِي نَوَى الْقَضَاءَ شَائِعٌ فِي الْبَدَنَةِ كُلِّهَا، فَلاَ سَبِيل لِلَّذِي نَوَى الأَْدَاءَ أَنْ يَأْكُل شَيْئًا مِنْهَا، فَلاَ بُدَّ مِنَ التَّصَدُّقِ بِجَمِيعِهَا. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُنْدَبُ لِلْمُضَحِّي الْجَمْعُ بَيْنَ الأَْكْل مِنْ أُضْحِيَّتِهِ وَالتَّصَدُّقِ وَالإِْهْدَاءِ بِلاَ حَدٍّ فِي ذَلِكَ بِثُلُثٍ وَلاَ غَيْرِهِ (2) وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَنْذُورَةٍ وَغَيْرِهَا. (3)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَجِبُ بَعْدَ ذَبْحِ الأُْضْحِيَّةِ الْوَاجِبَةِ بِالنَّذْرِ أَوِ الْجُعْل وَالْمُعَيَّنَةِ عَنِ الْمَنْذُورِ فِي الذِّمَّةِ التَّصَدُّقُ بِهَا كُلِّهَا، وَأَمَّا غَيْرُ الْوَاجِبَةِ فَيَجِبُ بَعْدَ الذَّبْحِ التَّصَدُّقُ بِجُزْءٍ مِنْ لَحْمِهَا نِيئًا غَيْرَ قَدِيدٍ وَلاَ تَافِهٍ جِدًّا. وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَصَدَّقْ حَتَّى فَاتَتْ ضَمِنَ لِلْفُقَرَاءِ ثَمَنَ أَقَل مَا لاَ يُعْتَبَرُ تَافِهًا.
فَلاَ يَكْفِي التَّصَدُّقُ بِشَيْءٍ مِنَ الشَّحْمِ أَوِ الْكَبِدِ أَوْ نَحْوِهِمَا وَلاَ التَّصَدُّقُ بِمَطْبُوخٍ، وَلاَ التَّصَدُّقُ بِقَدِيدٍ وَهُوَ الْمُجَفَّفُ، وَلاَ التَّصَدُّقُ بِجُزْءٍ تَافِهٍ جِدًّا لَيْسَ لَهُ وَقْعٌ.
وَوُجُوبُ التَّصَدُّقِ هُوَ أَحَدُ وَجْهَيْنِ وَهُوَ أَصَحُّهُمَا، وَيَكْفِي فِي التَّصَدُّقِ الإِْعْطَاءُ، وَلاَ يُشْتَرَطُ النُّطْقُ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ وَنَحْوِهِ، وَمَا عَدَا الْجُزْءَ الْمُتَصَدَّقَ بِهِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 205، 208، والمغني على الشرح الكبير 11 / 108، 118، ومطالب أولي النهى 2 / 474.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 122.
(3) لكنهم قالوا في الهدي المنذور: إذا نذره للمساكين وجب ذبحه والتصدق به جميعه وإذا نذره وأطلق وجب ذبحه ويسلك به بعد الذبح مسلك هدي التطوع (الشرح الكبير بحاشية الدسوقي 2 / 89) والظاهر أن الأضحية عندهم كذلك.

(5/103)


