الموسوعة
الفقهية الكويتية إِسْفَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الإِْسْفَارِ فِي اللُّغَةِ: الْكَشْفُ، يُقَال:
__________
(1) المغني 2 / 220 و 237، وحاشية ابن عابدين 1 / 382.
(2) حديث: " النهي عن الصف بين السواري. . . " أخرجه الترمذي والنسائي وأبو
داود من حديث عبد الحميد بن محمود أنه قال: " صلينا خلف أمير من الأمراء،
فاضطرنا الناس فصلينا بين الساريتين، فلما صلينا قال أنس بن مالك: كنا نتقي
هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ". قال الترمذي: حديث أنس حديث
حسن صحيح (تحفة الأحوذي 2 / 21 نشر المكتبة السلفية، وجامع الأصول 5 / 611،
612 نشر مكتبة الحلواني) .
(3) المغني 2 / 220، 237، وحاشية الدسوقي 1 / 331، والقليوبي 1 / 193.
(4/224)
سَفَرَ الصُّبْحُ وَأَسْفَرَ: أَيْ
أَضَاءَ، وَأَسْفَرَ الْقَوْمُ: أَصْبَحُوا، وَسَفَرَتِ الْمَرْأَةُ:
كَشَفَتْ عَنْ وَجْهِهَا. (1)
وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلإِْسْفَارِ بِمَعْنَى ظُهُورِ
الضَّوْءِ (2) ، يُقَال: أَسْفَرَ بِالصُّبْحِ: إِذَا صَلاَّهَا وَقْتَ
الإِْسْفَارِ (3) ، أَيْ عِنْدَ ظُهُورِ الضَّوْءِ، لاَ فِي الْغَلَسِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْوَقْتَ الاِخْتِيَارِيَّ فِي
صَلاَةِ الصُّبْحِ هُوَ إِلَى وَقْتِ الإِْسْفَارِ (4) ، لِمَا رُوِيَ:
أَنَّ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ صَلَّى الصُّبْحَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ، وَصَلَّى مِنَ الْغَدِ
حِينَ أَسْفَرَ، ثُمَّ الْتَفَتَ وَقَال: هَذَا وَقْتُكَ وَوَقْتُ
الأَْنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِكَ (5) .
__________
(1) لسان العرب، والكليات مادة: (سفر) .
(2) جواهر الإكليل 1 / 33 ط دار المعرفة، والمطلع ص 60.
(3) المغرب في ترتيب المعرب.
(4) جواهر الإكليل 1 / 33، ونهاية المحتاج 1 / 353 ط المكتبة الإسلامية،
والمهذب 1 / 59 ط دار المعرفة، والمغني 1 / 394 - 395 ط الرياض.
(5) حديث: " أن جبريل عليه السلام صلى الصبح. . . " أخرجه أحمد والترمذي
وأبو داود وابن خزيمة والدارقطني والحاكم من حديث ابن عباس مرفوعا. ولفظ
الترمذي: " أمني جبريل عليه السلام عند البيت مرتين " إلى أن قال: " ثم صلى
الفجر حين برق الفجر وحرم الطعام على الصائم. . ثم صلى الصبح حين أسفرت
الأرض، ثم التفت إلي جبريل فقال: يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت
فيما بين هذين الوقتين ". قا وصححه ابن عبد البر وأبو بكر بن العربي. قال
الشوكاني: وفي إسناده ثلاثة مختلف فيهم. وأخرجه أحمد والنسائي والترمذي
وابن حبان والحاكم من حديث جابر بن عبد الله بهذا المعنى مرفوعا وليست فيه
عبارة " يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك ". قال البخاري: هو أصح ش قال
الترمذي في كتاب العلل. إنه حسنه البخاري (تحفة الأحوزي 1 / 464 - 468 نشر
المكتبة السلفية، ونيل الأوطار 1 / 380 - 382 ط دار الجيل 1973 م) .
(4/225)
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ
يُسْتَحَبُّ الإِْسْفَارُ بِصَلاَةِ الصُّبْحِ، وَهُوَ أَفْضَل مِنَ
التَّغْلِيسِ، فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، وَفِي الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ،
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ،
وَفِي رِوَايَةٍ نَوِّرُوا بِالْفَجْرِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلأَْجْرِ (1)
. قَال أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ: يُبْدَأُ بِالتَّغْلِيسِ وَيُخْتَمُ
بِالإِْسْفَارِ جَمْعًا بَيْنَ أَحَادِيثِ التَّغْلِيسِ وَالإِْسْفَارِ.
(2)
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - يُبْحَثُ الإِْسْفَارُ فِي الصَّلاَةِ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ وَقْتِ
صَلاَةِ الصُّبْحِ، وَالأَْوْقَاتِ الْمُسْتَحَبَّةِ.
إِسْقَاطٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الإِْسْقَاطِ لُغَةً: الإِْيقَاعُ وَالإِْلْقَاءُ،
__________
(1) حديث: " أسفروا بالفجر. . . " أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي وابن
حبان من حديث رافع بن خديج مرفوعا. ولفظ الترمذي: " أسفروا بالفجر فإنه
أعظم للأجر، قال الترمذي: حديث رافع بن خديج حديث صحيح. وقال الحافظ في فتح
الباري: رواه أصحاب السنن، وصححه غير واحد (فيض القدير 9 / 508 ط المكتبة
التجارية 1356 هـ، وتحفة الأحوذي 1 / 477 - 479 نشر المكتبة السلفية، وجامع
الأصول 5 / 252 نشر مكتبة الحلواني) .
(2) الاختيار 1 / 38 ط دار المعرفة، والبدائع 1 / 124 ط الجمالية.
(4/225)
يُقَال: سَقَطَ اسْمُهُ مِنَ الدِّيوَانِ:
إِذَا وَقَعَ، وَأَسْقَطَتِ الْحَامِل: أَلْقَتِ الْجَنِينَ، وَقَوْل
الْفُقَهَاءِ: سَقَطَ الْفَرْضُ، أَيْ سَقَطَ طَلَبُهُ وَالأَْمْرُ بِهِ.
(1)
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: هُوَ إِزَالَةُ الْمِلْكِ، أَوِ الْحَقِّ،
لاَ إِلَى مَالِكٍ وَلاَ إِلَى مُسْتَحِقٍّ، وَتَسْقُطُ بِذَلِكَ
الْمُطَالَبَةُ بِهِ، لأَِنَّ السَّاقِطَ يَنْتَهِي وَيَتَلاَشَى وَلاَ
يَنْتَقِل، وَذَلِكَ كَالطَّلاَقِ وَالْعِتْقِ وَالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ
وَالإِْبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ (2) ، وَبِمَعْنَى الإِْسْقَاطِ: الْحَطُّ،
إِذْ يَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ بِالْمَعْنَى نَفْسِهِ. (3)
وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا فِي إِسْقَاطِ الْحَامِل الْجَنِينَ
(4) . وَسَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي (إِجْهَاضٌ) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْبْرَاءُ:
2 - الإِْبْرَاءُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: إِسْقَاطُ الشَّخْصِ حَقًّا لَهُ
فِي ذِمَّةِ آخَرَ أَوْ قِبَلَهُ. وَهَذَا عِنْدَ مَنْ يَعْتَبِرُ
الإِْبْرَاءَ مِنَ الدَّيْنِ إِسْقَاطًا مَحْضًا، أَمَّا مَنْ يَعْتَبِرُهُ
تَمْلِيكًا فَيَقُول: هُوَ تَمْلِيكُ الْمَدِينِ مَا فِي ذِمَّتِهِ.
وَتَوَسَّطَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فَقَال: هُوَ تَمْلِيكٌ فِي حَقِّ مَنْ
لَهُ الدَّيْنُ، إِسْقَاطٌ فِي حَقِّ الْمَدِينِ، وَهَذَا بِالنَّظَرِ
لِبَرَاءَةِ الإِْسْقَاطِ لاَ لِبَرَاءَةِ الاِسْتِيفَاءِ.
وَيُلاَحَظُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْحَقُّ فِي ذِمَّةِ شَخْصٍ وَلاَ
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب مادة: (سقط) .
(2) الاختيار 3 / 121، 4 / 17 ط. دار المعرفة، والذخيرة 1 / 152 نشر وزارة
الأوقاف بالكويت، والمهذب 1 / 449، 455، وشرح منتهى الإرادات 3 / 122.
(3) المغرب مادة: (حط) ، والكافي لابن عبد البر 1 / 881، وشرح منتهى
الإرادات 3 / 288، وقليوبي 2 / 220.
(4) المهذب 2 / 198.
(4/226)
تُجَاهِهِ، كَحَقِّ الشُّفْعَةِ،
فَتَرْكُهُ لاَ يُعْتَبَرُ إِبْرَاءً، بَل هُوَ إِسْقَاطٌ. وَبِذَلِكَ
يَتَبَيَّنُ أَنَّ بَيْنَهُمَا عُمُومًا وَخُصُوصًا مِنْ وَجْهٍ. (1)
غَيْرَ أَنَّ ابْنَ عَبْدِ السَّلاَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ يَعْتَبِرُ
الإِْبْرَاءَ أَعَمَّ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، إِذْ يَقُول: الإِْسْقَاطُ فِي
الْمُعَيَّنِ، وَالإِْبْرَاءُ أَعَمُّ مِنْهُ، لأَِنَّهُ يَكُونُ فِي
الْمُعَيَّنِ وَغَيْرِهِ. (2)
ب - الصُّلْحُ:
3 - الصُّلْحُ اسْمٌ بِمَعْنَى: الْمُصَالَحَةِ وَالتَّوْفِيقِ
وَالسِّلْمِ.
وَشَرْعًا: عَقْدٌ يَقْتَضِي قَطْعَ النِّزَاعِ وَالْخُصُومَةِ.
وَيَجُوزُ فِي الصُّلْحِ إِسْقَاطُ بَعْضِ الْحَقِّ، سَوَاءٌ أَكَانَ عَنْ
إِقْرَارٍ أَمْ إِنْكَارٍ أَمْ سُكُوتٍ. فَإِذَا كَانَتِ الْمُصَالَحَةُ
عَلَى أَخْذِ الْبَدَل فَالصُّلْحُ مُعَاوَضَةٌ، وَلَيْسَ إِسْقَاطًا،
فَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ. (3)
ج - الْمُقَاصَّةُ:
4 - يُقَال تَقَاصَّ الْقَوْمُ: إِذَا قَاصَّ كُلٌّ مِنْهُمْ صَاحِبَهُ فِي
الْحِسَابِ، فَحَبَسَ عَنْهُ مِثْل مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ. (4)
وَالْمُقَاصَّةُ نَوْعٌ مِنَ الإِْسْقَاطِ، إِذْ هِيَ إِسْقَاطُ مَا
لِلإِْنْسَانِ مِنْ دَيْنٍ عَلَى غَرِيمِهِ فِي مِثْل مَا عَلَيْهِ. فَهِيَ
إِسْقَاطٌ بِعِوَضٍ، فِي حِينِ أَنَّ الإِْسْقَاطَ الْمُطْلَقَ
__________
(1) المصباح المنير، والمغرب مادة: (برئ) ، والمنثور في القواعد 1 / 81 نشر
وزارة الأوقاف الكويتية، وجواهر الإكليل 2 / 212، والمهذب 1 / 455، 2 / 60،
والمغني 5 / 659، ومنتهى الإرادات 2 / 521، وتكملة ابن عابدين 2 / 347.
(2) منح الجليل 3 / 426.
(3) المغرب ولسان العرب مادة: (صلح) ، وقليوبي 2 / 306، والاختيار 3 / 5،
وشرح منتهى الإرادات 2 / 260.
(4) المغرب ولسان العرب مادة: (قص) .
(4/226)
يَكُونُ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ،
وَبِذَلِكَ تَكُونُ الْمُقَاصَّةُ أَخَصَّ مِنَ الإِْسْقَاطِ. (1) وَلَهَا
شُرُوطٌ تُنْظَرُ فِي مَوْضِعِهَا.
د - الْعَفْوُ:
5 - مِنْ مَعَانِي الْعَفْوِ: الْمَحْوُ وَالإِْسْقَاطُ وَتَرْكُ
الْمُطَالَبَةِ، يُقَال: عَفَوْت عَنْ فُلاَنٍ إِذَا تَرَكْتَ
مُطَالَبَتَهُ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى:
{وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} . (2) أَيِ التَّارِكِينَ مَظَالِمَهُمْ
عِنْدَهُمْ لاَ يُطَالِبُونَهُمْ بِهَا. (3) فَالْعَفْوُ الَّذِي
يُسْتَعْمَل فِي تَرْكِ الْحَقِّ مُسَاوٍ لِلإِْسْقَاطِ فِي الْمَعْنَى،
إِلاَّ أَنَّ الْعَفْوَ عَلَى إِطْلاَقِهِ أَعَمُّ لِتَعَدُّدِ
اسْتِعْمَالاَتِهِ.
هـ - التَّمْلِيكُ:
6 - التَّمْلِيكُ: نَقْل الْمِلْكِ وَإِزَالَتُهُ إِلَى مَالِكٍ آخَرَ،
سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَنْقُول عَيْنًا كَمَا فِي الْبَيْعِ، أَمْ مَنْفَعَةً
كَمَا فِي الإِْجَارَةِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ بِعِوَضٍ كَمَا سَبَقَ، أَمْ
بِدُونِهِ كَالْهِبَةِ. وَالتَّمْلِيكُ بِعُمُومِهِ يُفَارِقُ الإِْسْقَاطَ
بِعُمُومِهِ، إِذْ التَّمْلِيكُ إِزَالَةٌ وَنَقْلٌ إِلَى مَالِكٍ، فِي
حِينِ أَنَّ الإِْسْقَاطَ إِزَالَةٌ وَلَيْسَ نَقْلاً، كَمَا أَنَّهُ
لَيْسَ إِلَى مَالِكٍ، لَكِنَّهُمَا قَدْ يَجْتَمِعَانِ فِي الإِْبْرَاءِ
مِنَ الدَّيْنِ، عِنْدَ مَنْ يَعْتَبِرُهُ تَمْلِيكًا، كَالْمَالِكِيَّةِ
وَبَعْضِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَلِذَلِكَ
يَشْتَرِطُونَ فِيهِ الْقَبُول. (4)
__________
(1) منح الجليل 3 / 52، والمنثور في القواعد 1 / 391.
(2) سورة آل عمران / 134.
(3) المصباح المنير مادة: (عفو) ، وشرح غريب المهذب 1 / 67، والمغني 5 /
659 ط الرياض، وشرح منتهى الإرادات 3 / 288، والبدائع 6 / 120.
(4) المصباح المنير مادة: (ملك) ، والاختيار 2 / 3، 3 / 41، والذخيرة 1 /
151، والمنثور في القواعد 3 / 228، والأشباه لابن نجيم ص 348، ومنتهى
الإرادات 2 / 140، والمهذب 1 / 148 و 264.
(4/227)
صِفَةُ الإِْسْقَاطِ (حُكْمُهُ
التَّكْلِيفِيُّ) :
7 - الإِْسْقَاطُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الْجُمْلَةِ،
إِذْ هُوَ تَصَرُّفُ الإِْنْسَانِ فِي خَالِصِ حَقِّهِ، دُونَ أَنْ يَمَسَّ
ذَلِكَ حَقًّا لِغَيْرِهِ (1) .
وَالأَْصْل فِيهِ الإِْبَاحَةُ، وَقَدْ تَعْرِضُ لَهُ الأَْحْكَامُ
التَّكْلِيفِيَّةُ الأُْخْرَى. فَيَكُونُ وَاجِبًا، كَتَرْكِ وَلِيِّ
الصَّغِيرِ الشُّفْعَةَ الَّتِي وَجَبَتْ لِلصَّغِيرِ، إِذَا كَانَ
الْحَظُّ فِي تَرْكِهَا، لأَِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ النَّظَرُ فِي مَالِهِ
بِمَا فِيهِ حَظٌّ وَغِبْطَةٌ لَهُ. (2) وَكَالطَّلاَقِ الَّذِي يَرَاهُ
الْحَكَمَانِ إِذَا وَقَعَ الشِّقَاقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَكَذَلِكَ
طَلاَقُ الرَّجُل إِذَا آلَى مِنْ زَوْجَتِهِ وَلَمْ يَفِئْ إِلَيْهَا (3)
.
وَيَكُونُ مَنْدُوبًا إِذَا كَانَ قُرْبَةً، كَالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ،
وَإِبْرَاءِ الْمُعْسِرِ، وَالْعِتْقِ، وَالْكِتَابَةِ. وَمِنَ النُّصُوصِ
الدَّالَّةِ عَلَى النَّدْبِ فِي الْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ قَوْله
تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ
لَهُ} . (4) فَنَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْعَفْوِ وَالتَّصَدُّقِ
بِحَقِّ الْقِصَاصِ (5) . . وَفِي إِبْرَاءِ الْمَدِينِ قَوْله تَعَالَى:
{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ
تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (6) يَقُول
الْقُرْطُبِيُّ: نَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الأَْلْفَاظِ إِلَى
الصَّدَقَةِ عَلَى الْمُعْسِرِ، وَجَعَل ذَلِكَ خَيْرًا مِنْ إِنْظَارِهِ
(7) .، وَلِذَلِكَ يَقُول الْفُقَهَاءُ: إِنَّ الْمَنْدُوبَ هُنَا وَهُوَ
الإِْبْرَاءُ أَفْضَل مِنَ الْوَاجِبِ وَهُوَ الإِْنْظَارُ (8) .
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 260، والمنثور في القواعد 3 / 393.
(2) المهذب 1 / 336، وشرح منتهى الإرادات 2 / 439.
(3) المهذب 2 / 79، 80، والمغني 7 / 97.
(4) سورة المائدة / 45.
(5) أحكام القرآن للجصاص 1 / 175.
(6) سورة البقرة / 280.
(7) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 3 / 374.
(8) الأشباه لابن نجيم ص 157.
(4/227)
وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا، كَطَلاَقِ
الْبِدْعَةِ، وَهُوَ طَلاَقُ الْمَدْخُول بِهَا فِي حَال الْحَيْضِ مِنْ
غَيْرِ حَمْلٍ، وَكَذَلِكَ عَفْوُ وَلِيِّ الصَّغِيرِ عَنِ الْقِصَاصِ
مَجَّانًا (1) .
وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا، كَالطَّلاَقِ بِدُونِ سَبَبٍ يَسْتَدْعِيهِ (2)
، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبْغَضُ
الْحَلاَل إِلَى اللَّهِ الطَّلاَقُ. (3)
الْبَاعِثُ عَلَى الإِْسْقَاطِ:
8 - تَصَرُّفَاتُ الْمُكَلَّفِينَ فِيمَا يَمْلِكُونَ التَّصَرُّفَ فِيهِ
لاَ تَأْتِي عَفْوًا، بَل تَكُونُ لَهَا بَوَاعِثُ، قَدْ تَكُونُ
شَرْعِيَّةً، فَيَكُونُ التَّصَرُّفُ اسْتِجَابَةً لأَِوَامِرِ الشَّرْعِ،
وَقَدْ تَكُونُ لِمَصَالِحَ شَخْصِيَّةٍ.
وَالإِْسْقَاطُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَتَأَتَّى فِيهَا الْبَاعِثُ
الشَّرْعِيُّ وَالشَّخْصِيُّ.
فَمِنَ الْبَوَاعِثِ الشَّرْعِيَّةِ:
الْعَمَل عَلَى حُرِّيَّةِ الإِْنْسَانِ الَّتِي هِيَ الأَْصْل لِكُل
النَّاسِ، وَذَلِكَ الْعِتْقُ الَّذِي حَثَّ عَلَيْهِ الإِْسْلاَمُ.
وَمِنْهَا: الإِْبْقَاءُ عَلَى الْحَيَاةِ، وَذَلِكَ بِإِسْقَاطِ حَقِّ
الْقِصَاصِ مِمَّنْ ثَبَتَ لَهُ هَذَا الْحَقُّ.
وَمِنْهَا: مُعَاوَنَةُ الْمُعْسِرِينَ، وَذَلِكَ بِإِسْقَاطِ الدَّيْنِ
__________
(1) المهذب 2 / 79، 80، وشرح منتهى الإرادات 2 / 291، و 3 / 123، وحاشية
ابن عابدين 5 / 299، والمغني 7 / 97.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 648، والمهذب 2 / 79، 80، والمغني 7 / 97.
(3) حديث: " أبغض الحلال إلى الله الطلاق " أخرجه ابن ماجه (1 / 650 ط
الحلبي) وأبو داود (2 / 343 ط المكتبة التجارية) ، وأعله ابن حجر في
التلخيص بالإرسال والضعف (3 / 205 ط هاشم اليماني) .
(4/228)
عَنْهُمْ إِنْ وُجِدَ، وَقَدْ سَبَقَ
ذِكْرُ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ.
وَمِنْهَا: إِرَادَةُ نَفْعِ الْجَارِ، كَمَا فِي وَضْعِ خَشَبِهِ عَلَى
جِدَارِ جَارِهِ (1) وَذَلِكَ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: لاَ يَمْنَعُ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي
جِدَارِهِ (2) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يَتَّسِعُ الْمَقَامُ
لِذِكْرِهِ.
أَمَّا الْبَوَاعِثُ الشَّخْصِيَّةُ:
فَمِنْهَا: رَجَاءُ حُسْنِ الْعِشْرَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، مِمَّا
يَدْعُو الزَّوْجَةَ إِلَى إِبْرَاءِ زَوْجِهَا مِنَ الْمَهْرِ فِي نِكَاحِ
التَّفْوِيضِ بَعْدَ الدُّخُول (3) ، أَوْ إِسْقَاطِ الزَّوْجَةِ حَقَّهَا
فِي الْقَسْمِ (4) .
وَمِنْهَا: الإِْسْرَاعُ فِي الْحُصُول عَلَى الْحُرِّيَّةِ، وَذَلِكَ
كَالْمُكَاتَبِ، إِذَا أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الأَْجَل فِي أَدَاءِ الْمَال
الْمُكَاتَبِ، عَلَيْهِ، فَعَجَّل أَدَاءَ النُّجُومِ (الأَْقْسَاطِ) ،
فَإِنَّ السَّيِّدَ يَلْزَمُهُ أَخْذُ الْمَال، لأَِنَّ الأَْجَل حَقُّ
الْمُكَاتَبِ فَيَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، حَتَّى لَوْ
أَبَى السَّيِّدُ أَخْذَ الْمَال جَعَلَهُ الإِْمَامُ فِي بَيْتِ الْمَال،
وَحَكَمَ بِعِتْقِهِ (5) .
وَمِنْهَا: الاِنْتِفَاعُ الْمَادِّيُّ، كَالْخُلْعِ وَالْعَفْوِ عَنِ
الْقِصَاصِ عَلَى مَالٍ (6) .
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 271.
(2) حديث: " لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبه في جداره " أخرجه البخاري (5 /
110 - الفتح - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1230 - ط الحلبي) .
(3) جواهر الإكليل 1 / 315.
(4) المهذب 2 / 70، وجواهر الإكليل 1 / 328.
(5) منتهى الإرادات 2 / 261، 668، والأشباه لابن نجيم ص 266.
(6) منتهى الإرادات 3 / 107، والاختيار 3 / 156، والمهذب 2 / 71، والهداية
3 / 139، 204.
(4/228)
أَرْكَانُ الإِْسْقَاطِ
9 - رُكْنُ الإِْسْقَاطِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ الصِّيغَةُ فَقَطْ،
وَيُزَادُ عَلَيْهَا عِنْدَ غَيْرِهِمُ: الطَّرَفَانِ - الْمُسْقِطُ وَهُوَ
صَاحِبُ الْحَقِّ، وَالْمُسْقَطُ عَنْهُ الَّذِي تَقَرَّرَ الْحَقُّ
قِبَلَهُ - وَالْمَحَل وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَرِدُ عَلَيْهِ
الإِْسْقَاطُ.
الصِّيغَةُ:
10 - مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ أَنَّ الصِّيغَةَ تَتَكَوَّنُ مِنَ الإِْيجَابِ
وَالْقَبُول مَعًا فِي الْعَقْدِ، وَهِيَ هُنَا كَذَلِكَ بِاتِّفَاقٍ فِي
الْجُمْلَةِ فِي الإِْسْقَاطَاتِ الَّتِي تُقَابَل بِعِوَضٍ كَالطَّلاَقِ
عَلَى مَالٍ (1) . وَفِي غَيْرِهَا اخْتِلاَفُ الْفُقَهَاءِ بِالنِّسْبَةِ
لِلْقَبُول عَلَى مَا سَيَأْتِي.
الإِْيجَابُ فِي الصِّيغَةِ:
11 - الإِْيجَابُ فِي الصِّيغَةِ، هُوَ مَا يَدُل عَلَى الإِْسْقَاطِ مِنْ
قَوْلٍ، أَوْ مَا يُؤَدِّي مَعْنَى الْقَوْل، مِنْ إِشَارَةٍ مُفْهِمَةٍ
أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ سُكُوتٍ.
وَيُلاَحَظُ أَنَّ الإِْسْقَاطَاتِ قَدْ مُيِّزَ بَعْضُهَا بِأَسْمَاءٍ
خَاصَّةٍ تُعْرَفُ بِهَا، فَإِسْقَاطُ الْحَقِّ عَنِ الرِّقِّ عِتْقٌ،
وَعَنِ اسْتِبَاحَةِ الْبُضْعِ طَلاَقٌ، وَعَنِ الْقِصَاصِ عَفْوٌ، وَعَنِ
الدَّيْنِ إِبْرَاءٌ (2) .
وَلِكُل نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الإِْسْقَاطَاتِ صِيَغٌ خَاصَّةٌ سَوَاءٌ
أَكَانَتْ صَرِيحَةً، أَمْ كِنَايَةً تَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ أَوْ
قَرِينَةٍ. ر: (طَلاَق، عِتْق) .
أَمَّا غَيْرُ هَذِهِ الأَْنْوَاعِ مِنَ الإِْسْقَاطَاتِ، فَإِنَّ
حَقِيقَةَ اللَّفْظِ الَّذِي يَدُل عَلَيْهَا هُوَ الإِْسْقَاطُ (3) .
وَمَا بِمَعْنَاهُ.
__________
(1) المهذب 2 / 73، وشرح منتهى الإرادات 3 / 113، 114، وجواهر الإكليل 1 /
330، والاختيار 3 / 157.
(2) الاختيار 4 / 17، وابن عابدين 3 / 2.
(3) المغني 5 / 659.
(4/229)
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَلْفَاظًا
مُتَعَدِّدَةً تُؤَدِّي مَعْنَى الإِْسْقَاطِ، وَذَلِكَ مِثْل: التَّرْكِ
وَالْحَطِّ وَالْعَفْوِ وَالْوَضْعِ وَالإِْبْرَاءِ فِي بَرَاءَةِ
الإِْسْقَاطِ وَالإِْبْطَال وَالإِْحْلاَل (1) ، وَالْمَدَارُ فِي ذَلِكَ
عَلَى الْعُرْفِ وَدَلاَلَةِ الْحَال، وَلِذَلِكَ جَعَلُوا مِنَ
الأَْلْفَاظِ الَّتِي تَدُل عَلَيْهِ: الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ
وَالْعَطِيَّةُ حِينَ لاَ يُرَادُ بِهَذِهِ الأَْلْفَاظِ حَقِيقَتُهَا
وَهِيَ التَّمْلِيكُ، وَيَكُونُ الْمَقَامُ دَالًّا عَلَى الإِْسْقَاطِ،
فَفِي شَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ: مَنْ أَبْرَأَ مِنْ دَيْنِهِ، أَوْ
وَهَبَهُ لِمَدِينِهِ، أَوْ أَحَلَّهُ مِنْهُ، أَوْ أَسْقَطَهُ عَنْهُ،
أَوْ تَرَكَهُ لَهُ، أَوْ مَلَّكَهُ لَهُ، أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ،
أَوْ عَفَا عَنِ الدَّيْنِ، صَحَّ ذَلِكَ جَمِيعُهُ، وَكَانَ مُسْقِطًا
لِلدَّيْنِ. وَإِنَّمَا صَحَّ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ
وَالْعَطِيَّةِ، لأَِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عَيْنٌ مَوْجُودَةٌ
يَتَنَاوَلُهَا اللَّفْظُ انْصَرَفَ إِلَى مَعْنَى الإِْبْرَاءِ.
قَال الْحَارِثِيُّ: وَلِهَذَا لَوْ وَهَبَهُ دَيْنَهُ هِبَةً حَقِيقِيَّةً
لَمْ يَصِحَّ، لاِنْتِفَاءِ مَعْنَى الإِْسْقَاطِ وَانْتِفَاءِ شَرْطِ
الْهِبَةِ (2) .
وَكَمَا يَحْصُل الإِْسْقَاطُ بِالْقَوْل، فَإِنَّهُ يَحْصُل
بِالْكِتَابَةِ الْمُعَنْوَنَةِ الْمَرْسُومَةِ، وَبِالإِْشَارَةِ
الْمُفْهِمَةِ مِنْ فَاقِدِ النُّطْقِ (3) .
كَذَلِكَ قَدْ يَحْصُل الإِْسْقَاطُ بِالسُّكُوتِ، كَمَا إِذَا عَلِمَ
الشَّفِيعُ بِبَيْعِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ، وَسَكَتَ مَعَ إِمْكَانِ
الطَّلَبِ، فَإِنَّ سُكُوتَهُ يُسْقِطُ حَقَّهُ فِي طَلَبِ الشُّفْعَةِ.
(4)
__________
(1) المغني 5 / 659، والمهذب 2 / 60، 61، والكافي لابن عبد البر 2 / 881،
والأشباه لابن نجيم ص 316 - 318، 343.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 521.
(3) ابن عابدين 4 / 456، والمغني 6 / 102، 7 / 238، وجواهر الإكليل 2 /
317، وأشباه السيوطي ص 247.
(4) البدائع 7 / 193، وأشباه ابن نجيم ص 155، والاختيار 4 / 37.
(4/229)
وَيَحْصُل الإِْسْقَاطُ أَيْضًا نَتِيجَةَ
فِعْلٍ يَصْدُرُ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ، كَمَنْ يَشْتَرِي بِشَرْطِ
الْخِيَارِ، ثُمَّ يَتَصَرَّفُ فِي الْمَبِيعِ بِوَقْفٍ أَوْ بَيْعٍ فِي
زَمَنِ الْخِيَارِ، فَإِنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ يُعْتَبَرُ إِسْقَاطًا
لِحَقِّهِ فِي الْخِيَارِ. (1)
الْقَبُول:
12 - الأَْصْل فِي الإِْسْقَاطِ أَنْ يَتِمَّ بِإِرَادَةِ الْمُسْقِطِ
وَحْدَهُ، لأَِنَّ جَائِزَ التَّصَرُّفِ لاَ يُمْنَعُ مِنْ إِسْقَاطِ
حَقِّهِ، مَا دَامَ لَمْ يَمَسَّ حَقَّ غَيْرِهِ. (2)
وَمِنْ هُنَا فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ يَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الإِْسْقَاطَ
الْمَحْضَ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَاَلَّذِي لَمْ
يُقَابَل بِعِوَضٍ، يَتِمُّ بِصُدُورِ مَا يُحَقِّقُ مَعْنَاهُ مِنْ
قَوْلٍ، أَوْ مَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ دُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى قَبُول
الطَّرَفِ الآْخَرِ، كَالطَّلاَقِ، فَلاَ يَحْتَاجُ الطَّلاَقُ إِلَى
قَبُولٍ. (3)
13 - وَيَتَّفِقُونَ كَذَلِكَ عَلَى أَنَّ الإِْسْقَاطَ الَّذِي يُقَابَل
بِعِوَضٍ يَتَوَقَّفُ نَفَاذُهُ عَلَى قَبُول الطَّرَفِ الآْخَرِ فِي
الْجُمْلَةِ، كَالطَّلاَقِ عَلَى مَالٍ (4) ، لأَِنَّ الإِْسْقَاطَ
حِينَئِذٍ يَكُونُ مُعَاوَضَةً، فَيَتَوَقَّفُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ عَلَى
قَبُول دَفْعِ الْعِوَضِ مِنَ الطَّرَفِ الآْخَرِ، إِذِ الْمُعَاوَضَةُ لاَ
تَتِمُّ إِلاَّ بِرِضَى الطَّرَفَيْنِ.
وَقَدْ أَلْحَقَ الْحَنَفِيَّةُ بِهَذَا الْقِسْمِ الصُّلْحَ عَلَى دَمِ
الْعَمْدِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَى الْجَانِي،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 171.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 260.
(3) تكملة ابن عابدين 2 / 142، والاختيار 4 / 17، وجواهر الإكليل 2 / 299،
والمهذب 2 / 78، ومنتهى الإرادات 3 / 128.
(4) شرح منتهى الإرادات 3 / 113، 114، وجواهر الإكليل 1 / 330، والاختيار 3
/ 157، والمهذب 2 / 73.
(4/230)
بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ
بِإِحْسَانٍ} (1) وَالْمُرَادُ بِهِ الصُّلْحُ. وَلأَِنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ
لِلْوَرَثَةِ يَجْرِي فِيهِ الإِْسْقَاطُ عَفْوًا، فَكَذَا تَعْوِيضًا،
لاِشْتِمَالِهِ عَلَى إِحْسَانِ الأَْوْلِيَاءِ وَإِحْيَاءِ الْقَاتِل،
فَيَجُوزُ بِالتَّرَاضِي. (2)
وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ هُوَ قَوْلٌ لِلإِْمَامِ مَالِكٍ
وَبَعْضِ أَصْحَابِهِ. (3)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ
لِلإِْمَامِ مَالِكٍ أَنَّ مَنْ لَهُ حَقُّ الْقِصَاصِ، إِذَا أَرَادَ
أَخْذَ الدِّيَةِ بَدَل الْقِصَاصِ، فَلَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ رِضَى
الْجَانِي، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ
فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} وَلِمَا رَوَى
أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَامَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: مَنْ قُتِل لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ
بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يُودَى، وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ. (4)
وَبِهَذَا قَال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَابْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءٌ
وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ (5) .
14 - وَيَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ الإِْسْقَاطُ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى
التَّمْلِيكِ، كَإِبْرَاءِ الْمَدِينِ مِنَ الدَّيْنِ. وَهَذَا النَّوْعُ
مِنَ الإِْسْقَاطِ هُوَ الَّذِي اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ عَلَى
أَسَاسِ مَا فِيهِ مِنْ جَانِبَيِ الإِْسْقَاطِ وَالتَّمْلِيكِ.
فَالْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ، وَالْحَنَابِلَةُ
وَأَشْهَبُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، نَظَرُوا إِلَى جَانِبِ الإِْسْقَاطِ
__________
(1) سورة البقرة / 178.
(2) الهداية 4 / 158، 167.
(3) الكافي لابن عبد البر 2 / 1100.
(4) حديث: " من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يودى، وإما أن يقاد "
أخرجه البخاري (12 / 205 - الفتح - ط السلفية) ومسلم (2 / 989 - ط الحلبي)
.
(5) المغني 7 / 751، والمهذب 2 / 189، والكافي لابن عبد البر 2 / 1100.
(4/230)
فِيهِ، فَلاَ يَتَوَقَّفُ تَمَامُهُ
عِنْدَهُمْ عَلَى الْقَبُول، لأَِنَّ جَائِزَ التَّصَرُّفِ لاَ يُمْنَعُ
مِنْ إِسْقَاطِ حَقِّهِ أَوْ بَعْضِهِ. وَلأَِنَّهُ إِسْقَاطُ حَقٍّ لَيْسَ
فِيهِ تَمْلِيكُ مَالٍ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْقَبُول، كَالْعِتْقِ
وَالطَّلاَقِ وَالشُّفْعَةِ. (1) بَل إِنَّ الْخَطِيبَ الشِّرْبِينِيَّ
قَال: لاَ يُشْتَرَطُ الْقَبُول عَلَى الْمَذْهَبِ، سَوَاءٌ قُلْنَا:
الإِْبْرَاءُ تَمْلِيكٌ أَوْ إِسْقَاطٌ. (2)
وَيَسْتَوِي عِنْدَ هَؤُلاَءِ الْفُقَهَاءِ التَّعْبِيرُ بِالإِْبْرَاءِ
أَوْ بِهِبَةِ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ، إِلاَّ مَا فَرَّقَ بِهِ بَعْضُ
الْحَنَفِيَّةِ مِنْ أَنَّ التَّعْبِيرَ بِالْهِبَةِ يَحْتَاجُ إِلَى
الْقَبُول. جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: هِبَةُ الدَّيْنِ مِنَ
الْكَفِيل لاَ تَتِمُّ بِدُونِ الْقَبُول، وَإِبْرَاؤُهُ يَتِمُّ بِدُونِ
قَبُولٍ. (3)
15 - وَلَمَّا كَانَ الإِْبْرَاءُ مِنْ بَدَل الصَّرْفِ وَرَأْسُ مَال
السَّلَمِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُول عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، مِمَّا
يُشْعِرُ بِالتَّعَارُضِ مَعَ رَأْيِهِمْ فِي عَدَمِ تَوَقُّفِ
الإِْبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ عَلَى الْقَبُول، فَقَدْ عَلَّلُوا ذَلِكَ
بِأَنَّ التَّوَقُّفَ عَلَى الْقَبُول فِيهِمَا لَيْسَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ
هِبَةُ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ، وَلَكِنْ لأَِنَّ الإِْبْرَاءَ فِيهِمَا
يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْعَقْدِ بِفَوَاتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ
بِالْعَقْدِ لِحَقِّ الشَّارِعِ، وَأَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ لاَ يَنْفَرِدُ
بِفَسْخِهِ، فَلِهَذَا تَوَقَّفَ عَلَى قَبُول الآْخَرِ. (4)
وَالأَْرْجَحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَعِنْدَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ
أَنَّ إِبْرَاءَ الْمَدِينِ مِنَ الدَّيْنِ يَتَوَقَّفُ تَمَامُهُ عَلَى
الْقَبُول،
__________
(1) تكملة ابن عابدين 2 / 142، 347، والمهذب 1 / 455، 2 / 60، والدسوقي 4 /
99، ومنح الجليل 4 / 86، وشرح منتهى الإرادات 2 / 521، والمغني 5 / 658.
(2) نهاية المحتاج 4 / 373.
(3) تكملة ابن عابدين 2 / 347، وأشباه ابن نجيم ص 264، والفتاوى الهندية 4
/ 384.
(4) تكملة ابن عابدين 2 / 347.
(4/231)
لأَِنَّ الإِْبْرَاءَ - عَلَى رَأْيِهِمْ -
نَقْلٌ لِلْمِلْكِ، فَهُوَ تَمْلِيكُ الْمَدِينِ مَا فِي ذِمَّتِهِ،
فَيَكُونُ مِنْ قَبِيل الْهِبَةِ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا الْقَبُول. (1)
وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُمْ هِيَ تَرَفُّعُ ذَوِي الْمُرُوءَاتِ
عَمَّا قَدْ يَحْدُثُ فِي الإِْبْرَاءِ مِنْ مِنَّةٍ، وَمَا قَدْ
يُصِيبُهُمْ مِنْ ضَرَرٍ بِذَلِكَ، لاَ سِيَّمَا مِنَ السَّفَلَةِ، فَكَانَ
لَهُمُ الرَّفْضُ شَرْعًا، نَفْيًا لِلضَّرَرِ الْحَاصِل مِنَ الْمِنَنِ
مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا، أَوْ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ. (2)
رَدُّ الإِْسْقَاطِ:
16 - لاَ يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ الإِْسْقَاطَاتِ الْمَحْضَةَ
الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَاَلَّتِي لَمْ تُقَابَل
بِعِوَضٍ، كَالْعِتْقِ وَالطَّلاَقِ وَالشُّفْعَةِ وَالْقِصَاصِ لاَ
تَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، لأَِنَّهَا لاَ تَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبُول،
وَبِالإِْسْقَاطِ يَسْقُطُ الْمِلْكُ وَالْحَقُّ، فَيَتَلاَشَى وَلاَ
يُؤَثِّرُ فِيهِ الرَّدُّ، وَالسَّاقِطُ لاَ يَعُودُ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.
وَلاَ يَخْتَلِفُونَ كَذَلِكَ فِي أَنَّ الإِْسْقَاطَاتِ الَّتِي تُقَابَل
بِعِوَضٍ، كَالطَّلاَقِ وَالْعِتْقِ عَلَى مَالٍ، تَرْتَدُّ بِالرَّدِّ مَا
لَمْ يَسْبِقْ قَبُولٌ أَوْ طَلَبٌ. (3)
17 - أَمَّا مَا فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ كَالإِْبْرَاءِ مِنَ
الدَّيْنِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي الرَّاجِحِ
عِنْدَهُمْ، وَهُوَ رَأْيُ
__________
(1) الدسوقي 4 / 99، والفروق للقرافي 2 / 110، والمهذب 1 / 455، وشرح الروض
2 / 195.
(2) الفروق 2 / 110، وشرح الروض 2 / 95، ومنح الجليل 4 / 86، 88، والدسوقي
4 / 99، والمهذب 1 / 454، 455 و 2 / 73، ويلاحظ أن هذه الحكمة علل بها
الحنفية أيضا ارتداد الإبراء بالرد، كما سيأتي (البدائع 5 / 203) .
(3) لاختيار 3 / 121، 157، 4 / 17، وشرح منتهى الإرادات 3 / 107، 108 و 2 /
676، والمهذب 2 / 73، وجواهر الإكليل 1 / 330، 2 / 299، والمغني 5 / 658.
(4/231)
بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، أَنَّهُ يَرْتَدُّ
بِالرَّدِّ، نَظَرًا لِجَانِبِ التَّمْلِيكِ فِيهِ، وَلِمَا قَدْ
يَتَرَتَّبُ عَلَى عَدَمِ قَابِلِيَّتِهِ لِلرَّدِّ مِنْ ضَرَرِ الْمِنَّةِ
الَّتِي يَتَرَفَّعُ عَنْهَا ذَوُو الْمُرُوءَاتِ.
18 - هَذَا مَعَ اسْتِثْنَاءِ الْحَنَفِيَّةِ لِبَعْضِ الْمَسَائِل الَّتِي
لاَ يَرْتَدُّ فِيهَا الإِْبْرَاءُ بِالرَّدِّ وَهِيَ:
أ - إِذَا أَبْرَأَ الْمُحَال الْمُحَال عَلَيْهِ فَلاَ يَرْتَدُّ
بِرَدِّهِ.
ب - إِذَا أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْكَفِيل فَالأَْرْجَحُ أَنَّهُ لاَ
يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، وَقِيل يَرْتَدُّ.
ج - إِذَا طَلَبَ الْمَدِينُ الإِْبْرَاءَ فَأَبْرَأَهُ الدَّائِنُ فَلاَ
يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ.
د - إِذَا قَبِل الْمَدِينُ الإِْبْرَاءَ ثُمَّ رَدَّهُ لاَ يَرْتَدُّ.
وَهَذِهِ الْمَسَائِل فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَتْ خُرُوجًا عَلَى الأَْصْل
الَّذِي سَارَ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، ذَلِكَ أَنَّ الْحَوَالَةَ
وَالْكَفَالَةَ مِنَ الإِْسْقَاطَاتِ الْمَحْضَةِ، لأَِنَّ الْوَاجِبَ هُوَ
حَقُّ الْمُطَالَبَةِ وَلَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكُ مَالٍ.
وَأَمَّا الْقَبُول إِذَا تَمَّ فَلاَ مَعْنَى لِلرَّدِّ بَعْدَهُ،
وَكَذَلِكَ طَلَبُ الْمَدِينِ الْبَرَاءَةَ يُعْتَبَرُ قَبُولاً.
19 - وَمَعَ اتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ الإِْبْرَاءَ يَرْتَدُّ
بِالرَّدِّ إِلاَّ أَنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ مِنْ حَيْثُ تَقْيِيدُ الرَّدِّ
بِمَجْلِسِ الإِْبْرَاءِ وَعَدَمُ تَقْيِيدِهِ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ:
هُمَا قَوْلاَنِ. وَفِي الْفَتَاوَى الصَّيْرَفِيَّةِ: لَوْ لَمْ يَقْبَل
وَلَمْ يَرُدَّ حَتَّى افْتَرَقَا، ثُمَّ بَعْدَ أَيَّامٍ رَدَّ لاَ
يَرْتَدُّ فِي الصَّحِيحِ. (1)
__________
(1) تكملة ابن عابدين 2 / 347، وابن عابدين 4 / 456، والهندية 4 / 384،
والبدائع 5 / 203، وشرح الروض 2 / 195، والمهذب 1 / 455، 459، ومنح الجليل
4 / 86، والدسوقي 4 / 99، والفروق 2 / 110.
(4/232)
التَّعْلِيقُ وَالتَّقْيِيدُ
وَالإِْضَافَةُ فِي الإِْسْقَاطَاتِ:
20 - التَّعْلِيقُ هُوَ رَبْطُ وُجُودِ الشَّيْءِ بِوُجُودِ غَيْرِهِ،
وَيُسْتَعْمَل فِيهِ لَفْظُ أَدَاةِ الشَّرْطِ صَرِيحًا، كَإِنْ وَإِذَا،
وَانْعِقَادُ الْحُكْمِ فِيهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى حُصُول الشَّرْطِ.
21 - وَالتَّقْيِيدُ بِالشُّرُوطِ مَا جُزِمَ فِيهِ بِالأَْصْل، وَشُرِطَ
فِيهِ أَمْرٌ آخَرُ، وَلاَ يُسْتَعْمَل فِيهِ لَفْظُ أَدَاةِ الشَّرْطِ
صَرِيحًا.
22 - أَمَّا الإِْضَافَةُ فَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ لاَ تَمْنَعُ سَبَبِيَّةَ
اللَّفْظِ لِلْحُكْمِ إِلاَّ أَنَّهَا تَجْعَل الْحُكْمَ يَتَأَخَّرُ
الْبَدْءُ بِهِ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ يُحَدِّدُهُ الْمُتَصَرِّفُ (1)
.
وَبَيَانُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلإِْسْقَاطَاتِ هُوَ:
أَوَّلاً: تَعْلِيقُ الإِْسْقَاطِ عَلَى الشَّرْطِ:
23 - يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ تَعْلِيقُ الإِْسْقَاطَاتِ عَلَى
الشَّرْطِ الْكَائِنِ بِالْفِعْل (أَيِ الْمَوْجُودِ حَالَةَ الإِْسْقَاطِ)
، لأَِنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُنْجَزِ، كَقَوْل الدَّائِنِ لِغَرِيمِهِ: إِنْ
كَانَ لِي عَلَيْكَ دَيْنٌ فَقَدْ أَبْرَأْتُكَ، وَكَقَوْل الرَّجُل
لاِمْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ كَانَتِ السَّمَاءُ فَوْقَنَا
وَالأَْرْضُ تَحْتَنَا، وَكَمَنْ قَال لآِخَرَ: بَاعَنِي فُلاَنٌ دَارَكَ
بِكَذَا، فَقَال: إِنْ كَانَ كَذَا فَقَدْ أَجَزْتُهُ، وَإِنْ كَانَ
فُلاَنٌ اشْتَرَى هَذَا الشِّقْصَ بِكَذَا فَقَدْ أَسْقَطْتُ الشُّفْعَةَ.
كَذَلِكَ يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ التَّعْلِيقُ عَلَى مَوْتِ
الْمُسْقِطِ، وَيُعْتَبَرُ وَصِيَّةً، كَقَوْلِهِ لِمَدِينِهِ: إِذَا مِتَّ
فَأَنْتَ بَرِيءٌ (2) .
__________
(1) تكملة فتح القدير والعناية بهامشه 7 / 398، والزيلعي والشلبي عليه 5 /
244، وحاشية ابن عابدين 4 / 222، 233.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 223 - 226، والتكملة لابن عابدين 2 / 345، وشرح
منتهى الإرادات 2 / 521، 675، والمغني 4 / 359 ط الرياض، ونهاية المحتاج 4
/ 428، ومنح الجليل 4 / 590، 653، وفتح العلي المالك 1 / 307.
(4/232)
وَهَذَا فِيمَا عَدَا مَنْ عَلَّقَ طَلاَقَ
زَوْجَتِهِ عَلَى مَوْتِهِ، إِذْ فِيهِ الاِخْتِلاَفُ بَيْنَ تَنْجِيزِ
الطَّلاَقِ وَبَيْنَ عَدَمِ وُقُوعِهِ (1) .
أَمَّا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ فَيُمْكِنُ تَقْسِيمُ
الإِْسْقَاطَاتِ بِالنِّسْبَةِ لَهَا فِي الْجُمْلَةِ إِلَى الآْتِي:
24 - (أ) إِسْقَاطَاتٌ مَحْضَةٌ لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَلَمْ
تُقَابَل بِعِوَضٍ. وَهَذِهِ يَجُوزُ فِي الْجُمْلَةِ تَعْلِيقُهَا عَلَى
الشَّرْطِ، غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَضَعُوا هُنَا ضَابِطًا
فَقَالُوا: إِنْ كَانَتِ الإِْسْقَاطَاتُ مِمَّا يُحْلَفُ بِهَا،
كَالطَّلاَقِ وَالْعِتْقِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ
مُلاَئِمًا أَمْ غَيْرَ مُلاَئِمٍ. وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لاَ يُحْلَفُ
بِهَا، كَالإِْذْنِ فِي التِّجَارَةِ وَتَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ، فَإِنَّهُ
يَجُوزُ تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ الْمُلاَئِمِ فَقَطْ، وَهُوَ مَا
يُؤَكِّدُ مُوجَبَ الْعَقْدِ. وَيُعَبِّرُ الْحَنَفِيَّةُ أَحْيَانًا
بِالشَّرْطِ الْمُتَعَارَفِ. وَيَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا وَاحِدٌ،
فَفِي ابْنِ عَابِدِينَ: وَفِي الْبَحْرِ عَنِ الْمِعْرَاجِ: غَيْرُ
الْمُلاَئِمِ هُوَ مَا لاَ مَنْفَعَةَ فِيهِ لِلطَّالِبِ أَصْلاً، كَدُخُول
الدَّارِ وَمَجِيءِ الْغَدِ، لأَِنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ. وَفِي فَتْحِ
الْقَدِيرِ - بَعْدَ الْكَلاَمِ عَنِ اخْتِلاَفِ الرِّوَايَاتِ فِي جَوَازِ
تَعْلِيقِ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْكَفَالَةِ بِالشَّرْطِ - قَال: وَجْهُ
اخْتِلاَفِ الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ إِنَّمَا هُوَ إِذَا
كَانَ الشَّرْطُ مَحْضًا لاَ مَنْفَعَةَ فِيهِ أَصْلاً، لأَِنَّهُ غَيْرُ
مُتَعَارَفٍ بَيْنَ النَّاسِ، كَمَا لاَ يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْكَفَالَةِ
بِشَرْطٍ لَيْسَ لِلنَّاسِ فِيهِ تَعَامُلٌ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ بِشَرْطٍ
فِيهِ نَفْعٌ لِلطَّالِبِ، وَلَهُ تَعَامُلٌ، فَتَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ
بِهِ صَحِيحٌ (2) .
__________
(1) منح الجليل 2 / 250، والمهذب 2 / 97، والمغني 7 / 270.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 223، 233، 277، 480، والتكملة 2 / 345، وفتح
القدير 6 / 311.
(4/233)
وَلَمْ يَتَعَرَّضْ غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ
لِهَذَا التَّقْسِيمِ، وَاَلَّذِي يَبْدُو مِمَّا ذَكَرُوهُ أَنَّهُ
يَجُوزُ عِنْدَهُمْ تَعْلِيقُ الإِْسْقَاطَاتِ الْمَحْضَةِ عَلَى الشَّرْطِ
مُطْلَقًا، دُونَ تَفْرِيقٍ بَيْنَ مَا يُحْلَفُ بِهِ وَمَا لاَ يُحْلَفُ
بِهِ، وَيَدُل لِذَلِكَ الضَّابِطُ الَّذِي وَضَعَهُ الشَّافِعِيَّةُ
وَهُوَ: مَا كَانَ تَمْلِيكًا مَحْضًا لاَ مَدْخَل لِلتَّعْلِيقِ فِيهِ
قَطْعًا كَالْبَيْعِ، وَمَا كَانَ حِلًّا مَحْضًا، يَدْخُلُهُ التَّعْلِيقُ
قَطْعًا كَالْعِتْقِ، وَبَيْنَهُمَا مَرَاتِبُ يَجْرِي فِيهَا الْخِلاَفُ
كَالْفَسْخِ وَالإِْبْرَاءِ. (1)
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَإِنَّ الْمَسَائِل الَّتِي
ذَكَرُوا أَنَّهَا تَقْبَل التَّعْلِيقَ تُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى. وَقَدْ
وَرَدَ الْكَثِيرُ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِل فِي فَتَاوَى الشَّيْخِ
عُلَيْشٍ الْمَالِكِيِّ، وَمِنْهَا: إِذَا طَلَبَتِ الْحَاضِنَةُ
الاِنْتِقَال بِالأَْوْلاَدِ إِلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ، فَقَال الأَْبُ: إِنْ
فَعَلْتَ ذَلِكَ فَنَفَقَتُهُمْ وَكِسْوَتُهُمْ عَلَيْكَ، لَزِمَهَا
ذَلِكَ، لأَِنَّ لِلأَْبِ مَنْعَهَا مِنَ الْخُرُوجِ بِهِمْ إِلَى مَكَانٍ
بَعِيدٍ، فَأَسْقَطَ حَقَّهُ بِذَلِكَ. وَإِذَا قَال الشَّفِيعُ: إِنِ
اشْتَرَيْتَ ذَلِكَ الشِّقْصَ فَقَدْ سَلَّمْتُ لَكَ شُفْعَتِي عَلَى
دِينَارٍ تُعْطِينِي إِيَّاهُ، فَإِنْ لَمْ يَبِعْهُ مِنْكَ فَلاَ جُعْل
لِي عَلَيْكَ، جَازَ ذَلِكَ. (2)
25 - (ب) إِسْقَاطَاتٌ فِيهَا مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ، كَالْخُلْعِ
وَالْمُكَاتَبَةِ. (3) وَمَا يَلْحَقُ بِهِمَا مِنَ الطَّلاَقِ وَالْعِتْقِ
عَلَى مَالٍ.
فَالطَّلاَقُ عَلَى مَالٍ وَكَذَا الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ
__________
(1) المنثور في قواعد الزركشي 1 / 377، والأشباه للسيوطي ص 287.
(2) فتح العلي المالك 1 / 267، 307، وانظر شرح منتهى الإرادات 2 / 300،
308، 330.
(3) المكاتبة: اتفاق بين العبد ومالكه على عتقه بدفع مال محدد في أجل معين،
مع إطلاق يده خلاله في التصرف.
(4/233)
تَعْلِيقُهُمَا جَائِزٌ بِاتِّفَاقٍ،
لأَِنَّهُمَا إِسْقَاطٌ مَحْضٌ، وَالْمُعَاوَضَةُ فِيهِمَا مَعْدُولٌ بِهَا
عَنْ سَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ.
وَأَمَّا الْخُلْعُ فَقَدْ أَجَازَ تَعْلِيقَهُ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ، بِاعْتِبَارِهِ
طَلاَقًا، وَمَنَعَهُ الْحَنَابِلَةُ لِمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ.
وَأَمَّا الْمُكَاتَبَةُ فَقَدْ أَجَازَ تَعْلِيقَهَا بِالشَّرْطِ
الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَمَنَعَهَا الْحَنَابِلَةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ، جَاءَ فِي قَوَاعِدِ الزَّرْكَشِيِّ: الْمُعَاوَضَةُ
غَيْرُ الْمَحْضَةِ وَهِيَ الَّتِي يَكُونُ الْمَال فِيهَا مَقْصُودًا مِنْ
جَانِبٍ وَاحِدٍ (أَيْ كَالْمُكَاتَبَةِ) لاَ تَقْبَل التَّعْلِيقَ، إِلاَّ
فِي الْخُلْعِ مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ. (1)
26 - (ج) الإِْسْقَاطُ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، كَالإِْبْرَاءِ
مِنَ الدَّيْنِ. وَقَدْ أَجَازَ تَعْلِيقَهُ عَلَى الشَّرْطِ
الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ. غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَيَّدُوهُ
بِالشَّرْطِ الْمُلاَئِمِ أَوِ الْمُتَعَارَفِ عَلَى مَا سَبَقَ
تَفْسِيرُهُ. وَمَنَعَ تَعْلِيقَهُ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي
الأَْصَحِّ.
وَقَدِ اسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ ثَلاَثَ صُوَرٍ يَجُوزُ فِيهَا
التَّعْلِيقُ، وَهِيَ:
(1) لَوْ قَال: إِنْ رَدَدْتَ ضَالَّتِي فَقَدْ أَبْرَأْتُكَ عَنِ
الدَّيْنِ الَّذِي لِي عَلَيْكَ صَحَّ.
(2) تَعْلِيقُ الإِْبْرَاءِ ضِمْنًا، كَمَا إِذَا عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ،
ثُمَّ كَاتَبَهُ فَوُجِدَتِ الصِّفَةُ، عَتَقَ، وَتَضَمَّنَ ذَلِكَ
الإِْبْرَاءَ مِنَ النُّجُومِ (أَيِ الأَْقْسَاطِ) .
(3) الْبَرَاءَةُ الْمُعَلَّقَةُ بِمَوْتِ الْمُبَرِّئِ (2) ، وَقَدْ
سَبَقَ بَيَانُ ذَلِكَ.
__________
(1) البدائع 3 / 152، 4 / 137، وفتح القدير 4 / 164، ونهاية المحتاج 6 /
402، والمهذب 2 / 210، 212، وقليوبي 3 / 314، والمنثور 1 / 370، 2 / 403،
ومنتهى الإرادات 3 / 110، 113، 2 / 655، 675، والمغني 7 / 72، وجواهر
الإكليل 1 / 335، 336، 2 / 312، ومنح الجليل 4 / 628.
(2) ابن عابدين 4 / 225، 231، 480، وفتح العلي المالك 1 / 281، ومنتهى
الإرادات 2 / 521، والمغني 4 / 359، والمنثور 1 / 83، 84، 85، وأشباه
السيوطي ص 287، وقليوبي 3 / 310.
(4/234)
ثَانِيًا: تَقْيِيدُ الإِْسْقَاطِ
بِالشَّرْطِ:
27 - يَصِحُّ فِي الْجُمْلَةِ تَقْيِيدُ الإِْسْقَاطَاتِ بِالشُّرُوطِ،
فَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ صَحِيحًا لَزِمَ، وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ فَاسِدًا
فَلِكُل مَذْهَبٍ تَفْصِيلٌ فِي الْحُكْمِ عَلَى مَا يُعْتَبَرُ فَاسِدًا
مِنَ الشُّرُوطِ وَمَا لاَ يُعْتَبَرُ، وَهَل يَبْطُل التَّصَرُّفُ
بِفَسَادِ الشَّرْطِ، أَوْ يَبْطُل الشَّرْطُ وَيَصِحُّ التَّصَرُّفُ.
وَنَتْرُكُ التَّفَاصِيل لِمَوَاضِعِهَا.
لَكِنَّ الْحُكْمَ الْغَالِبَ فِي الإِْسْقَاطَاتِ أَنَّهَا لَوْ قُيِّدَتْ
بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ، صَحَّ وَبَطَل الشَّرْطُ.
وَيَتَبَيَّنُ هَذَا مِمَّا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنَ
الضَّوَابِطِ، وَمِنَ الْفُرُوعِ الَّتِي أَوْرَدَهَا غَيْرُهُمْ، وَفِيمَا
يَلِي بَيَانُ ذَلِكَ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: كُل مَا جَازَ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ يَجُوزُ
تَقْيِيدُهُ بِالشَّرْطِ، وَلاَ يَفْسُدُ بِالشَّرْطِ، الْفَاسِدِ.
وَقَالُوا أَيْضًا: مَا لَيْسَ مُبَادَلَةَ مَالٍ بِمَالٍ لاَ يَفْسُدُ
بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ. وَذَكَرَ صَاحِبُ الدُّرِّ وَابْنُ عَابِدِينَ
التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَصِحُّ وَلاَ تَفْسُدُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ،
وَمِنْهَا: الطَّلاَقُ وَالْخُلْعُ وَالْعِتْقُ وَالإِْيصَاءُ
وَالشَّرِكَةُ وَالْمُضَارَبَةُ وَالْكَفَالَةُ وَالْحَوَالَةُ
وَالْوَكَالَةُ وَالْكِتَابَةُ وَالإِْذْنُ فِي التِّجَارَةِ وَالصُّلْحُ
عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَالإِْبْرَاءُ عَنْهُ. (1)
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَلَمْ يَرْبِطُوا بَيْنَ
التَّعْلِيقِ وَالتَّقْيِيدِ، فَقَدْ ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفُرُوقِ
أَنَّ مَا يَقْبَل الشَّرْطَ وَالتَّعْلِيقَ: الطَّلاَقُ وَالْعِتْقُ،
وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ قَبُول التَّعْلِيقِ قَبُول الشَّرْطِ، وَلاَ مِنْ
قَبُول الشَّرْطِ قَبُول التَّعْلِيقِ، وَتُطْلَبُ الْمُنَاسَبَةُ فِي كُل
بَابٍ مِنْ
__________
(1) الدر وحاشية ابن عابدين 4 / 225، 227، 228، 232.
(4/234)
أَبْوَابِ الْفِقْهِ (1) . وَمِنَ
الأَْمْثِلَةِ الَّتِي وَرَدَتْ عِنْدَهُمْ: لَوْ خَالَعَتْ زَوْجَهَا
وَاشْتَرَطَتِ الرَّجْعَةَ، لَزِمَ الْخُلْعُ، وَبَطَل الشَّرْطُ (2) .
وَلَوْ صَالَحَ الْجَانِي وَلِيَّ الدَّمِ عَلَى شَيْءٍ بِشَرْطِ أَنْ
يَرْحَل مِنَ الْبَلَدِ، فَقَال ابْنُ كِنَانَةَ: الشَّرْطُ بَاطِلٌ
وَالصُّلْحُ جَائِزٌ، وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ: لاَ يَجُوزُ الصُّلْحُ،
وَقَال الْمُغِيرَةُ: الشَّرْطُ جَائِزٌ وَالصُّلْحُ لاَزِمٌ، وَكَانَ
سَحْنُونٌ يُعْجِبُهُ قَوْل الْمُغِيرَةِ (3) .
وَيَقُول الشَّافِعِيَّةُ: الشَّرْطُ الْفَاسِدُ قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ
بَعْضُ أَحْكَامِ الصَّحِيحِ، وَمِثْل ذَلِكَ فِي الإِْسْقَاطَاتِ
الْكِتَابَةُ وَالْخُلْعُ (4) .
وَمِمَّا قَالَهُ الْحَنَابِلَةُ فِي ذَلِكَ: إِذَا قُيِّدَ الْخُلْعُ
بِشَرْطٍ فَاسِدٍ صَحَّ الْخُلْعُ وَلَغَا الشَّرْطُ. وَفِي الْمُغْنِي:
الْعِتْقُ وَالطَّلاَقُ لاَ تُبْطِلُهُمَا الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ (5) .
ثَالِثًا: إِضَافَةُ الإِْسْقَاطِ إِلَى الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَل:
28 - مِنَ التَّصَرُّفَاتِ مَا يَظْهَرُ أَثَرُهَا وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا
الْحُكْمُ بِمُجَرَّدِ تَمَّامِ الصِّيغَةِ، وَلاَ تَقْبَل إِرْجَاءَ
حُكْمِهَا إِلَى زَمَنٍ آخَرَ كَالزَّوَاجِ وَالْبَيْعِ.
وَمِنَ التَّصَرُّفَاتِ مَا تَكُونُ طَبِيعَتُهَا تَمْنَعُ ظُهُورَ
أَثَرِهَا إِلاَّ فِي زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، كَالْوَصِيَّةِ.
وَمِنَ التَّصَرُّفَاتِ مَا يَقَعُ حُكْمُهُ مُنْجَزًا، كَالطَّلاَقِ
تَنْتَهِي بِهِ الزَّوْجِيَّةُ فِي الْحَال، وَيَصِحُّ أَنْ يُضَافَ إِلَى
زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ لاَ تَنْتَهِي الزَّوْجِيَّةُ إِلاَّ عِنْدَ
حُصُولِهِ.
__________
(1) الفروق 1 / 228.
(2) فتح العلي المالك 1 / 266، 338، 374.
(3) حاشية الدسوقي 4 / 263.
(4) المنثور في القواعد للزركشي 3 / 15، 2 / 409، 410.
(5) شرح منتهى الإرادات 3 / 110، والمغني 5 / 71، 72 ط الرياض.
(4/235)
وَإِضَافَةُ الطَّلاَقِ إِلَى الزَّمَنِ
الْمُسْتَقْبَل جَائِزٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ. (1) وَهُوَ مُنْجَزٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَلَوْ
أَضَافَهُ إِلَى الْمُسْتَقْبَل، لأَِنَّهُ بِهَذِهِ الإِْضَافَةِ أَشْبَهُ
بِنِكَاحِ الْمُتْعَةِ. (2) وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ فَإِنَّهُ إِسْقَاطٌ
يَقْبَل الإِْضَافَةَ.
وَمِمَّا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنَ الإِْسْقَاطَاتِ الَّتِي لاَ
تَقْبَل الإِْضَافَةَ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ: الإِْبْرَاءُ مِنَ
الدَّيْنِ وَإِسْقَاطُ الْقِصَاصِ. (3) وَالْحُكْمُ الْغَالِبُ أَنَّ
الإِْسْقَاطَاتِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ تَقْبَل
الإِْضَافَةَ إِلَى الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَل. هَذَا فِي الْجُمْلَةِ،
وَلِكُل مَذْهَبٍ تَفْصِيلٌ فِي كُل نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ
التَّصَرُّفَاتِ، وَيُنْظَرُ فِي مَوْضِعِهِ.
