الموسوعة
الفقهية الكويتية أُمِّيٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأُْمِّيُّ: الْمَنْسُوبُ إِلَى الأُْمِّ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَنْ لاَ
يَقْرَأُ وَلاَ يَكْتُبُ، نُسِبَ إِلَى الأُْمِّ لأَِنَّهُ بَقِيَ عَلَى
مَا وَلَدَتْهُ عَلَيْهِ أُمُّهُ. لأَِنَّ الْكِتَابَةَ وَالْقِرَاءَةَ
مُكْتَسَبَةٌ (2) .
صَلاَةُ الأُْمِّيِّ:
2 - الأُْمِّيُّ الَّذِي لاَ يُحْسِنُ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ، وَيُحْسِنُ
قِرَاءَةَ آيَةٍ مِنْهَا وَيُرِيدُ الصَّلاَةَ، قَال الْبَعْضُ: إِنَّهُ
يُكَرِّرُ هَذَا الَّذِي يُحْسِنُهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ، لِيَكُونَ
بِمَنْزِلَةِ سَبْعِ آيَاتِ الْفَاتِحَةِ، وَقَال آخَرُونَ: لاَ
يُكَرِّرُهُ.
وَإِنْ كَانَ لاَ يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ وَيُحْسِنُ غَيْرَهَا، قَرَأَ مَا
يُحْسِنُهُ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.
فَإِنْ كَانَ لاَ يُحْسِنُ شَيْئًا وَاجْتَهَدَ آنَاءَ اللَّيْل
وَالنَّهَارِ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّعَلُّمِ، قَال أَبُو حَنِيفَةَ
وَبَعْضُ
__________
(1) الإعلام بقواطع الإسلام بهامش الزواجر ص 172 وانظر المحلى 11 / 409
المطبعة المنيرية
(2) لسان العرب، ومفردات غريب القرآن للراغب الأصبهاني، والكليات للكفوي
مادة: (أمم)
(6/270)
الْمَالِكِيَّةِ: يُصَلِّي دُونَ أَنْ
يَقْرَأَ شَيْئًا لاَ مِنَ الْقُرْآنِ وَلاَ مِنَ الأَْذْكَارِ. وَقَال
الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ:
يُصَلِّي وَيَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُهَلِّلُهُ وَيُكَبِّرُهُ بَدَل
الْقِرَاءَةِ (1) ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَإِنْ كَانَ
مَعَكَ قُرْآنٌ فَاقْرَأْ بِهِ، وَإِلاَّ فَاحْمَدْهُ وَهَلِّلْهُ
وَكَبِّرْهُ (2) . وَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ
(الصَّلاَةِ) عِنْدَ كَلاَمِهِمْ عَلَى الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلاَةِ.
أَمْنٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْمْنُ ضِدُّ الْخَوْفِ، وَهُوَ: عَدَمُ تَوَقُّعِ مَكْرُوهٍ فِي
الزَّمَانِ الآْتِي، وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ
الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (3)
__________
(1) المجموع 3 / 377 وما بعدها نشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة،
والمغني 1 / 487 و488، وحاشية الطحطاوي على الدر 1 / 203، والتاج والإكليل
بهامش مواهب الجليل 1 / 518 الطبعة الثانية سنة 1398 هـ
(2) حديث: " إذا قمت إلى الصلاة فتوضأ. . . . " أخرجه الترمذي (2 / 100 -
102 و302 ط الحلبي) ، وأبو داود (1 / 537 - 538و 859) ط عزت عبيد دعاس) ،
وقال الترمذي: حديث حسن. وقال الحاكم في المستدرك (1 / 242 ط الكتاب
العربي) هذا حديث صحيح على شرط الشيخين
(3) لسان العرب، والمصباح المنير، ودستور العلماء في المادة، والمجموع 7 /
80 ط السلفية، والبدائع 1 / 47 ط أولى، والمغني 1 / 261 ط الرياض
(6/270)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ
أ - أَمَانٌ:
2 - الأَْمَانُ: ضِدُّ الْخَوْفِ، يُقَال: أَمَّنْتُ الأَْسِيرَ:
أَعْطَيْتُهُ الأَْمَانَ فَأَمِنَ، فَهُوَ كَالأَْمْنِ.
وَأَمَّا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، فَلَهُ مَعْنًى يَخْتَلِفُ عَنِ الأَْمْنِ،
إِذْ هُوَ عِنْدَهُمْ، عَقْدٌ يُفِيدُ تَرْكَ الْقِتَال مَعَ الْكُفَّارِ
فَرْدًا أَوْ جَمَاعَةً مُؤَقَّتًا أَوْ مُؤَبَّدًا (1) .
ب - خَوْفٌ:
3 - الْخَوْفُ: الْفَزَعُ، وَهُوَ ضِدُّ الأَْمْنِ (2)
ج - إِحْصَارٌ:
4 - الإِْحْصَارُ: الْمَنْعُ وَالْحَبْسُ.
وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ فِي مَنْعِ الْحَاجِّ بِعَدُوٍّ وَنَحْوِهِ
مِنْ بَعْضِ أَعْمَالٍ مُعَيَّنَةٍ فِي الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ (3) ،
كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالطَّوَافِ.
حَاجَةُ النَّاسِ إِلَى الأَْمْنِ وَوَاجِبُ الإِْمَامِ تُجَاهَ ذَلِكَ:
5 - الأَْمْنُ لِلْفَرْدِ وَلِلْمُجْتَمَعِ وَلِلدَّوْلَةِ مِنْ أَهَمِّ
مَا تَقُومُ عَلَيْهِ الْحَيَاةُ، إِذْ بِهِ يَطْمَئِنُّ النَّاسُ عَلَى
دِينِهِمْ
__________
(1) لسان العرب، والبدائع 7 / 107، ومنتهى الإرادات 2 / 122 - 130 ط دار
الفكر
(2) لسان العرب
(3) لسان العرب، والمصباح المنير، والزيلعي 2 / 77 ط أولى، والدسوقي 2 / 93
(6/271)
وَأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ
وَأَعْرَاضِهِمْ، وَيَتَّجِهُ تَفْكِيرُهُمْ إِلَى مَا يَرْفَعُ شَأْنَ
مُجْتَمَعِهِمْ وَيَنْهَضُ بِأُمَّتِهِمْ.
وَمِنْ طَبَائِعِ الْمُجْتَمَعَاتِ الْبَشَرِيَّةِ - كَمَا يَقُول ابْنُ
خَلْدُونٍ - حُدُوثُ الاِخْتِلاَفِ بَيْنَهُمْ، وَوُقُوعُ التَّنَازُعِ
الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْمُشَاحَنَاتِ وَالْحُرُوبِ، وَإِلَى الْهَرَجِ
وَسَفْكِ الدِّمَاءِ وَالْفَوْضَى، بَل إِلَى الْهَلاَكِ إِذَا خُلِّيَ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَنْفُسِهِمْ بِدُونِ وَازِعٍ (1) .
وَبَيَّنَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ وُجُودَ الإِْمَامِ هُوَ الَّذِي يَمْنَعُ
الْفَوْضَى، فَيَقُول: الإِْمَامَةُ مَوْضُوعَةٌ لِخِلاَفَةِ النُّبُوَّةِ
فِي حِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا، وَلَوْلاَ الْوُلاَةُ
لَكَانَ النَّاسُ فَوْضَى مُهْمَلِينَ وَهَمَجًا مُضَيَّعِينَ (2) .
ثُمَّ يُوَضِّحُ الْمَاوَرْدِيُّ وَاجِبَاتِ الإِْمَامِ فِي ذَلِكَ
فَيَقُول: الَّذِي يَلْزَمُ الإِْمَامَ مِنَ الأُْمُورِ الْعَامَّةِ
عَشَرَةُ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: حِفْظُ الدِّينِ عَلَى أُصُولِهِ الْمُسْتَقِرَّةِ وَمَا
أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الأُْمَّةِ، فَإِنْ نَجَمَ مُبْتَدِعٌ أَوْ زَاغَ
ذُو شُبْهَةٍ عَنْهُ أَوْضَحَ لَهُ الْحُجَّةَ، وَبَيَّنَ لَهُ الصَّوَابَ،
وَأَخَذَهُ بِمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ، لِيَكُونَ
الدِّينُ مَحْرُوسًا مِنْ خَلَلٍ، وَالأُْمَّةُ مَمْنُوعَةً مِنْ زَلَلٍ.
الثَّانِي: تَنْفِيذُ الأَْحْكَامُ بَيْنَ الْمُتَشَاجِرِينَ، وَقَطْعُ
الْخِصَامِ بَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ، حَتَّى تَعُمَّ النَّصَفَةُ، فَلاَ
يَتَعَدَّى ظَالِمٌ، وَلاَ يَضْعُفُ مَظْلُومٌ.
الثَّالِثُ: حِمَايَةُ الْبَيْضَةِ وَالذَّبُّ عَنِ الْحَرِيمِ
لِيَتَصَرَّفَ النَّاسُ فِي الْمَعَايِشِ وَيَنْتَشِرُوا فِي الأَْسْفَارِ،
آمِنِينَ مِنْ تَغْرِيرٍ بِنَفْسٍ أَوْ مَالٍ.
__________
(1) مقدمة ابن خلدون ص 187
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص5
(6/271)
الرَّابِعُ: إِقَامَةُ الْحُدُودِ
لِتُصَانَ مَحَارِمُ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الاِنْتِهَاكِ وَتُحْفَظَ
حُقُوقُ عِبَادِهِ مِنْ إِتْلاَفٍ وَاسْتِهْلاَكٍ.
الْخَامِسُ: تَحْصِينُ الثُّغُورِ بِالْعُدَّةِ الْمَانِعَةِ وَالْقُوَّةِ
الدَّافِعَةِ، حَتَّى لاَ تَظْفَرَ الأَْعْدَاءُ بِغِرَّةٍ يَنْتَهِكُونَ
فِيهَا مَحْرَمًا، أَوْ يَسْفِكُونَ فِيهَا لِمُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهَدٍ
دَمًا.
السَّادِسُ: جِهَادُ مَنْ عَانَدَ الإِْسْلاَمَ بَعْدَ الدَّعْوَةِ حَتَّى
يُسْلِمَ، أَوْ يَدْخُل فِي الذِّمَّةِ، لِيُقَامَ بِحَقِّ اللَّهِ
تَعَالَى فِي إِظْهَارِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ.
السَّابِعُ: جِبَايَةُ الْفَيْءِ وَالصَّدَقَاتِ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ
الشَّرْعُ نَصًّا وَاجْتِهَادًا مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلاَ عَسْفٍ.
الثَّامِنُ: تَقْدِيرُ الْعَطَايَا وَمَا يُسْتَحَقُّ فِي بَيْتِ الْمَال
مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلاَ تَقْتِيرٍ، وَدَفْعُهُ فِي وَقْتٍ لاَ تَقْدِيمَ
فِيهِ وَلاَ تَأْخِيرَ.
التَّاسِعُ: اسْتِكْفَاءُ الأُْمَنَاءِ وَتَقْلِيدُ النُّصَحَاءِ فِيمَا
يُفَوَّضُ إِلَيْهِمْ مِنَ الأَْعْمَال وَيُوَكَّل إِلَيْهِمْ مِنَ
الأَْمْوَال، لِتَكُونَ الأَْعْمَال بِالْكَفَاءَةِ مَضْبُوطَةً،
وَالأَْمْوَال بِالأُْمَنَاءِ مَحْفُوظَةً.
الْعَاشِرُ: أَنْ يُبَاشِرَ بِنَفْسِهِ مُشَارَفَةَ الأُْمُورِ وَتَصَفُّحَ
الأَْحْوَال، لِيَنْهَضَ بِسِيَاسَةِ الأُْمَّةِ وَحِرَاسَةِ الْمِلَّةِ،
وَلاَ يُعَوِّل عَلَى التَّفْوِيضِ تَشَاغُلاً بِلَذَّةٍ أَوْ عِبَادَةٍ،
فَقَدْ يَخُونُ الأَْمِينُ، وَيَغِشُّ النَّاصِحُ (1) .
اشْتِرَاطُ الأَْمْنِ بِالنِّسْبَةِ لأَِدَاءِ الْعِبَادَاتِ:
6 - الأَْمْنُ مَقْصُودٌ بِهِ سَلاَمَةُ النَّفْسِ وَالْمَال وَالْعِرْضِ
وَالدَّيْنِ وَالْعَقْل، وَهِيَ الضَّرُورِيَّاتُ الَّتِي لاَ بُدَّ
مِنْهَا
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 15، 16
(6/272)
لِقِيَامِ مَصَالِحِ الدِّينِ
وَالدُّنْيَا، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَمْنَ
الإِْنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَعِرْضِهِ شَرْطٌ فِي التَّكْلِيفِ
بِالْعِبَادَاتِ (1) . لأَِنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى النُّفُوسِ
وَالأَْعْضَاءِ لِلْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ أَوْلَى
مِنْ تَعْرِيضِهَا لِلضَّرَرِ بِسَبَبِ الْعِبَادَةِ (2) .
وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ مِنَ الأَْمْثِلَةِ الآْتِيَةِ:
أَوَّلاً: فِي الطَّهَارَةِ:
7 - الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ الطَّهُورِ مِنَ الْحَدَثِ الأَْصْغَرِ أَوِ
الأَْكْبَرِ مِنْ شَرَائِطِ الصَّلاَةِ لَكِنْ مَنْ كَانَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْمَاءِ عَدُوٌّ أَوْ لِصٌّ أَوْ سَبُعٌ أَوْ حَيَّةٌ يَخَافُ
عَلَى نَفْسِهِ الْهَلاَكَ أَوِ الضَّرَرَ الشَّدِيدَ أُبِيحَ لَهُ
التَّيَمُّمُ؛ لأَِنَّ إِلْقَاءَ النَّفْسِ إِلَى التَّهْلُكَةِ حَرَامٌ،
وَكَذَا مَنْ كَانَ بِهِ جِرَاحَةٌ أَوْ مَرَضٌ وَيَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ
التَّلَفَ بِاسْتِعْمَال الْمَاءِ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ، لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ
مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا
مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (3) وقَوْله تَعَالَى: {وَلاَ
تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (4)
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلاً
أَصَابَهُ جُرْحٌ فِي رَأْسِهِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَصَابَهُ احْتِلاَمٌ فَأُمِرَ بِالاِغْتِسَال،
فَاغْتَسَل فَكُزَّ فَمَاتَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: قَتَلُوهُ
__________
(1) المستصفى 1 / 287، والموافقات 1 / 346 - 347
(2) الأشباه لابن نجيم ص 30، الأشباه للسيوطي ص 68
(3) سورة النساء / 43
(4) سورة النساء / 29
(6/272)
قَتَلَهُمُ اللَّهُ (1) (ر: طَهَارَة -
وُضُوء - غُسْل - تَيَمُّم) .
ثَانِيًا: فِي الصَّلاَةِ:
8 - أ - مِنْ شَرَائِطِ الصَّلاَةِ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ مَعَ
الأَْمْنِ، فَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقِ الأَْمْنُ بِأَنْ خَافَ مِنْ نَحْوِ
عَدُوٍّ أَوْ سَبُعٍ سَقَطَ الاِسْتِقْبَال وَصَلَّى عَلَى حَالِهِ لِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَمَرْتُكُمْ
بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ (2) (ر: اسْتِقْبَال) .
ب - صَلاَةُ الْجُمُعَةِ فَرْضٌ إِلاَّ أَنَّهَا لاَ تَجِبُ عَلَى خَائِفٍ
عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ إِجْمَاعًا (3) .
ج - صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ سُنَّةٌ أَوْ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ عَلَى
__________
(1) البدائع 1 / 47 ط أولى، والحطاب 1 / 333 - 434 ط النجاح، ونهاية
المحتاج 1 / 252، 262، المغني 1 / 257 ط الرياض. وحديث: ابن عباس رضي الله
عنهما " أن رجلا أصابه جرح في رأسه. . . ". أخرجه أبو داود وابن ماجه
واللفظ له، وابن حبان والحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنه. قال محقق
جامع الأصول: هو حديث حسن بشواهده. كما أخرجه أبو داود من حديث جابر بن عبد
الله بهذا المعنى، و (سنن أبي داود 1 / 293 - 240 ط عزت عبيد دعاس، وسنن
ابن ماجه 1 / 189 ط عيسى الحلبي، وموارد الظمآن ص 76 ط دار الكتب العلمية،
والمستدرك 1 / 178، وجامع الأصول 7 / 262، 264)
(2) منتهى الإرادات 1 / 159 ط دار الفكر، وجواهر الإكليل 1 / 43 ط دار
المعرفة، والمهذب1 / 76 ط دار المعرفة، والهداية 1 / 45 ط المكتبة
الإسلامية. وحديث: " إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ". أخرجه مسلم
من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا (صحيح مسلم 2 / 975 ط عيسى الحلبي)
(3) المهذب 1 / 116، ومنتهى الإرادات 1 / 269، وجواهر الإكليل 1 / 99،
والاختيار 1 / 82 ط دار المعرفة
(6/273)
اخْتِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَلَكِنَّ
الْجَمَاعَةَ تَسْقُطُ لِخَوْفٍ عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ أَوْ عِرْضٍ،
لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ سَمِعَ الْمُنَادِيَ فَلَمْ
يَمْنَعْهُ مِنِ اتِّبَاعِهِ عُذْرٌ - قَالُوا: وَمَا الْعُذْرُ؟ قَال:
خَوْفٌ أَوْ مَرَضٌ - لَمْ تُقْبَل مِنْهُ الصَّلاَةُ الَّتِي صَلَّى (1) .
ثَالِثًا: فِي الْحَجِّ:
9 - يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ أَمْنُ الطَّرِيقِ فِي النَّفْسِ
وَالْمَال وَالْعِرْضِ، فَمَنْ خَافَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ
سَبُعٍ أَوْ لِصٍّ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ إِنْ لَمْ
يَجِدْ طَرِيقًا آخَرَ آمِنًا. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْحَجِّ مَثَلاً
طَرِيقٌ إِلاَّ بِالْبَحْرِ، وَكَانَ الْغَالِبُ عَدَمَ سَلاَمَةِ
الْوُصُول لَمْ يَجِبِ الْحَجُّ (2) . لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ
عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (3)
وَقَوْلُهُ: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (4) (ر
حَجّ) .
__________
(1) المهذب 1 / 100، ومنتهى الإرادات 1 / 269، وجواهر الإكليل 1 / 99.
وحديث: " من سمع المنادي فلم يمنعه. . . " أخرجه أبو داود واللفظ له
والدارقطني والحاكم، وفي إسناده أبو جناب يحيى بن حيه، ضعفوه لكثرة تدليسه،
لكن للحديث طريق آخر عند ابن ماجه بلفظ " من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة
له إلا من عذر " وإسناده صحيح. (سنن أبي داود 1 / 374 ط عزت عبيد دعاس،
وسنن الدارقطني 1 / 420، 421 ط شركة الطباعة الفنية المتحدة، والمستدرك 1 /
245، 246، وسنن ابن ماجه 1 / 260 ط عيسى الحلبي، وجامع الأصول 5 / 566)
(2) البدائع 2 / 123، وجواهر الإكليل 1 / 162، والمجموع 7 / 80 ط السلفية،
والمغني 3 / 218
(3) سورة آل عمران / 97
(4) سورة البقرة / 286
(6/273)
رَابِعًا: فِي الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ:
10 - الأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاجِبٌ عَلَى
سَبِيل الْكِفَايَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ
يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ} (1) وَشَرْطُ وُجُوبِهِ أَنْ يَأْمَنَ الإِْنْسَانُ عَلَى
نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ وَإِنْ قَل أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ (2) . لِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ
مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ
فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ
الإِْيمَانِ (3)
(ر: أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ)
اشْتِرَاطُ الأَْمْنِ بِالنِّسْبَةِ لِلاِمْتِنَاعِ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ:
11 - الْحِفَاظُ عَلَى النَّفْسِ وَالْمَال وَالْعِرْضِ مِنْ مَقَاصِدِ
الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ مِمَّا تَقَدَّمَ، أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي
الْقِيَامِ بِعِبَادَةٍ مَا تَلَفٌ لِلإِْنْسَانِ فِي نَفْسِهِ أَوْ
مَالِهِ فَإِنَّهُ يُرَخَّصُ وَيُخَفَّفُ عَنْهُ فِيهَا.
وَمِثْل ذَلِكَ يُقَال فِي الْمُحَرَّمَاتِ. فَلَوْ كَانَ فِيمَا حَرَّمَهُ
الشَّارِعُ ضَرَرٌ يَلْحَقُ الإِْنْسَانَ فِي نَفْسِهِ لَوِ امْتَنَعَ
عَنْهُ امْتِثَالاً لِلنَّهْيِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُبَاحُ لَهُ مَا
حَرُمَ فِي الأَْصْل وَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ
__________
(1) سورة آل عمران / 104
(2) القرطبي 4 / 48، 165 و6 / 253 ط دار الكتب المصرية، والآداب الشرعية
لابن مفلح 1 / 174 ط المنار، وابن عابدين 1 / 234 ط بولاق، والشرح الصغير 4
/ 741 ط دار المعارف، ونهاية المحتاج 8 / 45 ط مصطفى الحلبي
(3) حديث: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم
يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان " (سبق تخريجه في الأمر بالمعروف ف / 18
(6/274)
بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ}
(1) وقَوْله تَعَالَى: {إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (2) وَمِنَ
الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ فِي ذَلِكَ: الضَّرَرُ يُزَال،
وَالضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ.
وَالأَْمْثِلَةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الْفِقْهِ الإِْسْلاَمِيِّ،
وَمِنْهَا:
أ - يَجُوزُ بَل يَجِبُ تَنَاوُل الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْخِنْزِيرِ
عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الإِْنْسَانُ غَيْرَهَا لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ
الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِل لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ
بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} (3) . ب - يُبَاحُ تَنَاوُل
الْخَمْرِ لإِِزَالَةِ الْغُصَّةِ.
ج - يَجُوزُ التَّلَفُّظُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ عِنْدَ الإِْكْرَاهِ
الْمُلْجِئِ إِلَى ذَلِكَ
د - يَجُوزُ إِلْقَاءُ الْمَتَاعِ مِنَ السَّفِينَةِ الْمُشْرِفَةِ عَلَى
الْغَرَقِ.
هـ - يَجُوزُ دَفْعُ الصَّائِل وَلَوْ أَدَّى إِلَى قَتْلِهِ (4) .
وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ وَالْخِلاَفُ فِيهِ فِي
بَحْثِ (ضَرُورَة) (وَإِكْرَاه) .
اشْتِرَاطُ الأَْمْنِ فِي سَكَنِ الزَّوْجَةِ:
12 - مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا وُجُوبُ تَوْفِيرِ
الْمَسْكَنِ الْمُلاَئِمِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْمُعْتَدَّاتِ
مِنَ
__________
(1) سورة البقرة / 173
(2) سورة الأنعام / 119
(3) سورة البقرة / 173
(4) الأشباه لابن نجيم ص 34، والأشباه للسيوطي ص 75، 76، والقواعد لابن رجب
ص 36، 312، والمغني لابن قدامة 8 / 332
(6/274)
الطَّلاَقِ: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ
سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} (1) . فَإِنَّهُ يَدُل عَلَى وُجُوبِ
إِسْكَانِ الْمُطَلَّقَةِ أَثْنَاءَ الْعِدَّةِ، وَإِذَا كَانَ إِسْكَانُ
الْمُطَلَّقَةِ أَثْنَاءَ الْعِدَّةِ وَاجِبًا، كَانَ إِسْكَانُ
الزَّوْجَةِ حَال قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ وَاجِبًا بِالطَّرِيقِ
الأَْوْلَى.
وَمِنْ شُرُوطِ الْمَسْكَنِ أَنْ تَأْمَنَ فِيهِ الزَّوْجَةُ عَلَى
نَفْسِهَا وَمَالِهَا، وَلَوْ أَسْكَنَهَا فِي بَيْتٍ مِنَ الدَّارِ
مُفْرَدًا وَلَهُ غَلَقٌ كَفَاهَا، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ
بِمَسْكَنٍ آخَرَ؛ لأَِنَّ الضَّرَرَ بِالْخَوْفِ عَلَى الْمَتَاعِ
وَعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنَ الاِسْتِمْتَاعِ قَدْ زَال. وَإِنْ أَسَاءَ
الزَّوْجُ عِشْرَتَهَا وَلَمْ تَسْتَطِعْ إِثْبَاتَ ذَلِكَ أَسْكَنَهَا
الْقَاضِي إِلَى جَانِبِ ثِقَةٍ يَمْنَعُهُ مِنَ الإِْضْرَارِ بِهَا
وَالتَّعَدِّي عَلَيْهَا (2) . وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ فِي الْجُمْلَةِ.