يَجُوزُ فِيهِ الأَْكْل وَالإِْهْدَاءُ لِمُسْلِمٍ وَالتَّصَدُّقُ عَلَى مُسْلِمٍ فَقِيرٍ.
وَالأَْفْضَل التَّصَدُّقُ بِهَا كُلِّهَا إِلاَّ لُقَمًا يَسِيرَةً يَأْكُلُهَا نَدْبًا لِلتَّبَرُّكِ، وَالأَْوْلَى أَنْ تَكُونَ هَذِهِ اللُّقَمُ مِنَ الْكَبِدِ، وَيُسَنُّ إِنْ جَمَعَ بَيْنَ الأَْكْل وَالتَّصَدُّقِ وَالإِْهْدَاءِ أَلاَّ يَأْكُل فَوْقَ الثُّلُثِ، وَأَلاَّ يَتَصَدَّقَ بِدُونِ الثُّلُثِ، وَأَنْ يُهْدِيَ الْبَاقِيَ. (1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَجِبُ التَّصَدُّقُ بِبَعْضِ الأُْضْحِيَّةِ وَهُوَ أَقَل مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ لَحْمٍ وَهُوَ الأُْوقِيَّةُ، فَإِنْ لَمْ يَتَصَدَّقْ حَتَّى فَاتَتْ ضَمِنَ لِلْفُقَرَاءِ ثَمَنَ أُوقِيَّةٍ، وَيَجِبُ تَمْلِيكُ الْفَقِيرِ لَحْمًا نِيئًا لاَ إِطْعَامُهُ. (2)
وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْكُل ثُلُثًا، يُهْدِي ثُلُثًا، وَيَتَصَدَّقُ بِثُلُثٍ، وَلَوْ أَكَل، أَكْثَرَ جَازَ.
وَسَوَاءٌ فِيمَا ذُكِرَ الأُْضْحِيَّةُ الْمَسْنُونَةُ وَالْوَاجِبَةُ بِنَحْوِ النَّذْرِ، لأَِنَّ النَّذْرَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْهُودِ، وَالْمَعْهُودُ مِنَ الأُْضْحِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ ذَبْحُهَا، وَالأَْكْل مِنْهَا، وَالنَّذْرُ لاَ يُغَيَّرُ مِنْ صِفَةِ الْمَنْذُورِ إِلاَّ الإِْيجَابُ. (3)

ب - وَيُكْرَهُ لِلْمُضَحِّي بَعْدَ الذَّبْحِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، أُمُورٌ:
61 - مِنْهَا: أَنْ يَنْخَعَهَا أَوْ يَسْلُخَهَا قَبْل زُهُوقِ رُوحِهَا، وَهَذِهِ الْكَرَاهَةُ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الذَّبَائِحِ، وَهِيَ كَرَاهَةٌ تَنْزِيهِيَّةٌ.
62 - وَمِنْهَا: بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ لَحْمِهَا أَوْ شَحْمِهَا أَوْ
__________
(1) نهاية المحتاج مع حاشيتي الشبراملسي والرشيدي 8 / 133، 134.
(2) لعل المقصود بالإطعام أن يدعى إلى أكل اللحم مطبوخا أو يعطاه مطبوخا.
(3) المغني بأعلى الشرح الكبير 11 / 108، 118، ومطالب أولي النهى 2 / 474.

(5/104)


صُوفِهَا أَوْ شَعْرِهَا أَوْ وَبَرِهَا أَوْ لَبَنِهَا الَّذِي حُلِبَ مِنْهَا بَعْدَ ذَبْحِهَا، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْبَيْعُ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ مَأْكُولاَتٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يَنْتَفِعُ بِهِ إِلاَّ بِاسْتِهْلاَكِ عَيْنِهِ، فَهَذَا الْبَيْعُ لاَ يَحِل وَهُوَ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا. بِخِلاَفِ مَا لَوْ بَاعَ شَيْئًا مِنْهَا بِمَا يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ مِنْ مَتَاعِ الْبَيْتِ أَوْ غَيْرِهِ، كَالإِْنَاءِ النُّحَاسِ وَالْمُنْخُل وَالْعَصَا وَالثَّوْبِ وَالْخُفِّ، فَإِنَّهُ يَحِل.
وَإِنَّمَا لَمْ يَحِل الْبَيْعُ بِمَا يُسْتَهْلَكُ، لِقَوْلِهِ: مَنْ بَاعَ جِلْدَ أُضْحِيَّتِهِ فَلاَ أُضْحِيَّةَ لَهُ (1) فَإِنْ بَاعَ نَفَذَ الْبَيْعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَوَجَبَ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِثَمَنِهِ، لأَِنَّ الْقُرْبَةَ ذَهَبَتْ عَنْهُ بِبَيْعِهِ، وَلاَ يَنْفُذُ الْبَيْعُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنَ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ وَجَبَ التَّصَدُّقُ بِثَمَنِهِ.
وَإِنَّمَا حَل بَيْعُهُ بِمَا يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ، لأَِنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَل، فَكَأَنَّهُ بَاقٍ وَهُوَ شَبِيهٌ بِمَا لَوْ صُنِعَ مِنَ الْجِلْدِ شَيْءٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، كَالْقِرْبَةِ وَالدَّلْوِ. (2)
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْهَا بَعْدَ الذَّبْحِ وَلاَ إِبْدَالُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الذَّبْحُ مُجْزِئًا عَنِ الأُْضْحِيَّةِ أَوْ غَيْرُ مُجْزِئٍ، كَمَا لَوْ ذَبَحَ قَبْل الإِْمَامِ، وَكَمَا لَوْ تَعَيَّبَتِ الأُْضْحِيَّةُ فَذَبَحَهَا سَوَاءٌ أَكَانَ التَّعَيُّبُ حَالَةَ الذَّبْحِ أَمْ قَبْلَهُ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ عِنْدَ الذَّبْحِ عَالِمًا بِالْعَيْبِ أَمْ جَاهِلاً بِهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ عِنْدَ الذَّبْحِ عَالِمًا بِأَنَّهَا غَيْرُ مُجْزِئَةٍ أَمْ جَاهِلاً بِذَلِكَ، فَفِي كُل هَذِهِ
__________
(1) حديث: " من باع جلد أضحيته فلا أضحية له ". أخرجه الحاكم (2 / 389 - 390 - ط دائرة المعارف العثمانية) ، والبيهقي (9 / 294 - ط دائرة المعارف العثمانية) وقال الذهبي: " ابن عياش ضعفه أبو داود "
(2) البدائع 5 / 81.