مَنْ يَمْلِكُ الإِْسْقَاطَ (الْمُسْقِطُ) :
29 - الإِْسْقَاطُ قَدْ يَكُونُ مِنْ قِبَل الشَّرْعِ أَسَاسًا،
كَإِسْقَاطِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يَكُونُ فِي مُبَاشَرَتِهَا مَشَقَّةٌ
وَحَرَجٌ عَلَى الْمُكَلَّفِ، وَكَإِسْقَاطِ الْعُقُوبَاتِ الَّتِي تَرِدُ
عَلَيْهَا شُبْهَةٌ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ.
وَقَدْ يَكُونُ الإِْسْقَاطُ مِنْ قِبَل الْعِبَادِ نَتِيجَةً لأَِمْرِ
الشَّارِعِ، إِمَّا عَلَى سَبِيل الْوُجُوبِ كَالْعِتْقِ فِي
الْكَفَّارَاتِ، وَإِمَّا عَلَى سَبِيل النَّدْبِ كَإِبْرَاءِ الْمُعْسِرِ
مِنَ الدَّيْنِ، وَكَالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ.
وَقَدْ يَكُونُ الإِْسْقَاطُ مِنَ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ
لأَِسْبَابٍ خَاصَّةٍ، كَإِسْقَاطِ حَقِّ الشُّفْعَةِ لِعَدَمِ الرَّغْبَةِ
فِي الشِّرَاءِ. عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي الْحُكْمِ
التَّكْلِيفِيِّ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 233، والمهذب 2 / 95، وشرح منتهى الإرادات 3 /
146، 148.
(2) الكافي لابن عبد البر 2 / 577.
(3) ابن عابدين 4 / 233 - 234، والمهذب 1 / 357، والمغني 5 / 94، والخرشي 4
/ 289.
(4/235)
مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُسْقِطِ:
30 - الإِْسْقَاطُ مِنَ الْعِبَادِ يُعْتَبَرُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ
الَّتِي يَتَنَازَل فِيهَا الإِْنْسَانُ عَنْ حَقِّهِ، فَهُوَ فِي
حَقِيقَتِهِ تَبَرُّعٌ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا التَّصَرُّفُ قَدْ يَعُودُ
عَلَى الْمُسْقِطِ بِالضَّرَرِ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ أَهْلِيَّتُهُ
لِلتَّبَرُّعِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلاً. فَلاَ يَصِحُّ
الإِْسْقَاطُ مِنَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ،
لأَِنَّ الْحَنَابِلَةَ يَقُولُونَ بِصِحَّةِ الْخُلْعِ مِنَ الصَّغِيرِ
الَّذِي يَعْقِلُهُ، (1) لأَِنَّ فِيهِ تَحْصِيل عِوَضٍ لَهُ.
وَيُشْتَرَطُ كَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ
أَوْ دَيْنٍ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلتَّبَرُّعَاتِ، لأَِنَّهُ يَجُوزُ
أَنْ يُطَلِّقَ وَأَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ وَأَنْ يُخَالِعَ، لَكِنْ
لاَ يُدْفَعُ إِلَيْهِ الْمَال، وَلِذَلِكَ لاَ يَصِحُّ الْخُلْعُ مِنَ
الزَّوْجَةِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهَا لِسَفَهٍ أَوْ صِغَرٍ، مَعَ
مُلاَحَظَةِ أَنَّهُ لاَ يُحْجَرُ عَلَى السَّفِيهِ، وَلاَ عَلَى
الْمَدِينِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (2) . ر: (حَجْر، وَسَفَه،
وَأَهْلِيَّة) .
وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ ذَا إِرَادَةٍ، فَلاَ يَصِحُّ إِسْقَاطُ
الْمُكْرَهِ، إِلاَّ مَا قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ صِحَّةِ الطَّلاَقِ
وَالْعِتْقِ مِنَ الْمُكْرَهِ (3) . وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ بَيْنَ
الإِْكْرَاهِ الْمُلْجِئِ وَغَيْرِ الْمُلْجِئِ. وَيُنْظَرُ فِي
(إِكْرَاهٌ) .
وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِي حَال الصِّحَّةِ، إِذَا كَانَ
__________
(1) الهداية 3 / 280، وجواهر الإكليل 1 / 339، ومنح الجليل 3 / 169،
والمهذب 2 / 78، ومنتهى الإرادات 3 / 75، 107، والبدائع 6 / 40، 7 / 246،
والمغني 6 / 730.
(2) المهذب 1 / 339، 370، 2 / 72، ومنتهى الإرادات 3 / 107، 108، 109،
وجواهر الإكليل 2 / 88، 89، ومنح الجليل 2 / 183، والهداية 3 / 281، 285.
(3) الهداية 3 / 278، ومنتهى الإرادات 3 / 120، وجواهر الإكليل 2 / 100،
والبدائع 7 / 189.
(4/236)
إِسْقَاطُهُ لِكُل مَالِهِ أَوْ أَكْثَرَ
مِنَ الثُّلُثِ، فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا مَرَضَ الْمَوْتِ وَقْتَ
الإِْسْقَاطِ فَتَصَرُّفُهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لِلأَْجْنَبِيِّ،
أَوْ بِأَقَل لِلْوَارِثِ، يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ. ر:
(وَصِيَّة) .
وَإِذَا كَانَ الْمَرِيضُ مَدِينًا وَالتَّرِكَةُ مُسْتَغْرَقَةٌ
بِالدُّيُونِ فَلاَ يَصِحُّ مِنْهُ الإِْبْرَاءُ، لِتَعَلُّقِ حَقِّ
الْغُرَمَاءِ. (1)
وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ. وَفِي
تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ خِلاَفٌ بَيْنَ مَنْ يُجِيزُهُ مَوْقُوفًا عَلَى
إِجَازَةِ الْمَالِكِ، وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَبَيْنَ
مَنْ لاَ يُجِيزُهُ وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ. (2) وَفِي
ذَلِكَ تَفْصِيلٌ مَوْضِعُهُ مُصْطَلَحُ (فُضُولِيّ) .
وَقَدْ يَكُونُ مَلَكَ التَّصَرُّفَ بِالْوَكَالَةِ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ
أَنْ يَقْتَصِرَ التَّصَرُّفُ عَلَى الْمَأْذُونِ بِهِ لِلْوَكِيل. وَعَلَى
الْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ التَّوْكِيل بِالْخُلْعِ، وَبِالإِْعْتَاقِ
عَلَى مَالٍ، وَبِالصُّلْحِ عَلَى الإِْنْكَارِ، وَفِي إِبْرَاءٍ مِنَ
الدَّيْنِ وَلَوْ لِلْوَكِيل، إِذَا عَيَّنَهُ الْمُوَكِّل وَقَال لَهُ:
أَبْرِئْ نَفْسَكَ. وَيُرَاعَى فِي كُل ذَلِكَ مَا يُشْتَرَطُ فِي
الْمُوَكِّل وَالْوَكِيل وَمَا أُذِنَ فِيهِ. (3) وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ
فِي (وَكَالَة) .
وَقَدْ يَكُونُ مَلَكَ التَّصَرُّفَ بِالْوِلاَيَةِ الشَّرْعِيَّةِ
كَالْوَلِيِّ وَالْوَصِيِّ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ يَقْتَصِرَ
تَصَرُّفُهُمَا عَلَى مَا فِيهِ الْحَظُّ لِلصَّغِيرِ وَالْمُوَلَّى
عَلَيْهِ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ التَّبَرُّعُ وَلاَ إِسْقَاطُ الْمَهْرِ
وَلاَ الْعَفْوُ عَلَى غَيْرِ مَالٍ وَلاَ
__________
(1) البدائع 7 / 228، 370، وابن عابدين 4 / 462، والخرشي 6 / 99، ومنتهى
الإرادات 3 / 291.
(2) البدائع 6 / 52، 5 / 149.
(3) البدائع 7 / 23 - 28، ومنتهى الإرادات 2 / 302، 303.
(4/236)
تَرْكُ الشُّفْعَةِ إِذَا كَانَ فِي
التَّرْكِ ضَرَرٌ. (1) وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ (ر: وِصَايَة وِلاَيَة) .
الْمُسْقَطُ عَنْهُ:
31 - الْمُسْقَطُ عَنْهُ هُوَ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ الْحَقُّ أَوْ تَقَرَّرَ
قِبَلَهُ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا فِي الْجُمْلَةِ.
هَذَا، وَأَغْلَبُ الإِْسْقَاطَاتِ يَكُونُ الْمُسْقَطُ عَنْهُ أَوْ لَهُ
مَعْرُوفًا، كَمَا فِي الشُّفْعَةِ وَالْقِصَاصِ وَالْخِيَارِ وَمَا
شَابَهُ ذَلِكَ.
وَإِنَّمَا نَتَصَوَّرُ الْجَهَالَةَ فِي إِبْرَاءِ الْمَدِينِ وَفِي
الإِْعْتَاقِ وَالطَّلاَقِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
أَمَّا الإِْبْرَاءُ مِنَ الدَّيْنِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ
الْمُبَرَّأُ مَعْلُومًا، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ. وَلِذَلِكَ لَوْ قَال:
أَبْرَأْتُ شَخْصًا أَوْ رَجُلاً مِمَّا لِي قِبَلَهُ لاَ يَصِحُّ.
وَمِثْلُهُ مَا لَوْ قَال: أَبْرَأْتُ أَحَدَ غَرِيمَيَّ، أَمَّا لَوْ
قَال: أَبْرَأْتُ أَهَالِي الْمَحَلَّةِ الْفُلاَنِيَّةِ، وَكَانَ أَهْل
تِلْكَ الْمَحَلَّةِ مُعَيَّنِينَ، وَعِبَارَةً عَنْ أَشْخَاصٍ
مَعْدُودِينَ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ الإِْبْرَاءُ. (2)
كَذَلِكَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الإِْبْرَاءُ لِمَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ،
فَلَوْ أُبْرِئَ غَيْرُ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ لاَ يَصِحُّ، وَمِثَال
ذَلِكَ: إِذَا أُبْرِئَ قَاتِلٌ مِنْ دِيَةٍ وَاجِبَةٍ عَلَى عَاقِلَتِهِ،
فَلاَ يَصِحُّ الإِْبْرَاءُ فِي ذَلِكَ، لِوُقُوعِهِ عَلَى غَيْرِ مَنْ
عَلَيْهِ الْحَقُّ. أَمَّا لَوْ أُبْرِئَتْ عَاقِلَةُ الْقَاتِل، أَوْ قَال
الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ: عَفَوْتُ عَنْ هَذِهِ الْجِنَايَةِ، وَلَمْ يُسَمِّ
__________
(1) البدائع 7 / 246، ومنتهى الإرادات 2 / 260، 291، 3 / 74، والمهذب 1 /
336، وجواهر الإكليل 2 / 100، والمغني 6 / 730.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 470، والتكملة 2 / 144، والخرشي 6 / 99، والدسوقي
3 / 411، ونهاية المحتاج 4 / 428، والمنثور في القواعد 1 / 81، وشرح منتهى
الإرادات 2 / 521، 522.
(4/237)
الْمُبَرَّأَ مِنْ قَاتِلٍ أَوْ عَاقِلَةٍ
صَحَّ الإِْبْرَاءُ، لاِنْصِرَافِهِ إِلَى مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ. (1)
وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي الإِْبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ أَنْ يَكُونَ
الْمُبَرَّأُ مُقِرًّا بِالْحَقِّ، حَيْثُ يَجُوزُ الإِْبْرَاءُ مِنَ
الإِْنْكَارِ. وَمِثْل ذَلِكَ يُقَال فِي غَيْرِ الدَّيْنِ مِمَّا يَصِحُّ
إِسْقَاطُهُ. (2)
وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلطَّلاَقِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ مَعَ الإِْبْهَامِ،
لَكِنْ لاَ بُدَّ مِنَ التَّعْيِينِ، فَمَنْ قَال لِزَوْجَتَيْهِ:
إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ، فَإِنَّ الطَّلاَقَ يَقَعُ، وَلَكِنَّهُ يَلْزَمُ
بِتَعْيِينِ الْمُطَلَّقَةِ. وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ، أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَالْمَشْهُورُ
أَنَّهُمَا تُطَلَّقَانِ، وَهُوَ قَوْل الْمِصْرِيِّينَ، وَقَال
الْمَدَنِيُّونَ: يَخْتَارُ وَاحِدَةً لِلطَّلاَقِ. وَعِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ: يَقْرَعُ بَيْنَهُمَا إِنْ لَمْ يَكُنْ نَوَى وَاحِدَةً
بِعَيْنِهَا. (3)
مَحَل الإِْسْقَاطِ:
32 - الْمَحَل الَّذِي يَجْرِي عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ يُسَمَّى حَقًّا،
وَهُوَ بِهَذَا الإِْطْلاَقِ الْعَامِّ يَشْمَل الأَْعْيَانَ،
وَمَنَافِعَهَا، وَالدُّيُونَ، وَالْحُقُوقَ الْمُطْلَقَةَ. (4)
وَكُل مَنْ مَلَكَ حَقًّا مِنْ هَذِهِ الْحُقُوقِ - بِهَذَا الإِْطْلاَقِ
الْعَامِّ - يُصْبِحُ لَهُ بِحُكْمِ الْمِلْكِ وِلاَيَةُ التَّصَرُّفِ
فِيهِ بِاخْتِيَارِهِ، لَيْسَ لأَِحَدٍ وِلاَيَةُ الْجَبْرِ عَلَيْهِ
إِلاَّ لِضَرُورَةٍ أَوْ لِمَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ، وَلاَ لأَِحَدٍ وِلاَيَةُ
الْمَنْعِ عَنْهُ إِلاَّ إِذَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ، فَيُمْنَعُ
عَنِ التَّصَرُّفِ
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 3 / 291.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 265.
(3) الاختيار 3 / 145، 4 / 27، والمهذب 2 / 5، 101، ومنح الجليل 2 / 274،
وجواهر الإكليل 1 / 355، والمغني 7 / 251، ومنتهى الإرادات 3 / 180.
(4) البدائع 7 / 223، والدسوقي 3 / 416، والمغني 9 / 237، والمنثور في
القواعد 2 / 67.
(4/237)
مِنْ غَيْرِ رِضَى صَاحِبِ الْحَقِّ. (1)
وَالإِْسْقَاطُ مِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ، إِلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ كُل
مَحَلٍّ قَابِلاً لِلإِْسْقَاطِ، بَل مِنْهُ مَا يَقْبَل الإِْسْقَاطَ
لِتَوَفُّرِ شُرُوطِهِ، وَمِنْهُ مَا لاَ يَقْبَلُهُ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ
شُرُوطِهِ، كَكَوْنِهِ مَجْهُولاً، أَوْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ لِلْغَيْرِ
وَهَكَذَا. وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
مَا يَقْبَل الإِْسْقَاطَ
أَوَّلاً - الدَّيْنُ:
33 - يَصِحُّ بِاتِّفَاقٍ إِسْقَاطُ الدَّيْنِ الثَّابِتِ فِي الذِّمَّةِ،
لأَِنَّهُ حَقٌّ، وَالْحُقُوقُ تَسْقُطُ بِالإِْسْقَاطِ، فَكُل مَنْ ثَبَتَ
لَهُ دَيْنٌ عَلَى غَيْرِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ثَمَنَ مَبِيعٍ، أَمْ كَانَ
مُسْلَمًا فِيهِ، أَمْ نَفَقَةً مَفْرُوضَةً مَاضِيَةً لِلزَّوْجَةِ، أَمْ
غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ إِسْقَاطُهُ. وَسَوَاءٌ أَكَانَ
الإِْسْقَاطُ خَاصًّا بِدَيْنٍ أَمْ عَامًّا لِكُل الدَّيْنِ، وَسَوَاءٌ
أَكَانَ مُطْلَقًا أَمْ مُعَلَّقًا أَمْ مُقَيَّدًا بِشَرْطٍ عَلَى مَا
سَبَقَ بَيَانُهُ. وَكَمَا يَجُوزُ الإِْبْرَاءُ عَنْ كُل الدَّيْنِ
فَإِنَّهُ يَجُوزُ الإِْبْرَاءُ عَنْ بَعْضِهِ. (2)
وَكَمَا يَصِحُّ إِسْقَاطُ الدَّيْنِ بِدُونِ عِوَضٍ، يَصِحُّ إِسْقَاطُهُ
نَظِيرَ عِوَضٍ، مَعَ الاِخْتِلاَفِ فِي الصُّورَةِ أَوِ الْكَيْفِيَّةِ
الَّتِي يَتِمُّ بِهَا ذَلِكَ، وَمِنْ هَذِهِ الصُّوَرِ:
أ - أَنْ يُعْطِيَ الْمَدِينُ الدَّائِنَ ثَوْبًا فِي مُقَابَلَةِ
إِبْرَائِهِ مِمَّا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، فَيَمْلِكُ الدَّائِنُ
الْعِوَضَ الْمَبْذُول لَهُ نَظِيرَ الإِْبْرَاءِ وَيُبَرَّأُ الْمَدِينُ،
وَذَلِكَ كَمَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ. (3)
__________
(1) البدائع 6 / 264.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 653، والبدائع 5 / 203، 214، و 6 / 44، والدسوقي
3 / 220، 310، والمغني 5 / 22، وشرح منتهى الإرادات 3 / 222، 223، 521،
والمهذب 1 / 455، وقليوبي 2 / 308، 4 / 368، والوجيز 1 / 177.
(3) الجمل على شرح المنهج 3 / 381، ونهاية المحتاج 4 / 429.
(4/238)
ب - يَقُول الْحَنَابِلَةُ: مَنْ وَجَبَتْ
عَلَيْهِ نَفَقَةُ امْرَأَتِهِ، وَكَانَ لَهُ عَلَيْهَا دَيْنٌ، فَأَرَادَ
أَنْ يَحْتَسِبَ عَلَيْهَا بِدَيْنِهِ مَكَانَ نَفَقَتِهَا، فَإِنْ كَانَتْ
مُوسِرَةً فَلَهُ ذَلِكَ، لأَِنَّ مَنْ عَلَيْهِ حَقٌّ فَلَهُ أَنْ
يَقْضِيَهُ مِنْ أَيِّ أَمْوَالِهِ شَاءَ، وَهَذَا مِنْ مَالِهِ.
وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ تُعْتَبَرُ مِنْ قَبِيل الْمُقَاصَّةِ،
وَالْمُقَاصَّةُ بِالتَّرَاضِي تُعْتَبَرُ إِسْقَاطًا بِعِوَضٍ مِنَ
الْجَانِبَيْنِ. (1) مَعَ مُرَاعَاةِ شُرُوطِهَا مِنَ اتِّحَادِ الدَّيْنِ
قَدْرًا وَوَصْفًا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ.
ج - كَذَلِكَ يَأْتِي إِسْقَاطُ الدَّيْنِ نَظِيرَ عِوَضِ صُورَةِ
الصُّلْحِ. وَقَدْ قَسَّمَ الْقَرَافِيُّ الإِْسْقَاطَ إِلَى قِسْمَيْنِ:
بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِهِ، وَجَعَل مِنَ الإِْسْقَاطِ بِعِوَضٍ الصُّلْحَ عَنَ
الدَّيْنِ. (2)
د - فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: إِذَا أَبْرَأَتِ الزَّوْجَةُ
زَوْجَهَا مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ لِيُطَلِّقَهَا، صَحَّ
الإِْبْرَاءُ، وَيَكُونُ بِعِوَضٍ، وَهُوَ أَنَّهُ مَلَّكَهَا نَفْسَهَا.
(3)
هـ - وَقَدْ يَأْتِي إِسْقَاطُ الدَّيْنِ بِعِوَضٍ فِي صُوَرِ
التَّعْلِيقِ، كَمَنْ قَال لِغَيْرِهِ: إِنْ أَعْطَيْتَنِي سَيَّارَتَكَ
أَسْقَطْتُ عَنْكَ الدَّيْنَ الَّذِي لِي عَلَيْكَ (4) .
و وَالإِْبْرَاءُ أَيْضًا فِي صُورَةِ الْخُلْعِ يُعْتَبَرُ مِنْ قَبِيل
الْعِوَضِ. (5)
__________
(1) المغني 7 / 576، 9 / 448، والأشباه لابن نجيم ص 266، ومنح الجليل 3 /
53، والمنثور في القواعد 1 / 392.
(2) الذخيرة ص 152 نشر وزارة الأوقاف بالكويت، والهداية 3 / 192، والبدائع
7 / 45، ونهاية المحتاج 4 / 371 - 373، وشرح منتهى الإرادات 2 / 263،
والمغني 4 / 527 - 536.
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 566.
(4) فتح العلي المالك 1 / 274.
(5) الجمل على شرح المنهج 3 / 381، وشرح منتهى الإرادات 3 / 112.
(4/238)
ثَانِيًا: الْعَيْنُ
34 - الأَْصْل أَنَّ الأَْعْيَانَ لاَ تَقْبَل الإِْسْقَاطَ، عَلَى مَا
سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِيمَا لاَ يَقْبَل الإِْسْقَاطَ، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ
التَّصَرُّفَاتِ تُعْتَبَرُ إِسْقَاطًا لِلْمِلْكِ. وَذَلِكَ كَالْعِتْقِ،
فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ إِسْقَاطًا لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ وَهِيَ عَيْنٌ.
وَالْعِتْقُ مَشْرُوعٌ بَل مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ شَرْعًا، وَقَدْ يَكُونُ
وَاجِبًا كَمَا فِي الْكَفَّارَاتِ. كَذَلِكَ الْوَقْفُ يُعْتَبَرُ
إِسْقَاطًا لِلْمِلْكِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، فَفِي قَوَاعِدِ
الْمُقْرِي: وَقْفُ الْمَسَاجِدِ إِسْقَاطُ مِلْكٍ إِجْمَاعًا، وَفِي
غَيْرِهَا قَوْلاَنِ. (1)
وَقَدْ يَأْتِي إِسْقَاطُ الْعَيْنِ نَظِيرَ عِوَضٍ عَمَّنْ عَقَدَ
الصُّلْحَ، وَالصُّلْحُ جَائِزٌ شَرْعًا لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ
صُلْحًا حَرَّمَ حَلاَلاً أَوْ أَحَل حَرَامًا. (2) وَسَوَاءٌ أَكَانَ عَنْ
إِقْرَارٍ، أَمْ عَنْ إِنْكَارٍ، أَمْ سُكُوتٍ، فَإِنْ كَانَ عَنْ
إِنْكَارٍ أَوْ سُكُوتٍ
__________
(1) منح الجليل 4 / 77، 78، والمغني 5 / 600، والهداية 3 / 13.
(2) حديث: " الصلح جائز. . . " أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث عمرو بن
عوف المزني مرفوعا. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، قال صاحب تحفة
الأحوذي: وفي تصحيح الترمذي هذا الحديث نظر، فإن في إسناده كثير بن عبد
الله بن عمرو بن عوف وهو ضعيف جدا. وله شاهد من حديث أبي هريرة عند أحمد
وأبي داود والحاكم، إلا أن اوسنن ابن ماجه بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 2 /
788 ط عيسى الحلبي، ومختصر سنن أبي داود للمنذري 5 / 213، 214 نشر دار
المعرفة، والمستدرك 2 / 49 نشر دار الكتاب العربي، ومسند أحمد بن حنبل 2 /
366، وشرح السنة للبغوي بتحقيق شعيب الأرناؤوط 8 / 209 نشر المكتب
الإسلامي، ونيل الأوطار 5 / 378، 379 ط دار الجيل الجديد) .
(4/239)
فَهُوَ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي مُعَاوَضَةُ
حَقِّهِ فِي زَعْمِهِ، وَهَذَا مَشْرُوعٌ، وَفِي حَقِّ الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ افْتِدَاءُ الْيَمِينِ وَدَفْعُ الْخُصُومَةِ وَهَذَا مَشْرُوعٌ.
بَل إِنَّ بَعْضَ الْحَنَابِلَةِ أَجَازَ الصُّلْحَ عَمَّا تَعَذَّرَ
عِلْمُهُ مِنْ دَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ بِمَالٍ لِئَلاَّ يُفْضِيَ إِلَى ضَيَاعِ
الْمَال.
وَيُلاَحَظُ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ لاَ يُجِيزُونَ الصُّلْحَ عَنْ
إِنْكَارٍ.
وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إِقْرَارٍ اُعْتُبِرَ كَالْبَيْعِ، إِنْ كَانَ
مُبَادَلَةَ مَالٍ بِمَالٍ، أَوْ كَالإِْجَارَةِ إِنْ كَانَ مُبَادَلَةَ
مَالٍ بِمَنْفَعَةٍ، أَوْ كَالْهِبَةِ إِنْ كَانَ عَلَى تَرْكِ بَعْضِ
الْعَيْنِ. (1) وَيُعْتَبَرُ فِي كُل حَالٍ شُرُوطُهَا. وَيُنْظَرُ
تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (صُلْح) .
ثَالِثًا: الْمَنْفَعَةُ:
35 - الْمَنَافِعُ حُقُوقٌ تَثْبُتُ لِمُسْتَحِقِّيهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ
نَتِيجَةَ مِلْكِ الْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا، أَمْ كَانَتْ نَتِيجَةَ
مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ دُونَ الرَّقَبَةِ (أَيِ الْعَيْنِ) بِمُقْتَضَى
عَقْدٍ، كَالإِْجَارَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْوَصِيَّةِ بِالْمَنْفَعَةِ،
أَوْ بِغَيْرِ عَقْدٍ، كَتَحْجِيرِ الْمَوَاتِ لإِِحْيَائِهِ،
وَالاِخْتِصَاصِ بِمَقَاعِدِ الأَْسْوَاقِ، وَمَا شَابَهُ ذَلِكَ.
وَالأَْصْل فِي الْمَنَافِعِ أَنَّهَا تَقْبَل الإِْسْقَاطَ بِإِسْقَاطِ
مَالِكِ الْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا أَوْ مُسْتَحِقِّ مَنْفَعَتِهَا،
إِذْ كُل جَائِزِ التَّصَرُّفِ لاَ يُمْنَعُ مِنْ إِسْقَاطِ حَقِّهِ، مَا
لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَانِعٌ مِنْ ذَلِكَ. (2) وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.
وَصُوَرُ ذَلِكَ
__________
(1) الهداية 3 / 192، 193، والبدائع 7 / 46، وابن عابدين 3 / 333، ومنح
الجليل 3 / 201، وجواهر الإكليل 2 / 102، ونهاية المحتاج 4 / 371 - 373،
والمهذب 1 / 340، وشرح منتهى الإرادات 2 / 263، والمغني 4 / 527 - 536،
546.
(2) البدائع 7 / 227، وشرح منتهى الإرادات 2 / 260، والمنثور في القواعد 3
/ 393.
(4/239)
كَثِيرَةٌ فِي مَسَائِل الْفِقْهِ وَمِنْ
أَمْثِلَتِهَا:
أ - مَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِسُكْنَى دَارِهِ، فَمَاتَ الْمُوصِي، وَبَاعَ
الْوَارِثُ الدَّارَ، وَرَضِيَ بِهِ الْمُوصَى لَهُ، جَازَ الْبَيْعُ
وَبَطَلَتْ سُكْنَاهُ. (1)
ب - مَنْ وَصَّى بِعَيْنِ دَارٍ لِزَيْدٍ، وَبِالْمَنْفَعَةِ لِعَمْرٍو،
فَأَسْقَطَ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ حَقَّهُ، سَقَطَ
بِالإِْسْقَاطِ. (2)
ج - مَنْ كَانَ لَهُ مَسِيل مَاءٍ فِي دَارِ غَيْرِهِ، فَقَال: أَبْطَلْتُ
حَقِّي فِي الْمَسِيل، فَإِنْ كَانَ لَهُ حَقُّ إِجْرَاءِ الْمَاءِ دُونَ
الرَّقَبَةِ بَطَل حَقُّهُ قِيَاسًا عَلَى حَقِّ السُّكْنَى. (3)
د - يَجُوزُ إِسْقَاطُ الْحَقِّ فِي الاِنْتِفَاعِ بِبُيُوتِ الْمَدَارِسِ
الْمَوْقُوفَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَسْقَطَهُ صَاحِبُهُ. فَإِنْ
أَسْقَطَهُ مُدَّةً مَخْصُوصَةً رَجَعَ إِلَيْهِ بَعْدَ انْتِهَائِهَا،
وَإِنْ أَطْلَقَ فِي الإِْسْقَاطِ فَلاَ يَعُودُ لَهُ. (4)
هـ - أَمَاكِنُ الْجُلُوسِ فِي الْمَسَاجِدِ وَالأَْسْوَاقِ يَجُوزُ
إِسْقَاطُ الْحَقِّ فِيهَا. (5)
هَذَا بِالنِّسْبَةِ لإِِسْقَاطِ الْحَقِّ فِي الْمَنَافِعِ بِدُونِ
عِوَضٍ.
36 - أَمَّا إِسْقَاطُهُ بِعِوَضٍ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى قَاعِدَةِ
التَّفْرِيقِ بَيْنَ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ وَمِلْكِ الاِنْتِفَاعِ، فَإِنَّ
الأَْصْل أَنَّ كُل مَنْ مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ مَلَكَ الْمُعَاوَضَةَ
عَلَيْهَا، وَمَنْ مَلَكَ الاِنْتِفَاعَ بِنَفْسِهِ فَقَطْ فَلَيْسَ لَهُ
__________
(1) الأشباه لابن نجيم ص 316.
(2) المنثور في القواعد 3 / 230، وقليوبي 2 / 312.
(3) الأشباه لابن نجيم ص 316.
(4) حاشية الدسوقي 3 / 434.
(5) المنثور في القواعد 3 / 394، والقواعد لابن رجب ص 199، وشرح منتهى
الإرادات 2 / 464، 465، والدسوقي 3 / 434.
(4/240)
الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ. (1)
وَعَلَى ذَلِكَ فَكُل مَنْ مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَالِكًا
لِلرَّقَبَةِ، أَمْ مَالِكًا لِلْمَنْفَعَةِ دُونَ الرَّقَبَةِ، فَإِنَّهُ
يَجُوزُ لَهُ إِسْقَاطُ حَقِّهِ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالاِعْتِيَاضُ عَنْهُ
وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ. أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ، فَإِنَّ
الاِعْتِيَاضَ عَنِ الْمَنَافِعِ عِنْدَهُمْ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ لِمَالِكِ
الرَّقَبَةِ وَالْمَنْفَعَةِ، أَوْ لِمَالِكِ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ.
وَالْمَنَافِعُ لَيْسَتْ بِأَمْوَالٍ عِنْدَهُمْ. وَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ
عِنْدَهُمْ إِفْرَادُ حُقُوقِ الاِرْتِفَاقِ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ عَلَى
الأَْصَحِّ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ تَبَعًا. (2) وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ
فِي (إِجَارَة، ارْتِفَاق، إِعَارَة، وَصِيَّة، وَقْف) .
37 - وَمِنَ الأَْمْثِلَةِ عَلَى إِسْقَاطِ الْحَقِّ فِي الْمَنَافِعِ
بِعِوَضٍ: مَا لَوْ صَالَحَ الْوَرَثَةُ مَنْ أَوْصَى لَهُ مُوَرِّثُهُمْ
بِسُكْنَى دَارٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ التَّرِكَةِ بِدَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ
جَازَ ذَلِكَ صُلْحًا، لأَِنَّهُ إِسْقَاطُ حَقٍّ، وَمِثْل ذَلِكَ مَا لَوْ
أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِعَيْنِ الدَّارِ صَالَحَ الْمُوصَى لَهُ
بِسُكْنَاهَا بِدَرَاهِمَ أَوْ بِمَنْفَعَةِ عَيْنٍ أُخْرَى لِتَسَلُّمِ
الدَّارِ لَهُ جَازَ. (3)
رَابِعًا: الْحَقُّ الْمُطْلَقُ
38 - يَنْقَسِمُ الْحَقُّ بِحَسَبِ مَنْ يُضَافُ إِلَيْهِ إِلَى الآْتِي:
حَقٌّ خَالِصٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهُوَ كُل
__________
(1) المغني 4 / 546، 547، ومنتهى الإرادات 2 / 351، 391، 392، ومنح الجليل
3 / 448، 771، ونهاية المحتاج 5 / 117، 118.
(2) الهداية 4 / 253، والبدائع 6 / 189، 220، والأشباه لابن نجيم ص 353،
وابن عابدين 5 / 443، 444.
(3) تكملة فتح القدير 7 / 385، وابن عابدين 4 / 15، وشرح منتهى الإرادات 2
/ 263.
(4/240)
مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ النَّفْعُ الْعَامُّ،
أَوْ هُوَ امْتِثَال أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ.
وَحَقٌّ خَالِصٌ لِلْعِبَادِ، وَهُوَ مَصَالِحُهُمُ الْمُقَرَّرَةُ
بِمُقْتَضَى الشَّرِيعَةِ.
وَمَا اجْتَمَعَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ، كَحَدِّ الْقَذْفِ
وَالتَّعْزِيرِ.
وَالأَْصْل أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لأَِنَّهُ مَا
مِنْ حَقٍّ لِلْعَبْدِ إِلاَّ وَفِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ
أَمْرُهُ بِإِيصَال ذَلِكَ الْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ.
وَإِفْرَادُ نَوْعٍ مِنَ الْحُقُوقِ بِجَعْلِهِ حَقًّا لِلْعَبْدِ فَقَطْ،
إِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ تَسْلِيطِ الْعَبْدِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهِ
بِحَيْثُ لَوْ أَسْقَطَهُ لَسَقَطَ، فَكُل وَاحِدٍ مِنَ الْحَقَّيْنِ
(حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْعَبْدِ) مَوْكُولٌ لِمَنْ هُوَ مَنْسُوبٌ
إِلَيْهِ ثُبُوتًا وَإِسْقَاطًا. (1)
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
حَقُّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:
39 - ذِكْرُ حَقِّ اللَّهِ هُنَا فِيمَا يَقْبَل الإِْسْقَاطَ إِنَّمَا
هُوَ بِاعْتِبَارِ قَبُولِهِ لِلإِْسْقَاطِ مِنْ قِبَل الشَّارِعِ، أَمَّا
مِنْ قِبَل الْعِبَادِ فَلاَ يَجُوزُ عَلَى مَا سَيَأْتِي.
وَحُقُوقُ اللَّهِ: إِمَّا عِبَادَاتٌ مَحْضَةٌ مَالِيَّةٌ كَالزَّكَاةِ،
أَوْ بَدَنِيَّةٌ كَالصَّلاَةِ، أَوْ جَامِعَةٌ لِلْبَدَنِ وَالْمَال
كَالْحَجِّ. وَإِمَّا عُقُوبَاتٌ مَحْضَةٌ كَالْحُدُودِ. وَإِمَّا
كَفَّارَاتٌ وَهِيَ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ الْعُقُوبَةِ وَالْعِبَادَةِ.
وَيَقُول الْفُقَهَاءُ: إِنَّ حُقُوقَ اللَّهِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى
الْمُسَامَحَةِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَنْ يَلْحَقَهُ
__________
(1) شرح المنار ص 886، والذخيرة ص 68 نشر وزارة الأوقاف بالكويت، والمنثور
2 / 58 - 64، والتلويح 2 / 151، والفروق 1 / 140، 195.
(4/241)
ضَرَرٌ فِي شَيْءٍ، وَمِنْ ثَمَّ قَبِل
الرُّجُوعَ عَنِ الإِْقْرَارِ بِالزِّنَى فَيَسْقُطَ الْحَدُّ، بِخِلاَفِ
حَقِّ الآْدَمِيِّينَ فَإِنَّهُمْ يَتَضَرَّرُونَ. (1)
وَبِإِيجَازٍ نَذْكُرُ الأَْسْبَابَ الْمُوجِبَةَ لإِِسْقَاطِ حَقِّ
اللَّهِ كَمَا اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ:
40 - حُقُوقُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَقْبَل الإِْسْقَاطَ فِي
الْجُمْلَةِ لِلأَْسْبَابِ الَّتِي يَعْتَبِرُهَا الشَّرْعُ مُؤَدِّيَةً
إِلَى ذَلِكَ، تَفَضُّلاً مِنْهُ، وَرَحْمَةً بِالْعِبَادِ، وَرَفْعًا
لِلْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ عَنْهُمْ، كَإِسْقَاطِ الْعِبَادَاتِ
وَالْعُقُوبَاتِ عَنِ الْمَجْنُونِ، وَكَإِسْقَاطِ بَعْضِ الْعِبَادَاتِ
بِالنِّسْبَةِ لأَِصْحَابِ الأَْعْذَارِ كَالْمَرْضَى وَالْمُسَافِرِينَ،
لِمَا يَنَالُهُمْ مِنْ مَشَقَّةٍ. وَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ الْمَشَاقَّ
وَأَنْوَاعَهَا، وَبَيَّنُوا لِكُل عِبَادَةٍ مَرْتَبَةً مُعَيَّنَةً مِنْ
مَشَاقِّهَا الْمُؤَثِّرَةِ فِي إِسْقَاطِهَا، وَأَدْرَجُوا ذَلِكَ تَحْتَ
قَاعِدَةِ: الْمَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ، أَخْذًا مِنْ قَوْله
تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ
الْعُسْرَ} ، (2) وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا جَعَل عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ
مِنْ حَرَجٍ} . (3)
وَالْحُكْمُ الْمَبْنِيُّ عَلَى الأَْعْذَارِ يُسَمَّى رُخْصَةً. وَمِنْ
أَقْسَامِ الرُّخْصَةِ مَا يُسَمَّى رُخْصَةَ إِسْقَاطٍ، كَإِسْقَاطِ
الصَّلاَةِ عَنِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ، وَإِسْقَاطِ الصَّوْمِ عَنِ
الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لاَ يَقْوَى عَلَيْهِ (4) .
__________
(1) شرح المنار ص 886، والمنثور في القواعد 2 / 58، 59، والفروق للقرافي 1
/ 140، 195، والتلويح على التوضيح 2 / 151 وما بعدها، والموافقات 2 / 375.
(2) سورة البقرة / 185.
(3) سورة الحج / 78.
(4) الأشباه لابن نجيم ص 75 وما بعدها وص 83، والمنثور في القواعد 1 / 253،
والذخيرة ص 339 - 342، والفروق للقرافي 1 / 118، 119، والتلويح 2 / 201.
(4/241)
وَصَلاَةُ الْمُسَافِرِ قَصْرًا فَرْضٌ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَتُعْتَبَرُ
رُخْصَةَ إِسْقَاطٍ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا
صَدَقَتَهُ. (1) وَجْهُ الاِسْتِدْلاَل: أَنَّ التَّصَدُّقَ بِمَا لاَ
يَحْتَمِل التَّمْلِيكَ إِسْقَاطٌ لاَ يَحْتَمِل الرَّدَّ، وَإِنْ كَانَ
مِمَّنْ لاَ يَلْزَمُ طَاعَتُهُ كَوَلِيِّ الْقِصَاصِ، فَهُوَ مِنَ اللَّهِ
الَّذِي تَلْزَمُ طَاعَتُهُ أَوْلَى (2) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ:
أَنَّ قَصْرَ الصَّلاَةِ سُنَّةٌ لِلتَّرْفِيهِ عَنِ الْعَبْدِ.
كَذَلِكَ يَسْقُطُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ عَمَّنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ، إِذَا
قَامَ بِهِ غَيْرُهُ، بَل إِنَّ الْقَرَافِيَّ يَقُول: يَكْفِي فِي سُقُوطِ
الْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى الْكِفَايَةِ ظَنُّ الْفِعْل، لاَ وُقُوعُهُ
تَحْقِيقًا (3) .
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا إِسْقَاطُ الْحُرْمَةِ فِي تَنَاوُل الْمُحَرَّمِ
لِلضَّرُورَةِ، كَأَكْل الْمُضْطَرِّ لِلْمَيْتَةِ، وَإِسَاغَةِ
اللُّقْمَةِ بِالْخَمْرِ لِمَنْ غَصَّ بِهَا، وَإِبَاحَةِ نَظَرِ
الْعَوْرَةِ لِلطَّبِيبِ (4) . وَيَسْرِي هَذَا الْحُكْمُ عَلَى
الْمُعَامَلاَتِ، فَمِنَ الرُّخْصَةِ مَا سَقَطَ مَعَ كَوْنِهِ مَشْرُوعًا
فِي الْجُمْلَةِ، وَذَلِكَ كَمَا فِي السَّلَمِ، لِقَوْل الرَّاوِي: نَهَى
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ
عِنْدَ الإِْنْسَانِ، وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ. (5) وَأَنَّ الأَْصْل فِي
الْبَيْعِ أَنْ يُلاَقِيَ عَيْنًا،
__________
(1) حديث: " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " أخرجه مسلم (1 / 478
- ط الحلبي) .
(2) التلويح 2 / 130، وأشباه ابن نجيم ص 75.
(3) الفروق للقرافي 1 / 117، والمغني 8 / 345، والشرح الكبير بهامش المغني
2 / 101.
(4) التلويح 2 / 129، وأشباه ابن نجيم ص 75 وما بعدها، ومسلم الثبوت 1 /
118، والمنثور في القواعد 2 / 164.
(5) حديث: " نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان " أخرجه أبو داود (3 / 303 -
عون المعبود - ط الهند) ، والبيهقي (5 / 267 ط دائرة المعارف العثمانية) ،
والترمذي (تحفة الأحوذي 4 / 430، 431 ط السلفية) ، من حديث حكيم بن حزام
مرفوعا بلفظ " لا تبع ما ليس عندك ". وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. أما
الترخيص في السلم فهو مفهوم من أحاديث كثيرة، وليس بهذا اللفظ، منها قوله
صلى الله عليه وسلم: " من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم "
أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 428 ط السلفية) .
(4/242)
وَهَذَا حُكْمٌ مَشْرُوعٌ، لَكِنَّهُ
سَقَطَ فِي السَّلَمِ. (1)
وَمِنَ التَّخْفِيفِ: مَشْرُوعِيَّةُ الطَّلاَقِ، لِمَا فِي الْبَقَاءِ
عَلَى الزَّوْجِيَّةِ مِنَ الْمَشَقَّةِ عِنْدَ التَّنَافُرِ، وَكَذَا
مَشْرُوعِيَّةُ الْخُلْعِ وَالاِفْتِدَاءِ، وَمَشْرُوعِيَّةُ الْكِتَابَةِ
لِيَتَخَلَّصَ الْعَبْدُ مِنْ دَوَامِ الرِّقِّ. (2) وَكُل ذَلِكَ
مُفَصَّلٌ فِي أَبْوَابِهِ الْخَاصَّةِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَفِي
بَابَيِ: الرُّخْصَةِ وَالأَْهْلِيَّةِ مِنْ كُتُبِ الأُْصُول.
حُقُوقُ الْعِبَادِ
41 - الْمَقْصُودُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ هُنَا، مَا عَدَا الأَْعْيَانِ
وَالْمَنَافِعِ وَالدُّيُونِ، وَذَلِكَ لِحَقِّ الشُّفْعَةِ وَالْقِصَاصِ
وَالْخِيَارِ. وَالأَْصْل أَنَّ كُل مَنْ لَهُ حَقٌّ إِذَا أَسْقَطَهُ -
وَهُوَ مِنْ أَهْل الإِْسْقَاطِ، وَالْمَحَل قَابِلٌ لِلسُّقُوطِ - سَقَطَ.
فَالشَّفِيعُ لَهُ حَقُّ الأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ بَعْدَ الْبَيْعِ،
فَإِذَا أَسْقَطَ هَذَا الْحَقَّ وَتَرَكَ الأَْخْذَ بِالشُّفْعَةِ سَقَطَ
حَقُّهُ، وَوَلِيُّ الدَّمِ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ لَهُ حَقُّ الْقِصَاصِ،
فَإِذَا عَفَا وَأَسْقَطَ هَذَا الْحَقَّ كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَالْغَانِمُ
قَبْل الْقِسْمَةِ لَهُ حَقُّ التَّمَلُّكِ، وَيَجُوزُ لَهُ إِسْقَاطُ
هَذَا الْحَقِّ، وَإِذَا ثَبَتَ حَقُّ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ أَوْ
لِلْمُشْتَرِي كَانَ لِمَنْ ثَبَتَ لَهُ مِنْهُمَا هَذَا الْحَقُّ أَنْ
يُسْقِطَهُ. وَهَكَذَا مَتَى ثَبَتَ لإِِنْسَانٍ حَقٌّ، وَهُوَ جَائِزُ
التَّصَرُّفِ، كَانَ
__________
(1) التلويح 2 / 129.
(2) الأشباه لابن نجيم ص 80، 81.
(4/242)
مِنْ حَقِّهِ إِسْقَاطُهُ، إِلاَّ
لِمَانِعٍ مِنْ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ. (1)
هَذَا بِالنِّسْبَةِ لإِِسْقَاطِ الْحُقُوقِ بِدُونِ عِوَضٍ، أَمَّا
إِسْقَاطُهَا نَظِيرَ عِوَضٍ فَبَيَانُهُ كَالآْتِي:
42 - فَرَّقَ الْكَثِيرُ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ مَا يَجُوزُ
الاِعْتِيَاضُ عَنْهُ مِنَ الْحُقُوقِ وَمَا لاَ يَجُوزُ بِقَاعِدَةٍ هِيَ:
أَنَّ الْحَقَّ إِذَا كَانَ مُجَرَّدًا عَنِ الْمِلْكِ فَإِنَّهُ لاَ
يَجُوزُ الاِعْتِيَاضُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا مُتَقَرِّرًا فِي
الْمَحَل الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ صَحَّ الاِعْتِيَاضُ عَنْهُ.
وَفَرَّقَ الْبَعْضُ الآْخَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِقَاعِدَةٍ أُخْرَى
هِيَ: أَنَّ الْحَقَّ إِذَا كَانَ شُرِعَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ فَلاَ يَجُوزُ
الاِعْتِيَاضُ عَنْهُ، وَإِذَا كَانَتْ ثَبَتَ عَلَى وَجْهِ الْبِرِّ
وَالصِّلَةِ فَيَكُونُ ثَابِتًا لَهُ أَصَالَةً، فَيَصِحُّ الاِعْتِيَاضُ
عَنْهُ.
وَمَنْ يَرْجِعُ إِلَى الأَْمْثِلَةِ الَّتِي أَوْرَدُوهَا يَتَبَيَّنُ
لَهُ أَنَّهُ لاَ يَكَادُ يُوجَدُ فَرْقٌ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ، فَفِي
الأَْشْبَاهِ لاِبْنِ نُجَيْمٍ (2) : الْحُقُوقُ الْمُجَرَّدَةُ لاَ
يَجُوزُ الاِعْتِيَاضُ عَنْهَا، كَحَقِّ الشُّفْعَةِ، فَلَوْ صَالَحَ
عَنْهُ بِمَالٍ بَطَلَتْ وَرَجَعَ بِهِ، وَلَوْ صَالَحَ الْمُخَيَّرَةَ
بِمَالٍ لِتَخْتَارَهُ بَطَل وَلاَ شَيْءَ لَهَا، وَلَوْ صَالَحَ إِحْدَى
زَوْجَتَيْهِ بِمَالٍ لِتَتْرُكَ نَوْبَتَهَا لَمْ يَلْزَمْ، وَلاَ شَيْءَ
لَهَا. هَكَذَا ذَكَرُوهُ فِي الشُّفْعَةِ. وَخَرَجَ عَنْهَا حَقُّ
الْقِصَاصِ وَمِلْكُ النِّكَاحِ، وَحَقُّ الرِّقِّ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ
الاِعْتِيَاضُ عَنْهَا. وَالْكَفِيل بِالنَّفْسِ إِذَا صَالَحَ الْمَكْفُول
لَهُ بِمَالٍ لَمْ يَصِحَّ وَلَمْ يَجِبْ، وَفِي بُطْلاَنِهَا
رِوَايَتَانِ.
__________
(1) البدائع 5 / 297، 7 / 247 " وشرح منتهى الإرادات 2 / 260، وأشباه ابن
نجيم ص 316، والفروق للقرافي 1 / 195 - 197، والخرشي 6 / 99، وقليوبي 4 /
325، والمنثور في القواعد 2 / 4.
(2) الأشباه لابن نجيم ص 212.
(4/243)
وَفِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ (1) :
لاَ يَجُوزُ الاِعْتِيَاضُ عَنِ الْحُقُوقِ الْمُجَرَّدَةِ كَحَقِّ
الشُّفْعَةِ، ثُمَّ أَوْرَدَ نَفْسَ الأَْمْثِلَةِ الَّتِي جَاءَتْ فِي
الأَْشْبَاهِ، ثُمَّ قَال: وَعَدَمُ جَوَازِ الصُّلْحِ عَنْ حَقِّ
الشُّفْعَةِ وَحَقِّ الْقَسْمِ لِلزَّوْجَةِ وَحَقِّ الْخِيَارِ فِي
النِّكَاحِ لِلْمُخَيَّرَةِ إِنَّمَا هُوَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ
الشَّفِيعِ وَالْمَرْأَةِ، وَمَا ثَبَتَ لِذَلِكَ لاَ يَصِحُّ الصُّلْحُ
عَنْهُ، لأَِنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ لَمَّا رَضِيَ عَلِمَ أَنَّهُ لاَ
يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ، فَلاَ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا. أَمَّا حَقُّ الْقِصَاصِ
وَمِلْكُ النِّكَاحِ وَحَقُّ الرِّقِّ فَقَدْ ثَبَتَ عَلَى وَجْهِ الْبِرِّ
وَالصِّلَةِ، فَهُوَ ثَابِتٌ لَهُ أَصَالَةً، لاَ عَلَى وَجْهِ رَفْعِ
الضَّرَرِ عَنْ صَاحِبِهِ. وَسَارَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ عَلَى أَنَّ
الْحَقَّ الَّذِي يَجُوزُ الاِعْتِيَاضُ عَنْهُ، هُوَ الْحَقُّ الثَّابِتُ
فِي الْمَحَل أَصَالَةً. (2)
أَمَّا الْجُمْهُورُ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ)
فَلَمْ نَعْثُرْ لَهُمْ عَلَى قَاعِدَةٍ يُمْكِنُ الاِسْتِنَادُ إِلَيْهَا
فِي مَعْرِفَةِ الْحُقُوقِ الَّتِي يَجُوزُ الاِعْتِيَاضُ عَنْهَا
وَاَلَّتِي لاَ يَجُوزُ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالرُّجُوعِ إِلَى
الْمَسَائِل فِي أَمَاكِنِهَا مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، كَالْحَضَانَةِ
وَالشُّفْعَةِ وَالْخِيَارِ فِي الْعُقُودِ وَمَا شَابَهُ ذَلِكَ،
وَلِذَلِكَ سَنَكْتَفِي بِذِكْرِ بَعْضِ الأَْمْثِلَةِ. وَالْجُمْهُورُ
أَحْيَانًا مَعَ الْحَنَفِيَّةِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِل، مَعَ
اتِّفَاقِهِمْ فِي سَبَبِ الاِعْتِيَاضِ، وَأَحْيَانًا يَخْتَلِفُونَ
عَنْهُمْ. وَسَيَظْهَرُ ذَلِكَ مِنَ الأَْمْثِلَةِ.
أ - الاِعْتِيَاضُ عَنْ حَقِّ الشُّفْعَةِ، هُوَ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ كَمَا سَبَقَ، وَيُوَافِقُهُمْ فِي الْحُكْمِ وَفِي
الْعِلَّةِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ. فِي حِينِ أَجَازَ
الاِعْتِيَاضَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 14، 15.
(2) البدائع 6 / 49، 5 / 21.
(4/243)
عَنْهَا الْمَالِكِيَّةُ، وَفِي رِوَايَةٍ
عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ: إِذَا كَانَ الاِعْتِيَاضُ، مِنَ الْمُشْتَرِي
لاَ مِنْ غَيْرِهِ. (1)
ب - هِبَةُ الزَّوْجَةِ يَوْمَهَا لِضَرَّتِهَا، لاَ يَجُوزُ الاِعْتِيَاضُ
عَنْهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَوَافَقَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ. قَال الشَّافِعِيَّةُ: لأَِنَّهُ لَيْسَ عَيْنًا وَلاَ
مَنْفَعَةً فَلاَ يُقَابَل بِمَالٍ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ
الزَّوْجَةَ مِنْ حَقِّهَا كَوْنُ الزَّوْجِ عِنْدَهَا، وَهُوَ لاَ
يُقَابَل بِمَالٍ. وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ جَوَازُ
أَخْذِ الْعِوَضِ عَنْ سَائِرِ حُقُوقِهَا مِنَ الْقَسْمِ وَغَيْرِهِ.
وَالْمَالِكِيَّةُ أَجَازُوا الاِعْتِيَاضَ عَنْ حَقِّهَا فِي ذَلِكَ،
لأَِنَّهُ عِوَضٌ عَنْ الاِسْتِمْتَاعِ أَوْ عَنْ إِسْقَاطِ الْحَقِّ. (2)
ج - إِذَا تَعَذَّرَ رَدُّ الْمَبِيعِ الْمَعِيبِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي
الْحَقُّ فِي الاِعْتِيَاضِ عَنِ الْعَيْبِ. وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لأَِنَّ
الرِّضَى بِالْعَيْبِ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِالنُّقْصَانِ، وَلأَِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَل لِمُشْتَرِي
الْمُصَرَّاةِ الْخِيَارَ بَيْنَ الإِْمْسَاكِ مِنْ غَيْرِ أَرْشٍ وَبَيْنَ
الرَّدِّ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَجُوزُ إِمْسَاكُ الْمَبِيعِ
وَالاِعْتِيَاضُ عَنِ الْعَيْبِ، لأَِنَّهُ فَاتَ عَلَيْهِ جُزْءٌ مِنَ
الْمَبِيعِ، فَكَانَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِعِوَضِهِ، وَيُخَالِفُ
الْمُصَرَّاةُ، لأَِنَّ الْخِيَارَ لَهُ بِالتَّدْلِيسِ، وَكَذَلِكَ فِي
الْقَوْل الثَّانِي
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 217، والمهذب 1 / 291، وشرح منتهى الإرادات 2 / 266،
والقواعد ص 199، ومنح الجليل 3 / 591، وفتح العلي المالك 1 / 307.
(2) نهاية المحتاج 6 / 382، ومنح الإرادات 3 / 102، ومنح الجليل 2 / 174،
وفتح العلي المالك 1 / 313، والمغني 7 / 39، وكشاف القناع 5 / 206.
(4/244)
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. (1)
د - الْقِصَاصُ يَجُوزُ الاِعْتِيَاضُ عَنْهُ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ.
(2)
هـ - يَصِحُّ الصُّلْحُ عَنْ إِسْقَاطِ حَقِّ الدَّعْوَى، كَحَقِّ
الشُّفْعَةِ وَالشِّرْبِ، إِلاَّ مَا كَانَ مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ
كَدَعْوَى الْحَدِّ وَالنَّسَبِ، وَلأَِنَّ الصُّلْحَ فِي الدَّعْوَى
لاِفْتِدَاءِ الْيَمِينِ، وَهُوَ جَائِزٌ. (3)
و يَجُوزُ الصُّلْحُ عَنِ التَّعْزِيرِ الَّذِي هُوَ حَقُّ الْعَبْدِ،
لَكِنْ قَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّ التَّعْزِيرَ الَّذِي فِيهِ حَقُّ
اللَّهِ كَقُبْلَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ، فَالظَّاهِرُ عَدَمُ صِحَّةِ
الصُّلْحِ فِيهِ. (4)
ز - يَجُوزُ الاِعْتِيَاضُ عَنْ إِسْقَاطِ حَقِّ الْحَضَانَةِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، عَلَى الْقَوْل بِأَنَّهَا حَقُّ
الْحَاضِنِ. (5)
ح - يَجُوزُ الاِعْتِيَاضُ عَنْ إِسْقَاطِ حَقِّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (6)
وَنَكْتَفِي بِذِكْرِ هَذِهِ الأَْمْثِلَةِ، إِذْ مِنَ الْعَسِيرِ حَصْرُ
الْحُقُوقِ الَّتِي يَجُوزُ الاِعْتِيَاضُ عَنْهَا، وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ
إِلَى الْمَسَائِل فِي أَبْوَابِهَا مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
__________
(1) البدائع 5 / 289، ومنح الجليل 2 / 668، والمغني 4 / 162، 163، ومنتهى
الإرادات 2 / 176، والمهذب 1 / 91.
(2) البدائع 6 / 48، والمنح 3 / 215، والمنتهى 2 / 265، والمهذب 2 / 189.
(3) ابن عابدين 4 / 478.
(4) البدائع 6 / 48، 7 / 65، والذخيرة ص 68.
(5) منح الجليل 2 / 185، وابن عابدين 2 / 366.
(6) ابن عابدين 2 / 325، 4 / 515.
(4/244)
مَا لاَ يَقْبَل الإِْسْقَاطَ
أ - الْعَيْنُ:
43 - الْعَيْنُ مَا يَحْتَمِل التَّعْيِينَ مُطْلَقًا، جِنْسًا وَنَوْعًا
وَقَدْرًا وَصِفَةً، كَالْعُرُوضِ مِنَ الثِّيَابِ، وَالْعَقَارِ مِنَ
الأَْرَضِينَ وَالدُّورِ، وَالْحَيَوَانِ مِنَ الدَّوَابِّ، وَالْمَكِيل
وَالْمَوْزُونِ. (1)
وَمَالِكُ الْعَيْنِ يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا بِالنَّقْل عَلَى
الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ. أَمَّا التَّصَرُّفُ
فِيهَا بِالإِْسْقَاطِ - أَيْ رَفْعُ الْمِلْكِ وَإِزَالَتُهُ، بِأَنْ
يَقُول الشَّخْصُ مَثَلاً: أَسْقَطْتُ مِلْكِي فِي هَذِهِ الدَّارِ
لِفُلاَنٍ، يُرِيدُ بِذَلِكَ زَوَال مِلْكِهِ وَثُبُوتَهُ لِغَيْرِهِ -
فَهَذَا بَاطِلٌ، وَلاَ يُفِيدُ زَوَال مِلْكِ الْمُسْقِطِ عَنِ الْعَيْنِ،
وَثُبُوتُ الْمِلْكِ فِيهَا لِلْمُسْقَطِ لَهُ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الأَْعْيَانَ لاَ تَقْبَل
الإِْسْقَاطَ (2) . إِلاَّ مَا وَرَدَ بِالنِّسْبَةِ لِلْعِتْقِ
وَالْوَقْفِ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ.
44 - لَكِنْ لَوْ حَدَثَ هَذَا التَّصَرُّفُ مِنَ الْمَالِكِ، وَكَانَتِ
الْعَيْنُ تَحْتَ يَدِ الْمُسْقَطِ لَهُ، فَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ
مَغْصُوبَةً هَالِكَةً صَحَّ الإِْسْقَاطُ، لأَِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ
إِسْقَاطًا لِقِيمَتِهَا الْمُتَرَتِّبَةِ فِي ذِمَّتِهِ، فَصَارَ
إِسْقَاطًا لِلدَّيْنِ، وَإِسْقَاطُ الدَّيْنِ صَحِيحٌ.
وَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ قَائِمَةً، فَمَعْنَى إِسْقَاطِهَا إِسْقَاطُ
ضَمَانِهَا لَوْ هَلَكَتْ، وَتَصِيرُ بَعْدَ الْبَرَاءَةِ مِنْ عَيْنِهَا
كَالأَْمَانَةِ، لاَ تُضْمَنُ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي. وَقَال زُفَرُ
رَحِمَهُ اللَّهُ: لاَ يَصِحُّ الإِْبْرَاءُ وَتَبْقَى مَضْمُونَةً.
__________
(1) البدائع 6 / 46.
(2) الأشباه لابن نجيم ص 356، وحاشية ابن عابدين 4 / 472 - 475، والتكملة 2
/ 144، 164، وقليوبي 3 / 13، والدسوقي 3 / 411، وشرح منتهى الإرادات 2 /
263.
(4/245)
وَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ أَمَانَةً،
فَالْبَرَاءَةُ عَنْهَا لاَ تَصِحُّ دِيَانَةً، بِمَعْنَى أَنَّ مَالِكَهَا
إِذَا ظَفِرَ بِهَا أَخَذَهَا. وَتَصِحُّ قَضَاءً، فَلاَ يَسْمَعُ
الْقَاضِي دَعْوَاهُ بَعْدَ الْبَرَاءَةِ. وَقَدْ قَالُوا: الإِْبْرَاءُ
عَنِ الأَْعْيَانِ بَاطِلٌ دِيَانَةً لاَ قَضَاءً. وَمَعْنَاهُ أَنَّهَا
تَكُونُ مِلْكًا لَهُ بِالإِْبْرَاءِ، وَإِنَّمَا الإِْبْرَاءُ عَنْهَا
صَحِيحٌ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ، أَوْ يُحْمَل عَلَى الأَْمَانَةِ.
وَيَقُول الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْبَرَاءَةَ مِنَ الْمُعَيَّنَاتِ
يَسْقُطُ بِهَا الطَّلَبُ بِقِيمَتِهَا إِذَا فَاتَتْ، وَالطَّلَبُ
بِرَفْعِ الْيَدِ عَنْهَا إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً. وَهَذَا هُوَ
الْمَشْهُورُ مِنَ الْمَذْهَبِ، إِلاَّ إِنَّهُ نُقِل عَنِ الْمَازِرِيِّ
مَا ظَاهِرُهُ أَنَّ الإِْبْرَاءَ يَشْمَل الأَْمَانَاتِ وَهِيَ
مُعَيَّنَاتٌ (وَهَذَا فِي الإِْبْرَاءِ الْعَامِّ) . كَذَلِكَ صَرَّحَ
ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ بِأَنَّ الإِْسْقَاطَ فِي الْمُعَيَّنِ،
وَالإِْبْرَاءُ أَعَمُّ مِنْهُ يَكُونُ فِي الْمُعَيَّنِ وَغَيْرِهِ (1) .
ب - الْحَقُّ:
ذُكِرَ فِيمَا سَبَقَ مَا يَقْبَل الإِْسْقَاطَ مِنَ الْحُقُوقِ، سَوَاءٌ
أَكَانَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ أَمْ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ، وَنَذْكُرُ فِيمَا
يَلِي مَا لاَ يَقْبَل الإِْسْقَاطَ مِنْهُمَا.
مَا لاَ يَقْبَل الإِْسْقَاطَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى:
45 - الأَْصْل أَنَّ حَقَّ اللَّهِ لاَ يَقْبَل الإِْسْقَاطَ مِنْ أَحَدٍ
مِنَ الْعِبَادِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مَوْكُولٌ إِلَى صَاحِبِ الشَّرْعِ
لاِعْتِبَارَاتٍ خَاصَّةٍ، كَالتَّخْفِيفِ عَنِ الْعِبَادِ عَلَى مَا
سَبَقَ. فَحَقُّ اللَّهِ الْخَالِصُ مِنَ الْعِبَادَاتِ كَالصَّلاَةِ
وَالزَّكَاةِ، وَمِنَ الْعُقُوبَاتِ كَحَدِّ الزِّنَى وَحَدِّ شُرْبِ
الْخَمْرِ، وَمِنَ الْكَفَّارَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي
__________
(1) منح الجليل 3 / 426.
(4/245)
ثَبَتَتْ لِلْعَبْدِ بِمُقْتَضَى
الشَّرِيعَةِ كَحَقِّ الْوِلاَيَةِ عَلَى الصَّغِيرَةِ، حَقُّ اللَّهِ
هَذَا لاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ مِنَ الْعِبَادِ إِسْقَاطُهُ، لأَِنَّهُ لاَ
يَمْلِكُ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ، بَل إِنَّ مَنْ حَاوَل ذَلِكَ فَإِنَّهُ
يُقَاتَل، كَمَا فَعَل أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَانِعِي
الزَّكَاةِ. (1) حَتَّى إِنَّ السُّنَنَ الَّتِي فِيهَا إِظْهَارُ
الدِّينِ، وَتُعْتَبَرُ مِنْ شَعَائِرِهِ، كَالأَْذَانِ، لَوِ اتَّفَقَ
أَهْل بَلْدَةٍ عَلَى تَرْكِهِ وَجَبَ قِتَالُهُمْ. (2)
46 - كَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ التَّحَيُّل عَلَى إِسْقَاطِ الْعِبَادَاتِ،
كَمَنْ دَخَل عَلَيْهِ وَقْتُ صَلاَةٍ، فَشَرِبَ خَمْرًا أَوْ دَوَاءً
مُنَوِّمًا حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا - وَهُوَ فَاقِدٌ لِعَقْلِهِ -
كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ. وَكَمَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ يَقْدِرُ بِهِ عَلَى
الْحَجِّ، فَوَهَبَهُ كَيْلاَ يَجِبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ (3) .
47 - وَتَحْرُمُ الشَّفَاعَةُ لإِِسْقَاطِ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ
تَعَالَى. وَفِي السَّرِقَةِ كَذَلِكَ بَعْدَ الرَّفْعِ لِلْحَاكِمِ،
لأَِنَّ الْحَدَّ فِيهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ
رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: أُتِيَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَارِقٍ قَدْ سَرَقَ، فَأَمَرَ بِهِ فَقُطِعَ،
فَقِيل: يَا رَسُول اللَّهِ مَا كُنَّا نَرَاكَ تَبْلُغُ بِهِ هَذَا، قَال:
لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ لأََقَمْتُ عَلَيْهَا الْحَدَّ.
(4) وَرَوَى عُرْوَةُ قَال: شَفَعَ
__________
(1) المغني 2 / 572، والأثر أخرجه البخاري ضمن حديث طويل عن أبي هريرة رضي
الله عنه أن أبا بكر رضي عنه قال: " والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها. . . " (فتح الباري 3
/ 262 ط السلفية) .