(ر: سُكْنَى - نَفَقَة - نِكَاح)
اشْتِرَاطُ الأَْمْنِ فِي الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَعِنْدَ
إِقَامَةِ حَدِّ الْجَلْدِ:
13 - الْقِصَاصُ فِي الْجُرُوحِ وَالأَْطْرَافِ أَمْرٌ مُقَرَّرٌ فِي
الشَّرِيعَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (3) إِلاَّ
أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِلْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ إِمْكَانُ
اسْتِيفَاءِ الْمِثْل مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ وَلاَ زِيَادَةٍ مَعَ الأَْمْنِ
مِنَ السِّرَايَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا
بِمِثْل مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (4) ، وَلأَِنَّ دَمَ الْجَانِي مَعْصُومٌ
إِلاَّ فِي
__________
(1) سورة الطلاق / 6
(2) البحر الرائق 4 / 210 ط أولى، والهداية 2 / 43 نشر المكتبة الإسلامية،
والدسوقي 2 / 513، ومغني المحتاج 3 / 243 ط مصطفى الحلبي، والمغني 7 / 569
نشر مكتبة الرياض
(3) سورة المائدة / 45
(4) سورة النحل / 126
(6/275)
قَدْرِ جِنَايَتِهِ، فَمَا زَادَ عَلَيْهَا
يَبْقَى عَلَى الْعِصْمَةِ، فَيَحْرُمُ اسْتِيفَاؤُهُ بَعْدَ الْجِنَايَةِ
لِتَحْرِيمِهِ قَبْلَهَا، وَمِنْ ضَرُورَةِ الْمَنْعِ مِنَ الزِّيَادَةِ
الْمَنْعُ مِنَ الْقِصَاصِ، لأَِنَّهَا مِنْ لَوَازِمِهِ. وَهَكَذَا كُل
مَا كَانَ فِيهِ الْقَوَدُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مُتْلَفًا، فَلاَ قَوَدَ
فِيهِ. كَمَا أَنَّهُ لاَ يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ بِآلَةٍ يُخْشَى مِنْهَا
الزِّيَادَةُ، كَأَنْ تَكُونَ سَامَّةً أَوْ كَالَّةً، لِمَا رَوَى
شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال: إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِْحْسَانَ عَلَى كُل شَيْءٍ فَإِذَا
قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا
الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ (1)
.
وَلِخَوْفِ التَّلَفِ يُؤَخَّرُ الْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ
لِلْحَرِّ الْمُفْرِطِ وَالْبَرْدِ الْمُفْرِطِ، وَمَرَضِ الْجَانِي،
وَحَتَّى تَضَعَ الْحَامِل (2) .
وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل
ذَلِكَ فِي (قِصَاص) .
وَكَذَلِكَ الأَْمْرُ بِالنِّسْبَةِ لإِِقَامَةِ حَدِّ الْجَلْدِ، إِذْ
يُشْتَرَطُ أَلاَّ يَكُونَ فِي إِقَامَةِ حَدِّ الْجَلْدِ خَوْفُ
الْهَلاَكِ؛ لأَِنَّ هَذَا الْحَدَّ شُرِعَ زَاجِرًا لاَ مُهْلِكًا،
وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يُقَامُ حَدُّ الْجَلْدِ فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ
وَالْبَرْدِ الشَّدِيدِ، وَلاَ عَلَى مَرِيضٍ حَتَّى يَبْرَأَ، وَلاَ عَلَى
حَامِلٍ حَتَّى تَضَعَ (3) .
(ر: حَدّ وَجَلْد)
__________
(1) حديث: " إن الله كتب الإحسان على كل شيء. . . . " أخرجه مسلم من حديث
شداد بن أوس مرفوعا. (صحيح مسلم 3 / 1548 ط عيسى الحلبي)
(2) المغني 7 / 690، 703، 727، والبدائع 7 / 297، والدسوقي 4 / 250 وما
بعدها، والمواق بهامش الحطاب 6 / 253 نشر النجاح، والمهذب 2 / 179، 185
(3) البدائع 7 / 59، والمواق بهامش الحطاب 6 / 253، والمهذب 2 / 271،
والمغني 8 / 171، 173
(6/275)
اشْتِرَاطُ الأَْمْنِ لِمَرِيدِ السَّفَرِ
بِمَال الشَّرِكَةِ أَوِ الْمُضَارَبَةِ أَوِ الْوَدِيعَةِ:
أ - فِي الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ:
14 - لاَ يَجُوزُ لأَِيٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يُسَافِرَ بِمَال
الشَّرِكَةِ، إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ مَخُوفًا إِلاَّ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ
بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّ السَّفَرَ بِمَال الشَّرِكَةِ فِي
الطَّرِيقِ الْمَخُوفِ يُؤَدِّي إِلَى تَعْرِيضِهِ لِلأَْخْطَارِ،
وَتَعْرِيضُ مَال الْغَيْرِ لِلْخَطَرِ لاَ يَجُوزُ دُونَ إِذْنِ
صَاحِبِهِ.
وَمِثْل ذَلِكَ مَال الْمُضَارَبَةِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِعَامِل
الْمُضَارَبَةِ السَّفَرُ بِمَال الْمُضَارَبَةِ إِلاَّ عِنْدَ أَمْنِ
الطَّرِيقِ (1) .
ب - فِي الْوَدِيعَةِ:
15 - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ:
يَجُوزُ السَّفَرُ بِمَال الْوَدِيعَةِ إِنْ كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا
وَلَمْ يَخَفْ عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ مَخُوفًا فَلاَ يَجُوزُ
لَهُ السَّفَرُ بِهَا، وَإِلاَّ ضَمِنَ (2) .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ مَنْ كَانَتْ
عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ، وَأَرَادَ السَّفَرَ، وَجَبَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُهَا
لِصَاحِبِهَا أَوْ وَكِيلِهِ أَوْ أَمِينٍ، فَإِنْ سَافَرَ بِهَا مَعَ
وُجُودِ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلاَءِ ضَمِنَ؛ لأَِنَّ الإِْيدَاعَ يَقْتَضِي
الْحِفْظَ فِي الْحِرْزِ، وَلَيْسَ السَّفَرُ مِنْ مَوَاضِعِ الْحِفْظِ،
لأَِنَّهُ إِمَّا أَنْ
__________
(1) البدائع 6 / 71، 88، وابن عابدين 3 / 355، 4 / 512، وتكملة فتح القدير
7 / 22، ومغني المحتاج 2 / 215، 317، والخرشي 4 / 226، 258، والفواكه
الدواني 2 / 174، ومنتهى الإرادات 2 / 323، ومطالب أولي النهى 3 / 504، 518
(2) البدائع 6 / 71، والدسوقي 3 / 421، والمهذب 1 / 367، وشرح منتهى
الإرادات 2 / 453
(6/276)
يَكُونَ مَخُوفًا أَوْ آمِنًا لاَ يُوثَقُ
بِأَمْنِهِ، وَلِذَلِكَ لاَ يَجُوزُ السَّفَرُ بِالْوَدِيعَةِ مَعَ عَدَمِ
الضَّرُورَةِ. (ر: وَدِيعَة) .
اسْتِفَادَةُ أَمْنِ الطَّرِيقِ فِي الْقَرْضِ:
16 - الأَْصْل أَنَّ كُل قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً فَهُوَ مَمْنُوعٌ، "
لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ قَرْضٍ
جَرَّ مَنْفَعَةً (1)
وَعَلَى هَذَا تُخَرَّجُ مَسْأَلَةُ السَّفَاتِجِ (2) . وَهِيَ: اشْتِرَاطُ
الْقَضَاءِ بِبَلَدٍ آخَرَ، لاِنْتِفَاعِ الْمُقْرِضِ بِدَفْعِ خَطَرِ
الطَّرِيقِ.
وَالْقَرْضُ بِهَذَا الشَّرْطِ مَمْنُوعٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ -
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنِ
الإِْمَامِ أَحْمَدَ - لأَِنَّ الْقَرْضَ عَقْدُ إِرْفَاقٍ وَقُرْبَةٍ،
فَإِذَا شُرِطَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ خَرَجَ عَنْ مَوْضُوعِهِ، إِلاَّ إِذَا
عَمَّ الْخَوْفُ بَرًّا وَبَحْرًا فَإِنَّ الْمَالِكِيَّةَ يُجِيزُونَهُ
فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِلضَّرُورَةِ صِيَانَةً لِلأَْمْوَال.
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قرض جر منفعة. . . ".
أخرجه البيهقي بهذا المعنى عن فضالة بن عبيد وابن مسعود وأبي بن كعب وعبد
الله بن سلام وابن عباس موقوفا عليهم، وأخرجه الحارث بن أسامة في مسنده من
حديث علي رضي الله عنه مرفوعا بلفظ " كل قرض جر منف (السنن الكبرى للبيهقي
5 / 350، 351 ط دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد، والمطالب العالية 1 /
411 نشر وزارة الأوقات والشئون الإسلامية بدولة الكويت، وكشف الخفاء 2 /
125 نشر مكتبة القدسي، والتلخيص الحبير 3 / 34 ط شركة الطباعة الفنية
المتحدة.
(2) السفاتج جمع مفرده: سفتجة - بضم السين أو فتحها وفتح التاء - وهي ورقة
يكتبها المقترض ببلد لوكيله ببلد آخر ليقضي عنه بها ما اقترضه (منح الجليل
3 / 50، والجواهر 2 / 76)
(6/276)
وَإِنْ كَانَ بِدُونِ شَرْطٍ فَهُوَ
جَائِزٌ بِاتِّفَاقٍ، لأَِنَّهُ مِنْ حُسْنِ الْقَضَاءِ، وَقَدْ رُوِيَ
أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَلَفَ مِنْ
رَجُلٍ بَكْرًا، فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلٌ مِنْ إِبِل الصَّدَقَةِ،
فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُل بَكْرَهُ، فَرَجَعَ
إِلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ، فَقَال: لَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلاَّ خِيَارًا
رُبَاعِيًّا فَقَال: أَعْطِهِ إِيَّاهُ، إِنَّ خِيَارَ النَّاسِ
أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً (1) وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا أَنَّهُ " كَانَ يَسْتَقْرِضُ بِالْمَدِينَةِ وَيَرُدُّ
بِالْكُوفَةِ " وَذَلِكَ بِدُونِ شَرْطٍ (2) .
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ جَائِزٌ وَلَوْ بِشَرْطٍ،
لأَِنَّهُ مَصْلَحَةٌ لِلْمُقْرِضِ وَالْمُقْتَرِضِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ
بِوَاحِدٍ مِنْهَا، وَالشَّرْعُ لاَ يَرِدُ بِتَحْرِيمِ الْمَصَالِحِ
الَّتِي لاَ مَضَرَّةَ فِيهَا بَل بِمَشْرُوعِيَّتِهَا، وَلأَِنَّ هَذَا
لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَلاَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ،
فَوَجَبَ بَقَاؤُهُ عَلَى الإِْبَاحَةِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي: أَنَّ
لِلْوَصِيِّ قَرْضَ مَال الْيَتِيمِ فِي بَلَدٍ أُخْرَى لِيَرْبَحَ خَطَرَ
الطَّرِيقِ. وَقَال عَطَاءٌ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا يَأْخُذُ مِنْ قَوْمٍ بِمَكَّةَ دَرَاهِمَ، ثُمَّ يَكْتُبُ
لَهُمْ بِهَا إِلَى أَخِيهِ مُصْعَبٍ بِالْعِرَاقِ، فَيَأْخُذُونَهَا
مِنْهُ، فَسُئِل عَنْ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
فَلَمْ يَرَ بِهِ
__________
(1) حديث: " إن خيار الناس أحسنهم قضاء ". أخرجه مسلم (3 / 1224 ط عيسى
الحلبي) .
(2) الأثر عن ابن عباس رضي الله عنهما يدل عليه ما أخرجه ابن أبي شيبة وعبد
الرزاق والبيهقي من أن ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهما كانا لا يريان
بأسا أن يؤخذ المال بأرض الحجاز ويعطى بأرض العراق، أو يؤخذ بأرض العراق
ويعطى بأرض الحجاز. (مصنف ابن أبي شيبة 6 / ومصنف عبد الرزاق 8 / 40 نشر
المجلس العلمي، والسنن الكبرى للبيهقي 5 / 352 ط دائرة المعارف العثمانية)
(6/277)
بَأْسًا، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِل عَنْ مِثْل هَذَا فَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا
(1) .
تَحَقُّقُ الأَْمْنِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُحْرِمِ
17 - كَانَ الْحَرَمُ مَوْضِعَ أَمْنٍ لأَِهْلِهِ وَمَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ،
وَكَانَ هَذَا مَعْرُوفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَاسْتَمَرَّ فِي
الإِْسْلاَمِ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَال إِبْرَاهِيمُ رَبِّ
اجْعَل هَذَا بَلَدًا آمِنًا} (2) ، وَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: {
إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالأَْرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ يُحَرِّمُهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِل الْقِتَال فِيهِ لأَِحَدٍ قَبْلِي،
وَلَمْ يَحِل لِي إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ
اللَّهِ تَعَالَى إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلاَ
يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلاَ يُلْتَقَطُ لُقَطَتُهُ إِلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا،
وَلاَ يُخْتَلَى خَلاَهُ، فَقَال الْعَبَّاسُ: يَا رَسُول اللَّهِ إِلاَّ
الإِْذْخِرَ فَإِنَّهُ لِقِينِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ، فَقَال صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِلاَّ الإِْذْخِرَ (3)
وَلاِسْتِيفَاءِ بَاقِي أَحْكَامِ الْحَرَمِ، وَتَفَاصِيلِهِ (ر: حَرَم) .
تَحَقُّقُ الأَْمْنِ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ:
18 - مِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ حُكْمَ الإِْسْلاَمِ بِالنِّسْبَةِ
لِلْمُسْلِمِينَ فِي الدُّنْيَا هُوَ عِصْمَةُ النَّفْسِ وَالْمَال،
لِقَوْل
__________
(1) البدائع 7 / 395، ومنح الجليل 3 / 50، والمهذب 1 / 311، والمغني 4 /
354، 356
(2) سورة البقرة / 35
(3) حديث: " إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام. .
. " أخرجه البخاري ومسلم (فتح الباري 6 / 283 ط السلفية، وصحيح مسلم 2 /
986 - 987 ط عيسى الحلبي)
(6/277)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِل النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ
إِلاَّ اللَّهُ فَإِذَا قَالُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ عَصَمُوا مِنِّي
دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى
اللَّهِ (1)
وَبِهَذَا يَتَقَرَّرُ الأَْمْنُ لِلْمُسْلِمِ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ.
أَمَّا غَيْرُ الْمُسْلِمِ فَإِنَّهُ يَتَحَقَّقُ لَهُ الأَْمْنُ
بِتَأْمِينِ الْمُسْلِمِينَ لَهُ وَإِعْطَائِهِ الأَْمَانَ؛ لأَِنَّ حُكْمَ
الأَْمَانِ هُوَ ثُبُوتُ الأَْمْنِ لِلْكَفَرَةِ عَنِ الْقَتْل وَالسَّبْيِ
وَالاِسْتِغْنَامِ، فَيَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَتْل رِجَالِهِمْ
وَسَبْيُ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ وَاسْتِغْنَامُ أَمْوَالِهِمْ.
وَالأَْصْل فِي إِعْطَاءِ الأَْمَانِ لِلْكُفَّارِ قَوْله تَعَالَى:
{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى
يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} (2) .
19 - وَالأَْمَانُ قِسْمَانِ الأَْوَّل: أَمَانٌ يَعْقِدُهُ الإِْمَامُ
أَوْ نَائِبُهُ، وَهُوَ نَوْعَانِ: مُؤَقَّتٌ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى
بِالْهُدْنَةِ وَبِالْمُعَاهَدَةِ وَبِالْمُوَادَعَةِ - وَهُوَ عَقْدُ
الإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ عَلَى تَرْكِ الْقِتَال مُدَّةً مَعْلُومَةً -
مَعَ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي مِقْدَارِ مُدَّةِ الْمُوَادَعَةِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَادَعَ أَهْل مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ تُوضَعَ الْحَرْبُ
بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ عَشْرَ سِنِينَ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: الأَْمَانُ الْمُؤَبَّدُ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى
عَقْدَ الذِّمَّةِ، وَهُوَ إِقْرَارُ بَعْضِ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِمْ
بِشَرْطِ بَذْل الْجِزْيَةِ وَالْتِزَامِ أَحْكَامِ الإِْسْلاَمِ
__________
(1) حديث: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. . . . "
أخرجه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعا (صحيح مسلم 1 / 53 ط عيسى
الحلبي)
(2) سورة التوبة / 6
(6/278)
وَالأَْصْل فِيهِ قَوْله تَعَالَى:
{قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ
الآْخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ
يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى
يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (1) .
هَذَا مَعَ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي غَيْرِ أَهْل الْكِتَابِ، هَل
تُقْبَل مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ وَيُقَرُّونَ عَلَى حَالِهِمْ أَمْ لاَ
يُقْبَل مِنْهُمْ إِلاَّ الإِْسْلاَمُ، فَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا قُتِلُوا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ الأَْمَانِ:
هُوَ الأَْمَانُ الَّذِي يُصْدَرُ مِنْ أَحَدِ الْمُسْلِمِينَ لِعَدَدٍ
مَحْصُورٍ مِنَ الْكُفَّارِ، وَيَدُل عَلَيْهِ حَدِيثُ: الْمُؤْمِنُونَ
تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، وَيَسْعَى
بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ. (2) وَأَخْبَارٌ أُخْرَى، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل
ذَلِكَ فِي (أَمَان، وَذِمَّة، وَمُعَاهَدَة) .
أَمَةٌ
انْظُرْ: رِقّ.
__________
(1) سورة التوبة / 29، وانظر: بدائع الصنائع 7 / 105، 107، 109 - 111، ومنح
الجليل 1 / 756، 765، 766، والمهذب 2 / 254، 260، 262، ونهاية المحتاج 8 /
100، 102، والمغني 8 / 459، 463، 535، وشرح منتهى الإرادات 2 / 122 - 130
(2) حديث " المؤمنون تتكافأ دماؤهم. . . " أخرجه أبو داود، وحسنه الحافظ
ابن حجر في الفتح (عون المعبود 4 / 303، 304 ط الهند، وفتح الباري 12 / 261
ط السلفية، وشرح للبغوي 10 / 172)
(6/278)
إِمْهَالٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْمْهَال لُغَةً: الإِْنْظَارُ وَتَأْخِيرُ الطَّلَبِ (1) ،
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ يُسْتَعْمَل كَذَلِكَ بِمَعْنَى: الإِْنْظَارِ
وَالتَّأْجِيل (2) .
وَالإِْمْهَال يُنَافِي التَّعْجِيل (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - أ - الإِْعْذَارُ: وَهُوَ سُؤَال الْحَاكِمِ مَنْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ
مُوجِبُ الْحُكْمِ: هَل لَهُ مَا يُسْقِطُهُ (4) ؟ وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ:
(إِعْذَار)
ب - التَّنْجِيمُ: هُوَ تَأْجِيل الْعِوَضِ بِأَجَلَيْنِ فَصَاعِدًا (5) .
ج - التَّلَوُّمُ: وَهُوَ التَّمَكُّثُ وَالتَّمَهُّل وَالتَّصَبُّرُ،
وَمِنْهُ أَنْ يَتَصَبَّرَ الْحَاكِمُ مَثَلاً لِلزَّوْجِ مُدَّةً قَبْل
التَّطْلِيقِ عَلَيْهِ لِلإِْعْسَارِ (6)
__________
(1) المصباح المنير (مهل)
(2) طلبة الطلبة ص 50 نشر مكتبة المثنى ببغداد، ومغني المحتاج 3 / 248 ط
مصطفى الحلبي
(3) الفروق لأبي هلال العسكرى ص 194
(4) الفروق لأبي هلال العسكري ص 196، وجواهر الإكليل 2 / 227
(5) كشاف القناع 4 / 539 نشر مكتبة النصر الحديثة
(6) البهجة شرح التحفة 1 / 59 ط مصطفى الحلبي، والدسوقي 2 / 519
(6/279)
د - التَّرَبُّصُ: وَهُوَ بِمَعْنَى
الاِنْتِظَارِ (1) .
وَمُدَّةُ الإِْمْهَال تَارَةً تَكُونُ مُقَدَّرَةً كَإِمْهَال الْمَوْلَى،
وَتَارَةً تَكُونُ غَيْرَ مُقَدَّرَةٍ، وَقَدْ يَخْتَلِفُ ذَلِكَ عِنْدَ
بَعْضِ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْبَعْضِ الآْخَرِ (2)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - يَجِبُ إِنْظَارُ مَنْ ثَبَتَ إِعْسَارُهُ عِنْدَ الأَْئِمَّةِ
الأَْرْبَعَةِ إِلَى وَقْتِ الْيَسَارِ، وَلاَ يُحْبَسُ (3) ، لِقَوْل
اللَّهِ سُبْحَانَهُ {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى
مَيْسَرَةٍ} (4)
وَالْعِنِّينُ يَضْرِبُ لَهُ الْقَاضِي سَنَةً عِنْدَ الْجُمْهُورِ، "
كَمَا فَعَل عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ
وَغَيْرُهُ، فَقَدْ يَكُونُ تَعَذُّرُ الْجِمَاعِ لِعَارِضِ حَرَارَةٍ
فَيَزُول فِي الشِّتَاءِ، أَوْ بُرُودَةٍ فَيَزُول فِي الصَّيْفِ، أَوْ
يُبُوسَةٍ فَتَزُول فِي الرَّبِيعِ، أَوْ رُطُوبَةٍ فَتَزُول فِي
الْخَرِيفِ، فَإِذَا مَضَتِ السَّنَةُ وَلَمْ يَطَأْ، عَلِمْنَا أَنَّهُ
عَجْزٌ خِلْقِيٌّ (5) . (ر: عِنِّين) .
4 - وَأَجَل الْمُولِي أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ (6) ، لِقَوْل اللَّهِ
سُبْحَانَهُ {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (7) (ر:
إِيلاَء) .
__________
(1) المصباح المنير مادة (ربص)
(2) المحلى على المنهاج 3 / 278
(3) الفتاوى الهندية 5 / 63 ط بولاق، والفواكه الدواني 2 / 322، والفروق
للقرافي 2 / 10، ونهاية المحتاج 4 / 323 ط مصطفى الحلبي، والمغني 4 / 497 ط
الرياض
(4) سورة البقرة / 180
(5) فتح القدير 4 / 128، ومغني المحتاج 3 / 205، والروض المربع 2 / 276 ط
السلفية، والخرشي 4 / 238 نشر دار صادر
(6) الخرشي 4 / 90، 91، ومغني المحتاج 3 / 348، والروض المربع ص 309،
والكافي 2 / 565 نشر الرياض
(7) سورة البقرة / 226
(6/279)
5 - وَفِي الْقَضَاءِ لَوِ اسْتُمْهِل
الْمُدَّعِي لإِِحْضَارِ بَيِّنَتِهِ، فَإِنَّ أَغْلَبَ الْفُقَهَاءِ عَلَى
أَنَّهُ يُمْهَل، وَهَل هَذَا الإِْمْهَال وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ،
خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ
وَقَدَّرَ بَعْضُهُمْ مُدَّةَ الإِْمْهَال ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ،
وَبَعْضُهُمْ جَعَلَهَا إِلَى اجْتِهَادِ الْقَاضِي (1) . وَانْظُرْ
لِلتَّفْصِيل مُصْطَلَحَ (قَضَاء) .
وَفِي الإِْمْهَال لِعُذْرٍ، وَفِي مَنْعِهِ عِنْدَ طَلَبِ الْخَصْمِ (2) ،
يُرَاجَعُ (قَضَاء، وَدَعْوَى) .
وَالإِْمْهَال يَمْتَنِعُ فِيمَا تُشْتَرَطُ فِيهِ الْفَوْرِيَّةُ،
كَاسْتِمْهَال مَنْ طَلَّقَ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ: لِتَعْيِينِ
الْمُطَلَّقَةِ مِنْهُمَا (3) ، وَاسْتِمْهَال الْمُشْتَرِي رَدَّ
الْمَبِيعِ بِالْعَيْبِ، وَالشَّفِيعِ فِي طَلَبِ الشُّفْعَةِ، وَغَيْرِ
ذَلِكَ مِنَ الأُْمُورِ الَّتِي تُشْتَرَطُ فِيهَا الْفَوْرِيَّةُ.
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
6 - مِنَ الْمَوَاطِنِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا الإِْمْهَال: مَبَاحِثُ
الْكَفَالَةِ، فَيُمْهَل الْكَفِيل لإِِحْضَارِ الْمَكْفُول عَنْهُ مِنْ
مَسَافَةِ الْقَصْرِ فَمَا دُونَهَا (4) . وَمِنْهَا: النَّفَقَةُ،
فَيُمْهَل الزَّوْجُ لإِِحْضَارِ مَالِهِ الَّذِي فِي مَسَافَةِ الْقَصْرِ
(5) .
وَفِي الصَّدَاقِ تُمْهَل الزَّوْجَةُ لِلدُّخُول، وَكَذَا يُمْهَل
الزَّوْجُ لِوُجُودِ بَعْضِ الأَْعْذَارِ كَالتَّنْظِيفِ وَنَحْوِهِ (6) .
__________
(1) تكملة فتح القدير 7 / 180، 181 نشر دار المعرفة، وتبصرة الحكام 1 / 151
ط التجارية، ومغني المحتاج 4 / 467، والبجيرمي على الخطيب 4 / 347 ط مصطفى
الحلبي، والمغني 12 / 123، 124 ط المنار الأولى
(2) البجيرمي على الخطيب 4 / 347
(3) حاشية عميرة على شرح المحلي 3 / 345
(4) نهاية المحتاج 4 / 436، والقليوبي 2 / 328، 329
(5) القليوبي 4 / 82
(6) القليوبي 3 / 278
(6/280)
أَمْوَالٌ
انْظُرْ: مَال
أَمْوَال الْحَرْبِيِّينَ
انْظُرْ: أَنْفَال
أَمِيرٌ
انْظُرْ: إِمَارَة
أَمِينٌ
انْظُرْ: أَمَانَة
إِنَاءٌ
انْظُرْ: آنِيَة
(6/280)
إِنَابَةٌ
انْظُرْ: نِيَابَة - تَوْبَة
إِنْبَاتٌ
انْظُرْ: بُلُوغ
أَنْبِيَاءُ
انْظُرْ: نَبِيّ
انْتِبَاذٌ
انْظُرْ: أَشْرِبَة
انْتِحَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِنْتِحَارُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ انْتَحَرَ الرَّجُل،
(6/281)
بِمَعْنَى نَحَرَ نَفْسَهُ، أَيْ
قَتَلَهَا. وَلَمْ يَسْتَعْمِلْهُ الْفُقَهَاءُ بِهَذَا الْمَعْنَى.