(5/104)


الصُّوَرِ مَتَى ذَبَحَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْبَيْعُ وَلاَ الإِْبْدَال. وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِصَاحِبِهَا.
وَأَمَّا الَّذِي أُهْدِيَ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا، أَوْ تُصُدِّقَ عَلَيْهِ بِهِ، فَيَجُوزُ لَهُ الْبَيْعُ وَالإِْبْدَال.
وَإِذَا وَقَعَ الْبَيْعُ الْمَمْنُوعُ أَوْ إِبْدَالٌ مَمْنُوعٌ فُسِخَ الْعَقْدُ إِنْ كَانَ الْمَبِيعُ مَوْجُودًا، فَإِنْ فَاتَ بِأَكْلٍ وَنَحْوِهِ وَجَبَ التَّصَدُّقُ بِالْعِوَضِ إِنْ كَانَ مَوْجُودًا، فَإِنْ فَاتَ بِالصَّرْفِ أَوِ الضَّيَاعِ وَجَبَ التَّصَدُّقُ بِمِثْلِهِ. (1) وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ لِلْمُضَحِّي بَيْعُ شَيْءٍ مِنْهَا، وَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ لِلْغَنِيِّ الْمُهْدَى إِلَيْهِ، بِخِلاَفِ الْفَقِيرِ الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْبَيْعُ، وَيَجُوزُ لِلْمُضَحِّي التَّصَدُّقُ بِالْجِلْدِ وَإِعَارَتِهِ وَالاِنْتِفَاعِ بِهِ لاَ بَيْعِهِ وَلاَ إِجَارَتِهِ. (2) وَقَوْل الْحَنَابِلَةِ مِثْل قَوْل الشَّافِعِيَّةِ، وَزَادُوا أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ جُلِّهَا أَيْضًا. (3)
63 - وَمِنَ الأُْمُورِ الَّتِي تُكْرَهُ لِلْمُضَحِّي بَعْدَ التَّضْحِيَةِ إِعْطَاءُ الْجَزَّارِ وَنَحْوِهِ أُجْرَتَهُ مِنَ الأُْضْحِيَّةِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا، لأَِنَّهُ كَالْبَيْعِ بِمَا يُسْتَهْلَكُ، لِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: أَمَرَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ وَأُقَسِّمَ جُلُودَهَا وَجِلاَلَهَا، وَأَمَرَنِي أَلاَّ أُعْطِيَ الْجَزَّارَ مِنْهَا شَيْئًا، وَقَال: نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا. (4) (وَخَرَجَ بِالْبَيْعِ وَإِعْطَاءِ الأُْجْرَةِ) الاِنْتِفَاعُ بِالْجِلْدِ
__________
(1) الدسوقي 2 / 124، وبلغة السالك 1 / 310.
(2) المنهج مع حاشية البجيرمي 4 / 299.
(3) مطالب أولي النهى 2 / 475.
(4) حديث علي رضي الله عنه: " أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه. . . . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 556 - ط السلفية) ومسلم (2 / 954 - ط الحلبي) .