(2) الاختيار 1 / 42، ومنح الجليل 1 / 117.
(3) الموافقات 2 / 379 و 4 / 201، والشرح الصغير 1 / 600 ط دار المعارف،
والمغني 2 / 534 ط المنار.
(4) حديث " أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق. . . " أخرجه البخاري
ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها، ولفظ البخاري: " أن قريشا أهمتهم
المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه
وسلم؟ ومن يجترئ عليه إلا أسامة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلم
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتشفع (فتح الباري 12 / 87 ط السلفية،
وصحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 3 / 1315 ط عيسى الحلبي) .
(4/246)
الزُّبَيْرُ فِي سَارِقٍ فَقِيل: حَتَّى
يَأْتِيَ السُّلْطَانُ، قَال: إِذَا بَلَغَ السُّلْطَانَ فَلَعَنَ اللَّهُ
الشَّافِعَ وَالْمُشَفَّعَ (1) . وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَفْوَانَ، حِينَ تَصَدَّقَ عَلَى السَّارِقِ:
فَهَلاَّ قَبْل أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ. (2)
__________
(1) الأثر عن الزبير " إذا بلغ السلطان فلعن الله الشافع والمشفع " أخرجه
مالك في الموطأ، قال ابن حجر في الفتح: وهو منقطع من وقفه. وقال عبد القادر
الأرناؤوط محقق جامع الأصول: وإسناد رجاله ثقات إلا أنه مرسل. وأخرجه
الطبراني في الأوسط والصغير، قال الهيثمي: وفيه أبو غزية محمد بن موسى
الأنصاري ضعفه أبو حاتم وغيره، ووثقه الحاكم، وعبد الرحمن بن أبي الزناد
ضيف. قال الحافظ ابن حجر: وهو عند ابن أبي شيبة بسند حسن عن الزبير موقوفا،
وسند آخر حسن عن علي نحوه كذلك. وأخرجه الدارقطني من حديث الزبير موصولا
مرفوعا بلفظ: " اشفعوا ما لم يصل إلى الوالي، فإذا وصل الوالي فعفا، فلا
عفا الله عنه ". قال الحافظ: والموقوف هو المعتمد، (تنوير الحوالك 3 / 49،
50 نشر مكتبة المشهد الحسيني، وفتح الباري 12 / 87، 88 ط السلفية، ومجمع
الزمان 6 / 259 ط مكتبة القدسي 1353 هـ) .
(2) المهذب 2 / 283، 284، والمغني 8 / 282 ط الرياض. وحديث عائشة: " فهلا
قبل أن تأتيني به " أخرجه مالك (الموطأ بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 2 /
834، 835 ط عيسى الحلبي 1370 هـ) وأحمد (6 / 465 - ط الميمنية) وأبو داود
(عون المعبود 4 / 240، 241 ط الهند) ضمن قصة من حديث صفوان بن أمية. قال
الحافظ ابن عبد البر: رواه جمهور أصحاب مالك مرسلا. ورواه أبو عاصم النبيل
وحده عن مالك عن الزهري عن صفوان بن عبد الله عن جده فوصله. قال ال رواه
أبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد في مسنده من غير وجه، قال عبد القادر
الأرناؤوط محقق جامع الأصول: وإسناده حسن (جامع الأصول 3 / 600 - 602 نشر
مكتبة الحلواني) .
(4/246)
وَقَال النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ:
وَأَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِ الشَّفَاعَةِ فِي الْحُدُودِ بَعْدَ
بُلُوغِهِ الإِْمَامَ، فَأَمَّا قَبْل بُلُوغِهِ الإِْمَامَ فَقَدْ
أَجَازَهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَشْفُوعُ فِيهِ
صَاحِبَ شَرٍّ وَأَذًى لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَشْفَعْ فِيهِ.
(1)
48 - وَيُلاَحَظُ أَنَّ السَّرِقَةَ، وَإِنْ كَانَ الْحَدُّ فِيهَا هُوَ
حَقُّ اللَّهِ، إِلاَّ أَنَّ الْجَانِبَ الشَّخْصِيَّ فِيهَا مُتَحَقِّقٌ
نَاحِيَةَ الْمَال، وَلِذَلِكَ يَجُوزُ الإِْبْرَاءُ مِنَ الْمَال. (2)
أَمَّا الْحَدُّ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ قَبْل الرَّفْعِ
لِلْحَاكِمِ، أَمَّا بَعْدَهُ فَلاَ يَجُوزُ. لَكِنْ قَال الْحَنَفِيَّةُ -
غَيْرُ زُفَرَ، وَرِوَايَةٌ لأَِبِي يُوسُفَ - لَوْ أَنَّ الْمَسْرُوقَ
مِنْهُ مَلَّكَ الْمَسْرُوقَ لِلسَّارِقِ سَقَطَ الْحَدُّ. (3)
وَالْقَذْفُ مِمَّا يَجْتَمِعُ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ،
مَعَ الاِخْتِلاَفِ فِي تَغْلِيبِ أَحَدِهِمَا، وَعَلَى الْجُمْلَةِ،
فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْعَفْوُ فِيهِ (أَيِ الإِْسْقَاطُ) قَبْل التَّرَافُعِ
وَبَعْدَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلاَ يَجُوزُ بَعْدَ
الرَّفْعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَيَّدُوا
الْعَفْوَ بَعْدَ التَّرَافُعِ بِمَا إِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ يُرِيدُ
السَّتْرَ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَثْبُتُ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ. وَلاَ
يُشْتَرَطُ هَذَا الْقَيْدُ بَيْنَ الاِبْنِ وَأَبِيهِ. وَرُوِيَ عَنِ
الإِْمَامِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ الْعَفْوُ كَذَلِكَ بَعْدَ
الرَّفْعِ لِلإِْمَامِ. (4)
وَأَمَّا التَّعْزِيرُ، فَمَا كَانَ مِنْهُ حَقًّا لِلآْدَمِيِّ جَازَ
الْعَفْوُ عَنْهُ، وَمَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ فَهُوَ مَوْكُولٌ إِلَى
الإِْمَامِ.
__________
(1) المنثور في القواعد 1 / 426، وحاشية ابن عابدين 3 / 140، والمغني 8 /
281، 282.
(2) منح الجليل 3 / 424.
(3) المغني 8 / 269، والمهذب 2 / 283، 284، ومنح الجليل 4 / 515، والاختيار
4 / 111.
(4) الهداية 2 / 113، والمهذب 2 / 275، والتبصرة 2 / 268، ومنتهى الإرادات
3 / 351.
(4/247)
وَنُقِل عَنِ الإِْمَامِ مَالِكٍ أَنَّهُ
يَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ إِقَامَتُهُ إِذَا كَانَ فِي حَقِّ اللَّهِ.
وَعَنِ الإِْمَامَيْنِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ أَنَّ مَا كَانَ مِنَ
التَّعْزِيرِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ، كَوَطْءِ جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ
فَيَجِبُ امْتِثَال الأَْمْرِ فِيهِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا
عَلَيْهِ فَهُوَ مَوْكُولٌ إِلَى الإِْمَامِ. (1)
49 - وَمَا دَامَتْ حُدُودُ اللَّهِ لاَ تَقْبَل الإِْسْقَاطَ مِنَ
الْعِبَادِ، فَبِالتَّالِي لاَ يَجُوزُ الاِعْتِيَاضُ عَنْ إِسْقَاطِهَا،
فَلاَ يَصِحُّ أَنْ يُصَالِحَ سَارِقًا أَوْ شَارِبًا لِيُطْلِقَهُ وَلاَ
يَرْفَعَهُ لِلسُّلْطَانِ، لأَِنَّهُ لاَ يَصِحُّ أَخْذُ الْعِوَضِ فِي
مُقَابَلَتِهِ. وَكَذَا لاَ يَصِحُّ أَنْ يُصَالِحَ شَاهِدًا عَلَى أَلاَّ
يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِحَقٍّ لِلَّهِ أَوْ لآِدَمِيٍّ، لأَِنَّ الشَّاهِدَ
فِي إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ مُحْتَسَبٌ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} (2) وَالصُّلْحُ
عَنْ حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل بَاطِلٌ وَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ مَا
أَخَذَ، لأَِنَّهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ. (3)
وَهُنَاكَ أَيْضًا مَا يُعْتَبَرُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى مِمَّا شُرِعَ
أَصْلاً لِمَصْلَحَةِ الْعِبَادِ، وَلِذَلِكَ لاَ يَسْقُطُ بِالإِْسْقَاطِ،
لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُنَافَاةِ الإِْسْقَاطِ لِمَا هُوَ مَشْرُوعٌ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:
الْوِلاَيَةُ عَلَى الصَّغِيرِ:
50 - مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ وَصْفًا ذَاتِيًّا
لِصَاحِبِهَا، وِلاَيَةُ الأَْبِ عَلَى الصَّغِيرِ، فَهِيَ لاَزِمَةٌ لَهُ
وَلاَ تَنْفَكُّ عَنْهُ، فَحَقُّهُ ثَابِتٌ بِإِثْبَاتِ الشَّرْعِ، فَهِيَ
حَقٌّ عَلَيْهِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ لاَ تَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ،
__________
(1) الدسوقي 4 / 354، والتبصرة 2 / 303، والحطاب 6 / 320، وابن عابدين 3 /
186، 187، والمهذب 2 / 275، والمغني 8 / 326.
(2) سورة الطلاق / 2.
(3) البدائع 6 / 48، وشرح منتهى الإرادات 2 / 266.
(4/247)
لأَِنَّ ذَلِكَ يُعْتَبَرُ خِلاَفَ
الْمَشْرُوعِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ. (1)
أَمَّا غَيْرُ الأَْبِ كَالْوَصِيِّ فَفِيهِ خِلاَفٌ. فَعِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: إِذَا كَانَ الْوَصِيُّ قَدْ قَبِل
الْوِصَايَةَ، وَمَاتَ الْمُوصِي، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ عَزْل نَفْسِهِ
لِثُبُوتِ هَذَا الْحَقِّ لَهُ. وَلأَِنَّهَا وِلاَيَةٌ فَلاَ تَسْقُطُ
بِالإِْسْقَاطِ. أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: فَإِنَّهُ
يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُسْقِطَ الْوَصِيُّ حَقَّهُ، وَلَوْ بَعْدَ
قَبُولِهِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، لأَِنَّهُ مُتَصَرِّفٌ بِالإِْذْنِ،
فَكَانَ لَهُ عَزْل نَفْسِهِ كَالْوَكِيل (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل أَنْوَاعِ الْوِلاَيَاتِ، كَالْقَاضِي وَنَاظِرِ
الْوَقْفِ، فِي مُصْطَلَحِ (وِلاَيَة) .
السُّكْنَى فِي بَيْتِ الْعِدَّةِ:
51 - أَوْجَبَ الشَّارِعُ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ أَنْ تَعْتَدَّ فِي
الْمَنْزِل الَّذِي يُضَافُ إِلَيْهَا بِالسُّكْنَى حَال وُقُوعِ
الْفُرْقَةِ أَوِ الْمَوْتِ، وَالْبَيْتِ الْمُضَافِ إِلَيْهَا فِي قَوْله
تَعَالَى {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} (3) هُوَ الْبَيْتُ
الَّذِي تَسْكُنُهُ. وَلاَ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ وَلاَ لِغَيْرِهِ إِخْرَاجُ
الْمُعْتَدَّةِ مِنْ مَسْكَنِهَا. وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ وَإِنْ
رَضِيَ الزَّوْجُ بِذَلِكَ، لأَِنَّ فِي الْعِدَّةِ حَقًّا لِلَّهِ
تَعَالَى، وَإِخْرَاجُهَا أَوْ خُرُوجُهَا مِنْ مَسْكَنِ الْعِدَّةِ
مُنَافٍ لِلْمَشْرُوعِ، فَلاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ إِسْقَاطُهُ. وَهَذَا فِي
الْجُمْلَةِ، لأَِنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لاَ
يَجِبُ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ الْبَائِنَةِ قَرَارُهَا
__________
(1) البدائع 5 / 152، وأشباه ابن نجيم ص 160، وابن عابدين 2 / 102،
والمنثور في القواعد 3 / 393، وشرح منتهى الإرادات 2 / 526، وفتح العلي
المالك 1 / 393.
(2) جواهر الإكليل 2 / 327، والكافي لابن عبد البر 2 / 1031، والمغني 6 /
141 ط الرياض، والمهذب 1 / 471، والهداية 4 / 258.
(3) سورة الطلاق / 1.
(4/248)
فِي مَسْكَنِ الْعِدَّةِ، لِحَدِيثِ
فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ الَّذِي فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لَهَا: لاَ نَفَقَةَ لَكِ وَلاَ سُكْنَى. (1)
وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ لَهَا ذَلِكَ، خُرُوجًا مِنَ الْخِلاَفِ. (2) وَفِي
ذَلِكَ تَفْصِيلٌ كَثِيرٌ ر: (عِدَّة، سُكْنَى) .
خِيَارُ الرُّؤْيَةِ:
52 - بَيْعُ الشَّيْءِ قَبْل رُؤْيَتِهِ يَثْبُتُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ
لِلْمُشْتَرِي، فَلَهُ الأَْخْذُ وَلَهُ الرَّدُّ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ،
لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ اشْتَرَى
شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَلَهُ الْخِيَارُ إِذَا رَآهُ (3) فَالْخِيَارُ هُنَا
لَيْسَ بِاشْتِرَاطِ الْعَاقِدَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ ثَابِتٌ شَرْعًا
فَكَانَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا لاَ يَجُوزُ إِسْقَاطُهُ، وَلاَ
يَسْقُطُ بِالإِْسْقَاطِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ مَنْ
يُجِيزُونَ بَيْعَ الشَّيْءِ الْغَائِبِ، مَعَ مُرَاعَاةِ شَرَائِطِ
ثُبُوتِ الْخِيَارِ.
وَلَوْ أَنَّ الْعَاقِدَيْنِ تَبَايَعَا بِشَرْطِ إِسْقَاطِ خِيَارِ
الرُّؤْيَةِ بَطَل الشَّرْطُ مَعَ الْخِلاَفِ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ
__________
(1) حديث فاطمة بنت قيس: " لا نفقة لك ولا سكنى " أخرجه مسلم (2 / 1115 - ط
الحلبي) .
(2) الهداية 2 / 33، والبدائع 3 / 152، وجواهر الإكليل 1 / 392، والدسوقي 2
/ 350، ونهاية المحتاج 7 / 145، 146، والمغني 7 / 521 - 530، وشرح منتهى
الإرادات 3 / 228، 230.
(3) حديث: " من اشترى شيئا. . . " روي مسندا ومرسلا، أما المسند فأخرجه
الدارقطني في سننه من حديث أبي هريرة، قال الدارقطني: فيه عمر بن إبراهيم،
يقال له الكردي يضع الأحاديث، وهذا باطل لا يصح. قال ابن القطان: والراوي
عن الكردي داهر بن نوح، وهو لا يعرف، ولعل الجناية منه. وأما المرسل، فرواه
ابن أبي شيبة في مصنفه والدارقطني والبيهقي. قال الدارقطني: هذا مرسل، وأبو
بكر بن أبي ضعيف (سنن الدارقطني 3 / 3 - 5 ط دار المحاسن بالقاهرة، والسنن
الكبرى للبيهقي 5 / 268 ط دائرة المعارف العثمانية، ونصب الراية 4 / 9 ط
دار المأمون 1357 هـ) .
(4/248)
وَفَسَادِهِ، بِنَاءً عَلَى حُكْمِ
الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ. (1) وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي:
(بَيْع، خِيَار) .
حَقُّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ:
53 - حَقُّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ الَّتِي يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا -
وَهِيَ فِيمَا يَهَبُهُ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ،
وَفِيمَا يَهَبُهُ الإِْنْسَانُ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَانِعٌ مِنْ مَوَانِعِ
الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - حَقٌّ ثَابِتٌ شَرْعًا،
لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل لِرَجُلٍ
أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً أَوْ يَهَبَ هِبَةً، فَيَرْجِعَ فِيهَا، إِلاَّ
الْوَالِدَ بِمَا يُعْطِي وَلَدَهُ. (2) وَهَذَا مَا اسْتَدَل بِهِ
الْجُمْهُورُ. وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ
يُثَبْ مِنْهَا (3) أَيْ مَا لَمْ
__________
(1) البدائع 5 / 292، 295، والهداية 3 / 32، وجواهر الإكليل 2 / 9، والمهذب
1 / 270، وشرح منتهى الإرادات 2 / 146، والمغني 3 / 581.
(2) حديث: " لا يحل لرجل. . . " أخرجه أبو داود (3 / 808 - ط عزت عبيد
دعاس) وابن ماجه (2 / 759 ط الحلبي) .
(3) حديث: " الواهب أحق بهبته ما لم يثب منها ". أخرجه ابن ماجه والبيهقي
وابن أبي شيبة، من حديث أبي هريرة مرفوعا، وفيه إبراهيم بن إسماعيل بن
جارية ضعفوه. وأخرجه الطبراني، والدارقطني من حديث ابن عباس مرفوعا. وأعل
عبد الحق إسناد الدارقطني بمحمد بن عبيد الله العرزمي. وأخرجه الحاكم من
حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا. وقال. صحيح على شرط الشيخين ولم
يخرجاه. ورواه الدارقطني في سننه. قال البيهقي: والصحيح أنه عن عمر من
قوله. وإسناد حديث أبي هريرة أليق، إلا أن فيه إبراهيم بن إسماعيل، وهو
ضعيف عند أهل الحديث، فلا والسنن الكبرى للبيهقي 6 / 181 ط دائرة المعارف
العثمانية بالهند، والمستدرك 2 / 52 نشر دار الكتاب العربي، وسنن الدارقطني
3 / 44 ط دار المحاسن للطباعة، ونصب الراية 4 / 125 - 126 ط دار المأمون
1357 هـ) .
(4/249)
يُعَوَّضْ. قَالُوا: وَالْعِوَضُ فِيمَا
وُهِبَ لِذِي الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ هُوَ: صِلَةُ الرَّحِمِ، وَقَدْ
حَصَل.
وَمَا دَامَ حَقُّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ - فِيمَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ
فِيهِ - ثَابِتًا شَرْعًا فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِسْقَاطُهُ، وَلاَ
يَسْقُطُ بِالإِْسْقَاطِ. وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ. وَالْقَوْل الآْخَرُ
لِلْحَنَابِلَةِ أَنَّ الرُّجُوعَ حَقُّهُ، وَهُوَ يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ لِلأَْبِ الرُّجُوعُ فِيمَا وَهَبَهُ
لِوَلَدِهِ، إِلاَّ إِذَا أَشْهَدَ عَلَيْهَا، أَوْ شَرَطَ عَدَمَ
الاِعْتِصَارِ (أَيِ الرُّجُوعِ) ، فَلاَ رُجُوعَ لَهُ حِينَئِذٍ عَلَى
الْمَشْهُورِ. (1) وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (هِبَة) .
مَا لاَ يَقْبَل الإِْسْقَاطَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ:
سَبَقَ أَنَّ كُل جَائِزِ التَّصَرُّفِ لاَ يُمْنَعُ مِنْ إِسْقَاطِ
حَقِّهِ مَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَانِعٌ، وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ بَعْضِ
مَا لاَ يَقْبَل الإِْسْقَاطَ مِنَ الْحُقُوقِ اتِّفَاقًا أَوْ عِنْدَ
بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، إِمَّا لِفَقْدِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الْمَحَل، أَوْ
شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الإِْسْقَاطِ فِي حَدِّ ذَاتِهِ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ:
54 - الإِْسْقَاطُ إِذَا كَانَ مَسَّ حَقًّا لِغَيْرِ مَنْ يُبَاشِرُهُ
فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ، إِذَا كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْغَيْرِ كَحَقِّ
الصَّغِيرِ، أَوْ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ مَنْ يَمْلِكُ الإِْجَازَةَ
كَالْوَارِثِ وَالْمُرْتَهِنِ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا يَأْتِي:
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 515، والتكملة 2 / 325، والهداية 3 / 227، 228،
والمنثور في القواعد 2 / 54، وشرح منتهى الإرادات 2 / 526، والمغني 5 /
668، والدسوقي 4 / 111، وفتح العلي المالك 2 / 285.
(4/249)
حَقُّ الْحَضَانَةِ:
55 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَيْضًا قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ خِلاَفُ
الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ - أَنَّ لِلْحَاضِنِ أَنْ يَسْقُطَ حَقُّهُ
بِإِسْقَاطِهِ، وَيَنْتَقِل الْحَقُّ إِلَى مَنْ بَعْدَهُ، وَلاَ يُجْبَرُ
عَلَى الْحَضَانَةِ إِلاَّ إِذَا تَعَيَّنَ وَلَمْ يُوجَدْ حَاضِنٌ
غَيْرُهُ، ثُمَّ إِنْ عَادَ الْحَاضِنُ فَطَلَبَ الْحَضَانَةَ عَادَ
الْحَقُّ إِلَيْهِ.
وَخَالَفَ ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ فَقَالُوا:
إِنَّ الْحَاضِنَةَ إِذَا أَسْقَطَتْ حَقَّهَا مِنَ الْحَضَانَةِ لِغَيْرِ
عُذْرٍ، بَعْدَ وُجُوبِهَا لَهَا، ثُمَّ أَرَادَتِ الْعَوْدَ فَلاَ
تَعُودُ. (1) وَلِلتَّفْصِيل ر: (حَضَانَة) .
نَسَبُ الصَّغِيرِ:
56 - النَّسَبُ حَقُّ الصَّغِيرِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْحَقُّ فَإِنَّهُ
لاَ يَجُوزُ لِمَنْ لَحِقَ بِهِ إِسْقَاطُ هَذَا الْحَقِّ، فَمَنْ أَقَرَّ
بِابْنٍ، أَوْ هُنِّئَ بِهِ فَسَكَتَ، أَوْ أَمَّنَ عَلَى الدُّعَاءِ، أَوْ
أَخَّرَ نَفْيَهُ مَعَ إِمْكَانِ النَّفْيِ فَقَدِ الْتَحَقَ بِهِ، وَلاَ
يَصِحُّ لَهُ إِسْقَاطُ نَسَبِهِ بَعْدَ ذَلِكَ. (2)
وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ادَّعَتْ عَلَيْهِ صَبِيًّا
فِي يَدِهِ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْهَا، وَجَحَدَ الرَّجُل فَصَالَحَتْ عَنِ
النَّسَبِ عَلَى شَيْءٍ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ، لأَِنَّ النَّسَبَ حَقُّ
الصَّبِيِّ لاَ حَقُّهَا. (3)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 636، ومنح الجليل 2 / 458، والمنثور في القواعد 2
/ 54، ونهاية المحتاج 6 / 392 و 7 / 219، وشرح منتهى الإرادات 3 / 265،
والمغني 7 / 625، ونيل المآرب بشرح دليل الطالب 2 / 309 ط أولى سنة 1403 هـ
مكتبة الفلاح.
(2) شرح منتهى الإرادات 3 / 211، والمغني 7 / 424، والكافي لابن عبد البر 2
/ 616، ونهاية المحتاج 7 / 116.
(3) البدائع 6 / 49.
(4/250)
عَزْل الْوَكِيل:
57 - الأَْصْل أَنَّ الْمُوَكِّل يَجُوزُ لَهُ عَزْل الْوَكِيل مَتَى
شَاءَ، لأَِنَّهُ تَصَرَّفَ فِي خَالِصِ حَقِّهِ، لَكِنْ لَوْ تَعَلَّقَ
بِالْوَكَالَةِ حَقٌّ لِلْغَيْرِ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ
بِغَيْرِ رِضَى صَاحِبِ الْحَقِّ، لأَِنَّ فِي الْعَزْل إِبْطَال حَقِّهِ
مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَذَلِكَ كَالْوَكِيل فِي الْخُصُومَةِ لاَ يَجُوزُ
عَزْلُهُ مَا دَامَتِ الْخُصُومَةُ مُسْتَمِرَّةً. وَكَالْعَدْل
الْمُتَسَلِّطِ عَلَى بَيْعِ الْمَرْهُونِ. وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، (1) مَعَ تَفْصِيلٍ كَثِيرٍ فِي
شُرُوطِ الْعَزْل وَشُرُوطِ الْوَكَالَةِ فِي الْخُصُومَةِ، وَتُنْظَرُ
فِي: (وَكَالَة، رَهْن) .
تَصَرُّفُ الْمُفْلِسِ:
58 - الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِلْفَلَسِ، يَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ
بِمَالِهِ، وَلِذَلِكَ لاَ يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ
تَصَرُّفًا مُسْتَأْنَفًا، كَوَقْفٍ، وَعِتْقٍ، وَإِبْرَاءٍ، وَعَفْوٍ
مَجَّانًا فِيمَا لاَ قِصَاصَ فِيهِ، وَذَلِكَ لِتَعَلُّقِ حَقِّ
الْغُرَمَاءِ بِمَالِهِ، فَهُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِيهِ، أَشْبَهَ
الرَّاهِنَ يَتَصَرَّفُ فِي الرَّهْنِ. (2) ر: (حَجْر، فَلَس) .
إِسْقَاطُ الْحَقِّ قَبْل وُجُوبِهِ، وَبَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ:
59 - يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الإِْسْقَاطِ قَبْل
وُجُوبِ الْحَقِّ، وَقَبْل وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ، لأَِنَّ
__________
(1) البدائع 6 / 38، ومنح الجليل 3 / 95، 354، وفتح العلي 1 / 240.
(2) ابن عابدين 5 / 95، والدسوقي 3 / 265، ونهاية المحتاج 4 / 305، 306،
ومنتهى الإرادات 2 / 278، والقواعد ص 91، 93.
(4/250)
الْحَقَّ قَبْل ذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ
بِالْفِعْل، فَلاَ يُتَصَوَّرُ وُرُودُ الإِْسْقَاطِ عَلَيْهِ، فَإِسْقَاطُ
مَا لَمْ يَجِبْ، وَلاَ جَرَى سَبَبُ وُجُوبِهِ لاَ يُعْتَبَرُ إِسْقَاطًا،
وَإِنَّمَا مُجَرَّدُ وَعْدٍ لاَ يَلْزَمُ مِنْهُ الإِْسْقَاطُ
مُسْتَقْبَلاً، كَإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ قَبْل الْبَيْعِ، وَإِسْقَاطِ
الْحَاضِنَةِ حَقَّهَا فِي الْحَضَانَةِ قَبْل وُجُوبِهَا، فَكُل هَذَا لاَ
يُعْتَبَرُ إِسْقَاطًا، وَإِنَّمَا هُوَ امْتِنَاعٌ عَنِ الْحَقِّ فِي
الْمُسْتَقْبَل، وَيَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ وَالْعَوْدُ إِلَى
الْمُطَالَبَةِ بِالْحَقِّ.
60 - أَمَّا إِذَا لَمْ يَجِبِ الْحَقُّ، وَلَكِنْ وُجِدَ سَبَبُ
وُجُوبِهِ، فَفِي صِحَّةِ الإِْسْقَاطِ حِينَئِذٍ اخْتِلاَفُ الْفُقَهَاءِ:
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ، وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ
يَصِحُّ الإِْسْقَاطُ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ وَقَبْل الْوُجُوبِ.
فَقَدْ جَاءَ فِي بَدَائِعِ الصَّنَائِعِ (1) : الإِْبْرَاءُ عَنِ الْحَقِّ
بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ قَبْل الْوُجُوبِ جَائِزٌ،
كَالإِْبْرَاءِ عَنِ الأُْجْرَةِ قَبْل مُضِيِّ مُدَّةِ الإِْجَارَةِ.
وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ (2) : الإِْبْرَاءُ عَنْ سَائِرِ الْحُقُوقِ
بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ جَائِزٌ.
وَفِي شَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ، وَمِثْلُهُ فِي الْمُغْنِي: إِنْ
عَفَا مَجْرُوحٌ عَمْدًا أَوْ خَطَأً عَنْ قَوَدِ نَفْسِهِ أَوْ دِيَتِهَا
صَحَّ عَفْوُهُ، لإِِسْقَاطِهِ حَقَّهُ بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِهِ. (3)
وَفِي فَتْحِ الْعَلِيِّ الْمَالِكِ (4) وَرَدَتْ عِدَّةُ مَسَائِل:
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 14، 4 / 29، 512، والدسوقي 2 / 316.
(2) تكملة فتح القدير 8 / 295 ط دار إحياء التراث، والهداية 4 / 8، وحاشية
ابن عابدين 2 / 566.
(3) شرح منتهى الإرادات 3 / 80، 290، 428، والمغني 7 / 750، 8 / 712 - 714،
9 / 30، وكشاف القناع 5 / 546.
(4) فتح العلي المالك 1 / 322، 323، 366.
(4/251)
كَإِبْرَاءِ الزَّوْجَةِ زَوْجَهَا مِنَ
الصَّدَاقِ فِي نِكَاحِ التَّفْوِيضِ قَبْل الْبِنَاءِ وَقَبْل أَنْ
يَفْرِضَ لَهَا، وَإِسْقَاطِ الْمَرْأَةِ عَنْ زَوْجِهَا نَفَقَةَ
الْمُسْتَقْبَل، وَكَعَفْوِ الْمَجْرُوحِ عَمَّا يَئُول إِلَيْهِ
الْجُرْحُ. ثُمَّ قَال نَقْلاً عَنِ ابْنِ عَبْدِ السَّلاَمِ: وَبَعْضُ
هَذِهِ الْمَسَائِل أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ، فَهَل يَلْزَمُ الإِْسْقَاطُ فِي
ذَلِكَ، لأَِنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ قَدْ وُجِدَ أَوْ لاَ يَلْزَمُ
لأَِنَّهَا لَمْ تَجِبْ؟ قَوْلاَنِ حَكَاهُمَا ابْنُ رُشْدٍ
وَفِي الدُّسُوقِيِّ (1) ذَكَرَ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ هُوَ لُزُومُ
الإِْسْقَاطِ لِجَرَيَانِ السَّبَبِ. وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
وَالْقَوْل الثَّانِي لِلْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ يَصِحُّ إِسْقَاطُ
الْحَقِّ قَبْل وُجُوبِهِ، وَإِنْ جَرَى سَبَبُ وُجُوبِهِ.
جَاءَ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: (2) لَوْ أَبْرَأَ الْمُشْتَرِي
الْبَائِعَ عَنِ الضَّمَانِ لَمْ يُبَرَّأْ فِي الأَْظْهَرِ، إِذْ هُوَ
إِبْرَاءٌ عَمَّا لَمْ يَجِبْ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ وَإِنْ وُجِدَ
سَبَبُهُ، وَالْقَوْل الثَّانِي: يُبَرَّأُ لِوُجُودِ سَبَبِ الضَّمَانِ.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ صُورَةً يَصِحُّ فِيهَا الإِْسْقَاطُ قَبْل
الْوُجُوبِ وَهِيَ: مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِلاَ إِذْنٍ،
وَأَبْرَأَهُ الْمَالِكُ، وَرَضِيَ بِبَقَائِهَا، فَإِنَّهُ يُبَرَّأُ
مِمَّا وَقَعَ فِيهَا. (3)
إِسْقَاطُ الْمَجْهُول:
61 - إِسْقَاطُ الْحَقِّ الْمَعْلُومِ لاَ خِلاَفَ فِيهِ، وَالْخِلاَفُ
إِنَّمَا هُوَ فِي الْمَجْهُول، كَالدَّيْنِ، وَالْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ،
وَحِصَّةٍ فِي تَرِكَةٍ، وَمَا مَاثَل ذَلِكَ. فَهَذَا النَّوْعُ مَحَل
__________
(1) الدسوقي 2 / 316.
(2) نهاية المحتاج 4 / 78.
(3) الأشباه للسيوطي ص 337، وقليوبي 2 / 211، والمنثور في القواعد 1 / 86.
(4/251)
خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي صِحَّةِ
إِسْقَاطِهِ، بِنَاءً عَلَى اخْتِلاَفِهِمْ فِي الإِْبْرَاءِ مِنَ
الدَّيْنِ، هَل هُوَ تَمْلِيكٌ أَوْ إِسْقَاطٌ؟
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ، وَالْقَدِيمُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ يَجُوزُ
الإِْبْرَاءُ مِنَ الْمَجْهُول، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنِ اخْتَصَمَا فِي مَوَارِيثَ قَدْ دَرَسَتْ:
اسْتَهِمَا، وَتَوَخَّيَا الْحَقَّ، وَلِيُحْلِل كُلٌّ مِنْكُمَا
صَاحِبَهُ. (1) وَلأَِنَّهُ إِسْقَاطُ حَقٍّ لاَ تَسْلِيمَ فِيهِ، فَصَحَّ
فِي الْمَجْهُول، لأَِنَّ الْجَهَالَةَ فِيهِ لاَ تُفْضِي إِلَى
الْمُنَازَعَةِ. وَمِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: صِحَّةُ الصُّلْحِ
عَمَّا تَعَذَّرَ عِلْمُهُ مِنَ الدَّيْنِ، لِئَلاَّ يُفْضِيَ إِلَى
ضَيَاعِ الْمَال. (2)
وَفِي الْجَدِيدِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الإِْبْرَاءُ مِنَ الْمَجْهُول (3) ،
بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ تَمْلِيكُ مَا فِي ذِمَّتِهِ، فَيُشْتَرَطُ
الْعِلْمُ بِهِ.
وَلاَ فَرْقَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الْقَوْل
بِعَدَمِ الصِّحَّةِ بَيْنَ مَجْهُول الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ.
وَيَسْتَثْنِي الشَّافِعِيَّةُ مِنَ الإِْبْرَاءِ مِنَ الْمَجْهُول
صُورَتَيْنِ:
__________
(1) حديث " استهما وتوخيا الحق. . . . " أخرجه أحمد، وأبو داود من حديث أم
مسلمة رضي عنها مرفوعا، ولفظ أبي داود " اقتسما وتوخيا الحق ثم استهما ثم
تحالا "، والحديث سكت عنه أبو داود والمنذري. وقال شعيب الأرناؤوط محقق شرح
السنة: إسناده حسن (مسند أحمد بن حنبل 6 / 320 ط الميمنية، وعون المعبود 3
/ 329 ط الهند، وشرح السنة للبغوي بتحقيق شعيب الأرناؤوط 10 / 113 نشر
المكتب الإسلامي) .
(2) البدائع 5 / 172، 173، والدسوقي 3 / 411، وشرح منتهى الإرادات 263،
وكشاف القناع 3 / 396 و 4 / 304، والقواعد لابن رجب ص 232، والمغني 4 /
198.
(3) قليوبي 2 / 326، ونهاية المحتاج 4 / 428، 430، وشرح الروض 2 / 239،
والمراجع السابقة للحنابلة.
(4/252)
الأُْولَى: الإِْبْرَاءُ مِنْ إِبِل
الدِّيَةِ، فَيَصِحُّ الإِْبْرَاءُ مِنْهَا مَعَ الْجَهْل بِصِفَتِهَا،
لاِغْتِفَارِهِمْ ذَلِكَ فِي إِثْبَاتِهَا فِي ذِمَّةِ الْجَانِي. وَكَذَا
الأَْرْشُ وَالْحُكُومَةُ يَصِحُّ الإِْبْرَاءُ مِنْهُمَا مَعَ الْجَهْل
بِصِفَتِهِمَا.
الثَّانِيَةُ: إِذَا ذَكَرَ قَدْرًا يَتَحَقَّقُ أَنَّ حَقَّهُ أَقَل
مِنْهُ.
وَأُضِيفَ إِلَى هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ مَا لَوْ أَبْرَأَهُ عَمَّا
عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيَصِحُّ مَعَ الْجَهَالَةِ، لأَِنَّهُ
وَصِيَّةٌ.
كَذَلِكَ الْجَهْل الْيَسِيرُ الَّذِي يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ لاَ يُؤَثِّرُ
فِي الإِْسْقَاطِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، كَالإِْبْرَاءِ مِنْ حِصَّتِهِ
مِنْ مُوَرِّثِهِ فِي التَّرِكَةِ، إِنْ عَلِمَ قَدْرَ التَّرِكَةِ،
وَجَهِل قَدْرَ حِصَّتِهِ.
وَإِنْ أَجَازَ الْوَارِثُ وَصِيَّةَ مُوَرِّثِهِ فِيمَا زَادَ عَلَى
الثُّلُثِ، وَقَال: إِنَّمَا أَجَزْتُ لأَِنِّي ظَنَنْتُ الْمَال قَلِيلاً،
وَأَنَّ الثُّلُثَ قَلِيلٌ، وَقَدْ بَانَ أَنَّهُ كَثِيرٌ، قُبِل قَوْلُهُ
بِيَمِينِهِ، وَلَهُ الرُّجُوعُ بِمَا زَادَ عَلَى ظَنِّهِ، مَا لَمْ
يَكُنِ الْمَال ظَاهِرًا لاَ يَخْفَى عَلَى الْمُجِيزِ، أَوْ تَقُومُ
بَيِّنَةٌ بِعِلْمِهِ وَبِقَدْرِهِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ. (1)
62 - أَمَّا الإِْبْرَاءُ مِنَ الْعُيُوبِ فِي الْبَيْعِ، فَالْحُكْمُ
فِيهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ كَالْحُكْمِ فِي الدَّيْنِ،
مَعَ تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْحَادِثِ وَالْقَائِمِ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ:
الأَْشْهَرُ فِيهِ عَدَمُ صِحَّةِ الإِْبْرَاءِ. وَالرَّأْيُ الثَّانِي:
يَجُوزُ الإِْبْرَاءُ فِيهِ. وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَفِيهِ
طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
قَوْلٌ بِصِحَّةِ الْبَرَاءَةِ مِنْ كُل عَيْبٍ، وَقَوْلٌ بِعَدَمِ صِحَّةِ
الْبَرَاءَةِ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لاَ يُبَرَّأُ إِلاَّ مِنْ عَيْبٍ
وَاحِدٍ، وَهُوَ الْعَيْبُ الْبَاطِنُ فِي الْحَيَوَانِ الَّذِي لاَ
يَعْلَمُ بِهِ الْبَائِعُ، قَال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لأَِنَّ
الْحَيَوَانَ يُفَارِقُ مَا سِوَاهُ، وَقَلَّمَا يُبَرَّأُ مِنْ عَيْبٍ
يَظْهَرُ أَوْ يَخْفَى، فَدَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى
__________
(1) منتهى الإرادات 2 / 543، والمهذب 1 / 457.
(4/252)
التَّبَرِّي مِنَ الْعَيْبِ الْبَاطِنِ
فِيهِ. (1)
هَذِهِ أَمْثِلَةٌ لِمَا لاَ يَقْبَل الإِْسْقَاطَ بِالاِتِّفَاقِ، أَوْ
مَعَ الاِخْتِلاَفِ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الْمَحَل أَوْ
شُرُوطِ الإِْسْقَاطِ فِي حَدِّ ذَاتِهِ.
63 - وَهُنَاكَ كَثِيرٌ مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي لاَ تَقْبَل الإِْسْقَاطَ
لأَِسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَمِنَ الْعَسِيرِ حَصْرُ هَذِهِ الْحُقُوقِ
لِتَشَعُّبِهَا فِي مَسَائِل الْفِقْهِ الْمُخْتَلِفَةِ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ
ذَلِكَ: حَقُّ الزَّوْجِ فِي الاِسْتِمْتَاعِ. (2)
وَهُنَاكَ مَا لاَ يَسْقُطُ لِقَاعِدَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهِيَ:
أَنَّ صِفَاتِ الْحُقُوقِ لاَ تُفْرَدُ بِالإِْسْقَاطِ كَالأَْجَل
وَالْجَوْدَةِ، بَيْنَمَا يَجُوزُ إِسْقَاطُهُمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
خُرُوجًا عَنْ قَاعِدَةِ " التَّابِعُ تَابِعٌ (3) ".
كَذَلِكَ قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الشَّرْطَ إِذَا كَانَ فِي عَقْدٍ
لاَزِمٍ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ وَلاَ يَقْبَل الإِْسْقَاطَ، فَلَوْ قَال رَبُّ
السَّلَمِ: أَسْقَطْتُ حَقِّي فِي التَّسْلِيمِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ أَوِ
الْبَلَدِ لَمْ يَسْقُطْ. وَكَمَنْ أَسْقَطَ حَقَّهُ فِيمَا شَرَطَ لَهُ
مِنْ رِيعِ الْوَقْفِ لاَ لأَِحَدٍ، لأَِنَّ الاِشْتِرَاطَ لَهُ صَارَ
لاَزِمًا كَلُزُومِ الْوَقْفِ (4) . وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ، وَيُنْظَرُ
فِي مَوَاضِعِهِ.
تَجَزُّؤُ الإِْسْقَاطِ:
64 - مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الإِْسْقَاطَ يَرِدُ عَلَى مَحَلٍّ،
وَالْمَحَل هُوَ الأَْسَاسُ فِي بَيَانِ حُكْمِ التَّجَزُّؤِ، فَإِذَا
__________
(1) المهذب 1 / 295، والبدائع 5 / 277، والهداية 3 / 41، والمغني 4 / 197،
198، والقواعد ص 232، وفتح العلي المالك 1 / 361.
(2) المنثور في القواعد 2 / 54.
(3) المنثور في القواعد 2 / 315، 316، والأشباه لابن نجيم ص 120، 266.
(4) الأشباه لابن نجيم ص 317.
(4/253)
كَانَ الْمَحَل يَقْبَل الإِْسْقَاطَ فِي
بَعْضِهِ دُونَ الْبَعْضِ الآْخَرِ، قِيل: إِنَّ الإِْسْقَاطَ يَتَجَزَّأُ.
وَإِنْ كَانَ الْمَحَل لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَثْبُتَ بِالإِْسْقَاطِ فِي
بَعْضِهِ، بَل يَثْبُتُ فِي الْكُل، قِيل: إِنَّ الإِْسْقَاطَ لاَ
يَتَجَزَّأُ.
وَمِنَ الْقَوَاعِدِ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، كَمَا ذَكَرَ ابْنُ
نُجَيْمٍ وَالأَْتَاسِيُّ شَارِحُ الْمَجَلَّةِ: " ذِكْرُ بَعْضِ مَا لاَ
يَتَجَزَّأُ كَذِكْرِ كُلِّهِ ". فَإِذَا طَلَّقَ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ
وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ، أَوْ طَلَّقَ نِصْفَ الْمَرْأَةِ طُلِّقَتْ، وَمِنْهَا
الْعَفْوُ عَنِ الْقِصَاصِ: إِذَا عَفَا عَنْ بَعْضِ الْقَاتِل كَانَ
عَفْوًا عَنْ كُلِّهِ، وَكَذَا إِذَا عَفَا بَعْضُ الأَْوْلِيَاءِ سَقَطَ
الْقِصَاصُ كُلُّهُ وَانْقَلَبَ نَصِيبُ الْبَاقِينَ مَالاً. وَخَرَجَ عَنِ
الْقَاعِدَةِ الْعِتْقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ إِذَا أَعْتَقَ
بَعْضَ عَبْدِهِ لَمْ يَعْتِقْ كُلُّهُ. وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ لاَ
يَتَجَزَّأُ (1) ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ فَعَلَيْهِ عِتْقُهُ كُلُّهُ.
(2) وَأَدْخَل شَارِحُ الْمَجَلَّةِ تَحْتَ الْقَاعِدَةِ أَيْضًا:
الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ، وَالشُّفْعَةَ، وَوِصَايَةَ الأَْبِ،
وَالْوِلاَيَةَ (3) .
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ بِتَوْضِيحٍ أَكْثَر
فَقَالُوا: مَا لاَ يَقْبَل التَّبْعِيضَ يَكُونُ اخْتِيَارُ بَعْضِهِ
كَاخْتِيَارِ كُلِّهِ، وَإِسْقَاطُ بَعْضِهِ كَإِسْقَاطِ كُلِّهِ.
وَذَكَرُوا تَحْتَ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْمَسَائِل الَّتِي سَبَقَ
إِيرَادُهَا عَنِ ابْنِ نُجَيْمٍ، وَهِيَ: الطَّلاَقُ وَالْقِصَاصُ
وَالْعِتْقُ وَالشُّفْعَةُ. فَإِذَا عَفَا الشَّفِيعُ عَنْ بَعْضِ حَقِّهِ
سَقَطَ الْكُل. وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنَ الْقَاعِدَةِ حَدَّ
الْقَذْفِ،
__________
(1) الأشباه لابن نجيم ص 162، والبدائع 7 / 247، 235، 356.
(2) حديث: " من أعتق شركا له في مملوك فعليه عتقه " أخرجه البخاري من حديث
عمر رضي الله عنه. (الفتح 5 / 151 ط السلفية) .
(3) شرح المجلة 1 / 165 م 63.
(4/253)
فَالْعَفْوُ عَنْ بَعْضِهِ لاَ يُسْقِطُ
شَيْئًا مِنْهُ. قَالَهُ الرَّافِعِيُّ. وَزَادَ فِي نِهَايَةِ
الْمُحْتَاجِ: التَّعْزِيرَ، فَلَوْ عَفَا عَنْ بَعْضِهِ لَمْ يَسْقُطْ
مِنْهُ شَيْءٌ (1) .
وَالْمَسَائِل الْمَشْهُورَةُ الَّتِي وَرَدَتْ مِنْ طَلاَقٍ وَعِتْقٍ
وَقِصَاصٍ هِيَ مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، فِي أَنَّ الطَّلاَقَ
الْمُبَعَّضَ أَوِ الْمُضَافَ إِلَى جُزْءٍ مِنَ الزَّوْجَةِ، أَوِ
الْعِتْقَ الْمُضَافَ إِلَى جُزْءٍ مِنَ الْعَبْدِ، أَوْ عَفْوَ أَحَدِ
الْمُسْتَحِقِّينَ عَنِ الْقِصَاصِ، كُل هَذَا يَسْرِي عَلَى الْكُل، وَلاَ
يَتَبَعَّضُ الْمَحَل، فَتُطَلَّقُ الْمَرْأَةُ، وَيَعْتِقُ الْعَبْدُ،
وَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ. وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ فِي الأَْصْل الْعَامِّ،
إِلاَّ مَا وَرَدَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْعِتْقِ كَمَا سَبَقَ.
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي فُرُوعِ كُل مَسْأَلَةٍ. فَمَثَلاً
إِضَافَةُ الطَّلاَقِ أَوِ الْعِتْقِ إِلَى الظُّفُرِ وَالسِّنِّ
وَالشَّعَرِ لاَ يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّ هَذِهِ
الأَْشْيَاءَ تَزُول وَيَخْرُجُ غَيْرُهَا فَكَانَتْ فِي حُكْمِ
الْمُنْفَصِل (2) .
وَفِي الإِْضَافَةِ إِلَى الشَّعَرِ قَوْلاَنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ،
وَيَقَعُ بِالإِْضَافَةِ إِلَيْهِ الطَّلاَقُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَالشُّفْعَةُ أَيْضًا الأَْصْل الْعَامُّ فِيهَا أَنَّهَا لاَ
تَتَبَعَّضُ، حَتَّى لاَ يَقَعَ ضَرَرٌ بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ.
فَالشَّفِيعُ إِمَّا أَنْ يَأْخُذَ الْكُل أَوْ يَتْرُكَ، وَإِذَا أَسْقَطَ
حَقَّهُ فِي الْبَعْضِ سَقَطَ الْكُل. لَكِنْ وَقَعَ خِلاَفٌ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ، إِذْ قِيل: إِنَّ إِسْقَاطَ بَعْضِ الشُّفْعَةِ لاَ
يُسْقِطُ شَيْئًا مِنْهَا.
وَلَيْسَ مِنْ تَبْعِيضِ الشُّفْعَةِ مَا إِذَا كَانَ الْبَائِعُ أَوِ
__________
(1) المنثور في القواعد للزركشي 3 / 153، 154، ونهاية المحتاج 7 / 104، 8 /
355.
(2) المغني 7 / 246.
(4/254)
الْمُشْتَرِي اثْنَيْنِ، فَإِنَّ
الشَّفِيعَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا دُونَ الآْخَرِ،
وَإِذَا تَعَدَّدَ الشُّفَعَاءُ فَالشُّفْعَةُ عَلَى قَدْرِ
الأَْنْصِبَاءِ.
وَالدَّيْنُ مِمَّا يَقْبَل التَّبْعِيضَ، فَلِلدَّائِنِ أَخْذُ بَعْضِهِ
وَإِسْقَاطُ بَعْضِهِ (1) .
السَّاقِطُ لاَ يَعُودُ
65 - مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ السَّاقِطَ يَنْتَهِي وَيَتَلاَشَى،
وَيُصْبِحُ كَالْمَعْدُومِ لاَ سَبِيل إِلَى إِعَادَتِهِ إِلاَّ بِسَبَبٍ
جَدِيدٍ يَصِيرُ مِثْلَهُ لاَ عَيْنَهُ، فَإِذَا أَبْرَأَ الدَّائِنُ
الْمَدِينَ فَقَدْ سَقَطَ الدَّيْنُ، فَلاَ يَكُونُ هُنَاكَ دَيْنٌ، إِلاَّ
إِذَا وُجِدَ سَبَبٌ جَدِيدٌ، وَكَالْقِصَاصِ لَوْ عُفِيَ عَنْهُ فَقَدْ
سَقَطَ وَسَلِمَتْ نَفْسُ الْقَاتِل، وَلاَ تُسْتَبَاحُ إِلاَّ بِجِنَايَةٍ
أُخْرَى، وَهَكَذَا. وَكَمَنْ أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الشُّفْعَةِ، ثُمَّ
رَجَعَتِ الدَّارُ إِلَى صَاحِبِهَا بِخِيَارِ رُؤْيَةٍ، أَوْ بِخِيَارِ
شَرْطٍ لِلْمُشْتَرِي، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ، لأَِنَّ
الْحَقَّ قَدْ بَطَل، فَلاَ يَعُودُ إِلاَّ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ (2) .
وَالإِْسْقَاطُ يَقَعُ عَلَى الْكَائِنِ الْمُسْتَحِقِّ، وَهُوَ الَّذِي
إِذَا سَقَطَ لاَ يَعُودُ، أَمَّا الْحَقُّ الَّذِي يَثْبُتُ شَيْئًا
فَشَيْئًا، أَيْ يَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِ سَبَبِهِ فَلاَ يَرِدُ عَلَيْهِ
الإِْسْقَاطُ، لأَِنَّ الإِْسْقَاطَ يُؤَثِّرُ فِي الْحَال دُونَ
__________
(1) البدائع 5 / 25، ومنح الجليل 2 / 240، 245 و 4 / 574، ونهاية المحتاج 5
/ 212، 213، وخبايا الزوايا ص 385 نشر وزارة الأوقاف بالكويت، والمهذب 1 /
388، 2 / 88، وشرح منتهى الإرادات 2 / 237، 3 / 140، 284، والمغني 9 / 344،
345.
(2) شرح المجلة للأتاسي 1 / 118 م 51، وبدائع الصنائع 5 / 20، وجواهر
الإكليل 2 / 162، ومنتهى الإرادات 3 / 288.
(4/254)
الْمُسْتَقْبَل. وَمِثَال ذَلِكَ مَا جَاءَ
فِي خَبَايَا الزَّوَايَا: لَوِ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَبَقَ قَبْل
الْقَبْضِ، وَرَضِيَ الْمُشْتَرِي بِتَرْكِ الْفَسْخِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ،
يُمَكَّنُ مِنَ الْفَسْخِ، لأَِنَّ التَّسْلِيمَ مُسْتَحَقٌّ لَهُ فِي
الأَْوْقَاتِ كُلِّهَا، وَالإِْسْقَاطُ يُؤَثِّرُ فِي الْحَال دُونَ مَا
يُسْتَحَقُّ مِنْ بَعْدُ (1) .
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: لَوْ أَسْقَطَتِ الزَّوْجَةُ نَوْبَتَهَا
لِضَرَّتِهَا فَلَهَا الرُّجُوعُ، لأَِنَّهَا أَسْقَطَتِ الْكَائِنَ،
وَحَقُّهَا يَثْبُتُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَلاَ يَسْقُطُ فِي
الْمُسْتَقْبَل، وَلاَ يَرِدُ أَنَّ السَّاقِطَ لاَ يَعُودُ، لأَِنَّ
الْعَائِدَ غَيْرُ السَّاقِطِ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا
(2) . وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ قَاعِدَةً فِي ذَلِكَ فَقَال: الأَْصْل
أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِلْحُكْمِ إِنْ كَانَ مَوْجُودًا وَالْحُكْمُ
مَعْدُومٌ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمَانِعِ، وَإِنْ عُدِمَ الْمُقْتَضِي
فَهُوَ مِنْ بَابِ السَّاقِطِ (3) .
فَهُنَاكَ فَرْقٌ إِذَنْ بَيْنَ وُجُودِ الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ، ثُمَّ
سَقَطَ الْحُكْمُ لِمَانِعٍ، فَإِذَا زَال الْمَانِعُ مَعَ وُجُودِ
الْمُقْتَضِي عَادَ الْحُكْمُ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا عُدِمَ الْمُقْتَضِي
فَلاَ يَعُودُ الْحُكْمُ.
وَمِنْ ذَلِكَ حَقُّ الْحَضَانَةِ. جَاءَ فِي مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ (4)
: لاَ حَضَانَةَ لِفَاسِقٍ، وَلاَ لِكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ، وَلاَ
تَزْوِيجَ بِأَجْنَبِيٍّ مِنْ مَحْضُونٍ. وَبِمُجَرَّدِ زَوَال الْمَانِعِ
مِنْ فِسْقٍ أَوْ كُفْرٍ، أَوْ تَزَوُّجٍ بِأَجْنَبِيٍّ، وَبِمُجَرَّدِ
رُجُوعِ مُمْتَنِعٍ مِنْ حَضَانَةٍ يَعُودُ الْحَقُّ لَهُ فِي
الْحَضَانَةِ، لِقِيَامِ سَبَبِهَا مَعَ زَوَال الْمَانِعِ.
هَذَا مَعَ الاِخْتِلاَفِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، هَل الْحَضَانَةُ
__________
(1) خبايا الزوايا ص 247 م / 239.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 636، ومنتهى الإرادات 3 / 103، وفتح العلي المالك
1 / 315.
(3) الأشباه لابن نجيم ص 318.
(4) شرح منتهى الإرادات 3 / 264، 265.
(4/255)
حَقُّ الْحَاضِنِ أَوْ حَقُّ الْمَحْضُونِ.
وَفِي الدُّسُوقِيِّ: إِذَا انْتَقَلَتِ الْحَضَانَةُ لِشَخْصٍ لِمَانِعٍ،
ثُمَّ زَال الْمَانِعُ فَإِنَّهَا تَعُودُ لِلأَْوَّل، كَمَا لَوْ
تَزَوَّجَتِ الأُْمُّ وَدَخَل بِهَا الزَّوْجُ، وَأَخَذَتِ الْجَدَّةُ
الْوَلَدَ، ثُمَّ فَارَقَ الزَّوْجُ الأُْمَّ، وَقَدْ مَاتَتِ الْجَدَّةُ،
أَوْ تَزَوَّجَتْ، وَالأُْمُّ خَالِيَةٌ مِنَ الْمَوَانِعِ، فَهِيَ أَحَقُّ
مِمَّنْ بَعْدَ الْجَدَّةِ، وَهِيَ الْخَالَةُ وَمَنْ بَعْدَهَا. كَذَا
قَال الْمُصَنِّفُ (الدَّرْدِيرُ) ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّ
الْجَدَّةَ إِذَا مَاتَتِ انْتَقَلَتِ الْحَضَانَةُ لِمَنْ بَعْدَهَا
كَالْخَالَةِ، وَلاَ تَعُودُ لِلأُْمِّ وَلَوْ كَانَتْ مُتَأَيِّمَةً (لاَ
زَوْجَ لَهَا) . (1)
وَفِي الْجُمَل عَلَى شَرْحِ الْمَنْهَجِ: لَوْ أَسْقَطَتِ الْحَاضِنَةُ
حَقَّهَا انْتَقَلَتْ لِمَنْ يَلِيهَا، فَإِذَا رَجَعَتْ عَادَ حَقُّهَا
(2) . وَمِثْل ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا فِي الْبَدَائِعِ.
وَقَال ابْنُ نُجَيْمٍ: وَفَرَّعْتُ عَلَى " وَقَوْلُهُمْ: السَّاقِطُ لاَ
يَعُودُ " قَوْلَهُمْ إِذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِرَدِّ شَهَادَةِ
الشَّاهِدِ، مَعَ وُجُودِ الأَْهْلِيَّةِ، لِفِسْقٍ أَوْ لِتُهْمَةٍ،
فَإِنَّهُ لاَ يُقْبَل بَعْدَ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ.
وَمِنَ الْمَسَائِل الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ نُجَيْمٍ لِلتَّفْرِقَةِ
بَيْنَ مَا هُوَ مُسْقِطٌ وَمَا هُوَ مَانِعٌ قَوْلُهُ: لاَ يَعُودُ
التَّرْتِيبُ بَعْدَ سُقُوطِهِ بِقِلَّةِ الْفَوَائِتِ، بِخِلاَفِ مَا
إِذَا سَقَطَ بِالنِّسْيَانِ فَإِنَّهُ يَعُودُ بِالتَّذَكُّرِ، لأَِنَّ
النِّسْيَانَ كَانَ مَانِعًا لاَ مُسْقِطًا، فَهُوَ مِنْ بَابِ زَوَال
الْمَانِعِ. وَلاَ تَصِحُّ إِقَالَةُ الإِْقَالَةِ فِي السَّلَمِ،
لأَِنَّهُ دَيْنٌ سَاقِطٌ فَلاَ يَعُودُ. أَمَّا عَوْدُ النَّفَقَةِ -
بَعْدَ سُقُوطِهَا بِالنُّشُوزِ - بِالرُّجُوعِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ زَوَال
الْمَانِعِ، لاَ مِنْ بَابِ عَوْدِ
__________
(1) الدسوقي 2 / 533.
(2) الجمل على شرح المنهج 4 / 521، والبدائع 4 / 42.
(4/255)
السَّاقِطِ (1) . وَتُنْظَرُ الْفُرُوعُ
فِي أَبْوَابِهَا.
أَثَرُ الإِْسْقَاطِ:
66 - يَتَرَتَّبُ عَلَى الإِْسْقَاطِ آثَارٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ مَا
يَرِدُ عَلَيْهِ. وَمِنْ ذَلِكَ:
(1) إِسْقَاطُ رَجُلٍ الاِنْتِقَاعَ بِالْبُضْعِ بِالطَّلاَقِ،
وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ آثَارٌ مُتَعَدِّدَةٌ، كَالْعِدَّةِ وَالنَّفَقَةِ
وَالسُّكْنَى وَجَوَازِ الرَّجْعَةِ، إِنْ كَانَ الطَّلاَقُ رَجْعِيًّا،
وَعَدَمِ جَوَازِ ذَلِكَ إِنْ كَانَ بَائِنًا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ
الآْثَارِ. (2) ر: (طَلاَق) .
(2) الإِْعْتَاقُ وَهُوَ: إِزَالَةُ الرِّقِّ عَنِ الْمَمْلُوكِ
وَإِثْبَاتُ الْحُرِّيَّةِ لَهُ، يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِلْكُهُ لِمَالِهِ
وَكَسْبِهِ، وَإِطْلاَقُ يَدِهِ فِي التَّصَرُّفَاتِ، وَإِثْبَاتُ حَقِّ
الْوَلاَءِ لِلْمُعْتَقِ، وَمَا شَابَهُ ذَلِكَ مِنَ الأَْحْكَامِ. (3) ر:
(عِتْق) .
(3) قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى الإِْسْقَاطِ إِثْبَاتُ حُقُوقٍ تَتَعَلَّقُ
بِالْمَحَل، كَإِسْقَاطِ حَقِّ الشُّفْعَةِ، يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ
اسْتِقْرَارُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي، وَإِسْقَاطُ حَقِّ الْخِيَارِ فِي
الْبَيْعِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ لُزُومُ الْبَيْعِ، لأَِنَّ الْمِلْكَ
الثَّابِتَ بِالْبَيْعِ قَبْل الاِخْتِيَارِ مِلْكٌ غَيْرُ لاَزِمٍ.
وَإِجَازَةُ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا لُزُومُ الْبَيْعِ
الْمَوْقُوفِ (4) وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (بَيْع - خِيَار -
شُفْعَة - فُضُولِيّ) .
(4) وَمِنَ الآْثَارِ مَا يَرِدُ تَحْتَ قَاعِدَةِ: الْفَرْعُ يَسْقُطُ
بِسُقُوطِ الأَْصْل، كَمَا إِذَا أُبْرِئَ الْمَضْمُونُ أَوِ الْمَكْفُول
عَنِ الدَّيْنِ بُرِّئَ الضَّامِنُ وَالْكَفِيل، لأَِنَّ الضَّامِنَ
وَالْكَفِيل فَرْعٌ، فَإِذَا سَقَطَ الأَْصْل سَقَطَ
__________
(1) الأشباه لابن نجيم ص 318، 319.
(2) الاختيار 3 / 121، 174.
(3) الاختيار 4 / 17.
(4) البدائع 5 / 261، 267، 273، 291، 295.
(4/256)
الْفَرْعُ وَلاَ عَكْسَ، فَلَوْ أُبْرِئَ
الضَّامِنُ لَمْ يُبَرَّأِ الأَْصِيل، لأَِنَّهُ إِسْقَاطُ وَثِيقَةٍ فَلاَ
يَسْقُطُ بِهَا الدَّيْنُ (1) . ر: (كَفَالَة - ضَمَان) .
(5) وَقَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى الإِْسْقَاطِ الْحُصُول عَلَى حَقٍّ كَانَ
صَاحِبُهُ مَمْنُوعًا مِنْهُ، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ، وَذَلِكَ مِثْل
صِحَّةِ تَصَرُّفِ الرَّاهِنِ فِي الْمَرْهُونِ، بِنَحْوِ وَقْفٍ أَوْ
هِبَةٍ، إِذَا أَذِنَ الْمُرْتَهِنُ، لأَِنَّ مَنْعَهُ كَانَ لِتَعَلُّقِ
حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ، وَقَدْ أَسْقَطَهُ بِإِذْنِهِ (2) .
(6) الْغَرِيمُ إِذَا وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ عِنْدَ الْمُفْلِسِ كَانَ لَهُ
حَقُّ الرُّجُوعِ فِيهِ بِشُرُوطٍ مِنْهَا: أَلاَّ يَتَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ
حَقٌّ لِلْغَيْرِ كَشُفْعَةٍ وَرَهْنٍ. فَإِذَا أَسْقَطَ أَصْحَابُ
الْحُقُوقِ حُقُوقَهُمْ، بِأَنْ أَسْقَطَ الشَّفِيعُ شُفْعَتَهُ، أَوْ
أَسْقَطَ الْمُرْتَهِنُ حَقَّهُ فِي الرَّهْنِ فَلِرَبِّ الْعَيْنِ
أَخْذُهَا (3) .
(7) إِذَا أَجَّل الْبَائِعُ الثَّمَنَ بَعْدَ الْعَقْدِ سَقَطَ حَقُّ
الْحَبْسِ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْبَدَائِعِ، لأَِنَّهُ أَخَّرَ حَقَّ
نَفْسِهِ فِي قَبْضِ الثَّمَنِ، فَلاَ يَتَأَخَّرُ حَقُّ الْمُشْتَرِي فِي
قَبْضِ الْمَبِيعِ، وَكَذَا لَوْ أَبْرَأَ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِي مِنَ
الثَّمَنِ بَطَل حَقُّ الْحَبْسِ (4) .
(8) لَوْ أَجَّلَتِ الزَّوْجَةُ الْمَهْرَ لِوَقْتٍ مَعْلُومٍ، فَلَيْسَ
لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا، لأَِنَّ الْمَرْأَةَ بِالتَّأْجِيل
رَضِيَتْ بِإِسْقَاطِ حَقِّ نَفْسِهَا، فَلاَ يَسْقُطُ حَقُّ الزَّوْجِ.
وَهَذَا فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَال أَبُو يُوسُفَ:
لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا، لأَِنَّ مِنْ حُكْمِ الْمَهْرِ أَنْ
يَتَقَدَّمَ تَسْلِيمُهُ
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 244، والمنتهى 2 / 247، والمنثور 3 / 22.
(2) منتهى الإرادات 2 / 234، ونهاية المحتاج 4 / 262، ومنح الجليل 3 / 74.
(3) منتهى الإرادات 2 / 281.
(4) البدائع 5 / 250.
(4/256)
عَلَى تَسْلِيمِ النَّفْسِ، فَلَمَّا قَبِل
الزَّوْجُ التَّأْجِيل كَانَ ذَلِكَ رِضًا بِتَأْخِيرِ حَقِّ نَفْسِهَا فِي
الْقَبْضِ، بِخِلاَفِ الْبَائِعِ (1) . وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا الْوَصِيَّةُ
فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ. وَيُنْظَرُ
تَفْصِيل كُل ذَلِكَ فِي: (إِفْلاَسٌ - بَيْعٌ - حَبْس - رَهْن) .
(9) إِسْقَاطُ الشَّارِعِ الْعِبَادَاتِ بِسَبَبِ الأَْعْذَارِ قَدْ
يَسْقُطُ الطَّلَبُ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَلاَ يُطَالَبُ بِالْقَضَاءِ،
كَالصَّوْمِ بِالنِّسْبَةِ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لاَ يَقْدِرُ
عَلَيْهِ. وَقَدْ يُطَالَبُ بِالْقَضَاءِ، كَالصَّوْمِ بِالنِّسْبَةِ
لِلْحَائِضِ وَالْمُسَافِرِ.