لَكِنَّهُمْ عَبَّرُوا عَنْهُ بِقَتْل الإِْنْسَانِ نَفْسَهُ (1)
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلاً قَاتَل فِي سَبِيل اللَّهِ
أَشَدَّ الْقِتَال، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنَّهُ مِنْ أَهْل النَّارِ، فَبَيْنَمَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ إِذْ وَجَدَ
الرَّجُل أَلَمَ الْجُرْحِ، فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى كِنَانَتِهِ،
فَانْتَزَعَ مِنْهَا سَهْمًا فَانْتَحَرَ بِهَا.
وَفِي الْحَدِيثِ نَفْسِهِ: انْتَحَرَ فُلاَنٌ فَقَتَل نَفْسَهُ رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - النَّحْرُ وَالذَّبْحُ:
2 - النَّحْرُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ: فَرْيُ الأَْوْدَاجِ وَقَطْعُ كُل
الْحُلْقُومِ، وَمَحَلُّهُ مِنْ أَسْفَل الْحُلْقُومِ. وَيُطْلَقُ
الاِنْتِحَارُ عَلَى قَتْل الإِْنْسَانِ نَفْسَهُ بِأَيِّ وَسِيلَةٍ
كَانَتْ. وَلِهَذَا ذَكَرُوا أَحْكَامَهُ بِاسْمِ (قَتْل الشَّخْصِ
نَفْسَهُ) (3)
بِمَ يَتَحَقَّقُ الاِنْتِحَارُ:
3 - الاِنْتِحَارُ نَوْعٌ مِنَ الْقَتْل فَيَتَحَقَّقُ بِوَسَائِل
مُخْتَلِفَةٍ. وَيَتَنَوَّعُ بِأَنْوَاعٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَالْقَتْل.
فَإِذَا كَانَ إِزْهَاقُ الشَّخْصِ نَفْسَهُ بِإِتْيَانِ فِعْلٍ مَنْهِيٍّ
عَنْهُ، كَاسْتِعْمَال السَّيْفِ أَوِ الرُّمْحِ أَوِ الْبُنْدُقِيَّةِ
أَوْ
__________
(1) لسان العرب وتاج العروس مادة: (نحر)
(2) حديث أبي هريرة: " أن رجلا قاتل في سبيل الله. . . . " أخرجه البخاري
(فتح الباري 11 / 498 ط السلفية)
(3) البدائع 5 / 41، والمغني 11 / 42، والشرح الصغير 2 / 154، ونهاية
المحتاج 8 / 105، 111
(6/281)
أَكْل السُّمِّ أَوْ إِلْقَاءِ نَفْسِهِ
مِنْ شَاهِقٍ أَوْ فِي النَّارِ " لِيَحْتَرِقَ أَوْ فِي الْمَاءِ
لِيَغْرَقَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوَسَائِل، فَهُوَ انْتِحَارٌ بِطَرِيقِ
الإِْيجَابِ.
وَإِذَا كَانَ الإِْزْهَاقُ بِالاِمْتِنَاعِ عَنِ الْوَاجِبِ،
كَالاِمْتِنَاعِ مِنَ الأَْكْل وَالشُّرْبِ وَتَرْكِ عِلاَجِ الْجُرْحِ
الْمَوْثُوقِ بِبُرْئِهِ بِمَا فِيهِ مِنْ خِلاَفٍ سَيَأْتِي، أَوْ عَدَمِ
الْحَرَكَةِ فِي الْمَاءِ أَوْ فِي النَّارِ أَوْ عَدَمِ التَّخَلُّصِ مِنَ
السَّبُعِ الَّذِي يُمْكِنُ النَّجَاةُ مِنْهُ، فَهُوَ انْتِحَارٌ
بِطَرِيقِ السَّلْبِ (1)
4 - وَيُقَسَّمُ الاِنْتِحَارُ بِحَسَبِ إِرَادَةِ الْمُنْتَحِرِ إِلَى
نَوْعَيْنِ: الاِنْتِحَارِ عَمْدًا وَالاِنْتِحَارِ خَطَأً.
فَإِذَا ارْتَكَبَ الشَّخْصُ عَمَلاً حَصَل مِنْهُ قَتْل نَفْسِهِ،
وَأَرَادَ النَّتِيجَةَ الْحَاصِلَةَ مِنَ الْعَمَل، يُعْتَبَرُ الْقَتْل
انْتِحَارًا عَمْدًا. كَرَمْيِ نَفْسِهِ بِقَصْدِ الْقَتْل مَثَلاً.
وَإِذَا أَرَادَ صَيْدًا أَوْ قَتْل الْعَدُوِّ فَأَصَابَ نَفْسَهُ،
وَمَاتَ، يُعْتَبَرُ انْتِحَارًا خَطَأً. وَسَتَأْتِي أَحْكَامُهُمَا
قَرِيبًا.
وَيُمْكِنُ أَنْ يَحْصُل الاِنْتِحَارُ بِطَرِيقٍ يُعْتَبَرُ شَبَهَ
الْعَمْدِ عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ، كَقَتْل الإِْنْسَانِ نَفْسَهُ
بِمَا لاَ يَقْتُل غَالِبًا، كَالسَّوْطِ وَالْعَصَا. ر: (قَتْل) .
أَمْثِلَةٌ مِنَ الاِنْتِحَارِ بِطَرِيقِ السَّلْبِ:
أَوَّلاً: الاِمْتِنَاعُ مِنَ الْمُبَاحِ:
5 - مَنِ امْتَنَعَ مِنَ الْمُبَاحِ حَتَّى مَاتَ كَانَ قَاتِلاً نَفْسَهُ،
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 1 / 149، ونهاية المحتاج 7 / 243، ومواهب الجليل 3
/ 233، والمغني 9 / 326
(6/282)
مُتْلِفًا لَهَا عِنْدَ جَمِيعِ أَهْل
الْعِلْمِ (1) . لأَِنَّ الأَْكْل لِلْغِذَاءِ وَالشُّرْبَ لِدَفْعِ
الْعَطَشِ فَرْضٌ بِمِقْدَارِ مَا يَدْفَعُ الْهَلاَكَ، فَإِنْ تَرَكَ
الأَْكْل وَالشُّرْبَ حَتَّى هَلَكَ فَقَدِ انْتَحَرَ؛ لأَِنَّ فِيهِ
إِلْقَاءَ النَّفْسِ إِلَى التَّهْلُكَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي مُحْكَمِ
التَّنْزِيل (2) .
وَإِذَا اضْطُرَّ الإِْنْسَانُ لِلأَْكْل أَوِ الشُّرْبِ مِنَ الْمُحَرَّمِ
كَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ حَتَّى ظَنَّ الْهَلاَكَ جُوعًا
لَزِمَهُ الأَْكْل وَالشُّرْبُ، فَإِذَا امْتَنَعَ حَتَّى مَاتَ صَارَ
قَاتِلاً نَفْسَهُ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَرَكَ أَكْل الْخُبْزِ وَشُرْبَ
الْمَاءِ فِي حَال الإِْمْكَانِ؛ لأَِنَّ تَارِكَهُ سَاعٍ فِي إِهْلاَكِ
نَفْسِهِ، وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}
(3) . وَكَذَلِكَ حُكْمُ الإِْكْرَاهِ عَلَى أَكْل الْمُحَرَّمِ، فَلاَ
يُبَاحُ لِلْمُكْرَهِ الاِمْتِنَاعُ مِنْ أَكْل الْمَيْتَةِ أَوِ الدَّمِ
أَوْ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ فِي حَالَةِ الإِْكْرَاهِ؛ لأَِنَّ هَذِهِ
الأَْشْيَاءَ مِمَّا يُبَاحُ عِنْدَ الاِضْطِرَارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (4) وَالاِسْتِثْنَاءُ مِنَ
التَّحْرِيمِ إِبَاحَةٌ، وَقَدْ تَحَقَّقَ الاِضْطِرَارُ بِالإِْكْرَاهِ،
وَلَوِ امْتَنَعَ عَنْهُ حَتَّى قُتِل يُؤَاخَذُ بِهِ وَيُعَدُّ
مُنْتَحِرًا، لأَِنَّهُ بِالاِمْتِنَاعِ عَنْهُ صَارَ مُلْقِيًا نَفْسَهُ
إِلَى التَّهْلُكَةِ (5) .
ثَانِيًا: تَرْكُ الْحَرَكَةِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ:
6 - مَنْ أُلْقِيَ فِي مَاءٍ جَارٍ أَوْ رَاكِدٍ لاَ يُعَدُّ مُغْرَقًا،
كَمُنْبَسِطٍ يُمْكِنُهُ الْخَلاَصُ مِنْهُ عَادَةً، فَمَكَثَ فِيهِ
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 1 / 148
(2) ابن عابدين 5 / 215
(3) سورة النساء / 29
(4) سورة الأنعام / 119
(5) البدائع 7 / 176، وأحكام القرآن للجصاص 1 / 149، ومواهب الجليل 3 /
233، وأسنى المطالب 1 / 570، والمغني 11 / 74
(6/282)
مُضْطَجِعًا مَثَلاً مُخْتَارًا لِذَلِكَ
حَتَّى هَلَكَ، يُعْتَبَرُ مُنْتَحِرًا وَقَاتِلاً نَفْسَهُ، وَلِذَلِكَ
لاَ قَوَدَ وَلاَ دِيَةَ عَلَى الَّذِي أَلْقَاهُ فِي الْمَاءِ عِنْدَ
عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ؛ لأَِنَّ هَذَا الْفِعْل لَمْ يَقْتُلْهُ،
وَإِنَّمَا حَصَل الْمَوْتُ بِلُبْثِهِ فِيهِ، وَهُوَ فِعْل نَفْسِهِ،
فَلَمْ يَضْمَنْهُ غَيْرُهُ. كَذَلِكَ إِنْ تَرَكَهُ فِي نَارٍ يُمْكِنُهُ
الْخَلاَصُ مِنْهَا لِقِلَّتِهَا، أَوْ لِكَوْنِهِ فِي طَرَفٍ مِنْهَا
يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ بِأَدْنَى حَرَكَةٍ، فَلَمْ يَخْرُجْ حَتَّى مَاتَ.
وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَوْ تَرَكَهُ فِي نَارٍ يُمْكِنُهُ
التَّخَلُّصُ مِنْهَا فَلَمْ يَخْرُجْ يَضْمَنُ، لأَِنَّهُ جَانٍ
بِالإِْلْقَاءِ الْمُفْضِي إِلَى الْمَوْتِ. وَفَارَقَ الْمَاءَ، لأَِنَّهُ
غَيْرُ مُهْلِكٍ بِنَفْسِهِ، وَلِهَذَا يَدْخُلُهُ النَّاسُ لِلسِّبَاحَةِ،
أَمَّا النَّارُ فَيَسِيرُهَا يُهْلِكُ، وَلأَِنَّ النَّارَ لَهَا
حَرَارَةٌ شَدِيدَةٌ، فَرُبَّمَا أَزْعَجَتْهُ حَرَارَتُهَا عَنْ
مَعْرِفَةِ مَا يَتَخَلَّصُ بِهِ، أَوْ أَذْهَبَتْ عَقْلَهُ بِأَلَمِهَا
وَرَوْعَتِهَا (1) .
ثَالِثًا: تَرْكُ الْعِلاَجِ وَالتَّدَاوِي:
7 - الاِمْتِنَاعُ مِنَ التَّدَاوِي فِي حَالَةِ الْمَرَضِ لاَ يُعْتَبَرُ
انْتِحَارًا عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، فَمَنْ كَانَ مَرِيضًا
وَامْتَنَعَ مِنَ الْعِلاَجِ حَتَّى مَاتَ، لاَ يُعْتَبَرُ عَاصِيًا، إِذْ
لاَ يَتَحَقَّقُ بِأَنَّهُ يَشْفِيهِ.
كَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ الْمَجْرُوحُ عِلاَجَ جُرْحٍ مُهْلِكٍ فَمَاتَ لاَ
يُعْتَبَرُ مُنْتَحِرًا، بِحَيْثُ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى جَارِحِهِ، إِذِ
الْبُرْءُ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهِ وَإِنْ عَالَجَ (2) . أَمَّا إِذَا كَانَ
الْجُرْحُ بَسِيطًا وَالْعِلاَجُ مَوْثُوقًا بِهِ، كَمَا
__________
(1) الفتاوى الهندية 6 / 5، وشرح منتهى الإرادات 3 / 269، ونهاية المحتاج 7
/ 243، والمغني 9 / 326، والوجيز للغزالي 2 / 122
(2) ابن عابدين 5 / 215، ونهاية المحتاج 7 / 243، والمغني 9 / 326
(6/283)
لَوْ تَرَكَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَصْبَ
الْعِرْقِ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ قَدْ قَتَل نَفْسَهُ، حَتَّى لاَ يُسْأَل
جَارِحُهُ عَنِ الْقَتْل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (1) . وَصَرَّحَ
الْحَنَابِلَةُ بِخِلاَفِهِ، وَقَالُوا: إِنْ تَرَكَ شَدَّ الْفِصَادِ مَعَ
إِمْكَانِهِ لاَ يَسْقُطُ الضَّمَانُ، كَمَا لَوْ جُرِحَ فَتَرَكَ
مُدَاوَاةَ جُرْحِهِ (2) .
وَمَعَ تَصْرِيحِ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ تَرْكَ الْعِلاَجِ لاَ يُعْتَبَرُ
عِصْيَانًا؛ لأَِنَّ الْبُرْءَ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهِ، قَالُوا: إِنْ
ضَرَبَ رَجُلاً بِإِبْرَةٍ فِي غَيْرِ الْمَقْتَل عَمْدًا فَمَاتَ، لاَ
قَوَدَ فِيهِ (3) فَقَدْ فَصَّلُوا بَيْنَ الْجُرْحِ الْمُهْلِكِ وَغَيْرِ
الْمُهْلِكِ كَالشَّافِعِيَّةِ، فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ تَرْكَ الْجُرْحِ
الْيَسِيرِ لِنَزْفِ الدَّمِ حَتَّى الْمَوْتِ يُشْبِهُ الاِنْتِحَارَ.
وَلَمْ نَعْثُرْ عَلَى نَصٍّ لِلْمَالِكِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
8 - الاِنْتِحَارُ حَرَامٌ بِالاِتِّفَاقِ، وَيُعْتَبَرُ مِنْ أَكْبَرِ
الْكَبَائِرِ بَعْدَ الشِّرْكِ بِاَللَّهِ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ
تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} (4)
وَقَال: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ
رَحِيمًا} (5) وَقَدْ قَرَّرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْمُنْتَحِرَ أَعْظَمُ
وِزْرًا مِنْ قَاتِل غَيْرِهِ، وَهُوَ فَاسِقٌ وَبَاغٍ عَلَى نَفْسِهِ،
حَتَّى قَال بَعْضُهُمْ: لاَ يُغَسَّل وَلاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ
كَالْبُغَاةِ، وَقِيل: لاَ تُقْبَل تَوْبَتُهُ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ (6) .
كَمَا أَنَّ ظَاهِرَ بَعْضِ الأَْحَادِيثِ يَدُل عَلَى خُلُودِهِ
__________
(1) نهاية المحتاج7 / 243
(2) المغني 9 / 326
(3) ابن عابدين 5 / 215، والفتاوى الهندية 6 / 5
(4) سورة الأنعام / 151
(5) سورة النساء / 29
(6) ابن عابدين 1 / 584، والقليوبي مع حاشية عميرة 1 / 348، 349، والمغني 2
/ 418، والزواجر لابن حجر الهيثمي 2 / 96
(6/283)
فِي النَّارِ. مِنْهَا قَوْلُهُ مَنْ
تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَل نَفْسَهُ فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ
يَتَرَدَّى فِيهَا خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا (1) .
وَهُنَاكَ حَالاَتٌ خَاصَّةٌ تُشْبِهُ الاِنْتِحَارَ، لَكِنَّهُ لاَ
عِقَابَ عَلَى مُرْتَكِبِهَا، وَلاَ يَأْثَمُ فَاعِلُهَا، لأَِنَّهَا
لَيْسَتِ انْتِحَارًا فِي الْوَاقِعِ كَالآْتِي:
أَوَّلاً: الاِنْتِقَال مِنْ سَبَبِ مَوْتٍ إِلَى آخَرَ:
9 - إِذَا وَقَعَ حَرِيقٌ فِي سَفِينَةٍ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْ ظَل فِيهَا
احْتَرَقَ، وَلَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ غَرِقَ. فَالْجُمْهُورُ
(الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ قَوْل أَبِي
حَنِيفَةَ) عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَيَّهُمَا شَاءَ. فَإِذَا
رَمَى نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ وَمَاتَ جَازَ، وَلاَ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ
انْتِحَارًا مُحَرَّمًا إِذَا اسْتَوَى الأَْمْرَانِ.
وَقَال الصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ
أَحْمَدَ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمَقَامُ وَالصَّبْرُ، لأَِنَّهُ إِذَا
رَمَى نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ كَانَ مَوْتُهُ بِفِعْلِهِ، وَإِنْ أَقَامَ
فَمَوْتُهُ بِفِعْل غَيْرِهِ (2)
كَذَلِكَ جَازَ لَهُ الاِنْتِقَال مِنْ سَبَبِ مَوْتٍ إِلَى سَبَبِ مَوْتٍ
آخَرَ، إِذَا كَانَ فِي السَّبَبِ الَّذِي يَنْتَقِل إِلَيْهِ نَوْعُ
خِفَّةٍ مَعَ التَّأَكُّدِ مِنَ الْقَتْل فِيهِمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ،
قَال الزَّيْلَعِيُّ: وَلَوْ قَال لَهُ: لَتُلْقِيَنَّ نَفْسَكَ فِي
النَّارِ أَوْ مِنَ الْجَبَل، أَوْ لأََقْتُلَنَّكَ، وَكَانَ الإِْلْقَاءُ
بِحَيْثُ لاَ يَنْجُو مِنْهُ، وَلَكِنْ فِيهِ نَوْعُ خِفَّةٍ، فَلَهُ
الْخِيَارُ إِنْ شَاءَ فَعَل ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَل
__________
(1) حديث: " من تردى من جبل فقتل نفسه. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 /
247 - ط السلفية) ومسلم (1 / 103 - 104 ط الحلبي)
(2) المغني 10 / 554، والشرح الكبير 2 / 184، والقليوبي 4 / 210، والزيلعي
5 / 190
(6/284)
وَصَبَرَ حَتَّى يُقْتَل، لأَِنَّهُ
ابْتُلِيَ بِبَلِيَّتَيْنِ فَيَخْتَارُ مَا هُوَ الأَْهْوَنُ فِي زَعْمِهِ،
وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ. وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ يَصْبِرُ وَلاَ يَفْعَل ذَلِكَ؛ لأَِنَّ مُبَاشَرَةَ
الْفِعْل سَعْيٌ فِي إِهْلاَكِ نَفْسِهِ فَيَصْبِرُ تَحَامِيًا عَنْهُ (1)
.
أَمَّا إِذَا ظَنَّ السَّلاَمَةَ فِي الاِنْتِقَال مِنْ سَبَبٍ إِلَى
سَبَبٍ آخَرَ لِلْمَوْتِ، أَوْ رَجَا طُول الْحَيَاةِ وَلَوْ مَعَ مَوْتٍ
أَشَدَّ وَأَصْعَبَ مِنَ الْمَوْتِ الْمُعَجَّل، فَقَدْ صَرَّحَ
الْمَالِكِيَّةُ بِوُجُوبِهِ؛ لأَِنَّ حِفْظَ النُّفُوسِ وَاجِبٌ مَا
أَمْكَنَ، وَعَبَّرَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ هُوَ الأَْوْلَى، مِمَّا
يَدُل عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ (2) .
10 - وَمِنْ أَمْثِلَةِ الاِنْتِقَال مِنْ سَبَبِ مَوْتٍ إِلَى سَبَبِ
مَوْتٍ آخَرَ مَا ذَكَرُوا مِنْ أَنَّهُ لَوْ تَبِعَ بِسَيْفٍ وَنَحْوِهِ
مُمَيِّزًا هَارِبًا مِنْهُ فَرَمَى نَفْسَهُ بِمَاءٍ أَوْ نَارٍ مِنْ
سَطْحٍ فَمَاتَ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي قَوْلٍ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قِيَاسُ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ، لِمُبَاشَرَتِهِ
إِهْلاَكَ نَفْسِهِ عَمْدًا، كَمَا لَوْ أَكْرَهَ إِنْسَانًا عَلَى أَنْ
يَقْتُل نَفْسَهُ فَقَتَلَهَا. فَكَأَنَّهُ يُشْبِهُ الاِنْتِحَارَ
عِنْدَهُمْ. وَالْقَوْل الآْخَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ عَلَيْهِ
نِصْفَ الدِّيَةِ.
أَمَّا لَوْ وَقَعَ بِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ جَاهِلاً بِهِ، لِعَمًى أَوْ
ظُلْمَةٍ مَثَلاً أَوْ تَغْطِيَةِ بِئْرٍ، أَوْ أَلْجَأَهُ إِلَى السَّبُعِ
بِمَضِيقٍ ضَمِنَ مَنْ تَبِعَهُ، لأَِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ إِهْلاَكَ
نَفْسِهِ وَقَدْ أَلْجَأَهُ التَّابِعُ إِلَى الْهَرَبِ الْمُفْضِي
لِلْهَلاَكِ. وَكَذَا لَوِ انْخَسَفَ بِهِ سَقْفٌ فِي هَرَبِهِ فِي
الأَْصَحِّ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا طَلَبَ إِنْسَانًا بِسَيْفٍ مَشْهُورٍ
فَهَرَبَ مِنْهُ، فَتَلِفَ فِي هَرَبِهِ ضَمِنَهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ
__________
(1) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 5 / 190، والقليوبي 4 / 410
(2) الخرشي 3 / 121، والمغني 10 / 554
(3) نهاية المحتاج 7 / 333
(6/284)
الشَّاهِقِ، أَمِ انْخَسَفَ بِهِ سَقْفٌ
أَمْ خَرَّ فِي بِئْرٍ، أَمْ لَقِيَهُ سَبْعٌ، أَمْ غَرِقَ فِي مَاءٍ، أَمِ
احْتَرَقَ بِنَارٍ. وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمَطْلُوبُ صَغِيرًا أَمْ
كَبِيرًا، أَعْمَى أَمْ بَصِيرًا، عَاقِلاً أَمْ مَجْنُونًا (1) .
وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَوْضُوعِ فَقَالُوا: مَنْ أَشَارَ إِلَى
رَجُلٍ بِسَيْفٍ، وَكَانَتْ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ، فَتَمَادَى
بِالإِْشَارَةِ إِلَيْهِ وَهُوَ يَهْرُبُ مِنْهُ، فَطَلَبَهُ حَتَّى مَاتَ
فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ بِدُونِ الْقَسَامَةِ إِذَا كَانَ الْمَوْتُ بِدُونِ
السُّقُوطِ، وَإِذَا سَقَطَ وَمَاتَ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ مَعَ
الْقَسَامَةِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ بِدُونِ عَدَاوَةٍ فَلاَ قِصَاصَ، وَفِيهِ الدِّيَةُ
عَلَى الْعَاقِلَةِ (2)
ثَانِيًا: هُجُومُ الْوَاحِدِ عَلَى صَفِّ الْعَدُوِّ:
11 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ هُجُومِ رَجُلٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ وَحْدَهُ عَلَى جَيْشِ الْعَدُوِّ، مَعَ التَّيَقُّنِ
بِأَنَّهُ سَيُقْتَل.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ إِقْدَامِ الرَّجُل الْمُسْلِمِ
عَلَى الْكَثِيرِ مِنَ الْكُفَّارِ، إِنْ كَانَ قَصْدُهُ إِعْلاَءَ
كَلِمَةِ اللَّهِ، وَكَانَ فِيهِ قُوَّةٌ وَظَنَّ تَأْثِيرَهُ فِيهِمْ،
وَلَوْ عَلِمَ ذَهَابَ نَفْسِهِ، فَلاَ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ انْتِحَارًا (3)
.
وَقِيل: إِذَا طَلَبَ الشَّهَادَةَ، وَخَلَصَتِ النِّيَّةُ فَلْيَحْمِل؛
لأَِنَّ مَقْصُودَهُ وَاحِدٌ مِنَ الأَْعْدَاءِ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي
قَوْله تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ
مَرْضَاةِ اللَّهِ} (4)
__________
(1) المغني 9 / 577
(2) مواهب الجليل 6 / 241، جواهر الإكليل 2 / 257
(3) الشرح الكبير 2 / 183
(4) سورة البقرة / 207. وانظر أيضا تفسير القرطبي 2 / 363
(6/285)
وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنْ يَكُونَ
قَدْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنْ سَيَقْتُل مَنْ حَمَل عَلَيْهِ وَيَنْجُوَ،
وَكَذَلِكَ لَوْ عَلِمَ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يُقْتَل، لَكِنْ
سَيَنْكِي نِكَايَةً أَوْ سَيُبْلِي أَوْ يُؤَثِّرُ أَثَرًا يَنْتَفِعُ
بِهِ الْمُسْلِمُونَ (1) .