(5/105)


وَغَيْرِهِ مِنَ الأُْضْحِيَّةِ الَّتِي لَمْ يَجِبِ التَّصَدُّقُ بِهَا، كَمَا لَوْ جُعِل سِقَاءً لِلْمَاءِ أَوِ اللَّبَنِ أَوْ غَيْرِهِمَا، أَوْ فَرْوًا لِلْجُلُوسِ وَاللُّبْسِ، أَوْ صُنِعَ مِنْهُ غِرْبَالٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ، وَلأَِنَّهُ يَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِلَحْمِهَا بِالأَْكْل وَبِشَحْمِهَا بِالأَْكْل وَالاِدِّهَانِ فَكَذَا بِجِلْدِهَا وَسَائِرِ أَجْزَائِهَا.
هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ. (1) وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِمَنْعِ إِعْطَاءِ الْجَزَّارِ فِي مُقَابَلَةِ جِزَارَتِهِ أَوْ بَعْضِهَا شَيْئًا مِنْهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ مُجْزِئَةً، أَمْ غَيْرُ مُجْزِئَةٍ كَاَلَّتِي ذُبِحَتْ يَوْمَ النَّحْرِ قَبْل ذَبْحِ ضَحِيَّةِ الإِْمَامِ، وَكَالَتِي تَعَيَّبَتْ حَالَةَ الذَّبْحِ أَوْ قَبْلَهُ.
وَأَجَازُوا تَأْجِيرَ جِلْدِهَا عَلَى الرَّاجِحِ. (2) وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَحْرُمُ إِعْطَاءُ الْجَازِرِ فِي أُجْرَتِهِ شَيْئًا مِنْهَا، لِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ السَّابِقِ ذِكْرُهُ.
فَإِنْ دُفِعَ إِلَيْهِ لِفَقْرِهِ أَوْ عَلَى سَبِيل الْهَدِيَّةِ فَلاَ بَأْسَ، وَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِجِلْدِهَا، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُ وَلاَ شَيْئًا مِنْهَا (3)

النِّيَابَةُ فِي ذَبْحِ الأُْضْحِيَّةِ:
64 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِي ذَبْحِ الأُْضْحِيَّةِ إِذَا كَانَ النَّائِبُ مُسْلِمًا، لِحَدِيثِ فَاطِمَةَ السَّابِقِ: يَا فَاطِمَةُ قُومِي إِلَى أُضْحِيَّتِكِ فَاشْهَدِيهَا (4) لأَِنَّ فِيهِ إِقْرَارًا عَلَى حُكْمِ النِّيَابَةِ.
__________
(1) البدائع 5 / 81، وحاشية ابن عابدين على الدر المختار 5 / 201.
(2) الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 124.
(3) شرح المنهج مع حاشية البجيرمي 4 / 299، والمغني بأعلى الشرح الكبير 11 / 110، 111.
(4) حديث فاطمة رضي الله عنها سبق تخريجه.

(5/105)