(10) الإِْبْرَاءُ مِنَ الدَّيْنِ أَوْ مِنَ الْحَقِّ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ
بَرَاءَةُ ذِمَّةِ الْمُبَرَّأِ مَتَى اسْتَوْفَى الإِْبْرَاءُ شُرُوطَهُ.
وَسَوَاءٌ أَكَانَ عَنْ حَقٍّ خَاصٍّ أَمْ حَقٍّ عَامٍّ، بِحَسَبِ مَا
يَرِدُ فِي صِيغَةِ الْمُبَرِّئِ.
وَيَتَرَتَّبُ كَذَلِكَ سُقُوطُ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ، فَلاَ تُسْمَعُ
الدَّعْوَى فِيمَا تَنَاوَلَهُ الإِْبْرَاءُ إِلَى حِينِ وُقُوعِهِ، دُونَ
مَا يَحْدُثُ بَعْدَهُ. وَلاَ تُقْبَل الدَّعْوَى بَعْدَ ذَلِكَ بِحُجَّةِ
الْجَهْل أَوِ النِّسْيَانِ.
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَيَّدُوا ذَلِكَ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنِ
الإِْبْرَاءُ مَعَ الصُّلْحِ. فَإِذَا كَانَ الإِْبْرَاءُ مَعَ الصُّلْحِ،
أَوْ وَقَعَ بَعْدَ الصُّلْحِ إِبْرَاءٌ عَامٌّ، ثُمَّ ظَهَرَ خِلاَفُهُ
فَلَهُ نَقْضُهُ، لأَِنَّهُ إِبْرَاءٌ عَلَى دَوَامِ صِفَةِ الصُّلْحِ لاَ
إِبْرَاءٌ مُطْلَقٌ، إِلاَّ إِذَا الْتَزَمَ فِي الصُّلْحِ عَدَمَ
الْقِيَامِ عَلَيْهِ وَلَوْ بِبَيِّنَةٍ فَلاَ تُسْمَعُ الدَّعْوَى. هَذَا،
مَعَ اسْتِثْنَاءِ الْحَنَفِيَّةِ مِنَ الإِْبْرَاءِ بَعْضَ الْمَسَائِل،
كَضَمَانِ الدَّرَكِ (اسْتِحْقَاقُ الْمَبِيعِ) ، وَكَدَعْوَى الْوَكَالَةِ
وَالْوِصَايَةِ، وَكَادِّعَاءِ
__________
(1) البدائع 3 / 289، والمنح 2 / 104.
(4/257)
الْوَارِثِ دَيْنًا لِلْمَيِّتِ عَلَى
رَجُلٍ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ كَثِيرٌ يُنْظَرُ فِي (إِبْرَاءٌ -
دَعْوَى) .
(11) الإِْبْرَاءُ الْعَامُّ يَمْنَعُ الدَّعْوَى بِالْحَقِّ قَضَاءً لاَ
دِيَانَةً، إِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ عَلِمَ بِمَالِهِ مِنَ الْحَقِّ لَمْ
يُبَرِّئْهُ، كَمَا فِي الْفَتَاوَى الْوَلْوَالَجِيَّةِ. لَكِنْ فِي
خِزَانَةِ الْفَتَاوَى: الْفَتْوَى عَلَى أَنَّهُ يُبَرَّأُ قَضَاءً
وَدِيَانَةً وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ
أَبْرَأَهُ فِي الدُّنْيَا دُونَ الآْخِرَةِ بُرِّئَ فِيهِمَا، لأَِنَّ
أَحْكَامَ الآْخِرَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَهُوَ
أَحَدُ قَوْلَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، ذَكَرَهُمَا الْقُرْطُبِيُّ فِي
شَرْحِ مُسْلِمٍ (1) .
بُطْلاَنُ الإِْسْقَاطِ
67 - لِلإِْسْقَاطِ أَرْكَانٌ، وَلِكُل رُكْنٍ شُرُوطُهُ الْخَاصَّةُ،
فَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ شَرْطٌ مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي سَبَقَ
بَيَانُهَا بَطَل الإِْسْقَاطُ، أَيْ بَطَل حُكْمُهُ، فَلاَ يَنْفُذُ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُسْقِطِ أَنْ
يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلاً، فَإِذَا كَانَ الْمُتَصَرِّفُ بِالإِْسْقَاطِ
صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا فَلاَ يَصِحُّ الإِْسْقَاطُ وَلاَ يَنْفُذُ.
وَلَوْ كَانَ التَّصَرُّفُ بِالإِْسْقَاطِ مُنَافِيًا لِلْمَشْرُوعِ،
فَإِنَّهُ يَكُونُ تَصَرُّفًا بَاطِلاً وَلاَ يَسْقُطُ بِالإِْسْقَاطِ،
كَإِسْقَاطِ الْوِلاَيَةِ، أَوْ إِسْقَاطِ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ.
وَكَذَلِكَ الإِْسْقَاطُ لاَ يَرِدُ عَلَى الأَْعْيَانِ، وَيُعْتَبَرُ
إِسْقَاطُهَا بَاطِلاً. وَلِذَلِكَ خَرَّجَهُ الْفُقَهَاءُ عَلَى إِسْقَاطِ
الضَّمَانِ.
وَقَدْ يَقَعُ الإِْسْقَاطُ صَحِيحًا، لَكِنْ يَبْطُل إِذَا رَدَّهُ
الْمُسْقَطُ عَنْهُ، عِنْدَ مَنْ يَقُول أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ
كَالْحَنَفِيَّةِ.
__________
(1) أشباه ابن نجيم ص 223، 265، ومنح الجليل 3 / 209، 210، 424، ونهاية
المحتاج 4 / 428، 431، والمغني 4 / 623.
(4/257)
فِي قَاعِدَةٍ ذَكَرَهَا الْحَنَفِيَّةُ
هِيَ: أَنَّهُ إِذَا بَطَل الشَّيْءُ بَطَل مَا فِي ضِمْنِهِ، فَلْو
أَبْرَأَهُ ضِمْنَ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَسَدَ الإِْبْرَاءُ (1) .
وَأَغْلَبُ هَذِهِ الْمَسَائِل وَرَدَتْ فِيمَا سَبَقَ فِي الْبَحْثِ.
إِسْكَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْسْكَارُ لُغَةً: مَصْدَرُ أَسْكَرَهُ الشَّرَابُ. وَسَكِرَ
سَكَرًا، مِنْ بَابِ تَعِبَ، وَالسُّكْرُ اسْمٌ مِنْهُ، أَيْ أَزَال
عَقْلَهُ (2) .
وَالإِْسْكَارُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: تَغْطِيَةُ الْعَقْل (3)
بِمَا فِيهِ شِدَّةٌ مُطْرِبَةٌ كَالْخَمْرِ. وَيَرَى جُمْهُورُ
الْفُقَهَاءِ أَنَّ ضَابِطَ الإِْسْكَارِ هُوَ أَنْ يَخْتَلِطَ كَلاَمُهُ،
فَيَصِيرَ غَالِبُ كَلاَمِهِ الْهَذَيَانَ، حَتَّى لاَ يُمَيِّزَ بَيْنَ
ثَوْبِهِ وَثَوْبِ غَيْرِهِ عِنْدَ اخْتِلاَطِهِمَا، وَلاَ بَيْنَ نَعْلِهِ
وَنَعْل غَيْرِهِ، وَذَلِكَ بِالنَّظَرِ لِغَالِبِ النَّاسِ (4) . وَقَال
أَبُو حَنِيفَةَ: السَّكْرَانُ الَّذِي لاَ يَعْرِفُ السَّمَاءَ مِنَ
الأَْرْضِ، وَلاَ الرَّجُل مِنَ الْمَرْأَةِ. ر: (أَشْرِبَة) .
__________
(1) الأشباه لابن نجيم ص 391، 356، وتنظر المراجع السابقة في البحث.
(2) المصباح المنير: (مادة سكر) .
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 423 - 424 ط بولاق.
(4) الفتاوى الهندية 2 / 159 ط المكتبة الإسلامية، وحاشية الصاوي مع الشرح
الصغير 2 / 543 ط دار المعارف، وتحفة المحتاج 7 / 637 ط أولى، والمغني 8 /
313.
(4/258)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْغْمَاءُ:
2 - الإِْغْمَاءُ آفَةٌ تُعَطِّل الْقُوَى الْمُدْرِكَةَ عَنْ أَفْعَالِهَا
مَعَ بَقَاءِ الْعَقْل مَغْلُوبًا (1) .
ب - التَّخْدِيرُ:
3 - التَّخْدِيرُ تَغْشِيَةُ الْعَقْل مِنْ غَيْرِ شِدَّةٍ مُطْرِبَةٍ.
- التَّفْتِيرُ:
4 - الْمُفَتِّرُ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُضْعِفَ الأَْعْضَاءَ
وَيُلَيِّنُ الْجِسْمَ بِشِدَّةٍ وَيُسَكِّنُ حِدَّتَهُ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
5 - تَعَاطِي مَا يُحْدِثُ الإِْسْكَارَ مُحَرَّمٌ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ،
حَيْثُ لاَ تُوجَدُ شُبْهَةٌ مُسْقِطَةٌ لَهُ. أَمَّا عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ فَالْخَمْرُ مُحَرَّمَةٌ بِالنَّصِّ، وَيُحَدُّ شَارِبُ
الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ مِنْهَا. وَأَمَّا غَيْرُ الْخَمْرِ فَلاَ
يَحْرُمُ، وَلاَ يُحَدُّ شَارِبُهُ إِلاَّ بِالْقَدْرِ الَّذِي أَسْكَرَ
فِعْلاً. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (أَشْرِبَةٌ) .
كَمَا أَنَّ لِلسُّكْرِ أَثَرًا فِي التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ
الْفِعْلِيَّةِ، كَالطَّلاَقِ وَالْبُيُوعِ وَالرِّدَّةِ وَالْخِطَابَاتِ
وَغَيْرِهِمَا. وَيُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ، بِاعْتِبَارِهِ
مِنْ عَوَارِضِ الأَْهْلِيَّةِ، وَفِي الْحُدُودِ.
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
6 - يُبْحَثُ مَوْضُوعُ الإِْسْكَارِ فِي حَدِّ الشُّرْبِ، عِنْدَ
الْكَلاَمِ عَنْ ضَابِطِ الإِْسْكَارِ، وَفِي أَوْصَافِ الْخَمْرِيَّةِ،
وَفِي عِلَّةِ حَدِّ شَارِبِ الْخَمْرِ، وَفِي السَّرِقَةِ عِنْدَ أَثَرِ
الإِْسْكَارِ فِي الإِْحْرَازِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 426 ط بولاق.
(4/258)
إِسْكَانٌ
اُنْظُرْ: سُكْنَى
إِسْلاَمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الإِْسْلاَمِ فِي اللُّغَةِ: الإِْذْعَانُ
وَالاِنْقِيَادُ، وَالدُّخُول فِي السِّلْمِ، أَوْ فِي دِينِ الإِْسْلاَمِ.
وَالإِْسْلاَمُ يَكُونُ أَيْضًا بِمَعْنَى: الإِْسْلاَفُ، أَيْ عَقْدُ
السَّلَمِ (1) ، يُقَال: أَسْلَمْتُ إِلَى فُلاَنٍ فِي عِشْرِينَ صَاعًا
مَثَلاً، أَيِ اشْتَرَيْتُهَا مِنْهُ مُؤَجَّلَةً بِثَمَنٍ حَالٍّ.
أَمَّا فِي الشَّرْعِ فَيَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ تَبَعًا لِوُرُودِهِ
مُنْفَرِدًا، أَوْ مُقْتَرِنًا بِالإِْيمَانِ.
فَمَعْنَاهُ مُنْفَرِدًا: الدُّخُول فِي دِينِ الإِْسْلاَمِ، أَوْ دِينُ
الإِْسْلاَمِ نَفْسُهُ. وَالدُّخُول فِي الدِّينِ هُوَ اسْتِسْلاَمُ
الْعَبْدِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَل بِاتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الشَّهَادَةِ بِاللِّسَانِ،
وَالتَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ، وَالْعَمَل بِالْجَوَارِحِ.
وَمَعْنَاهُ إِذَا وَرَدَ مُقْتَرِنًا بِالإِْيمَانِ هُوَ: أَعْمَال
الْجَوَارِحِ الظَّاهِرَةُ، مِنَ الْقَوْل وَالْعَمَل كَالشَّهَادَتَيْنِ
وَالصَّلاَةِ وَسَائِرِ أَرْكَانِ الإِْسْلاَمِ.
وَإِذَا انْفَرَدَ الإِْيمَانُ يَكُونُ حِينَئِذٍ بِمَعْنَى: الاِعْتِقَادِ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح، والمغرب مادة: (سلم) .
(4/259)
بِالْقَلْبِ وَالتَّصْدِيقِ بِاَللَّهِ
تَعَالَى وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ
وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ مَعَ الاِنْقِيَادِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْيمَانُ:
2 - سَبَقَ تَعْرِيفُ الإِْسْلاَمِ مُنْفَرِدًا وَمُقْتَرِنًا
بِالإِْيمَانِ. وَهَذَا يَتَأَتَّى فِي تَعْرِيفِ الإِْيمَانِ أَيْضًا.
فَالإِْيمَانُ مُنْفَرِدًا: هُوَ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ بِمَا جَاءَ بِهِ
الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالإِْقْرَارُ بِاللِّسَانِ
وَالْعَمَل بِهِ. أَمَّا إِذَا اقْتَرَنَ بِالإِْسْلاَمِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ
يَقْتَصِرُ عَلَى تَصْدِيقِ الْقَلْبِ (2) ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ
سُؤَال جِبْرِيل وَنَصُّهُ: عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَال: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ
شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ، لاَ يُرَى
عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلاَ يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ
إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْنَدَ
رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ،
وَقَال: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الإِْسْلاَمِ، فَقَال رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الإِْسْلاَمُ: أَنْ تَشْهَدَ
أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ،
وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ،
وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلاً. قَال: صَدَقْتَ.
قَال: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ، قَال: فَأَخْبِرْنِي
عَنِ الإِْيمَانِ، قَال: أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ
وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآْخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدْرِ
خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، قَال: صَدَقْتَ. الْحَدِيثَ (3) .
__________
(1) جامع العلوم والحكم ص 22 - 26 ط دار المعرفة.
(2) المرجع السابق.
(3) حديث سؤال جبريل: أخرجه مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه (صحيح
مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 1 / 36، 37 ط عيسى الحلبي 1374 هـ) .
(4/259)
إِطْلاَقُ الإِْسْلاَمِ عَلَى مِلَل
الأَْنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ:
3 - اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الإِْسْلاَمِ فِي ذَلِكَ، فَبَعْضُهُمْ يَرَى
أَنَّ الإِْسْلاَمَ يُطْلَقُ عَلَى الْمِلَل السَّابِقَةِ. وَاحْتَجَّ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا
وَاَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ
وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (1)
الآْيَةَ، وَآيَاتٍ أُخْرَى.
وَيَرَى آخَرُونَ: أَنَّهُ لَمْ تُوصَفْ بِهِ الأُْمَمُ السَّابِقَةُ،
وَإِنَّمَا وُصِفَ بِهِ الأَْنْبِيَاءُ فَقَطْ، وَشُرِّفَتْ هَذِهِ
الأُْمَّةُ بِأَنْ وُصِفَتْ بِمَا وُصِفَ بِهِ الأَْنْبِيَاءُ، تَشْرِيفًا
لَهَا وَتَكْرِيمًا.
وَوَجْهُ اخْتِصَاصِ الأُْمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِهَذَا الاِسْمِ "
الإِْسْلاَمِ " هُوَ: أَنَّ الإِْسْلاَمَ اسْمٌ لِلشَّرِيعَةِ
الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْعِبَادَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِهَذِهِ الأُْمَّةِ،
مِنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَالْغُسْل مِنَ
الْجَنَابَةِ، وَالْجِهَادِ، وَنَحْوِهَا. وَذَلِكَ كُلُّهُ مَعَ كَثِيرٍ
غَيْرِهِ خَاصٍّ بِهَذِهِ الأُْمَّةِ، وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَى غَيْرِهَا
مِنَ الأُْمَمِ، وَإِنَّمَا كُتِبَ عَلَى الأَْنْبِيَاءِ فَقَطْ.
وَيُؤَكِّدُ هَذَا الْمَعْنَى - وَهُوَ اخْتِصَاصُ الأُْمَّةِ
الْمُحَمَّدِيَّةِ بِاسْمِ الإِْسْلاَمِ - قَوْله تَعَالَى: {مِلَّةَ
أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} . (2)
فَالضَّمِيرُ (هُوَ) يَرْجِعُ لإِِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا
يَرَاهُ عُلَمَاءُ السَّلَفِ لِسَابِقِيَّةِ قَوْلِهِ فِي الآْيَةِ
الأُْخْرَى: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ
ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} . (3) فَدَعَا بِذَلِكَ لِنَفْسِهِ
وَلِوَلَدِهِ، ثُمَّ دَعَا لأُِمَّةٍ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ،
__________
(1) سورة الشورى / 13.
(2) سورة الحج / 78.
(3) سورة البقرة / 128.
(4/260)
وَهِيَ هَذِهِ الأُْمَّةُ فَقَال:
{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ} الآْيَةَ (1) ، وَهُوَ
سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَجَابَ
اللَّهُ دُعَاءَهُ، فَبَعَثَ مُحَمَّدًا إِلَيْهِمْ، وَسَمَّاهُمْ
مُسْلِمِينَ (2) .
فَاتَّفَقَ أَئِمَّةُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ
يَذْكُرْ أُمَّةً بِالإِْسْلاَمِ غَيْرَ هَذِهِ الأُْمَّةِ، وَلَمْ
يُسْمَعْ بِأُمَّةٍ ذُكِرَتْ بِهِ غَيْرُهَا.
4 - وَقَال الإِْمَامُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ (3) : وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ
فِيمَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أُمَّةِ مُوسَى وَعِيسَى هَل هُمْ مُسْلِمُونَ أَمْ
لاَ؟ فَالإِْسْلاَمُ الْحَاضِرُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَضَمِّنُ لِشَرِيعَةِ الْقُرْآنِ،
لَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالإِْسْلاَمُ الْيَوْمَ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ يَتَنَاوَل هَذَا.
وَأَمَّا الإِْسْلاَمُ الْعَامُّ الْمُتَنَاوِل لِكُل شَرِيعَةٍ بَعَثَ
اللَّهُ بِهَا نَبِيًّا، فَإِنَّهُ إِسْلاَمُ كُل أُمَّةٍ مُتَّبِعَةٍ
لِنَبِيٍّ مِنَ الأَْنْبِيَاءِ.
وَعَلَى هَذَا الأَْسَاسِ يُمْكِنُ أَنْ تُفْهَمَ كُل الآْيَاتِ
الْكَرِيمَةِ الَّتِي تَعَرَّضَ فِيهَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ لِهَذِهِ
الْكَلِمَةِ مُسْتَعْمَلَةً بِالنِّسْبَةِ لِلأُْمَمِ الأُْخْرَى، إِمَّا
عَلَى أَنَّهَا تُشِيرُ إِلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ لِمَادَّةِ
أَسْلَمَ، أَوْ أَنَّهَا تُشِيرُ إِلَى الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ
الشَّرَائِعِ السَّمَاوِيَّةِ كُلِّهَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ
جَمِيعَ الرُّسُل، وَإِلَيْهِ الإِْشَارَةُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الآْيَاتِ،
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُل أُمَّةٍ رَسُولاً
أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} . (4)
__________
(1) سورة البقرة / 129.
(2) عن فتاوى أحمد بن حجر الهيثمي ص 126.
(3) مجموعة فتاوى ابن تيمية 3 / 94 طبع المملكة السعودية.
(4) سورة النحل / 36.
(4/260)
أَثَرُ الدُّخُول فِي الإِْسْلاَمِ فِي
التَّصَرُّفَاتِ السَّابِقَةِ:
5 - الأَْصْل أَنَّ تَصَرُّفَاتِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ
الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ صَحِيحَةٌ إِلاَّ مَا جَاءَ الإِْسْلاَمُ
بِإِبْطَالِهِ، كَمَا يُعْلَمُ فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ الْمُخْتَلِفَةِ.
وَإِذَا كَانَ مَنْ دَخَل فِي الإِْسْلاَمِ مُتَزَوِّجًا بِأَكْثَرَ مِنْ
أَرْبَعٍ، أَوْ بِمَنْ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُنَّ، كَأُخْتَيْنِ،
فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُفَارِقَ مَا زَادَ عَلَى أَرْبَعٍ، أَوْ
إِحْدَى الأُْخْتَيْنِ. وَاسْتَدَل لَهُ الْقَرَافِيُّ (1) بِقَوْل
النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِغَيْلاَنَ لَمَّا أَسْلَمَ
عَلَى عَشْرِ نِسْوَةٍ: أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ. (2)
وَهَل يَلْزَمُهُ فِرَاقُ مَنْ عَدَا الأَْرْبَعِ الَّتِي تَزَوَّجَهُنَّ
أَوَّلاً، أَوْ مَنْ شَاءَ؟ فِي ذَلِكَ خِلاَفٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي
بَابِهِ. وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ فِرَاقِ أَيِّ الأُْخْتَيْنِ شَاءَ.
وَإِذَا أَسْلَمَ الزَّوْجَانِ الْكَافِرَانِ مَعًا، قَبْل الدُّخُول أَوْ
بَعْدَهُ، فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا، وَلاَ خِلاَفَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ
أَهْل الْعِلْمِ. (3)
إِذَا أَسْلَمَ زَوْجُ الْكِتَابِيَّةِ قَبْل الدُّخُول أَوْ بَعْدَهُ،
__________
(1) الفروق 3 / 91.
(2) حديث غيلان: " أمسك. . . " أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه بهذا المعنى،
من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا، وصححه ابن حبان، وأعله البخاري
وأبو زرعة وأبو حاتم. قال ابن كثير فيما نقله عنه الصنعاني: وهذا الإسناد
رجاله على شرط الشيخين، إلا أن الترمذي (مسند أحمد بن حنبل بتحقيق أحمد
شاكر 6 / 277 - 278 ط دار المعارف بمصر 1370 هـ، وتحفة الأحوذي 4 / 278 ط
السلفية، وسنن ابن ماجه بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 1 / 628، وسبل السلام
3 / 132 ط مصطفى الحلبي، ومشكاة المصابيح بتحقيق محمد ناصر الدين الألباني
2 / 948 نشر المكتب الإسلامي) .
(3) المغني 7 / 534.
(4/261)
أَوْ أَسْلَمَا مَعًا، فَالنِّكَاحُ بَاقٍ
بِحَالِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ زَوْجُهَا كِتَابِيًّا أَوْ غَيْرَ كِتَابِيٍّ،
لأَِنَّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَبْتَدِئَ نِكَاحَ كِتَابِيَّةٍ،
فَاسْتِدَامَتُهُ أَوْلَى، وَلاَ خِلاَفَ فِي هَذَا بَيْنَ الْقَائِلِينَ
بِإِجَازَةِ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ.
وَأَمَّا إِنْ أَسْلَمَتِ الْكِتَابِيَّةُ قَبْلَهُ وَقَبْل الدُّخُول،
تَعَجَّلَتِ الْفُرْقَةُ، سَوَاءٌ أَكَانَ زَوْجُهَا كِتَابِيًّا أَوْ
غَيْرَ كِتَابِيٍّ، إِذْ لاَ يَجُوزُ لِكَافِرٍ نِكَاحُ مُسْلِمَةٍ. قَال
ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُل مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ
أَهْل الْعِلْمِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلاَفَ أَبِي
حَنِيفَةَ، إِذَا كَانَ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، فَإِنَّهُ لاَ فُرْقَةَ
إِلاَّ بَعْدَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ الإِْسْلاَمُ فَيَأْبَى.
وَإِنْ كَانَ إِسْلاَمُهُمَا بَعْدَ الدُّخُول فَالْحُكْمُ فِيهِ
كَالْحُكْمِ فِيمَا لَوْ أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْوَثَنِيَّيْنِ
عَلَى مَا يَأْتِي:
6 - وَإِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْوَثَنِيَّيْنِ، أَوِ
الْمَجُوسِيَّيْنِ، أَوْ كِتَابِيٌّ مُتَزَوِّجٌ بِوَثَنِيَّةٍ، أَوْ
مَجُوسِيَّةٌ قَبْل الدُّخُول، تَعَجَّلَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا مِنْ
حِينِ إِسْلاَمِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ فَسْخًا لاَ طَلاَقًا. وَهَذَا
مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ تَتَعَجَّل الْفُرْقَةُ، بَل إِنْ كَانَا فِي
دَارِ الإِْسْلاَمِ عُرِضَ الإِْسْلاَمُ عَلَى الآْخَرِ، فَإِنْ أَبَى
وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ حِينَئِذٍ، وَإِنْ أَسْلَمَ اسْتَمَرَّتِ
الزَّوْجِيَّةُ، وَإِنْ كَانَا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَفَ ذَلِكَ عَلَى
انْقِضَاءِ ثَلاَثِ حِيَضٍ، أَوْ مُضِيِّ ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ، وَلَيْسَتْ
عِدَّةً، فَإِنْ لَمْ يُسْلِمِ الآْخَرُ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ. وَقَال
مَالِكٌ: إِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُسْلِمَةُ عُرِضَ عَلَيْهِ الإِْسْلاَمُ،
فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلاَّ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ
الْمُسْلِمُ تَعَجَّلَتِ الْفُرْقَةُ. (1)
__________
(1) المغني 7 / 532، 558، وابن عابدين 2 / 390.
(4/261)
أَمَّا إِنْ كَانَ إِسْلاَمُ أَحَدِ
الزَّوْجَيْنِ الْوَثَنِيَّيْنِ أَوِ الْمَجُوسِيَّيْنِ أَوْ زَوْجَةِ
الْكِتَابِيِّ، بَعْدَ الدُّخُول، فَفِي الْمَسْأَلَةِ ثَلاَثَةُ
اتِّجَاهَاتٍ:
الأَْوَّل: يَقِفُ الأَْمْرُ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ أَسْلَمَ
الآْخَرُ قَبْل انْقِضَائِهَا فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ أَسْلَمَ
حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ مُنْذُ اخْتَلَفَ
الدِّينَانِ، فَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْنَافِ الْعِدَّةِ. وَهَذَا
قَوْل الشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
الثَّانِي. تَتَعَجَّل الْفُرْقَةُ. وَهَذَا رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ
وَقَوْل الْحَسَنِ وَطَاوُوسٍ.
الثَّالِثُ: يُعْرَضُ الإِْسْلاَمُ عَلَى الآْخَرِ إِنْ كَانَ فِي دَارِ
الإِْسْلاَمِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ، كَقَوْلِهِ فِي إِسْلاَمِ
أَحَدِهِمَا قَبْل الدُّخُول، إِلاَّ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا كَانَتْ فِي
دَارِ الْحَرْبِ، فَانْقَضَتْ مُدَّةُ التَّرَبُّصِ، وَهِيَ ثَلاَثَةُ
أَشْهُرٍ أَوْ ثَلاَثَةُ حِيَضٍ، وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ، وَلاَ عِدَّةَ
عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ، لأَِنَّهُ لاَ عِدَّةَ عَلَى الْحَرْبِيَّةِ.
وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُسْلِمَةُ، فَخَرَجَتْ إِلَيْنَا مُهَاجِرَةً،
فَتَمَّتِ الْحِيَضُ هُنَا، فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَال
الصَّاحِبَانِ: عَلَيْهَا الْعِدَّةُ. (1)
مَا يَلْزَمُ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَ مِنَ التَّكَالِيفِ السَّابِقَةِ
عَلَى الإِْسْلاَمِ:
7 - قَال الْقَرَافِيُّ: إِنَّ أَحْوَال الْكَافِرِ مُخْتَلِفَةٌ إِذَا
أَسْلَمَ، فَيَلْزَمُهُ ثَمَنُ الْبِيَاعَاتِ، وَأَجْرُ الإِْجَارَاتِ،
وَدَفْعُ الدُّيُونِ الَّتِي اقْتَرَضَهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلاَ
يَلْزَمُهُ مِنْ حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ الْقِصَاصُ، وَلاَ الْغَصْبُ
وَالنَّهْبُ إِنْ كَانَ حَرْبِيًّا. وَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَيَلْزَمُهُ
جَمِيعُ
__________
(1) المغني 7 / 534، وابن عابدين 2 / 390.
(4/262)
الْمَظَالِمِ وَرَدُّهَا، لأَِنَّهُ عَقَدَ
الذِّمَّةَ وَهُوَ رَاضٍ بِمُقْتَضَى عَقْدِ الذِّمَّةِ. وَأَمَّا
الْحَرْبِيُّ فَلَمْ يَرْضَ بِشَيْءٍ، فَلِذَلِكَ أَسْقَطْنَا عَنْهُ
الْغُصُوبَ وَالنُّهُوبَ وَالْغَارَاتِ وَنَحْوَهَا.
وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا تَقَدَّمَ فِي كُفْرِهِ، فَلاَ
تَلْزَمُهُ وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا لاَ ظِهَارٌ وَلاَ نَذْرٌ وَلاَ يَمِينٌ
مِنَ الأَْيْمَانِ، وَلاَ قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ، وَلاَ الزَّكَوَاتِ، وَلاَ
شَيْءٍ فَرَّطَ فِيهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: الإِْسْلاَمُ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ (1)
وَضَابِطُ الْفَرْقِ: أَنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ قِسْمَانِ: مِنْهَا مَا
رَضِيَ بِهِ حَالَةَ كُفْرِهِ، وَاطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ بِدَفْعِهِ
لِمُسْتَحِقِّهِ، هَذَا لاَ يَسْقُطُ بِالإِْسْلاَمِ، لأَِنَّ إِلْزَامَهُ
إِيَّاهُ لَيْسَ مُنَفِّرًا لَهُ عَنِ الإِْسْلاَمِ لِرِضَاهُ. وَمَا لَمْ
يَرْضَ بِدَفْعِهِ لِمُسْتَحِقِّهِ، كَالْقَتْل وَالْغَصْبِ وَنَحْوِهِ،
فَإِنَّ هَذِهِ الأُْمُورَ إِنَّمَا دَخَل عَلَيْهَا مُعْتَمِدًا عَلَى
أَنَّهُ لاَ يُوَفِّيهَا أَهْلَهَا، فَهَذَا كُلُّهُ يَسْقُطُ، لأَِنَّ فِي
إِلْزَامِهِ مَا لَمْ يَعْتَقِدْ لُزُومَهُ تَنْفِيرًا لَهُ عَنِ
الإِْسْلاَمِ، فَقُدِّمَتْ مَصْلَحَةُ الإِْسْلاَمِ عَلَى مَصْلَحَةِ ذَوِي
الْحُقُوقِ. وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَتَسْقُطُ مُطْلَقًا
رَضِيَ بِهَا أَمْ لاَ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) أَنَّ الإِْسْلاَمَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى،
وَالْعِبَادَاتُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا كَانَ الْحَقَّانِ
لِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ نَاسَبَ أَنْ يُقَدِّمَ أَحَدَهُمَا عَلَى الآْخَرِ،
__________
(1) حديث: " الإسلام يجب ما كان قبله " أخرجه أحمد بهذا اللفظ من حديث عمرو
بن العاص رضي الله عنه مرفوعا. وأخرجه مسلم بلفظ: " أما علمت أن الإسلام
يهدم ما كان قبله ". (مسند أحمد بن حنبل 4 / 199 نشر المكتب الإسلامي،
وصحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 1 / 112 ط عيسى الحلبي 1374 هـ) .
(4/262)
وَيُسْقِطُ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ، لِحُصُول
الْحَقِّ الثَّانِي لِجِهَةِ الْحَقِّ السَّاقِطِ.
وَأَمَّا حَقُّ الآْدَمِيِّينَ فَلِجِهَةِ الآْدَمِيِّينَ، وَالإِْسْلاَمُ
لَيْسَ حَقًّا لَهُمْ، بَل لِجِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَنَاسَبَ أَلاَّ
يَسْقُطَ حَقُّهُمْ بِتَحْصِيل حَقِّ غَيْرِهِمْ.
(وَثَانِيهِمَا) أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِيمٌ جَوَادٌ، تُنَاسِبُ
رَحْمَتَهُ الْمُسَامَحَةُ، وَالْعَبْدُ بَخِيلٌ ضَعِيفٌ، فَنَاسَبَ ذَلِكَ
التَّمَسُّكُ بِحَقِّهِ، فَسَقَطَتْ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مُطْلَقًا،
وَإِنْ رَضِيَ بِهَا، كَالنُّذُورِ وَالأَْيْمَانِ، أَوْ لَمْ يَرْضَ بِهَا
كَالصَّلَوَاتِ. وَلاَ يَسْقُطُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ إِلاَّ مَا
تَقَدَّمَ الرِّضَى بِهِ، فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ.
(1)
الآْثَارُ اللاَّحِقَةُ لِدُخُول الإِْسْلاَمِ:
8 - إِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ أَصْبَحَ كَغَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ،
لَهُ مَا لَهُمْ مِنَ الْحُقُوقِ، وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ مِنَ
الْوَاجِبَاتِ.
فَتَلْزَمُهُ التَّكَالِيفُ الشَّرْعِيَّةُ، كَالْعِبَادَاتِ وَالْجِهَادِ.
إِلَخْ. وَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الإِْسْلاَمِ، كَإِبَاحَةِ تَوَلِّي
الْوِلاَيَاتِ الْعَامَّةِ كَالإِْمَامَةِ، وَالْقَضَاءِ، وَالْوِلاَيَاتِ
الْخَاصَّةِ الْوَاقِعَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. . . إِلَخْ
الأَْثَرُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى الإِْسْلاَمِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ
بِالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ كَالْعِبَادَاتِ وَالْجِهَادِ وَغَيْرِهَا:
9 - الْكَافِرُ فِي حَال كُفْرِهِ هَل هُوَ مُخَاطَبٌ بِفُرُوعِ
الشَّرِيعَةِ وَمُكَلَّفٌ بِهَا أَمْ لاَ؟ قَال النَّوَوِيُّ: الْمُخْتَارُ
أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ الْمَأْمُورِ
بِهَا، وَالْمَنْهِيِّ عَنْهَا، لِيَزْدَادَ عَذَابُهُمْ فِي الآْخِرَةِ.
(2)
__________
(1) الفروق 3 / 184 - 185 ط دار المعرفة.
(2) شرح مسلم بهامش القسطلاني 1 / 279.
(4/263)
وَيَسْتَوْفِي الْمَسْأَلَةَ عُلَمَاءُ
الأُْصُول فِي مَبَاحِثِ التَّكْلِيفِ، فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهَا.
فَإِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ فَإِنَّهُ يَعْصِمُ بِذَلِكَ نَفْسَهُ
وَمَالَهُ وَأَوْلاَدَهُ الصِّغَارَ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ:
أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِل النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ؛
اللَّهُ، فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ
بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ (1) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى:
فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ،
إِلاَّ بِحَقِّهَا، لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى
الْمُسْلِمِينَ (2) فَتَثْبُتُ هَذِهِ الْعِصْمَةُ لِلنَّفْسِ مُبَاشَرَةً،
وَلِلْمَال تَبَعًا لِعِصْمَةِ النَّفْسِ، وَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ
الشَّرِيعَةِ الْجَارِيَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ تِلْكَ الَّتِي كَانَتْ
مَمْنُوعَةً عَنْهُ بِالْكُفْرِ. وَيَحْصُل التَّوَارُثُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
أَقَارِبِهِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَرِثُهُمْ إِنْ مَاتُوا، وَيَرِثُونَهُ
كَذَلِكَ. لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ
يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلاَ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ (3)
__________
(1) حديث: " أمرت أن أقاتل. . . " أخرجه البخاري ومسلم من حديث عمر بن
الخطاب رضي الله عنه مرفوعا واللفظ للبخاري (فتح الباري 3 / 262 ط السلفية،
وصحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 1 / 15، 52 ط عيسى الحلبي 1374 هـ)
.
(2)) حديث: " فإذا فعلوا ذلك. . . " أخرجه الترمذي وأبو داود بهذا اللفظ من
حديث أنس بن مالك رضي الله عنهما مرفوعا، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح
غريب من هذا الوجه. وأخرجه البخاري بهذا المعنى تعليقا، من حديث أنس بن
مالك رضي الله عنهما (تحفة الأحوذي 7 / 339، 340 نشر المكتبة السلفية، وسنن
أبي داود 3 / 101، 102 ط استنابول، وفتح الباري 1 / 497 ط السلفية) .
(3)) حديث " لا يرث المسلم الكافر. . . " أخرجه البخاري ومسلم من حديث
أسامة بن زيد رضي الله عنهما مرفوعا (فتح الباري 12 / 50 ط السلفية، وصحيح
مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 3 / 1233 ط عيسى الحلبي 1375 هـ) .
(4/263)
وَلاِنْعِقَادِ الإِْجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ.
(1) كَمَا أَنَّهُ يُحْرَمُ مِنْ إِرْثِ أَقَارِبِهِ الْكُفَّارِ، وَيَحِل
لَهُ تَزَوُّجُ الْمُسْلِمَةِ، كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ تَزَوُّجُ
الْمُشْرِكَةِ مِنْ غَيْرِ أَهْل الْكِتَابِ، أَيِ الْوَثَنِيَّةِ.
وَتَبْطُل - فِي حَقِّ مَنْ أَسْلَمَ - مَالِيَّةُ الْخَمْرِ
وَالْخِنْزِيرِ بَعْدَمَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَتَلْزَمُهُ جَمِيعُ
التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ وَفِي مُقَدِّمَتِهَا أَرْكَانُ
الإِْسْلاَمِ: الصَّلاَةُ وَالزَّكَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ، أُصُولاً
وَفُرُوعًا، بِالنِّسْبَةِ لِجَمِيعِ التَّكَالِيفِ.
وَكَذَلِكَ يُفْرَضُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ، بَعْدَمَا كَانَ غَيْرَ
مُطَالَبٍ بِهِ، لِحَدِيثِ: مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ
بِهِ نَفْسَهُ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ (2) وَتَحِل الصَّلاَةُ
خَلْفَهُ، وَالصَّلاَةُ عَلَيْهِ إِذَا مَاتَ، وَغُسْلُهُ وَكَفَنُهُ
وَدَفْنُهُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، إِلَى غَيْرِ هَذَا مِنْ
أَحْكَامٍ تَعَرَّضَتْ لَهَا كُتُبُ الْفِقْهِ فِي كُل الْمَذَاهِبِ.
10 - إِذَا بَاعَ ذِمِّيٌّ لآِخَرَ خَمْرًا وَخِنْزِيرًا، ثُمَّ أَسْلَمَا،
أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قَبْل الْقَبْضِ، يُفْسَخُ الْبَيْعُ، لأَِنَّهُ
بِالإِْسْلاَمِ حَرُمَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ، فَيَحْرُمُ الْقَبْضُ
وَالتَّسْلِيمُ أَيْضًا، (3) أَخْذًا مِنْ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا
إِنْ كُنْتُمْ
__________
(1) حسبما تضافرت عليه دواوين المذاهب الفقهية كلها، إلا ما شذ (الشرح
الكبير للإمام اللقاني على جوهرة التوحيد مخطوط، وشرح الكنز للزيلعي 3 /
292) .
(2) حديث: " من مات ولم يغز ولم يحدث به. . . " أخرجه مسلم والنسائي وأبو
داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا، واللفظ لمسلم (صحيح مسلم
بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 3 / 1517 ط عيسى الحلبي 1375 هـ، وسنن النسائي
6 / 8 ط المطبعة المصرية بالأزهر، وسنن أبي داود بتحقيق محمد محيي الدين
عبد الحميد 3 / 15، 16 نشر المكتبة الكبرى 1369 هـ) .
(3) البدائع 5 / 72.
(4/264)
مُؤْمِنِينَ} . (1)
وَقَال ابْنُ رُشْدٍ: لَوْ أَسْلَمُوا لأََحْرَزُوا بِإِسْلاَمِهِمْ مَا
بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الرِّبَا وَثَمَنِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، (2)
لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ
فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} . (3) كَمَا يَجِبُ عَلَى الَّذِي أَسْلَمَ
أَنْ يَهْجُرَ بَلَدَ الْكُفْرِ وَبَلَدَ الْحَرْبِ.
قَال ابْنُ رُشْدٍ: لَقَدْ وَجَبَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
وَالإِْجْمَاعِ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ بِبَلَدِ الْكُفْرِ أَنْ يَهْجُرَهُ،
وَيَلْحَقَ بِدَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ يَسْكُنَ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ،
وَيُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ لاَ يَتَمَكَّنُ مِنْ
إِقَامَةِ شَعَائِرِ دِينِهِ، أَوْ يُجْبَرُ عَلَى أَحْكَامِ الْكُفْرِ.
وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (هِجْرَة) .
مَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ الإِْسْلاَمُ:
11 - مِمَّا يُشْتَرَطُ الإِْسْلاَمُ لِصِحَّتِهِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ:
(1) الْعَقْدُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ.
(2) وِلاَيَةُ عَقْدِ نِكَاحِهَا.
(3) الشَّهَادَةُ عَلَى عَقْدِ نِكَاحِهَا.
(4) شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ، وَهِيَ أَنْ يَتَسَاوَى الشُّرَكَاءُ فِي
الْمَال وَالدَّيْنِ وَالتَّصَرُّفِ. وَأَجَازَهَا أَبُو يُوسُفَ بَيْنَ
الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ.
(5) الْوَصِيَّةُ بِمُصْحَفٍ أَوْ مَا بِمَعْنَاهُ، فَلاَ بُدَّ مِنْ
كَوْنِ الْمُوصَى لَهُ مُسْلِمًا.
(6) النَّذْرُ، فَيُشْتَرَطُ إِسْلاَمُ النَّاذِرِ، لأَِنَّ النَّذْرَ لاَ
بُدَّ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً، وَفِعْل الْكَافِرِ لاَ يُوصَفُ بِكَوْنِهِ
__________
(1) سورة البقرة / 278.
(2) مقدمات ابن رشد من كتاب التجارة إلى أرض الحرب - مخطوطة، والنص من
القسم الذي لم يطبع منها.
(3) سورة البقرة / 275.
(4/264)
قُرْبَةً. وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ. وَيَصِحُّ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ. قَال صَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ: (1) وَيَصِحُّ
النَّذْرُ مِنْ كَافِرٍ وَلَوْ بِعِبَادَةٍ، لِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَال: قُلْتُ يَا رَسُول اللَّهِ: إِنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ
فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ. (2)
(7) الْقَضَاءُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
(8) الْوِلاَيَاتُ الْعَامَّةُ كُلُّهَا، وَهِيَ الْخِلاَفَةُ، وَمَا
تَفَرَّعَ مِنْهَا، مِنَ الْوِلاَيَةِ وَإِمَارَةِ الْجُيُوشِ،
وَالْوَزَارَةِ وَالشُّرْطَةِ، وَالدَّوَاوِينِ الْمَالِيَّةِ،
وَالْحِسْبَةِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَل اللَّهُ
لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (3)
(9) الشَّهَادَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي غَيْرِ حَال ضَرُورَةِ
الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا
شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (4) أَيْ مِنْ رِجَال الْمُسْلِمِينَ.
وَقَال الإِْمَامُ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ الْحَنْبَلِيُّ: أَجَازَ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ شَهَادَةَ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي
السَّفَرِ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْحَاجَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ
آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَْرْضِ} . (5)
ثُمَّ قَال: وَقَوْل الإِْمَامِ أَحْمَدَ فِي قَبُول شَهَادَتِهِ فِي هَذَا
الْمَوْضِعِ ضَرُورَةٌ حَضَرًا وَسَفَرًا، وَلَوْ قِيل تُقْبَل
شَهَادَتُهُمْ مَعَ أَيْمَانِهِمْ فِي
__________
(1) كشاف القناع 6 / 273 ط الرياض.
(2)) حديث: " أوف بنذرك " أخرجه البخاري ومسلم واللفظ له، وأبو داود
والترمذي والنسائي من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرفوعا (فتح الباري
4 / 284 ط السلفية، وصحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 3 / 1277 ط
عيسى الحلبي 1375 هـ، وجامع الأصول 11 / 543 نشر مكتبة الحلواني) .
(3) سورة النساء / 141.
(4) سورة البقرة / 282.
(5) سورة المائدة / 106.
(4/265)
كُل شَيْءٍ عُدِمَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ
لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ، وَيَكُونُ بَدَلاً مُطْلَقًا. (1)
ب - الدِّينُ، أَوِ الْمِلَّةُ:
12 - مِنْ مَعَانِي الدِّينِ لُغَةً: الْعَادَةُ وَالسِّيرَةُ وَالْحِسَابُ
وَالطَّاعَةُ وَالْمِلَّةُ. (2)
وَقَدْ وَرَدَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِمَعَانٍ
مُتَعَدِّدَةٍ.
التَّوْحِيدُ: كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ
الإِْسْلاَمُ} . (3)
الْحِسَابُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ
الدِّينِ} . (4)
الْحُكْمُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ
لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} . (5)
الْمِلَّةُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَل رَسُولَهُ
بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} . (6)
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (7) يَعْنِي
الْمِلَّةَ الْمُسْتَقِيمَةَ.
وَاصْطِلاَحًا: يُطْلَقُ الدِّينُ عَلَى الشَّرْعِ، كَمَا يُطْلَقُ عَلَى
مِلَّةِ كُل نَبِيٍّ. وَقَدْ يُخَصُّ بِمِلَّةِ الإِْسْلاَمِ، كَمَا قَال
تَعَالَى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِْسْلاَمُ} .
13 - وَعَلَى ضَوْءِ هَذِهِ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ، وَعَلَى ضَوْءِ
التَّوْجِيهِ الْقُرْآنِيِّ الَّذِي سَلَكَ فِي اسْتِعْمَال هَذِهِ
الْكَلِمَةِ
__________
(1) الطرق الحكيمة في السياسة الشرعية ص 159 - 171.
(2) كشاف المصطلحات للتهانوي 1 / 552، طبعة استنابول.
(3) سورة آل عمران / 19، وانظر البيضاوي وحواشيه عند تفسيره هذه الآية 2 /
9 ط مصطفى محمد، وكتاب الوجوه والنظائر للدامقاني.
(4) سورة المطففين / 11.
(5) سورة يوسف / 76.
(6) سورة التوبة / 32.
(7) سورة البينة / 5.
(4/265)
بِالْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، أَوْ
بِغَيْرِهَا الَّتِي اشْتَمَل عَلَيْهَا الْقُرْآنُ، لاَ نَكَادُ نَلْمِسُ
فَرْقًا جَوْهَرِيًّا بَيْنَ مُسَمَّى الإِْسْلاَمِ وَمُسَمَّى الدِّينِ،
مَا عَدَا الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ.
مَا يُخْرِجُ الْمَرْءَ عَنِ الإِْسْلاَمِ:
14 - كُل مَا يَصِيرُ الْكَافِرُ بِالإِْقْرَارِ بِهِ مُسْلِمًا يَكْفُرُ
الْمُسْلِمُ بِإِنْكَارِهِ. (1) وَكَذَا كُل مَا يَقْطَعُ الإِْسْلاَمَ
مِنْ نِيَّةِ كُفْرٍ، أَوْ قَوْل كُفْرٍ، أَوْ فِعْل كُفْرٍ، سَوَاءٌ
اسْتِهْزَاءً أَمِ اعْتِقَادًا أَمْ عِنَادًا. (2) وَقَال الْقَاضِي أَبُو
بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: كُل مَنْ فَعَل فِعْلاً مِنْ خَصَائِصِ
الْكُفَّارِ عَلَى أَنَّهُ دِينٌ، أَوْ تَرَكَ فِعْلاً مِنْ أَفْعَال
الْمُسْلِمِينَ يَدُل عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنَ الدِّينِ، فَهُوَ كَافِرٌ
بِهَذَيْنِ الاِعْتِقَادَيْنِ لاَ بِالْفِعْلَيْنِ. (3)
وَفِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: لاَ يُخْرِجُ الرَّجُل مِنَ الإِْيمَانِ
إِلاَّ جُحُودُ مَا أَدْخَلَهُ فِيهِ، ثُمَّ مَا تَيَقَّنَ أَنَّهُ رِدَّةٌ
يُحْكَمُ بِهَا، وَمَا يُشَكُّ أَنَّهُ رِدَّةٌ لاَ يُحْكَمُ بِهِ، إِذِ
الإِْسْلاَمُ الثَّابِتُ لاَ يَزُول بِالشَّكِّ، مَعَ أَنَّ الإِْسْلاَمَ
يَعْلُو وَلاَ يُعْلَى عَلَيْهِ. (4)
وَفِي الْخُلاَصَةِ وَغَيْرِهَا، إِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ وُجُوهٌ
تُوجِبُ التَّكْفِيرَ وَوَجْهٌ وَاحِدٌ يُمَانِعُهُ فَعَلَى الْمُفْتِي
أَنْ يَمِيل إِلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَمْنَعُ التَّكْفِيرَ تَحْسِينًا
لِلظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ، إِلاَّ إِذَا صَرَّحَ بِإِرَادَةِ مُوجِبِ
الْكُفْرِ فَلاَ يَنْفَعُ التَّأْوِيل. وَلِلتَّفْصِيل يُرْجَعُ إِلَى
مُصْطَلَحِ (رِدَّة) .
__________
(1) شرح مسلم للنووي بهامش القسطلاني 1 / 201.
(2) شرح الإقناع للخطيب بحاشية البجيرمي 4 / 111.
(3) سنن الترمذي بشرح أبي بكر بن العربي، والتبصرة لابن فرحون 2 / 203.
(4) ابن عابدين 3 / 393.
(4/266)
مَا يَصِيرُ بِهِ الْكَافِرُ مُسْلِمًا:
15 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ هُنَاكَ طُرُقًا ثَلاَثَةً يُحْكَمُ بِهَا
عَلَى كَوْنِ الشَّخْصِ مُسْلِمًا وَهِيَ: النَّصُّ - وَالتَّبَعِيَّةُ -
وَالدَّلاَلَةُ.
أَمَّا النَّصُّ فَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ صَرِيحًا.
وَأَمَّا التَّبَعِيَّةُ فَهِيَ أَنْ يَأْخُذَ التَّابِعُ حُكْمَ
الْمَتْبُوعِ فِي الإِْسْلاَمِ، كَمَا يَتَّبِعُ ابْنُ الْكَافِرِ
الصَّغِيرِ أَبَاهُ إِذَا أَسْلَمَ مَثَلاً، وَسَيَأْتِي الْكَلاَمُ
عَلَيْهَا مُسْتَوْفًى.
وَأَمَّا طَرِيقُ الدَّلاَلَةِ فَهِيَ سُلُوكُ طَرِيقِ الْفِعْل لِلدُّخُول
فِي الإِْسْلاَمِ.
أَوَّلاً: الإِْسْلاَمُ النَّصُّ:
وَهُوَ النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَ النُّطْقِ،
وَالْبُرْءُ مِنْ كُل دِينٍ غَيْرِ دِينِ الإِْسْلاَمِ.
16 - يَكْفِي كُل الْكِفَايَةِ التَّصْرِيحُ بِالشَّهَادَةِ
بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقْدِيسِهِ، مُدَعَّمًا
بِالتَّصْدِيقِ الْبَاطِنِيِّ وَالاِعْتِقَادِ الْقَلْبِيِّ الْجَازِمِ
بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالإِْقْرَارِ بِالْعُبُودِيَّةِ لَهُ تَعَالَى،
وَالتَّصْرِيحُ كَذَلِكَ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
مِنْ أُصُول الْعَقَائِدِ وَشَرَائِعِ الإِْسْلاَمِ، مِنْ صَلاَةٍ
وَزَكَاةٍ وَصِيَامٍ وَحَجٍّ، فَلَيْسَ هُنَاكَ عُنْوَانٌ فِي قُوَّتِهِ
وَدَلاَلَتِهِ عَلَى التَّحَقُّقِ مِنْ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ الْكَامِلَةِ
أَصْرَحُ مِنَ النُّطْقِ بِصِيغَتَيِ الشَّهَادَتَيْنِ: " أَشْهَدُ أَنْ
لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ.
فَالْكَافِرُ الَّذِي أَنَارَ اللَّهُ بَصِيرَتَهُ وَأَشْرَقَتْ عَلَى
قَلْبِهِ أَنْوَارُ الْيَقِينِ، وَيُرِيدُ أَنْ يَعْتَنِقَ الإِْسْلاَمَ
فَلاَ بُدَّ لَهُ مِنَ التَّلَفُّظِ بِالشَّهَادَتَيْنِ عِنْدَ
التَّمَكُّنِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ، بِخِلاَفِ غَيْرِ الْقَادِرِ
كَالأَْخْرَسِ، وَمِنْ غَيْرِ
(4/266)
الْمُتَمَكِّنِ كَالْخَائِفِ وَالشَّرِقِ
(1) وَمَنْ عَاجَلَتْهُ الْمَنِيَّةُ، وَكُل مَنْ قَامَ بِهِ عُذْرٌ
يَمْنَعُهُ النُّطْقَ، فَنُصَدِّقُ عُذْرَهُ إِنْ تَمَسَّكَ بِهِ بَعْدَ
زَوَال الْمَانِعِ. وَلاَ لُزُومَ لأَِنْ تَكُونَ صِيغَتُهُمَا
بِالْعَرَبِيَّةِ حَتَّى بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يُحْسِنُهَا.
وَأَمَّا مَنْ يَرَى اخْتِصَاصَ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَرَبِ، فَلاَ بُدَّ أَنْ يُقِرَّ بِعُمُومِ
رِسَالَتِهِ.
وَأَمَّا الْمُسْلِمُ أَصَالَةً، أَيْ مَنْ كَانَ مِنْ أَبْنَاءِ
الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ مُسْلِمٌ تَبَعًا لِوَالِدَيْهِ، وَمَحْمُولٌ عَلَى
ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ يَنْطِقْ بِالشَّهَادَتَيْنِ طِوَال عُمُرِهِ.
وَأَوْجَبَهَا عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ وَلَوْ مَرَّةً فِي الْعُمُرِ.
17 - وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُحَقِّقِينَ إِلَى أَنَّ التَّصْدِيقَ
بِالْقَلْبِ كَافٍ فِي صِحَّةِ مُطْلَقِ الإِْيمَانِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
اللَّهِ.
وَأَمَّا الإِْقْرَارُ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَإِنَّهُ شَرْطٌ لإِِجْرَاءِ
الأَْحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ عَلَيْهِ فَقَطْ، وَلاَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ
بِكُفْرٍ إِلاَّ إِنِ اقْتَرَنَ بِهِ فِعْلٌ يَدُل عَلَى كُفْرِهِ
كَالسُّجُودِ لِلصَّنَمِ. (2) إِذَنْ فَحُكْمُ الإِْسْلاَمِ فِي الظَّاهِرِ
يَثْبُتُ بِالشَّهَادَتَيْنِ، أَوْ مَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُمَا لِتُقَامَ
عَلَيْهِ أَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ فِيمَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ كَمَا
سَيَأْتِي. (3)
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ عَنِ الشَّرِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ
الثَّقَفِيِّ قَال: قُلْتُ يَا رَسُول اللَّهِ: إِنَّ أُمِّي أَوْصَتْ أَنْ
أُعْتِقَ عَنْهَا رَقَبَةً مُؤْمِنَةً، وَعِنْدِي جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ
نُوبِيَّةٌ أَفَأَعْتِقُهَا؟ قَال: اُدْعُهَا، فَدَعَوْتُهَا
__________
(1) الشرق: بفتحتين الشجا والغصة.
(2) القسطلاني على صحيح البخاري 1 / 103، والإحياء للغزالي 1 / 116 وما
بعدها.
(3) الشرح الكبير على الجوهرة للشيخ اللقاني مخطوط - وشرح ابن حجر على
الأربعين عند الكلام على الحديث الثاني " حديث جبريل ".
(4/267)
فَجَاءَتْ فَقَال: مَنْ رَبُّكِ؟ قَالَتِ:
اللَّهُ، قَال: فَمَنْ أَنَا؟ قَالَتْ: رَسُول اللَّهِ، قَال: اعْتِقْهَا
فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ. (1)
وَقَدْ قَال الإِْمَامُ النَّوَوِيُّ (2) : اتَّفَقَ أَهْل السُّنَّةِ مِنَ
الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى أَنَّ
الْمُؤْمِنَ الَّذِي يُحْكَمُ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْل الْقِبْلَةِ وَلاَ
يُخَلَّدُ فِي النَّارِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ مَنِ اعْتَقَدَ بِقَلْبِهِ
دِينَ الإِْسْلاَمِ اعْتِقَادًا جَازِمًا خَالِيًا مِنَ الشُّكُوكِ
وَنَطَقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ.
18 - فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى إِحْدَاهُمَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْل
الْقِبْلَةِ إِلاَّ إِذَا عَجَزَ عَنِ النُّطْقِ لِخَلَلٍ فِي لِسَانِهِ،
أَوْ لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْهُ لِمُعَاجَلَةِ الْمَنِيَّةِ لَهُ، أَوْ
لِغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُؤْمِنًا، أَمَّا إِذَا أَتَى
بِالشَّهَادَتَيْنِ فَلاَ يُشْتَرَطُ مَعَهُمَا أَنْ يَقُول: أَنَا بَرِيءٌ
مِنْ كُل دِينٍ خَالَفَ الإِْسْلاَمَ، إِلاَّ إِذَا كَانَ مِنَ الْكُفَّارِ
الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ اخْتِصَاصَ رِسَالَةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَرَبِ، فَإِنَّهُ لاَ يُحْكَمُ
بِإِسْلاَمِهِ إِلاَّ بِأَنْ يُسْتَبْرَأَ. أَمَّا إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى
قَوْلِهِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَلَمْ يَقُل: مُحَمَّدٌ رَسُول
اللَّهِ، فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ
__________
(1) حديث: الشريد بن سويد الثقفي. أخرجه أبو داود واللفظ له والنسائي من
حديث الشريد، قال أبو داود: خالد بن عبد الله أرسله، لم يذكر الشريد، قال
عبد القادر الأرناؤوط محقق جامع الأصول: وإسناده حسن (عون المعبود 3 / 227
ط الهند، وسنن النسائي 6 / 252 نشر المكتبة التجارية، وجامع الأصول بتحقيق
عبد القادر الأرناؤوط 1 / 228، 229 نشر مكتبة الحلواني) .
(2) شرح مسلم 1 / 201. تنبيه: " على أن من آمن بقلبه ولم ينطق بلسانه مع
قدرته كان مخلدا في النار. . إلخ. معترض بأنه لا إجماع على ذلك، وأنه مؤمن
عاص من أقوال المذاهب الأربعة، على أن بعض محققي الحنفية يرى أن الإقرار
باللسان إنما هو شرط لإجراء أحكام الدنيا فحسب " انتهى من شرح ابن حجر
الهيثمي على الحديث الثاني - من الأربعين النووية.
(4/267)
وَمَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لاَ
يَكُونُ مُسْلِمًا، وَمِنْ أَصْحَابِنَا الشَّافِعِيَّةِ مَنْ قَال:
يَكُونُ مُسْلِمًا، وَيُطَالَبُ بِالشَّهَادَةِ الأُْخْرَى، فَإِنْ أَبَى
جُعِل مُرْتَدًّا، وَيُحْتَجُّ لِهَذَا الْقَوْل بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِل النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ
إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ
وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ. (1)
وَهَذَا مَحْمُولٌ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ عَلَى قَوْل الشَّهَادَتَيْنِ،
وَاسْتُغْنِيَ بِذِكْرِ إِحْدَاهُمَا عَنِ الأُْخْرَى لاِرْتِبَاطِهِمَا
وَشُهْرَتِهِمَا.
وَجَاءَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: (2) سُئِل أَبُو يُوسُفَ عَنِ الرَّجُل
كَيْفَ يُسْلِمُ، فَقَال: يَقُول أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ،
وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ، وَيُقِرُّ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ، وَيَتَبَرَّأُ مِنَ الدِّينِ الَّذِي انْتَحَلَهُ. وَفِيهِ أَنَّ
النَّصْرَانِيَّ يَقُول: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ
مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَيَتَبَرَّأُ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ،
وَكَذَا الْيَهُودِيَّةُ وَغَيْرُهَا.
وَأَمَّا مَنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَيُحْمَل عَلَى الإِْسْلاَمِ إِذَا
قَال: مُحَمَّدٌ رَسُول اللَّهِ، أَوْ قَال: دَخَلْتُ دِينَ الإِْسْلاَمِ،
أَوْ دَخَلْتُ دِينَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ
دَلِيل إِسْلاَمِهِ، فَكَيْفَ إِذَا أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ.
وَأَمَّا تَوْبَةُ الْمُرْتَدِّ فَهُوَ أَنْ يَتَبَرَّأَ مِنْ كُل دِينٍ
غَيْرِ دِينِ الإِْسْلاَمِ، بَعْدَ أَنْ يَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ،
وَأَنْ يَتَبَرَّأَ مِمَّا انْتَقَل إِلَيْهِ.
أَرْكَانُ الإِْسْلاَمِ
أَرْكَانُ الإِْسْلاَمِ خَمْسَةٌ:
19 - جَاءَتِ الآْيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ الْكَرِيمَةُ مُجْمَلَةً
بِالأَْوَامِرِ
__________
(1) حديث: " أمرت أن أقاتل الناس. . . " سبق تخريجه (ف / 9) .
(2) فتح القدير شرح الهداية 4 / 383.
(4/268)
وَالأَْحْكَامِ فِيمَا يَخُصُّ هَذِهِ
الأَْرْكَانَ، وَكَذَلِكَ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ أَحَادِيثُ
كَثِيرَةٌ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَال: "
سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: بُنِيَ
الإِْسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ،
وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ
الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
وَمُسْلِمٌ (1) .
وَأَيْضًا الْحَدِيثُ السَّابِقُ الْمَشْهُورُ بِحَدِيثِ جِبْرِيل.
الرُّكْنُ الأَْوَّل: شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ
مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ:
20 - هَذِهِ الشَّهَادَةُ مِنْ أَوَّل مَا يَدْخُل بِهِ الْمَرْءُ فِي
الإِْسْلاَمِ، فَكَانَتْ أَوَّل وَاجِبٍ عَلَى الْمُكَلَّفِ يَتَحَتَّمُ
عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ تَصْدِيقًا وَاعْتِقَادًا وَنُطْقًا.
وَأَئِمَّةُ السَّلَفِ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ أَوَّل مَا
يُؤْمَرُ بِهِ الْعَبْدُ الشَّهَادَتَانِ. (2) وَقَدْ كَانَتْ رِسَالاَتُ
كُل الرُّسُل تَدْعُو إِلَى التَّوْحِيدِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ
الْكَلِمَةُ، وَالإِْقْرَارُ بِالأُْلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ لِلَّهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: {وَمَا
أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ
لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} (3) فَكَانَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ
أَوَّل مَا يَدْخُل بِهِ
__________
(1) حديث: " بني الإسلام. . . " أخرجه البخاري واللفظ له ومسلم والترمذي
والنسائي من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعا (فتح الباري 1 /
49 ط السلفية، وصحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 1 / 45 ط عيسى
الحلبي 1374 هـ، وجامع الأصول في أحاديث الرسول 1 / 207، 208 نشر مكتبة
الحلواني 1389 هـ) .
(2) راجع تفاصيل ذلك في عنوان: ما يصير به المرء مسلما وتوابعه من هذا
البحث.
(3) سورة الأنبياء / 25.
(4/268)
الْمَرْءُ فِي الإِْسْلاَمِ، وَإِذَا
كَانَتْ آخِرَ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْمُسْلِمُ مِنَ الدُّنْيَا دَخَل بِهَا
الْجَنَّةَ، كَمَا قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ
آخِرُ كَلاَمِهِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ دَخَل الْجَنَّةَ. (1) .
وَالإِْيمَانُ أَيْضًا بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ هُوَ إِيمَانٌ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
وَمَا تَتَضَمَّنُهُ رِسَالَتُهُ، وَإِيمَانٌ بِجَمِيعِ الرُّسُل،
وَتَصْدِيقٌ بِرِسَالاَتِهِمْ.
وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذَيْنِ الأَْصْلَيْنِ فِي هَذَا الرُّكْنِ الرَّكِينِ
الَّذِي يَسْبِقُ كُل الأَْرْكَانِ تَتَحَقَّقُ بِهِ بَاقِي الأَْرْكَانِ.
الرُّكْنُ الثَّانِي: إِقَامُ الصَّلاَةِ.
21 - الصَّلاَةُ لُغَةً بِمَعْنَى الدُّعَاءِ، وَقَدْ أَضَافَ الشَّرْعُ
إِلَى الدُّعَاءِ مَا شَاءَ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ وَسُمِّيَ
مَجْمُوعُ ذَلِكَ الصَّلاَةَ، أَوْ هِيَ مَنْقُولَةٌ مِنَ الصِّلَةِ
الَّتِي تَرْبِطُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، فَهِيَ بِذَلِكَ صِلَةٌ بَيْنَ
الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، وَفُرِضَتْ لَيْلَةَ الإِْسْرَاءِ بِمَكَّةَ قَبْل
الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ.
وَوُجُوبُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ مِنَ الْمَعْلُومِ مِنَ الدِّينِ
بِالضَّرُورَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ.
فَمَنْ جَحَدَهَا كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ.