وَلاَ يُعْتَبَرُ هَذَا إِلْقَاءَ النَّفْسِ إِلَى التَّهْلُكَةِ
الْمَنْهِيَّ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ
إِلَى التَّهْلُكَةِ} (2) لأَِنَّ مَعْنَى التَّهْلُكَةِ - كَمَا
فَسَّرَهَا أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ - هُوَ الإِْقَامَةُ فِي الأَْمْوَال
وَإِصْلاَحُهَا وَتَرْكُ الْجِهَادِ. لِمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ
أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ حِكَايَةً عَنْ غَزْوِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ
أَنَّهُ حَمَل رَجُلٌ مِنَ الْمُسْمَلِينَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتَّى
دَخَل فِيهِمْ، فَصَاحَ النَّاسُ، وَقَالُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ، يُلْقِي
بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ الأَْنْصَارِيُّ
فَقَال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الآْيَةَ
هَذَا التَّأْوِيل، وَإِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ فِينَا
مَعَاشِرَ الأَْنْصَارِ لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الإِْسْلاَمَ وَكَثُرَ
نَاصِرُوهُ، فَقَال بَعْضُنَا لِبَعْضٍ سِرًّا دُونَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ، وَإِنَّ
اللَّهَ قَدْ أَعَزَّ الإِْسْلاَمَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ، فَلَوْ أَقَمْنَا
فِي أَمْوَالِنَا فَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا، فَأَنْزَل عَلَى
نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرُدُّ عَلَى مَا قُلْنَا
{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيل اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى
التَّهْلُكَةِ} فَكَانَتِ التَّهْلُكَةُ الإِْقَامَةَ عَلَى الأَْمْوَال
وَإِصْلاَحَهَا وَتَرْكَنَا الْغَزْوَ (3)
__________
(1) تفسير القرطبي 2 / 363
(2) سورة البقرة / 195
(3) الأثر عن أسلم أبي عمران أخرجه الترمذي (تحفة الأحوذي 8 / 311 - 312 ط
السلفية) والحاكم (المستدرك 2 / 275 ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه،
ووافقه الذهبي
(6/285)
وَنَقَل الرَّازِيُّ رِوَايَةً عَنِ
الشَّافِعِيِّ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ذَكَرَ الْجَنَّةَ، فَقَال لَهُ رَجُلٌ: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي
سَبِيل اللَّهِ فَأَيْنَ أَنَا؟ قَال: فِي الْجَنَّةِ، فَأَلْقَى تَمَرَاتٍ
فِي يَدَيْهِ ثُمَّ قَاتَل حَتَّى قُتِل (1) .
كَذَلِكَ قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالصَّحِيحُ عِنْدِي جَوَازُهُ؛
لأَِنَّ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَوْجُهٍ:
الأَْوَّل: طَلَبُ الشَّهَادَةِ.
الثَّانِي: وُجُودُ النِّكَايَةِ.
الثَّالِثُ: تَجْرِئَةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ.
الرَّابِعُ: ضَعْفُ نُفُوسِ الأَْعْدَاءِ، لِيَرَوْا أَنَّ هَذَا صُنْعُ
وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَمَا ظَنُّكَ بِالْجَمِيعِ (2) .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا حَارَبَ
قُتِل، وَإِذَا لَمْ يُحَارِبْ أُسِرَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقِتَال،
لَكِنَّهُ إِذَا قَاتَل حَتَّى قُتِل جَازَ بِشَرْطِ أَنْ يَنْكِيَ
فِيهِمْ. أَمَّا إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لاَ يَنْكِي فِيهِمْ فَإِنَّهُ لاَ
يَحِل لَهُ أَنْ يَحْمِل عَلَيْهِمْ، لأَِنَّهُ لاَ يَحْصُل بِحَمَلَتِهِ
شَيْءٌ مِنْ إِعْزَازِ الدِّينِ (3)
كَمَا نُقِل عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَال: لَوْ حَمَل
رَجُلٌ وَاحِدٌ عَلَى أَلْفِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ وَحْدَهُ،
لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ بَأْسٌ، إِذَا كَانَ يَطْمَعُ فِي نَجَاةٍ أَوْ
نِكَايَةٍ فِي الْعَدُوِّ (4) .
__________
(1) التفسير الكبير لفخر الدين الرازي 5 / 150، والقرطبي 2 / 363 وحديث: "
أرأيت إن قتلت في سبيل الله. . . " أخرجه مسلم (3 / 1309 - ط الحلبي)
(2) أحكام القرآن لابن العربي 1 / 116
(3) ابن عابدين 3 / 222
(4) القرطبي 2 / 364، وربما يشبه هذه الحالة لبس الحزام الناسف وإلقاء نفسه
أمام دبابات العدو للقضاء عليها مع علمه بأنه سيقتل
(6/286)
ثَالِثًا: الاِنْتِحَارُ لِخَوْفِ
إِفْشَاءِ الأَْسْرَارِ:
12 - إِذَا خَافَ الْمُسْلِمُ الأَْسْرَ، وَعِنْدَهُ أَسْرَارٌ هَامَّةٌ
لِلْمُسْلِمِينَ، وَيَتَيَقَّنُ أَنَّ الْعَدُوَّ سَوْفَ يَطَّلِعُ عَلَى
هَذِهِ الأَْسْرَارِ، وَيُحْدِثُ ضَرَرًا بَيِّنًا بِصُفُوفِ
الْمُسْلِمِينَ وَبِالتَّالِي يُقْتَل، فَهَل لَهُ أَنْ يَقْتُل نَفْسَهُ
وَيَنْتَحِرَ أَوْ يَسْتَسْلِمَ؟
لَمْ نَجِدْ فِي جَوَازِ الاِنْتِحَارِ خَوْفَ إِفْشَاءِ الأَْسْرَارِ،
وَلاَ فِي عَدَمِ جَوَازِهِ نَصًّا صَرِيحًا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
إِلاَّ أَنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ أَجَازُوا قِتَال الْكُفَّارِ إِذَا
تَتَرَّسُوا بِالْمُسْلِمِينَ وَلَوْ تَأَكَّدُوا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ
سَيُقْتَلُونَ مَعَهُمْ، بِشَرْطِ أَنْ يَقْصِدَ بِالرَّمْيِ الْكُفَّارَ،
وَيَتَوَقَّى الْمُسْلِمِينَ بِقَدْرِ الإِْمْكَانِ، وَقَيَّدَهُ
بَعْضُهُمْ بِمَا إِذَا كَانَتِ الْحَرْبُ قَائِمَةً، وَعَلِمْنَا أَنَّنَا
لَوْ كَفَفْنَا عَنْهُمْ ظَفِرُوا بِنَا أَوْ عَظُمَتْ نِكَايَتُهُمْ
فِينَا، وَجَعَلُوا هَذَا مِنْ تَطْبِيقَاتِ قَاعِدَةِ: (يُتَحَمَّل
الضَّرَرُ الْخَاصُّ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْعَامِّ) .
وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ الْفُقَهَاءَ لَمْ يُجَوِّزُوا إِلْقَاءَ شَخْصٍ فِي
الْبَحْرِ لِخِفَّةِ ثِقَل السَّفِينَةِ الْمُشْرِفَةِ لِلْغَرَقِ، لأَِجَل
نَجَاةِ رُكَّابِهَا مَهْمَا كَثُرَ عَدَدُهُمْ، إِلاَّ مَا نَقَل
الدُّسُوقِيُّ الْمَالِكِيُّ عَنِ اللَّخْمِيِّ مِنْ جَوَازِ ذَلِكَ
بِالْقُرْعَةِ (1) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 173، وفتح القدير 4 / 287، والدسوقي 2 / 178، 4 / 27،
ونهاية المحتاج 7 / 79، 8 / 62، والمغني مع الشرح الكبير 10 / 363، 505
فالذي يقتل نفسه خوفا من إفشاء الأسرار، وهو متأكد من أن الكفار سيحصلون
على الأسرار ويظفرون بالمسلمين، أو يعظمون نكايتهم فيهم قد يشبه هذه الحالة
في موازنة الضررين، مع أن فيه قتل المسلم نفسه، وفي التترس قتله بواسطة
(6/286)
أَمْرُ الشَّخْصِ لِغَيْرِهِ بِقَتْلِهِ:
إِذَا قَال الرَّجُل لآِخَرَ: اقْتُلْنِي، أَوْ قَال لِلْقَائِل إِنْ
قَتَلْتَنِي أَبْرَأْتُكَ، أَوْ قَدْ وَهَبْتُ لَكَ دَمِي، فَقَتَلَهُ
عَمْدًا، اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل:
13 - أَنَّ الْقَتْل فِي هَذِهِ الْحَال لاَ يُعْتَبَرُ انْتِحَارًا،
لَكِنْ لاَ يَجِبُ بِهِ الْقِصَاصُ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَال
الْقَاتِل.
هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - مَا عَدَا زُفَرَ -
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَرَوَاهُ سَحْنُونٌ عَنْ
مَالِكٍ، وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ أَظْهَرُ الأَْقْوَال؛ لأَِنَّ الإِْبَاحَةَ
لاَ تَجْرِي فِي النُّفُوسِ، وَإِنَّمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ
بِاعْتِبَارِ الإِْذْنِ، وَالشُّبْهَةُ لاَ تَمْنَعُ وُجُوبَ الْمَال،
فَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَال الْقَاتِل لأَِنَّهُ عَمْدٌ، وَالْعَاقِلَةُ
لاَ تَحْمِل دِيَةَ الْعَمْدِ (1) .
وَفَصَّل الْحَنَفِيَّةُ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ فَقَالُوا: إِنْ قَتَلَهُ
بِالسَّيْفِ فَلاَ قِصَاصَ؛ لأَِنَّ الإِْبَاحَةَ لاَ تَجْرِي فِي
النَّفْسِ، وَسَقَطَ الْقِصَاصُ لِشُبْهَةِ الإِْذْنِ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ
فِي مَالِهِ، وَإِنْ قَتَلَهُ بِمُثْقَلٍ فَلاَ قِصَاصَ لَكِنَّهُ تَجِبُ
الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ (2)
الثَّانِي:
14 - أَنَّ الْقَتْل فِي هَذِهِ الْحَال قَتْل عَمْدٍ، وَلاَ يَأْخُذُ
شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الاِنْتِحَارِ، وَلِهَذَا يَجِبُ الْقِصَاصُ.
وَهَذَا قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ حَسَّنَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَهُوَ
قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ زُفَرُ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ الأَْمْرَ بِالْقَتْل لَمْ يَقْدَحْ فِي
الْعِصْمَةِ؛ لأَِنَّ عِصْمَةَ
__________
(1) مواهب الجليل 6 / 235، 236، والزيلعي 5 / 190
(2) ابن عابدين 5 / 352
(6/287)
النُّفُوسِ مِمَّا لاَ تَحْتَمِل
الإِْبَاحَةَ بِحَالٍ، وَإِذْنُهُ لاَ يُعْتَبَرُ؛ لأَِنَّ الْقِصَاصَ
لِوَارِثِهِ لاَ لَهُ، وَلأَِنَّهُ أَسْقَطَ حَقًّا قَبْل وُجُوبِهِ (1) .
الثَّالِثُ:
15 - أَنَّ الْقَتْل فِي هَذِهِ الْحَال لَهُ حُكْمُ الاِنْتِحَارِ، فَلاَ
قِصَاصَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ وَلاَ دِيَةَ. وَهَذَا مَذْهَبُ
الْحَنَابِلَةِ، وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَصَحَّحَهُ الْقُدُورِيُّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ
مَرْجُوحَةٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ.
أَمَّا سُقُوطُ الْقِصَاصِ فَلِلإِْذْنِ لَهُ فِي الْقَتْل وَالْجِنَايَةِ،
وَلأَِنَّ صِيغَةَ الأَْمْرِ تُورِثُ شُبْهَةً، وَالْقِصَاصُ عُقُوبَةٌ
مُقَدَّرَةٌ تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ.
وَأَمَّا سُقُوطُ الدِّيَةِ فَلأَِنَّ ضَمَانَ نَفْسِهِ هُوَ حَقٌّ لَهُ
فَصَارَ كَإِذْنِهِ بِإِتْلاَفِ مَالِهِ، كَمَا لَوْ قَال: اقْتُل
دَابَّتِي فَفَعَل فَلاَ ضَمَانَ إِجْمَاعًا، فَصَحَّ الأَْمْرُ، وَلأَِنَّ
الْمُورَثَ أَسْقَطَ الدِّيَةَ أَيْضًا فَلاَ تَجِبُ لِلْوَرَثَةِ.
وَإِذَا كَانَ الآْمِرُ أَوِ الآْذِنُ مَجْنُونًا أَوْ صَغِيرًا فَلاَ
يُسْقِطُ إِذْنُهُ شَيْئًا مِنَ الْقِصَاصِ وَلاَ الدِّيَةِ، لأَِنَّهُ لاَ
اعْتِبَارَ بِإِذْنِهِمَا (2) .
16 - لَوْ قَال: اقْطَعْ يَدِي، فَإِنْ كَانَ لِمَنْعِ السِّرَايَةِ كَمَا
إِذَا وَقَعَتْ فِي يَدِهِ آكِلَةٌ فَلاَ بَأْسَ بِقَطْعِهِ اتِّفَاقًا.
وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَلاَ يَحِل، وَلَوْ قَطَعَ بِإِذْنِهِ
فَلَمْ يَمُتْ مِنَ الْقَطْعِ فَلاَ قِصَاصَ وَلاَ دِيَةَ عَلَى الْقَاطِعِ
عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ لأَِنَّ الأَْطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكُ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 352، والبدائع 7 / 236، والوجيز للغزالي 2 / 123،
والشرح الصغير 4 / 336، والشرح الكبير للدردير 4 / 240
(2) شرح منتهى الإرادات 3 / 275، وكشاف القناع 5 / 518، والزيلعي 5 / 0 9
1، والبدائع 7 / 236، ونهاية المحتاج 7 / 248، 296، ومواهب الجليل 6 / 235،
236
(6/287)
الأَْمْوَال، فَكَانَتْ قَابِلَةً
لِلسُّقُوطِ بِالإِْبَاحَةِ وَالإِْذْنِ، كَمَا لَوْ قَال لَهُ: أَتْلِفْ
مَالِي فَأَتْلَفَهُ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ قَال لَهُ: اقْطَعْ يَدِي وَلاَ شَيْءَ
عَلَيْكَ، فَلَهُ الْقِصَاصُ إِنْ لَمْ يَسْتَمِرَّ عَلَى الإِْبْرَاءِ
بَعْدَ الْقَطْعِ، مَا لَمْ يَتَرَامَ بِهِ الْقَطْعُ حَتَّى مَاتَ مِنْهُ،
فَلِوَلِيِّهِ الْقَسَامَةُ وَالْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ (2) .
17 - وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَشُجَّهُ فَشَجَّهُ عَمْدًا، وَمَاتَ مِنْهَا،
فَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) .
وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى الْجَارِحِ: فَقَال
الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ رِوَايَةٌ مَرْجُوحَةٌ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ: يَجِبُ عَلَى الْقَاتِل الدِّيَةُ، لأَِنَّ الْعَفْوَ
عَنِ الشَّجَّةِ لاَ يَكُونُ عَفْوًا عَنِ الْقَتْل، فَكَذَا الأَْمْرُ
بِالشَّجَّةِ لاَ يَكُونُ أَمْرًا بِالْقَتْل، وَكَانَ الْقِيَاسُ وُجُوبَ
الْقِصَاصِ، إِلاَّ أَنَّهُ سَقَطَ لِوُجُودِ الشُّبْهَةِ، فَتَجِبُ
الدِّيَةُ. وَلأَِنَّهُ لَمَّا مَاتَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْفِعْل وَقَعَ
قَتْلاً، وَالْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ الْقَطْعُ لاَ الْقَتْل.
أَمَّا لَوْ عَفَا عَنِ الْجِنَايَةِ أَوْ عَنِ الْقَطْعِ وَمَا يَحْدُثُ
مِنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ عَنِ النَّفْسِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيُّ فِي الرَّاجِحِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ
الصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ سَرَى الْقَطْعُ الْمَأْذُونُ
بِهِ إِلَى النَّفْسِ فَهَدَرٌ؛ لأَِنَّ الْقَتْل الْحَاصِل مِنَ الْقَطْعِ
وَالشَّجَّةِ الْمَأْذُونِ فِيهِمَا يُشْبِهُ الاِنْتِحَارَ، فَلاَ يَجِبُ
فِيهِ
__________
(1) البدائع 7 / 236، وابن عابدين 5 / 352، 361، ونهاية المحتاج 7 / 296،
ومواهب الجليل 6 / 236، وشرح منتهى الإرادات 3 / 275
(2) ابن عابدين 5 / 352، والشرح الكبير للدردير 4 / 240، ونهاية المحتاج 7
/ 296، والمغني 9 / 496
(3) ابن عابدين 5 / 361، والشرح الكبير للدردير 4 / 240، ونهاية المحتاج 7
/ 296، والمغني 9 / 469 - 470
(6/288)
قِصَاصٌ وَلاَ دِيَةٌ، وَلأَِنَّ الْعَفْوَ
عَنِ الشَّجَّةِ يَكُونُ عَفْوًا عَنِ الْقَتْل، فَكَذَا الأَْمْرُ
بِالشَّجَّةِ يَكُونُ أَمْرًا بِالْقَتْل. وَلأَِنَّ الأَْصَحَّ ثُبُوتُ
الدِّيَةِ لِلْمُورِثِ ابْتِدَاءً، وَقَدْ أَسْقَطَهَا بِإِذْنِهِ (1) .
وَمَا تَقَدَّمَ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ يُفِيدُ ثُبُوتَ الْقِصَاصِ فِي
هَذِهِ الْحَال إِنْ لَمْ يَسْتَمِرَّ عَلَى الإِْبْرَاءِ.
أَمْرُ الإِْنْسَانِ غَيْرَهُ بِأَنْ يَقْتُل نَفْسَهُ:
18 - إِذَا أَمَرَ الإِْنْسَانُ غَيْرَهُ - أَمْرًا لَمْ يَصِل إِلَى
دَرَجَةِ الإِْكْرَاهِ - بِقَتْل نَفْسِهِ فَقَتَل نَفْسَهُ، فَهُوَ
مُنْتَحِرٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، وَلاَ شَيْءَ عَلَى الآْمِرِ؛
لأَِنَّ الْمَأْمُورَ قَتَل نَفْسَهُ بِاخْتِيَارِهِ، وَقَدْ قَال اللَّهُ
تَعَالَى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (2) وَمُجَرَّدُ الأَْمْرِ لاَ
يُؤَثِّرُ فِي الاِخْتِيَارِ وَلاَ فِي الرِّضَا، مَا لَمْ يَصِل إِلَى
دَرَجَةِ الإِْكْرَاهِ التَّامِّ الَّذِي سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
الإِْكْرَاهُ عَلَى الاِنْتِحَارِ:
19 - الإِْكْرَاهُ هُوَ: حَمْل الْمُكْرَهِ عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ.
وَهُوَ نَوْعَانِ: مُلْجِئٌ وَغَيْرُ مُلْجِئٍ.
فَالْمُلْجِئُ: هُوَ الإِْكْرَاهُ الْكَامِل، وَهُوَ أَنْ يُكْرَهَ بِمَا
يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى تَلَفِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ.
وَهَذَا النَّوْعُ يُعْدِمُ الرِّضَا، وَيُوجِبُ الإِْلْجَاءَ، وَيُفْسِدُ
الاِخْتِيَارَ (3) .
وَغَيْرُ الْمُلْجِئِ: هُوَ أَنْ يُكْرِهَهُ بِمَا لاَ يَخَافُ عَلَى
نَفْسِهِ، وَلاَ يُوجِبُ الإِْلْجَاءَ وَلاَ يُفْسِدُ الاِخْتِيَارَ.
وَالْمُرَادُ هُنَا الإِْكْرَاهُ الْمُلْجِئُ الَّذِي يُعْدِمُ الرِّضَا
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 296، والبدائع 7 / 237
(2) سورة النساء / 29
(3) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 5 / 181، والبدائع 7 / 175، وأسنى
المطالب 3 / 282، ومواهب الجليل 4 / 45، والمغني لابن قدامة 8 / 260
(6/288)
وَيُفْسِدُ الاِخْتِيَارَ.
20 - إِذَا أَكْرَهَ إِنْسَانٌ غَيْرَهُ إِكْرَاهًا مُلْجِئًا لِيَقْتُل
الْمُكْرَهَ، بِأَنْ قَال لَهُ: اقْتُلْنِي وَإِلاَّ قَتَلْتُكَ،
فَقَتَلَهُ فَهُوَ فِي حُكْمِ الاِنْتِحَارِ، حَتَّى لاَ يَجِبَ عَلَى
الْقَاتِل الْقِصَاصُ وَلاَ الدِّيَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) لأَِنَّ
الْمُكْرَهَ (بِفَتْحِ الرَّاءِ) كَالآْلَةِ بِيَدِ الْمُكْرِهِ فِي
الإِْكْرَاهِ التَّامِّ (الْمُلْجِئِ) فَيُنْسَبُ الْفِعْل إِلَى
الْمُكْرِهِ وَهُوَ الْمَقْتُول، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَتَل نَفْسَهُ، كَمَا
اسْتَدَل بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَلأَِنَّ إِذْنَ الْمُكَلَّفِ يُسْقِطُ
الدِّيَةَ وَالْقِصَاصَ مَعًا كَمَا قَال الشَّافِعِيَّةُ، فَكَيْفَ إِذَا
اشْتَدَّ الأَْمْرُ إِلَى دَرَجَةِ الإِْكْرَاهِ الْمُلْجِئِ؟
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْمُكْرَهِ؛
لأَِنَّ الْقَتْل لاَ يُبَاحُ بِالإِْذْنِ، إِلاَّ أَنَّهُ شُبْهَةٌ
تُسْقِطُ الْقِصَاصَ (1) . وَلَمْ نَعْثُرْ لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى نَصٍّ
فِي الْمَوْضُوعِ، وَقَدْ سَبَقَ رَأْيُهُمْ بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى
الْقَاتِل إِذَا أَمَرَهُ الْمَقْتُول بِالْقَتْل.
21 - إِذَا أَكْرَهَ شَخْصٌ غَيْرَهُ إِكْرَاهًا مُلْجِئًا لِيَقْتُل
الْغَيْرُ نَفْسَهُ، بِأَنْ قَال لَهُ: اقْتُل نَفْسَكَ وَإِلاَّ
قَتَلْتُكَ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتُل نَفْسَهُ، وَإِلاَّ يُعَدُّ
مُنْتَحِرًا وَآثِمًا؛ لأَِنَّ الْمُكْرَهَ عَلَيْهِ لاَ يَخْتَلِفُ عَنِ
الْمُكْرَهِ بِهِ، فَكِلاَهُمَا قَتْلٌ، فَلأََنْ يَقْتُلَهُ الْمُكْرِهُ
أَوْلَى مِنْ أَنْ يَقْتُل هُوَ نَفْسَهُ. وَلأَِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ
يَنْجُوَ مِنَ الْقَتْل بِتَرَاجُعِ الْمُكْرِهِ، أَوْ بِتَغَيُّرِ
الْحَالَةِ بِأَسْبَابٍ أُخْرَى، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْتَحِرَ
__________
(1) الوجيز للغزالي 2 / 143، ونهاية المحتاج 7 / 248، 296، وشرح منتهى
الإرادات 3 / 275، والبدائع 7 / 179
(6/289)
وَيَقْتُل نَفْسَهُ.
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ إِذَا قَتَل نَفْسَهُ فَلاَ قِصَاصَ
عَلَى الْمُكْرِهِ فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لاِنْتِفَاءِ
كَوْنِهِ إِكْرَاهًا حَقِيقَةً، لاِتِّحَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ
وَالْمُخَوَّفِ بِهِ، فَكَأَنَّهُ اخْتَارَ الْقَتْل كَمَا عَلَّلَهُ
الشَّافِعِيَّةُ، لَكِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الآْمِرِ نِصْفُ الدِّيَةِ،
بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُكْرَهَ شَرِيكٌ، وَسَقَطَ عَنْهُ الْقِصَاصُ
لِلشُّبْهَةِ بِسَبَبِ مُبَاشَرَةِ الْمُكْرَهِ قَتْل نَفْسِهِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَجِبُ
الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ، إِذَا قَتَل الْمُكْرَهُ نَفْسَهُ، كَمَا
لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى قَتْل غَيْرِهِ (2) .
وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى قَتْل نَفْسِهِ بِمَا يَتَضَمَّنُ تَعْذِيبًا
شَدِيدًا كَإِحْرَاقٍ أَوْ تَمْثِيلٍ إِنْ لَمْ يَقْتُل نَفْسَهُ، كَانَ
إِكْرَاهًا كَمَا جَرَى عَلَيْهِ الْبَزَّارُ، وَمَال إِلَيْهِ
الرَّافِعِيُّ مِنْ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ، وَإِنْ نَازَعَ فِيهِ
الْبُلْقِينِيُّ (3) .
وَفَصَّل الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَوْضُوعِ فَقَالُوا: لَوْ قَال
لَتُلْقِيَنَّ نَفْسَكَ فِي النَّارِ أَوْ مِنْ رَأْسِ الْجَبَل أَوْ
لأََقْتُلَنَّكَ بِالسَّيْفِ، فَأَلْقَى نَفْسَهُ مِنَ الْجَبَل، فَعِنْدَ
أَبِي حَنِيفَةَ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمُكْرِهِ، لأَِنَّهُ
لَوْ بَاشَرَ بِنَفْسِهِ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ عِنْدَهُ،
لأَِنَّهُ قُتِل بِالْمُثَقَّل، فَكَذَا إِذَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ. وَعِنْدَ
أَبِي يُوسُفَ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْمُكْرِهِ فِي مَالِهِ، وَعِنْدَ
مُحَمَّدٍ يَجِبُ الْقِصَاصُ، لأَِنَّهُ كَالْقَتْل بِالسَّيْفِ عِنْدَهُ.
أَمَّا إِذَا أَلْقَى نَفْسَهُ فِي النَّارِ فَاحْتَرَقَ، فَيَجِبُ
الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا (4) .