وَالأَْفْضَل أَنْ يَذْبَحَ بِنَفْسِهِ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى صِحَّةِ التَّضْحِيَةِ مَعَ الْكَرَاهَةِ إِذَا كَانَ النَّائِبُ كِتَابِيًّا، لأَِنَّهُ مِنْ أَهْل الذَّكَاةِ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ قَوْلٌ مَحْكِيٌّ عَنْ أَحْمَدَ - إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ إِنَابَتِهِ، فَإِنْ ذَبَحَ لَمْ تَقَعِ التَّضْحِيَةُ وَإِنْ حَل أَكْلُهَا. (1)
وَالنِّيَابَةُ تَتَحَقَّقُ بِالإِْذْنِ لِغَيْرِهِ نَصًّا، كَأَنْ يَقُول: أَذَنْتُكَ أَوْ وَكَّلْتُكَ أَوِ اذْبَحْ هَذِهِ الشَّاةَ، أَوْ دَلاَلَةً كَمَا لَوْ اشْتَرَى إِنْسَانٌ شَاةً لِلأُْضْحِيَّةِ فَأَضْجَعَهَا وَشَدَّ قَوَائِمَهَا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ، فَجَاءَ إِنْسَانٌ آخَرُ وَذَبَحَهَا مِنْ غَيْرِ أَمْرٍ فَإِنَّ، التَّضْحِيَةَ تُجْزِئُ عَنْ صَاحِبِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالصَّاحِبَيْنِ (2) .
65 - وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ إِذَا غَلِطَ كُل وَاحِدٍ مِنَ الْمُضَحِّيَيْنِ فَذَبَحَ أُضْحِيَّةَ الآْخَرِ أَجْزَأَتْ، لِوُجُودِ الرِّضَى مِنْهُمَا دَلاَلَةً.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ عَنْ أَيٍّ مِنْهُمَا. وَلَمْ نَطَّلِعْ عَلَى رَأْيٍ لِلشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ. (3)

التَّضْحِيَةُ عَنِ الْمَيِّتِ:
66 - إِذَا أَوْصَى الْمَيِّتُ بِالتَّضْحِيَةِ عَنْهُ، أَوْ وَقَفَ وَقْفًا لِذَلِكَ جَازَ بِالاِتِّفَاقِ. فَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً بِالنَّذْرِ وَغَيْرِهِ وَجَبَ عَلَى الْوَارِثِ إِنْفَاذُ ذَلِكَ. أَمَّا إِذَا لَمْ يُوصِ بِهَا
__________
(1) البدائع 5 / 67، وحاشية الدسوقي 2 / 123، والمنهج مع حاشية البجيرمي 4 / 300، ونهاية المحتاج 8 / 125، وتحفة المحتاج مع حاشية الشرواني 8 / 163، 164، ومطالب أولي النهى 2 / 478.
(2) البدائع 5 / 78 - 80.
(3) المنهج مع حاشية البجيرمي 4 / 300، منهاج المحتاج 8 / 125، وتحفة المحتاج مع حاشية الشرواني 8 / 163، 164 ومطالب أولي النهى 2 / 478.

(5/106)


فَأَرَادَ الْوَارِثُ أَوْ غَيْرُهُ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْهُ مِنْ مَال نَفْسِهِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ التَّضْحِيَةِ عَنْهُ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ أَجَازُوا ذَلِكَ مَعَ الْكَرَاهَةِ. وَإِنَّمَا أَجَازُوهُ لأَِنَّ الْمَوْتَ لاَ يَمْنَعُ التَّقَرُّبَ عَنِ الْمَيِّتِ كَمَا فِي الصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ.
وَقَدْ صَحَّ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَحَدُهُمَا عَنْ نَفْسِهِ، وَالآْخَرُ عَمَّنْ لَمْ يُضَحِّ مِنْ أُمَّتِهِ. (1) وَعَلَى هَذَا لَوِ اشْتَرَكَ سَبْعَةٌ فِي بَدَنَةٍ فَمَاتَ أَحَدُهُمْ قَبْل الذَّبْحِ، فَقَال وَرَثَتُهُ - وَكَانُوا بَالِغِينَ - اذْبَحُوا عَنْهُ، جَازَ ذَلِكَ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الذَّبْحَ عَنِ الْمَيِّتِ لاَ يَجُوزُ بِغَيْرِ وَصِيَّةٍ أَوْ وَقْفٍ. (2)