أَمَّا مَنْ أَقَرَّ بِوُجُوبِهَا وَامْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهَا، فَقِيل:
فَاسِقٌ يُقْتَل حَدًّا إِنْ تَمَادَى عَلَى الاِمْتِنَاعِ، وَقِيل:
__________
(1)) حديث: " من كان آخر كلامه. . . . " أخرجه أبو داود والحاكم من حديث
معاذ بن جبل رضي الله عنه مرفوعا، قال الحاكم، هذا حديث صحيح الإسناد ولم
يخرجاه، ووافقه الذهبي. قال شعيب الأرناؤوط: وفيه صالح بن أبي غريب - أحد
رواته - روى عنه جماعة من الثقات، ووثقه ابن حبان، وباقي رجاله ثقات (سنن
أبي داود 3 / 486 ط استانبول، والمستدرك 1 / 351 نشر دار الكتاب العربي،
وشرح السنة للبغوي بتحقيق شعيب الأرناؤوط 5 / 296 نشر المكتب الإسلامي) .
(4/269)
مَنْ تَرَكَهَا مُتَعَمِّدًا أَوْ
مُفَرِّطًا فَهُوَ كَافِرٌ يُقْتَل كُفْرًا. وَقَدْ جَاءَتِ الآْيَاتُ
الْكَثِيرَةُ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ دَالَّةً عَلَى ذَلِكَ، مِنْهَا
قَوْله تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (1)
وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
كِتَابًا مَوْقُوتًا} (2) ، وَغَيْرُهَا كَثِيرٌ.
أَمَّا الأَْحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ فَمِنْهَا سُئِل صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الأَْعْمَال أَفْضَل؟ فَقَال: الصَّلاَةُ
لِمَوَاقِيتِهَا (3) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. ر: (صَلاَةٌ) .
الرُّكْنُ الثَّالِثُ: إِيتَاءُ الزَّكَاةِ.
22 - الزَّكَاةُ لُغَةً: النُّمُوُّ وَالزِّيَادَةُ. يُقَال: زَكَا
الشَّيْءُ إِذَا نَمَا وَكَثُرَ، إِمَّا حِسًّا كَالنَّبَاتِ وَالْمَال،
أَوْ مَعْنًى كَنُمُوِّ الإِْنْسَانِ بِالْفَضَائِل وَالصَّلاَحِ.
وَشَرْعًا: إِخْرَاجُ جُزْءٍ مِنْ مَالٍ مَخْصُوصٍ لِقَوْمٍ مَخْصُوصِينَ
بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ، وَسُمِّيَتْ صَدَقَةُ الْمَال زَكَاةً،
لأَِنَّهَا تَعُودُ بِالْبَرَكَةِ فِي الْمَال الَّذِي أُخْرِجَتْ مِنْهُ
وَتُنَمِّيهِ. وَرُكْنِيَّتُهَا وَوُجُوبُهَا ثَابِتَانِ بِالْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ. فَمَنْ جَحَدَ وُجُوبَهَا مُرْتَدٌّ،
لإِِنْكَارِهِ مَا قَامَ مِنَ الدِّينِ ضَرُورَةً.
وَمَنْ أَقَرَّ بِوُجُوبِهَا وَامْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهَا أُخِذَتْ مِنْهُ
كَرْهًا، بِأَنْ يُقَاتَل وَيُؤَدَّبَ عَلَى امْتِنَاعِهِ عَنْ أَدَائِهَا.
وَقُرِنَتْ بِالصَّلاَةِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي اثْنَيْنِ
__________
(1) سورة النور / 56.
(2) سورة النساء / 102.
(3) حديث " الصلاة لمواقيتها " أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن
مسعود رضي الله عنه بلفظ " سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى
الله؟ قال: الصلاة على وقتها. . . " (فتح الباري 2 / 9 ط السلفية، وصحيح
مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 1 / 90 ط عيسى الحلبي 1374 هـ) .
(4/269)
وَثَمَانِينَ آيَةً. وَفُرِضَتْ فِي
مَكَّةَ مُطْلَقَةً أَوَّلاً، وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ
الْهِجْرَةِ حُدِّدَتِ الأَْنْوَاعُ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا، وَمِقْدَارُ
النِّصَابِ فِي كُلٍّ ر: (زَكَاة) .
الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الصِّيَامُ.
23 - الصَّوْمُ لُغَةً: مُطْلَقُ الإِْمْسَاكِ وَالْكَفِّ، فَكُل مَنْ
أَمْسَكَ عَنْ شَيْءٍ يُقَال فِيهِ: صَامَ عَنْهُ. وَفِي الشَّرْعِ:
الإِْمْسَاكُ عَنْ شَهْوَتَيِ الْفَرْجِ وَالْبَطْنِ يَوْمًا كَامِلاً
بِنِيَّةِ التَّقَرُّبِ.
وَوُجُوبُهَا وَرُكْنِيَّتُهَا ثَابِتَانِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
وَالإِْجْمَاعِ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} (1) . وقَوْله
تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} . (2)
وَمِنَ السُّنَّةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صُومُوا
لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ (3) ر: (صِيَام) .
الرُّكْنُ الْخَامِسُ: الْحَجُّ.
24 - الْحَجُّ فِي اللُّغَةِ: الْقَصْدُ. وَشَرْعًا: الْقَصْدُ إِلَى
الْبَيْتِ الْحَرَامِ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ وَفِي أَيَّامٍ مَخْصُوصَةٍ.
وَالأَْصْل فِي وُجُوبِهِ قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى
__________
(1) سورة البقرة / 183.
(2) سورة البقرة / 185.
(3) حديث: " صوموا لرؤيته. . . " أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة
رضي الله عنه مرفوعا (فتح الباري 4 / 119 ط السلفية، وصحيح مسلم بتحقيق
محمد فؤاد عبد الباقي 2 / 762 ط عيسى الحلبي 1374 هـ) .
(4/270)
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ
إِلَيْهِ سَبِيلاً} (1) وقَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (2) .
وَمِنَ السُّنَّةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ
اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا (3) . فَرُكْنِيَّتُهُ
وَوُجُوبُهُ ثَابِتَانِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ، وَهُوَ
مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، فَمَنْ جَحَدَ ذَلِكَ فَهُوَ
كَافِرٌ. وَمَنْ أَقَرَّ بِهِ وَتَرَكَهُ فَاَللَّهُ حَسْبُهُ، لاَ
يُتَعَرَّضُ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ، لِتَوَقُّفِهِ عَلَى الاِسْتِطَاعَةِ
وَسُقُوطِهِ بِعَدَمِهَا.
ر: (حَجّ) .
ثَانِيًا: الإِْسْلاَمُ بِالتَّبَعِيَّةِ
إِسْلاَمُ الصَّغِيرِ بِإِسْلاَمِ أَحَدِ أَبَوَيْهِ:
25 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَسْلَمَ الأَْبُ وَلَهُ
أَوْلاَدٌ صِغَارٌ، أَوْ مَنْ فِي حُكْمِهِمْ - كَالْمَجْنُونِ إِذَا
بَلَغَ مَجْنُونًا - فَإِنَّ هَؤُلاَءِ يُحْكَمُ بِإِسْلاَمِهِمْ تَبَعًا
لأَِبِيهِمْ.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِإِسْلاَمِ أَحَدِ
الأَْبَوَيْنِ، أَبًا كَانَ أَوْ أُمًّا، فَيُحْكَمُ بِإِسْلاَمِ
الصِّغَارِ بِالتَّبَعِيَّةِ، لأَِنَّ الإِْسْلاَمَ يَعْلُو وَلاَ يُعْلَى
عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ دِينُ اللَّهِ الَّذِي ارْتَضَاهُ لِعِبَادِهِ. وَقَال
مَالِكٌ: لاَ عِبْرَةَ بِإِسْلاَمِ الأُْمِّ أَوِ الْجَدِّ، لأَِنَّ
الْوَلَدَ يَشْرُفُ بِشَرَفِ أَبِيهِ وَيَنْتَسِبُ إِلَى قَبِيلَتِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ إِسْلاَمَ الْجَدِّ - وَإِنْ عَلاَ -
يَسْتَتْبِعُ الْحُكْمَ بِإِسْلاَمِ الأَْحْفَادِ الصِّغَارِ وَمَنْ فِي
__________
(1) سورة آل عمران / 97.
(2) سورة البقرة / 196.
(3) حديث: " إن الله فرض عليكم الحج فحجوا " أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة
رضي الله عنه مرفوعا بلفظ " أيها الناس: قد فرض الله عليكم الحج فحجوا. . .
" (صحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 2 / 975 ط عيسى الحلبي 1374 هـ)
.
(4/270)
حُكْمِهِمْ، وَلَوْ كَانَ الأَْبُ حَيًّا
كَافِرًا، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ آمَنُوا
وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ
ذُرِّيَّتَهُمْ} (1) .
وَقَال الثَّوْرِيُّ: إِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ يُخَيَّرُ بَيْنَ دِينِ
أَبَوَيْهِ، فَأَيُّهُمَا اخْتَارَ كَانَ عَلَى دِينِهِ (2) .
الإِْسْلاَمُ بِالتَّبَعِيَّةِ لِدَارِ الإِْسْلاَمِ:
26 - يَدْخُل فِي ذَلِكَ الصَّغِيرُ إِذَا سُبِيَ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ
أَحَدٌ مِنْ أَبَوَيْهِ، إِذَا أَدْخَلَهُ السَّابِي إِلَى دَارِ
الإِْسْلاَمِ. وَكَذَلِكَ لَقِيطُ دَارِ الإِْسْلاَمِ، حَتَّى لَوْ كَانَ
مُلْتَقِطُهُ ذِمِّيًّا. وَكَذَلِكَ الْيَتِيمُ الَّذِي مَاتَ أَبَوَاهُ
وَكَفَلَهُ أَحَدُ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ يَتَّبِعُ كَافِلَهُ
وَحَاضِنَهُ فِي الدِّينِ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ ابْنُ الْقَيِّمِ. (3)
وَانْفَرَدَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْوَلَدَ يُحْكَمُ بِإِسْلاَمِهِ
إِذَا مَاتَ وَاحِدٌ مِنْ أَبَوَيْهِ الذِّمِّيِّينَ، وَاسْتَدَلُّوا
بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُل مَوْلُودٍ
يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ
يُنَصِّرَانِهِ (4) .
ثَالِثًا: الإِْسْلاَمُ بِالدَّلاَلَةِ:
27 - قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: الأَْصْل أَنَّ الْكَافِرَ مَتَى فَعَل
__________
(1) سورة الطور / 21.
(2) البدائع 4 / 104، وابن عابدين 4 / 348، والشربيني 4 / 206 - 207،
والدسوقي على الشرح الكبير 4 / 308، والزرقاني على خليل 2 / 69، والمغني 8
/ 139 - 140، وكشاف القناع 6 / 183.
(3) شفاء العليل ص 298، والمغني 8 / 140.
(4) حديث " كل مولود. . . " أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي
الله عنه مرفوعا بلفظ " ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه
أو ينصرانه. . . " (فتح الباري 11 / 493 ط السلفية، وصحيح مسلم بتحقيق محمد
فؤاد عبد الباقي 4 / 2047 ط عيسى الحلبي 1375 هـ) .
(4/271)
عِبَادَةً فَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي
سَائِرِ الأَْدْيَانِ لاَ يَكُونُ بِهَا مُسْلِمًا، كَالصَّلاَةِ
مُنْفَرِدًا، وَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ الَّذِي لَيْسَ بِكَامِلٍ،
وَالصَّدَقَةِ، وَمَتَى فَعَل مَا اخْتَصَّ بِشَرْعِنَا، وَلَوْ مِنَ
الْوَسَائِل كَالتَّيَمُّمِ. وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِنَ الْمَقَاصِدِ أَوْ
مِنَ الشَّعَائِرِ، كَالصَّلاَةِ بِجَمَاعَةٍ وَالْحَجِّ الْكَامِل
وَالأَْذَانِ فِي الْمَسْجِدِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، يَكُونُ بِهِ
مُسْلِمًا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْمُحِيطِ وَغَيْرِهِ (1) . وَقَدِ
اعْتَبَرَ الْفُقَهَاءُ جُمْلَةً مِنَ الأَْفْعَال تَقُومُ دَلاَلَةً عَلَى
كَوْنِ الشَّخْصِ مُسْلِمًا، وَلَوْ لَمْ يُعْرَفْ عَنْهُ النُّطْقُ
بِالشَّهَادَتَيْنِ.
أ - الصَّلاَةُ
28 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلاَمِ
الْكَافِرِ بِفِعْل الصَّلاَةِ. لَكِنْ قَال الْحَنَابِلَةُ: يُحْكَمُ
بِإِسْلاَمِهِ بِالصَّلاَةِ سَوَاءٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ دَارِ
الإِْسْلاَمِ، وَسَوَاءٌ صَلَّى جَمَاعَةً أَوْ فَرْدًا، فَإِنْ أَقَامَ
بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الإِْسْلاَمِ، وَإِلاَّ فَهُوَ مُرْتَدٌّ تَجْرِي
عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ.
وَإِنْ مَاتَ قَبْل ظُهُورِ مَا يُنَافِي الإِْسْلاَمَ فَهُوَ مُسْلِمٌ،
يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ الْمُسْلِمُونَ دُونَ الْكَافِرِينَ، وَاحْتَجُّوا
بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي نُهِيتُ
عَنْ قَتْل الْمُصَلِّينَ (2) وَقَوْلِهِ: الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا
وَبَيْنَهُمُ
__________
(1) الدر المختار 1 / 7364، 3 / 390، والمغني 2 / 201.
(2) حديث: " إني نهيت عن قتل المصلين " أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة
رضي الله عنه مرفوعا، قال المنذري: وفي إسناده أبو يسار القرشي، سئل عنه
أبو حاتم الرازي، فقال: مجهول، وأبو هاشم قيل هو ابن عم أبي هريرة، وهو كما
قال الحافظ ابن حجر: مجهول الحال أيضا (عون المعبود 4 / 438 ط الهند، وجامع
الأصول 4 / 744 نشر مكتبة الحلواني 1390 هـ، وتقريب التهذيب 2 / 482 نشر
دار المعرفة 1395 هـ) .
(4/271)
الصَّلاَةُ (1) وَقَوْلُهُ: مَنْ صَلَّى
صَلاَتَنَا، وَاسْتَقْبَل قِبْلَتَنَا، وَأَكَل ذَبِيحَتَنَا فَذَلِكَ
الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، فَلاَ
تَخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ (2) . فَجَعَلَهَا حَدًّا بَيْنَ
الإِْيمَانِ وَالْكُفْرِ، فَمَنْ صَلَّى فَقَدْ دَخَل فِي حَدِّ
الإِْسْلاَمِ، وَلأَِنَّهَا عِبَادَةٌ تَخْتَصُّ بِالْمُسْلِمِينَ
فَالإِْتْيَانُ بِهَا إِسْلاَمٌ، كَالشَّهَادَتَيْنِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يُحْكَمُ بِإِسْلاَمِهِ بِالصَّلاَةِ إِلاَّ
إِنْ صَلاَّهَا كَامِلَةً فِي الْوَقْتِ مَأْمُومًا فِي جَمَاعَةٍ، إِلاَّ
أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ يَرَى أَنَّهُ حَتَّى لَوْ صَلَّى وَحْدَهُ
مُسْتَقْبِل الْقِبْلَةِ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلاَمِهِ، وَقَال
الْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يُحْكَمُ بِإِسْلاَمِ
الْكَافِرِ بِمُجَرَّدِ صَلاَتِهِ، لأَِنَّ الصَّلاَةَ مِنْ فُرُوعِ
الإِْسْلاَمِ، فَلَمْ يَصِرْ مُسْلِمًا بِفِعْلِهَا، كَالْحَجِّ
وَالصِّيَامِ، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِل النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ
إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُول اللَّهِ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا
مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا (3) . وَقَال
بَعْضُهُمْ: إِنْ
__________
(1) حديث: " العهد. . . " أخرجه الترمذي والنسائي من حديث بريدة رضي الله
عنه مرفوعا، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. قال المباركفوري: وأخرجه أحمد
وأبو داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه وقال: صحيح،
ولا نعرف له علة (تحفة الأحوذي 7 / 369 ط السلفية، وسنن النسائي 1 / 231
نشر المكتبة التجارية، وجامع الأصول 5 / 203 نشر مكتبة الحلواني، وشرح
السنة للبغوي 2 / 180 نشر المكتب الإسلامي) .
(2) حديث: " من صلى صلاتنا. . . " أخرجه البخاري من حديث أنس بن مالك رضي
الله عنه مرفوعا (فتح الباري 1 / 496 ط السلفية) .
(3) حديث: " أمرت أن أقاتل. . . " أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي
الله عنهما مرفوعا بلفظ " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا اله إلا
الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك
عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام " وفي رواية مسلم " إلا بحقها
وحسابهم على الله ". (فتح الباري 1 / 75 ط السلفية، وصحيح مسلم 1 / 53 ط
استانبول، وجامع الأصول 1 / 245 نشر مكتبة الحلواني) .
(4/272)
صَلَّى فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ فَلَيْسَ
بِمُسْلِمٍ، لأَِنَّهُ قَدْ يَقْصِدُ الاِسْتِتَارَ بِالصَّلاَةِ
وَإِخْفَاءَ دِينِهِ، وَإِنْ صَلَّى فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ مُسْلِمٌ،
لأَِنَّهُ لاَ تُهْمَةَ فِي حَقِّهِ (1) . وَالدَّلِيل لِذَلِكَ قَوْلُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ صَلَّى صَلاَتَنَا، وَاسْتَقْبَل
قِبْلَتَنَا، وَأَكَل ذَبِيحَتَنَا فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ
ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ فَلاَ تَخْفِرُوا اللَّهَ فِي
ذِمَّتِهِ (2) . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا
رَأَيْتُمُ الرَّجُل يَتَعَاهَدُ الْمَسَاجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ
بِالإِْيمَانِ (3) فَإِنَّ اللَّهَ يَقُول: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ
اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ
وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ
يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (4) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ (5) : مَنْ صَلَّى حَكَمْنَا بِإِسْلاَمِهِ ظَاهِرًا،
أَمَّا صَلاَتُهُ فِي نَفْسِهِ فَأَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ
تَعَالَى.
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 103، والمغني 2 / 201 والدسوقي على الشرح الكبير 1 /
325.
(2) حديث: " من صلى صلاتنا. . . " سبق تخريجه (ف / 27) .
(3) حديث: " إذا رأيتم الرجل يتعاهد المساجد. . . . " أخرجه الترمذي وابن
ماجه وأحمد والحاكم وابن حبان والدارمي من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا،
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، قال الحاكم: هذه ترجمة للمصريين، لم
يختلفوا في صحتها وصدق رواتها، غير أن شيخي الصحيح البخاري ومسلم لم
يخرجاه، وتعقبه الذهبي بقوله: في إسناده دراج وهو كثير المناكير (تحفة
الأحوذي 1 / 365 - 366 ط السلفية، وسنن ابن ماجه بتحقيق محمد فؤاد عبد
الباقي 1 / 263 ط عيسى الحلبي 1372 هـ، ومسند أحمد بن حنبل 3 / 68 ط
الميمنية، والمستدرك 1 / 212، 213 نشر دار الكتاب العربي، وسنن الدارمي 1 /
278 ط مطبعة الاعتدال 1349 هـ) .
(4) سورة التوبة / 18.
(5) المغني 2 / 201.
(4/272)
فَالرَّجُل يَتَعَهَّدُ الْمَسَاجِدَ
وَيَرْتَادُهَا لإِِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا وَالإِْنْصَاتِ
فِيهَا لِمَا يُتْلَى مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، وَمَا يُلْقَى فِيهَا مِنَ
الْعِبَرِ وَالْعِظَاتِ، وَالأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ
الْمُنْكَرِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمَسَاجِدَ لاَ يَرْتَادُهَا إِلاَّ
الْمُؤْمِنُونَ الطَّائِعُونَ وَالْمُخْلِصُونَ فِي إِيمَانِهِمْ لِلَّهِ،
فَلاَ جَرَمَ إِنْ كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ النَّبَوِيُّ يُشِيرُ إِلَى
أَنَّ هَذَا الاِرْتِيَادَ هُوَ أَمَارَةٌ عَلَى الإِْيمَانِ، يَشْهَدُ
لَهُ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ
بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ} . الآْيَةَ.
ب - الأَْذَانُ:
29 - وَيُحْكَمُ بِإِسْلاَمِ الْكَافِرِ بِالأَْذَانِ فِي الْمَسْجِدِ
وَفِي الْوَقْتِ، لأَِنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ دِينِنَا وَشِعَارِ شَرْعِنَا،
وَلَيْسَ لِمُجَرَّدِ أَنَّهُ يَشْتَمِل عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ، بَل
لأَِنَّهُ مِنْ قَبِيل الإِْسْلاَمِ بِالْفِعْل.
ج - سُجُودُ التِّلاَوَةِ:
30 - وَيُحْكَمُ بِإِسْلاَمِ الْكَافِرِ بِسُجُودِ التِّلاَوَةِ، لأَِنَّهُ
مِنْ خَصَائِصِنَا، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ عَنِ الْكُفَّارِ فِي
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ}
(1) .
د - الْحَجُّ:
31 - وَكَذَلِكَ لَوْ حَجَّ، وَتَهَيَّأَ لِلإِْحْرَامِ. وَلَبَّى وَشَهِدَ
الْمَنَاسِكَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلاَمِهِ.
وَإِنْ لَبَّى وَلَمْ يَشْهَدِ الْمَنَاسِكَ، أَوْ شَهِدَهَا وَلَمْ
يُلَبِّ، فَلاَ يُحْكَمُ بِإِسْلاَمِهِ (2) .
__________
(1) سورة الانشقاق / 21.
(2) بدائع الصنائع 7 / 103.
(4/273)
إِسْلاَمٌ
اُنْظُرْ: سَلَم
إِسْلاَفٌ
اُنْظُرْ: سَلَف
إِسْنَادٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْسْنَادُ لُغَةً يَكُونُ:
أ - بِمَعْنَى إِمَالَةِ الشَّيْءِ إِلَى الشَّيْءِ حَتَّى يَعْتَمِدَ
عَلَيْهِ.
ب - وَيَأْتِي أَيْضًا بِمَعْنَى رَفْعِ الْقَوْل إِلَى قَائِلِهِ
وَنِسْبَتِهِ إِلَيْهِ (1) . وَيَأْتِي اصْطِلاَحًا لِمَعَانٍ:
أ - إِعَانَةُ الْغَيْرِ، كَالْمَرِيضِ مَثَلاً، بِتَمْكِينِهِ مِنَ
التَّوَكُّؤِ عَلَى الْمُسْنَدِ، وَنَحْوُهُ إِسْنَادُ الظَّهْرِ إِلَى
الشَّيْءِ.
وَتَفْصِيل الْكَلاَمِ فِي الإِْسْنَادِ بِهَذَا الْمَعْنَى يَأْتِي تَحْتَ
عِنْوَانَيِ: (اسْتِنَاد) (وَإِعَانَة) .
__________
(1) لسان العرب، ومعجم متن اللغة، وتاج العروس مادة: (سند) .
(4/273)
ب - مَا يُذْكَرُ لِتَقْوِيَةِ
الْقَضِيَّةِ الْمُدَّعَاةِ. وَالْكَلاَمُ فِيهِ تَحْتَ عِنْوَانَيْ
(إِثْبَاتٌ) (وَسَنَدٌ) .
ج - الإِْضَافَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: إِسْنَادُ الطَّلاَقِ إِلَى وَقْتٍ
سَابِقٍ (1) وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (إِضَافَةٌ) .
د - الطَّرِيقُ الْمُوَصِّل إِلَى مَتْنِ الْحَدِيثِ. وَبَيَانُهُ فِيمَا
يَلِي:
الإِْسْنَادُ بِمَعْنَى الطَّرِيقِ الْمُوَصِّل إِلَى مَتْنِ الْحَدِيثِ:
2 - هَذَا الاِصْطِلاَحُ هُوَ لِلأُْصُولِيِّينَ وَالْمُحَدِّثِينَ، وَلَهُ
عِنْدَهُمْ إِطْلاَقَانِ:
الأَْوَّل: أَنَّ إِسْنَادَ الْحَدِيثِ هُوَ ذِكْرُ سَنَدِهِ، وَهُوَ ضِدُّ
الإِْرْسَال (2) . وَالسَّنَدُ: سِلْسِلَةُ رُوَاتِهِ بَيْنَ الْقَائِل
وَالرَّاوِي الأَْخِيرِ. وَهَذَا الاِصْطِلاَحُ فِي الإِْسْنَادِ هُوَ
الأَْشْهَرُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ.
الثَّانِي: وَنَقَلَهُ ابْنُ الصَّلاَحِ عَنِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ، أَنَّ
الإِْسْنَادَ هُوَ رَفْعُ الْحَدِيثِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَمُقَابِل الْحَدِيثِ الْمُسْنَدِ - عَلَى هَذَا
الْقَوْل - الْحَدِيثُ الْمَوْقُوفُ، وَهُوَ مَا لَمْ يُرْفَعْ إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. بَل هُوَ مِنْ قَوْل
الصَّحَابِيِّ، وَالْمَقْطُوعُ: وَهُوَ مَا انْتَهَى إِلَى التَّابِعِيِّ
(3) .
الْعَلاَقَةُ بَيْنَ (الإِْسْنَادِ) (وَالسَّنَدِ) :
3 - السَّنَدُ:
السَّنَدُ هُوَ الطَّرِيقُ الْمُوَصِّل إِلَى مَتْنِ الْحَدِيثِ.
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 477 ط عيسى الحلبي، ورد المحتار 2 /
622 ط الميمنية.
(2) شرح مسلم الثبوت 2 / 173، وكشاف اصطلاحات الفنون 3 / 631. وينبغي أن
نعلم أن في (الإرسال) اصطلاحات أخرى (ر: إرسال) .
(3) مقدمة في علوم الحديث لابن الصلاح ص 39، 40، وتدريب الراوي ص 117، 118.
(4/274)
وَالْمُرَادُ بِالطَّرِيقِ: سِلْسِلَةُ
رُوَاةِ الْحَدِيثِ، وَالْمُرَادُ بِمَتْنِ الْحَدِيثِ: أَلْفَاظُ
الْحَدِيثِ الْمَرْوِيَّةِ.
وَأَمَّا الإِْسْنَادُ فَهُوَ ذِكْرُ ذَلِكَ الطَّرِيقِ وَحِكَايَتُهُ
وَالإِْخْبَارُ بِهِ.
فَبَيْنَ (الإِْسْنَادِ) (وَالسَّنَدِ) تَبَايُنٌ. وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ
الْمَشْهُورُ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الاِصْطِلاَحَيْنِ. قَال
السَّخَاوِيُّ: هُوَ الْحَقُّ.
وَنَقَل السُّيُوطِيُّ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الاِصْطِلاَحَيْنِ خِلاَفَ
هَذَا. قَال: قَال ابْنُ جَمَاعَةَ وَالطِّيبِيُّ: السَّنَدُ هُوَ
الإِْخْبَارُ عَنْ طَرِيقِ الْمَتْنِ، وَأَمَّا الإِْسْنَادُ فَهُوَ رَفْعُ
الْحَدِيثِ إِلَى قَائِلِهِ.
هَذَا مَا نَصُّوا عَلَيْهِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الاِصْطِلاَحَيْنِ،
وَلَكِنْ بِاسْتِقْرَاءِ مَوَاضِعَ مِنْ كَلاَمِ الْمُحَدِّثِينَ
نَجِدُهُمْ يَسْتَعْمِلُونَ الإِْسْنَادَ بِمَعْنَى السَّنَدِ كَثِيرًا
بِنَوْعٍ مِنَ التَّسَاهُل أَوِ الْمَجَازِ، حَتَّى لَقَدْ قَال ابْنُ
جَمَاعَةَ: الْمُحَدِّثُونَ يَسْتَعْمِلُونَ السَّنَدَ وَالإِْسْنَادَ
بِمَعْنًى وَاحِدٍ (1) .
مَنْزِلَةُ الإِْسْنَادِ:
4 - يَقُول الأُْصُولِيُّونَ: إِنَّ الاِحْتِجَاجَ بِالسُّنَّةِ مَوْقُوفٌ
بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا عَلَى السَّنَدِ، بِأَنْ يَقُول الْمُحْتَجُّ
بِهَا: حَدَّثَنِي فُلاَنٌ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، أَوْ بِوَاسِطَةٍ
أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَوْ فَعَل، أَوْ أَقَرَّ
كَذَا. . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الاِحْتِجَاجُ مَوْقُوفًا عَلَى السَّنَدِ
بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّحَابَةِ، أَيْ لِسَمَاعِهِمُ الأَْحَادِيثَ مِنَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَاشَرَةً.
وَمُبَاشَرَتِهِمْ لِرُؤْيَةِ أَفْعَالِهِ (2) . وَهَذَا فِي غَيْرِ
__________
(1) تدريب الراوي للسيوطي شرح تقريب النواوي ص 5، وكشاف اصطلاحات الفنون 3
/ 631.
(2) شرح مسلم الثبوت 2 / 100.
(4/274)
الْمُتَوَاتِرِ، أَمَّا الْمُتَوَاتِرُ
فَيُغْنِي تَوَاتُرُهُ عَنْ بَيَانِ إِسْنَادِهِ. وَقَدْ نَقَل مُسْلِمٌ
فِي مُقَدِّمَةِ صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: الإِْسْنَادُ مِنَ الدِّينِ، وَلَوْلاَ
الإِْسْنَادُ لَقَال مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ (1) . وَقَال الشَّافِعِيُّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَطْلُبُ الْحَدِيثَ بِلاَ سَنَدٍ
كَحَاطِبِ لَيْلٍ يَحْمِل حُزْمَةَ حَطَبٍ وَفِيهِ أَفْعَى وَهُوَ لاَ
يَدْرِي (2) .
5 - وَإِنَّمَا اُحْتِيجَ إِلَى الإِْسْنَادِ لِلْحَاجَةِ إِلَى ضَبْطِ
الْمَرْوِيَّاتِ وَالتَّوَثُّقِ مِنْهَا، وَظَهَرَتْ تِلْكَ الْحَاجَةُ
بَعْدَمَا شَرَعَ أَهْل الأَْهْوَاءِ فِي افْتِرَاءِ أَحَادِيثَ يُقَوُّونَ
بِهَا مَا يَذْهَبُونَ إِلَيْهِ. قَال ابْنُ سِيرِينَ: لَمْ يَكُونُوا
يَسْأَلُونَ عَنَ الإِْسْنَادِ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ قَالُوا:
سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ، فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْل السُّنَّةِ فَيُؤْخَذُ
حَدِيثُهُمْ، وَإِلَى أَهْل الْبِدَعِ فَلاَ يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ (3) .
الإِْسْنَادُ وَثُبُوتُ الْحَدِيثِ:
6 - إِنْ كَانَ إِسْنَادُ الْحَدِيثِ صَحِيحًا لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ
صِحَّةُ الْمَتْنِ وَثُبُوتُهُ، لاِحْتِمَال كَوْنِ الْحَدِيثِ شَاذًّا،
أَوْ لاِحْتِمَال وُجُودِ عِلَّةٍ قَادِحَةٍ. فَإِنَّ الْحَدِيثَ إِنَّمَا
يَكُونُ صَحِيحًا إِذَا جَمَعَ إِلَى صِحَّةِ الإِْسْنَادِ السَّلاَمَةَ
مِنَ الشُّذُوذِ وَالْعِلَّةِ. إِلاَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ ذَكَرَ أَنَّ
أَئِمَّةَ نَقْدِ الْحَدِيثِ إِذَا قَال الْوَاحِدُ مِنْهُمْ فِي حَدِيثٍ:
إِنَّهُ صَحِيحُ الإِْسْنَادِ، وَلَمْ يَقْدَحْ فِيهِ فَالظَّاهِرُ مِنْهُ
الْحُكْمُ عَلَى الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ، لأَِنَّ
عَدَمَ الْعِلَّةِ
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 1 / 86.
(2) فيض القدير 1 / 433 ط مصطفى محمد، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم 1 /
16، والإمداد لمعرفة علوم الإسناد ص 3 ط حيدر آباد دائرة المعارف
العثمانية.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي 1 / 84.
(4/275)
وَالْقَادِحِ هُوَ الأَْصْل وَالظَّاهِرُ.
كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الصَّلاَحِ فِي مُقَدِّمَتِهِ (1) .
وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ الْحَدِيثِ ظَاهِرًا أَنَّهُ مَقْطُوعٌ
بِصِحَّتِهِ فِي نَفْسِ الأَْمْرِ، لِجَوَازِ الْخَطَأِ أَوِ النِّسْيَانِ
عَلَى الثِّقَةِ (2) .
وَلَكِنَّ إِسْنَادَ الْحَدِيثِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ
الْمُرْسَل، وَيُحْتَجُّ بِهِ إِنْ كَانَ الَّذِي أَرْسَلَهُ ثِقَةٌ،
وَهُوَ قَوْل الأَْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ: أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ
وَأَحْمَدَ، وَقِيل فِي تَعْلِيل ذَلِكَ: مَنْ أَسْنَدَ فَقَدْ أَحَالَكَ،
وَمَنْ أَرْسَل فَقَدْ تَكَفَّل لَكَ، أَيْ بِالصِّحَّةِ. وَلاَ يَقْبَلُهُ
الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ إِلاَّ إِنِ اعْتَضَدَ بِمَا يُقَوِّيهِ (3) .
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلاَتٌ أُخْرَى. اُنْظُرْ (إِرْسَالٌ) .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُسْنَدَ مِنَ الأَْحَادِيثِ أَقْوَى مِنَ
الْمُرْسَل (4) .
صِفَاتُ الأَْسَانِيدِ:
7 - يُوصَفُ الإِْسْنَادُ بِصِفَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَقَدْ يُوصَفُ مَثَلاً
بِالْعُلُوِّ أَوْ بِالنُّزُول. فَإِنْ كَانَتِ الْوَسَائِطُ قَلِيلَةً
فَهُوَ إِسْنَادٌ عَالٍ، وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً فَهُوَ نَازِلٌ.
كَمَا يُوصَفُ الإِْسْنَادُ بِالْقُوَّةِ وَالصِّحَّةِ، أَوْ بِالْحُسْنِ
أَوْ بِالضَّعْفِ، وَقَدْ يُقَال: إِسْنَادٌ مُعَنْعَنٌ،
__________
(1) مقدمة ابن الصلاح ص 3، 4.
(2) الرفع والتكميل في الجرح والتعديل لعبد الحي اللكنوي ص 84 نشر مكتبة
المطبوعات.
(3) شرح مسلم الثبوت 2 / 174.
(4) شرح العضد على مختصر ابن الحاجب وحاشية التفتازاني 2 / 74، 311 ط
ليبيا.
(4/275)
أَوْ مُدَلَّسٌ، أَوْ غَرِيبٌ، أَوْ غَيْرُ
ذَلِكَ (1) . وَيُعْرَفُ ذَلِكَ كُلُّهُ بِالرُّجُوعِ إِلَى مَوَاطِنِهِ
مِنْ كُتُبِ عُلُومِ الْحَدِيثِ أَوْ أَبْوَابِ السُّنَّةِ مِنَ
الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
مَا يَحْتَاجُ إِلَى الإِْسْنَادِ. وَالإِْسْنَادُ فِي الْعَصْرِ
الْحَدِيثِ:
8 - يَحْتَاجُ إِلَى الإِْسْنَادِ كُل مَا يُحْتَجُّ بِهِ مِمَّا لَيْسَ
بِمُتَوَاتِرٍ، وَمِنْ ذَلِكَ ثُبُوتُ الْقِرَاءَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ
بِالإِْسْنَادِ (2) . وَمِنْهُ أَيْضًا ثُبُوتُ الأَْحَادِيثِ
النَّبَوِيَّةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ الْمَرْوِيَّةِ
بِالإِْسْنَادِ. وَقَدْ دَخَل الإِْسْنَادُ فِي رِوَايَةِ الْكُتُبِ
الْمُؤَلَّفَةِ فِي عُلُومِ الدِّينِ، حَتَّى إِنَّهُ دَخَل فِي رِوَايَةِ
كُتُبِ اللُّغَةِ وَالأَْدَبِ وَالتَّارِيخِ وَغَيْرِهَا.
إِلاَّ أَنَّ الإِْسْنَادَ تُرِكَ غَالِبًا فِي هَذِهِ الأَْعْصُرِ
الأَْخِيرَةِ، حَتَّى فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ. وَلَعَل ذَلِكَ اكْتِفَاءً
مِنَ الْعُلَمَاءِ بِتَوَاتُرِ تِلْكَ الْكُتُبِ عَنْ مُؤَلِّفِيهَا،
كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ، أَوْ لِشُهْرَتِهَا عَنْهُمْ،
مِمَّا يُغْنِي عَنْ إِيرَادِ الأَْسَانِيدِ، وَنَظَرًا لِطُول
الأَْسَانِيدِ وَنُزُولِهَا بِدَرَجَةٍ تُضْعِفُ الثِّقَةَ بِهَا، فَلاَ
تَكَادُ تُكَافِئُ مَا قَدْ يُبْذَل فِيهَا مِنَ الْجُهُودِ. وَمَعَ ذَلِكَ
فَفِي إِحْيَائِهَا بَرَكَةُ الْمُحَافَظَةِ عَلَى هَذِهِ الْخِصِّيصَةِ
مِنْ خَصَائِصِ، الأُْمَّةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ.
__________
(1) شرح مسلم الثبوت 2 / 207، وشرح العضد على مختصر المنتهى 2 / 311.
(2) الإتقان للسيوطي 1 / 74 - 76 ط الثانية مصطفى الحلبي.
(4/276)
إِسْهَامٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْسْهَامُ فِي اللُّغَةِ يَأْتِي بِمَعْنَيَيْنِ:
الأَْوَّل: جَعْل الشَّخْصِ صَاحِبَ حِصَّةٍ أَوْ نَصِيبٍ، يُقَال:
أَسْهَمْتُ لَهُ بِأَلْفٍ، يَعْنِي أَعْطَيْتُهُ أَلْفًا.
وَيُصْبِحُ الشَّخْصُ ذَا سَهْمٍ فِي أُمُورٍ مِنْهَا: الْمِيرَاثُ،
وَالْقِسْمَةُ، وَالْغَنِيمَةُ، وَالْفَيْءُ، وَالنَّفَقَةُ، وَالشُّرْبُ
إِنْ كَانَ لَهُ اسْتِحْقَاقٌ فِي ذَلِكَ.
وَالثَّانِي: الإِْقْرَاعُ. يُقَال: أَسْهَمَ بَيْنَهُمْ، أَيْ أَقْرَعَ
بَيْنَهُمْ (1) . وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَيْنِ
الْمَعْنَيَيْنِ.
الإِْسْهَامُ بِالْمَعْنَى الأَْوَّل (جَعْل الشَّخْصِ صَاحِبَ حِصَّةٍ) .
2 - الإِْسْهَامُ فِي جَمِيعِ حَالاَتِ الاِشْتِرَاكِ، كَالاِشْتِرَاكِ فِي
الْهَدْيِ، يَجْعَل لِكُلٍّ مِنَ الْمُشْتَرِكِينَ سَهْمًا فِيهِ.
وَالاِشْتِرَاكُ فِي الْعَمَل يَجْعَل لِكُلٍّ مِنَ الْمُشْتَرِكِينَ
سَهْمًا مِنَ الرِّبْحِ أَوْ تَحَمُّل الْخَسَارَةِ. كَمَا يُثْبِتُ
الإِْسْهَامُ لِكُلٍّ مِنَ الشُّرَكَاءِ نَصِيبًا فِي الشُّفْعَةِ.
وَالاِشْتِرَاكُ فِي الرَّهْنِ - إِذَا رَهَنَ عَيْنًا عِنْدَ اثْنَيْنِ -
يَجْعَل لِكُلٍّ مِنَ الْمُرْتَهِنَيْنِ حَظًّا فِي حِفْظِهَا.
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب، مادة: (سهم) .
(4/276)
وَالاِشْتِرَاكُ فِي الْجِنَايَةِ
الْخَطَأِ يُوجِبُ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْجُنَاةِ حَظًّا مِنَ الدِّيَةِ،
وَمِنْ ذَلِكَ إِسْهَامُ الْعَاقِلَةِ فِي تَحَمُّل الدِّيَةِ فِي
جِنَايَةِ الْخَطَأِ.
وَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي أَبْوَابِهِ الْخَاصَّةِ بِهِ.
الإِْسْهَامُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي (الْقُرْعَةُ) :
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الْقُرْعَةِ إِذَا كَانَتْ
لِتَطْيِيبِ الْقُلُوبِ، بَل هِيَ مَنْدُوبَةٌ فِي ذَلِكَ، كَإِقْرَاعِ
الْمُسَافِرِ بَيْنَ نِسَائِهِ لإِِخْرَاجِ مَنْ يُسَافِرُ بِهَا
مِنْهُنَّ، وَالإِْقْرَاعُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْيِينِ مَنْ يَبْدَأُ بِهَا
فِي الْقِسْمَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْقُرْعَةِ لِتَعْيِينِ الْحَقِّ
فِي الْقِسْمَةِ بَعْدَ الإِْفْرَازِ، قَطْعًا لِلْخِلاَفِ وَتَطْيِيبًا
لِلْقُلُوبِ.
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْقُرْعَةِ لإِِثْبَاتِ
حَقِّ الْبَعْضِ وَإِبْطَال حَقِّ الْبَعْضِ الآْخَرِ، كَمَنْ طَلَّقَ
إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يُعَيِّنْ. فَأَنْكَرَ
الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَتِمَّ التَّعْيِينُ بِالْقُرْعَةِ، وَأَقَرَّ ذَلِكَ
غَيْرُهُمْ (1) . وَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي أَبْوَابِ
الْعِتْقِ وَالنِّكَاحِ وَالْقِسْمَةِ وَالطَّلاَقِ.
أَسِيرٌ
اُنْظُرْ: أَسْرَى
__________
(1) فتح القدير 8 / 15، وفتاوى قاضي خان 3 / 155، والمغني 9 / 359.
(4/277)
إِشَارَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْشَارَةُ لُغَةً: التَّلْوِيحُ بِشَيْءٍ يُفْهَمُ مِنْهُ مَا
يُفْهَمُ مِنَ النُّطْقِ، فَهِيَ الإِْيمَاءُ إِلَى الشَّيْءِ بِالْكَفِّ
وَالْعَيْنِ وَالْحَاجِبِ وَغَيْرِهَا. وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِكَذَا:
أَبْدَى لَهُ رَأْيَهُ، وَالاِسْمُ الشُّورَى.
وَهِيَ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ حَقِيقَةٌ فِي الْحِسِّيَّةِ، وَتُسْتَعْمَل
مَجَازًا فِي الذِّهْنِيَّةِ، كَالإِْشَارَةِ بِضَمِيرِ الْغَائِبِ
وَنَحْوِهِ، فَإِنْ عُدِّيَ " إِلَى " تَكُونُ بِمَعْنَى الإِْيمَاءِ
بِالْيَدِ، وَنَحْوِهَا، وَإِنْ عُدِّيَ بِ " عَلَى " تَكُونُ بِمَعْنَى
الرَّأْيِ (1) .
وَالإِْشَارَةُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ مِثْلُهَا فِي اللُّغَةِ،
وَيَسْتَعْمِلُهَا الأُْصُولِيُّونَ فِي مَبْحَثِ الدَّلاَلاَتِ،
وَيُعَرِّفُونَ دَلاَلَةَ الإِْشَارَةِ بِأَنَّهَا: دَلاَلَةُ اللَّفْظِ
عَلَى مَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ، وَلَكِنَّهُ لاَزِمٌ لَهُ. كَدَلاَلَةِ
قَوْله تَعَالَى: {لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا
لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} (2) عَلَى صِحَّةِ
النِّكَاحِ بِدُونِ ذِكْرِ الْمَهْرِ، لأَِنَّ صِحَّةَ الطَّلاَقِ فَرْعُ
صِحَّةِ النِّكَاحِ.
أَمَّا عِبَارَةُ النَّصِّ فَهِيَ الْمَعْنَى الَّذِي يَتَبَادَرُ فَهْمُهُ
مِنْ صِيغَتِهِ، وَيَكُونُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ سِيَاقِهِ، وَسَيَأْتِي
تَفْصِيل مَا يَتَّصِل بِذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) الكليات 1 / 184 - 185، واللسان، والمصباح مادة: (شور) .
(2) سورة البقرة / 236.
(4/277)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الدَّلاَلَةُ:
2 - الدَّلاَلَةُ: كَوْنُ الشَّيْءِ بِحَيْثُ يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ
آخَرُ، كَدَلاَلَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى، وَهِيَ أَعَمُّ مِنَ
الإِْشَارَةِ (1) .
ب - الإِْيمَاءُ:
3 - الإِْيمَاءُ: مُرَادِفٌ لِلإِْشَارَةِ لُغَةً، وَعِنْدَ
الأُْصُولِيِّينَ عَرَّفَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ: إِلْقَاءُ الْمَعْنَى
فِي النَّفْسِ بِخَفَاءٍ (2) .
صِفَتُهَا (الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ) :
4 - الإِْشَارَةُ تَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ فِي أَغْلَبِ الأُْمُورِ،
لأَِنَّهَا تُبَيِّنُ الْمُرَادَ كَالنُّطْقِ، وَلَكِنَّ الشَّارِعَ
يُقَيِّدُ النَّاطِقِينَ بِالْعِبَارَةِ فِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ
كَالنِّكَاحِ، فَإِذَا عَجَزَ إِنْسَانٌ عَنْهَا، أَقَامَ الشَّارِعُ
إِشَارَتَهُ مَقَامَ نُطْقِهِ فِي الْجُمْلَةِ (3) .
إِشَارَةُ الأَْخْرَسِ:
5 - إِشَارَةُ الأَْخْرَسِ مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا، وَتَقُومُ مَقَامَ
عِبَارَةِ النَّاطِقِ فِيمَا لاَ بُدَّ فِيهِ مِنَ الْعِبَارَةِ، إِذَا
كَانَتْ مَعْهُودَةً فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ كَالْبَيْعِ، وَالإِْجَارَةِ،
وَالرَّهْنِ، وَالنِّكَاحِ، وَالْحُلُول: كَالطَّلاَقِ، وَالْعَتَاقِ،
وَالإِْبْرَاءِ. وَغَيْرِ ذَلِكَ كَالأَْقَارِيرِ - مَا عَدَا الإِْقْرَارِ
بِالْحُدُودِ، فَفِيهِ خِلاَفٌ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا - وَالدَّعَاوَى "
وَالإِْسْلاَمُ. وَهَذَا الْقَدْرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ
فِيمَا نَعْلَمُ،
__________
(1) الكليات 1 / 336.
(2) الكليات 2 / 320.
(3) المنثور في القواعد 1 / 164 - 165.
(4/278)
وَفِي اللِّعَانِ وَالْقَذْفِ خِلاَفٌ.
فَقَدْ قَال الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ الإِْشَارَةَ
لاَ تَقُومُ مَقَامَ النُّطْقِ فِيهِمَا، لأَِنَّ فِي الإِْشَارَةِ
شُبْهَةً يُدْرَأُ بِهَا الْحَدُّ، وَقَال مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ
وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: إِشَارَةُ الأَْخْرَسِ كَنُطْقِهِ فِيهِمَا (1) .
وَلاَ فَرْقَ فِي اعْتِبَارِ إِشَارَةِ الأَْخْرَسِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ
قَادِرًا عَلَى الْكِتَابَةِ، أَوْ عَاجِزًا عَنْهَا، وَلاَ بَيْنَ أَنْ
يَكُونَ الْخَرَسُ أَصَالَةً أَوْ طَارِئًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ
(2) .
وَنُقِل عَنْ الْمُتَوَلِّي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّمَا تُعْتَبَرُ
إِشَارَةُ الأَْخْرَسِ إِذَا كَانَ عَاجِزًا عَنِ الْكِتَابَةِ، لأَِنَّهَا
أَضْبَطُ (3) . وَلَمْ يُفَرِّقِ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ إِشَارَةِ
الأَْخْرَسِ وَكِتَابَتِهِ، فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ لِقَبُول
إِشَارَتِهِ الْعَجْزُ عَنِ الْكِتَابَةِ (4) .
وَيَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ لِقَبُول إِشَارَتِهِ مَا يَلِي:
أ - أَنْ يَكُونَ قَدْ وُلِدَ أَخْرَسَ، أَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ الْخَرَسُ
وَدَامَ حَتَّى الْمَوْتِ. وَهَذِهِ رِوَايَةُ الْحَاكِمِ عَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ، وَفِي هَذَا مِنَ الْحَرَجِ مَا فِيهِ، وَقَدَّرَ
التُّمُرْتَاشِيُّ الاِمْتِدَادَ لِسَنَةٍ. وَفِي التَّتَارَخَانِيَّةِ:
أَنَّهُ إِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ الْخَرَسُ وَدَامَ حَتَّى صَارَتْ
إِشَارَتُهُ مَفْهُومَةً اُعْتُبِرَتْ إِشَارَتُهُ كَعِبَارَتِهِ وَإِلاَّ
لَمْ تُعْتَبَرْ (5) .
__________
(1) روضة الطالبين 8 / 39، والمغني لابن قدامة 3 / 566، 7 / 396 ط الرياض،
وحاشية ابن عابدين 2 / 425، والقوانين الفقهية ص 161.
(2) إعانة الطالبين 4 / 11، وروضة الطالبين 3 / 341، ومواهب الجليل 4 /
229.
(3) روضة الطالين 8 / 39.
(4) الدسوقي 2 / 412 ط التجارية.
(5) حاشية ابن عابدين 2 / 425. واللجنة ترى أن هذا القول الأخير هو الذي
ينبغي أن يعتمد درءا للحرج.
(4/278)
ب - أَلاَّ يَقْدِرَ عَلَى الْكِتَابَةِ.
جَاءَ فِي تَكْمِلَةِ حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: قَال الْكَمَال: قَال
بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ لاَ يَقَعُ
طَلاَقُهُ بِالإِْشَارَةِ، لاِنْدِفَاعِ الضَّرُورَةِ بِمَا هُوَ أَدَل
عَلَى الْمُرَادِ مِنَ الإِْشَارَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ، وَبِهِ قَال
بَعْضُ مَشَايِخِنَا.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: بَل هَذَا الْقَوْل تَصْرِيحٌ بِمَا هُوَ مَفْهُومٌ
مِنْ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَفِي كَافِي الْحَاكِمِ الشَّهِيدِ مَا
نَصُّهُ: فَإِنْ كَانَ الأَْخْرَسُ لاَ يَكْتُبُ، وَكَانَ لَهُ إِشَارَةٌ
تُعْرَفُ فِي طَلاَقِهِ، وَنِكَاحِهِ، وَشِرَائِهِ، وَبَيْعِهِ فَهُوَ
جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُعْرَفْ ذَلِكَ مِنْهُ أَوْ شُكَّ فِيهِ
فَهُوَ بَاطِلٌ. ثُمَّ قَال: فَيُفِيدُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ يُحْسِنُ
الْكِتَابَةَ لاَ تَجُوزُ إِشَارَتُهُ (1)
وَفِي الأَْشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ: أَنَّ الْمُعْتَمَدَ أَنَّ عَدَمَ
الْقُدْرَةِ عَلَى الْكِتَابَةِ لَيْسَ شَرْطًا لِلْعَمَل بِالإِْشَارَةِ
(2) .
وَقَال السُّيُوطِيُّ وَالزَّرْكَشِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: يُسْتَثْنَى
مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي إِقَامَةِ إِشَارَةِ
الأَْخْرَسِ مَقَامَ نُطْقِهِ مَسَائِل لاَ تَقُومُ فِيهَا إِشَارَةُ
الأَْخْرَسِ مَقَامَ النُّطْقِ، مِنْهَا:
(1) إِذَا خَاطَبَ بِالإِْشَارَةِ فِي الصَّلاَةِ لاَ تَبْطُل صَلاَتُهُ
فِي الأَْصَحِّ.
(2) إِذَا نَذَرَ بِالإِْشَارَةِ لاَ يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ.
(3) إِذَا شَهِدَ بِالإِْشَارَةِ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ فِي الأَْصَحِّ،
لأَِنَّ إِقَامَتَهَا مَقَامَ النُّطْقِ لِلضَّرُورَةِ، وَلاَ ضَرُورَةَ
فِي شَهَادَتِهِ لإِِمْكَانِ شَهَادَةِ النَّاطِقِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 425، وتكملة ابن عابدين 2 / 82 ط الميمنية.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 138.
(4/279)
(4) إِذَا حَلَفَ لاَ يُكَلِّمُ زَيْدًا
فَكَلَّمَهُ بِالإِْشَارَةِ لاَ يَحْنَثُ.
(5) إِذَا حَلَفَ بِالإِْشَارَةِ لاَ تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ إِلاَّ فِي
اللِّعَانِ (1) .
إِقْرَارُ الأَْخْرَسِ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ إِقْرَارِ الأَْخْرَسِ بِالزِّنَى
وَغَيْرِهِ مِنَ الْحُدُودِ. فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْقَاضِي مِنَ
الْحَنَابِلَةِ، وَابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ
يُحَدُّ إِنْ أَقَرَّ بِالزِّنَى بِإِشَارَتِهِ، قَالُوا: لأَِنَّ مَنْ
صَحَّ إِقْرَارُهُ بِغَيْرِ الزِّنَى صَحَّ إِقْرَارُهُ بِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُحَدُّ بِإِقْرَارِهِ
بِالزِّنَى، لأَِنَّ الإِْشَارَةَ تَحْتَمِل مَا فُهِمَ مِنْهَا
وَغَيْرُهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ، وَالْحُدُودُ
تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ (2) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ:
(حُدُود، وَإِقْرَار) .
إِشَارَةُ الأَْخْرَسِ بِالإِْقْرَارِ بِمَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ:
7 - إِشَارَتُهُ فِي ذَلِكَ مَقْبُولَةٌ فِي قَوْل الْفُقَهَاءِ فِي
الْقِصَاصِ، لأَِنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ (3) .
تَقْسِيمُ إِشَارَةِ الأَْخْرَسِ:
8 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَتْ إِشَارَةُ
الأَْخْرَسِ
__________
(1) الأشباه والنظائر ص 247، والمنثور 1 / 164، وإعانة الطالبين 4 / 16،
وروضة الطالبين 8 / 39 - 40.
(2) المغني 8 / 196 ط الرياض.
(3) بدائع الصنائع 10 / 4593، 9 / 4187، وروضة الطالبين 8 / 39، والمغني 3
/ 566، وحاشية ابن عابدين 2 / 425.
(4/279)
بِحَيْثُ يَفْهَمُهَا كُل مَنْ وَقَفَ
عَلَيْهَا فَهِيَ صَرِيحَةٌ (1) . وَإِنْ كَانَ يَخْتَصُّ بِفَهْمِهَا
ذَوُو الْفَطِنَةِ وَالذَّكَاءِ، فَهِيَ كِنَايَةٌ وَإِنِ انْضَمَّ
إِلَيْهَا قَرَائِنُ.
وَتُعْرَفُ نِيَّةُ الأَْخْرَسِ فِيمَا إِذَا كَانَتْ إِشَارَتُهُ
كِنَايَةً بِإِشَارَةٍ أُخْرَى أَوْ كِتَابَةٍ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَفْهَمْ
إِشَارَتَهُ أَحَدٌ فَهِيَ لَغْوٌ (2) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ تَكُونُ إِشَارَةُ الأَْخْرَسِ كِنَايَةً،
فَإِنْ كَانَتْ مُفْهِمَةً فَهِيَ صَرِيحَةٌ وَإِلاَّ فَلَغْوٌ (3) .
وَلَمْ نَعْثُرْ لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى قِسْمَةِ
الإِْشَارَةِ مِنَ الأَْخْرَسِ إِلَى صَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ، وَتَفْصِيل مَا
يَخُصُّ الإِْشَارَةَ فِي الطَّلاَقِ يَأْتِي فِي بَابِهِ.
إِشَارَةُ الأَْخْرَسِ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ:
9 - لِلْفُقَهَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ اتِّجَاهَانِ:
الأَْوَّل: يَجِبُ تَحْرِيكُ الأَْخْرَسِ لِسَانَهُ فِي تَكْبِيرِ
الصَّلاَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، لأَِنَّ الصَّحِيحَ يَلْزَمُهُ
النُّطْقُ بِتَحْرِيكِ لِسَانِهِ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ أَحَدِهِمَا
لَزِمَهُ الآْخَرُ. وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ،
وَقَوْل الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ.
وَالثَّانِي: لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ
الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَخَرَجَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى قَوْلِهِمْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 425، وشرح الزرقاني 4 / 104.
(2) إعانة الطالبين 4 / 16.
(3) شرح الزرقاني 4 / 104.
(4/280)
بِوُجُوبِ التَّحْرِيكِ، تَحْرِيمُ
تَحْرِيكِ الأَْخْرَسِ لِسَانَهُ بِالْقِرَاءَةِ وَهُوَ جُنُبٌ (1) .
الشَّهَادَةُ بِالإِْشَارَةِ:
10 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ
الأَْخْرَسِ بِحَالٍ، وَإِنْ فَهِمَ إِشَارَتَهُ كُل أَحَدٍ. لأَِنَّ
الْمُعْتَبَرَ فِي الشَّهَادَةِ الْيَقِينُ، وَالإِْشَارَةُ لاَ تَخْلُو
عَنِ احْتِمَالٍ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا تُقْبَل إِذَا كَانَتْ مُفْهِمَةً
(3) .
مُعْتَقَل اللِّسَانِ:
11 - مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
صَوَّبَهُ صَاحِبُ الإِْنْصَافِ أَنَّ مُعْتَقَل اللِّسَانِ - وَهُوَ
وَاسِطَةٌ بَيْنَ النَّاطِقِ وَالأَْخْرَسِ - إِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنِ
النُّطْقِ فَهُوَ كَالأَْخْرَسِ، وَتَقُومُ إِشَارَتُهُ الْمُفْهِمَةُ
مَقَامَ الْعِبَارَةِ، فَإِنْ أَوْصَى بِالإِْشَارَةِ، أَوْ قُرِئَتْ
عَلَيْهِ الْوَصِيَّةُ، وَأَشَارَ أَنْ " نَعَمْ " صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمُعْتَقَل اللِّسَانِ لاَ
تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ (4) .
إِشَارَةُ النَّاطِقِ:
12 - مَنْ كَانَ مُسْتَطِيعًا لِلنُّطْقِ فَفِي إِقَامَةِ إِشَارَتِهِ
مَقَامَ النُّطْقِ اتَّجَهَانِ:
__________
(1) تكملة ابن عابدين 2 / 82، والمغني لابن قدامة 1 / 463 ط الرياض،
والقوانين الفقهية ص 44، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 248 ط التجارية.
(2) تحفة المحتاج 8 / 421، والبحر الرائق 7 / 77، ونهاية المحتاج 8 / 277.
(3) الكافي في فقه أهل المدينة ص 899، والدسوقي 4 / 168.
(4) الأشباه والنظائر ص 248 - 249، والإنصاف 7 / 188، وحاشية ابن عابدين 4
/ 9.
(4/280)
الأَْوَّل: أَنَّهَا لَغْوٌ فِي
الْجُمْلَةِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ، إِلاَّ فِي مَسَائِل مَعْدُودَةٍ نَصَّ عَلَيْهَا
الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَقَامُوا فِيهَا الإِْشَارَةَ مَقَامَ
النُّطْقِ. وَإِنَّمَا قَالُوا بِإِلْغَائِهَا، لأَِنَّهَا مَهْمَا
قَوِيَتْ دَلاَلَتُهَا فَإِنَّهَا لاَ تُفِيدُ الْيَقِينَ الَّذِي
تُفِيدُهُ الْعِبَارَةُ، وَمِنَ الْمَسَائِل الَّتِي اسْتَثْنَوْهَا:
أ - إِشَارَةُ الْمُفْتِي بِالْجَوَابِ.
ب - أَمَانُ الْكُفَّارِ، يَنْعَقِدُ بِالإِْشَارَةِ تَغْلِيبًا لِحَقْنِ
الدَّمِ، فَلَوْ أَشَارَ الْمُسْلِمُ إِلَى الْكَافِرِ بِالأَْمَانِ،
فَانْحَازَ إِلَى صَفِّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَحِل قَتْلُهُ.
ج - إِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ فِي الصَّلاَةِ فَرَدَّ بِالإِْشَارَةِ لَمْ
تَفْسُدْ صَلاَتُهُ.
د - الإِْشَارَةُ بِالْعَدَدِ فِي الطَّلاَقِ.
هـ - لَوْ أَشَارَ الْمُحْرِمُ إِلَى الصَّيْدِ فَصِيدَ، حَرُمَ عَلَيْهِ
الأَْكْل مِنْهُ. وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ الإِْشَارَةُ بِالإِْقْرَارِ
بِالنَّسَبِ لِتَشَوُّفِ الشَّرْعِ إِلَى إِثْبَاتِهِ، وَبِالإِْسْلاَمِ
وَالْكُفْرِ.
الثَّانِي: أَنَّ إِشَارَةَ النَّاطِقِ مُعْتَبَرَةٌ كَنُطْقِهِ، مَا
دَامَتْ مَفْهُومَةً بَيْنَ النَّاسِ وَمُتَعَارَفًا بَيْنَهُمْ عَلَى
مَدْلُولِهَا. وَقَالُوا: إِنَّ التَّعَاقُدَ بِالإِْشَارَةِ أَوْلَى مِنَ
التَّعَاقُدِ بِالأَْفْعَال (التَّعَاطِي) ، لأَِنَّ الإِْشَارَةَ يُطْلَقُ
عَلَيْهَا أَنَّهَا كَلاَمٌ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {قَال آيَتُكَ أَلاَّ
تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا} (1) وَهَذَا
مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ إِلاَّ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ خَاصَّةً، دُونَ
تَعْيِينِ الْمَنْكُوحَةِ أَوِ النَّاكِحِ (2) .
__________
(1) سورة آل عمران / 41.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 248، ومواهب الجليل 4 / 229، والبدائع 4 /
16، وابن عابدين 4 / 452، والمغني 3 / 562، والروضة 8 / 39، وإعانة
الطالبين 4 / 16، وكشاف القناع 6 / 453 ط الرياض.
(4/281)
تَعَارُضُ عِبَارَةِ النَّصِّ مَعَ
إِشَارَتِهِ:
13 - سَبَقَ بَيَانُ الْمُرَادِ بِعِبَارَةِ النَّصِّ وَبِإِشَارَتِهِ (ر:
ف 1) ، فَإِذَا تَعَارَضَتْ عِبَارَةُ نَصٍّ وَإِشَارَةِ آخَرَ يُرَجَّحُ
مَفْهُومُ الْعِبَارَةِ فِي الْجُمْلَةِ، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ
يُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
رَدُّ السَّلاَمِ فِي الصَّلاَةِ:
14 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ رَدِّ السَّلاَمِ فِي الصَّلاَةِ،
فَرَخَّصَتْ طَائِفَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي الرَّدِّ بِالْقَوْل
كَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَقَتَادَةَ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا سُلِّمَ عَلَيْهِ
وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ رَدَّهُ حَتَّى يَسْمَعَ (1) . وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ
إِلَى أَنَّهُ يَرُدُّ بَعْدَ الاِنْصِرَافِ مِنَ الصَّلاَةِ (2) .
وَاتَّفَقَ الأَْئِمَّةُ الأَْرْبَعَةُ عَلَى أَنَّ رَدَّ السَّلاَمِ
بِالْقَوْل. فِي الصَّلاَةِ مُبْطِلٌ لَهَا (3) . عَلَى اخْتِلاَفٍ
بَيْنَهُمْ فِي بَعْضِ التَّفْصِيل.
فَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الرَّدَّ بِالإِْشَارَةِ
وَاجِبٌ (4) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الرَّدُّ بِالإِْشَارَةِ (5)
. وَذَهَبَ الأَْحْنَافُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ رَدُّهُ بِالإِْشَارَةِ
بِالْيَدِ، وَلاَ تَفْسُدُ بِهِ الصَّلاَةُ، جَاءَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ
عَابِدِينَ: رَدُّ السَّلاَمِ بِيَدِهِ لاَ يُفْسِدُهَا، خِلاَفًا لِمَنْ
__________
(1) الأثر عن أبي هريرة أورده صاحب عون المعبود 1 / 347 ط الهند، ولم ينسبه
إلى كتاب من كتب الحديث.
(2) حاشية عون المعبود 1 / 347، وسبل السلام 1 / 141، والمغني لابن قدامة 1
/ 815.
(3) شرح منح الجليل 1 / 183، والمغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 1 / 815،
وحاشية ابن عابدين 1 / 415، ونهاية المحتاج 2 / 44.
(4) منح الجليل 1 / 183.
(5) إعانة الطالبين 4 / 190، ونهاية المحتاج 2 / 44.
(4/281)
عَزَا إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ
مُفْسِدٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ نَقْلُهُ مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْل
الْمَذْهَبِ (1) . وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُرَدُّ بِالإِْشَارَةِ (2) .
وَقَدِ اسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِالرَّدِّ بَعْدَ الاِنْصِرَافِ مِنَ
الصَّلاَةِ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَال: كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ،
فَيَرُدُّ عَلَيْنَا، فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ
سَلَّمْنَا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْنَا وَقَال: إِنَّ فِي
الصَّلاَةِ شُغْلاً. (3)
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِالرَّدِّ بِالإِْشَارَةِ بِحَدِيثِ جَابِرٍ
قَال: إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَنِي
لِحَاجَةٍ، ثُمَّ أَدْرَكْتُهُ وَهُوَ يَسِيرُ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ
فَأَشَارَ إِلَيَّ، فَلَمَّا فَرَغَ دَعَانِي فَقَال: إِنَّكَ سَلَّمْتَ
عَلَيَّ آنِفًا وَأَنَا أُصَلِّي وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: فَلَمَّا
انْصَرَفَ قَال: إِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ إِلاَّ
أَنِّي كُنْتُ أُصَلِّي. (4)
وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ عَنْ صُهَيْبٍ أَنَّهُ قَال: مَرَرْتُ بِرَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي، فَسَلَّمْتُ
عَلَيْهِ فَرَدَّ إِلَيَّ إِشَارَةً (5) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 414، 415.