__________
(1) نهاية المحتاج7 / 247
(2) كشاف القناع 5 / 518، ونهاية المحتاج 7 / 247
(3) نهاية المحتاج7 / 247
(4) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي 5 / 190
(6/289)
هَذَا، وَلَمْ نَجِدْ فِي الْمَسْأَلَةِ
نَصًّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَانْظُرْ (إِكْرَاه) .
اشْتِرَاكُ الْمُنْتَحِرِ مَعَ غَيْرِهِ:
22 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ جَرَحَ نَفْسَهُ، ثُمَّ جَرَحَهُ
غَيْرُهُ فَمَاتَ مِنْهُمَا، فَهَل يُعْتَبَرُ انْتِحَارًا؟ وَهَل يَجِبُ
عَلَى الْمُشَارِكِ لَهُ قِصَاصٌ أَوْ دِيَةٌ؟ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ
عِنْدَهُمْ بِحَسَبِ الصُّوَرِ:
أ - فَلَوْ جَرَحَ نَفْسَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، كَأَنْ أَرَادَ ضَرْبَ
مَنِ اعْتَدَى عَلَيْهِ بِجُرْحٍ فَأَصَابَ نَفْسَهُ، أَوْ خَاطَ جُرْحَهُ
فَصَادَفَ اللَّحْمَ الْحَيَّ، ثُمَّ جَرَحَهُ شَخْصٌ آخَرُ خَطَأً،
فَمَاتَ مِنْهُمَا، فَلاَ قِصَاصَ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّهُ
لاَ قِصَاصَ عَلَى الْمُخْطِئِ بِالإِْجْمَاعِ، وَيَلْزَمُ عَاقِلَةَ
الشَّرِيكِ نِصْفُ الدِّيَةِ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ اثْنَانِ خَطَأً.
ب - أَمَّا لَوْ جَرَحَ نَفْسَهُ خَطَأً، وَجَرَحَهُ شَخْصٌ آخَرُ عَمْدًا،
فَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ) بِنَاءً عَلَى الْقَاعِدَةِ الَّتِي تَقُول: لاَ يُقْتَل
شَرِيكُ مَنْ لاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ كَالْمُخْطِئِ وَالصَّغِيرِ، وَعَلَى
الْمُتَعَمِّدِ نِصْفُ دِيَةِ الْعَمْدِ فِي مَالِهِ، إِذْ لاَ يَدْرِي
مِنْ أَيِّ الأَْمْرَيْنِ مَاتَ (1)
وَفِي وَجْهٍ آخَرَ لِلْحَنَابِلَةِ: يُقْتَصُّ مِنَ الشَّرِيكِ
الْعَامِدِ، لأَِنَّهُ قَصَدَ الْقَتْل، وَخَطَأُ شَرِيكِهِ لاَ يُؤَثِّرُ
فِي قَصْدِهِ (2) .
ج - وَإِذَا جَرَحَ نَفْسَهُ عَمْدًا، وَجَرَحَهُ آخَرُ
__________
(1) الفتاوى الهندية 6 / 4، وجواهر الإكليل 2 / 258، والشرح الصغير 4 /
347، ونهاية المحتاج 7 / 262، والمغني 9 / 380
(2) المغني 9 / 381
(6/290)
عَمْدًا، وَمَاتَ مِنْهُمَا، يُقْتَصُّ
مِنَ الشَّرِيكِ الْعَامِدِ فِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ
الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
بِشَرْطِ الْقَسَامَةِ، لأَِنَّهُ قَتْلٌ عَمْدٌ مُتَمَحِّضٌ، فَوَجَبَ
الْقِصَاصُ عَلَى الشَّرِيكِ فِيهِ كَشَرِيكِ الأَْبِ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمُقَابِل
الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَوَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ
قِصَاصَ عَلَى شَرِيكِ قَاتِل نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ جُرْحَاهُمَا
عَمْدًا، لأَِنَّهُ أَخَفُّ مِنْ شَرِيكِ الْمُخْطِئِ، كَمَا يَقُول
الشَّافِعِيَّةُ، وَلأَِنَّهُ شَارَكَ مَنْ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ
الْقِصَاصُ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْقِصَاصُ، كَشَرِيكِ الْمُخْطِئِ،
وَلأَِنَّهُ قَتْلٌ تَرَكَّبَ مِنْ مُوجِبٍ وَغَيْرِ مُوجِبٍ، كَمَا
اسْتَدَل بِهِ الْحَنَفِيَّةُ.
وَإِذَا لَمْ يَجِبِ الْقِصَاصُ فَعَلَى الْجَارِحِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي
مَالِهِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ الْقَسَامَةُ فِي وُجُوبِ نِصْفِ الدِّيَةِ
عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، لَكِنَّهُمْ أَضَافُوا: أَنَّ الْجَارِحَ يُضْرَبُ
مِائَةً وَيُحْبَسُ عَامًا كَذَلِكَ (2)
23 - وَالْمَعْلُومُ أَنَّ الدِّيَةَ تُقْسَمُ عَلَى مَنِ اشْتَرَكَ فِي
الْقَتْل، وَعَلَى الأَْفْعَال الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى الْقَتْل، فَإِذَا
حَصَل الْقَتْل بِفِعْل نَفْسِهِ وَبِفِعْل الشَّرِيكِ وَلَمْ نَقُل
بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ، يَجِبُ عَلَى الشَّرِيكِ نِصْفُ الدِّيَةِ،
وَبِهَذَا صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ إِنْ مَاتَ شَخْصٌ بِفِعْل
نَفْسِهِ وَفِعْل زَيْدٍ وَأَسَدٍ وَحَيَّةٍ ضَمِنَ زَيْدٌ ثُلُثَ
الدِّيَةِ؛ لأَِنَّ فِعْل الأَْسَدِ وَالْحَيَّةِ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ
__________
(1) المغني 9 / 380، ونهاية المحتاج 7 / 262، والشرح الكبير للدردير 4 /
245
(2) المغني 9 / 380، والفتاوى الهندية 6 / 4، ونهاية المحتاج 7 / 262،
والشرح الكبير للدردير 4 / 247، والخرشي 8 / 11
(6/290)
هَدَرٌ فِي الدَّارَيْنِ، وَفِعْل زَيْدٍ
مُعْتَبَرٌ فِي الدَّارَيْنِ (1) ، وَفِعْل نَفْسِهِ هَدَرٌ فِي الدُّنْيَا
لاَ الْعُقْبَى، حَتَّى يَأْثَمَ بِالإِْجْمَاعِ (2) .
24 - وَتَعَرَّضَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى مَسْأَلَةٍ
أُخْرَى لَهَا أَهَمِّيَّتُهَا فِي اشْتِرَاكِ الشَّخْصِ فِي قَتْل
نَفْسِهِ، وَهِيَ مُدَاوَاةُ الْجُرْحِ بِالسُّمِّ الْمُهْلِكِ. فَإِنْ
جَرَحَهُ إِنْسَانٌ فَتَدَاوَى بِسُمٍّ مُذَفَّفٍ يَقْتُل فِي الْحَال،
فَقَدْ قَتَل نَفْسَهُ وَقَطَعَ سِرَايَةَ الْجُرْحِ، وَجَرَى مَجْرَى مَنْ
ذَبَحَ نَفْسَهُ بَعْدَ أَنْ جُرِحَ، فَلاَ قِصَاصَ وَلاَ دِيَةَ عَلَى
جَارِحِهِ فِي النَّفْسِ، وَيُنْظَرُ فِي الْجُرْحِ، فَإِنْ كَانَ مُوجِبًا
لِلْقِصَاصِ فَلِوَلِيِّهِ اسْتِيفَاؤُهُ، وَإِلاَّ فَلِوَلِيِّهِ
الأَْرْشُ وَإِنْ كَانَ السُّمُّ لاَ يَقْتُل فِي الْغَالِبِ، أَوْ لَمْ
يُعْلَمْ حَالُهُ، أَوْ قَدْ يَقْتُل بِفِعْل الرَّجُل فِي نَفْسِهِ،
فَالْقَتْل شَبَهُ عَمْدٍ، وَالْحُكْمُ فِي شَرِيكِهِ كَالْحُكْمِ فِي
شَرِيكِ الْمُخْطِئِ. وَإِذَا لَمْ يَجِبِ الْقِصَاصُ عَلَى الْجَارِحِ
فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ.
وَإِنْ كَانَ السُّمُّ يَقْتُل غَالِبًا، وَعُلِمَ حَالُهُ، فَحُكْمُهُ
كَشَرِيكِ جَارِحِ نَفْسِهِ، فَيَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ، وَفِي الأَْظْهَرِ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - أَوْ هُوَ
شَرِيكٌ مُخْطِئٌ فِي قَوْلٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ آخَرُ
عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، فَلاَ قَوَدَ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَقْصِدِ
الْقَتْل، وَإِنَّمَا قَصَدَ التَّدَاوِيَ (3)
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلاَ قِصَاصَ عِنْدَهُمْ عَلَى الْجَارِحِ بِحَالٍ،
سَوَاءٌ أَكَانَ التَّدَاوِي بِالسُّمِّ عَمْدًا أَمْ كَانَ خَطَأً؛
لأَِنَّ الأَْصْل عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لاَ يُقْتَل شَرِيكُ مَنْ لاَ
__________
(1) أي الدار الدنيا والدار الآخرة
(2) ابن عابدين 5 / 350
(3) المغني لابن قدامة 9 / 381، ونهاية المحتاج 7 / 263
(6/291)
قِصَاصَ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ (1) .
كَذَلِكَ لاَ قِصَاصَ عَلَى الْجَارِحِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلاً
وَاحِدًا إِذَا تَدَاوَى الْمَقْتُول بِالسُّمِّ خَطَأً، بِنَاءً عَلَى
أَصْلِهِمْ أَنَّهُ " لاَ يُقْتَل شَرِيكٌ مُخْطِئٌ " (2) وَقَدْ تَقَدَّمَ
أَنَّ فِي شَرِيكِ جَارِحِ نَفْسِهِ عَمْدًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
قَوْلَيْنِ (3)
الآْثَارُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الاِنْتِحَارِ:
أَوَّلاً: إِيمَانُ أَوْ كُفْرُ الْمُنْتَحِرِ:
25 - وَرَدَ فِي الأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَدُل ظَاهِرُهُ عَلَى خُلُودِ قَاتِل
نَفْسِهِ فِي النَّارِ وَحِرْمَانِهِ مِنَ الْجَنَّةِ. مِنْهَا مَا رَوَاهُ
الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَل نَفْسَهُ
فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ
قَتَل نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي
بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا (4)
وَمِنْهَا حَدِيثُ جُنْدَبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال: كَانَ بِرَجُلٍ جِرَاحٌ فَقَتَل نَفْسَهُ، فَقَال اللَّهُ:
بِدَرَنِي عَبْدِي نَفْسَهُ، حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ (5)
وَظَاهِرُ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الأَْحَادِيثِ يَدُل
عَلَى كُفْرِ الْمُنْتَحِرِ؛ لأَِنَّ الْخُلُودَ فِي النَّارِ
وَالْحِرْمَانَ مِنَ الْجَنَّةِ جَزَاءُ الْكُفَّارِ عِنْدَ أَهْل
السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
لَكِنَّهُ لَمْ يَقُل بِكُفْرِ الْمُنْتَحِرِ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ
الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ؛ لأَِنَّ الْكُفْرَ هُوَ الإِْنْكَارُ
وَالْخُرُوجُ عَنْ دِينِ
__________
(1) الفتاوى الهندية 6 / 4
(2) الشرح الصغير 4 / 347
(3) الخرشي 8 / 11
(4) حديث: " من تردى. . . . . " سبق تخريجه ف / 8.
(5) حديث: " كان برجل جراح. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 496 - ط
السلفية) .
(6/291)
الإِْسْلاَمِ، وَصَاحِبُ الْكَبِيرَةِ -
غَيْرَ الشِّرْكِ - لاَ يَخْرُجُ عَنِ الإِْسْلاَمِ عِنْدَ أَهْل
السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَقَدْ صَحَّتِ الرِّوَايَاتُ أَنَّ الْعُصَاةَ
مِنْ أَهْل التَّوْحِيدِ يُعَذَّبُونَ ثُمَّ يَخْرُجُونَ. (1) بَل قَدْ
صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ فِي أَكْثَرَ مِنْ مَوْضِعٍ بِأَنَّ الْمُنْتَحِرَ
لاَ يَخْرُجُ عَنِ الإِْسْلاَمِ، وَلِهَذَا قَالُوا بِغُسْلِهِ
وَالصَّلاَةِ عَلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي، وَالْكَافِرُ لاَ يُصَلَّى
عَلَيْهِ إِجْمَاعًا. ذُكِرَ فِي الْفَتَاوَى الْخَانِيَّةِ: الْمُسْلِمُ
إِذَا قَتَل نَفْسَهُ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يُغَسَّل
وَيُصَلَّى عَلَيْهِ.
وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ قَاتِل نَفْسِهِ لاَ يَخْرُجُ عَنِ
الإِْسْلاَمِ، كَمَا وَصَفَهُ الزَّيْلَعِيُّ وَابْنُ عَابِدِينَ بِأَنَّهُ
فَاسِقٌ كَسَائِرِ فُسَّاقِ الْمُسْلِمِينَ (2) كَذَلِكَ نُصُوصُ
الشَّافِعِيَّةِ تَدُل عَلَى عَدَمِ كُفْرِ الْمُنْتَحِرِ. (3)
وَمَا جَاءَ فِي الأَْحَادِيثِ مِنْ خُلُودِ الْمُنْتَحِرِ فِي النَّارِ
مَحْمُولٌ عَلَى مَنِ اسْتَعْجَل الْمَوْتَ بِالاِنْتِحَارِ،
وَاسْتَحَلَّهُ، فَإِنَّهُ بِاسْتِحْلاَلِهِ يَصِيرُ كَافِرًا؛ لأَِنَّ
مُسْتَحِل الْكَبِيرَةِ كَافِرٌ عِنْدَ أَهْل السُّنَّةِ، وَالْكَافِرُ
مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ بِلاَ رَيْبٍ، وَقِيل: وَرَدَ مَوْرِدَ الزَّجْرِ
وَالتَّغْلِيظِ، وَحَقِيقَتُهُ غَيْرُ مُرَادَةٍ.
وَيَقُول ابْنُ عَابِدِينَ فِي قَبُول تَوْبَتِهِ: الْقَوْل بِأَنَّهُ لاَ
تَوْبَةَ لَهُ مُشْكِلٌ عَلَى قَوَاعِدِ أَهْل السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ،
لإِِطْلاَقِ النُّصُوصِ فِي قَبُول تَوْبَةِ الْعَاصِي، بَل التَّوْبَةُ
مِنَ الْكَافِرِ مَقْبُولَةٌ قَطْعًا، وَهُوَ أَعْظَمُ وِزْرًا. وَلَعَل
الْمُرَادَ مَا إِذَا تَابَ حَالَةَ الْيَأْسِ، كَمَا إِذَا فَعَل
بِنَفْسِهِ مَا لاَ يَعِيشُ مَعَهُ عَادَةً، كَجُرْحٍ مُزْهِقٍ فِي
سَاعَتِهِ،
__________
(1) ابن عابدين 1 / 184.
(2) الفتاوى الخانية بهامش الفتاوى الهندية 1 / 186، وتبيين الحقائق شرح
كنز الدقائق للزيلعي 1 / 250، وابن عابدين 1 / 184.
(3) نهاية المحتاج 2 / 432.
(6/292)
وَإِلْقَائِهِ نَفْسَهُ فِي بَحْرٍ أَوْ
نَارٍ فَتَابَ. أَمَّا لَوْ جَرَحَ نَفْسَهُ فَبَقِيَ حَيًّا أَيَّامًا
مَثَلاً ثُمَّ تَابَ وَمَاتَ، فَيَنْبَغِي الْجَزْمُ بِقَبُول تَوْبَتِهِ.
(1)
وَمِمَّا يَدُل عَلَى أَنَّ الْمُنْتَحِرَ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ، وَلَيْسَ
مَقْطُوعًا بِخُلُودِهِ فِي النَّارِ - حَدِيثُ جَابِرٍ أَنَّهُ قَال
لَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
الْمَدِينَةِ هَاجَرَ إِلَيْهِ الطُّفَيْل بْنُ عَمْرٍو، وَهَاجَرَ مَعَهُ
رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَمَرِضَ فَجَزِعَ،
فَأَخَذَ مَشَاقِصَ، فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ فَشَخَبَتْ يَدَاهُ حَتَّى
مَاتَ، فَرَآهُ الطُّفَيْل بْنُ عَمْرٍو فِي مَنَامِهِ وَهَيْئَتُهُ
حَسَنَةٌ، وَرَآهُ مُغَطِّيًا يَدَيْهِ، فَقَال لَهُ: مَا صَنَعَ بِكَ
رَبُّكَ؟ قَال: غَفَرَ لِي بِهِجْرَتِي إِلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: مَا لِي أَرَاكَ مُغَطِّيًا يَدَيْكَ؟ قَال:
قِيل لِي: لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ، فَقَصَّهَا الطُّفَيْل
عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ (2)
وَهَذَا كُلُّهُ يَدُل عَلَى أَنَّ الْمُنْتَحِرَ لاَ يَخْرُجُ بِذَلِكَ
عَنْ كَوْنِهِ مُسْلِمًا، لَكِنَّهُ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً فَيُسَمَّى
فَاسِقًا.
ثَانِيًا: جَزَاءُ الْمُنْتَحِرِ:
26 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَمُتْ مَنْ
حَاوَل الاِنْتِحَارَ عُوقِبَ عَلَى مُحَاوِلَتِهِ الاِنْتِحَارَ،
لأَِنَّهُ أَقْدَمَ عَلَى قَتْل النَّفْسِ الَّذِي يُعْتَبَرُ مِنَ
الْكَبَائِرِ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 184، وانظر أيضا القليوبي مع حاشية عميرة 1 / 348، 349،
والشرح الصغير 1 / 574، والمغني مع الشرح الكبير 2 / 418.
(2) حديث جابر: " لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هاجر
إليه. . . " أخرجه مسلم (1 / 109 - ط الحلبي) .
(6/292)
كَذَلِكَ لاَ دِيَةَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ
أَكَانَ الاِنْتِحَارُ عَمْدًا أَمْ خَطَأً عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ
(الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنِ
الْحَنَابِلَةِ) لأَِنَّ الْعُقُوبَةَ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، وَلأَِنَّ
عَامِرَ بْنَ الأَْكْوَعِ بَارَزَ مَرْحَبًا يَوْمَ خَيْبَرَ، فَرَجَعَ
سَيْفُهُ عَلَى نَفْسِهِ فَمَاتَ (1) وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِيهِ بِدِيَةٍ وَلاَ غَيْرِهَا،
وَلَوْ وَجَبَتْ لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلأَِنَّهُ جَنَى عَلَى نَفْسِهِ فَلَمْ يَضْمَنْهُ غَيْرُهُ، وَلأَِنَّ
وُجُوبَ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي الْخَطَأِ إِنَّمَا كَانَ
مُوَاسَاةً لِلْجَانِي وَتَخْفِيفًا عَنْهُ، وَلَيْسَ عَلَى الْجَانِي
هَاهُنَا شَيْءٌ يَحْتَاجُ إِلَى الإِْعَانَةِ وَالْمُوَاسَاةِ، فَلاَ
وَجْهَ لإِِيجَابِهِ (2)
وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ عَلَى عَاقِلَةِ
الْمُنْتَحِرِ خَطَأً دِيَتَهُ لِوَرَثَتِهِ، وَبِهِ قَال الأَْوْزَاعِيُّ
وَإِسْحَاقُ، لأَِنَّهَا جِنَايَةُ خَطَأٍ، فَكَانَ عَقْلُهَا (دِيَتُهَا)
عَلَى عَاقِلَتِهِ كَمَا لَوْ قَتَل غَيْرَهُ.
فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ إِنْ كَانَتِ الْعَاقِلَةُ الْوَرَثَةَ لَمْ
يَجِبْ شَيْءٌ، لأَِنَّهُ لاَ يَجِبُ لِلإِْنْسَانِ شَيْءٌ عَلَى نَفْسِهِ،
وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ وَارِثًا سَقَطَ عَنْهُ مَا يُقَابِل نَصِيبَهُ،
وَعَلَيْهِ مَا زَادَ عَلَى نَصِيبِهِ، وَلَهُ مَا بَقِيَ إِنْ كَانَ
نَصِيبُهُ مِنَ الدَّيْنِ أَكْثَرَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ (3)
27 - اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، فَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي
وَجْهٍ - وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَابِلَةِ فِي قَتْل الْخَطَأِ - تَلْزَمُ
الْكَفَّارَةُ مِنْ سِوَى الْحَرْبِيِّ مُمَيِّزًا كَانَ أَمْ لاَ، بِقَتْل
كُل آدَمِيٍّ مِنْ مُسْلِمٍ - وَلَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ - وَذِمِّيٍّ
وَجَنِينٍ وَعَبْدٍ
__________
(1) الأثر: (أن عامر بن الأكوع بارز. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1440 - ط
الحلبي) .
(2) ابن عابدين 5 / 350، وجواهر الإكليل 2 / 272، ونهاية المحتاج 7 / 366،
والمغني 9 / 509، والخرشي 8 / 50.
(3) المغني مع الشرح الكبير 9 / 509.
(6/293)
وَنَفْسِهِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً. (1)
هَكَذَا عَمَّمُوا فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، وَتَخْرُجُ مِنْ تَرِكَةِ
الْمُنْتَحِرِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَل مُؤْمِنًا خَطَأً
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (2)
وَلأَِنَّهُ آدَمِيٌّ مَقْتُولٌ خَطَأً، فَوَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ عَلَى
قَاتِلِهِ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ غَيْرُهُ. (3)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ: لاَ كَفَّارَةَ عَلَى قَاتِل نَفْسِهِ خَطَأً أَوْ
عَمْدًا. وَهَذَا هُوَ قَوْل الْحَنَابِلَةِ فِي الْعَمْدِ، لِسُقُوطِ
صَلاَحِيَّتِهِ لِلْخِطَابِ بِمَوْتِهِ، كَمَا تَسْقُطُ دِيَتُهُ عَنِ
الْعَاقِلَةِ لِوَرَثَتِهِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: هَذَا أَقْرَبُ إِلَى
الصَّوَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِنَّ عَامِرَ بْنَ الأَْكْوَعِ قَتَل
نَفْسَهُ خَطَأً وَلَمْ يَأْمُرِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِيهِ بِكَفَّارَةٍ. وقَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَل مُؤْمِنًا
خَطَأً} إِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ إِذَا قَتَل غَيْرَهُ، بِدَلِيل قَوْله
تَعَالَى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} وَقَاتِل نَفْسِهِ لاَ
تَجِبُ فِيهِ دِيَةٌ. كَذَلِكَ رَدَّ الْمَالِكِيَّةُ وُجُوبَ
الْكَفَّارَةِ بِدَلِيل أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} (4) مُخْرِجٌ قَاتِل نَفْسِهِ،
لاِمْتِنَاعِ تَصَوُّرِ هَذَا الْجُزْءِ مِنَ الْكَفَّارَةِ، وَإِذَا بَطَل
الْجُزْءُ بَطَل الْكُل. (5)
ثَالِثًا: غُسْل الْمُنْتَحِرِ:
28 - مَنْ قَتَل نَفْسَهُ خَطَأً، كَأَنْ صَوَّبَ سَيْفَهُ إِلَى
__________
(1) أسنى المطالب 4 / 95، ونهاية المحتاج 7 / 366، والمغني 5 / 39.
(2) سورة النساء / 92.
(3) أسنى المطالب 4 / 95، ونهاية المحتاج 7 / 366، والمغني 5 / 39.
(4) سورة النساء / 92.
(5) المغني 10 / 39، وجواهر الإكليل 2 / 72، ومواهب الجليل 6 / 268، وأيضا
البدائع 7 / 252.
(6/293)
عَدُوِّهِ لِيَضْرِبَهُ بِهِ فَأَخْطَأَ
وَأَصَابَ نَفْسَهُ وَمَاتَ، غُسِّل وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِلاَ خِلاَفٍ،
كَمَا عَدَّهُ بَعْضُهُمْ مِنَ الشُّهَدَاءِ. (1)
وَكَذَلِكَ الْمُنْتَحِرُ عَمْدًا، لأَِنَّهُ لاَ يَخْرُجُ عَنِ
الإِْسْلاَمِ بِسَبَبِ قَتْلِهِ نَفْسَهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ كَمَا
سَبَقَ، وَلِهَذَا صَرَّحُوا بِوُجُوبِ غُسْلِهِ كَغَيْرِهِ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ (2) وَادَّعَى الرَّمْلِيُّ الإِْجْمَاعَ عَلَيْهِ حَيْثُ
قَال: وَغُسْلُهُ وَتَكْفِينُهُ وَالصَّلاَةُ عَلَيْهِ وَحَمْلُهُ
وَدَفْنُهُ فُرُوضُ كِفَايَةٍ إِجْمَاعًا، لِلأَْمْرِ بِهِ فِي
الأَْخْبَارِ الصَّحِيحَةِ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ قَاتِل نَفْسِهِ
وَغَيْرُهُ. (3)
رَابِعًا: الصَّلاَةُ عَلَى الْمُنْتَحِرِ:
29 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ) أَنَّ الْمُنْتَحِرَ يُصَلَّى عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ لَمْ
يَخْرُجْ عَنِ الإِْسْلاَمِ بِسَبَبِ قَتْلِهِ نَفْسَهُ كَمَا تَقَدَّمَ،
وَلِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَال: صَلُّوا عَلَى مَنْ قَال لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ (4) وَلأَِنَّ
الْغُسْل وَالصَّلاَةَ مُتَلاَزِمَانِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، فَكُل مَنْ
وَجَبَ غُسْلُهُ وَجَبَتِ الصَّلاَةُ عَلَيْهِ، وَكُل مَنْ لَمْ يَجِبْ
غُسْلُهُ لاَ تَجِبُ الصَّلاَةُ عَلَيْهِ. (5)
وَقَال عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالأَْوْزَاعِيُّ - وَهُوَ رَأْيُ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 163، وابن عابدين 1 / 584
(2) ابن عابدين 1 / 584، والفتاوى البزازية على الهندية 1 / 186.