هَل يَقُومُ غَيْرُ الأُْضْحِيَّةِ مِنَ الصَّدَقَاتِ مَقَامَهَا؟
67 - لاَ يَقُومُ غَيْرُ الأُْضْحِيَّةِ مِنَ الصَّدَقَاتِ مَقَامَهَا حَتَّى لَوْ تَصَدَّقَ إِنْسَانٌ بِشَاةٍ حَيَّةٍ أَوْ بِقِيمَتِهَا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُغْنِيًا لَهُ عَنِ الأُْضْحِيَّةِ، لاَ سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ وَاجِبَةً، وَذَلِكَ أَنَّ الْوُجُوبَ تَعَلَّقَ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ، وَالأَْصْل أَنَّ الْوُجُوبَ إِذَا تَعَلَّقَ بِفِعْلٍ مُعَيَّنٍ لاَ يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ كَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ بِخِلاَفِ الزَّكَاةِ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالصَّاحِبَيْنِ أَدَاءُ مَالٍ يَكُونُ جُزْءًا مِنَ النِّصَابِ أَوْ مِثْلَهُ، لِيَنْتَفِعَ بِهِ
__________
(1) حديث: " ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين. . . . . . " أخرجه أبو يعلى والبيهقي (9 / 268) ، وقال الهيثمي: إسناده حسن (4 / 22 - ط القدسي) .
(2) البدائع 5 / 72، وتنوير الأبصار مع شرحه الدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 214، وحاشية الدسوقي 2 / 122، 123، وحاشية البجيرمي على المنهج 4 / 300، ونهاية المحتاج 8 / 136، والمغني على الشرح الكبير 11 / 107، ومطالب أولي النهى 2 / 472.

(5/106)


الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمُ الْوَاجِبُ أَدَاءُ جُزْءٍ مِنَ النِّصَابِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَالٌ لاَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ جُزْءٌ مِنَ النِّصَابِ، لأَِنَّ مَبْنَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَى التَّيْسِيرِ، وَالتَّيْسِيرُ فِي الْوُجُوبِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَالٌ لاَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ الْعَيْنُ وَالصُّورَةُ، وَبِخِلاَفِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَإِنَّهَا تُؤَدَّى بِالْقِيمَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لأَِنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي نَصَّ الشَّارِعُ عَلَيْهَا فِي وُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ هِيَ الإِْغْنَاءُ. قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَغْنُوهُمْ عَنِ الطَّوَافِ فِي هَذَا الْيَوْمِ، (1) وَالإِْغْنَاءُ يَحْصُل بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ. (2)

الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ الضَّحِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ:
68 - الضَّحِيَّةُ أَفْضَل مِنَ الصَّدَقَةِ، لأَِنَّهَا وَاجِبَةٌ أَوْ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَشَعِيرَةٌ مِنْ شَعَائِرِ الإِْسْلاَمِ، صَرَّحَ بِهَذَا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ. (3)
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الضَّحِيَّةَ أَفْضَل أَيْضًا مِنْ عِتْقِ الرَّقَبَةِ وَلَوْ زَادَ ثَمَنُ الرَّقَبَةِ عَلَى أَضْعَافِ ثَمَنِ الضَّحِيَّةِ. (4)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الأُْضْحِيَّةُ أَفْضَل مِنَ الصَّدَقَةِ بِقِيمَتِهَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَبِهَذَا قَال رَبِيعَةُ وَأَبُو الزِّنَادِ، وَرُوِيَ عَنْ بِلاَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: لأََنْ أَضَعَهُ فِي يَتِيمٍ قَدْ تَرِبَ فُوهُ فَهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُضَحِّيَ، وَبِهَذَا قَال الشَّعْبِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ،
__________
(1) حديث: " أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم ". أخرجه البيهقي (4 / 175 - ط دائرة المعارف العثمانية) وأعله ابن عدي بأبي معشر نجيح أحد رواته كما في نصب الراية (2 / 432 - ط المجلس العلمي) .
(2) البدائع 5 / 66 - 67.
(3) البدائع 5 / 66 - 67، ونهاية المحتاج 8 / 124.
(4) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 121.