(2) المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 1 / 715، 4 / 716.
(3) حديث: " كنا نسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه
البخاري ومسلم، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (فتح الباري 3 /
72 ط السلفية، وصحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 1 / 382 ط عيسى
الحلبي 1374 هـ، وجامع الأصول في أحاديث الرسول 5 / 485، 486 نشر مكتبة
الحلواني 1390 هـ) .
(4) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني لحاجة. . . . " أخرجه
مسلم من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعا (صحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد
الباقي 1 / 383، 384 ط عيسى الحلبي) .
(5) حديث: " مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ". أخرجه الترمذي
وأبو داود والنسائي من حديث صهيب رضي الله عنه، وقال الترمذي: حديث صهيب
حسن. (تحفة الأحوذي 2 / 363 نشر المكتبة السلفية، وسنن أبي داود 1 / 568 ط
استانبول، وسنن النسائي 3 / 5 ط المطبعة المصرية بالأزهر، وجامع الأصول 5 /
497 نشر مكتبة الحلواني) .
(4/282)
الإِْشَارَةُ فِي التَّشَهُّدِ:
15 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ
لِلْمُصَلِّي فِي التَّشَهُّدِ الإِْشَارَةُ بِسَبَّابَتِهِ، وَتُسَمَّى
فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ " الْمُسَبِّحَةَ " وَهِيَ الَّتِي تَلِي
الإِْبْهَامَ، وَيَرْفَعُهَا عِنْدَ التَّوْحِيدِ وَلاَ يُحَرِّكُهَا (1) ،
لِحَدِيثِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ إِذَا دَعَا، وَلاَ يُحَرِّكُهَا (2) وَقِيل
يُحَرِّكُهَا، لِحَدِيثِ وَائِل بْنِ حُجْرٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَفَعَ أُصْبُعَهُ فَرَأَيْتُهُ يُحَرِّكُهَا (3)
وَتَفْصِيل كَيْفِيَّةِ الإِْشَارَةِ مِنْ حَيْثُ عَقْدُ الأَْصَابِعِ أَوْ
بَسْطُهَا، وَالتَّحْرِيكُ وَعَدَمُهُ يَأْتِي فِي (الصَّلاَةِ) .
إِشَارَةُ الْمُحْرِمِ إِلَى الصَّيْدِ:
16 - إِذَا أَشَارَ الْمُحْرِمُ إِلَى صَيْدٍ، أَوْ دَل حَلاَلاً عَلَيْهِ
فَصَادَهُ حَرُمَ عَلَى الْمُحْرِمِ أَكْلُهُ (4) . وَهَذَا الْقَدْرُ لاَ
__________
(1) الروضة 1 / 262، والمغني لابن قدامة 1 / 383.
(2) حديث: " أنه صلى الله عليه وسلم كان يشير بأصبعه إذا دعا. . . " أخرجه
أبو داود والنسائي من حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، وقال النووي:
إسناده صحيح (سنن النسائي 3 / 32 ط مصطفى الحلبي 1383 هـ، وعون المعبود 1 /
374 - 375 ط الهند، وجامع الأصول 5 / 404 نشر مكتبة الحلواني، والمجموع
للنووي 3 / 454 ط المنيرية) .
(3) حديث: " أنه صلى الله عليه وسلم رفع أصبعه " أخرجه النسائي وابن ماجه
وابن خزيمة والبيهقي من حديث وائل بن حجر رضي الله عنه، قال الحافظ
البوصيري تعليقا على إسناد ابن ماجه: إسناده صحيح ورجاله ثقات، وقال محقق
صحيح ابن خزيمة: إسناده صحيح. (سنن النسائي 3 / 37 ط المطبعة المصرية
بالأزهر، وسنن ابن ماجه 1 / 295 ط عيسى الحلبي 1372 هـ، وصحيح ابن خزيمة 1
/ 354 نشر المكتب الإسلامي، وسنن البيهقي 2 / 132 ط الهند) .
(4) فتح القدير 1 / 256، وروضة الطالبين 3 / 149، ومغني المحتاج 1 / 524.
(4/282)
يُعْلَمُ فِيهِ خِلاَفٌ بَيْنَ
الْفُقَهَاءِ، لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ فِي قِصَّةِ اصْطِيَادِهِ وَهُوَ
غَيْرُ مُحْرِمٍ، قَال: فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِل عَلَيْهَا، أَوْ أَشَارَ
إِلَيْهَا؟ قَالُوا: لاَ قَال: فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا (1) .
وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْهُ إِعَانَةٌ عَلَى قَتْلِهِ بِشَيْءٍ حَل لَهُ
الأَْكْل مِنْهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ (2)
.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَى الْمُشِيرِ،
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ
الْجَزَاءُ، لأَِنَّ الإِْشَارَةَ إِلَى الصَّيْدِ مِنْ مَحْظُورَاتِ
الإِْحْرَامِ بِدَلِيل تَحْرِيمِ الأَْكْل مِنْهُ، فَتَكُونُ جِنَايَةً
عَلَى الصَّيْدِ بِتَفْوِيتِ الأَْمْنِ عَلَى وَجْهٍ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ
قَتْلُهُ، فَصَارَتْ كَالْقَتْل (3) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ لاَ جَزَاءَ عَلَى الْمُشِيرِ،
لأَِنَّ النَّصَّ عَلَّقَ الْجَزَاءَ بِالْقَتْل. وَلَيْسَتِ الإِْشَارَةُ
قَتْلاً (4) .
الإِْشَارَةُ إِلَى الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ وَالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ:
17 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ اسْتِلاَمِ الْحَجَرِ
الأَْسْوَدِ وَالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ بِالْيَدِ أَوْ غَيْرِهَا عِنْدَ
الطَّوَافِ، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: مَا
تَرَكْتُ اسْتِلاَمَ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ فِي شِدَّةٍ وَلاَ رَخَاءٍ
مُنْذُ رَأَيْتُ
__________
(1) حديث: أبي قتادة في قصة اصطياده. أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي
قتادة واللفظ للبخاري (فتح الباري 4 / 28، 29 ط السلفية، وصحيح مسلم بتحقيق
محمد فؤاد عبد الباقي 2 / 853، 854 ط عيسى الحلبي 1374 هـ) .
(2) سبل السلام 2 / 193.
(3) فتح القدير 2 / 257، والمغني لابن قدامة 3 / 418.
(4) مغني المحتاج 1 / 524، وروضة الطالبين 3 / 149، والقوانين الفقهية 92 ط
دار القلم - بيروت، والحطاب 3 / 176.
(4/283)
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَسْتَلِمُهُمَا (1) . كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى اسْتِحْبَابِ
الإِْشَارَةِ إِلَى الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الاِسْتِلاَمِ،
لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: طَافَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيْتِ عَلَى بَعِيرٍ، كُلَّمَا
أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ إِلَيْهِ (2) .
وَاخْتَلَفُوا فِي الإِْشَارَةِ إِلَى الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ عِنْدَ
تَعَذُّرِ الاِسْتِلاَمِ. فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشِيرُ إِلَيْهِ
إِنْ عَجَزَ عَنِ اسْتِلاَمِهِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ
الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ قِيَاسًا
عَلَى الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ (3) .
التَّسْلِيمُ بِالإِْشَارَةِ:
18 - لاَ تَحْصُل سُنَّةُ ابْتِدَاءِ السَّلاَمِ بِالإِْشَارَةِ بِالْيَدِ
أَوِ الرَّأْسِ لِلنَّاطِقِ، وَلاَ يَسْقُطُ فَرْضُ الرَّدِّ عَنْهُ بِهَا.
لأَِنَّ السَّلاَمَ مِنَ الأُْمُورِ الَّتِي جَعَل لَهَا الشَّارِعُ
صِيَغًا مَخْصُوصَةً، لاَ يَقُومُ مَقَامَهَا غَيْرُهَا، إِلاَّ عِنْدَ
تَعَذُّرِ صِيغَتِهَا الشَّرْعِيَّةِ. وَتَكَادُ تَتَّفِقُ عِبَارَاتُ
الْفُقَهَاءِ عَلَى الْقَوْل: بِأَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنَ الإِْسْمَاعِ،
وَلاَ يَكُونُ الإِْسْمَاعُ إِلاَّ بِقَوْلٍ (4) .
__________
(1) حديث: " ما تركت استلام هذين الركنين. . . " أخرجه البخاري من حديث عبد
الله بن عمر رضي الله عنهما (فتح الباري 3 / 471 ط السلفية) .
(2) حديث: " طاف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت على بعير. . . " أخرجه
البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما (فتح الباري 3 / 476 ط السلفية) .
(3) مغني المحتاج 1 / 488، والبحر الرائق 2 / 355، وابن عابدين 2 / 166،
والدسوقي 2 / 41، والخرشي 2 / 325 - 326، وكشاف القناع 2 / 478 - 479،
والمغني 3 / 393 - 396 ط أولى.
(4) نهاية المحتاج 8 / 48، وكفاية الطالب 2 / 378، وحاشية ابن عابدين 5 /
265.
(4/283)
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: لاَ
تُسَلِّمُوا تَسْلِيمَ الْيَهُودِ، فَإِنَّ تَسْلِيمَهُمْ بِالأَْكُفِّ
وَالرُّءُوسِ وَالإِْشَارَةِ (1) . وَرَوَى عَلْقَمَةُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ
أَبِي رَبَاحٍ قَال: " كَانُوا يَكْرَهُونَ التَّسْلِيمَ بِالْيَدِ (2) ".
يَعْنِي الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.
أَمَّا الأَْصَمُّ وَمَنْ فِي حُكْمِهِ، وَغَيْرُ الْمَقْدُورِ عَلَى
إِسْمَاعِهِ كَالْبَعِيدِ، فَالإِْشَارَةُ مَشْرُوعَةٌ فِي حَقِّهِ، وَقَال
بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إِذَا سَلَّمَ عَلَى أَصَمَّ لاَ يَسْمَعُ يَنْبَغِي
أَنْ يَتَلَفَّظَ بِالسَّلاَمِ، لِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، وَيُشِيرُ
بِالْيَدِ (3) . وَيَسْقُطُ فَرْضُ الرَّدِّ مِنَ الأَْخْرَسِ
بِالإِْشَارَةِ، لأَِنَّهُ مَقْدُورُهُ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ بِالإِْشَارَةِ
وَالتَّلَفُّظِ مَعًا (4) . وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (سَلاَم) .
الإِْشَارَةُ فِي أَصْل الْيَمِينِ:
19 - لاَ تَنْعَقِدُ يَمِينُ النَّاطِقِ بِالإِْشَارَةِ، لأَِنَّهَا لاَ
تَنْعَقِدُ إِلاَّ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ. أَمَّا الأَْخْرَسُ
فَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ يَمِينَهُ لاَ تَنْعَقِدُ (5) .
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَتْ لَهُ إِشَارَةٌ مُفْهِمَةٌ
حَلَفَ، وَتَصِحُّ يَمِينُهُ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُفْهِمَةٍ،
وَوَجَبَتْ
__________
(1) حديث: " لا تسلموا تسليم اليهود. . . " أخرجه النسائي في عمل اليوم
والليلة من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعا، وقال عنه صاحب فضل الله الصمد
في توضيح الأدب المفرد: سنده جيد (تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف 2 / 290 نشر
الدار القيمة بالهند 1386 هـ، وفضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد 2 /
463 ط السلفية 1378 هـ) .
(2) الأثر عن عطاء بن أبي رباح أخرجه البخاري في الأدب المفرد (فضل الله
الصمد في توضيح الأدب المفرد 2 / 464 ط السلفية 1378 هـ) .
(3) الأذكار للنووي ص 220 - 221، ونهاية المحتاج 8 / 48.
(4) المراجع السابقة.
(5) المنثور في القواعد 1 / 165.
(4/284)
عَلَيْهِ يَمِينُهُ، وَقَفَ حَتَّى
تُفْهَمَ إِشَارَتُهُ (1) . وَنَسَبَ الزَّرْكَشِيُّ هَذَا لِلإِْمَامِ
الشَّافِعِيِّ. وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (أَيْمَانٌ) .
إِشَارَةُ الْقَاضِي إِلَى أَحَدِ الْخُصُومِ:
20 - لاَ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَعْمَل أَعْمَالاً تُسَبِّبُ
التُّهْمَةَ وَسُوءَ الظَّنِّ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ، مِمَّا يُوهِمُ
أَنَّهُ يُفَضِّلُهُ عَلَى خَصْمِهِ، كَالإِْشَارَةِ لأَِحَدِ
الْخَصْمَيْنِ بِالْيَدِ، أَوْ بِالْعَيْنِ أَوْ بِالرَّأْسِ، لأَِنَّ
ذَلِكَ يُسَبِّبُ انْكِسَارًا لِقَلْبِ الْخَصْمِ الآْخَرِ، وَقَدْ
يَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى تَرْكِ الدَّعْوَى وَالْيَأْسِ مِنَ الْعَدَالَةِ،
مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ضَيَاعُ حَقِّهِ.
وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (2) .
وَقَدْ رَوَى عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي كِتَابِ قُضَاةِ الْبَصْرَةِ
بِإِسْنَادِهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ بَيْنَ
الْمُسْلِمِينَ، فَلْيَعْدِل بَيْنَهُمْ فِي لَحْظِهِ وَإِشَارَتِهِ
وَمَقْعَدِهِ، وَلاَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ عَلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ مَا لاَ
يَرْفَعُ عَلَى الآْخَرِ وَفِي رِوَايَةٍ: فَلْيُسَوِّ بَيْنَهُمْ فِي
النَّظَرِ وَالإِْشَارَةِ وَالْمَجْلِسِ (3) .
__________
(1) المغني لابن قدامة 9 / 190 ط بولاق، والمنثور في القواعد 1 / 115،
وكشاف القناع 6 / 417.
(2) المغني لابن قدامة 10 / 71، والبحر الرائق 6 / 306 - 307، ودرر الحكام
شرح جملة الأحكام تأليف علي حيدر 4 / 538 مادة 1798.
(3) حديث: " من ابتلي بالقضاء. . . . " أخرجه أبو يعلى والدارقطني
والطبراني من حديث أم سلمة رضي الله عنها، قال الهيثمي والشوكاني: وفي
إسناده عبادة بن كثير الثقفي وهو ضعيف (نيل الأوطار 8 / 275 ط المطبعة
العثمانية، ومجمع الزوائد 4 / 197 نشر مكتبة القدسي، وسنن الدارقطني 4 /
205 نشر السيد عبد الله هاشم يماني بالمدينة المنورة 1386 هـ) .
(4/284)
إِشَارَةُ الْمُحْتَضَرِ إِلَى الْجَانِي
عَلَيْهِ:
21 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ قَوْل
الْمُحْتَضَرِ: قَتَلَنِي فُلاَنٌ، وَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ لَوْثًا،
لأَِنَّهُ لاَ يُقْبَل دَعْوَاهُ عَلَى الْغَيْرِ بِالْمَال، فَلاَ يُقْبَل
ادِّعَاؤُهُ عَلَيْهِ بِالدَّمِ، وَلأَِنَّهُ مُدَّعٍ فَلاَ يَكُونُ
قَوْلُهُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ (1) . لِحَدِيثِ: لَوْ يُعْطَى النَّاسُ
بِدَعْوَاهُمْ لاَدَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ (2)
فَإِذَا لَمْ تُعْتَبَرْ أَقْوَالُهُ فَلاَ تُقْبَل إِشَارَتُهُ مِنْ بَابِ
أَوْلَى. وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهُ إِذَا قَال الْمُحْتَضَرُ
الْحُرُّ الْمُسْلِمُ الْبَالِغُ الْعَاقِل: قَتَلَنِي فُلاَنٌ عَمْدًا،
ثُمَّ مَاتَ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَوْثًا، فَيَثْبُتُ الْقِصَاصُ بَعْدَ
حَلِفِ أَوْلِيَاءِ الدَّمِ يَمِينَ الْقَسَامَةِ.
أَمَّا إِذَا قَال: قَتَلَنِي خَطَأً، فَفِي ذَلِكَ عَنِ الإِْمَامِ
مَالِكٍ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: لاَ يُقْبَل قَوْلُهُ، لأَِنَّهُ يُتَّهَمُ عَلَى أَنَّهُ
أَرَادَ إِغْنَاءَ وَرَثَتِهِ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ قَوْلَهُ يُقْبَل، وَتَكُونُ مَعَهُ الْقَسَامَةُ،
وَلاَ يُتَّهَمُ، لأَِنَّهُ فِي حَالٍ يُصَدَّقُ فِيهِ الْكَاذِبُ،
وَيَتُوبُ فِيهِ الْفَاجِرُ، فَمَنْ تَحَقَّقَ مَصِيرُهُ إِلَى الآْخِرَةِ
وَأَشْرَفَ عَلَى الْمَوْتِ فَلاَ يُتَّهَمُ فِي إِرَاقَةِ دَمِ مُسْلِمٍ
ظُلْمًا، وَغَلَبَةُ الظَّنِّ فِي هَذَا يَنْزِل مَنْزِلَةَ غَلَبَةِ
الظَّنِّ فِي صِدْقِ الشَّاهِدِ، وَالْغَالِبُ مِنْ أَحْوَال النَّاسِ
عِنْدَ الْمَوْتِ التَّوْبَةُ وَالاِسْتِغْفَارُ وَالنَّدَمُ عَلَى
التَّفْرِيطِ. وَتَزَوُّدُهُ مِنْ
__________
(1) المجموع للنووي 19 / 380، والمغني لابن قدامة 8 / 501، والجمل على شرح
المنهج 5 / 106، وروضة الطالبين 10 / 11.
(2) حديث: " لو يعطى الناس. . . " أخرجه البخاري ضمن قصة من حديث ابن عباس
رضي الله عنهما، ومسلم - واللفظ له - مرفوعا، ولم يذكر القصة (فتح الباري 8
/ 213 ط السلفية، وصحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 3 / 1336 ط عيسى
الحلبي 1375 هـ) .
(4/285)
دُنْيَاهُ قَتْل نَفْسٍ خِلاَفُ الظَّاهِرِ
وَغَيْرُ الْمُعْتَادِ (1) .
إِشَارَةُ الْمُحْتَضَرِ إِلَى تَصَرُّفَاتٍ مَالِيَّةٍ:
22 - إِذَا كَانَ الْمُحْتَضَرُ قَادِرًا عَلَى النُّطْقِ فَلاَ تُقْبَل
إِشَارَتُهُ، أَمَّا إِذَا كَانَ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى النُّطْقِ
فَإِشَارَتُهُ تَقُومُ مَقَامَ عِبَارَتِهِ. وَفِي حَاشِيَةِ ابْنِ
عَابِدِينَ: إِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَقَل اللِّسَانِ لَمْ تُعْتَبَرُ
إِشَارَتُهُ إِلاَّ فِي أَرْبَعٍ: الْكُفْرِ، وَالإِْسْلاَمِ، وَالنَّسَبِ،
وَالإِْفْتَاءِ (2) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الإِْشَارَةَ الْمُفْهِمَةَ كَالنُّطْقِ
مُطْلَقًا (3) . وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ إِشَارَةَ الْمُحْتَضَرِ إِلَى
تَصَرُّفٍ مَالِيٍّ كَعِبَارَتِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ قَادِرًا عَلَى
النُّطْقِ أَمْ لاَ.
إِشَاعَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْشَاعَةُ مَصْدَرُ أَشَاعَ، وَأَشَاعَ ذَكَرَ الشَّيْءَ: أَطَارَهُ
وَأَظْهَرَهُ، وَشَاعَ الْخَبَرُ فِي النَّاسِ شُيُوعًا أَيِ انْتَشَرَ
وَذَاعَ وَظَهَرَ (4) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ.
__________
(1) شرح الزرقاني 8 / 50، وحاشية الدسوقي 4 / 288.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 9، والأشباه والنظائر ص 248، ومغني المحتاج 3 /
53، وتحفة المحتاج 6 / 93.
(3) مواهب الجليل 4 / 229
(4) لسان العرب والمصباح المنير مادة: (شيع) .
(4/285)
وَقَدْ تُطْلَقُ الإِْشَاعَةُ عَلَى
الأَْخْبَارِ الَّتِي لاَ يُعْلَمُ مَنْ أَذَاعَهَا (1) .
وَكَثِيرًا مَا يُعَبِّرُ الْفُقَهَاءُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِأَلْفَاظٍ
أُخْرَى غَيْرِ الإِْشَاعَةِ كَالاِشْتِهَارِ، وَالإِْفْشَاءِ،
وَالاِسْتِفَاضَةِ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - قَدْ تَكُونُ الإِْشَاعَةُ حَرَامًا، إِذَا كَانَتْ إِظْهَارًا لِمَا
يَمَسُّ أَعْرَاضَ النَّاسِ كَإِشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ، لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي
الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ}
(3) .
هَذَا هُوَ الْحُكْمُ الأُْخْرَوِيُّ، وَبِالنِّسْبَةِ لِلْحُكْمِ
الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الإِْشَاعَةِ الْكَاذِبَةِ فَهُوَ حَدُّ الْقَذْفِ
إِنْ تَوَفَّرَتْ شُرُوطُهُ، وَإِلاَّ فَالتَّعْزِيرُ. ر: (قَذْف،
تَعْزِير) .
أَمَّا الْمُشَاعُ عَنْهُ فَلاَ عُقُوبَةَ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ
الإِْشَاعَةِ، قَال الْقَلْيُوبِيُّ: لاَ يُكْتَفَى بِالإِْشَاعَةِ - أَيْ
شُيُوعِ الزِّنَى - فِي جَوَازِ الْقَذْفِ، لأَِنَّ السَّتْرَ مَطْلُوبٌ
(4) . وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَجْلِسُ الشَّيْطَانُ
بَيْنَ الْجَمَاعَةِ، فَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ فَيَتَحَدَّثُونَ بِهَا،
وَيَقُولُونَ: لاَ نَدْرِي مَنْ قَالَهَا (5) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 97، 415، 5 / 420 ط بولاق ثالثة، والجواهر 1 / 275 ط
دار المعرفة، والنظم المستعذب بهامش المهذب 2 / 310 ط دار المعرفة.
(2) الجواهر 2 / 241، 242، وابن عابدين 1 / 97، وقليوبي 4 / 32 ط الحلبي،
والقرطبي 12 / 206 ط دار الكتب، وهامش المهذب 2 / 326.
(3) سورة النور / 19.
(4) القرطبي 12 / 206، وقليوبي 4 / 32.
(5) ورد في آخر الزمان " يجلس الشيطان. . . . " أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه
(1 / 12 - ط الحلبي) عن عبد الله بن مسعود موقوفا عليه أنه قال: " إن
الشيطان ليتمثل في صورة الرجل فيأتي القوم فيحدثهم بالحديث من الكذب
فيتفرقون، فيقول الرجل منهم: سمعت رجلا أعرف وجهه
(4/286)
فَمِثْل هَذَا لاَ يَنْبَغِي أَنْ يُسْمَعَ
فَضْلاً عَنْ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ حُكْمٌ.
عَلَى أَنَّ مِنْ وَاجِبِ أُولِي الأَْمْرِ قَطْعَ دَابِرِ الْفَسَادِ
بِالطُّرُقِ الْمُنَاسِبَةِ.
3 - وَقَدْ تَكُونُ الإِْشَاعَةُ طَرِيقًا لِثُبُوتِ بَعْضِ الأَْحْكَامِ،
وَمِنْ ذَلِكَ: أَيْمَانُ الْقَسَامَةِ، فَإِنَّهَا يُكْتَفَى لِطَلَبِهَا
بِالإِْشَاعَةِ، فَالإِْشَاعَةُ هُنَا تُعْتَبَرُ لَوْثًا (1) .
وَمِنْ ذَلِكَ: سُقُوطُ الْحَدِّ عَنِ الزَّوْجَيْنِ إِنْ دَخَلاَ بِلاَ
شُهُودٍ وَثَبَتَ الْوَطْءُ. إِنْ فَشَا النِّكَاحُ، أَيْ شَاعَ
وَاشْتُهِرَ (2) .
4 - وَإِذَا كَانَ إِظْهَارُ الشَّيْءِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَنْعُ
الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ، فَإِنَّ إِشَاعَتَهُ تَكُونُ مَطْلُوبَةً،
وَذَلِكَ كَإِشَاعَةِ الرَّضَاعَةِ مِمَّنْ تُرْضِعُ، قَال ابْنُ
عَابِدِينَ:
الْوَاجِبُ عَلَى النِّسَاءِ أَلاَّ يَرْضِعْنَ كُل صَبِيٍّ مِنْ غَيْرِ
ضَرُورَةٍ، وَإِذَا أَرْضَعْنَ فَلِيَحْفَظْنَ ذَلِكَ، وَلْيَشْهَرْنَهُ
وَيَكْتُبْنَهُ احْتِيَاطًا (3) . مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
5 - تُنْظَرُ مَوَاطِنُ الإِْشَاعَةِ فِي أَبْوَابِ الرَّضَاعِ،
وَالنِّكَاحِ، وَالشَّهَادَةِ وَالْقَسَامَةِ، وَالصِّيَامِ (فِي رُؤْيَةِ
الْهِلاَل) وَالْقَذْفِ، وَأَصْل الْوَقْفِ، وَثُبُوتِ النَّسَبِ.
__________
(1) قليوبي 4 / 32، 165.
(2) الجواهر 1 / 275.
(3) ابن عابدين 2 / 415.
(4/286)
أَشْبَاه
التَّعْرِيفُ اللُّغَوِيُّ:
1 - الأَْشْبَاهُ جَمْعٌ مُفْرَدُهُ شَبَهٌ، وَالشَّبَهُ وَالشِّبْهُ:
الْمِثْل، وَالْجَمْعُ أَشْبَاهٌ، وَأَشْبَهَ الشَّيْءَ مَاثَلَهُ،
وَبَيْنَهُمْ أَشْبَاهٌ أَيْ أَشْيَاءُ يَتَشَابَهُونَ بِهَا (1) .
التَّعْرِيفُ الاِصْطِلاَحِيُّ:
أ - عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:
2 - لاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلَفْظِ الأَْشْبَاهِ عَنِ
الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
ب - عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ:
3 - اخْتَلَفَ الأُْصُولِيُّونَ فِي تَعْرِيفِ الشَّبَهِ، حَتَّى قَال
إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ: لاَ يُمْكِنُ تَحْدِيدُهُ، وَقَال
غَيْرُهُ: يُمْكِنُ تَحْدِيدُهُ.
فَقِيل: هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الأَْصْل وَالْفَرْعِ بِوَصْفٍ يُوهِمُ
اشْتِمَالَهُ عَلَى الْحِكْمَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِحُكْمٍ مِنْ غَيْرِ
تَعْيِينٍ، كَقَوْل الشَّافِعِيِّ فِي النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ
وَالتَّيَمُّمِ: طَهَارَتَانِ فَأَنَّى تَفْتَرِقَانِ.
وَقَال الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: هُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ لاَ يُنَاسِبُ
الْحُكْمَ بِذَاتِهِ، لَكِنَّهُ يَكُونُ مُسْتَلْزِمًا لِمَا يُنَاسِبُهُ
بِذَاتِهِ.
__________
(1) لسان العرب مادة (شبه) .
(4/287)
وَحَكَى الأَْبْيَارِيُّ فِي " شَرْحِ
الْبُرْهَانِ " عَنِ الْقَاضِي أَنَّهُ: مَا يُوهِمُ الاِشْتِمَال عَلَى
وَصْفٍ مُخَيَّلٍ.
وَقِيل: الشَّبَهُ هُوَ الَّذِي لاَ يَكُونُ مُنَاسِبًا لِلْحُكْمِ
وَلَكِنْ عُرِفَ اعْتِبَارُ جِنْسِهِ الْقَرِيبِ فِي الْجِنْسِ الْقَرِيبِ
(1) .
وَأَوْضَحُ تَعْرِيفٍ لَهُ هُوَ مَا قَالَهُ شَارِحُ مُسْلِمٍ الثُّبُوتُ:
الشَّبَهُ هُوَ مَا لَيْسَ بِمُنَاسِبٍ لِتُرَاثِهِ، بَل يُوهِمُ
الْمُنَاسَبَةَ، وَذَلِكَ التَّوَهُّمُ إِنَّمَا هُوَ بِالْتِفَاتِ
الشَّارِعِ إِلَيْهِ فِي بَعْضِ الأَْحْكَامِ، فَيُتَوَهَّمُ فِيهِ
الْمُنَاسَبَةُ، كَقَوْلِكَ: إِزَالَةُ الْخَبَثِ طَهَارَةٌ تُرَادُ
لِلصَّلاَةِ فَتَعَيَّنَ فِيهَا الْمَاءُ، وَلاَ يَجُوزُ مَائِعٌ آخَرُ،
كَإِزَالَةِ الْحَدَثِ يَتَعَيَّنُ فِيهَا الْمَاءُ (2) .
وَفِي الْمُسْتَصْفَى: قِيَاسُ الشَّبَهِ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْفَرْعِ
وَالأَْصْل بِوَصْفٍ، مَعَ الاِعْتِرَافِ بِأَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ لَيْسَ
عِلَّةً لِلْحُكْمِ، وَذَلِكَ كَقَوْل أَبِي حَنِيفَةَ مَسْحُ الرَّأْسِ
لاَ يَتَكَرَّرُ تَشْبِيهًا لَهُ بِمَسْحِ الْخُفِّ وَالتَّيَمُّمِ،
وَالْجَامِعُ أَنَّهُ مَسْحٌ، فَلاَ يُسْتَحَبُّ فِيهِ التَّكْرَارُ
قِيَاسًا عَلَى التَّيَمُّمِ وَمَسْحِ الْخُفِّ (&#
x663 ;) .
وَفِي الرِّسَالَةِ يَقُول الشَّافِعِيُّ فِي قِيَاسِ الشَّبَهِ: يَكُونُ
الشَّيْءُ لَهُ فِي الأُْصُول أَشْبَاهٌ، فَذَلِكَ يَلْحَقُ بِأَوْلاَهَا
بِهِ وَأَكْثَرِهَا شَبَهًا فِيهِ، فَقَدْ يَخْتَلِفُ الْقَايِسُونَ فِي
هَذَا (4) .
__________
(1) إرشاد الفحول للشوكاني ص 219 ط مصطفى الحلبي.
(2) فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت بهامش المستصفى 2 / 301 ط بولاق
(الأميرية) .
(3) المستصفى 2 / 311، 312 ط السابقة.
(4) الرسالة ص 479 ط مصطفى الحلبي تحقيق الشيخ أحمد شاكر.
(4/287)
صِفَتُهُ (الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ) :
أَوَّلاً: عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:
4 - إِذَا نِيطَ الْحُكْمُ بِأَصْلٍ فَتَعَذَّرَ انْتَقَل إِلَى أَقْرَبِ
شَبَهٍ لَهُ (1) . وَلِذَلِكَ اعْتَبَرَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الشَّبَهَ
طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْحُكْمِ فِي أَبْوَابٍ مُعَيَّنَةٍ، مِنْ ذَلِكَ
جَزَاءُ صَيْدِ الْمُحْرِمِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ
مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْل مَا قَتَل مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ
بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} (2) أَيْ يَحْكُمَانِ فِيهِ بِأَشْبَهِ
الأَْشْيَاءِ (3) ، وَمِنْ ذَلِكَ فِي النَّسَبِ مَا رُوِيَ أَنَّ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: دَخَل عَلَيَّ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَسْرُورٌ تَبْرُقُ
أَسَارِيرُ وَجْهِهِ فَقَال: أَيْ عَائِشَةُ.، أَلَمْ تَرَيْ إِلَى
مُجَزِّزٍ الْمُدْلِجِيِّ دَخَل فَرَأَى أُسَامَةَ وَزَيْدًا وَعَلَيْهِمَا
قَطِيفَةٌ قَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا، فَقَال:
إِنَّ هَذِهِ الأَْقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ (4) .
وَذَلِكَ يَدُل عَلَى أَنَّ إِلْحَاقَ الْقَافَةِ يُفِيدُ النَّسَبَ
لِسُرُورِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ، وَهُوَ لاَ
يُسَرُّ بِبَاطِلٍ. وَقَدْ أَخَذَ بِهَذَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ خِلاَفًا
لِلْحَنَفِيَّةِ.
5 - وَيُشْتَرَطُ فِي الْقَضَاءِ بِالشَّبَهِ قَوْل أَهْل الْخِبْرَةِ
وَالْمَعْرِفَةِ فِي الأَْمْرِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ التَّخَاصُمُ،
كَاعْتِبَارِ مُجَزِّزٍ الْمُدْلِجِيِّ مِنْ أَهْل الْخِبْرَةِ فِي
الْقِيَافَةِ (5) .
__________
(1) المنثور في القواعد للزركشي 2 / 223.
(2) سورة المائدة / 95.
(3) المغني 3 / 511 ط الرياض، ومنحة الجليل 1 / 538.
(4) حديث " أي عائشة ألم تري. . . " أخرجه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي
الله عنها (فتح الباري 12 / 56 ط السلفية، وصحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد
الباقي 2 / 1082 ط عيسى الحلبي) .
(5) الطرق الحكمية ص 195، 196، 198، والتبصرة 2 / 108.
(4/288)
6 - لَكِنَّ الاِعْتِمَادَ عَلَى الشَّبَهِ
بِقَوْل أَهْل الْخِبْرَةِ يَكُونُ فِيمَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ أَوْ
حُكْمٌ، وَلِذَلِكَ يُعْتَبَرُ اللِّعَانُ مَانِعًا مِنْ إِعْمَال
الشَّبَهِ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
قِصَّةِ الْمُتَلاَعِنَيْنِ: إِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَل الْعَيْنَيْنِ،
سَابِغَ الأَْلْيَتَيْنِ، مُدْلِجَ السَّاقَيْنِ، فَهُوَ لِشَرِيكِ ابْنِ
سَحْمَاءَ، فَجَاءَتْ بِهِ كَذَلِكَ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْلاَ مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَكَانَ لِي
وَلَهَا شَأْنٌ (1) .
وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلنَّصِّ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْحُكْمِ فَقَدْ
قَال اللَّهُ تَعَالَى فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ
مِنْكُمْ} وَقَدْ قَضَى الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي
بَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ، كَقَوْل عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَزَيْدِ
بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ: " فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ
(2) . وَمَا لَمْ يَقْضِ فِيهِ الصَّحَابَةُ فَيُرْجَعُ فِيهِ إِلَى قَوْل
عَدْلَيْنِ مِنْ أَهْل الْخِبْرَةِ (3) .
7 - وَيُلاَحَظُ أَنَّ الإِْمَامَ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ
يُخَالِفُونَ الْجُمْهُورَ فِي الاِعْتِمَادِ عَلَى الشَّبَهِ فِي
النَّسَبِ. كَمَا أَنَّ الشَّبَهَ فِي حَزَّاءِ الصَّيْدِ هُوَ عِنْدَ
الْجُمْهُورِ مِنْ حَيْثُ الْخِلْقَةِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْمِثْل
هُوَ الْقِيمَةُ (4) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي
مَوَاضِعِهِ.
__________
(1) حديث " لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن " أخرجه البخاري
(الفتح 8 / 449 ط السلفية) .
(2) " في النعامة بدنة " من قول عمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت وابن عباس
ومعاوية. أخرجه الشافعي في الأم (2 / 190 ط دار المعرفة وعنه البيهقي 5 /
182 ط دائرة المعارف العثمانية) وقال الشافعي: هذا لا يثبت عند أهل العلم
بالحديث. ونقله عنه البيهقي وأقره، ونقل عنهما ابن حجر في التلخيص (3 / 284
ط دار المحاسن) .
(3) الطرق الحكمية ص 200، 201.
(4) المغني 3 / 511، والاختيار 1 / 166، ومنح الجليل 1 / 539، والمهذب 1 /
223.
(4/288)
8 - كَذَلِكَ يُعْتَمَدُ عَلَى الشَّبَهِ
فِي الاِخْتِلاَفِ الْوَاقِعِ بَيْنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ.
جَاءَ فِي تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ: إِنْ اخْتَلَفَ الْبَائِعُ
وَالْمُشْتَرِي فِي ثَمَنِ السِّلْعَةِ، فَإِنِ ادَّعَى أَحَدُهُمَا
ثَمَنًا يُشْبِهُ ثَمَنَ السِّلْعَةِ، وَادَّعَى الآْخَرُ مَالاً يُشْبِهُ
أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا لَهَا، فَإِنْ كَانَتِ السِّلْعَةُ فَائِتَةً (أَيْ
قَدْ خَرَجَتْ مِنْ يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِهَلاَكٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ
نَحْوِهِمَا) فَالْقَوْل قَوْل مُدَّعِي الأَْشْبَهِ مِنْهُمَا اتِّفَاقًا
(أَيْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ) ، لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ التَّغَابُنِ،
وَالشِّرَاءُ بِالْقِيمَةِ وَمَا يُقَارِبُهَا. وَإِنْ كَانَتِ السِّلْعَةُ
قَائِمَةً فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لاَ يُرَاعَى الأَْشْبَهُ، لأَِنَّهُمَا
قَادِرَانِ عَلَى رَدِّ السِّلْعَةِ (1) . وَفِي الْمَنْثُورِ فِي
الْقَوَاعِدِ لِلزَّرْكَشِيِّ فِي بَابِ الرِّبَا: إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ
لاَ يُكَال وَلاَ يُوزَنُ فَيُعْتَبَرُ بِأَقْرَبِ الأَْشْيَاءِ شَبَهًا
بِهِ عَلَى أَحَدِ الأَْوْجُهِ (2) .
وَالصُّلْحُ مَعَ الإِْقْرَارِ يُحْمَل عَلَى الْبَيْعِ أَوِ الإِْجَارَةِ
أَوِ الْهِبَةِ. وَالأَْصْل فِيهِ أَنَّ الصُّلْحَ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى
أَقْرَبِ الْعُقُودِ إِلَيْهِ وَأَشْبَهِهَا بِهِ، لِتَصْحِيحِ تَصَرُّفِ
الْعَاقِدِ مَا أَمْكَنَ (3) . ر: (صُلْحٌ) .
ثَانِيًا: عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ
9 - اخْتَلَفَ الأُْصُولِيُّونَ هَل الشَّبَهُ حُجَّةٌ أَمْ لاَ؟ فَقِيل:
إِنَّهُ حُجَّةٌ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الأَْكْثَرُونَ، وَقِيل: إِنَّهُ لَيْسَ
بِحُجَّةٍ وَبِهِ قَال أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ. وَقِيل غَيْرُ ذَلِكَ (4)
.
__________
(1) التبصرة بهامش فتح العلي المالك 2 / 50.
(2) المنثور في القواعد 2 / 224.
(3) الهداية 3 / 194.
(4) إرشاد الفحول ص 219، 220 ط مصطفى الحلبي.
(4/289)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي
الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ (الْقِيَاسُ) .
الْمُرَادُ بِفَنِّ الأَْشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ فِي عِلْمِ الْفِقْهِ:
10 - الْمُرَادُ بِفَنِّ الأَْشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ - كَمَا ذَكَرَ
الْحَمَوِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى أَشْبَاهِ ابْنِ نُجَيْمٍ -:
الْمَسَائِل الَّتِي يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا مَعَ اخْتِلاَفِهَا فِي
الْحُكْمِ لأُِمُورٍ خَفِيَّةٍ أَدْرَكَهَا الْفُقَهَاءُ بِدِقَّةِ
أَنْظَارِهِمْ (1) .
وَفَائِدَتُهُ كَمَا ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ (2) أَنَّهُ فَنٌّ بِهِ
يُطَّلَعُ عَلَى حَقَائِقِ الْفِقْهِ وَمَدَارِكِهِ وَمَأْخَذِهِ
وَأَسْرَارِهِ، وَيُتَمَهَّرُ فِي فَهْمِهِ وَاسْتِحْضَارِهِ، وَيُقْتَدَرُ
عَلَى الإِْلْحَاقِ وَالتَّخْرِيجِ، وَمَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الْمَسَائِل
الَّتِي لَيْسَتْ بِمَسْطُورَةٍ، وَالْحَوَادِثِ وَالْوَقَائِعِ الَّتِي
لاَ تَنْقَضِي عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ.
وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ:
اعْرِفِ الأَْمْثَال وَالأَْشْبَاهَ، ثُمَّ قِسِ الأُْمُورَ عِنْدَكَ،
فَاعْمَدْ إِلَى أَحَبِّهَا إِلَى اللَّهِ وَأَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ فِيمَا
تَرَى (3) .
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم والحموي عليه 1 / 18 ط دار الطباعة
العامرة.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 6، 7 ط مصطفى الحلبي.
(3) والأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه " اعرف الأمثال والأشباه. . . "
أخرجه الدارقطني (4 / 206، 207 ط دار المحاسن بالقاهرة) . وقواه ابن حجر في
التلخيص (4 / 196 ط دار المحاسن بالقاهرة) .
(4/289)
اشْتِبَاه
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِشْتِبَاهُ مَصْدَرُ: اشْتَبَهَ، يُقَال اشْتَبَهَ الشَّيْئَانِ
وَتَشَابَهَا: أَشْبَهَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا الآْخَرَ.
وَالْمُشْتَبِهَاتُ مِنَ الأُْمُورِ: الْمُشْكِلاَتُ. وَالشُّبْهَةُ اسْمٌ
مِنْ الاِشْتِبَاهِ وَهُوَ الاِلْتِبَاسُ (1) .
وَالاِشْتِبَاهُ فِي الاِسْتِعْمَال الْفِقْهِيِّ أَخَصُّ مِنْهُ فِي
اللُّغَةِ، فَقَدْ عَرَّفَ الْجُرْجَانِيُّ الشُّبْهَةَ بِأَنَّهَا: مَا
لَمْ يَتَيَقَّنْ كَوْنُهُ حَرَامًا أَوْ حَلاَلاً (2) . وَقَال
السُّيُوطِيُّ: الشُّبْهَةُ مَا جُهِل تَحْلِيلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ
وَتَحْرِيمُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ (3) . وَيَقُول الْكَمَال بْنُ
الْهُمَامِ: الشُّبْهَةُ مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ،
وَلاَ بُدَّ مِنَ الظَّنِّ لِتَحَقُّقِ الاِشْتِبَاهِ (4) . الأَْلْفَاظُ
ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِلْتِبَاسُ:
2 - الاِلْتِبَاسُ هُوَ: الإِْشْكَال، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الاِشْتِبَاهِ عَلَى مَا قَال الدُّسُوقِيُّ: أَنَّ الاِشْتِبَاهَ مَعَهُ
دَلِيلٌ (يُرَجِّحُ أَحَدَ الاِحْتِمَالَيْنِ) وَالاِلْتِبَاسُ لاَ دَلِيل
مَعَهُ (5)
__________
(1) لسان العرب والمصباح. مادة: (شبه) .
(2) التعريفات الجرجانية ص 110.
(3) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 109.
(4) الهداية والفتح 4 / 148 ط أولى أميرية، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص
50.
(5) حاشية الدسوقي 1 / 82.
(4/290)
ب - الشُّبْهَةُ:
3 - يُقَال: اشْتَبَهَتِ الأُْمُورُ وَتَشَابَهَتِ: الْتَبَسَتْ فَلَمْ
تَتَمَيَّزْ وَلَمْ تَظْهَرْ، وَمِنْهُ اشْتَبَهَتِ الْقِبْلَةُ
وَنَحْوُهَا، وَالْجَمْعُ فِيهَا شُبَهٌ وَشُبُهَاتٌ (1) . وَقَدْ سَبَقَ
أَنَّهَا مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ كَوْنُهُ حَرَامًا أَوْ حَلاَلاً نَتِيجَةَ
الاِشْتِبَاهِ.
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي تَقْسِيمِهَا وَتَسْمِيَتِهَا اصْطِلاَحَاتٌ،
فَجَعَلَهَا الْحَنَفِيَّةُ نَوْعَيْنِ:
الأَْوَّل: شُبْهَةٌ فِي الْفِعْل، وَتُسَمَّى شُبْهَةُ اشْتِبَاهٍ أَوْ
شُبْهَةُ مُشَابَهَةٍ، أَيْ شُبْهَةٌ فِي حَقِّ مَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ
فَقَطْ، بِأَنْ يَظُنَّ غَيْرَ الدَّلِيل دَلِيلاً، كَمَا إِذَا ظَنَّ
جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ تَحِل لَهُ، فَمَعَ الظَّنِّ لاَ يُحَدُّ، حَتَّى
لَوْ قَال: عَلِمْتُ أَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيَّ حُدَّ.
النَّوْعُ الثَّانِي: شُبْهَةٌ فِي الْمَحَل، وَتُسَمَّى شُبْهَةٌ
حُكْمِيَّةٌ أَوْ شُبْهَةُ مِلْكٍ، أَيْ شُبْهَةٌ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ
بِحِل الْمَحَل. وَهِيَ تَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ، وَلَوْ قَال عَلِمْتُ
أَنَّهَا حَرَامٌ عَلَيَّ. وَتَتَحَقَّقُ بِقِيَامِ الدَّلِيل النَّافِي
لِلْحُرْمَةِ فِي ذَاتِهِ، لَكِنْ لاَ يَكُونُ الدَّلِيل عَامِلاً
لِقِيَامِ الْمَانِعِ كَوَطْءِ أَمَةِ الاِبْنِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْتَ وَمَالُكَ لأَِبِيكَ (2) ، وَلاَ يَتَوَقَّفُ
هَذَا النَّوْعُ عَلَى ظَنِّ الْجَانِي وَاعْتِقَادِهِ، إِذِ الشُّبْهَةُ
بِثُبُوتِ الدَّلِيل قَائِمَةٌ (3) . وَجَعَلَهَا الشَّافِعِيَّةُ
ثَلاَثَةَ أَقْسَامٍ:
(1) شُبْهَةٌ فِي الْمَحَل، كَوَطْءِ الزَّوْجَةِ الْحَائِضِ أَوِ
الصَّائِمَةِ، لأَِنَّ التَّحْرِيمَ لَيْسَ لِعَيْنِهِ بَل لأَِمْرٍ
عَارِضٍ كَالإِْيذَاءِ وَإِفْسَادِ الْعِبَادَةِ.
__________
(1) المصباح مادة: (شبه) .
(2) حديث: " أنت ومالك لأبيك " أخرجه ابن ماجه (2 / 760 ط الحلبي) وقواه
السخاوي في المقاصد (ص 102 ط الخانجي بمصر) .
(3) الهداية والفتح والعناية 4 / 140 - 141، وتبيين الحقائق وحاشية الشلبي
3 / 175 - 176، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 50.
(4/290)
(2) وَشُبْهَةٌ فِي الْفَاعِل، كَمَنْ
يَجِدُ امْرَأَةً عَلَى فِرَاشِهِ فَيَطَؤُهَا، ظَانًّا أَنَّهَا
زَوْجَتُهُ.
(3) وَشُبْهَةٌ فِي الْجِهَةِ، كَالْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ بِلاَ وَلِيٍّ
أَوْ بِلاَ شُهُودٍ (1) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ شُبْهَة.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا بَيَانُ أَنَّ الشُّبْهَةَ أَعَمُّ مِنْ
الاِشْتِبَاهِ، لأَِنَّهَا قَدْ تُنْتَجُ نَتِيجَةَ الاِشْتِبَاهِ، وَقَدْ
تُنْتَجُ دُونَ اشْتِبَاهٍ.
ج - التَّعَارُضُ:
4 - التَّعَارُضُ لُغَةً: الْمَنْعُ بِالاِعْتِرَاضِ عَنْ بُلُوغِ
الْمُرَادِ (2) . وَاصْطِلاَحًا: تَقَابُل الْحُجَّتَيْنِ
الْمُتَسَاوِيَتَيْنِ عَلَى وَجْهٍ تُوجِبُ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ضِدَّ
مَا تُوجِبُهُ الأُْخْرَى. وَسَيَأْتِي أَنَّ التَّعَارُضَ أَحَدُ
أَسْبَابِ الاِشْتِبَاهِ.
د - الشَّكُّ:
5 - الشَّكُّ لُغَةً: خِلاَفُ الْيَقِينِ، وَهُوَ التَّرَدُّدُ بَيْنَ
شَيْئَيْنِ، سَوَاءٌ اسْتَوَى طَرَفَاهُ، أَوْ رُجِّحَ أَحَدُهُمَا عَلَى
الآْخَرِ (3) ، وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ كَذَلِكَ.
وَهُوَ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ: التَّرَدُّدُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ بِلاَ
تَرْجِيحٍ لأَِحَدِهِمَا عَلَى الآْخَرِ عِنْدَ الشَّاكِّ (4) ، فَالشَّكُّ
سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الاِشْتِبَاهِ.
__________
(1) المهذب 2 / 269، ونهاية المحتاج 7 / 405، وفتح القدير.
(2) المصباح، بتصرف.
(3) المصباح المنير.
(4) التعريفات للجرجاني ص 125، ومجلة الأحكام العدلية المادة 4، والبحر
الرائق 1 / 143.
(4/291)
هـ - الظَّنُّ:
6 - الظَّنُّ خِلاَفُ الْيَقِينِ. وَقَدْ يُسْتَعْمَل بِمَعْنَى الْيَقِينِ
(1) ، كَمَا فِي، قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ
مُلاَقُو رَبِّهِمْ} (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ الاِعْتِقَادُ الرَّاجِحُ مَعَ احْتِمَال
النَّقِيضِ (3) ، وَهُوَ طَرِيقٌ لِحُدُوثِ الاِشْتِبَاهِ (4) . -
و الْوَهْمُ:
7 - الْوَهْمُ: مَا سَبَقَ الْقَلْبُ إِلَيْهِ مَعَ إِرَادَةِ غَيْرِهِ (5)
. وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ إِدْرَاكُ الطَّرَفِ الْمَرْجُوحِ، أَوْ كَمَا
قَال عَنْهُ ابْنُ نُجَيْمٍ: رُجْحَانُ جِهَةِ الْخَطَأِ (6) ، فَهُوَ
دُونَ كُلٍّ مِنَ الظَّنِّ وَالشَّكِّ، وَهُوَ لاَ يَرْتَقِي إِلَى
تَكْوِينِ اشْتِبَاهٍ (7) .
أَسْبَابُ الاِشْتِبَاهِ:
8 - قَدْ يَنْشَأُ الاِشْتِبَاهُ نَتِيجَةَ خَفَاءِ الدَّلِيل بِسَبَبٍ
مِنَ الأَْسْبَابِ، كَالإِْجْمَال فِي الأَْلْفَاظِ وَاحْتِمَالِهَا
التَّأْوِيل، وَدَوَرَانِ الدَّلِيل بَيْنَ الاِسْتِقْلاَل بِالْحُكْمِ
وَعَدَمِهِ، وَدَوَرَانِهِ بَيْنَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، وَاخْتِلاَفِ
الرِّوَايَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَدِيثِ، وَكَالاِشْتِرَاكِ فِي اللَّفْظِ،
أَوِ التَّخْصِيصِ فِي عَامِّهِ، أَوِ التَّقْيِيدِ فِي مُطْلَقِهِ، كَمَا
يَنْشَأُ
__________
(1) المصباح المنير.
(2) سورة البقرة / 46.
(3) التعريفات للجرجاني ص 125، والبحر الرائق 2 / 119، والأشباه لابن نجيم
ص 29، ونهاية المحتاج 1 / 248.
(4) الهداية والفتح والعناية 4 / 148، والأشباه والنظائر ص 10.
(5) المصباح المنير.
(6) البحر الرائق 2 / 119.
(7) التعريفات للجرجاني ص 228، والأشباه لابن نجيم ص 29، ونهاية المحتاج 1
/ 48.
(4/291)
الاِشْتِبَاهُ عِنْدَ تَعَارُضِ
الأَْدِلَّةِ دُونَ مُرَجِّحٍ. كَمَا أَنَّ النُّصُوصَ فِي دَلاَلَتِهَا
لَيْسَتْ عَلَى وَضْعٍ وَاحِدٍ، فَمِنْهَا مَا دَلاَلَتُهُ عَلَى
الأَْحْكَامِ ظَنِّيَّةٌ، فَيَجْتَهِدُ الْفُقَهَاءُ لِلتَّعَرُّفِ عَلَى
مَا يَدُل عَلَيْهِ النَّصُّ، وَقَدْ يَتَشَابَهُ الأَْمْرُ عَلَيْهِمْ
نَتِيجَةَ ذَلِكَ، إِذْ مِنَ الْحَقَائِقِ الثَّابِتَةِ اخْتِلاَفُ
النَّاسِ فِي تَفْكِيرِهِمْ، وَتَبَايُنُ وُجُهَاتِ نَظَرِهِمْ (1) .
وَالاِشْتِبَاهُ النَّاشِئُ عَنْ خَفَاءٍ فِي الدَّلِيل يُعْذَرُ
الْمُجْتَهِدُ فِيهِ، بَعْدَ بَذْلِهِ الْجَهْدَ وَاسْتِفْرَاغِهِ
الْوُسْعَ، وَيَكُونُ فِيمَا انْتَهَى إِلَيْهِ مِنْ رَأْيٍ قَدِ اتَّبَعَ
الدَّلِيل الْمُرْشِدَ إِلَى تَعَرُّفِ قَصْدِ الشَّارِعِ (2) . وَبَيَانُ
ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - اخْتِلاَفُ الْمُخْبِرِينَ:
9 - وَمِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ أَخْبَرَهُ عَدْلٌ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ،
وَأَخْبَرَهُ آخَرُ بِطَهَارَتِهِ. فَإِنَّ الأَْصْل عِنْدَ تَعَارُضِ
الْخَبَرَيْنِ وَتَسَاوِيهِمَا تَسَاقُطُهُمَا، وَحِينَئِذٍ يُعْمَل
بِالأَْصْل وَهُوَ الطَّهَارَةُ، إِذْ الشَّيْءُ مَتَى شُكَّ فِي حُكْمِهِ
رُدَّ إِلَى أَصْلِهِ، لأَِنَّ الْيَقِينَ لاَ يَزُول بِالشَّكِّ،
وَالأَْصْل فِي الْمَاءِ الطَّهَارَةُ (3) .
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيل مَا لَوْ أَخْبَرَ عَدْلٌ بِأَنَّ هَذَا اللَّحْمَ
ذَبَحَهُ مَجُوسِيٌّ، وَأَخْبَرَ عَدْلٌ آخَرُ أَنَّهُ ذَكَّاهُ مُسْلِمٌ،
فَإِنَّهُ لاَ يَحِل لِبَقَاءِ اللَّحْمِ عَلَى الْحُرْمَةِ الَّتِي هِيَ
__________
(1) انظر حول هذه المعاني الموافقات 4 / 156، 173، 176، 211 - 214،
والإحكام لابن حزم 2 / 124، وبداية المجتهد 1 / المقدمة.
(2) مستخلص من الموافقات للشاطبي 4 / 220.
(3) البحر الرائق 1 / 140، 143 ط أولى، ومواهب الجليل والتاج والإكليل 1 /
53 ط الثانية، والمهذب 1 / 15 - 16، ونهاية المحتاج 1 / 87، وكشاف القناع 1
/ 31 - 32، والمغني 1 / 65.
(4/292)
الأَْصْل. إِذْ حِل الأَْكْل مُتَوَقِّفٌ
عَلَى تَحَقُّقِ الذَّكَاةِ الشَّرْعِيَّةِ. وَبِتَعَارُضِ الْخَبَرَيْنِ
لَمْ يَتَحَقَّقِ الْحِل، فَبَقِيَتِ الذَّبِيحَةُ عَلَى الْحُرْمَةِ.
ب - الإِْخْبَارُ الْمُقْتَضِي لِلاِشْتِبَاهِ:
10 - وَهُوَ الإِْخْبَارُ الَّذِي اقْتَرَنَتْ بِهِ قَرَائِنُ تُوقِعُ فِي
الاِشْتِبَاهِ. مِثَال ذَلِكَ: أَنْ يَعْقِدَ عَلَى امْرَأَةٍ، ثُمَّ
تُزَفُّ إِلَيْهِ أُخْرَى بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا زَوْجَتُهُ، وَيَدْخُل
بِهَا عَلَى هَذَا الاِعْتِقَادِ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ أَنَّهَا لَيْسَتِ
الْمَرْأَةُ الَّتِي عَقَدَ عَلَيْهَا. فَإِنْ وَطِئَهَا فَإِنَّهُ لاَ
حَدَّ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا، لأَِنَّهُ اعْتَمَدَ دَلِيلاً شَرْعِيًّا فِي
مَوْضِعِ الاِشْتِبَاهِ، وَهُوَ الإِْخْبَارُ. وَقَدْ أَوْرَدَ
الْفُقَهَاءُ فُرُوعًا كَثِيرَةً مِثْل هَذَا الْفَرْعِ، وَهِيَ
مَبْنِيَّةٌ عَلَى هَذَا الأَْسَاسِ (1) .
ج - تَعَارُضُ الأَْدِلَّةِ ظَاهِرًا:
11 - لاَ يُوجَدُ بَيْنَ أَدِلَّةِ الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فِي
وَاقِعِ الأَْمْرِ تَعَارُضٌ، لأَِنَّهَا جَمِيعَهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
تَعَالَى. أَمَّا مَا يَظْهَرُ مِنَ التَّعَارُضِ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ
فَلِعَدَمِ الْعِلْمِ بِظُرُوفِهِمَا وَشُرُوطِ تَطْبِيقِهِمَا، أَوْ بِمَا
يُرَادُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى سَبِيل الْقَطْعِ، أَوْ لِجَهْلِنَا
بِزَمَنِ وُرُودِهِمَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَرْتَفِعُ بِهِ
التَّعَارُضُ.
فَمِنْ الاِشْتِبَاهِ بِسَبَبِ تَعَارُضِ الأَْدِلَّةِ فِي الظَّاهِرِ مَا
إِذَا سَرَقَ الْوَالِدُ مِنْ مَال وَلَدِهِ، إِذْ أَنَّ نُصُوصَ
الْعِقَابِ عَلَى السَّرِقَةِ تَشْمَل فِي عُمُومِهَا هَذِهِ الْوَاقِعَةَ.
فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُول: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ
فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا. . .} (2) . غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ
__________
(1) المبسوط 9 / 57 - 58، وتبيين الحقائق 3 / 179، وفتح القدير 4 / 146.
(2) سورة المائدة / 38.
(4/292)
فِي السُّنَّةِ مَا يُفِيدُ حِل مَال
الاِبْنِ لأَِبِيهِ. فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَنْتَ وَمَالُكَ لأَِبِيكَ (1) وَقَوْلُهُ:
إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَل الرَّجُل مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ
كَسْبِهِ (2) وَوُجُودُ مِثْل هَذَا يُنْتِجُ اشْتِبَاهًا فِي الْحُكْمِ
يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِسْقَاطُ الْحَدِّ، لأَِنَّ مِنْ أَعْظَمِ
الشُّبُهَاتِ أَخْذُ الرَّجُل مِنْ مَالٍ جَعَلَهُ الشَّرْعُ لَهُ،
وَأَمَرَهُ بِأَخْذِهِ وَأَكْلِهِ. وَقَال أَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ
الْمُنْذِرِ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ (3) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ
(سَرِقَة) .
وَمِنْ الاِشْتِبَاهِ النَّاشِئِ عَنْ تَعَارُضِ الأَْدِلَّةِ فِي
الظَّاهِرِ مَا وَرَدَ بِالنِّسْبَةِ لِطَهَارَةِ سُؤْرِ الْحِمَارِ،
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُول:
الْحِمَارُ يُعْتَلَفُ الْقَتَّ وَالتِّبْنَ فَسُؤْرُهُ طَاهِرٌ (4) وَعَنْ
جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل:
أَنَتَوَضَّأُ بِمَا أَفْضَلَتِ الْحُمُرُ؟ قَال: نَعَمْ، وَبِمَا
أَفْضَلَتِ السِّبَاعُ كُلُّهَا (5) ، وَرُوِيَ عَنْ
__________
(1) حديث: " أنت ومالك لأبيك " سبق تخريجه (ف 3) .
(2) حديث: " إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه " أخرجه أحمد
(6 / 41 - ط الميمنية) ، وأبو داود (3 / 800 - ط عزت عبيد دعاس) والنسائي
(7 / 241 ط المطبعة المصرية بالأزهر) ، والترمذي (تحفة الأحوذي 4 / 591 -
592 نشر المكتبة السلفية) ، وابن ماجه (سنن ابن ماجه بتحقيق محمد فؤاد عبد
الباقي 2 / 723 ط عيسى الحلبي) ، من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعا،وقال
الترمذي: هذا حديث حسن.
(3) فتح القدير 4 / 238 ط أولى أميرية، وحاشية الدسوقي 4 / 337، وشرح
المنهج بحاشية الجمل 5 / 142 ط دار إحياء التراث العربي، والمغني 8 / 275.
(4) أثر عبد الله بن عباس أورده صاحب البدائع، ولم نعثر عليه فيما لدينا من
مراجع السنن والآثار (بدائع الصنائع 1 / 65 نشر دار الكتاب العربي 1394 هـ)
.
(5) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أنتوضأ مما أفضلت الحمر. . .
.؟ " أخرجه الدارقطني (1 / 62 - ط شركة الطباعة الفنية) ، والبيهقي (1 /
249 - ط دائرة المعارف العثمانية) وأعلاّه بأحد الرواة الضعفاء.
(4/293)
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ
يَقُول: " إِنَّهُ رِجْسٌ (1) وَالتَّوَقُّفُ فِي الْحُكْمِ عِنْدَ
تَعَارُضِ الأَْدِلَّةِ وَاجِبٌ. فَلِذَلِكَ كَانَ مَشْكُوكًا فِيهِ،
وَالْمُرَادُ بِالشَّكِّ التَّوَقُّفُ عَنْ إِعْطَاءِ حُكْمٍ قَاطِعٍ،
لِتَعَارُضِ الأَْدِلَّةِ (2) . قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الأَْصَحُّ أَنَّ
سُؤْرَ الْحِمَارِ مَشْكُوكٌ فِي طَهُورِيَّتِهِ (أَيْ كَوْنُهُ
مُطَهِّرًا، لاَ فِي طَهَارَتِهِ فِي ذَاتِهِ) وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُورِ.
وَسَبَبُهُ تَعَارُضُ الأَْخْبَارِ فِي لَحْمِهِ، وَقِيل: اخْتِلاَفُ
الصَّحَابَةِ فِي سُؤْرِهِ، وَقَدِ اسْتَوَى مَا يُوجِبُ الطَّهَارَةَ
وَالنَّجَاسَةَ فَتَسَاقَطَا لِلتَّعَارُضِ، فَيُصَارُ إِلَى الأَْصْل،
وَهُوَ هُنَا شَيْئَانِ: الطَّهَارَةُ فِي الْمَاءِ، وَالنَّجَاسَةُ فِي
اللُّعَابِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنَ الآْخَرِ، فَبَقِيَ
الأَْمْرُ مُشْكِلاً، نَجِسًا مِنْ وَجْهٍ، طَاهِرًا مِنْ وَجْهٍ (3) .
د - اخْتِلاَفُ الْفُقَهَاءِ:
12 - مِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ عَدَمِ وُجُوبِ الْحَدِّ
بِالْوَطْءِ فِي نِكَاحٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، كَالنِّكَاحِ بِلاَ وَلِيٍّ،
فَالْحَنَفِيَّةُ يُجِيزُونَهُ. وَسُقُوطُ الْحَدِّ بِسَبَبِ ذَلِكَ قَوْل
أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ، لأَِنَّ الاِخْتِلاَفَ فِي إِبَاحَةِ الْوَطْءِ
فِيهِ شُبْهَةٌ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ (4) وَيُرْجَعُ فِي
تَفْصِيل ذَلِكَ إِلَى بَابِ (حَدِّ الزِّنَى) .
__________
(1) الأثر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أخرجه عبد الرزاق وابن أبي
شيبة بلفظ: " أنه كان يكره سؤر الحمار " (مصنف عبد الرزاق 1 / 105، ومصنف
ابن أبي شيبة 1 / 29) .
(2) البدائع 1 / 65، والمغني 1 / 48.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 151.
(4) فتح القدير 4 / 143 - 144، والبدائع 7 / 35، والشرح الكبير وحاشية
الدسوقي 4 / 313، ومواهب الجليل والتاج والإكليل 6 / 291، 293، وحاشية
قليوبي 4 / 180، ونهاية المحتاج 7 / 405، والمغني 8 / 184.