(3) نهاية المحتاج2 / 432.
(4) حديث: " صلوا على من قال لا إله إلا الله " أخرجه الطبراني من حديث ابن
عمر، وفي إسناده من اتهم بالكذب. (فيض القدير للمناوي 4 / 203 - ط المكتبة
التجارية) .
(5) القليوبي مع حاشية عميرة 1 / 348، 349، والفتاوى الهندية 1 / 163، وابن
عابدين 1 / 584، وبلغة السالك على أقرب المسالك 1 / 543، وجواهر الإكليل 1
/ 106.
(6/294)
أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ،
وَصَحَّحَهُ بَعْضُهُمْ - لاَ يُصَلَّى عَلَى قَاتِل نَفْسِهِ بِحَالٍ،
لِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ: أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ قَتَل نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ فَلَمْ
يُصَل عَلَيْهِ (1) وَلِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ أَنَّ رَجُلاً انْطَلَقَ
إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ عَنْ
رَجُلٍ قَدْ مَاتَ قَال: وَمَا يُدْرِيكَ؟ قَال: رَأَيْتُهُ يَنْحَرُ
نَفْسَهُ، قَال: أَنْتَ رَأَيْتَهُ؟ قَال: نَعَمْ. قَال. إِذَنْ لاَ
أُصَلِّي عَلَيْهِ (2) .
وَعَلَّلَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْمُنْتَحِرَ لاَ تَوْبَةَ لَهُ فَلاَ
يُصَلَّى عَلَيْهِ (3)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يُصَلِّي الإِْمَامُ عَلَى مَنْ قَتَل نَفْسَهُ
عَمْدًا، وَيُصَلِّي عَلَيْهِ سَائِرُ النَّاسِ. أَمَّا عَدَمُ صَلاَةِ
الإِْمَامِ عَلَى الْمُنْتَحِرِ فَلِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ
السَّابِقِ ذِكْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَمْ يُصَل عَلَى قَاتِل نَفْسِهِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الإِْمَامَ، فَأُلْحِقَ بِهِ غَيْرُهُ مِنَ
الأَْئِمَّةِ (4)
وَأَمَّا صَلاَةُ سَائِرِ النَّاسِ عَلَيْهِ، فَلِمَا رُوِيَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حِينَ امْتَنَعَ
عَنِ الصَّلاَةِ عَلَى قَاتِل نَفْسِهِ لَمْ يَنْهَ عَنِ الصَّلاَةِ
عَلَيْهِ. وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ صَلاَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْكُ صَلاَةِ غَيْرِهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي بَدْءِ الإِْسْلاَمِ لاَ يُصَلِّي
عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لاَ
__________
(1) حديث جابر بن سمرة: " أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه. . .
. " أخرجه مسلم (2 / 672 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " إذن لا أصلي عليه " أخرجه أبو داود (3 / 526 - ط عزت عبيد
دعاس) وإسناده صحيح، وأخرجه مسلم مختصرا كما تقدم.
(3) المغني 2 / 418، وابن عابدين 1 / 584.
(4) المغني 2 / 418.
(6/294)
وَفَاءَ لَهُ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالصَّلاَةِ
عَلَيْهِ. (1)
كَمَا يَدُل عَلَى هَذَا التَّخْصِيصِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: أَمَّا أَنَا فَلاَ أُصَلِّي
عَلَيْهِ (2)
وَذُكِرَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ عَدَمَ صَلاَةِ
الإِْمَامِ عَلَى الْمُنْتَحِرِ أَمْرٌ مُسْتَحْسَنٌ، لَكِنَّهُ لَوْ
صَلَّى عَلَيْهِ فَلاَ بَأْسَ. فَقَدْ ذَكَرَ فِي الإِْقْنَاعِ: وَلاَ
يُسَنُّ لِلإِْمَامِ الأَْعْظَمِ وَإِمَامِ كُل قَرْيَةٍ - وَهُوَ
وَالِيهَا فِي الْقَضَاءِ - الصَّلاَةُ عَلَى قَاتِل نَفْسِهِ عَمْدًا،
وَلَوْ صَلَّى عَلَيْهِ فَلاَ بَأْسَ. (3)
خَامِسًا: تَكْفِينُ الْمُنْتَحِرِ وَدَفْنُهُ فِي مَقَابِرِ
الْمُسْلِمِينَ:
30 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ تَكْفِينِ الْمَيِّتِ
الْمُسْلِمِ وَدَفْنِهِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُمَا مِنْ فُرُوضِ
الْكِفَايَةِ كَالصَّلاَةِ عَلَيْهِ وَغُسْلِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ
الْمُنْتَحِرُ؛ لأَِنَّ الْمُنْتَحِرَ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الإِْسْلاَمِ
بِارْتِكَابِهِ قَتْل نَفْسِهِ كَمَا مَرَّ. (4)
__________
(1) المغني 2 / 418، 419، والإقناع 1 / 228. وحديث: " أمر بالصلاة على من
عليه دين " أخرجه البخاري (4 / 467 - الفتح - ط السلفية) .
(2) حديث: " أما أنا فلا أصلي عليه " أخرجه النسائي (4 / 66 - ط المكتبة
التجارية) وإسناده صحيح، وأخرج أصله مسلم في صحيحه كما تقدم.
(3) الإقناع 1 / 228.
(4) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي 1 / 238، والشرح الصغير 1 /
543، وكشاف القناع 2 / 85، ونهاية المحتاج 2 / 432.
(6/295)
انْتِسَابٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِنْتِسَابُ لُغَةً: مَصْدَرُ انْتَسَبَ، وَانْتَسَبَ فُلاَنٌ إِلَى
فُلاَنٍ: عَزَا نَفْسَهُ إِلَيْهِ، وَالنِّسْبَةُ وَالنُّسْبَةُ
وَالنَّسَبُ: الْقَرَابَةُ، وَيَكُونُ الاِنْتِسَابُ إِلَى الآْبَاءِ
وَإِلَى الْقَبَائِل، (1) وَإِلَى الْبِلاَدِ، وَيَكُونُ إِلَى
الصَّنَائِعِ.
وَالاِنْتِسَابُ فِي الاِصْطِلاَحِ لاَ يَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي
أَنْوَاعُ الاِنْتِسَابِ
:
أ - الاِنْتِسَابُ لِلأَْبَوَيْنِ:
2 - وَيَكُونُ بِالْبُنُوَّةِ أَوِ التَّبَنِّي.
فَإِذَا كَانَ بِالْبُنُوَّةِ فَحُكْمُهُ الْوُجُوبُ عِنْدَ الصِّدْقِ،
وَالْحُرْمَةُ عِنْدَ الْكَذِبِ (2) ، لِقَوْل النَّبِيِّ أَيُّمَا
امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ، فَلَيْسَتْ مِنَ
اللَّهِ فِي شَيْءٍ، وَلَنْ يُدْخِلَهَا اللَّهُ جَنَّتَهُ، وَأَيُّمَا
رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ احْتَجَبَ اللَّهُ
مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَفَضَحَهُ عَلَى رُءُوسِ الأَْوَّلِينَ
وَالآْخِرِينَ. (3)
وَإِذَا كَانَ بِالتَّبَنِّي - فَحُكْمُهُ الْحُرْمَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى
__________
(1) المصباح المنير، ومختار الصحاح مادة: (نسب) .
(2) فتح القدير 3 / 261، وابن عابدين 2 / 592.
(3) حديث: " أيما امرأة. . . . . . " أخرجه أبو داود (2 / 695 - 696 ط عزت
عبيد دعاس) وفي إسناده جهالة. (التلخيص لابن حجر 3 / 226 - ط دار المحاسن)
.
(6/295)
{ادْعُوهُمْ لآِبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ
عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي
الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} (1) (ر: نَسَب، وَتَبَنِّي)
ب - الاِنْتِسَابُ إِلَى وَلاَءِ الْعَتَاقَةِ:
3 - مِنْ آثَارِهِ: الإِْرْثُ وَالْعَقْل (الْمُشَارَكَةُ فِي تَحَمُّل
الدِّيَةِ) فِي الْجُمْلَةِ.
فَإِذَا مَاتَ الْعَتِيقُ وَلاَ وَارِثَ لَهُ بِنَسَبٍ وَلاَ نِكَاحٍ،
وَلَمْ تَسْتَغْرِقْ فُرُوضُ الْوَارِثِينَ التَّرِكَةَ، وَلَيْسَ لَهُ
عَصَبَةٌ بِالنَّسَبِ - يَكُونُ الْمَال كُلُّهُ، أَوِ الْبَاقِي بَعْدَ
الْفَرْضِ لِمَنْ أَعْتَقَهُ. وَفِي تَقْدِيمِ ذَوِي الأَْرْحَامِ،
وَالرَّدِّ عَلَيْهِ رَأْيَانِ (2) (ر: إِرْث، وَلاَء)
ج - الاِنْتِسَابُ إِلَى وَلاَءِ الْمُوَالاَةِ:
4 - قَال بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، فَإِذَا أَسْلَمَ رَجُلٌ مُكَلَّفٌ عَلَى
يَدِ آخَرَ وَوَالاَهُ أَوْ وَالَى غَيْرَهُ عَلَى أَنْ يَرِثَهُ إِذَا
مَاتَ، وَيَعْقِل عَنْهُ إِذَا جَنَى، صَحَّ هَذَا الْعَقْدُ، وَعَقْلُهُ
(دِيَتُهُ) عَلَيْهِ، وَإِرْثُهُ لَهُ، وَكَذَا لَوْ شُرِطَ الإِْرْثُ مِنَ
الْجَانِبَيْنِ، وَكَذَا لَوْ وَالَى صَبِيٌّ عَاقِلٌ بِإِذْنِ أَبِيهِ
أَوْ وَصِيِّهِ صَحَّ لِعَدَمِ الْمَانِعِ (3)
د - الاِنْتِسَابُ إِلَى الصَّنْعَةِ أَوِ الْقَبِيلَةِ أَوِ الْقَرْيَةِ:
5 - الاِنْتِسَابُ إِلَى الصَّنْعَةِ أَوِ الْقَبِيلَةِ أَوِ الْقَرْيَةِ
__________
(1) سورة الاحزاب / 5 وانظر القرطبي 14 / 120 ط دار الكتب، والألوسي 21 /
148.
(2) ابن عابدين 5 / 74، والشرح الصغير 4 / 571 ط دار المعارف، والقليوبي 3
/ 145، والمغني 6 / 356.
(3) ابن عابدين 5 / 78.
(6/296)
كَالنَّجَّارِ وَالْخَزَفِيِّ - جَائِزٌ،
وَكَفُلاَنٍ الْقُرَشِيِّ وَالتَّمِيمِيِّ؛ نِسْبَةً إِلَى قُرَيْشٍ
وَإِلَى تَمِيمٍ، وَالْبُخَارِيِّ، وَالْقُرْطُبِيِّ نِسْبَةً إِلَى
بُخَارَى، وَقُرْطُبَةَ، وَعَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعُ الأُْمَّةِ مِنْ غَيْرِ
نَكِيرٍ.
هـ - انْتِسَابُ وَلَدِ الْمُلاَعَنَةِ:
6 - إِذَا قَذَفَ الرَّجُل زَوْجَتَهُ، وَنَفَى نَسَبَ الْوَلَدِ مِنْهُ،
وَتَمَّ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا بِشُرُوطِهِ، نَفَى الْحَاكِمُ نَسَبَهُ
عَنْ أَبِيهِ وَأَلْحَقَهُ بِأُمِّهِ. (1) ر: (لِعَان)
و الاِنْتِسَابُ إِلَى الْقَرَابَةِ مِنْ جِهَةِ الأُْمِّ:
7 - لِلاِنْتِسَابِ إِلَى الأُْمِّ وَأُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا أَحْكَامٌ
مُتَعَدِّدَةٌ، مِثْل حُكْمِ النَّظَرِ، وَالإِْرْثِ، وَالْوِلاَيَةِ فِي
عَقْدِ النِّكَاحِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَحُرْمَةِ النِّكَاحِ، وَغَيْرِ
ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامٍ تَتَرَتَّبُ عَلَى هَذِهِ النِّسْبَةِ. وَيُرَاجَعُ
فِي ذَلِكَ تِلْكَ الأَْبْوَابُ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ وَالْمُصْطَلَحَاتُ
الْمُخْتَصَّةُ بِتِلْكَ الأَْبْوَابِ، نَحْوَ (إِرْث، وِلاَيَة، نِكَاح،
نَظَر، سَفَر)
انْتِشَاءٌ
.
انْظُرْ: سُكْر، مُخَدِّر
__________
(1) ابن عابدين 2 / 589، والقليوبي وعميرة 4 / 34 ط الحلبي، والشرح الصغير
2 / 657 ط المعارف، والمغني 7 / 423.
(6/296)
انْتِشَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِنْتِشَارُ مَصْدَرُ: انْتَشَرَ، يُقَال انْتَشَرَ الْخَبَرُ: إِذَا
ذَاعَ. وَانْتَشَرَ النَّهَارُ: طَال وَامْتَدَّ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - أ - الاِسْتِفَاضَةُ. يُقَال اسْتَفَاضَ الْخَبَرُ: إِذَا ذَاعَ
وَانْتَشَرَ. (3) وَلاَ تَكُونُ الاِسْتِفَاضَةُ إِلاَّ فِي الأَْخْبَارِ،
بِخِلاَفِ الاِنْتِشَارِ
ب - الإِْشَاعَةُ. أَشَاعَ الْخَبَرَ بِمَعْنَى أَظْهَرَهُ فَانْتَشَرَ (4)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الاِنْتِشَارِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:
الأَْوَّل: بِمَعْنَى إِنْعَاظِ الذَّكَرِ، أَيْ قِيَامُهُ.
الثَّانِي: بِمَعْنَى شُيُوعِ الشَّيْءِ.
3 - فَالاِنْتِشَارُ بِالْمَعْنَى الأَْوَّل لَهُ أَثَرٌ فِي تَرَتُّبِ
الأَْحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ عَلَيْهِ، وَمِنْ ذَلِكَ:
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير والمفردات للراغب مادة (نشر) .
(2) ابن عابدين 1 / 113 ط ثالثة، والدسوقي 1 / 121 ط دار الفكر، والمهذب 2
/ 156 ط دار المعرفة.
(3) لسان العرب، وابن عابدين 2 / 97، والحطاب 2 / 383 ط النجاح ليبيا.
(4) لسان العرب، والقليوبي 4 / 32 ط الحلبي.
(6/297)
أ - حِل الْمُطَلَّقَةِ ثَلاَثًا لِمَنْ
طَلَّقَهَا، فَمَنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلاَثًا لاَ تَحِل لَهُ حَتَّى
تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَيَطَأَهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلاَ
تَحِل لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (1) وَلاَ تَحِل
إِلاَّ بِالْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ، وَأَدْنَاهُ تَغْيِيبُ الْحَشَفَةِ،
وَلاَ بُدَّ مِنَ الاِنْتِشَارِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدِ الاِنْتِشَارُ فَلاَ
تَحِل، لِمَا رُوِيَ أَنَّ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيَّ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ
وَبَتَّ طَلاَقَهَا، فَتَزَوَّجَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزُّبَيْرِ،
فَجَاءَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا
رَسُول اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ وَطَلَّقَنِي ثَلاَثَ
تَطْلِيقَاتٍ، فَتَزَوَّجَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزُّبَيْرِ،
وَإِنَّهُ وَاَللَّهِ يَا رَسُول اللَّهِ مَا مَعَهُ إِلاَّ مِثْل هَذِهِ
الْهُدْبَةِ، فَتَبَسَّمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقَال: لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ،
لاَ وَاَللَّهِ حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ (2) ،
فَقَدْ عَلَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُكْمَ
بِذَوْقِ الْعُسَيْلَةِ وَذَلِكَ لاَ يَحْصُل مِنْ غَيْرِ انْتِشَارٍ،
وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ. (3)
ب - وَمِنْ ذَلِكَ أَثَرُ الاِنْتِشَارِ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ
أُكْرِهَ عَلَى الزِّنَا. وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ. فَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ،
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي إِكْرَاهِ غَيْرِ السُّلْطَانِ، إِذَا
أُكْرِهَ الرَّجُل فَزَنَى، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لأَِنَّ الْوَطْءَ لاَ
يَكُونُ إِلاَّ بِالاِنْتِشَارِ، وَالإِْكْرَاهُ يُنَافِيهِ، فَإِذَا
وُجِدَ
__________
(1) سورة البقرة / 230.
(2) حديث رفاعة: " أتريدين. . . " متفق عليه، واللفظ لمسلم، أخرجه البخاري
في الطلاق (9 / 361 - 5260) ط السلفية، ومسلم في النكاح (2 / 1055 / 33) ط
عبد الباقي.
(3) الاختيار 3 / 150 ط دار المعرفة، ومنح الجليل 2 / 57 ط النجاح، والمهذب
2 / 105، وشرح منتهى الإرادات 3 / 187 ط دار الفكر.
(6/297)
الاِنْتِشَارُ انْتَفَى الإِْكْرَاهُ،
فَيَلْزَمُهُ الْحَدُّ.
وَفِي الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ،
وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فِي إِكْرَاهِ ذِي
السُّلْطَانِ، أَنَّهُ إِذَا أُكْرِهَ الرَّجُل عَلَى الزِّنَا فَلاَ حَدَّ
عَلَيْهِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُفِعَ
عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (1)
وَلأَِنَّ الاِنْتِشَارَ مُتَرَدِّدٌ، لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ
قَصْدٍ، لأَِنَّ الاِنْتِشَارَ قَدْ يَكُونُ طَبْعًا لاَ طَوْعًا كَمَا فِي
النَّائِمِ. (2) ر: (إِكْرَاه)
4 - أَمَّا الاِنْتِشَارُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي: وَهُوَ الشُّيُوعُ،
فَقَدْ ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي ثُبُوتِ الْهِلاَل بِالْخَبَرِ
الْمُنْتَشِرِ، (3) وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (اسْتِفَاضَة - صَوْم)
.
وَذَكَرُوهُ فِي انْتِشَارِ حُرْمَةِ النِّكَاحِ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ إِلَى
أُصُول الْمُرْضِعَةِ وَفُرُوعِهَا. (4)
وَانْتِشَارِ الْحُرْمَةِ أَيْضًا بِسَبَبِ الزِّنَا - وَيُنْظَرُ فِي
(رَضَاع - وَنِكَاح) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
5 - تَتَعَدَّدُ الْمَسَائِل الْفِقْهِيَّةُ الَّتِي تُبْنَى الأَْحْكَامُ
فِيهَا
__________
(1) حديث: " رفع عن أمتي. . . " عزاه السيوطي إلى الطبراني في الكبير عن
ثوبان. انظر فيض القدير (4 / 34 / 4461) وضعفه المناوي فيه، والصواب رواية
البيهقي عن ابن عمر بلفظ " وضع عن أمتي. . . " وأخرجه الحاكم عن ابن عباس
(2 / 198) بلفظ " تجاوز الله عن أمتي الخطأ. . . " وقال: هذا حديث صحيح على
شرط الشيخين. ووافقه الذهبي.
(2) الهداية 2 / 104 ط المكتبة الإسلامية، ومنح الجليل 4 / 393، ومغني
المحتاج 4 / 145 ط الحلبي، والمهذب 2 / 268، والمغني 8 / 187 ط الرياض.
(3) الحطاب 2 / 383.
(4) المغني 7 / 545، والمهذب 2 / 156.
(6/298)
عَلَى الاِنْتِشَارِ، وَذَلِكَ فِي بَابِ
الْوُضُوءِ، وَبَابِ الْغُسْل، وَبَابِ الصَّوْمِ، وَفِي النَّظَرِ إِلَى
الأَْجْنَبِيَّةِ، وَفِي الْمُحَرَّمَاتِ فِي بَابِ النِّكَاحِ، وَبَابِ
الرَّضَاعِ. (1)
انْتِفَاعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِنْتِفَاعُ مَصْدَرُ: انْتَفَعَ مِنَ النَّفْعِ، وَهُوَ ضِدُّ
الضُّرِّ، وَهُوَ مَا يَتَوَصَّل بِهِ الإِْنْسَانُ إِلَى مَطْلُوبِهِ.
فَالاِنْتِفَاعُ: الْوُصُول إِلَى الْمَنْفَعَةِ، يُقَال انْتَفَعَ
بِالشَّيْءِ: إِذَا وَصَل بِهِ إِلَى مَنْفَعَةٍ. (2)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ هَذَا
الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ قَدْرِي بَاشَا فِي
مُرْشِدِ الْحَيْرَانِ أَنَّ (الاِنْتِفَاعَ الْجَائِزَ هُوَ حَقُّ
الْمُنْتَفِعِ فِي اسْتِعْمَال الْعَيْنِ وَاسْتِغْلاَلِهَا مَا دَامَتْ
قَائِمَةً عَلَى حَالِهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رَقَبَتُهَا مَمْلُوكَةً)
(3)
2 - وَاسْتُعْمِل هَذَا اللَّفْظُ غَالِبًا مَعَ كَلِمَةِ (حَقٍّ)
فَيُقَال: حَقُّ الاِنْتِفَاعِ، وَيُرَادُ بِهِ الْحَقُّ الْخَاصُّ
بِشَخْصِ الْمُنْتَفِعِ غَيْرُ الْقَابِل لِلاِنْتِقَال لِلْغَيْرِ. وَقَدْ
يُسْتَعْمَل مَعَ كَلِمَتَيْ (مِلْكٌ وَتَمْلِيكٌ) فَيُقَال: مِلْكُ
الاِنْتِفَاعِ، وَتَمْلِيكُ الاِنْتِفَاعِ. وَلَعَل الْمُرَادَ بِالْمِلْكِ
وَالتَّمْلِيكِ أَيْضًا - حَقُّ الصَّرْفِ الشَّخْصِيِّ الَّذِي يُبَاشِرُ
الإِْنْسَانُ بِنَفْسِهِ فَقَطْ (4) . .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 113، 115، و285 و5 / 241، والدسوقي 1 / 121، 523.
(2) المصباح المنير، ومعجم متن اللغة مادة (نفع) .
(3) مرشد الحيران مادة (13) .
(4) الفروق للقرافي 1 / 187.
(6/298)
مُقَارَنَةٌ بَيْنَ حَقِّ الاِنْتِفَاعِ
وَمِلْكِ الْمَنْفَعَةِ:
3 - يُفَرِّقُ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ حَقِّ الاِنْتِفَاعِ وَمِلْكِ
الْمَنْفَعَةِ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَنْشَأِ وَالْمَفْهُومِ وَالآْثَارِ.
وَخُلاَصَةُ مَا قِيل فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَجْهَانِ:
الأَْوَّل: سَبَبُ حَقِّ الاِنْتِفَاعِ أَعَمُّ مِنْ سَبَبِ مِلْكِ
الْمَنْفَعَةِ، لأَِنَّهُ كَمَا يَثْبُتُ بِبَعْضِ الْعُقُودِ
كَالإِْجَارَةِ وَالإِْعَارَةِ مَثَلاً، كَذَلِكَ يَثْبُتُ بِالإِْبَاحَةِ
الأَْصْلِيَّةِ، كَالاِنْتِفَاعِ مِنَ الطُّرُقِ الْعَامَّةِ
وَالْمَسَاجِدِ وَمَوَاقِعِ النُّسُكِ، وَيَثْبُتُ أَيْضًا بِالإِْذْنِ
مِنْ مَالِكٍ خَاصٍّ. كَمَا لَوْ أَبَاحَ شَخْصٌ لآِخَرَ أَكْل طَعَامٍ
مَمْلُوكٍ لَهُ، أَوِ اسْتِعْمَال بَعْضِ مَا يُمْلَكُ
أَمَّا الْمَنْفَعَةُ فَلاَ تُمْلَكُ إِلاَّ بِأَسْبَابٍ خَاصَّةٍ، وَهِيَ
الإِْجَارَةُ وَالإِْعَارَةُ وَالْوَصِيَّةُ بِالْمَنْفَعَةِ وَالْوَقْفِ،
عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلاَفٍ سَيَأْتِي.
وَعَلَى ذَلِكَ، فَكُل مَنْ يَمْلِكُ الْمَنْفَعَةَ يَسُوغُ لَهُ
الاِنْتِفَاعُ، وَلاَ عَكْسَ، فَلَيْسَ كُل مَنْ لَهُ الاِنْتِفَاعُ
يَمْلِكُ الْمَنْفَعَةَ، كَمَا فِي الإِْبَاحَةِ مَثَلاً.
الثَّانِي: أَنَّ الاِنْتِفَاعَ الْمَحْضَ حَقٌّ ضَعِيفٌ بِالنِّسْبَةِ
لِمِلْكِ الْمَنْفَعَةِ؛ لأَِنَّ صَاحِبَ الْمَنْفَعَةِ يَمْلِكُهَا
وَيَتَصَرَّفُ فِيهَا تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ فِي الْحُدُودِ
الشَّرْعِيَّةِ، بِخِلاَفِ حَقِّ الاِنْتِفَاعِ الْمُجَرَّدِ، لأَِنَّهُ
رُخْصَةٌ لاَ يَتَجَاوَزُ شَخْصَ الْمُنْتَفِعِ.