(5/107)


وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: لأََنْ أَتَصَدَّقَ بِخَاتَمِي هَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُهْدِيَ إِلَى الْبَيْتِ أَلْفًا.
وَيَدُل لأَِفْضَلِيَّةِ التَّضْحِيَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحَّى وَالْخُلَفَاءُ مِنْ بَعْدِهِ، وَلَوْ عَلِمُوا أَنَّ الصَّدَقَةَ أَفْضَل لَعَدَلُوا إِلَيْهَا، وَمَا رَوَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَا عَمِل ابْنُ آدَمَ يَوْمَ النَّحْرِ عَمَلاً أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ إِرَاقَةِ دَمٍ، وَأَنَّهُ لَيُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَظْلاَفِهَا وَأَشْعَارِهَا، وَأَنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ قَبْل أَنْ يَقَعَ عَلَى الأَْرْضِ، فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا. (1)
وَلأَِنَّ إِيثَارَ الصَّدَقَةِ عَلَى الأُْضْحِيَّةِ يُفْضِي إِلَى تَرْكِ سُنَّةٍ سَنَّهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّا قَوْل عَائِشَةَ فَهُوَ فِي الْهَدْيِ دُونَ الأُْضْحِيَّةِ وَلَيْسَ الْخِلاَفُ فِيهِ. (2)

إِضْرَابٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْضْرَابُ مَصْدَرُ أَضْرَبَ. يُقَال: أَضْرَبْتُ عَنِ الشَّيْءِ كَفَفْتُ عَنْهُ وَأَعْرَضْتُ، وَضَرَبَ عَنْهُ الأَْمْرُ: صَرَفَهُ عَنْهُ. قَال تَعَالَى: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} أَيْ نُهْمِلُكُمْ فَلاَ نُعَرِّفُكُمْ مَا يَجِبُ عَلَيْكُمْ. (3)
__________
(1) حديث: " ما عمل ابن آدم يوم النحر عملا أحب إلى الله من إراقة دم وإنه ليؤتى يوم القيامة بقرونها. . . . ". أخرجه ابن ماجه (2 / 1045 ط الحلبي) وضعفه المناوي في فيض القدير (5 / 458 ط المكتبة التجارية) .
(2) المغني 11 / 95.
(3) لسان العرب في مادة: ضرب، والآية من سورة الزخرف / 5.

(5/107)


وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ لِمَا بَعْدَ أَدَاةِ الإِْضْرَابِ، وَجَعَل الأَْوَّل (الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ) كَالْمَسْكُوتِ عَنْهُ. وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُول مَثَلاً لِغَيْرِ الْمُدْخَل بِهَا: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَل ثِنْتَيْنِ، أَوْ يَقُول فِي الإِْقْرَارِ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ بَل دِرْهَمَانِ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِسْتِثْنَاءُ:
2 - الاِسْتِثْنَاءُ هُوَ الْمَنْعُ مِنْ دُخُول بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ صَدْرُ الْكَلاَمِ فِي حُكْمِهِ بِإِلاَّ أَوْ بِإِحْدَى أَخَوَاتِهَا. أَوْ هُوَ قَوْلٌ وَصِيَغٌ مَخْصُوصَةٌ مَحْصُورَةٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمَذْكُورَ بَعْدَ أَدَاةِ الاِسْتِثْنَاءِ لَمْ يُرَدْ بِالْقَوْل الأَْوَّل.
فَهُوَ عَلَى هَذَا يُخَالِفُ الإِْضْرَابَ، لأَِنَّ الإِْضْرَابَ إِقْرَارٌ لِلأَْوَّل عَلَى رَأْيٍ، وَتَبْدِيلٌ لَهُ عَلَى رَأْيٍ آخَرَ، وَهَذَا يُخَالِفُ الاِسْتِثْنَاءَ، لأَِنَّ الاِسْتِثْنَاءَ تَغْيِيرٌ لِمُقْتَضَى صِيغَةِ الْكَلاَمِ الأَْوَّل وَلَيْسَ بِتَبْدِيلٍ، إِنَّمَا التَّبْدِيل أَنْ يَخْرُجَ الْكَلاَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا بِالْوَاجِبِ أَصْلاً (2) .

ب - النَّسْخُ:
3 - النَّسْخُ رَفْعُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَأَخِّرٍ، وَعَلَى هَذَا فَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّسْخِ وَبَيْنَ الإِْضْرَابِ أَنَّ الإِْضْرَابَ مُتَّصِلٌ، أَمَّا النَّسْخُ فَمُنْفَصِلٌ (3) .
__________
(1) مسلم الثبوت 1 / 236.
(2) مسلم الثبوت 1 / 236، وكشف الأسرار 3 / 840 ط الآستانة 1307 هـ.
(3) مسلم الثبوت 2 / 53، وكشف الأسرار 3 / 8381.