(4/293)
وَمِنْ ذَلِكَ الْمُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ
إِذَا رَأَى سَرَابًا، وَكَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ مَاءٌ، فَإِنَّهُ
يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَنْصَرِفَ، وَإِنِ اسْتَوَى الأَْمْرَانِ لاَ يَحِل
لَهُ قَطْعُ الصَّلاَةِ، وَإِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلاَةِ، إِنْ ظَهَرَ
أَنَّهُ كَانَ مَاءً يَلْزَمُهُ الإِْعَادَةُ، وَإِلاَّ فَلاَ. نَصَّ عَلَى
ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ (1) . وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى
أَنَّ مَنْ تَيَمَّمَ لِفَقْدِ الْمَاءِ فَوَجَدَهُ أَوْ تَوَهَّمَهُ بَطَل
تَيَمُّمُهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي صَلاَةٍ. وَيَحْصُل هَذَا التَّوَهُّمُ
بِرُؤْيَةِ سَرَابٍ. وَمَحَل بُطْلاَنِهِ بِالتَّوَهُّمِ إِنْ بَقِيَ مِنَ
الْوَقْتِ زَمَنٌ لَوْ سَعَى فِيهِ إِلَى ذَلِكَ لأََمْكَنَهُ التَّطَهُّرُ
بِهِ وَالصَّلاَةُ فِيهِ. وَإِذَا بَطَل التَّيَمُّمُ بِتَوَهُّمِ وُجُودِ
الْمَاءِ فَإِنَّهُ بُطْلاَنُهُ بِالظَّنِّ أَوِ الشَّكِّ أَوْلَى، سَوَاءٌ
أَتَبَيَّنَ لَهُ خِلاَفُ ظَنِّهِ أَمْ لَمْ يَتَبَيَّنْ، لأَِنَّ ظَنَّ
وُجُودِ الْمَاءِ مُبْطِلٌ لِلتَّيَمُّمِ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ
وُجِدَ الْمَاءُ بَعْدَ الدُّخُول فِي الصَّلاَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ
إِتْمَامُهَا (2) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ
مَالِهِ إِذَا مَا طَلَبَ الْمَاءَ سَاغَ لَهُ التَّيَمُّمُ، وَلَوْ كَانَ
خَوْفُهُ بِسَبَبِ ظَنِّهِ فَتَبَيَّنَ عَدَمُ السَّبَبِ. مِثْل مَنْ رَأَى
سَوَادًا بِاللَّيْل ظَنَّهُ عَدُوًّا، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ
بِعَدُوٍّ بَعْدَ أَنْ تَيَمَّمَ وَصَلَّى لَمْ يُعِدْ لِكَثْرَةِ
الْبَلْوَى. وَقِيل: يَلْزَمُهُ الإِْعَادَةُ، لأَِنَّهُ تَيَمَّمَ مِنْ
غَيْرِ سَبَبٍ مُبِيحٍ لِلتَّيَمُّمِ (3) .
هـ - الاِخْتِلاَطُ:
13 - يُقْصَدُ بِهِ اخْتِلاَطُ الْحَلاَل بِالْحَرَامِ وَعُسْرُ
التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا. كَمَا لَوِ اخْتَلَطَتِ الأَْوَانِي الَّتِي
فِيهَا مَاءٌ طَاهِرٌ بِالأَْوَانِي الَّتِي فِيهَا مَاءٌ نَجِسٌ،
وَاشْتَبَهَ الأَْمْرُ، بِأَنْ لَمْ
__________
(1) الفتاوى البزازية بهامش الفتاوى الهندية 1 / 60.
(2) نهاية المحتاج 1 / 286 - 287، والمغني 1 / 271، 272، ومنح الجليل 1 /
93.
(3) كشاف القناع 1 / 164 - 165، والمغني 1 / 239.
(4/294)
يُمْكِنِ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا،
فَإِنَّهُ يَسْقُطُ اسْتِعْمَال الْمَاءِ، وَيَجِبُ التَّيَمُّمُ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل سَحْنُونٍ مِنَ
الْمَالِكِيَّةِ، لأَِنَّ أَحَدَهُمَا نَجِسٌ يَقِينًا، وَالآْخَرُ طَاهِرٌ
يَقِينًا، لَكِنْ عَجَزَ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ لِعَدَمِ عِلْمِهِ فَيُصَارُ
إِلَى الْبَدَل.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ (مَاءٌ) (1) . وَمِنْ
هَذَا الْقَبِيل مَا إِذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ ثِيَابٌ طَاهِرَةٌ
بِنَجِسَةٍ، وَتَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ بَيْنَهَا، وَلَمْ يَجِدْ ثَوْبًا
طَاهِرًا بِيَقِينٍ، وَلَيْسَ مَعَهُ مَا يُطَهِّرُهُمَا بِهِ، وَاحْتَاجَ
إِلَى الصَّلاَةِ، فَالْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ خِلاَفًا لِلْمُزَنِيِّ،
أَنَّهُ يَتَحَرَّى بَيْنَهَا، وَيُصَلِّي بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ
طَهَارَتُهُ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ مِنَ
الْمَالِكِيَّةِ: لاَ يَجُوزُ التَّحَرِّي وَيُصَلِّي فِي ثِيَابِ مِنْهَا
بِعَدَدِ النَّجِسِ مِنْهَا، وَيَزِيدُ صَلاَةً فِي ثَوْبٍ آخَرَ. وَقَال
أَبُو ثَوْرٍ وَالْمُزَنِيُّ: لاَ يُصَلِّي فِي شَيْءٍ مِنْهَا
كَالأَْوَانِي (2) .
وَإِنَّمَا يَتَحَرَّى - عِنْدَ مَنْ قَال بِذَلِكَ - إِذَا لَمْ يَجِدْ
ثَوْبًا طَاهِرًا، أَوْ مَا يُطَهِّرُ بِهِ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مِنَ
الثِّيَابِ. وَإِذَا تَحَرَّى فَلَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُهُمَا عَلَى
الآْخَرِ صَلَّى فِي أَحَدِهِمَا. وَالْقَائِلُونَ بِالتَّحَرِّي هُنَا
قَالُوا: لأَِنَّهُ لاَ خُلْفَ لِلثَّوْبِ فِي سَتْرِ الْعَوْرَةِ،
بِخِلاَفِ الاِشْتِبَاهِ فِي الأَْوَانِي، لأَِنَّ التَّطَهُّرَ بِالْمَاءِ
لَهُ خُلْفٌ وَهُوَ التَّيَمُّمُ (3) .
__________
(1) البحر الرائق 1 / 140 - 141، والأشباه والنظائر لابن نجيم 1 / 146،
ومواهب الجليل والتاج والإكليل 1 / 170، وحاشية الدسوقي 1 / 82، ونهاية
المحتاج 1 / 76، والمهذب 1 / 16، وكشاف القناع 1 / 47، والمغني 1 / 62.
(2) المغني 1 / 62 ط الرياض.
(3) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 20، والفتاوى الهندية 5 / 383، وحاشية
الدسوقي 1 / 79، ومواهب الجليل 1 / 160، ونهاية المحتاج 2 / 16.
(4/294)
و - الشَّكُّ (بِالْمَعْنَى الأَْعَمِّ
يَشْمَل أَيْضًا الظَّنَّ وَالْوَهْمَ) :
14 - وَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالُوهُ فِيمَنْ أَيْقَنَ بِالْوُضُوءِ وَشَكَّ
فِي الْحَدَثِ مِنْ أَنَّهُ لاَ وُضُوءَ عَلَيْهِ، إِذِ الْيَقِينُ لاَ
يَزُول بِالشَّكِّ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ (1)
، غَيْرَ أَنَّهُ نُقِل عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَال: مَنْ أَيْقَنَ
بِالْوُضُوءِ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ ابْتَدَأَ الْوُضُوءَ، وَقَدْ رَوَى
ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَال: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ
يَتَوَضَّأَ، وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ عِنْدَ مَالِكٍ فِي
ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ اسْتِحْبَابٌ وَاحْتِيَاطٌ (2) ، كَمَا أَجْمَعُوا
عَلَى أَنَّ مَنْ أَيْقَنَ بِالْحَدَثِ وَشَكَّ فِي الْوُضُوءِ أَنَّ
شَكَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ وَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ (3) ، لأَِنَّهُ
الْمُتَيَقَّنُ. وَالْمُرَادُ بِالشَّكِّ هُنَا مُطْلَقُ التَّرَدُّدِ
سَوَاءٌ أَكَانَ عَلَى السَّوَاءِ أَمْ كَانَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ أَرْجَحَ
(4) . وَعَلَى هَذَا فَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ
أَحَدُهُمَا أَوْ يَتَسَاوَى الأَْمْرَانِ عِنْدَهُمَا، لأَِنَّ غَلَبَةَ
الظَّنِّ إِذَا لَمْ تَكُنْ مَضْبُوطَةً بِضَابِطٍ شَرْعِيٍّ لاَ
يُلْتَفَتُ إِلَيْهَا، وَلأَِنَّهُ إِذَا شَكَّ تَعَارَضَ عِنْدَهُ
الأَْمْرَانِ، فَيَجِبُ سُقُوطُهُمَا كَالْبَيِّنَتَيْنِ إِذَا
تَعَارَضَتَا، وَيَرْجِعُ إِلَى الْيَقِينِ (5)
وَقَالُوا: مَنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَالْحَدَثَ مَعًا وَاشْتَبَهَ
عَلَيْهِ الأَْمْرُ فَلَمْ يَعْلَمْ الأَْخِيرُ مِنْهُمَا وَالأَْسْبَقُ
فَيُعْمَل بِضِدِّ مَا قَبْلَهُمَا، فَإِنْ كَانَ قَبْل ذَلِكَ مُحْدِثًا
فَهُوَ الآْنَ مُتَطَهِّرٌ، لأَِنَّهُ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ بَعْدَ
ذَلِكَ الْحَدَثِ وَشَكَّ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 102، والتاج والإكليل 1 / 301، ونهاية المحتاج 1
/ 914، والمهذب 1 / 32، والمغني 1 / 196.
(2) التاج والإكليل 1 / 301.
(3) المراجع السابقة.
(4) نهاية المحتاج 1 / 114.
(5) المغني 1 / 197.
(4/295)
فِي انْتِقَاضِهَا، لأَِنَّهُ لاَ يَدْرِي
هَل الْحَدَثُ الثَّانِي قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا. وَإِنْ كَانَ
مُتَطَهِّرًا وَكَانَ يَعْتَادُ التَّجْدِيدَ فَهُوَ الآْنَ مُحْدِثٌ،
لأَِنَّهُ مُتَيَقِّنٌ حَدَثًا بَعْدَ تِلْكَ الطَّهَارَةِ وَشَكَّ فِي
زَوَالِهِ، لأَِنَّهُ لاَ يَدْرِي هَل الطَّهَارَةُ الثَّانِيَةُ
مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهُ أَمْ لاَ (1) .
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيل مَا قَالُوهُ فِي الصَّائِمِ لَوْ شَكَّ فِي
غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ مَعَ
الشَّكِّ، لأَِنَّ الأَْصْل بَقَاءُ النَّهَارِ. وَلَوْ أَفْطَرَ وَهُوَ
شَاكٌّ وَلَمْ يَتَبَيَّنِ الْحَال بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ
اتِّفَاقًا (2) .
أَمَّا إِذَا شَكَّ الصَّائِمُ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ فَالْمُسْتَحَبُّ
لَهُ أَلاَّ يَأْكُل لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ الْفَجْرُ قَدْ طَلَعَ،
فَيَكُونُ الأَْكْل إِفْسَادًا لِلصَّوْمِ فَيُتَحَرَّزُ عَنْهُ، لِمَا
رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
الْحَلاَل بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ
مُشْتَبِهَاتٌ (3) . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْ
مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ (4) . وَلَوْ أَكَل وَهُوَ شَاكٌّ
فَإِنَّهُ لاَ يُحْكَمُ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ، لأَِنَّ فَسَادَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 102، والتاج والإكليل 1 / 301، ونهاية المحتاج 1
/ 114، والمهذب 1 / 32، والمغني 1 / 197.
(2) البدائع 2 / 105، وحاشية الدسوقي 1 / 526، ونهاية المحتاج 3 / 171،
والإقناع في فقه الإمام أحمد 1 / 312 - 315، ط دار المعارف.
(3) حديث: " الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات " أخرجه البخاري
(1 / 126 - الفتح - ط السلفية) من حديث النعمان بن بشير.
(4) حديث: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " علقه البخاري من حديث حسان بن
أبي سنان، وأخرجه أحمد والنسائي والحاكم مرفوعا من حديث الحسن بن علي. قال
الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، وسكت عنه ابن حجر
(فتح الباري 4 / 292 - 293 ط السلفية، ومسند أحمد بن حنبل 1 / 200 ط
الميمنية، وسنن النسائي 8 / 327 - 328، نشر المكتبة التجارية، والمستدرك 2
/ 13 نشر دار الكتاب العربي) .
(4/295)
الصَّوْمِ مَشْكُوكٌ فِيهِ، إِذِ الأَْصْل
بَقَاءُ اللَّيْل فَلاَ يَثْبُتُ النَّهَارُ بِالشَّكِّ، وَإِلَى هَذَا
اتَّجَهَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1)
.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ أَكَل شَاكًّا فِي الْفَجْرِ فَعَلَيْهِ
الْقَضَاءُ مَعَ الْحُرْمَةِ، وَإِنْ كَانَ الأَْصْل بَقَاءَ اللَّيْل،
هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِصَوْمِ الْفَرْضِ. وَقِيل: وَفِي النَّفْل أَيْضًا.
كَمَا قِيل مَعَ الْكَرَاهَةِ لاَ الْحُرْمَةِ. وَمَنْ أَكَل مُعْتَقِدًا
بَقَاءَ اللَّيْل أَوْ حُصُول الْغُرُوبِ ثُمَّ طَرَأَ الشَّكُّ،
فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِلاَ حُرْمَةٍ (2) .
ز - الْجَهْل:
15 - وَمِنْ ذَلِكَ الأَْسِيرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، إِذَا لَمْ يَعْرِفْ
دُخُول رَمَضَانَ، وَأَرَادَ صَوْمَهُ، فَتَحَرَّى وَصَامَ شَهْرًا عَنْ
رَمَضَانَ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَ. فَإِذَا كَانَ صَامَ قَبْل حُلُول
شَهْرِ رَمَضَانَ فِعْلاً لَمْ يُجْزِئْهُ، لأَِنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَ
قَبْل وُجُوبِهِ وَوُجُودِ سَبَبِهِ، وَهُوَ مُشَاهَدَةُ الشَّهْرِ (3) ،
وَنَقَل الشِّيرَازِيُّ عَنِ الأَْصْحَابِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلاً
آخَرَ بِالإِْجْزَاءِ، لأَِنَّهُ عِبَادَةٌ تُفْعَل فِي السَّنَةِ مَرَّةً،
فَجَازَ أَنْ يَسْقُطَ فَرْضُهَا بِالْفِعْل قَبْل الْوَقْتِ عِنْدَ
الْخَطَأِ، كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ إِذَا أَخْطَأَ النَّاسُ وَوَقَفُوا
قَبْل يَوْمِ عَرَفَةَ، ثُمَّ قَال: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُهُ،
لأَِنَّهُ تَيَقَّنَ الْخَطَأَ فِيمَا يُؤْمَنُ مِثْلُهُ فِي الْقَضَاءِ،
فَلَمْ يُعْتَدَّ بِمَا
__________
(1) البدائع 2 / 105، ونهاية المحتاج 3 / 171، والإقناع في فقه الإمام أحمد
1 / 312، 315 ط دار المعارف.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 526.
(3) البدائع 2 / 86، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 519، والمهذب 1 /
187، ونهاية المحتاج 3 / 459، وكشاف القناع 2 / 276، والإقناع في فقه
الإمام أحمد 1 / 316 ط دار المعرفة بلبنان.
(4/296)
فَعَلَهُ، كَمَا لَوْ تَحَرَّى فِي وَقْتِ
الصَّلاَةِ فَصَلَّى قَبْل الْوَقْتِ (1) . وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ
الشَّهْرَ الَّذِي صَامَهُ كَانَ بَعْدَ رَمَضَانَ صَحَّ.
وَإِذَا كَانَ الشَّهْرُ الَّذِي صَامَهُ نَاقِصًا، وَرَمَضَانَ الَّذِي
صَامَهُ النَّاسُ تَامًّا صَامَ يَوْمًا، إِذْ لاَ بُدَّ مِنْ مُوَافَقَةِ
الْعَدَدِ، لأَِنَّ صَوْمَ شَهْرٍ آخَرَ بَعْدَهُ يَكُونُ قَضَاءً،
وَالْقَضَاءُ يَكُونُ عَلَى قَدْرِ الْفَائِتِ (2) . وَعِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَجْهٌ آخَرُ اخْتَارَهُ أَبُو حَامِدٍ
الإِْسْفَرايِينِيُّ بِالإِْجْزَاءِ، لأَِنَّ الشَّهْرَ يَقَعُ عَلَى مَا
بَيْنَ الْهِلاَلَيْنِ، وَلِهَذَا لَوْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ، فَصَامَ
شَهْرًا نِقَاصًا بِالأَْهِلَّةِ أَجْزَأَهُ. ثُمَّ قَال الشِّيرَازِيُّ:
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمٍ (3) . وَمِنْ
ذَلِكَ الاِشْتِبَاهُ فِي الْقِبْلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يَجْهَلُهَا.
فَقَدْ نَصَّ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى أَنَّ مَنِ اشْتَبَهَتْ
عَلَيْهِ جِهَةُ الْقِبْلَةِ، وَلَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهَا، سَأَل مَنْ
بِحَضْرَتِهِ مِمَّنْ يَعْلَمُهَا مِنْ أَهْل الْمَكَانِ. وَحَدُّ
الْحَضْرَةِ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَوْ صَاحَ بِهِ سَمِعَهُ (4) . فَإِذَا
تَحَرَّى بِنَفْسِهِ وَصَلَّى دُونَ سُؤَالٍ، وَتَبَيَّنَ لَهُ بَعْدَ
ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُصِبِ الْقِبْلَةَ، أَعَادَ الصَّلاَةَ، لِعَدَمِ
إِجْزَاءِ التَّحَرِّي مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الاِسْتِخْبَارِ، لأَِنَّ
التَّحَرِّي دُونَ الاِسْتِخْبَارِ، إِذِ الْخَبَرُ مُلْزِمٌ لَهُ
وَلِغَيْرِهِ، بَيْنَمَا التَّحَرِّي مُلْزِمٌ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ، فَلاَ
يُصَارُ إِلَى الأَْدْنَى مَعَ إِمْكَانِ الأَْعْلَى، أَمَّا إِذَا لَمْ
يَكُنْ بِحَضْرَتِهِ أَحَدٌ يَرْجِعُ إِلَيْهِ فِي
__________
(1) المهذب 1 / 187.
(2) المراجع السابقة للمذاهب.
(3) المهذب 1 / 187.
(4) الفتاوى الهندية 1 / 64، والبدائع 1 / 118، وكشاف القناع 1 / 307.
(4/296)
ذَلِكَ، أَوْ كَانَ وَسَأَلَهُ وَلَمْ
يُجِبْهُ، أَوْ لَمْ يَدُلَّهُ ثُمَّ تَحَرَّى، فَإِنَّ صَلاَتَهُ تَصِحُّ،
حَتَّى لَوْ تَبَيَّنَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ أَخْطَأَ، لِمَا رُوِيَ
عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّهُ قَال (1) : كُنَّا مَعَ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ،
فَلَمْ نَدْرِ أَيْنَ الْقِبْلَةُ، فَصَلَّى كُل رَجُلٍ مِنَّا عَلَى
حِيَالِهِ - أَيْ قُبَالَتَهُ - فَلَمَّا أَصْبَحْنَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ
لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَل قَوْل اللَّهِ
سُبْحَانَهُ {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (2) .
وَلأَِنَّ الْعَمَل بِالدَّلِيل الظَّاهِرِ وَاجِبٌ إِقَامَةً لِلْوَاجِبِ
بِقَدْرِ الْوُسْعِ، وَإِقَامَةً لِلظَّنِّ مَقَامَ الْيَقِينِ
لِتَعَذُّرِهِ (3) .
وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ " قِبْلَةَ
الْمُتَحَرِّي جِهَةُ قَصْدِهِ (4) إِنْ تَحَرَّى ثُمَّ قَبْل الصَّلاَةِ
أَخْبَرَهُ عَدْلاَنِ مِنْ أَهْل الْجِهَةِ أَنَّ الْقِبْلَةَ إِلَى جِهَةٍ
أُخْرَى، أَخَذَ بِقَوْلِهِمَا وَلاَ عِبْرَةَ بِالتَّحَرِّي (5) .
ح - النِّسْيَانُ:
16 - وَمِنْ ذَلِكَ الْمَرْأَةُ إِذَا نَسِيَتْ عَادَةَ حَيْضِهَا،
وَاشْتَبَهَ عَلَيْهَا الأَْمْرُ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَيْضِ وَالطُّهْرِ،
بِأَنْ لَمْ تَعْلَمْ عَدَدَ أَيَّامِ حَيْضِهَا الْمُعْتَادَةِ، وَلاَ
مَكَانَ هَذِهِ الأَْيَّامِ مِنَ الشَّهْرِ فَإِنَّهَا تَتَحَرَّى، فَإِنْ
وَقَعَ تَحَرِّيهَا عَلَى
__________
(1) حديث " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . . . " أخرجه الترمذي
(1 / 176 - ط الحلبي) . وذكر ابن كثير في تفسيره له أسانيد أخرى 1 / 278،
وقال: هذه الأسانيد فيها ضعف، ولعله يشد بعضها بعضا.
(2) سورة البقرة / 115.
(3) تبيين الحقائق 1 / 101، وكشاف القناع 1 / 307.
(4) الأثر عن علي رضي الله عنه " أن قبلة المتحري جهة قصده " أورده الزيلعي
في تبيين الحقائق، ولم نعثر عليه فيما لدينا من مراجع السنن والآثار (تبيين
الحقائق 1 / 101، ط دار المعرفة) .
(5) الفتاوى الهندية 1 / 64.
(4/297)
طُهْرٍ تُعْطَى حُكْمَ الطَّاهِرَاتِ،
وَإِنْ كَانَ عَلَى حَيْضٍ أُعْطِيَتْ حُكْمَهُ، لأَِنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ
مِنَ الأَْدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَإِنْ تَرَدَّدَتْ وَلَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهَا شَيْءٌ فَهِيَ
الْمُحَيَّرَةُ، وَتُسَمَّى الْمُضَلَّلَةُ، لاَ يُحْكَمُ لَهَا بِشَيْءٍ
مِنَ الطُّهْرِ أَوِ الْحَيْضِ عَلَى التَّعْيِينِ، بَل تَأْخُذُ
بِالأَْحْوَطِ فِي حَقِّ الأَْحْكَامِ، لاِحْتِمَال كُل زَمَانٍ يَمُرُّ
عَلَيْهَا مِنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالاِنْقِطَاعِ، وَلاَ يُمْكِنُ
جَعْلُهَا حَائِضًا دَائِمًا لِقِيَامِ الإِْجْمَاعِ عَلَى بُطْلاَنِهِ،
وَلاَ طَاهِرًا دَائِمًا لِقِيَامِ الدَّمِ، وَلاَ التَّبْعِيضِ لأَِنَّهُ
تَحَكُّمٌ، فَوَجَبَ الأَْخْذُ بِالأَْحْوَطِ فِي حَقِّ الأَْحْكَامِ
لِلضَّرُورَةِ. (1) وَتَفْصِيل أَحْكَامِهَا فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِحَاضَة)
.
ط - وُجُودُ دَلِيلٍ غَيْرِ قَوِيٍّ عَلَى خِلاَفِ الأَْصْل:
17 - وَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَابْنُ
شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى (2) فِي إِثْبَاتِ
الشُّفْعَةِ بِسَبَبِ الْجَوَازِ، أَوْ بِسَبَبِ الشَّرِكَةِ فِي مَرَافِقِ
الْعَقَارِ، وَوَافَقَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ
بِالنِّسْبَةِ لِلشَّرِيكِ فِي مَمَرِّ الدَّارِ، بِأَنْ كَانَ
لِلْمُشْتَرِي طَرِيقٌ آخَرُ إِلَى الدَّارِ، أَوْ أَمْكَنَ فَتْحُ بَابٍ
لَهَا إِلَى شَارِعٍ.
وَأَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فَيَقْصُرُونَهَا عَلَى الشَّرِكَةِ فِي
نَفْسِ الْعَقَارِ الْمَبِيعِ فَقَطْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ فَلاَ
شُفْعَةَ، لأَِنَّ الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ عَلَى خِلاَفِ الأَْصْل، إِذْ هِيَ
انْتِزَاعُ مِلْكِ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِ رِضَاءٍ مِنْهُ، وَإِجْبَارٌ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 190 - 191، وتبيين الحقائق وحاشية الشلبي 1 / 62
- 63، وبداية المجتهد 1 / 57، وشرح الزرقاني 1 / 135، 336، ونهاية المحتاج
1 / 328، والمهذب 1 / 48، والمغني 1 / 321.
(2) المغني 5 / 308، والبدائع 5 / 4، والمبسوط 14 / 91 - 92
(4/297)
لَهُ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ، (1) وَلِمَا
رَوَى جَابِرٌ مِنْ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِفَتِ
الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ (2) وَبِمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال: إِذَا قُسِمَتِ الأَْرْضُ وَحُدَّتْ فَلاَ شُفْعَةَ فِيهَا. (3)
وَمُقْتَضَى الأَْصْل أَنْ لاَ يَثْبُتَ حَقُّ الأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ
أَصْلاً، لَكِنَّهَا ثَبَتَتْ فِيمَا لاَ يُقْسَمُ بِالنَّصِّ الصَّرِيحِ
غَيْرِ مَعْقُول الْمَعْنَى، فَبَقِيَ الأَْمْرُ فِي الْمَقْسُومِ عَلَى
الأَْصْل، أَوْ ثَبَتَ مَعْلُولاً بِدَفْعِ ضَرَرٍ خَاصٍّ وَهُوَ ضَرَرُ
الْقِسْمَةِ. (4)
وَمَا اسْتَدَل بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ أَحَادِيثَ،
فَإِنَّ فِي أَسَانِيدِهَا مَقَالاً. قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: الثَّابِتُ
عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثُ جَابِرٍ -
السَّابِقُ ذِكْرُهُ - وَمَا عَدَاهُ مِنَ الأَْحَادِيثِ الَّتِي اسْتَدَل
بِهَا الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ، كَالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو
رَافِعٍ الْجَارُ أَحَقُّ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 473 - 474، ومنهاج الطالبين وحاشية
قليوبي 3 / 43 - 44، والمهذب 1 / 384، والمغني 5 / 308 - 309، ومواهب
الجليل والتاج والإكليل 5 / 310 - 311.
(2) حديث " الشفعة فيما لم يقسم. . . . " أخرجه البخاري من حديث جابر رضي
الله عنه بلفظ: " قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم،
فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة " (فتح الباري 4 / 436 ط السلفية) .
(3) حديث: " إذا قسمت الأرض. . . " أخرجه مالك عن سعيد بن المسيب بلفظ: "
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة فيما لم يقسم بين الشركاء،
فإذا وقعت الحدود بينهم فلا شفعة فيه ". (الموطأ 2 / 713 ط الحلبي) .
(4) البدائع 5 / 4.
(4/298)
بِسَقَبِهِ، (1) وَالْحَدِيثِ الَّذِي
رَوَاهُ سَمُرَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال: جَارُ الدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ. (2) فَإِنَّ فِيهَا مَقَالاً.
عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَل أَنَّهُ أَرَادَ بِالْجَارِ الشَّرِيكَ، فَإِنَّهُ
جَارٌ أَيْضًا. فَكُل هَذَا أَوْرَثَ شُبْهَةً عِنْدَ الْجُمْهُورِ،
لأَِنَّ مَا اسْتَدَل بِهِ الْحَنَفِيَّةُ غَيْرُ قَوِيٍّ، وَجَاءَ عَلَى
خِلاَفِ الأَْصْل، وَلِذَا لَمْ يُثْبِتُوا الشُّفْعَةَ بِسَبَبِ
الْجِوَارِ وَالشَّرِكَةِ فِي مَرَافِقِ الْعَقَارِ، وَقَصَرُوهَا عَلَى
الشَّرِكَةِ فِي الْعَقَارِ نَفْسِهِ.
وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الاِشْتِبَاهِ: لَوْ قَضَى قَاضٍ بِهَا لاَ يُفْسَخُ
قَضَاؤُهُ. (3)
وَمِنْ الاِشْتِبَاهِ النَّاجِمِ عَنْ وُجُودِ دَلِيلٍ غَيْرِ قَوِيٍّ
عَلَى خِلاَفِ الأَْصْل: مَا قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ أَنَّ دَلاَلَةَ
الْعَامِّ الَّذِي لَمْ يُخَصَّصْ قَطْعِيُّهُ، فَيَدُل عَلَى جَمِيعِ
الأَْفْرَادِ الَّتِي يَصْدُقُ عَلَيْهَا مَعْنَاهُ. فَإِذَا دَخَلَهُ
التَّخْصِيصُ كَانَتِ دَلاَلَتُهُ ظَنِّيَّةً.
بَيْنَمَا يَرَى جُمْهُورُ الأُْصُولِيِّينَ (4) أَنَّ دَلاَلَةَ الْعَامِّ
فِي
__________
(1) حديث " الجار أحق بسقبه " أخرجه البخاري (4 / 437 - الفتح ط السلفية)
وأبو داود (3 / 786 ط عزت عبيد دعاس) .
(2) حديث " جار الدار أحق بالدار " أخرجه أبو داود والترمذي، واللفظ له، من
حديث سمرة مرفوعا، وقال الترمذي: حديث سمرة حسن صحيح، وصححه ابن حبان من
حديث أنس رضي الله عنه، وله شاهد من حديث الشريد بن سويد الثقفي رضي الله
عنه. (عون المعبود 3 / 307 ط الهند، وتحفة الأحوذي 4 / 609، 610 نشر
السلفية، وموارد الظمآن ص 281 ط دار الكتب العلمية، ومسند أحمد بن حنبل 4 /
388 نشر المكتب الإسلامي) .
(3) المغني 5 / 309 - 310.
(4) الإحكام للآمدي 3 / 180، وكشف الأسرار 1 / 307. والعام: هو اللفظ
المستغرق لجميع ما يصلح له دفعة واحدة بحسب وضع واحد، وصيغته وضعت
للاستغراق والشمول ما لم يصرفها صارف. (انظر الأسنوي 1 / 282، ومسلم الثبوت
1 / 255، وإرشاد الفحول ص 108، وكشف الأسرار 1 / 291 - 306) .
(4/298)
جَمِيعِ أَحْوَالِهِ ظَنِّيَّةٌ، إِذِ
الأَْصْل أَنَّهُ مَا مِنْ عَامٍّ إِلاَّ وَخُصِّصَ. وَمَا دَامَ الْعَامُّ
لاَ يَكَادُ يَخْلُو مِنْ مُخَصِّصٍ، فَإِنَّ هَذَا يُورِثُ شُبْهَةً
قَوِيَّةً تَمْنَعُ الْقَوْل بِقَطْعِيَّتِهِ فِي إِفَادَةِ الشُّمُول
وَالاِسْتِغْرَاقِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الْخِلاَفِ أَنَّ
الْحَنَفِيَّةَ يَمْنَعُونَ تَخْصِيصَ عَامِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
الْمُتَوَاتِرَةِ ابْتِدَاءً بِالدَّلِيل الظَّنِّيِّ، خِلاَفًا
لِلْجُمْهُورِ.
وَعَلَى هَذَا فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى تَحْرِيمِ أَكْل
ذَبِيحَةِ الْمُسْلِمِ، إِذَا تَعَمَّدَ تَرْكَ التَّسْمِيَةِ عَلَيْهَا،
لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ
اللَّهِ عَلَيْهِ} (1) وَلَمْ يُخَصِّصُوا هَذَا الْعُمُومَ بِحَدِيثِ:
ذَبِيحَةُ الْمُسْلِمِ حَلاَلٌ، ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ أَوْ لَمْ
يَذْكُرْهُ، (2) لأَِنَّهُ خَبَرُ آحَادٍ، وَقَدْ وَافَقَهُمُ
الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي تَحْرِيمِ ذَبِيحَةِ الْمُسْلِمِ
إِذَا تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا، بَيْنَمَا الشَّافِعِيَّةُ يُجِيزُونَ
أَكْلَهَا، لأَِنَّ دَلاَلَةَ الْعَامِّ عِنْدَهُمْ ظَنِّيَّةٌ، فَيَجُوزُ
تَخْصِيصُهُ بِمَا هُوَ ظَنِّيٌّ، وَإِنْ كَرِهُوا تَعَمُّدَ التَّرْكِ.
(3) وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (تَذْكِيَة، وَتَسْمِيَة) .
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيل أَيْضًا: اخْتِلاَفُ الْفُقَهَاءِ فِي سَرِقَةِ مَا
قِيمَتُهُ نِصَابٌ مِنَ الْمَاءِ الْمُحَرَّزِ، فَالأَْصْل فِي الْمَاءِ
الْمُحَرَّزِ أَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، وَأَنَّهُ مِلْكٌ لِمَنْ
أَحْرَزَهُ، وَلاَ شَرِكَةَ فِيهِ وَلاَ شُبْهَةَ الشَّرِكَةِ، وَقَدْ
وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْمَاءِ إِلاَّ مَا حُمِل. (4) وَلِهَذَا
قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ
__________
(1) سورة الأنعام / 121.
(2) حديث " ذبيحة المسلم حلال، ذكر اسم الله أم لم يذكره " أخرجه أبو داود
في المراسيل كما في نصب الراية (4 / 183 - ط المجلس العلمي) وأعله ابن
القطان بالإرسال وبجهالة أحد رواته.
(3) البدائع 5 / 45، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 106، وشرح الخطيب
المسمى بالإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 4 / 254، والمغني 8 / 581.
(4) حديث " النهي عن بيع الماء إلا ما حمل " أخرجه أبو عبيد من حديث مشيخته
بلفظ: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الماء إلا ما حمل منه
" وفي إسناده إرسال وإبهام، كما أن أبا بكر بن عبد الله بن أبي مريم ضعيف،
وفي إسناده بقية وهو مدلس وقد عنعن السند وميزان الاعتدال 1 / 331، 4 /
497، 498 ط عيسى الحلبي) .
(4/299)
بِوُجُوبِ الْقَطْعِ، يَقُول ابْنُ رُشْدٍ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الأَْشْيَاءِ الَّتِي أَصْلُهَا مُبَاحٌ، هَل
يَجِبُ فِي سَرِقَتِهَا الْقَطْعُ؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ
الْقَطْعَ فِي كُل مُتَمَوَّلٍ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَأَخْذُ الْعِوَضِ فِيهِ،
وَعُمْدَتُهُمْ عُمُومُ الآْيَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَطْعِ، يَقُول اللَّهُ
تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (1)
وَعُمُومُ الآْثَارِ الْوَارِدَةِ فِي اشْتِرَاطِ النِّصَابِ، وَمِنْهَا
مَا ثَبَتَ عَنِ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ
الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تُقْطَعُ يَدُ
السَّارِقِ إِلاَّ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا. (2)
وَيَقُول الدُّسُوقِيُّ: وَيَجِبُ الْقَطْعُ وَإِنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ
مُحَقَّرًا كَمَاءٍ وَحَطَبٍ، لأَِنَّهُ مُتَمَوَّلٌ مَا دَامَ مُحَرَّزًا،
وَلَوْ كَانَ مُبَاحَ الأَْصْل. (3) وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، (4)
وَالْقَوْل الْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. (5) لَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ، وَالْحَنَابِلَةَ يَرَوْنَ عَدَمَ الْقَطْعِ،
لأَِنَّهُ لاَ يُتَمَوَّل عَادَةً، وَلأَِنَّ الإِْبَاحَةَ الأَْصْلِيَّةَ
تُورِثُ شُبْهَةً بَعْدَ الإِْحْرَازِ، وَلأَِنَّ التَّافِهَ لاَ يُحَرَّزُ
عَادَةً، أَوْ لاَ يُحَرَّزُ إِحْرَازَ الْخَطِيرِ، وَيَنْتَهُونَ إِلَى
أَنَّ الاِعْتِمَادَ عَلَى مَعْنَى التَّفَاهَةِ دُونَ إِبَاحَةِ الأَْصْل،
__________
(1) سورة المائدة / 38.
(2) بداية المجتهد 2 / 276 وحديث " لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار
فصاعدا " رواه مسلم (3 / 1312 - ط الحلبي) والنسائي (8 / 81 - ط المكتبة
التجارية) .
(3) حاشية الدسوقي 4 / 334.
(4) الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 4 / 171، وأسنى المطالب 4 / 141.
(5) الهداية والفتح 4 / 257، والمبسوط 9 / 153.
(4/299)
وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ
السَّبَبَ شُبْهَةُ الشَّرِكَةِ. (1)
ى - الإِْبْهَامُ مَعَ عَدَمِ إِمْكَانِ الْبَيَانِ:
18 - وَمِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا طَلَّقَ الرَّجُل إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ،
دُونَ تَعْيِينِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، ثُمَّ مَاتَ قَبْل الْبَيَانِ،
فَيَحْدُثُ الاِشْتِبَاهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِيمَنْ وَقَعَ عَلَيْهَا
الطَّلاَقُ.
فَالْحَنَفِيَّةُ يُفَصِّلُونَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَحْكَامَ
الْمَهْرِ الْمُسَمَّى، وَحُكْمَ الْمِيرَاثِ، وَحُكْمَ الْعِدَّةِ.
فَأَمَّا حُكْمُ الْمَهْرِ فَإِنْ كَانَتَا مَدْخُولاً بِهِمَا فَلِكُل
وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا جَمِيعُ الْمَهْرِ، لأَِنَّ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا
تَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الْمَهْرِ، مَنْكُوحَةً كَانَتْ أَوْ مُطَلَّقَةً.
وَإِنْ كَانَتَا غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهِمَا فَلَهُمَا مَهْرٌ وَنِصْفُ
مَهْرٍ بَيْنَهُمَا، لِكُل وَاحِدَةٍ. مِنْهُمَا ثَلاَثَةُ أَرْبَاعِ
الْمَهْرِ، لأَِنَّ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يُحْتَمَل أَنْ تَكُونَ
زَوْجَةً مُتَوَفَّى عَنْهَا، وَيُحْتَمَل أَنْ تَكُونَ مُطَلَّقَةً.
فَإِنْ كَانَتْ زَوْجَةً مُتَوَفَّى عَنْهَا تَسْتَحِقُّ جَمِيعَ
الْمَهْرِ، لأَِنَّ الْمَوْتَ بِمَنْزِلَةِ الدُّخُول، وَإِنْ كَانَتْ
مُطَلَّقَةً تَسْتَحِقُّ النِّصْفَ فَقَطْ، لأَِنَّ النِّصْفَ سَقَطَ
بِالطَّلاَقِ قَبْل الدُّخُول، فَلِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كُل الْمَهْرِ
فِي حَالٍ، وَالنِّصْفُ فِي حَالٍ، وَلَيْسَتْ إِحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنَ
الأُْخْرَى، فَيَتَنَصَّفُ، فَيَكُونُ لِكُل وَاحِدَةٍ ثَلاَثَةُ أَرْبَاعِ
مَهْرٍ.
وَأَمَّا حُكْمُ الْمِيرَاثِ، فَهُوَ أَنَّهُمَا يَرِثَانِ مِنْهُ مِيرَاثَ
امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فِي الأَْحْوَال
كُلِّهَا، لأَِنَّ إِحْدَاهُمَا مَنْكُوحَةٌ بِيَقِينٍ، وَلَيْسَتْ
إِحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنَ الأُْخْرَى، فَيَكُونُ قَدْرُ مِيرَاثِ
__________
(1) فتح القدير 4 / 226، والبدائع 7 / 67 - 69، والمغني 8 / 246.
(4/300)
امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ بَيْنَهُمَا
بِالسَّوِيَّةِ.
وَأَمَّا حُكْمُ الْعِدَّةِ، فَعَلَى كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عِدَّةُ
الْوَفَاةِ وَعِدَّةُ الطَّلاَقِ، أَيُّهُمَا أَطْوَل، لأَِنَّ
إِحْدَاهُمَا مَنْكُوحَةٌ وَالأُْخْرَى مُطَلَّقَةٌ، وَعَلَى
الْمَنْكُوحَةِ عِدَّةُ الْوَفَاةِ، وَعَلَى الْمُطَلَّقَةِ عِدَّةُ
الطَّلاَقِ، فَدَارَتْ كُل وَاحِدَةٍ مِنَ الْعِدَّتَيْنِ فِي حَقِّ كُل
وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَرْأَتَيْنِ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَعَدَمِ الْوُجُوبِ،
وَالْعِدَّةُ يُحْتَاطُ فِي إِيجَابِهَا، وَمِنْ الاِحْتِيَاطِ الْقَوْل
بِوُجُوبِهَا عَلَى كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا. (1)
وَالْمَالِكِيَّةُ يُوَافِقُونَ الْحَنَفِيَّةَ (2) فِي حُكْمِ الْمِيرَاثِ
وَالصَّدَاقِ. وَلَمْ نَقِفْ عَلَى نَصٍّ لَهُمْ بِالنِّسْبَةِ
لِلْعِدَّةِ.
وَلَهُمْ فِي الصَّدَاقِ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ
(صَدَاق) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّهُمْ بِالنِّسْبَةِ لِلْمِيرَاثِ يَرَوْنَ
أَنَّهُ يُوقَفُ لِلزَّوْجَتَيْنِ مِنْ مَالِهِ نَصِيبُ زَوْجَةٍ إِلَى
أَنْ يَصْطَلِحَا، لأَِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ إِرْثُ إِحْدَاهُمَا بِيَقِينٍ،
وَلَيْسَتْ إِحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنَ الأُْخْرَى، فَإِنْ قَال وَارِثُ
الزَّوْجِ: أَنَا أَعْرِفُ الزَّوْجَةَ مِنْهُمَا فَفِيهِ قَوْلاَنِ:
أَحَدُهُمَا: يُرْجَعُ إِلَيْهِ، لأَِنَّهُ لَمَّا قَامَ مَقَامَهُ فِي
اسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ قَامَ مَقَامَهُ فِي تَعْيِينِ الزَّوْجَةِ.
وَالثَّانِي: لاَ يُرْجَعُ إِلَيْهِ، لأَِنَّ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا
زَوْجَةٌ فِي الظَّاهِرِ، وَفِي الرُّجُوعِ إِلَى بَيَانِهِ إِسْقَاطُ
وَارِثٍ مُشَارِكٍ، وَالْوَارِثُ لاَ يَمْلِكُ إِسْقَاطَ مَنْ يُشَارِكُهُ
فِي الْمِيرَاثِ. وَقِيل: إِنَّهُ فِي صُورَةِ مَا إِذَا طَلَّقَ إِحْدَى
زَوْجَتَيْهِ دُونَ تَعْيِينٍ لاَ يُرْجَعُ إِلَى الْوَارِثِ قَوْلاً
وَاحِدًا، لأَِنَّهُ اخْتِيَارُ شَهْوَةٍ. (3)
__________
(1) البدائع 3 / 226 - 227.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 275.
(3) المهذب 4 / 101 - 102، وحاشية البجيرمي على الخطيب 3 / 78.
(4/300)
وَبِالنِّسْبَةِ لِلْعِدَّةِ فَإِنَّهُمْ
قَالُوا: إِنْ لَمْ يَدْخُل بِهِمَا اعْتَدَّتْ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، لأَِنَّ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يَجُوزُ
أَنْ تَكُونَ هِيَ الزَّوْجَةُ، فَوَجَبَتِ الْعِدَّةُ عَلَيْهِمَا
لِيَسْقُطَ الْفَرْضُ بِيَقِينٍ.
وَإِنْ دَخَل بِهِمَا، فَإِنْ كَانَتَا حَامِلَيْنِ اعْتَدَّتَا بِوَضْعِ
الْحَمْل، لأَِنَّ عِدَّةَ الطَّلاَقِ وَالْوَفَاةِ فِي الْحَمْل
وَاحِدَةٌ.
وَإِنْ كَانَتَا مِنْ ذَوَاتِ الشُّهُورِ اعْتَدَّتَا بِأَرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، لأَِنَّهَا تَجْمَعُ عِدَّةَ الطَّلاَقِ وَالْوَفَاةِ،
وَإِنْ كَانَتَا مِنْ ذَوَاتِ الأَْقْرَاءِ اعْتَدَّتَا بِأَقْصَى
الأَْجَلَيْنِ. (1) وَأَمَّا الْمَهْرُ فَلَمْ نَجِدْ نَصًّا فِي
الْمَسْأَلَةِ.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ مَنْ طَلَّقَ
وَاحِدَةً مِنْ نِسَائِهِ، وَمَاتَ قَبْل الْبَيَانِ، أُخْرِجَتْ
بِالْقُرْعَةِ، فَمَنْ تَقَعُ عَلَيْهَا الْقُرْعَةُ فَلاَ مِيرَاثَ لَهَا.
وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْل
أَبِي ثَوْرٍ، لأَِنَّهُ إِزَالَةُ مِلْكٍ عَنِ الآْدَمِيِّ فَتُسْتَعْمَل
فِيهِ الْقُرْعَةُ عِنْدَ الاِشْتِبَاهِ، كَالْعِتْقِ. وَلأَِنَّ
الْحُقُوقَ تَسَاوَتْ عَلَى وَجْهٍ تَعَذَّرَ تَعَيُّنُ الْمُسْتَحِقِّ
فِيهِ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُسْتَعْمَل فِيهِ
الْقُرْعَةُ، كَالْقِسْمَةِ بَيْنَ النِّسَاءِ فِي السَّفَرِ. فَأَمَّا
قِسْمَةُ الْمِيرَاثِ بَيْنَ الْجَمِيعِ فَفِيهِ إِعْطَاءُ مَنْ لاَ
تَسْتَحِقُّ وَإِنْقَاضُ الْمُسْتَحَقِّ، وَفِي وَقْفِ قِسْمَةِ
الْمِيرَاثِ إِلَى غَيْرِ غَايَةٍ تَضْيِيعٌ لِحُقُوقِهِنَّ، وَحِرْمَانُ
الْجَمِيعِ مَنْعُ الْحَقِّ عَنْ صَاحِبِهِ يَقِينًا. (2) وَمِنْ ذَلِكَ
مَا قَالُوهُ فِي مِيرَاثِ الْغَرْقَى وَالْهَدْمَى وَالْحَرْقَى، لأَِنَّ
مِنْ شُرُوطِ الإِْرْثِ تَحَقُّقُ حَيَاةِ الْوَارِثِ وَقْتَ وَفَاةِ
الْمُوَرِّثِ. وَبِالنِّسْبَةِ لِلْغَرْقَى وَالْهَدْمَى وَالْحَرْقَى
الَّذِينَ بَيْنَهُمْ تَوَارُثٌ مَاتُوا مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبِينَ، وَلَمْ
يُعْلَمْ أَيُّهُمْ أَسْبَقُ مَوْتًا، فَإِنَّ ذَلِكَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ
__________
(1) المهذب 2 / 146 - 147.
(2) المغني 6 / 340 - 341.
(4/301)
اشْتِبَاهٌ عِنْدَ التَّوْرِيثِ، إِذْ لاَ
يُدْرَى أَيُّهُمْ أَسْبَقُ مَوْتًا، وَلِذَا فَإِنَّ جُمْهُورَ
الْفُقَهَاءِ قَالُوا: يَمْتَنِعُ التَّوَارُثُ بَيْنَهُمْ، وَإِنَّمَا
تُوَزَّعُ تَرِكَةُ كُلٍّ مِنْهُمْ عَلَى وَرَثَتِهِ الأَْحْيَاءِ دُونَ
اعْتِبَارٍ لِمَنْ مَاتَ مَعَهُ، إِذْ لاَ تَوَارُثَ بِالشَّكِّ، وَهُوَ
الْمُعْتَمَدُ، لاِحْتِمَال مَوْتِهِمْ مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبِينَ،
فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي الاِسْتِحْقَاقِ، وَاسْتِحْقَاقُ الأَْحْيَاءِ
مُتَيَقَّنٌ، وَالشَّكُّ لاَ يُعَارِضُ الْيَقِينَ (1) . وَتَفْصِيلُهُ فِي
(إِرْثٌ) .
طُرُقُ إِزَالَةِ الاِشْتِبَاهِ:
19 - مَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ أَمْرٌ مَا فَإِنَّ إِزَالَةَ الاِشْتِبَاهِ
تَكُونُ عَنْ طَرِيقِ التَّحَرِّي، أَوِ الأَْخْذِ بِالْقَرَائِنِ، أَوِ
اسْتِصْحَابِ الْحَال، أَوِ الأَْخْذِ بِالاِحْتِيَاطِ، أَوْ بِإِجْرَاءِ
الْقُرْعَةِ وَنَحْوِهَا. وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ مَا تَقَدَّمَ.
أ - التَّحَرِّي:
20 - وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ طَلَبِ الشَّيْءِ بِغَالِبِ الرَّأْيِ عِنْدَ
تَعَذُّرِ الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَقَدْ جُعِل التَّحَرِّي حُجَّةً
حَال الاِشْتِبَاهِ وَفَقْدِ الأَْدِلَّةِ، لِضَرُورَةِ الْعَجْزِ عَنِ
الْوُصُول إِلَى الْمُتَحَرَّى عَنْهُ. وَحُكْمُهُ وُقُوعُ الْعَمَل
صَوَابًا فِي الشَّرْعِ. (2)
فَمَنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ مَثَلاً، وَلَمْ يَجِدْ سَبِيلاً
لِمَعْرِفَتِهَا تَحَرَّى. لِمَا رُوِيَ عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ
أَنَّهُ قَال: كُنَّا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، فَلَمْ نَدْرِ أَيْنَ الْقِبْلَةُ،
فَصَلَّى كُل رَجُلٍ مِنَّا عَلَى حِيَالِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا
ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَنَزَل قَوْل
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 509، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي
4 / 487، والمهذب 2 / 26، والمغني 6 / 308.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 382.
(4/301)
اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {فَأَيْنَمَا
تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} . (1) وَقَال عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ: " قِبْلَةُ الْمُتَحَرِّي جِهَةُ قَصْدِهِ، وَلأَِنَّ الْعَمَل
بِالدَّلِيل الظَّاهِرِ وَاجِبٌ وَإِقَامَةٌ لِلْوَاجِبِ بِقَدْرِ
الْوُسْعِ. وَالْفُرُوضُ إِصَابَةُ عَيْنِ الْكَعْبَةِ أَوْ جِهَتِهَا
بِالاِجْتِهَادِ وَالتَّحَرِّي، (2) عَلَى تَفْصِيلٍ وَاخْتِلاَفٍ
بَيَانُهُ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِقْبَال) .
ب - الأَْخْذُ بِالْقَرَائِنِ:
21 - الْقَرِينَةُ: هِيَ الأَْمَارَةُ الَّتِي تُرَجِّحُ أَحَدَ
الْجَوَانِبِ عِنْدَ الاِشْتِبَاهِ. جَاءَ فِي فَوَاتِحِ الرَّحَمُوتِ:
أَنَّ الْقَرِينَةَ مَا يَتَرَجَّحُ بِهِ الْمَرْجُوحُ. (3) وَقَدْ تَكُونُ
الْقَرِينَةُ قَطْعِيَّةً، (4) وَقَدْ عَرَّفَتْ مَجَلَّةُ الأَْحْكَامِ
الْعَدْلِيَّةِ الْقَرِينَةَ الْقَاطِعَةَ بِأَنَّهَا: الأَْمَارَةُ
الْبَالِغَةُ حَدَّ الْيَقِينِ. (5) وَلاَ خِلاَفَ فِي أَصْل اعْتِبَارِ
الْقَرِينَةِ عَلَى مَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مُصْطَلَحِ (إِثْبَاتٌ) (ف 31)
.
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيل حُكْمُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ مِنْ بَعْدِهِ بِالْقِيَافَةِ (6) (اتِّبَاعِ
الأَْثَرِ وَتَعَرُّفِ الشَّبَهِ)
__________
(1) سبق تخريجه (ف 15) .
(2) الفتاوى الهندية 5 / 383، وتبيين الحقائق 1 / 101، والبدائع 1 / 118،
والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 223 - 227، ومواهب الجليل والتاج
والإكليل 1 / 508، ونهاية المحتاج 1 / 419 - 423، ومنهاج الطالبين وحاشية
قليوبي 1 / 136، والمهذب 1 / 74 - 75، والمغني 1 / 438، 441 - 452، وكشاف
القناع 1 / 307.
(3) فواتح الرحموت 2 / 22.
(4) مسلم الثبوت 2 / 166.
(5) المادة 1741 من المجلة.
(6) القيافة: اتباع الأثر، والقائف: هو الذي يتتبع الآثار، ويتعرف منها
الذين سلكوها، ويعرف شبه الرجل بأبيه وأخيه، ويلحق النسب عند الاشتباه لما
خصه الله تعالى به من علم ذلك.
(4/302)
وَجَعْلُهَا دَلِيلاً يَثْبُتُ بِهِ
النَّسَبُ عِنْدَ الاِشْتِبَاهِ. (1) وَإِذَا تَدَاعَى رَجُلاَنِ شَيْئًا،
وَقَدَّمَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَيِّنَةَ قَبُولِهِ، وَتَسَاوَيَا فِي
الْعَدَالَةِ، وَاشْتَبَهَ الأَْمْرُ عَلَى الْقَاضِي، فَإِنْ كَانَ
الْمُدَّعَى بِهِ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا كَانَ ذَلِكَ قَرِينَةً تُرَجِّحُ
جَانِبَهُ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الدَّاخِل
عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ عِنْدَ التَّكَافُؤِ عَلَى مَا هُوَ
الْمَشْهُورُ. (2)
ج - اسْتِصْحَابُ الْحَال:
22 - الْمُرَادُ بِهِ اسْتِبْقَاءُ حُكْمٍ ثَبَتَ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي
عَلَى مَا كَانَ، وَاعْتِبَارُهُ مَوْجُودًا مُسْتَمِرًّا إِلَى أَنْ
يُوجَدَ دَلِيلٌ يُغَيِّرُهُ. وَقَدْ عَرَّفُوهُ بِأَنَّهُ اسْتِدْلاَلٌ
بِالْمُتَحَقِّقِ فِي الْمَاضِي عَلَى الْوُقُوعِ فِي الْحَال. (3) وَقَال
الشَّوْكَانِيُّ: الْمُرَادُ اسْتِصْحَابُ الْحَال لأَِمْرٍ وُجُودِيٍّ
أَوْ عَدَمِيٍّ،
عَقْلِيٍّ أَوْ شَرْعِيٍّ (4) . فَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مُتَوَضِّئٌ، ثُمَّ
شَكَّ فِي طُرُوءِ الْحَدَثِ، فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ وَبَقَاءِ
وُضُوئِهِ مَا لَمْ يَثْبُتْ خِلاَفُ ذَلِكَ، لأَِنَّ الطَّهَارَةَ
الثَّابِتَةَ بِيَقِينٍ لاَ يُحْكَمُ بِزَوَالِهَا بِالشَّكِّ. (5)
وَتَفْصِيل الْكَلاَمِ فِي حُجِّيَّةِ الاِسْتِصْحَابِ وَالتَّرْجِيحِ بِهِ
عِنْدَ الاِشْتِبَاهِ وَانْعِدَامِ الدَّلِيل سَبَقَ بَيَانُهُ فِي
مُصْطَلَحِ (اسْتِصْحَاب) .
د - الأَْخْذُ بِالاِحْتِيَاطِ:
23 - جَاءَ فِي اللُّغَةِ: الاِحْتِيَاطُ طَلَبُ الأَْحَظِّ وَالأَْخْذُ
بِأَوْثَقِ الْوُجُوهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمُ: افْعَل الأَْحْوَطَ.
__________
(1) الطرق الحكمية ص 11 ط المدني.
(2) التبصرة بهامش فتح العلي المالك 1 / 280 ط مصطفى محمد.
(3) مسلم الثبوت وشرحه 2 / 359 ط الأميرية
(4) إرشاد الفحول ص 237 ط. الحلبي.
(5) البدائع 1 / 26، والقواعد لابن رجب ص 235.
(4/302)
وَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ
عِنْدَ الاِشْتِبَاهِ مَثَلاً، فِيمَا إِذَا وَجَدَ الزَّوْجَانِ فِي
فِرَاشِهِمَا الْمُشْتَرَكِ مَنِيًّا، وَلَمْ يَذْكُرْ كُلٌّ مِنْهُمَا
مَصْدَرَهُ، وَقَال الزَّوْجُ: إِنَّهُ مِنَ الْمَرْأَةِ وَلَعَلَّهَا
احْتَلَمَتْ، وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ: إِنَّهُ مِنَ الرَّجُل وَلَعَلَّهُ
احْتَلَمَ، فَالأَْصَحُّ أَنَّهُ يَجِبُ الْغُسْل عَلَيْهِمَا احْتِيَاطًا
(1) . كَمَا نَصُّوا فِي بَابِ الْعِدَّةِ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ
الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا، وَاخْتَلَى بِهَا زَوْجُهَا ثُمَّ فَارَقَهَا،
فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ احْتِيَاطًا، وَإِنْ لَمْ يَدْخُل بِهَا، لأَِنَّ
الْخَلْوَةَ مَثَارُ الشُّبْهَةِ، وَهَذَا لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى
الأَْعْرَاضِ وَالأَْنْسَابِ. (2)
هـ - الاِنْتِظَارُ لِمُضِيِّ الْمُدَّةِ:
24 - وَهَذَا يَكُونُ فِيمَا لَهُ مُدَّةٌ مُحَدَّدَةٌ، كَدُخُول شَهْرِ
رَمَضَانَ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُول: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ
الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} . (3) فَإِنِ اشْتَبَهَ الأَْمْرُ وَغُمَّ
الْهِلاَل وَجَبَ إِكْمَال شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ يَوْمًا، (4) لِخَبَرِ
صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ
فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ يَوْمًا. (5)
و إِجْرَاءُ الْقُرْعَةِ:
25 - يَقُول الْقَرَافِيُّ: مَتَى تَعَيَّنَتِ الْمَصْلَحَةُ أَوِ الْحَقُّ
فِي جِهَةٍ فَلاَ يَجُوزُ الإِْقْرَاعُ، لأَِنَّ فِي الْقُرْعَةِ ضَيَاعَ
ذَلِكَ الْحَقِّ الْمُعَيَّنِ وَالْمَصْلَحَةِ الْمُتَعَيِّنَةِ، وَمَتَى
تَسَاوَتِ الْحُقُوقُ وَالْمَصَالِحُ، وَاشْتُبِهَ فِي الْمُسْتَحِقِّ
فَهَذَا هُوَ
__________
(1) المصباح المنير مادة: (حوط) ، والفتاوى الهندية 1 / 15.
(2) إرشاد الفحول ص 244 - 245.
(3) سورة البقرة / 185.
(4) تبيين الحقائق 1 / 316، ومواهب الجليل 2 / 377، والمهذب 1 / 186، وكشاف
القناع 2 / 300.
(5) حديث " صوموا لرؤيته " أخرجه البخاري ومسلم (فتح الباري 4 / 119 ط
السلفية، وصحيح مسلم 2 / 762 - ط الحلبي) .
(4/303)
مَوْضِعُ الْقُرْعَةِ عِنْدَ التَّنَازُعِ،
مَنْعًا لِلضَّغَائِنِ. (1) وَتَفْصِيلَةُ فِي (إِثْبَاتٌ) (ف / 36) وَفِي
(قُرْعَة) .
الأَْثَرُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى الاِشْتِبَاهِ:
26 - دَرْءُ الْحَدِّ: مِنْ أَظْهَرْ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الاِشْتِبَاهِ
مِنْ آثَارٍ: دَرْءُ الْحَدِّ عَنِ الْجَانِي. فَقَدْ رَوَتِ السَّيِّدَةُ
عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ. (2) وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ادْرَءُوا الْحُدُودَ
بِالشُّبُهَاتِ. (3) إِلَخْ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: لأََنْ أُعَطِّل الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ
أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُقِيمَهَا بِالشُّبُهَاتِ (4) .
وَيَقُول الْكَاسَانِيُّ: إِنَّ الْحَدَّ عُقُوبَةٌ مُتَكَامِلَةٌ
فَيَسْتَدْعِي جِنَايَةً مُتَكَامِلَةً، فَإِذَا كَانَتْ هُنَاكَ شُبْهَةٌ
كَانَتِ الْجِنَايَةُ غَيْرَ مُتَكَامِلَةٍ. (5)
27 - وَمِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى الاِشْتِبَاهِ مِنْ آثَارٍ عَمَلِيَّةٍ
عِنْدَ اشْتِبَاهِ الْمُصَلِّي: وُجُوبُ سُجُودِ السَّهْوِ جَبْرًا،
لِتَرْكِ
__________
(1) التبصرة لابن فرحون 2 / 96، والقواعد لابن رجب ص 348 - 350.
(2) حديث " ادرءوا الحدود عن المسلمين. . . . " أخرجه الترمذي (4 / 33 طبع
الحلبي) والحاكم (4 / 384 - ط دائرة المعارف العثمانية) . وضعفه ابن حجر في
التلخيص (4 / 56 - ط دار المحاسن بالقاهرة) .
(3) حديث " ادرءوا الحدود بالشبهات " أخرجه البيهقي (8 / 238 - دائرة
المعارف العثمانية) بلفظ: " ادرءوا القتل والجلد عن المسلمين ما استطعتم "
وذكر ابن حجر في التلخيص تصحيحه عن البيهقي. (4 / 56 ط دار المحاسن
بالقاهرة) .
(4) الأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه " لأن أعطل الحدود بالشبهات. . .
" أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (9 / 566 - الدار السلفية) وحكم عليه ابن
حجر في التلخيص بالانقطاع (4 / 56 ط دار المحاسن بالقاهرة) .
(5) البدائع 7 / 34.
(4/303)
الْوَاجِبِ الأَْصْلِيِّ فِي الصَّلاَةِ
أَوْ تَغْيِيرِهِ، أَوْ تَغْيِيرِ فَرْضٍ مِنْهَا عَنْ مَحَلِّهِ
الأَْصْلِيِّ سَاهِيًا، فَيَجِبُ جَبْرُهُ بِالسُّجُودِ. (1)
فَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ فَلَمْ
يَدْرِ كَمْ صَلَّى. ثَلاَثًا أَمْ أَرْبَعًا؟ فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ،
وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قَبْل أَنْ
يُسَلِّمَ. فَإِنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا شَفَعْنَ لَهُ صَلاَتَهُ وَإِنْ
كَانَ صَلَّى إِتْمَامًا لأَِرْبَعٍ كَانَتَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ.
(2) وَلأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ الإِْتْيَانِ بِمَا شَكَّ فِيهِ، فَلَزِمَهُ
الإِْتْيَانُ بِهِ. (3) كَمَا لَوْ شَكَّ هَل صَلَّى أَوْ لاَ. وَتَفْصِيل
ذَلِكَ فِي (سُجُود السَّهْوِ) .
28 - وَمِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى اشْتِبَاهِ الْقَاضِي فِيمَا يَنْبَغِي
أَنْ يَحْكُمَ بِهِ فِي الدَّعْوَى الَّتِي يَنْظُرُهَا: مُشَاوَرَةُ
الْفُقَهَاءِ لِلاِسْتِئْنَاسِ بِرَأْيِهِمْ، وَذَلِكَ نَدْبًا عِنْدَ
جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَوُجُوبًا فِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ،
وَقَدْ كَانَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا جَلَسَ أَحْضَرَ
أَرْبَعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ ثُمَّ اسْتَثَارَهُمْ، فَإِنْ رَأَوْا مَا
رَآهُ أَمْضَاهُ (4) . يَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا نَزَل بِالْقَاضِي
الأَْمْرُ
__________
(1) البدائع 1 / 164.
(2) حديث " إذا شك أحدكم فلم يدركم صلى. . " أخرجه مسلم (1 / 400 - الحلبي)
.
(3) المغني 2 / 16 - 17.
(4) الأثر أخرجه البيهقي بلفظ: " كان عثمان رضي الله عنه إذا جلس على
المقاعد جاءه الخصمان فقال لأحدهما: اذهب ادع عليا، وقال: للآخر اذهب فادع
طلحة والزبير ونفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يقول لهما:
تكلما ثم يقبل على القوم فيقول: ما تقولون؟ فإ
(4/304)
الْمُشْكِل عَلَيْهِ مِثْلُهُ شَاوَرَ
فِيهِ أَهْل الْعِلْمِ وَالأَْمَانَةِ. ثُمَّ قَال: لأَِنَّهُ قَدْ
يَنْتَبِهُ بِالْمُشَاوَرَةِ، وَيَذْكُرُ مَا نَسِيَهُ بِالْمُذَاكَرَةِ.
وَالْمُشَاوَرَةُ هُنَا لاِسْتِخْرَاجِ الأَْدِلَّةِ، وَيَعْرِفُ الْقَاضِي
الْحَقَّ بِالاِجْتِهَادِ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ مَا
دَامَ مُجْتَهِدًا. وَمِنْ أَجْل تَيْسِيرِ أَمْرِ الْمَشُورَةِ عَلَى
الْقَاضِي، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَحْضُرَ مَجْلِسَ الْمَاضِي أَهْل
الْعِلْمِ مِنْ كُل مَذْهَبٍ، حَتَّى إِذَا حَدَثَتْ حَادِثَةٌ يَفْتَقِرُ
إِلَى أَنْ يَسْأَلَهُمْ عَنْهَا، سَأَلَهُمْ لِيَذْكُرُوا أَدِلَّتَهُمْ
فِيهَا وَجَوَابَهُمْ فِيهَا. (1)
29 - كَمَا قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى الاِشْتِبَاهِ وَقْفُ قِسْمَةِ
التَّرِكَةِ، أَوْ الاِحْتِفَاظُ بِقَدْرٍ مِنْهَا، كَمَا إِذَا كَانَ
ضِمْنَ الْوَرَثَةِ حَمْلٌ عِنْدَ وَفَاةِ الْمُوَرِّثِ، وَلاَ يُدْرَى
أَذَكَرٌ هُوَ أَمْ أُنْثَى، حَتَّى يُعْلَمَ نَصِيبُهُ، أَوْ أَصْل
اسْتِحْقَاقِهِ فِي الإِْرْثِ، وَكَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَفْقُودِ
وَالأَْسِيرِ، فَإِنَّهُ يُجْعَل حَيًّا بِالنِّسْبَةِ لِمَالِهِ حَتَّى
يَقُومَ الدَّلِيل عَلَى وَفَاتِهِ، وَيُجْعَل مَيِّتًا فِي مَال غَيْرِهِ،
لَكِنْ يُوقَفُ لَهُ نَصِيبُهُ كَمَا يُوقَفُ نَصِيبُ الْحَمْل حَتَّى
يَتَبَيَّنَ حَالُهُ أَوْ يُقْضَى بِاعْتِبَارِهِ مَيِّتًا. (2)
وَتَفْصِيل كُل ذَلِكَ وَبَيَانُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِرْثٌ) .