وَعَلَى هَذَا فَمَنْ مَلَكَ مَنْفَعَةَ شَيْءٍ يَمْلِكُ أَنْ يَتَصَرَّفَ
فِيهِ بِنَفْسِهِ، أَوْ أَنْ يَنْقُلَهَا إِلَى غَيْرِهِ، وَمَنْ مَلَكَ
الاِنْتِفَاعَ بِالشَّيْءِ لاَ يَمْلِكُ أَنْ يَنْقُلَهُ إِلَى غَيْرِهِ.
فَالْمَنْفَعَةُ أَعَمُّ أَثَرًا مِنَ الاِنْتِفَاعِ، يَقُول
الْقَرَافِيُّ: تَمْلِيكُ الاِنْتِفَاعِ نُرِيدُ بِهِ أَنْ يُبَاشِرَهُ
هُوَ بِنَفْسِهِ فَقَطْ، وَتَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ هُوَ أَعَمُّ
وَأَشْمَل، فَيُبَاشِرُ بِنَفْسِهِ، وَيُمَكِّنُ غَيْرَهُ مِنَ
الاِنْتِفَاعِ بِعِوَضٍ
(6/299)
كَالإِْجَارَةِ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ
كَالْعَارِيَّةِ.
مِثَال الأَْوَّل: سُكْنَى الْمَدَارِسِ، وَالرِّبَاطَاتِ وَالْمَجَالِسِ،
فِي الْجَوَامِعِ، وَالْمَسَاجِدِ، وَالأَْسْوَاقِ، وَمَوَاضِعِ النُّسُكِ،
كَالْمَطَافِ وَالْمَسْعَى وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ
بِنَفْسِهِ فَقَطْ. وَلَوْ حَاوَل أَنْ يُؤَاجِرَ بَيْتَ الْمَدْرَسَةِ
أَوْ يُسْكِنَ غَيْرَهُ أَوْ يُعَاوِضَ عَلَيْهِ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ
الْمُعَاوَضَاتِ امْتَنَعَ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ النَّظَائِرِ
الْمَذْكُورَةِ مَعَهُ.
وَأَمَّا مَالِكُ الْمَنْفَعَةِ، فَكَمَنِ اسْتَأْجَرَ دَارًا أَوِ
اسْتَعَارَهَا، فَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهَا مِنْ غَيْرِهِ أَوْ يَسْكُنَهُ
بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَيَتَصَرَّفَ فِي هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ تَصَرُّفَ
الْمُلاَّكِ فِي أَمْلاَكِهِمْ عَلَى جَرْيِ الْعَادَةِ، عَلَى الْوَجْهِ
الَّذِي مَلَكَهُ (1)
وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ أَنَّ
الْمُوصَى لَهُ يَمْلِكُ الْمَنْفَعَةَ، وَلَهُ حَقُّ الإِْعَارَةِ،
وَالْمُسْتَأْجِرُ يُمْكِنُهُ الإِْعَارَةُ وَالإِْجَارَةُ لِلْغَيْرِ
فِيمَا لاَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْمُسْتَعْمِلِينَ. وَيَمْلِكُ
الْمُسْتَعِيرُ وَالْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ السُّكْنَى الْمَنْفَعَةَ،
فَيُمْكِنُ لَهُمَا نَقْل الْمَنْفَعَةِ إِلَى الْغَيْرِ بِدُونِ عِوَضٍ،
لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ لاَ يُجِيزُونَ
لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُؤَجِّرَ الْمُسْتَعَارَ لِلْغَيْرِ، خِلاَفًا
لِلْمَالِكِيَّةِ (2)
4 - وَمِلْكُ الْمَنْفَعَةِ قَدْ يَكُونُ حَقًّا شَخْصِيًّا غَيْرَ تَابِعٍ
لِلْعَيْنِ الْمَمْلُوكَةِ، كَمَا هُوَ ثَابِتٌ لِلْمُسْتَعِيرِ
وَالْمُسْتَأْجِرِ فِي الإِْعَارَةِ وَالإِْجَارَةِ، وَقَدْ يَكُونُ حَقًّا
عَيْنِيًّا تَابِعًا لِلْعَيْنِ الْمَمْلُوكَةِ مُنْتَقِلاً مِنْ مَالِكٍ
إِلَى مَالِكٍ بِالتَّبَعِ ضِمْنَ انْتِقَال الْمِلْكِيَّةِ، وَلاَ يَكُونُ
إِلاَّ فِي الْعَقَارِ، وَهَذَا
__________
(1) الفروق للقرافي 1 / 187.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص143، وكشاف القناع 4 / 57 ط ثالثة، ونهاية
المحتاج 5 / 118، والدسوقي 3 / 433.
(6/299)
مَا يُسَمَّى بِحَقِّ الاِرْتِفَاقِ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (ارْتِفَاق) .
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - الاِنْتِفَاعُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا أَوْ حَرَامًا أَوْ
جَائِزًا، وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ مُتَعَلَّقِهِ وَهُوَ الْعَيْنُ
الْمُنْتَفَعُ بِهَا، وَنَظَرًا لِلشُّرُوطِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعَيْنِ
وَبِالشَّخْصِ الْمُنْتَفِعِ بِهَا، وَفِيمَا يَلِي أَمْثِلَةٌ
لِلاِنْتِفَاعِ الْوَاجِبِ وَالْحَرَامِ وَالْجَائِزِ بِاخْتِصَارٍ.
أ - الاِنْتِفَاعُ الْوَاجِبُ:
6 - لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الاِنْتِفَاعَ يَكُونُ وَاجِبًا بِأَكْل
الْمُبَاحِ، إِذَا خَافَ الإِْنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ الْهَلاَكَ؛ لأَِنَّ
الاِمْتِنَاعَ مِنْهُ إِلْقَاءٌ بِالنَّفْسِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَهُوَ
مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ
إِلَى التَّهْلُكَةِ} (1) حَتَّى إِنَّ الْجُمْهُورَ أَوْجَبُوا الأَْكْل
وَالشُّرْبَ فِي حَالَةِ الاِضْطِرَارِ، وَلَوْ كَانَتِ الْعَيْنُ
الْمُنْتَفَعُ بِهَا مُحَرَّمَةً. (2)
ب - الاِنْتِفَاعُ الْمُحَرَّمُ:
7 - قَدْ يَكُونُ الاِنْتِفَاعُ بِالشَّيْءِ مُحَرَّمًا، إِذَا كَانَتِ
الْعَيْنُ الْمُنْتَفَعُ بِهَا مُحَرَّمَةً شَرْعًا، كَالْمَيْتَةِ
وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْحَيَوَانَاتِ وَالطُّيُورِ
الْمُحَرَّمَةِ وَأَمْثَال ذَلِكَ فِي غَيْرِ حَالَةِ الاِضْطِرَارِ.
وَقَدْ يَكُونُ الاِنْتِفَاعُ بِعَيْنٍ مِنَ الأَْعْيَانِ الْمُبَاحَةِ
مُحَرَّمًا - سَبَبَ وَصْفٍ قَائِمٍ بِشَخْصِ الْمُنْتَفِعِ،
__________
(1) سورة البقرة / 195.
(2) ابن عابدين 5 / 215، وأسنى المطالب 1 / 570، والمغني 11 / 74.
(6/300)
كَالاِنْتِفَاعِ بِلَحْمِ الصَّيْدِ
لِلْمُحْرِمِ، وَكَانْتِفَاعِ بِاللُّقَطَةِ لِلْغَنِيِّ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ. فَإِذَا زَال هَذَا الْوَصْفُ حَل الاِنْتِفَاعُ عَمَلاً
بِالْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ: (إِذَا زَال الْمَانِعُ عَادَ الْمَمْنُوعُ) .
وَقَدْ يَكُونُ الاِنْتِفَاعُ بِالشَّيْءِ مُحَرَّمًا، إِذَا كَانَ فِيهِ
اعْتِدَاءٌ عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ وَعَدَمُ إِذْنِ الْمَالِكِ، فَيُوجِبُ
الضَّمَانَ وَالْعِقَابَ، كَالاِنْتِفَاعِ بِالأَْمْوَال الْمَغْصُوبَةِ
وَالْمَسْرُوقَةِ كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَوْضِعِهِ.
ج - الاِنْتِفَاعُ الْجَائِزُ:
8 - أَمَّا الاِنْتِفَاعُ الْجَائِزُ فَهُوَ إِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ
الْمُنْتَفَعُ بِهَا مُبَاحَةً، كَالاِنْتِفَاعِ بِالأَْطْعِمَةِ
وَالأَْشْرِبَةِ الْمُبَاحَةِ إِلَى حَدِّ الشِّبَعِ، وَالاِنْتِفَاعِ
بِالْمَنَافِعِ الْمُشْتَرَكَةِ كَالشَّوَارِعِ وَضَوْءِ الشَّمْسِ
وَالْهَوَاءِ، وَالاِنْتِفَاعِ بِالأَْمْوَال الْمَمْلُوكَةِ بِإِذْنِ
الْمَالِكِ، كَالإِْبَاحَةِ، أَوْ بِوَاسِطَةِ الْعَقْدِ كَالاِنْتِفَاعِ
بِالْمُسْتَعَارِ وَالْمَأْجُورِ وَالْمَوْقُوفِ وَالْمُوصَى بِهِ حَسَبَ
الإِْذْنِ وَالشُّرُوطِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا.
أَسْبَابُ الاِنْتِفَاعِ
9 - الْمُرَادُ بِأَسْبَابِ الاِنْتِفَاعِ مَا يَشْمَل الْمَنْفَعَةَ
الَّتِي يُمْكِنُ نَقْلُهَا إِلَى الْغَيْرِ، وَمَا هُوَ خَاصٌّ بِشَخْصِ
الْمُنْتَفِعِ وَلاَ يَقْبَل التَّحْوِيل لِلْغَيْرِ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ
الْعَيْنُ الْمُنْتَفَعُ بِهَا مِمَّا يَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِهَا
ابْتِدَاءً، أَمْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً يُنْتَفَعُ بِهَا بِشُرُوطٍ
خَاصَّةٍ، فَأَسْبَابُ الاِنْتِفَاعِ بِهَذَا الْمَعْنَى عِبَارَةٌ عَنِ
الإِْبَاحَةِ، وَالضَّرُورَةِ، وَالْعَقْدِ.
أَوَّلاً: الإِْبَاحَةُ
10 - الإِْبَاحَةُ: هِيَ الإِْذْنُ بِإِتْيَانِ الْفِعْل كَيْفَ شَاءَ
الْفَاعِل. (1)
__________
(1) التعريفات للجرجاني ص 2.
(6/300)
وَيُعَرِّفُهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ
بِأَنَّهَا: الإِْطْلاَقُ فِي مُقَابَلَةِ الْحَظْرِ الَّذِي هُوَ
الْمَنْعُ (1) . وَهِيَ بِهَذَا الْمَعْنَى تَشْمَل:
أ - الإِْبَاحَةَ الأَْصْلِيَّةَ:
وَهِيَ الَّتِي لَمْ يَرِدْ فِيهَا نَصٌّ خَاصٌّ مِنَ الشَّرْعِ، لَكِنْ
وَرَدَ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ أَنَّهُ يُبَاحُ الاِنْتِفَاعُ بِنَاءً عَلَى
الإِْبَاحَةِ الأَْصْلِيَّةِ، حِينَمَا تَكُونُ الأَْعْيَانُ وَالْحُقُوقُ
الْمُتَعَلِّقَةُ بِهَا مُخَصِّصَةً لِمَنْفَعَةِ الْكَافَّةِ، وَلاَ
يَمْلِكُهَا وَاحِدٌ مِنَ النَّاسِ، كَالأَْنْهُرِ الْعَامَّةِ،
وَالْهَوَاءِ، وَالطُّرُقِ غَيْرِ الْمَمْلُوكَةِ.
فَالاِنْتِفَاعُ مِنَ الأَْنْهُرِ الْعَامَّةِ مُبَاحٌ لاَ لِحَقِّ
الشَّفَةِ (شُرْبُ الإِْنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ) فَحَسْبُ، بَل لِسَقْيِ
الأَْرَاضِي أَيْضًا كَمَا يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: لِكُلٍّ أَنْ يَسْقِيَ
أَرْضَهُ مِنْ بَحْرٍ أَوْ نَهْرٍ عَظِيمٍ كَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ إِنْ
لَمْ يَضُرَّ بِالْعَامَّةِ (2) .
وَكَذَلِكَ الاِنْتِفَاعُ بِالْمُرُورِ فِي الشَّوَارِعِ وَالطُّرُقِ
غَيْرِ الْمَمْلُوكَةِ ثَابِتٌ لِلنَّاسِ جَمِيعًا بِالإِْبَاحَةِ
الأَْصْلِيَّةِ، وَيَجُوزُ الْجُلُوسُ فِيهَا لِلاِسْتِرَاحَةِ
وَالتَّعَامُل وَنَحْوِهِمَا، إِذَا لَمْ يُضَيِّقْ عَلَى الْمَارَّةِ
وَلَهُ تَظْلِيل مَجْلِسِهِ بِمَا لاَ يَضُرُّ الْمَارَّةَ عُرْفًا (3) .
وَمِثْلُهُ الاِنْتِفَاعُ بِشَمْسٍ وَقَمَرٍ وَهَوَاءٍ إِذَا لَمْ يَضُرَّ
بِأَحَدٍ لأَِنَّ هَوَاءَ الطَّرِيقِ كَأَصْل الطَّرِيقِ حَقُّ الْمَارَّةِ
جَمِيعًا. وَالنَّاسُ فِي الْمُرُورِ فِي الطَّرِيقِ شُرَكَاءُ. (4)
ب - الإِْبَاحَةُ الشَّرْعِيَّةُ.
11 - الإِْبَاحَةُ الشَّرْعِيَّةُ: هِيَ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا نَصٌّ
خَاصٌّ يَدُل عَلَى حِل الاِنْتِفَاعِ بِهَا، وَذَلِكَ إِمَّا أَنْ
__________
(1) فتح القدير 8 / 79.
(2) ابن عابدين 5 / 284.
(3) نهاية المحتاج 5 / 339.
(4) ابن عابدين 5 / 282، والمبسوط للسرخسي 27 / 9، ونهاية المحتاج 5 / 339،
والوجيز للغزالي 1 / 175.
(6/301)
يَكُونَ بِلَفْظِ الْحِل، كَمَا فِي قَوْله
تَعَالَى: {أُحِل لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}
(1) . أَوْ بِالأَْمْرِ بَعْدَ النَّهْيِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنِ ادِّخَارِ لُحُومِ
الأَْضَاحِيِّ، فَكُلُوا وَادَّخِرُوا (2) . أَوْ بِالاِسْتِثْنَاءِ مِنَ
التَّحْرِيمِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَكَل السَّبُعُ إِلاَّ
مَا ذَكَّيْتُمْ} (3) . أَوْ بِنَفْيِ الْجُنَاحِ أَوِ الإِْثْمِ، أَوْ
بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِيَغِ الإِْبَاحَةِ كَمَا بَيَّنَهُ
الأُْصُولِيُّونَ.
ج - الإِْبَاحَةُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ:
12 - هَذِهِ الإِْبَاحَةُ تَثْبُتُ مِنْ مَالِكٍ خَاصٍّ لِغَيْرِهِ
بِالاِنْتِفَاعِ بِعَيْنٍ مِنَ الأَْعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ: إِمَّا
بِالاِسْتِهْلاَكِ، كَإِبَاحَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي الْوَلاَئِمِ
وَالضِّيَافَاتِ، أَوْ بِالاِسْتِعْمَال كَمَا لَوْ أَبَاحَ إِنْسَانٌ
لآِخَرَ اسْتِعْمَال مَا يَشَاءُ مِنْ أَمْلاَكِهِ الْخَاصَّةِ
فَالاِنْتِفَاعُ فِي هَذِهِ الْحَالاَتِ لاَ يَتَجَاوَزُ الشَّخْصَ
الْمُبَاحَ لَهُ، وَهُوَ لاَ يَمْلِكُ الشَّيْءَ الْمُنْتَفَعَ بِهِ،
فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُبِيحَهُ لِغَيْرِهِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي
الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ. (4)
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مِثْل
ذَلِكَ، فَقَال الْبُجَيْرِمِيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَى الْخَطِيبِ: إِنَّ
مَنْ أُبِيحَ لَهُ الطَّعَامُ بِالْوَلِيمَةِ أَوِ الضِّيَافَةِ يَحْرُمُ
عَلَيْهِ أَنْ يَنْقُلَهُ إِلَى غَيْرِهِ، أَوْ بِإِطْعَامِ نَحْوِ هِرَّةٍ
مِنْهُ، وَلاَ يُطْعِمُ مِنْهُ سَائِلاً إِلاَّ إِذَا عَلِمَ الرِّضَا.
وَكَذَلِكَ مَنْ أُبِيحَ لَهُ الاِنْتِفَاعُ بِعَيْنٍ مِنَ الأَْعْيَانِ
__________
(1) سورة البقرة / 187.
(2) حديث " كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي. . . " أخرجه مسلم في الأضاحي 3 /
1563 / 1977.
(3) سورة المائدة / 3.
(4) الفتاوى الهندية 3 / 344.
(6/301)
الْمَمْلُوكَةِ بِإِذْنِ الْمَالِكِ،
كَالإِْذْنِ بِسُكْنَى دَارِهِ، أَوْ رُكُوبِ سَيَّارَتِهِ، أَوِ
اسْتِعْمَال كُتُبِهِ، أَوْ مَلاَبِسِهِ الْخَاصَّةِ، فَلَيْسَ لِلْمُبَاحِ
لَهُ أَنْ يَأْذَنَ لِغَيْرِهِ بِالاِنْتِفَاعِ بِهَا، وَإِلاَّ كَانَ
ضَامِنًا. (1)
ثَانِيًا: الاِضْطِرَارُ
13 - " الاِضْطِرَارُ هُوَ الْخَوْفُ عَلَى النَّفْسِ مِنَ الْهَلاَكِ
عِلْمًا أَوْ ظَنًّا " أَوْ " بُلُوغُ الإِْنْسَانِ حَدًّا إِنْ لَمْ
يَتَنَاوَل الْمَمْنُوعَ يَهْلِكُ (2) " وَهُوَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ حِل
الاِنْتِفَاعِ بِالْمُحَرَّمِ لإِِنْقَاذِ النَّفْسِ مِنَ الْهَلاَكِ.
وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ نَوْعٌ مِنَ الإِْبَاحَةِ الشَّرْعِيَّةِ
لِلنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي حَال الضَّرُورَةِ.
وَيُشْتَرَطُ لِحِل الاِنْتِفَاعِ بِهِ أَنْ يَكُونَ الاِضْطِرَارُ
مُلْجِئًا، بِحَيْثُ يَجِدُ الإِْنْسَانُ نَفْسَهُ فِي حَالَةٍ يَخْشَى
فِيهَا الْمَوْتَ، وَأَنْ يَكُونَ الْخَوْفُ قَائِمًا فِي الْحَال لاَ
مُنْتَظِرًا، وَأَلاَّ يَكُونَ لِدَفْعِهِ وَسِيلَةٌ أُخْرَى.
فَلَيْسَ لِلْجَائِعِ أَنْ يَنْتَفِعَ مِنَ الْمَيْتَةِ قَبْل أَنْ يَجُوعَ
جُوعًا يَخْشَى مِنْهُ الْهَلاَكَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَل مِنْ
مَال الْغَيْرِ إِذَا اسْتَطَاعَ شِرَاءَ الطَّعَامِ أَوْ دَفْعَ الْجُوعِ
بِفِعْلٍ مُبَاحٍ. وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ لِلاِنْتِفَاعِ بِالْحَرَامِ حَال
الاِضْطِرَارِ أَلاَّ يَتَجَاوَزَ الْقَدْرَ اللاَّزِمَ لِدَفْعِهِ.
وَالأَْصْل فِي حِل الاِنْتِفَاعِ مِنَ الْمُحَرَّمِ حَال الاِضْطِرَارِ
قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ
عَلَيْهِ} (3) وقَوْله تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّل لَكُمْ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 355، وبلغة السالك 2 / 529، والبجيرمي على الخطيب 3 /
391، والمغني 7 / 288.
(2) حاشية الحموي على الأشباه والنظائر ص 108، والشرح الكبير للدردير 2 /
115، 184.
(3) سورة البقرة / 173.
(6/302)
مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا
اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} . (1)
وَالْبَحْثُ فِي الاِنْتِفَاعِ بِالْمُحَرَّمِ حَال الاِضْطِرَارِ
يَتَنَاوَل الْمَوْضُوعَاتِ الآْتِيَةَ:
أ - الاِنْتِفَاعُ مِنَ الأَْطْعِمَةِ الْمُحَرَّمَةِ:
14 - إِذَا خَافَ الإِْنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ الْهَلاَكَ، وَلَمْ يَجِدْ
مِنَ الْحَلاَل مَا يَتَغَذَّى بِهِ، جَازَ لَهُ الاِنْتِفَاعُ
بِالْمُحَرَّمِ لِكَيْ يُنْقِذَ حَيَاتَهُ مِنَ الْهَلاَكِ، مَيْتَةً كَانَ
أَوْ دَمًا أَوْ مَال الْغَيْرِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. وَهَذَا مِمَّا لاَ
خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ الاِنْتِفَاعِ مِنَ الْمُحَرَّمِ حَال
الاِضْطِرَارِ، هَل هُوَ وَاجِبٌ يُثَابُ عَلَيْهِ فَاعِلُهُ وَيُعَاقَبُ
تَارِكُهُ، أَمْ هُوَ جَائِزٌ لاَ ثَوَابَ وَلاَ عِقَابَ فِي فِعْلِهِ أَوْ
تَرْكِهِ.؟
فَالْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الأَْصَحُّ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَوَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) عَلَى
الْوُجُوبِ؛ لأَِنَّ الاِمْتِنَاعَ مِنَ الأَْكْل وَالشُّرْبِ حَال
الاِضْطِرَارِ إِلْقَاءٌ بِالنَّفْسِ إِلَى التَّهْلُكَةِ الْمَنْهِيِّ
عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى
التَّهْلُكَةِ} . (2)
فَالأَْكْل لِلْغِذَاءِ وَلَوْ مِنْ حَرَامٍ أَوْ مَيْتَةٍ أَوْ مَال
غَيْرِهِ حَال الاِضْطِرَارِ وَاجِبٌ يُثَابُ عَلَيْهِ إِذَا أَكَل
مِقْدَارَ مَا يَدْفَعُ بِهِ الْهَلاَكَ عَنْ نَفْسِهِ " وَمَنْ خَافَ
عَلَى نَفْسِهِ مَوْتًا أَوْ مَرَضًا مَخُوفًا وَوَجَدَ مُحَرَّمًا
لَزِمَهُ أَكْلُهُ (3) ".
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ:
إِنَّ
__________
(1) سورة الأنعام / 119.
(2) سورة البقرة / 195.
(3) ابن عابدين 5 / 215، والشرح الكبير للدردير 2 / 115، وأسنى المطالب 1 /
570، والمغني 11 / 74.
(6/302)
الاِنْتِفَاعَ مِنَ الأَْطْعِمَةِ
الْمُحَرَّمَةِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، بَل هُوَ مُبَاحٌ فَقَطْ؛ لأَِنَّ
إِبَاحَةَ الأَْكْل فِي حَالَةِ الاِضْطِرَارِ رُخْصَةٌ، فَلاَ تَجِبُ
عَلَيْهِ كَسَائِرِ الرُّخَصِ. (1)
15 - وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ صَاحِبُ الْمَال
مُضْطَرًّا إِلَيْهِ لَزِمَهُ بَذْلُهُ لِلْمُضْطَرِّ، لأَِنَّهُ
يَتَعَلَّقُ بِهِ إِحْيَاءُ نَفْسِ آدَمِيٍّ مَعْصُومٍ فَلَزِمَهُ بَذْلُهُ
لَهُ. فَإِنِ امْتَنَعَ وَاحْتِيجَ إِلَى الْقِتَال، فَلِلْمُضْطَرِّ
الْمُقَاتَلَةُ. فَإِنْ قُتِل الْمُضْطَرُّ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَعَلَى
قَاتِلِهِ ضَمَانُهُ. وَإِنْ قَتَل صَاحِبَهُ فَهُوَ هَدَرٌ، لأَِنَّهُ
ظَالِمٌ بِقِتَالِهِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ جَوَّزُوا الْقِتَال
بِغَيْرِ سِلاَحٍ.
وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعِ الْمُضْطَرُّ شِرَاءَ الطَّعَامِ.
فَإِنِ اسْتَطَاعَ اشْتَرَاهُ وَلَوْ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْل. (2)
ب - الاِنْتِفَاعُ بِالْخَمْرِ:
16 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الاِنْتِفَاعِ بِالْخَمْرِ
لإِِسَاغَةِ الْغُصَّةِ وَدَفْعِ الْهَلاَكِ فِي حَالَةِ الاِضْطِرَارِ
حَتَّى إِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى وُجُوبِ شُرْبِهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَ الْخَمْرِ، فَأَسَاغَ اللُّقْمَةَ بِهَا، فَلاَ
حَدَّ عَلَيْهِ، لِوُجُوبِ شُرْبِهَا عَلَيْهِ إِنْقَاذًا لِلنَّفْسِ.
وَلأَِنَّ شُرْبَهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُتَحَقِّقُ النَّفْعِ، وَلِذَا
يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ حَتَّى يَمُوتَ. (3)
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 150، وتيسير التحرير 2 / 232، والمغني 11 / 74.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 338، والشرح الصغير 2 / 183، ونهاية المحتاج 8 /
125، وابن عابدين 5 / 256، والقليوبي 4 / 263، والمغني 11 / 80.