(5/108)


الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ، وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
4 - (الإِْضْرَابُ) إِبْطَالٌ وَإِلْغَاءٌ لِلأَْوَّل وَرُجُوعٌ عَنْهُ، وَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ مَا بَيْنَ الإِْنْشَاءِ وَالإِْقْرَارِ: فَلاَ يُقْبَل رُجُوعُ الْمُقِرِّ عَنْ إِقْرَارِهِ إِلاَّ فِيمَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَيُحْتَاطُ لإِِسْقَاطِهِ، فَأَمَّا حُقُوقُ الآْدَمِيِّينَ وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي لاَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ فَلاَ يُقْبَل رُجُوعُهُ عَنْهَا. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلاَفًا. (1) وَيُفَصِّل الْحَنَفِيَّةُ حُكْمَ الإِْضْرَابِ فَيَقُولُونَ: الأَْصْل فِي ذَلِكَ أَنَّ " لاَ بَل " لاِسْتِدْرَاكِ الْغَلَطِ، وَالْغَلَطُ إِنَّمَا يَقَعُ غَالِبًا فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ، إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا كَانَ لِرَجُلَيْنِ كَانَ رُجُوعًا عَنِ الأَْوَّل فَلاَ يُقْبَل، وَيَثْبُتُ لِلثَّانِي بِإِقْرَارِهِ الثَّانِي، وَإِذَا كَانَ الإِْقْرَارُ الثَّانِي أَكْثَرَ صَحَّ الاِسْتِدْرَاكُ، وَيُصَدِّقُهُ الْمُقَرُّ لَهُ. وَإِنْ كَانَ أَقَل كَانَ مُتَّهَمًا فِي الاِسْتِدْرَاكِ، وَالْمُقَرُّ لَهُ لاَ يُصَدِّقُهُ فَيَلْزَمُهُ الأَْكْثَرُ، فَلَوْ قَال: لِفُلاَنٍ عَلَيَّ أَلْفٌ، لاَ بَل أَلْفَانِ يَلْزَمُهُ أَلْفَانِ، وَهَذَا عِنْدَ غَيْرِ زُفَرَ، أَمَّا عِنْدَهُ فَيُلْزَمُ بِإِقْرَارَيْهِ (الأَْوَّل وَالثَّانِي) أَيْ ثَلاَثَةُ آلاَفٍ، وَجْهُ قَوْل زُفَرَ أَنَّهُ أَقَرَّ بِأَلْفٍ فَيَلْزَمُهُ، وَقَوْلُهُ: " لاَ " رُجُوعَ، فَلاَ يُصَدَّقُ فِيهِ، ثُمَّ أَقَرَّ بِأَلْفَيْنِ فَصَحَّ الإِْقْرَارُ، وَصَارَ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، لاَ بَل اثْنَتَيْنِ، وَجَوَابُهُ: أَنَّ الإِْقْرَارَ إِخْبَارٌ يَجْرِي فِيهِ الْغَلَطُ فَيَجْرِي فِيهِ الاِسْتِدْرَاكُ فَيَلْزَمُهُ الأَْكْثَرُ، وَالطَّلاَقُ إِنْشَاءٌ وَلاَ يَمْلِكُ إِبْطَال مَا أَنْشَأَ فَافْتَرَقَا.
كَمَا أَنَّ الأَْصْل أَنَّ " لاَ بَل " مَتَى تَخَلَّلَتْ بَيْنَ الْمَالَيْنِ مِنْ جِنْسَيْنِ لَزِمَ الْمَالاَنِ الْمُقِرَّ (2) وَتَفْصِيلُهُ فِي الإِْقْرَارِ وَالأَْيْمَانِ وَالطَّلاَقِ وَالْعِتْقِ.
__________
(1) المغني 5 / 172، 173 ط الرياض.
(2) الاختيار 2 / 134 ط المعرفة.

(5/108)


إِضْرَارٌ
انْظُرْ: ضَرَرٌ