اشْتِرَاط
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِشْتِرَاطُ لُغَةً: مَصْدَرٌ لِلْفِعْل اشْتَرَطَ،
__________
(1) البدائع 7 / 5، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 139، والمهذب 2 /
298، والمغني 9 / 50، 52.
(2) شرح السراجية، والبدائع 6 / 196، وحاشية الدسوقي 4 / 480 فما بعدها،
ونهاية المحتاج 6 / 28 فما بعدها، والمغني 6 / 108، 253، 313، 321.
(4/304)
وَاشْتَرَطَ مَعْنَاهُ: شَرَطَ. تَقُول
الْعَرَبُ: شَرَطَ عَلَيْهِ كَذَا أَيْ أَلْزَمَهُ بِهِ، فَالاِشْتِرَاطُ
يَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى مَعْنَى الشَّرْطِ.
وَالشَّرْطُ (بِسُكُونِ الرَّاءِ) لَهُ عِدَّةُ مَعَانٍ، مِنْهَا:
إِلْزَامُ الشَّيْءِ وَالْتِزَامُهُ. قَال فِي الْقَامُوسِ: الشَّرْطُ
إِلْزَامُ الشَّيْءِ وَالْتِزَامُهُ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ،
كَالشَّرِيطَةِ، (1) وَيُجْمَعُ عَلَى شَرَائِطَ وَشُرُوطٍ. وَالشَّرَطُ
(بِفَتْحِ الرَّاءِ) مَعْنَاهُ الْعَلاَمَةُ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَشْرَاطٍ.
وَاَلَّذِي يَعْنِي بِهِ الْفُقَهَاءُ هُوَ الشَّرْطُ (بِسُكُونِ الرَّاءِ)
وَهُوَ إِلْزَامُ الشَّيْءِ وَالْتِزَامُهُ. فَإِنْ اشْتَرَطَ الْمُوَكِّل
عَلَى الْوَكِيل شَرْطًا فَلاَ بُدَّ لِلْوَكِيل أَنْ يَتَقَيَّدَ بِهِ.
وَكَذَلِكَ سَائِرُ الشُّرُوطِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ
الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَلاَ بُدَّ مِنَ الْتِزَامِهَا وَعَدَمِ الْخُرُوجِ
عَنْهَا. (2)
أَمَّا الاِشْتِرَاطُ فِي الاِصْطِلاَحِ، فَقَدْ عَرَّفَ الأُْصُولِيُّونَ
الشَّرْطَ بِأَنَّهُ: مَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ، وَلاَ
يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودٌ وَلاَ عَدَمٌ لِذَاتِهِ، وَلاَ يَشْتَمِل
عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ فِي ذَاتِهِ بَل فِي غَيْرِهِ. (3)
وَالشَّرْطُ بِهَذَا الْمَعْنَى يُخَالِفُ الْمَانِعَ، إِذْ يَلْزَمُ مِنْ
وُجُودِهِ الْعَدَمُ. وَيُخَالِفُ السَّبَبَ، إِذْ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ
الْوُجُودُ، وَمِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ. وَيُخَالِفُ جُزْءَ الْعِلَّةِ،
لأَِنَّهُ يَشْتَمِل عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ، لأَِنَّ جُزْءَ
الْمُنَاسِبِ مُنَاسِبٌ. (4)
__________
(1) القاموس المحيط مادة: (شرط) .
(2) لسان العرب، والصحاح مادة: (شرط) .
(3) الفروق للقرافي 1 / 59، 61 ط إحياء الكتب العربية.
(4) كشف الأسرار للبزدوي 4 / 173 ط دار الكتاب العربي، وأصول السرخسي 2 /
303 ط حيدر آباد، والتلويح على التوضيح 1 / 45.
(4/305)
2 - وَالشَّرْطُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ
قَدْ يَكُونُ عَقْلِيًّا، أَوْ شَرْعِيًّا، أَوْ عَادِيًّا، أَوْ
لُغَوِيًّا، بِاعْتِبَارِ الرَّابِطِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَمَشْرُوطِهِ، إِنْ
كَانَ سَبَبُهُ الْعَقْل، أَوِ الشَّرْعَ، أَوِ الْعَادَةَ، أَوِ
اللُّغَةَ. وَهُنَاكَ أَقْسَامٌ أُخْرَى لِلشَّرْطِ يَذْكُرُهَا
الأُْصُولِيُّونَ فِي كُتُبِهِمْ. وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ الْمُلْحَقُ
الأُْصُولِيُّ. (1)
3 - أَمَّا الشَّرْطُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَهُوَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: الشَّرْطُ الْحَقِيقِيُّ (الشَّرْعِيُّ) ، وَثَانِيهَا:
الشَّرْطُ الْجَعْلِيُّ. وَفِيمَا يَلِي مَعْنَى كُلٍّ مِنْهُمَا:
أ - الشَّرْطُ الْحَقِيقِيُّ:
4 - الشَّرْطُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ
الشَّيْءِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، كَالْوُضُوءِ بِالنِّسْبَةِ لِلصَّلاَةِ،
فَإِنَّ الصَّلاَةَ لاَ تُوجَدُ بِلاَ وُضُوءٍ، لأَِنَّ الْوُضُوءَ شَرْطٌ
لِصِحَّتِهَا. وَأَمَّا الْوُضُوءُ فَإِنَّهُ يُوجَدُ، فَلاَ يَتَرَتَّبُ
عَلَى وُجُودِهِ وُجُودُ الصَّلاَةِ، وَلَكِنْ يَتَرَتَّبُ عَلَى
انْتِفَائِهِ انْتِفَاءُ صِحَّةِ الصَّلاَةِ.
ب - الشَّرْطُ الْجَعْلِيُّ:
5 - الشَّرْطُ الْجَعْلِيُّ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: الشَّرْطُ التَّعْلِيقِيُّ، وَهُوَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ
الْحُكْمُ وَلاَ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ، كَالطَّلاَقِ الْمُعَلَّقِ عَلَى
دُخُول الدَّارِ، كَمَا إِذَا قَال لَهَا: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ
طَالِقٌ، فَإِنَّ الطَّلاَقَ مُرَتَّبٌ عَلَى دُخُولِهَا الدَّارَ، فَلاَ
يَلْزَمُ مِنِ انْتِفَاءِ الدُّخُول انْتِفَاءُ الطَّلاَقِ، بَل قَدْ
يَقَعُ الطَّلاَقُ بِسَبَبٍ آخَرَ. (2)
__________
(1) الفروق 1 / 61، 62، وانظر مصطلح (شرط) .
(2) التلويح على التوضيح 1 / 145، 146.
(4/305)
وَثَانِيهِمَا: الشَّرْطُ الْمُقَيَّدُ،
وَمَعْنَاهُ الْتِزَامُ أَمْرٍ لَمْ يُوجَدْ فِي أَمْرٍ وُجِدَ بِصِيغَةٍ
مَخْصُوصَةٍ. (1) وَالاِشْتِرَاطُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ فِعْل
الْمُشْتَرَطِ، بِأَنْ يُعَلِّقَ أَحَدَ تَصَرُّفَاتِهِ، أَوْ يُقَيِّدَهَا
بِالشَّرْطِ، فَمَعْنَى الاِشْتِرَاطِ لاَ يَتَحَقَّقُ إِلاَّ فِي
الشَّرْطِ الْجَعْلِيِّ. وَسَيَأْتِي التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (شَرْطٌ)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّعْلِيقُ:
6 - فَرَّقَ الزَّرْكَشِيُّ فِي قَوَاعِدِهِ بَيْنَ الاِشْتِرَاطِ
وَالتَّعْلِيقِ، بِأَنَّ التَّعْلِيقَ مَا دَخَل عَلَى أَصْل الْفِعْل
بِأَدَاتِهِ، كَإِنْ وَإِذَا، وَالشَّرْطُ مَا جُزِمَ فِيهِ بِالأَْصْل،
وَشُرِطَ فِيهِ أَمْرٌ آخَرُ. (2)
وَقَال الْحَمَوِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى ابْنِ نُجَيْمٍ فِي الْفَرْقِ
بَيْنَهُمَا: إِنَّ التَّعْلِيقَ تَرْتِيبُ أَمْرٍ لَمْ يُوجَدْ عَلَى
أَمْرٍ يُوجَدُ، بِإِنْ أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا، وَالشَّرْطُ الْتِزَامُ
أَمْرٍ لَمْ يُوجَدْ فِي أَمْرٍ وُجِدَ بِصِيغَةٍ مَخْصُوصَةٍ. (3)
الاِشْتِرَاطُ الْجَعْلِيُّ وَأَثَرُهُ عَلَى التَّصَرُّفَاتِ
7 - الاِشْتِرَاطُ الْجَعْلِيُّ قَدْ يَكُونُ تَعْلِيقِيًّا، وَقَدْ
يَكُونُ تَقْيِيدِيًّا، فَالاِشْتِرَاطُ التَّعْلِيقِيُّ. هُوَ عِبَارَةٌ
عَنْ مَعْنًى يَعْتَبِرُهُ الْمُكَلَّفُ، وَيُعَلِّقُ عَلَيْهِ تَصَرُّفًا
مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ، كَالطَّلاَقِ، وَالْبَيْعِ وَغَيْرِهِمَا. وَقَدْ
سَبَقَ أَنَّ التَّعْلِيقَ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْتِيبِ أَمْرٍ لَمْ
يُوجَدْ عَلَى أَمْرٍ يُوجَدُ، بِإِنْ أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا.
فَالاِشْتِرَاطُ التَّعْلِيقِيُّ هُوَ فِعْل
__________
(1) غمز عيون البصائر للحموي 2 / 225 ط العامرة.
(2) المنثور للزركشي 1 / 371 ط وزارة أوقاف الكويت.
(3) الحموي على ابن نجيم 2 / 225 ط العامرة.
(4/306)
الْمُشْتَرَطِ، كَأَنْ يُعَلِّقَ أَحَدَ
تَصَرُّفَاتِهِ عَلَى الشَّرْطِ (1) .
هَذَا، وَلِصِحَّةِ التَّعْلِيقِ شُرُوطٌ يَذْكُرُهَا الْفُقَهَاءُ فِي
كُتُبِهِمْ.
مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا يُمْكِنُ
الْوُقُوفُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لَوْ عَلَّقَ الطَّلاَقَ بِمَشِيئَةِ
اللَّهِ تَعَالَى لاَ يَقَعُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ،
لأَِنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لاَ يُمْكِنُ الْوُقُوفُ
عَلَيْهَا. (2)
وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ أَمْرًا مُسْتَقْبَلاً،
بِخِلاَفِ الْمَاضِي، فَإِنَّهُ لاَ مَدْخَل لِلتَّعْلِيقِ فِيهِ، فَهُوَ
تَنْجِيزٌ حَقِيقَةً، وَإِنْ كَانَ تَعْلِيقًا فِي الصُّورَةِ. (3)
وَمِنْهَا: أَلاَّ يَفْصِل بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ بِمَا يُعْتَبَرُ
فَاصِلاً فِي الْعَادَةِ، فَإِنْ فَعَل ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ التَّعْلِيقُ.
(4)
وَلِلاِشْتِرَاطِ التَّعْلِيقِيِّ أَثَرُهُ عَلَى التَّصَرُّفَاتِ إِذَا
اشْتَرَطَهُ الْمُشْتَرِطُ، فَإِنَّ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ مَا يَقْبَل
التَّعْلِيقَ، وَمِنْهَا مَا لاَ يَقْبَلُهُ. (5)
التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي لاَ تَقْبَل التَّعْلِيقَ:
8 - مِنْهَا: الْبَيْعُ، وَهُوَ مِنَ التَّمْلِيكَاتِ، لاَ يَقْبَل
الاِشْتِرَاطَ التَّعْلِيقِيَّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّ الْبَيْعَ فِيهِ انْتِقَالٌ
لِلْمِلْكِ مِنْ طَرَفٍ
__________
(1) راجع مصطلح (شرط) .
(2) تبيين الحقائق 2 / 243 ط دار المعرفة، وقليوبي وعميرة 3 / 342 ط
الحلبي.
(3) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 376 ط الحلبي.
(4) كشاف القناع 5 / 284 ط الرياض.
(5) المنثور للزركشي 1 / 370 ط وزارة أوقاف الكويت، والفروق 1 / 228، 229 ط
إحياء الكتب العربية، وجامع الفصولين 2 / 1 - 4 ط بولاق، وتبيين الحقائق 5
/ 148، 149 ط دار المعرفة، والفتاوى الهندية 4 / 396 ط تركيا، وانظر مصطلح
(شرط) .
(4/306)
إِلَى طَرَفٍ، وَانْتِقَال الأَْمْلاَكِ
إِنَّمَا يَعْتَمِدُ الرِّضَا، وَالرِّضَا يَعْتَمِدُ الْجَزْمَ، وَلاَ
جَزْمَ مَعَ التَّعْلِيقِ (1) .
وَمِنْهَا: النِّكَاحُ، فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ عَلَى أَمْرٍ
فِي الْمُسْتَقْبَل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي بَابِ
النِّكَاحِ. (2)
التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي تَقْبَل الاِشْتِرَاطَ التَّعْلِيقِيَّ:
9 - مِنْهَا: الْكَفَالَةُ، فَإِنَّهَا تَقْبَل الاِشْتِرَاطَ
التَّعْلِيقِيَّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الأَْصَحِّ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ يَأْتِي
فِي مَوْضِعِهِ. (3)
هَذَا، وَبِالنَّظَرِ إِلَى مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِي التَّصَرُّفَاتِ
عَلَى اخْتِلاَفِ أَنْوَاعِهَا مِنَ التَّمْلِيكَاتِ وَالْمُعَاوَضَاتِ
وَالاِلْتِزَامَاتِ وَالإِْطْلاَقَاتِ وَالإِْسْقَاطَاتِ وَالتَّبَرُّعَاتِ
وَالْوِلاَيَاتِ، فَإِنَّنَا نَجِدُهُمْ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّ بَعْضَ
هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ لاَ يَقْبَل الاِشْتِرَاطَ التَّعْلِيقِيَّ
مُطْلَقًا، كَالتَّمْلِيكَاتِ، وَالْمُعَاوَضَاتِ، وَالأَْيْمَانِ
بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَالإِْقْرَارِ. وَبَعْضُهَا يَقْبَل الاِشْتِرَاطَ
التَّعْلِيقِيَّ مُطْلَقًا، كَالْوِلاَيَاتِ وَالاِلْتِزَامِ بِبَعْضِ
الطَّاعَاتِ، كَالنَّذْرِ مَثَلاً وَالإِْطْلاَقَاتِ. وَبَعْضُهَا فِيهِ
الْخِلاَفُ مِنْ حَيْثُ قَبُولِهِ الاِشْتِرَاطَ التَّعْلِيقِيَّ أَوْ
عَدَمِ قَبُولِهِ لَهُ، كَالإِْسْقَاطَاتِ وَبَعْضِ عُقُودِ
التَّبَرُّعَاتِ
__________
(1) الفتاوى الهندية 4 / 396 ط تركيا، والفروق للقرافي 1 / 229 ط إحياء
الكتب العربية، وقليوبي وعميرة 2 / 154، ومنتهى الإرادات 1 / 354 ط دار
المعرفة.
(2) الفتاوى الهندية 4 / 396، ومواهب الجليل 3 / 446 ط النجاح، والمنثور 1
/ 373، وكشاف القناع 5 / 98
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 368، وتبيين الحقائق 5 / 148، ورد
المحتار 5 / 354، والفتاوى الهندية 4 / 396، ومواهب الجليل 5 / 101، ومغني
المحتاج 3 / 306 ط الحلبي، ومنتهى الإرادات 1 / 414، وراجع مصطلح (شرط،
وكفالة) .
(4/307)
وَغَيْرِهَا. وَسَيَأْتِي تَفْصِيل ذَلِكَ
كُلِّهِ فِي مُصْطَلَحِ: (شَرْط) .
الاِشْتِرَاطُ التَّقْيِيدِيُّ وَأَثَرُهُ
10 - سَبَقَ أَنَّ الاِشْتِرَاطَ التَّقْيِيدِيَّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ
مَعْنَاهُ: الْتِزَامُ أَمْرٍ لَمْ يُوجَدْ فِي أَمْرٍ وُجِدَ بِصِيغَةٍ
مَخْصُوصَةٍ. (1) أَوْ أَنَّهُ: مَا جُزِمَ فِيهِ بِالأَْصْل وَشُرِطَ
فِيهِ أَمْرٌ آخَرُ (2) . فَالشَّرْطُ بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ
يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى الاِشْتِرَاطِ، لأَِنَّ الْتِزَامَ أَمْرٍ لَمْ
يُوجَدْ فِي أَمْرٍ وُجِدَ، أَوِ اشْتِرَاطُ أَمْرٍ آخَرَ بَعْدَ الْجَزْمِ
بِالأَْصْل هُوَ الاِشْتِرَاطُ. وَلِهَذَا الشَّرْطُ أَثَرُهُ عَلَى
التَّصَرُّفَاتِ إِذَا اُشْتُرِطَ فِيهَا مِنْ حَيْثُ الصِّحَّةِ
وَالْفَسَادِ أَوِ الْبُطْلاَنِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ التَّصَرُّفَ إِذَا قُيِّدَ بِشَرْطٍ فَلاَ يَخْلُو
هَذَا الشَّرْطُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا أَوْ فَاسِدًا أَوْ
بَاطِلاً.
فَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ صَحِيحًا، كَمَا لَوِ اُشْتُرِطَ فِي الْبَقَرَةِ
كَوْنُهَا حَلُوبًا فَالْبَيْعُ جَائِزٌ، لأَِنَّ الْمَشْرُوطَ صِفَةٌ
لِلْمَبِيعِ أَوِ الثَّمَنِ، وَهِيَ صِفَةٌ مَحْضَةٌ لاَ يُتَصَوَّرُ
انْقِلاَبُهَا أَصْلاً، وَلاَ يَكُونُ لَهَا حِصَّةٌ مِنَ الثَّمَنِ
بِحَالٍ. (3)
وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ بَاطِلاً أَوْ فَاسِدًا، كَمَا لَوِ اشْتَرَى
نَاقَةً عَلَى أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا بَعْدَ شَهْرَيْنِ، كَانَ الْبَيْعُ
فَاسِدًا. (4)
__________
(1) الحموي على ابن نجيم 2 / 225 ط العامرة.
(2) المنثور 1 / 37.
(3) بدائع الصنائع 5 / 173، والشرح الكبير 3 / 108، ومغني المحتاج 3 / 24،
وكشاف القناع 3 / 888.
(4) بدائع الصنائع 5 / 169، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 309، 310،
ومغني المحتاج 3 / 33.
(4/307)
وَكَمَا لَوْ قَال: بِعْتُكَ دَارِي عَلَى
أَنْ تُزَوِّجَنِي ابْنَتَكَ، أَوْ عَلَى أَنْ أُزَوِّجَكَ ابْنَتِي لَمْ
يَصِحَّ، لاِشْتِرَاطِهِ عَقْدًا آخَرَ، وَلِشَبَهِهِ بِنِكَاحِ
الشِّغَارِ. (1)
وَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ الَّذِينَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْفَاسِدِ
وَالْبَاطِل يَذْكُرُونَ لَهُ ثَلاَثَةَ أَقْسَامٍ: صَحِيحٌ، وَفَاسِدٌ،
وَبَاطِلٌ. وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
الَّذِينَ لاَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِل، وَيَقُولُونَ
بِأَنَّهُمَا وَاحِدٌ، يَذْكُرُونَ لَهُ قِسْمَيْنِ: صَحِيحٌ، وَفَاسِدٌ
أَوْ بَاطِلٌ. كَمَا أَنَّ الْفُقَهَاءَ يَذْكُرُونَ لِلشَّرْطِ الصَّحِيحِ
أَنْوَاعًا وَلِلشَّرْطِ الْفَاسِدِ أَنْوَاعًا، وَإِنَّ مِنَ الشُّرُوطِ
الْفَاسِدَةِ مَا يُفْسِدُ التَّصَرُّفَ وَيُبْطِلُهُ، وَمِنْهَا مَا
يَبْقَى التَّصَرُّفُ مَعَهُ صَحِيحًا. وَسَيَأْتِي تَفْصِيل ذَلِكَ إِنْ
شَاءَ اللَّهُ فِي مُصْطَلَحِ (شَرْط) .
ضَوَابِطُ الاِشْتِرَاطِ التَّقْيِيدِيِّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ
11 - الاِشْتِرَاطُ التَّقْيِيدِيُّ قِسْمَانِ: صَحِيحٌ، وَفَاسِدٌ أَوْ
بَاطِلٌ. الْقِسْمُ الأَْوَّل: الاِشْتِرَاطُ الصَّحِيحُ:
12 - الاِشْتِرَاطُ الصَّحِيحُ ضَابِطُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ
اشْتِرَاطُ صِفَةٍ قَائِمَةٍ بِمَحَل الْعَقْدِ وَقْتَ صُدُورِهِ، أَوِ
اشْتِرَاطُ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ أَوْ مَا يُلاَئِمُ مُقْتَضَاهُ،
أَوِ اشْتِرَاطُ مَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ دَلِيلٌ بِجَوَازِ اشْتِرَاطِهِ،
أَوِ اشْتِرَاطُ مَا جَرَى عَلَيْهِ التَّعَامُل بَيْنَ النَّاسِ. (2)
وَضَابِطُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ اشْتِرَاطُ صِفَةٍ قَائِمَةٍ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 193.
(2) بدائع الصنائع 5 / 171 - 174 ط الجمالية.
(4/308)
بِمَحَل الْعَقْدِ وَقْتَ صُدُورِهِ، أَوِ
اشْتِرَاطُ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، أَوِ اشْتِرَاطُ مَا لاَ
يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَلاَ يُنَافِيهِ. (1)
وَضَابِطُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ اشْتِرَاطُ صِفَةٍ قَائِمَةٍ
بِمَحَل الْعَقْدِ وَقْتَ صُدُورِهِ، أَوِ اشْتِرَاطُ مَا يَقْتَضِيهِ
الْعَقْدُ، أَوِ اشْتِرَاطُ مَا يُحَقِّقُ مَصْلَحَةً مَشْرُوعَةً
لِلْعَاقِدَيْنِ، أَوِ اشْتِرَاطُ الْعِتْقِ لِتَشَوُّفِ الشَّارِعِ
إِلَيْهِ. (2)
وَضَابِطُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ اشْتِرَاطُ صِفَةٍ قَائِمَةٍ
بِمَحَل الْعَقْدِ وَقْتَ صُدُورِهِ، أَوِ اشْتِرَاطُ مَا يَقْتَضِيهِ
الْعَقْدُ أَوْ يُؤَكِّدُ مُقْتَضَاهُ، أَوِ اشْتِرَاطُ مَا أَجَازَ
الشَّارِعُ اشْتِرَاطَهُ، أَوِ اشْتِرَاطُ مَا يُحَقِّقُ مَصْلَحَةً
لِلْعَاقِدَيْنِ. (3)
الْقِسْمُ الثَّانِي: الاِشْتِرَاطُ الْفَاسِدُ أَوِ الْبَاطِل:
وَهَذَا النَّوْعُ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يُفْسِدُ التَّصَرُّفَ وَيُبْطِلُهُ، وَثَانِيهِمَا: مَا
يَبْقَى التَّصَرُّفُ مَعَهُ صَحِيحًا. وَهَاكَ ضَابِطُ كُلٍّ مِنْهُمَا.
الضَّرْبُ الأَْوَّل: مَا يُفْسِدُ التَّصَرُّفَ وَيُبْطِلُهُ:
13 - ضَابِطُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: اشْتِرَاطُ أَمْرٍ يُؤَدِّي إِلَى
غَدْرٍ غَيْرِ يَسِيرٍ، أَوِ اشْتِرَاطُ أَمْرٍ مَحْظُورٍ، أَوِ اشْتِرَاطُ
مَا لاَ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لأَِحَدِ
الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ لِغَيْرِهِمَا، أَوْ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ
(إِذَا كَانَ هَذَانِ الأَْخِيرَانِ مِنْ أَهْل الاِسْتِحْقَاقِ) ، أَوِ
اشْتِرَاطُ مَا لاَ يُلاَئِمُ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 65، 108.
(2) مغني المحتاج 2 / 33، 34، والمجموع للنووي 9 / 364 ط السلفية.
(3) كشاف القناع 3 / 188 - 190.
(4/308)
مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَلاَ مِمَّا جَرَى
عَلَيْهِ التَّعَامُل بَيْنَ النَّاسِ، وَلاَ مِمَّا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ
دَلِيلٌ بِجَوَازِهِ. (1)
وَضَابِطُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: اشْتِرَاطُ أَمْرٍ مَحْظُورٍ، أَوْ
أَمْرٍ يُؤَدِّي إِلَى غَدْرٍ، أَوِ اشْتِرَاطُ مَا يُنَافِي مُقْتَضَى
الْعَقْدِ. (2)
وَضَابِطُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: اشْتِرَاطُ أَمْرٍ لَمْ يَرِدْ فِي
الشَّرْعِ، أَوِ اشْتِرَاطُ أَمْرٍ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، أَوِ
اشْتِرَاطُ أَمْرٍ يُؤَدِّي إِلَى جَهَالَةٍ. (3)
وَضَابِطُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: اشْتِرَاطُ عَقْدَيْنِ فِي عَقْدٍ،
أَوْ اشْتِرَاطُ شَرْطَيْنِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، أَوِ اشْتِرَاطُ مَا
يُخَالِفُ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعَقْدِ (4) .
الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يُبْطِل وَيَبْقَى التَّصَرُّفُ مَعَهُ صَحِيحًا:
14 - وَضَابِطُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: كُل مَا لاَ يَقْتَضِيهِ
الْعَقْدُ وَلاَ يُلاَئِمُ مُقْتَضَاهُ، وَلَمْ يَرِدْ فِي الشَّرْعِ أَوِ
الْعُرْفِ دَلِيلٌ بِجَوَازِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لأَِحَدِ
الْمُتَعَاقِدَيْنِ، أَوْ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْل
الاِسْتِحْقَاقِ. فَإِذَا اقْتَرَنَ بِالْعَقْدِ كَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا
وَالشَّرْطُ بَاطِلاً. (5)
وَضَابِطُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: اشْتِرَاطُ الْبَرَاءَةِ مِنِ
الْعُيُوبِ، أَوِ اشْتِرَاطُ الْوَلاَءِ لِغَيْرِ الْمُعْتِقِ، أَوِ
اشْتِرَاطُ مَا يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ دُونَ الإِْخْلاَل
بِمَقْصُودِهِ (6) .
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 168 - 170.
(2) الشرح الكبير 3 / 58، 309، 310.
(3) مغني المحتاج 2 / 30، 33، والمهذب للشيرازي 1 / 275.
(4) كشاف القناع 3 / 193 - 195.
(5) بدائع الصنائع 5 / 170.
(6) حاشية الدسوقي 3 / 65، 112، والخرشي 4 / 328 ط بولاق.
(4/309)
وَضَابِطُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ:
اشْتِرَاطُ مَا لاَ غَرَضَ فِيهِ، أَوْ مَا يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ
دُونَ الإِْخْلاَل بِمَقْصُودِهِ. (1)
وَضَابِطُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: اشْتِرَاطُ مَا يُنَافِي مُقْتَضَى
الْعَقْدِ، أَوِ اشْتِرَاطُ أَمْرٍ يُؤَدِّي إِلَى جَهَالَةٍ، أَوْ أَمْرٍ
غَيْرِ مَشْرُوعٍ (2) .
هَذَا، وَقَدْ ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ مِنَ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ
شُرُوطًا تَسْقُطُ إِذَا أَسْقَطَهَا الْمُشْتَرِطُ. وَضَابِطُهَا
عِنْدَهُمْ: اشْتِرَاطُ أَمْرٍ يُنَاقِضُ الْمَقْصُودَ مِنَ الْبَيْعِ،
أَوْ يُخِل بِالثَّمَنِ فِيهِ، أَوْ يُؤَدِّي إِلَى غَدْرٍ فِي الْهِبَةِ
(3)
اشْتِرَاك
التَّعْرِيفُ:
1 - يُطْلَقُ الاِشْتِرَاكُ فِي اللُّغَةِ عَلَى الاِلْتِبَاسِ، يُقَال:
اشْتَرَكَ الأَْمْرُ: الْتَبَسَ، وَيَأْتِي الاِشْتِرَاكُ بِمَعْنَى
التَّشَارُكِ.
وَرَجُلٌ مُشْتَرَكٌ: إِذَا كَانَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ كَالْمَهْمُومِ، أَيْ
أَنَّ رَأْيَهُ مُشْتَرَكٌ لَيْسَ بِوَاحِدٍ، وَلَفْظٌ مُشْتَرَكٌ لَهُ
أَكْثَرُ مِنْ مَعْنًى. (4)
وَيُطْلَقُ الاِشْتِرَاكُ فِي عُرْفِ الْعُلَمَاءِ، كَأَهْل
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 34، 308.
(2) كشاف القناع 3 / 193.
(3) الشرح الكبير 3 / 59 - 67، وجواهر الإكليل 2 / 215، ومواهب الجليل 5 /
61 - 63.
(4) لسان العرب، وتاج العروس مع القاموس، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط
مادة: (شرك) .
(4/309)
الْعَرَبِيَّةِ وَالأُْصُول وَالْمِيزَانِ
(الْمَنْطِقِ) عَلَى مَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الاِشْتِرَاكُ الْمَعْنَوِيُّ. وَهُوَ كَوْنُ اللَّفْظِ
الْمُفْرَدِ مَوْضُوعًا لِمَفْهُومٍ عَامٍّ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ
الأَْفْرَادِ، وَذَلِكَ اللَّفْظُ يُسَمَّى مُشْتَرَكًا مَعْنَوِيًّا.
ثَانِيهِمَا: الاِشْتِرَاكُ اللَّفْظِيُّ. وَهُوَ كَوْنُ اللَّفْظِ
الْمُفْرَدِ مَوْضُوعًا لِمَعْنَيَيْنِ مَعًا عَلَى سَبِيل الْبَدَل مِنْ
غَيْرِ تَرْجِيحٍ، وَذَلِكَ اللَّفْظُ يُسَمَّى مُشْتَرَكًا لَفْظِيًّا.
(1)
أَمَّا الاِشْتِرَاكُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: فَلاَ يَخْرُجُ عَنْ مَعْنَاهُ
فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى التَّشَارُكِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْخُلْطَةُ:
2 - الْخُلْطَةُ هِيَ الشَّرِكَةُ، وَهِيَ نَوْعَانِ: خُلْطَةُ أَعْيَانٍ،
وَهِيَ مَا إِذَا كَانَ الاِشْتِرَاكُ فِي الأَْعْيَانِ. وَخُلْطَةُ
أَوْصَافٍ: وَهِيَ أَنْ يَكُونَ مَال كُل وَاحِدٍ مِنَ الْخَلِيطَيْنِ
مُتَمَيِّزًا فَخَلَطَاهُ، وَاشْتَرَكَا فِي عَدَدٍ مِنَ الأَْوْصَافِ،
كَالْمَرَاحِ (الْمَأْوَى) وَالْمَرْعَى وَالْمَشْرَبِ وَالْمَحْلَبِ
وَالْفَحْل وَالرَّاعِي.
وَلِلْخُلْطَةِ أَثَرٌ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ فِي اكْتِمَال نِصَابِ
الأَْنْعَامِ وَاحْتِسَابِ الزَّكَاةِ. وَتَفْصِيلُهُ فِي (زَكَاة) .
الْمُشْتَرَكُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ وَأَقْسَامُهُ:
3 - الْمُشْتَرَكُ مَا كَانَ اللَّفْظُ فِيهِ مَوْضُوعًا حَقِيقَةً فِي
مَعْنَيَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَيَنْقَسِمُ الْمُشْتَرَكُ عِنْدَ
الأُْصُولِيِّينَ إِلَى قِسْمَيْنِ: مَعْنَوِيٍّ وَلَفْظِيٍّ.
الأَْوَّل: الْمُشْتَرَكُ الْمَعْنَوِيُّ. وَهُوَ اللَّفْظُ الْمُفْرَدُ
__________
(1) كشاف اصطلاحات الفنون 4 / 154.
(4/310)
الْمَوْضُوعُ لِمَفْهُومٍ عَامٍّ
مُشْتَرَكٍ بَيْنَ الأَْفْرَادِ، وَيَنْقَسِمُ إِلَى الْمُتَوَاطِئِ
وَالْمُشَكِّكِ.
أ - الْمُتَوَاطِئُ: وَهُوَ الْكُلِّيُّ الَّذِي تَسَاوَى الْمَعْنَى فِي
أَفْرَادِهِ، كَالإِْنْسَانِ، فَإِنَّهُ مُتَسَاوِي الْمَعْنَى فِي
أَفْرَادِهِ مِنْ زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَغَيْرِهِمَا. وَسُمِّيَ مُتَوَاطِئًا
مِنَ التَّوَاطُؤِ (التَّوَافُقُ) لِتَوَافُقِ أَفْرَادِ مَعْنَاهُ فِيهِ.
ب - الْمُشَكِّكُ: وَهُوَ الْكُلِّيُّ الَّذِي تَفَاوَتَ مَعْنَاهُ فِي
أَفْرَادِهِ، كَالْبَيَاضِ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ فِي الثَّلْجِ أَشَدُّ
مِنْهُ فِي الْعَاجِ.
الثَّانِي: الْمُشْتَرَكُ اللَّفْظِيُّ. وَهُوَ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ
لِمَعْنَيَيْنِ مَعًا عَلَى سَبِيل الْبَدَل. أَوْ هُوَ أَنْ يَتَّحِدَ
اللَّفْظُ وَيَتَعَدَّدَ الْمَعْنَى عَلَى سَبِيل الْحَقِيقَةِ فِيهِمَا،
كَالْقَرْءِ، فَإِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ. (1)
عُمُومُ الْمُشْتَرَكِ:
4 - اخْتَلَفُوا فِي عُمُومِ الْمُشْتَرَكِ، وَهُوَ أَنْ يُرَادَ
بِاللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ فِي اسْتِعْمَالٍ وَاحِدٍ جَمِيعُ مَعَانِيهِ،
بِأَنْ تَتَعَلَّقَ النِّسْبَةُ بِكُل وَاحِدٍ مِنْهَا، بِأَنْ يُقَال:
رَأَيْتُ الْعَيْنَ وَيُرَادُ بِهَا الْبَاصِرَةُ وَالْجَارِيَةُ
وَالذَّهَبُ وَغَيْرُهَا مِنْ مَعَانِيهَا، وَرَأَيْتُ الْجَوْنَ،
وَيُرَادُ بِهِ الأَْبْيَضُ وَالأَْسْوَدُ، وَأَقْرَأَتْ هِنْدٌ، وَيُرَادُ
بِهَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ.
فَذَهَبَ الإِْمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى مَنْعِ عُمُومِ
__________
(1)
) جمع الجوامع 1 / 274 - 275، وكشاف اصطلاح الفنون 4 / 154، وكشف الأسرار 1
/ 39، وفواتح الرحموت مع مسلم الثبوت 1 / 198، والمنار مع حواشيه ص 339 وما
بعدها، وحاشية التفتازاني مع مختصر المنتهى ص 111 - 112، وتيسير التحرير 1
/ 186 وما بعدها، والبرهان 1 / 343، والأحكام للآمدي 1 / 10، وأصول السرخسي
1 / 126، وحاشية نسمات الأسحار 1 / 39.
(4/310)
الْمُشْتَرَكِ، وَعَلَيْهِ الْكَرْخِيُّ
وَفَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيَّ وَالْبَصْرِيُّ وَالْجُبَّائِيُّ وَأَبُو
هَاشِمٍ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ.
وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ
الْبَاقِلاَّنِيُّ الْمَالِكِيُّ وَالْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ
الْمُعْتَزِلِيُّ إِلَى جَوَازِ عُمُومِ الْمُشْتَرَكِ. (1)
مَوَاطِنُ الاِشْتِرَاكِ:
5 - يَرِدُ الاِشْتِرَاكُ كَثِيرًا فِي الْفِقْهِ فِيمَا نُجْمِل بَعْضَ
أَحْكَامِهِ مَعَ الإِْحَالَةِ إِلَى مَوْطِنِهَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
أ - الشَّرِكَةُ:
وَهِيَ نَوْعَانِ جَبْرِيَّةٌ وَاخْتِيَارِيَّةٌ.
(1) الْجَبْرِيَّةُ: وَهِيَ بِأَنْ يَخْتَلِطَ مَالاَنِ لِرَجُلَيْنِ
اخْتِلاَطًا لاَ يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا، أَوْ يَرِثَا مَالاً.
(2) الاِخْتِيَارِيَّةُ: بِأَنْ يَشْتَرِيَا عَيْنًا، أَوْ يَتَّهِبَا،
أَوْ يُوصَى لَهُمَا فَيَقْبَلاَنِ، أَوْ يَسْتَوْلِيَا عَلَى مَالٍ، أَوْ
يَخْلِطَا مَالَهُمَا. وَفِي جَمِيعِ ذَلِكَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
أَجْنَبِيٌّ فِي نَصِيبِ الآْخَرِ، لاَ يَتَصَرَّفُ فِيهِ إِلاَّ
بِإِذْنِهِ. وَالشَّرِكَةُ فِي الْعُقُودِ نَوْعَانِ أَيْضًا: فَهِيَ
إِمَّا شَرِكَةٌ فِي الْمَال، أَوْ شَرِكَةٌ فِي الأَْعْمَال.
فَالشَّرِكَةُ فِي الأَْمْوَال أَنْوَاعٌ: مُفَاوَضَةٌ وَعَنَانٌ
وَوُجُوهٌ، وَشَرِكَةٌ فِي الْعُرُوضِ. وَالشَّرِكَةُ فِي الأَْعْمَال
نَوْعَانِ: جَائِزَةٌ، وَهِيَ شَرِكَةُ الصَّنَائِعِ، وَفَاسِدَةٌ وَهِيَ
الشَّرِكَةُ فِي الْمُبَاحَاتِ.
وَهُنَاكَ اخْتِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ بَعْضِ
الشَّرِكَاتِ. (2) وَفِي تَفْصِيل أَنْوَاعِ الشَّرِكَاتِ رَاجِعْ
مُصْطَلَحَ (شَرِكَة) .
__________
(1) فواتح الرحموت 1 / 101، والمنار مع حواشيه ص 343، وجمع الجوامع 1 / 494
- 495.
(2) الاختيار 3 / 12 وما بعدها، والإقناع للشربيني 1 / 291 وما بعدها،
ومنار السبيل 1 / 400 ط المكتب الإسلامي، وبلغة السالك 1 / 165 وما بعدها ط
دار المعرفة.
(4/311)
ب - الاِشْتِرَاكُ فِي الْجِنَايَةِ:
بِأَنْ يَشْتَرِكَ اثْنَانِ فَصَاعِدًا فِي قَتْلٍ عَمْدٍ أَوْ شِبْهِ
عَمْدٍ أَوْ خَطَأٍ أَوْ قَطْعِ عُضْوٍ أَوْ جُرْحٍ، فَاخْتُلِفَ فِي
الاِنْتِقَال إِلَى الدِّيَةِ، أَوْ قَتْل الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ عَلَى
تَفْصِيلٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (جِنَايَاتٌ، قِصَاص) .
- الاِشْتِرَاكُ فِي الإِْرْثِ:
وَهُوَ اشْتِرَاكٌ جَبْرِيٌّ كَمَا تَقَدَّمَ. وَفِي كَيْفِيَّةِ تَوْزِيعِ
الأَْنْصِبَةِ وَإِعْطَاءِ كُل ذِي حَقٍّ حَقَّهُ اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ
(إِرْثٌ) .
د - الطَّرِيقُ الْمُشْتَرَكُ:
وَهُوَ أَنْ تَشْتَرِكَ عِدَّةُ دُورٍ فِي طَرِيقٍ وَاحِدٍ. وَهَذَا
الطَّرِيقُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَفْتُوحًا وَهُوَ الشَّارِعُ، أَوْ
يَكُونَ مَسْدُودًا. وَفِي الْبِنَاءِ الزَّائِدِ عَلَى الْبَيْتِ إِلَى
الدَّرْبِ تَفْصِيلٌ فِي الْجَوَازِ وَالْحُرْمَةِ. (1) اُنْظُرْ
مُصْطَلَحَ (طَرِيق) .
هـ - زَوَال الاِشْتِرَاكِ:
يَزُول الاِشْتِرَاكُ بِالْقِسْمَةِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ بِأَنْفُسِهِمْ
بِالتَّرَاضِي، لأَِنَّ الْحَقَّ لَهُمْ، وَمَنْ نَصَّبُوهُ لِلْقِسْمَةِ
وَكِيلٌ لَهُمْ. (2) اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ (قِسْمَة) .
وَكَمَا تُقْسَمُ الأَْعْيَانُ الْمُشْتَرَكَةُ تُقْسَمُ الْمَنَافِعُ
الْمُشْتَرَكَةُ أَيْضًا مُهَايَأَةً، أَيْ مُنَاوَبَةً فِي الزَّمَنِ. (3)
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (قِسْمَة) (وَمُهَايَأَة) .
__________
(1) قليوبي وعميرة 2 / 312.
(2) شرح الروض 4 / 329.
(3) شرح الروض 4 / 337.
(4/311)
اشْتِغَال الذِّمَّةِ
التَّعْرِيفُ
1 - الاِشْتِغَال فِي اللُّغَةِ: التَّلَهِّي بِشَيْءٍ عَنْ شَيْءٍ، وَهُوَ
ضِدُّ الْفَرَاغِ، (1) وَالذِّمَّةُ فِي اللُّغَةِ: الْعَهْدُ وَالضَّمَانُ
وَالأَْمَانُ. (2)
وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَذِمَّةُ
الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ
مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ
أَجْمَعِينَ. (3)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلاِشْتِغَال عَنِ الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ.
أَمَّا الذِّمَّةُ فَهِيَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ: وَصْفٌ يَصِيرُ الشَّخْصُ
بِهِ أَهْلاً لِلإِْيجَابِ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَهُوَ مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ
الْفُقَهَاءُ وَالأُْصُولِيُّونَ بِأَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ. وَبَعْضُهُمْ
عَرَّفَهَا بِأَنَّهَا: نَفْسٌ لَهَا عَهْدٌ، فَإِنَّ الإِْنْسَانَ يُولَدُ
وَلَهُ ذِمَّةٌ صَالِحَةٌ لِلْوُجُوبِ لَهُ وَعَلَيْهِ. (4) فَهِيَ مَحَل
الْوُجُوبِ لَهَا وَعَلَيْهَا. (5)
__________
(1) المصباح المنير وتاج العروس مادة: (شغل) ، ومتن اللغة 3 / 339 وتاج
العروس 9 / 391.
(2) المصباح المنير مادة: (شغل) .
(3) حديث: " وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم. . . " أخرجه البخاري
ومسلم من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه مرفوعا (فتح الباري 6 / 279،
280 ط السلفية، وصحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 2 / 994 - 998 ط
عيسى الحلبي) .
(4) التعريفات للجرجاني ص 95 ط الحلبي.
(5) كشف الأسرار لأصول البزدوي 4 / 237، والتوضيح والتلويح 2 / 162، وكشاف
القناع 2 / 117.
(4/312)
وَلَعَل تَسْمِيَةَ النَّفْسِ بِالذِّمَّةِ
مِنْ قَبِيل تَسْمِيَةِ الْمَحَل (أَيِ النَّفْسِ) بِالْحَال (أَيِ
الذِّمَّةِ) .
فَمَعْنَى اشْتِغَال الذِّمَّةِ بِالشَّيْءِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ
وُجُوبُ الشَّيْءِ لَهَا أَوْ عَلَيْهَا، وَمُقَابِلُهُ فَرَاغُ الذِّمَّةِ
وَبَرَاءَتُهَا، كَمَا يَقُولُونَ: إِنَّ الْحَوَالَةَ لاَ تَتَحَقَّقُ
إِلاَّ بِفَرَاغِ ذِمَّةِ الأَْصِيل، وَالْكَفَالَةُ لاَ تَتَحَقَّقُ مَعَ
بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ. (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ:
2 - هِيَ فَرَاغُ الذِّمَّةِ وَضِدُّ الاِشْتِغَال، وَهِيَ أَصْلٌ مِنَ
الأُْصُول الْمُسَلَّمَةِ الْفِقْهِيَّةِ. يُحَال عَلَيْهِ مَا لَمْ
يَثْبُتْ خِلاَفُهُ، وَالْقَاعِدَةُ الْكُلِّيَّةُ تَقُول: " الأَْصْل
بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ " (2) .
وَلِذَا لَمْ يُقْبَل شَغْلُهَا إِلاَّ بِدَلِيلٍ، وَمَوْضِعُ تَفْصِيلِهِ
مُصْطَلَحُ (بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ) .
ب - تَفْرِيغُ الذِّمَّةِ:
3 - وَمَعْنَاهُ جَعْل الذِّمَّةِ فَارِغَةً، وَهُوَ يَحْصُل بِالأَْدَاءِ
مُطْلَقًا، أَوْ بِالإِْبْرَاءِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ الَّتِي تَقْبَل
الإِْبْرَاءَ، كَمَا يَحْصُل بِالْمَوْتِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى
عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ.
وَيَحْصُل أَيْضًا بِالْكَفَالَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ
بِحُقُوقِ الْعِبَادِ.
وَعَبَّرَ الأُْصُولِيُّونَ عَنْ وُجُوبِ تَفْرِيغِ الذِّمَّةِ بِوُجُوبِ
الأَْدَاءِ، كَمَا يَقُول صَاحِبُ التَّوْضِيحِ: إِنَّ وُجُوبَ الأَْدَاءِ
هُوَ لُزُومُ تَفْرِيغِ الذِّمَّةِ عَمَّا تَعَلَّقَ بِهَا. (3)
__________
(1) الزيلعي 4 / 171.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم 1 / 23.
(3) الهداية مع الفتح 5 / 418، والتوضيح والتلويح 1 / 203، وكشف الأسرار
لأصول البزدوي 1 / 222.
(4/312)
صِفَتُهَا (الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ) :
4 - الْغَالِبُ اسْتِعْمَال هَذَا الْمُصْطَلَحِ فِي الدُّيُونِ مِنْ
حُقُوقِ الْعِبَادِ الْمَالِيَّةِ، وَلِهَذَا يُعَرِّفُ الْفُقَهَاءُ
الدَّيْنَ بِأَنَّهُ مَا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ، كَمِقْدَارٍ مِنَ
الدَّرَاهِمِ فِي ذِمَّةِ رَجُلٍ، وَمِقْدَارٍ مِنْهَا لَيْسَ بِحَاضِرٍ.
(1) وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَلْزَمُ تَفْرِيغُهَا بِالأَْدَاءِ أَوِ
الإِْبْرَاءِ. وَتَظَل الذِّمَّةُ مَشْغُولَةً وَإِنْ مَاتَ، وَلِذَا
يُوَفَّى الدَّيْنُ مِنْ مَال الْمَدِينِ الْمُتَوَفَّى إِذَا تَرَكَ
مَالاً. وَمَوْضِعُ تَفْصِيلِهِ مُصْطَلَحُ (دَيْن) .
وَالْحَقُّ أَنَّ الذِّمَّةَ كَمَا تَشْتَغِل بِحُقُوقِ النَّاسِ
الْمَالِيَّةِ، تَشْغَلُهَا الأَْعْمَال الْمُسْتَحَقَّةُ، كَالْعَمَل فِي
ذِمَّةِ الأَْجِيرِ فِي إِجَارَةِ الْعَمَل، وَتَشْغَلُهَا أَيْضًا
الْوَاجِبَاتُ الدِّينِيَّةُ مِنْ صَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَنُذُورٍ، لأَِنَّ
الْوَاجِبَ فِي الذِّمَّةِ قَدْ يَكُونُ مَالاً، وَقَدْ يَكُونُ عَمَلاً
مِنَ الأَْعْمَال، كَأَدَاءِ صَلاَةٍ فَائِتَةٍ، وَإِحْضَارِ شَخْصٍ
أَمَامَ الْقَضَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، (2) وَحِينَ اشْتِغَال الذِّمَّةِ
بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الأُْمُورِ يَجِبُ تَفْرِيغُهَا، إِمَّا
بِالأَْدَاءِ، وَإِمَّا بِالإِْبْرَاءِ إِذَا كَانَتْ حَقًّا لِلْعِبَادِ.
الْوُجُوبُ فِي الذِّمَّةِ، وَتَفْرِيغُهَا:
5 - عَبَّرَ الْفُقَهَاءُ عَنِ اشْتِغَال الذِّمَّةِ بِالْوُجُوبِ، كَمَا
يَقُولُونَ: إِنَّ الْوُجُوبَ هُوَ اشْتِغَال ذِمَّةِ الْمُكَلَّفِ
بِالشَّيْءِ، وَوُجُوبُ الأَْدَاءِ هُوَ لُزُومُ تَفْرِيغِ الذِّمَّةِ
عَمَّا تَعَلَّقَ بِهَا. (3)
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية م / 158.
(2) الحموي على الأشباه والنظائر 2 / 209.
(3) التوضيح والتلويح 1 / 203، وكشف الأسرار لأصول البزدوي 1 / 222.
(4/313)
وَالأَْصْل أَنَّ الإِْيجَابَ هُوَ سَبَبُ
اشْتِغَال الذِّمَّةِ، لأَِنَّ اشْتِغَال الذِّمَّةِ يَحْصُل بِالْوُجُوبِ
عَلَيْهَا. يَقُول صَاحِبُ التَّوْضِيحِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالأَْدَاءِ
وَالْقَضَاءِ: إِنَّ الشَّرْعَ شَغَل الذِّمَّةَ بِالْوَاجِبِ ثُمَّ أَمَرَ
بِتَفْرِيغِهَا (1) وَيَقُول الْغَزَالِيُّ فِي مُسْتَصْفَاهُ: اشْتَغَلَتِ
الذِّمَّةُ بِالأَْدَاءِ، وَبَقِيَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْوَقْتِ،
فَأُمِرَ بِتَفْرِيغِهَا بِإِتْيَانِ الْمِثْل، فَالْوُجُوبُ الَّذِي
ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ وَاحِدٌ. (2)
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
6 - يَتَكَلَّمُ الْفُقَهَاءُ عَنِ اشْتِغَال الذِّمَّةِ فِي الْكَلاَمِ
عَنِ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ، (3) وَفِي عَقْدِ الْكَفَالَةِ، (4)
وَالْحَوَالَةِ، وَفِي بَحْثِ الدَّيْنِ (5) . وَالْقَرْضِ،
وَالأُْصُولِيُّونَ يَتَكَلَّمُونَ عَنْهُ فِي بُحُوثِ الأَْهْلِيَّةِ،
وَالأَْدَاءِ، وَالْقَضَاءِ، (6) وَالْمَأْمُورِ بِهِ، (7) وَفِي بَحْثِ
الْقُدْرَةِ كَشَرْطٍ لِلتَّكْلِيفِ. (8) وَلِلتَّفْصِيل يُرْجَعُ إِلَى
الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) التوضيح والتلويح 1 / 161.
(2) المستصفى للغزالي 1 / 142.
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم 1 / 23، 89.
(4) أسنى المطالب 2 / 235، وفتح القدير 5 / 418.
(5) ابن عابدين 3 / 138.
(6) كشف الأسرار لأصول البزدوي 1 / 134، والمستصفى للغزالي 1 / 142.
(7) التوضيح والتلويح 1 / 203.
(8) المستصفى للغزالي 1 / 140.
(4/313)
اشْتِمَال الصَّمَّاءِ
التَّعْرِيفُ:
1 - فِي اللُّغَةِ: اشْتَمَل بِالثَّوْبِ إِذَا أَدَارَهُ عَلَى جَسَدِهِ
كُلِّهِ حَتَّى لاَ تَخْرُجَ مِنْهُ يَدُهُ، وَاشْتَمَل عَلَيْهِ
الأَْمْرُ: أَحَاطَ بِهِ، وَالشَّمْلَةُ الصَّمَّاءُ: الَّتِي لَيْسَ
تَحْتَهَا قَمِيصٌ وَلاَ سَرَاوِيل.
قَال أَبُو عُبَيْدٍ: اشْتِمَال الصَّمَّاءِ هُوَ أَنْ يَشْتَمِل
بِالثَّوْبِ حَتَّى يُجَلِّل بِهِ جَسَدَهُ، وَلاَ يَرْفَعُ مِنْهُ
جَانِبًا، فَيَكُونُ فِيهِ فُرْجَةٌ تَخْرُجُ مِنْهَا يَدُهُ، وَهُوَ
التَّلَفُّعُ. (1)
أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ: فَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لاَ
يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَيَرَى بَعْضُهُمْ أَنَّ اشْتِمَال الصَّمَّاءِ هُوَ مَا يُطْلَقُ
عَلَيْهِ: الاِضْطِبَاعُ، وَهُوَ أَنْ يَضَعَ طَرَفَيْ ثَوْبِهِ عَلَى
عَاتِقِهِ الأَْيْسَرِ.
كَمَا أَنَّ الْكَثْرَةَ مِنَ الْفُقَهَاءِ يَرَوْنَ أَنَّ اشْتِمَال
الصَّمَّاءِ لاَ يَكُونُ فِي حَالَةِ وُجُودِ إِزَارٍ.
وَيَرَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لاَ مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَّزِرًا أَوْ
غَيْرَ مُتَّزِرٍ.
وَمَنْشَأُ الْخِلاَفِ فِي هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الثَّوْبِ. (2)
__________
(1) لسان العرب مادة: (شمل) .
(2) ابن عابدين 1 / 458 ط بولاق ثالثة، والمجموع شرح المهذب 3 / 173 ط
المكتبة السلفية، وحاشية الدسوقي 1 / 219 ط دار الفكر، وكشاف القناع 1 /
251 ط أنصار السنة، والمغني لابن قدامة 1 / 584 مكتبة الرياض، والمجموع 3 /
173.
(4/314)
صِفَتُهَا (الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ) :
2 - مَعَ اخْتِلاَفِهِمْ فِي التَّعْرِيفِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَقَدِ
اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ اشْتِمَال الصَّمَّاءِ - إِنِ انْكَشَفَتْ مَعَهُ
الْعَوْرَةُ - كَانَ حَرَامًا وَمُفْسِدًا لِلصَّلاَةِ. وَأَمَّا إِذَا
لَمْ يُؤَدِّ إِلَى ذَلِكَ فَقَدِ اتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى الْكَرَاهَةِ،
وَلَكِنْ حَمَلَهَا بَعْضُهُمْ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، (1)
وَبَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّهَا كَرَاهَةٌ تَحْرِيمِيَّةٌ.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
وَأَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ نَهَى عَنْ لُبْسَتَيْنِ: اشْتِمَال
الصَّمَّاءِ، وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُل بِثَوْبٍ لَيْسَ بَيْنَ فَرْجِهِ
وَبَيْنَ السَّمَاءِ شَيْءٌ (2) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - يُنْظَرُ تَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي: (لِبَاس، وَصَلاَة، وَعَوْرَة،
وَمَكْرُوهَات الصَّلاَةِ) .
اشْتِهَاء
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِشْتِهَاءُ فِي اللُّغَةِ: حُبُّ الشَّيْءِ وَاشْتِيَاقُهُ،
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن لبستين: اشتمال الصماء. . .
. " أخرجه البخاري، والنسائي من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بلفظ: "
إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن اشتمال الصماء، وأن يحتبي الرجل في ثوب
واحد ليس على فرجه منه شيء " (فتح الباري 10 / 279 ط السلفية، وسنن النسائي
8 / 210 ط المطبعة الأزهرية
(4/314)
وَالرَّغْبَةُ فِيهِ وَنُزُوعُ النَّفْسِ
إِلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ خَاصًّا بِالنِّسَاءِ أَمْ بِغَيْرِ
ذَلِكَ. وَالشَّهْوَةُ كَذَلِكَ، وَقَدْ يُقَال لِلْقُوَّةِ الَّتِي
تَشْتَهِي الشَّيْءَ شَهْوَةً. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ، وَأَغْلَبُ مَا يَعْنُونَ بِاسْتِعْمَالِهِمْ لِلَفْظَيِ
اشْتِهَاءٍ وَشَهْوَةٍ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِرَغْبَةِ الرَّجُل
فِي الْمَرْأَةِ وَرَغْبَتِهَا فِيهِ، وَهُوَ مَا يَجِدُهُ أَحَدُهُمَا
أَوْ كِلاَهُمَا مِنْ لَذَّةٍ نَفْسِيَّةٍ، بِتَحْرِيكِ الْقَلْبِ
وَمَيْلِهِ، أَوْ لَذَّةٍ حِسِّيَّةٍ بِتَحَرُّكِ أَعْضَاءِ التَّنَاسُل،
وَذَلِكَ عِنْدَ النَّظَرِ أَوِ الْمَسِّ، أَوِ الْمُبَاشَرَةِ، وَمَا
يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامٍ. (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - الشَّبَقُ: وَهُوَ هِيَاجُ شَهْوَةِ النِّكَاحِ، فَالشَّبَقُ أَخَصُّ
مِنْ الاِشْتِهَاءِ. (3)
صِفَتُهَا (الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ) :
3 - الاِشْتِهَاءُ الطَّبِيعِيُّ الَّذِي لاَ إِرَادَةَ فِي إِيجَادِهِ لاَ
يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ
نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (4) وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ: اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلاَ
تُؤَاخِذْنِي فِيمَا لاَ أَمْلِكُ (5) وَلَكِنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ
بِالاِشْتِهَاءِ الإِْرَادِيِّ.
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمفردات للراغب، والمعجم الوسيط: مادة
(شهي) .
(2) ابن عابدين 5 / 241 ط بولاق ثانية، ومغني المحتاج 3 / 128 وما بعدها ط
مصطفى الحلبي، ومنح الجليل 2 / 4 ط مكتبة النجاح بليبيا.
(3) المصباح المنير مادة: (شبق) .
(4) سورة البقرة / 286.
(5) حديث: " اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما لا أملك ". أخرجه
الترمذي وأبو داود وابن ماجه والحاكم من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعا
بألفاظ مقاربة، ولفظ أبي داود والحاكم: " اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا
تلمني فيما تملك ولا أملك " والحديث صححه ابن حبان والحاكم وأقره الذهبي
ورجح الترمذي إرساله. وكذا أعله النسائي والدارقطني. وقال أبو زرعة: لا
أعلم أحدا تابع حماد بن سلمة على وصله (تحفة الأحوذي 4 / 2 وعون المعبود 2
/ 208 ط الهند، وسنن ابن ماجه بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 1 / 634 ط عيسى
الحلبي، والمستدرك 2 / 187 نشر دار الكتاب العربي، وموارد الظمآن بتحقيق
محمد عبد الرزاق حمزة ص 317 نشر دار الكتب العلمية، ونيل الأوطار 6 / 372 ط
دار الجيل، وشرح السنة للبغوي 9 / 151 نشر المكتب الإسلامي) .
(4/315)
وَمَا تَشْتَهِيهِ النَّفْسُ: إِمَّا
مُبَاحٌ أَوْ مُحَرَّمٌ.
أَمَّا الْمُبَاحُ: فَقَدْ حَكَى الْمَاوَرْدِيُّ فِي إِعْطَاءِ النَّفْسِ
حَظَّهَا مِنَ الشَّهَوَاتِ الْمُبَاحَةِ مَذَاهِبَ.
أَحَدُهَا: مَنْعُهَا وَقَهْرُهَا حَتَّى لاَ تَطْغَى.
الثَّانِي: إِعْطَاؤُهَا تَخَيُّلاً عَلَى نَشَاطِهَا.
الثَّالِثُ، وَهُوَ الأَْشْبَهُ: التَّوَسُّطُ (1) .
أَمَّا اشْتِهَاءُ الْمُحَرَّمِ فَحَرَامٌ،
وَأَكْثَرُ مَا يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ هُوَ اشْتِهَاءُ
الرَّجُل الْمَرْأَةَ الأَْجْنَبِيَّةَ، أَوِ الْعَكْسُ، وَيُرَتِّبُونَ
عَلَى ذَلِكَ أَحْكَامًا مِنْهَا:
أ - النَّظَرُ:
4 - الْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ النَّظَرَ بِشَهْوَةٍ
حَرَامٌ قَطْعًا لِكُل مَنْظُورٍ إِلَيْهِ مِنْ أَجْنَبِيَّةٍ أَوْ
مُحَرَّمٍ، لاَ زَوْجَتِهِ وَأَمَتِهِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَظَرَ إِلَى مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ
عَنْ شَهْوَةٍ صُبَّ فِي عَيْنَيْهِ الآْنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (2)
وَخَوْفُ الشَّهْوَةِ أَوِ الشَّكُّ فِي الاِشْتِهَاءِ يَحْرُمُ مَعَهُ
النَّظَرُ أَيْضًا، وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُل فِي ذَلِكَ يَحْرُمُ
نَظَرُهَا إِلَى
__________
(1) حاشية عميرة بأسفل القليوبي 4 / 264 ط الحلبي.
(2)) حديث: " من نظر إلى محاسن امرأة أجنبية عن شهوة صب في عينيه الآنك يوم
القيامة ". أورده ابن حجر في الدراية، وقال: لم أجده. وذكره أيضا الزيلعي
في نصب الراية واستغربه (الدراية في تخريج أحاديث الهداية 2 / 225 ط
الفجالة الجديدة، ونصب الراية 4 / 239، 240 دار المأمون) .
(4/315)
الرَّجُل إِذَا كَانَ بِشَهْوَةٍ، أَوْ
خَافَتْ، أَوْ شَكَّتْ فِي الاِشْتِهَاءِ.
وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يُشْتَهَى مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ.
أَمَّا الصَّغِيرَةُ الَّتِي لاَ تُشْتَهَى، وَمِثْلُهَا الْعَجُوزُ
فَإِنَّهُ يَحِل النَّظَرُ وَالْمَسُّ، لاِنْعِدَامِ خَوْفِ الْفِتْنَةِ،
أَمَّا عِنْدَ خَوْفِ الْفِتْنَةِ فَلاَ يَجُوزُ أَيْضًا.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ حُرْمَةِ النَّظَرِ مَا إِذَا كَانَتْ هُنَاكَ
ضَرُورَةٌ كَالْعِلاَجِ، أَوِ الشَّهَادَةِ، أَوِ الْقَضَاءِ، أَوِ
الْخِطْبَةِ لِلنِّكَاحِ، فَإِنَّهُ يُبَاحُ النَّظَرُ حِينَئِذٍ وَلَوْ
مَعَ الاِشْتِهَاءِ. (1)
وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ مَعَ تَفْصِيلاَتٍ تُنْظَرُ فِي
مُصْطَلَحَيِ (النَّظَر، وَاللَّمْس) وَغَيْرُهُمَا
__________
(1) الشرح الصغير 4 / 743 ط دار المعارف، ومنح الجليل 2 / 4، والهداية 4 /
83 وما بعدها ط المكتبة الإسلامية، وابن عابدين 5 / 214 وما بعدها، 1 / 284
ط بولاق ثالثة، ومغني المحتاج 3 / 128 وما بعدها، والمغني 6 / 558 وما
بعدها ط مكتبة الرياض.
(4/316)
ب - حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ:
5 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ مَنْ مَسَّتْهُ امْرَأَةٌ بِشَهْوَةٍ
حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَبِنْتُهَا، وَكَذَلِكَ مَنْ مَسَّ امْرَأَةً
بِشَهْوَةٍ أَوْ نَظَرَ إِلَى فَرْجِهَا الدَّاخِل،. لأَِنَّ الْمَسَّ
وَالنَّظَرَ سَبَبٌ دَاعٍ لِلْوَطْءِ، فَيُقَامُ مَقَامُهُ فِي مَوْضِعِ
الاِحْتِيَاطِ (وَالْمَسُّ بِشَهْوَةٍ أَنْ تَنْتَشِرَ الآْلَةُ أَوْ
تَزْدَادُ انْتِشَارًا) وَهُوَ رَأْيُ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا، خِلاَفًا
لِلشَّافِعِيَّةِ وَلِلْحَنَابِلَةِ، وَفِي الْمَوْضِعِ تَفْصِيلاَتٌ
كَثِيرَةٌ (1) تُنْظَرُ فِي (حُرْمَة - نِكَاح - زِنًى) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
6 - الاِشْتِهَاءُ أَوِ الشَّهْوَةُ تَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ عِدَّةٌ
كَنَقْضِ الْوُضُوءِ، وَبُطْلاَنِ الصَّلاَةِ، وَإِيجَابِ الْغُسْل،
وَحَدِّ الزِّنَى إِنْ أَدَّى إِلَى مُبَاشَرَةٍ فِي الْفَرَجِ، وَتُنْظَرُ
فِي (وُضُوء، وَطَهَارَة، وَصَلاَة، وَزِنَى) .
__________
(1) الهداية 1 / 192 وابن عابدين 2 / 278 ط بولاق أولى، 5 / 241 ط بولاق
ثالثة، والمغني 6 / 579، ومنح الجليل 2 / 48، والمهذب 2 / 44 ط دار المعرفة
بيروت.
(4/316)
|