(3) ابن عابدين 5 / 243، والدسوقي 4 / 353، والبجيرمي على الخطيب 4 / 159.
(6/303)
وَأَمَّا شُرْبُ الْخَمْرِ لِلْجُوعِ
وَالْعَطَشِ فَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى تَحْرِيمِهِ
لِعُمُومِ النَّهْيِ، وَلأَِنَّ شُرْبَهَا لَنْ يَزِيدَهُ إِلاَّ عَطَشًا.
(1)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ خَافَ الْهَلاَكَ عَطَشًا وَعِنْدَهُ خَمْرٌ
فَلَهُ شُرْبُ قَدْرِ مَا يَدْفَعُ الْعَطَشَ إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ
يَدْفَعُهُ. كَذَلِكَ لَوْ شَرِبَ لِلْعَطَشِ الْمُهْلِكِ مِقْدَارَ مَا
يَرْوِيهِ فَسَكِرَ لَمْ يُحَدَّ (2)
وَفَرَّقَ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ الْمَمْزُوجَةِ وَغَيْرِ الْمَمْزُوجَةِ
فَقَالُوا: إِنْ شَرِبَهَا لِلْعَطَشِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَتْ مَمْزُوجَةً
بِمَا يَرْوِي مِنَ الْعَطَشِ أُبِيحَتْ لِدَفْعِهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ،
كَمَا تُبَاحُ الْمَيْتَةُ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ، وَكَمَا يُبَاحُ شُرْبُ
الْخَمْرِ لِدَفْعِ الْغُصَّةِ. وَإِنْ شَرِبَهَا صِرْفًا، أَوْ
مَمْزُوجَةً بِشَيْءٍ يَسِيرٍ لاَ يَرْوِي مِنَ الْعَطَشِ لَمْ يُبَحْ،
وَعَلَيْهِ الْحَدُّ (3)
17 - وَأَمَّا تَعَاطِي الْخَمْرِ لِلتَّدَاوِي فَالْجُمْهُورُ عَلَى
تَحْرِيمِهِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي (أَشْرِبَة) .
ح - الاِنْتِفَاعُ بِلَحْمِ الآْدَمِيِّ الْمَيِّتِ:
18 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ الاِنْتِفَاعِ بِلَحْمِ
الآْدَمِيِّ الْمَيِّتِ حَالَةَ الاِضْطِرَارِ؛ لأَِنَّ حُرْمَةَ
الإِْنْسَانِ الْحَيِّ أَعْلَى مِنْ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ. وَاسْتَثْنَى
مِنْهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ -
الاِنْتِفَاعَ بِلَحْمِ الْمَيِّتِ الْمَعْصُومِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ.
وَمِثْل الْمَيِّتِ كُل حَيٍّ مُهْدَرِ الدَّمِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ.
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 353، ونهاية المحتاج 8 / 150.
(2) ابن عابدين 3 / 162، 5 / 351.
(3) المغني 10 / 330.
(6/303)
وَيُبِيحُ الشَّافِعِيُّ لِلْمُضْطَرِّ
أَنْ يَقْطَعَ مِنْ جِسْمِهِ فِلْذَةً لِيَأْكُلَهَا فِي حَالَةِ
الضَّرُورَةِ إِنْ كَانَ الْخَوْفُ فِي قَطْعِهَا أَقَل مِنْهُ فِي
تَرْكِهَا. (1) وَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ بَقِيَّةُ الْفُقَهَاءِ.
د - تَرْتِيبُ الاِنْتِفَاعِ بِالْمُحَرَّمِ:
19 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ،
وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) إِلَى أَنَّهُ إِذَا وُجِدَتْ
مَيْتَةٌ، أَوْ مَا صَادَهُ مُحْرِمٌ، أَوْ مَا صِيدَ فِي الْحَرَمِ،
وَطَعَامُ شَخْصٍ غَائِبٍ - فَلاَ يَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِمَال الْغَيْرِ؛
لأَِنَّ أَكْل الْمَيْتَةِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَأَكْل مَال الآْدَمِيِّ
مُجْتَهَدٌ فِيهِ، وَالْعُدُول إِلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ أَوْلَى.
وَلأَِنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُسَامَحَةِ
وَالْمُسَاهَلَةِ، وَحُقُوقُ الآْدَمِيِّ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الشُّحِّ
وَالتَّضْيِيقِ.
وَقَال مَالِكٌ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ: يُقَدَّمُ مَال الْغَيْرِ
عَلَى الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا سَبَقَ إِنْ أَمِنَ أَنْ يُعَدَّ
سَارِقًا، لأَِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الطَّعَامِ الْحَلاَل، فَلَمْ يَجُزْ
لَهُ أَكْل الْمَيْتَةِ، كَمَا لَوْ بَذَلَهُ لَهُ صَاحِبُهُ.
أَمَّا التَّرْتِيبُ فِي الاِنْتِفَاعِ بَيْنَ الْمَيْتَةِ وَصَيْدِ
الْحَرَمِ أَوِ الْمُحْرِمِ، فَقَدْ قَال أَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ
وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: تُقَدَّمُ الْمَيْتَةُ؛ لأَِنَّ إِبَاحَتَهَا
مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ:
صَيْدُ الْمُحْرِمِ لِلْمُضْطَرِّ أَوْلَى مِنَ الْمَيْتَةِ. (2)
هَذَا بِالنِّسْبَةِ لأَِكْل لَحْمِ الْمَيْتَةِ حَال الاِضْطِرَارِ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 296، وأسنى المطالب 1 / 571، ومواهب الجليل 3 / 233،
والمغني 11 / 79.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 36، والتاج والإكليل 3 / 234، وأسنى
المطالب 1 / 573، والمغني 11 / 78، 3 / 293.
(6/304)
20 - أَمَّا الاِنْتِفَاعُ بِالْمَيْتَةِ
بِغَيْرِ الأَْكْل، وَفِي غَيْرِ حَالَةِ الاِضْطِرَارِ فَالْجُمْهُورُ
(الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ
عَنْ أَحْمَدَ) عَلَى أَنَّ كُل إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ، وَيَجُوزُ
الاِنْتِفَاعُ بِهِ إِلاَّ جِلْدَ الْخِنْزِيرِ وَالآْدَمِيِّ.
أَمَّا الْخِنْزِيرُ فَلأَِنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ، وَأَمَّا الآْدَمِيُّ
فَلِكَرَامَتِهِ، فَلاَ يَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ كَسَائِرِ أَجْزَائِهِ.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ جِلْدَ الْكَلْبِ أَيْضًا لأَِنَّهُ لاَ
يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ عِنْدَهُمْ.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ جُلُودَ السِّبَاعِ، فَلاَ يَجُوزُ
الاِنْتِفَاعُ بِهَا قَبْل الدَّبْغِ وَلاَ بَعْدَهُ.
وَنُقِل عَنْ مَالِكٍ التَّوَقُّفُ فِي جَوَازِ الاِنْتِفَاعِ بِجُلُودِ
الْحِمَارِ وَالْبَغْل وَالْفَرَسِ وَلَوْ بَعْدَ الدَّبْغِ. (1)
وَفِي الاِنْتِفَاعِ بِعَظْمِ الْمَيْتَةِ وَشَعْرِهَا وَشَحْمِهَا -
تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (مَيْتَة) .
ثَالِثًا: الْعَقْدُ
21 - الْعَقْدُ مِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ الاِنْتِفَاعِ، لأَِنَّهُ وَسِيلَةُ
تَبَادُل الأَْمْوَال وَالْمَنَافِعِ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى أَسَاسِ
الرِّضَا. وَهُنَاكَ عُقُودٌ تَقَعُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ مُبَاشَرَةً،
فَتَنْقُل الْمَنْفَعَةَ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى، كَالإِْجَارَةِ
وَالإِْعَارَةِ، وَالْوَصِيَّةِ بِالْمَنْفَعَةِ وَالْوَقْفِ. وَهُنَاكَ
عُقُودٌ أُخْرَى لاَ تَقَعُ عَلَى الْمَنَافِعِ بِالذَّاتِ، وَلَكِنَّهُ
يَأْتِي الاِنْتِفَاعُ فِيهَا تَبَعًا، وَذَلِكَ بِشُرُوطٍ خَاصَّةٍ وَفِي
حُدُودٍ ضَيِّقَةٍ، كَالرَّهْنِ وَالْوَدِيعَةِ. وَتَفْصِيل كُلٍّ مِنْ
هَذِهِ الْعُقُودِ فِي بَابِهِ.
__________
(1) الزيلعي 1 / 25، 26، وجواهر الإكليل 1 / 9، والوجيز للغزالي 1 / 10،
والمغني 1 / 57.
(6/304)
وُجُوهُ الاِنْتِفَاعِ
الاِنْتِفَاعُ بِالشَّيْءِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِتْلاَفِ الْعَيْنِ أَوْ
بِبَقَائِهَا، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِمَّا أَنْ يَنْتَفِعَ الشَّخْصُ
مِنَ الْعَيْنِ بِالاِسْتِعْمَال أَوْ بِالاِسْتِغْلاَل. فَالْحَالاَتُ
ثَلاَثٌ:
(الْحَالَةُ الأُْولَى) الاِسْتِعْمَال:
22 - يَحْصُل الاِنْتِفَاعُ غَالِبًا بِاسْتِعْمَال الشَّيْءِ مَعَ بَقَاءِ
عَيْنِهِ، وَذَلِكَ كَمَا فِي الْعَارِيَّةِ، فَإِنَّ الْمُسْتَعِيرَ
يَنْتَفِعُ بِالْمُسْتَعَارِ بِاسْتِعْمَالِهِ وَالاِسْتِفَادَةِ مِنْهُ،
وَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِاسْتِغْلاَلِهِ (تَحْصِيل غَلَّتِهِ)
أَوِ اسْتِهْلاَكِهِ؛ لأَِنَّ مِنْ شُرُوطِ الْعَارِيَّةِ إِمْكَانَ
الاِنْتِفَاعِ بِهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا. وَالْمُسْتَعِيرُ يَمْلِكُ
الْمَنَافِعَ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَلاَ يَصِحُّ أَنْ يَسْتَغِلَّهَا
وَيَمْلِكَهَا غَيْرُهُ بِعِوَضٍ. (1)
هَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَالِكَ
الْمَنْفَعَةِ بِالاِسْتِعَارَةِ لَهُ أَنْ يُؤَجِّرَهَا خِلاَل مُدَّةِ
الإِْعَارَةِ. (2)
وَكَذَلِكَ الإِْجَارَةُ فِيمَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْمُسْتَعْمِل
أَوْ إِذَا اشْتَرَطَ الْمَالِكُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ الاِنْتِفَاعَ
بِنَفْسِهِ. فَالاِنْتِفَاعُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ قَاصِرٌ عَلَى شَخْصِ
الْمُسْتَأْجِرِ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَهْلِكَ الْمَأْجُورَ أَوْ
يَسْتَغِلَّهُ بِإِجَارَتِهِ لِلْغَيْرِ؛ لأَِنَّ عَقْدَ الإِْجَارَةِ
يَقْتَضِي الاِنْتِفَاعَ بِالْمَأْجُورِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ. وَلَيْسَ
لَهُ إِيجَارُهَا فِيمَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْمُسْتَعْمِل. (3)
(الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ) الاِسْتِغْلاَل:
23 - قَدْ يَحْصُل الاِنْتِفَاعُ بِاسْتِغْلاَل الشَّيْءِ وَأَخْذِ
__________
(1) الزيلعي 5 / 88، ونهاية المحتاج 5 / 118، والمغني 5 / 359.
(2) الدسوقي 3 / 433 - 434.
(3) البدائع 4 / 175، وابن عابدين 5 / 18، ونهاية المحتاج 5 / 284، والمغني
6 / 13.
(6/305)
الْعِوَضِ عَنْهُ، كَمَا فِي الْوَقْفِ
وَالْوَصِيَّةِ إِذَا نَصَّ عِنْدَ إِنْشَائِهِمَا عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ
يَنْتَفِعَ كَيْفَ شَاءَ، فَإِنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ وَالْمُوصَى لَهُ
يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يُؤَجِّرَا الْعَيْنَ الْمَوْقُوفَةَ وَالْمُوصَى
بِمَنْفَعَتِهَا لِلْغَيْرِ إِذَا أَجَازَهُمَا الْوَاقِفُ وَالْمُوصِي
مِنْ غَيْرِ خِلاَفٍ. (1)
(الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ) الاِسْتِهْلاَكُ:
24 - قَدْ يَحْصُل الاِنْتِفَاعُ بِاسْتِهْلاَكِ الْعَيْنِ كَالاِنْتِفَاعِ
بِأَكْل الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي الْوَلاَئِمِ وَالضِّيَافَاتِ،
وَالاِنْتِفَاعُ بِاللُّقْطَةِ إِذَا كَانَتْ مِمَّا يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ
الْفَسَادُ. وَكَذَلِكَ عَارِيَّةُ الْمَكِيلاَتِ وَالْمَوْزُونَاتِ
وَالأَْشْيَاءِ الْمِثْلِيَّةِ الَّتِي لاَ يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهَا
إِلاَّ بِاسْتِهْلاَكِهَا، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: عَارِيَّةُ الثَّمَنَيْنِ
(الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) وَالْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ
قَرْضٌ، لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهَا إِلاَّ بِاسْتِهْلاَكِ
عَيْنِهَا وَرَدِّ مِثْلِهَا. (2)
حُدُودُ الاِنْتِفَاعِ
الاِنْتِفَاعُ بِالشَّيْءِ لَهُ حُدُودٌ يَجِبُ عَلَى الْمُنْتَفِعِ
مُرَاعَاتُهَا وَإِلاَّ كَانَ ضَامِنًا. وَمِنَ الْحُدُودِ الْمُقَرَّرَةِ
الَّتِي بَحَثَهَا الْفُقَهَاءُ فِي الاِنْتِفَاعِ بِالشَّيْءِ مَا
يَأْتِي:
25 - أَوَّلاً: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الاِنْتِفَاعُ مُوَافِقًا لِلشُّرُوطِ
الشَّرْعِيَّةِ وَلاَ يَكُونَ عَلَى وَجْهٍ يُبْطِل حَقَّ الْغَيْرِ.
وَلِهَذَا اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي جَمِيعِ عُقُودِ الاِنْتِفَاعِ
(الإِْجَارَةِ وَالإِْعَارَةِ وَالْوَصِيَّةِ بِالْمَنْفَعَةِ) أَنْ
تَكُونَ الْعَيْنُ مُنْتَفَعًا بِهَا انْتِفَاعًا مُبَاحًا. كَمَا
اشْتَرَطُوا
__________
(1) فتح القدير 5 / 436، ونهاية المحتاج 5 / 385، والمغني 6 / 193، والفروق
للقرافي فرق (30) .
(2) الزيلعي 5 / 87، والمغني 5 / 359.
(6/305)
فِي الْوَقْفِ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَصْرِفٍ
مُبَاحٍ؛ لأَِنَّ الْمَنَافِعَ لاَ يُتَصَوَّرُ اسْتِحْقَاقُهَا
بِالْمَعَاصِي. (1)
كَذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ الاِنْتِفَاعَ بِالْمُبَاحِ إِنَّمَا يَجُوزُ
إِذَا لَمْ يَضُرَّ بِأَحَدٍ. وَالاِنْتِفَاعُ بِالْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ
مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ الإِْضْرَارِ بِالْغَيْرِ. وَالْجُلُوسُ عَلَى
الطُّرُقِ الْعَامَّةِ لِلاِسْتِرَاحَةِ أَوِ الْمُعَامَلَةِ
وَنَحْوِهِمَا، وَوَضْعُ الْمِظَلاَّتِ - إِنَّمَا يَجُوزُ إِذَا لَمْ
يُضَيِّقْ عَلَى الْمَارَّةِ. (2)
وَكَذَلِكَ الاِنْتِفَاعُ بِالْمُحَرَّمِ حَال الاِضْطِرَارِ مُقَيَّدٌ
بِقُيُودٍ. فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُضْطَرَّ يَجُوزُ
لَهُ الاِنْتِفَاعُ بِالْمُحَرَّمَاتِ بِمِقْدَارِ مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ
وَيَأْمَنُ مَعَهُ الْمَوْتَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ،
وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ يَأْكُل مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ
إِلَى حَدِّ الشِّبَعِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهَا؛ لأَِنَّ مَا جَازَ
سَدُّ الرَّمَقِ مِنْهُ جَازَ الشِّبَعُ مِنْهُ كَالْمُبَاحِ. بَل
الْمَالِكِيَّةُ جَوَّزُوا التَّزَوُّدَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ احْتِيَاطًا
خَشْيَةَ اسْتِمْرَارِ حَالَةِ الاِضْطِرَارِ، كَمَا تَدُل عَلَيْهِ
نُصُوصُهُمْ. (3)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ،
وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ
الاِنْتِفَاعُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ بِأَكْثَرَ مِمَّا يَدْفَعُ الْهَلاَكَ
وَيَسُدُّ الرَّمَقَ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُل إِلَى حَدِّ الشِّبَعِ،
وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّدَ؛ لأَِنَّ الضَّرُورَةَ تُقَدَّرُ
بِقَدْرِهَا. (4)
__________
(1) الزيلعي 5 / 125، ونهاية المحتاج 5 / 119، 267، 354، وبلغة السالك 3 /
572، والمغني 5 / 359، 6 / 129.
(2) ابن عابدين 5 / 282، ونهاية المحتاج 5 / 339.
(3) ابن عابدين 5 / 215، والشرح الصغير للدردير 2 / 183، والقليوبي 4 /
263، والمغني 11 / 73، والتاج والإكليل 3 / 233.
(4) ابن عابدين 5 / 7215 ونهاية المحتاج 8 / 152، والمغني 11 / 73.
(6/306)
26 - ثَانِيًا: يَلْزَمُ الْمُنْتَفِعَ
أَنْ يُرَاعِيَ حُدُودَ إِذْنِ الْمَالِكِ، إِذَا ثَبَتَ الاِنْتِفَاعُ
بِإِذْنٍ مِنْ مَالِكٍ خَاصٍّ، كَإِبَاحَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي
الضِّيَافَةِ، فَإِنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّ صَاحِبَهُ لاَ يَرْضَى
بِإِطْعَامِ الْغَيْرِ، فَلاَ يَحِل لَهُ أَنْ يُطْعِمَ غَيْرَهُ كَمَا
تَقَدَّمَ. وَكَذَلِكَ الإِْذْنُ بِسُكْنَى الدَّارِ وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ
لِلشَّخْصِ، فَإِنَّ الاِنْتِفَاعَ بِهَا مَحْدُودٌ بِشُرُوطِ الْمُبِيحِ.
(1)
27 - ثَالِثًا: يَلْزَمُ الْمُنْتَفِعَ التَّقَيُّدُ بِالْقُيُودِ
الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا فِي الْعَقْدِ، إِذَا كَانَ مُسَبِّبُ
الاِنْتِفَاعِ عَقْدًا. لأَِنَّ الأَْصْل مُرَاعَاةُ الشُّرُوطِ بِقَدْرِ
الإِْمْكَانِ. فَإِذَا حُدِّدَ الاِنْتِفَاعُ فِي الإِْجَارَةِ أَوِ
الْعَارِيَّةِ أَوِ الْوَصِيَّةِ بِوَقْتٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ مُعَيَّنَةٍ
فَلاَ يَتَجَاوَزُهَا مَا لَمْ تَكُنِ الشُّرُوطُ مُخَالِفَةً لِلشَّرْعِ.
(2)
28 - رَابِعًا: يَلْزَمُ الْمُنْتَفِعَ أَنْ لاَ يَتَجَاوَزَ الْحَدَّ
الْمُعْتَادَ إِذَا لَمْ يَكُنِ الاِنْتِفَاعُ مُقَيَّدًا بِقَيْدٍ أَوْ
شَرْطٍ؛ لأَِنَّ الْمُطْلَقَ يُقَيَّدُ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ،
وَالْمَعْرُوفُ عُرْفًا كَالْمَشْرُوطِ شَرْطًا كَمَا جَرَى عَلَى
أَلْسِنَةِ الْفُقَهَاءِ. فَلَوْ أَعَارَهُ وَأَطْلَقَ فَلِلْمُسْتَعِيرِ
الاِنْتِفَاعُ بِحَسَبِ الْعُرْفِ فِي كُل مَا هُوَ مُهَيَّأٌ لَهُ. وَمَا
هُوَ غَيْرُ مُهَيَّأٍ لَهُ يُعَيِّنُهُ الْعُرْفُ وَلَوْ قَال:
آجَرْتُكَهَا لِمَا شِئْتَ صَحَّ، وَيَفْعَل مَا يَشَاءُ لِرِضَاهُ بِهِ،
لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ
كَالْعَارِيَّةِ. (3)
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 344، والبجيرمي على الخطيب 3 / 391، والمغني 7 /
288.
(2) الزيلعي 5 / 86، ونهاية المحتاج 5 / 127، وبلغة السالك 3 / 575.
(3) البدائع 4 / 216، وانظر أيضا نهاية المحتاج 5 / 283، والمغني 5 / 359
(6/306)
أَحْكَامُ الاِنْتِفَاعِ الْخَاصَّةُ
الاِنْتِفَاعُ الْمُجَرَّدُ مِلْكٌ نَاقِصٌ، وَلَهُ أَحْكَامٌ وَآثَارٌ
خَاصَّةٌ تُمَيِّزُهُ عَنِ الْمِلْكِ التَّامِّ.
مِنْ هَذِهِ الأَْحْكَامِ مَا يَأْتِي:
أَوَّلاً: تَقْيِيدُ الاِنْتِفَاعِ بِالشُّرُوطِ:
29 - يَقْبَل حَقُّ الاِنْتِفَاعِ التَّقْيِيدَ وَالاِشْتِرَاطَ، لأَِنَّهُ
حَقٌّ نَاقِصٌ لَيْسَ لِصَاحِبِهِ إِلاَّ التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي
يُجِيزُهَا الْمَالِكُ، وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُعَيِّنُهُ صِفَةً
وَزَمَنًا وَمَكَانًا، وَإِلاَّ فَإِنَّ الاِنْتِفَاعَ مُوجِبٌ
لِلضَّمَانِ، فَإِذَا أَعَارَ إِنْسَانًا دَابَّةً عَلَى أَنْ يَرْكَبَهَا
الْمُسْتَعِيرُ بِنَفْسِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعِيرَهَا غَيْرَهُ،
وَإِذَا أَعَارَ ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَلْبَسَهُ بِنَفْسِهِ فَلَيْسَ لَهُ
أَنْ يُلْبِسَهُ غَيْرَهُ. وَكَذَلِكَ إِنْ قَيَّدَهَا بِوَقْتٍ أَوْ
مَنْفَعَةٍ أَوْ بِهِمَا فَلاَ يَتَجَاوَزُ إِلَى مَا سِوَى ذَلِكَ.
وَإِنْ أَطْلَقَ فَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِأَيِّ نَوْعٍ شَاءَ وَفِي أَيِّ
وَقْتٍ أَرَادَ، لأَِنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ فَلاَ
يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ إِلاَّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَذِنَ لَهُ مِنْ
تَقْيِيدٍ أَوْ إِطْلاَقٍ.
وَمَنِ اسْتَأْجَرَ دَارًا لِلسُّكْنَى إِلَى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ فَلَيْسَ
لَهُ أَنْ يَسْكُنَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ إِلاَّ بِأُجْرَةِ
الْمِثْل؛ لأَِنَّ الاِنْتِفَاعَ مُقَيَّدٌ بِقَيْدِ الزَّمَانِ فَيَجِبُ
اعْتِبَارُهُ. (1)
كَذَلِكَ لَوْ قَيَّدَ الْوَاقِفُ الاِنْتِفَاعَ بِالْوَقْفِ بِشُرُوطٍ
مُحَدَّدَةٍ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى شَرْطِ
الْوَاقِفِ لأَِنَّ الشُّرُوطَ الَّتِي يَذْكُرُهَا الْوَاقِفُونَ هِيَ
الَّتِي تُنَظِّمُ طَرِيقَ الاِنْتِفَاعِ بِهِ، وَهَذِهِ الشُّرُوطُ
مُعْتَبَرَةٌ مَا لَمْ
__________
(1) البدائع 6 / 216، والزيلعي 5 / 86، ونهاية المحتاج 5 / 127، 128،
والشرح الصغير 3 / 575، والمغني 5 / 359.
(6/307)
تُخَالِفِ الشَّرْعَ (1) .
هَذَا، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الاِنْتِفَاعَ بِالْمَأْجُورِ
وَالْمُسْتَعَارِ بِمِثْل الْمَشْرُوطِ أَوْ أَقَل مِنْهُ ضَرَرًا جَائِزٌ
لِحُصُول الرِّضَا وَلَوْ حُكْمًا. وَقَال بَعْضُهُمْ: إِنْ نَهَاهُ عَنْ
مِثْل الْمَشْرُوطِ أَوِ الأَْدْوَنِ مِنْهُ امْتَنَعَ (2) .
30 - وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّقْيِيدَ فِي
الاِنْتِفَاعِ لِشَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ مُعْتَبَرٌ فِيمَا يَكُونُ
التَّقْيِيدُ فِيهِ مُفِيدًا، وَذَلِكَ فِيمَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ
الْمُسْتَعْمِل كَرُكُوبِ الدَّابَّةِ وَلُبْسِ الثَّوْبِ. أَمَّا فِيمَا
لاَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْمُسْتَعْمِل كَسُكْنَى الدَّارِ مَثَلاً
فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ
اعْتِبَارِ الْقَيْدِ؛ لأَِنَّ النَّاسَ لاَ يَتَفَاوَتُونَ فِيهِ عَادَةً.
فَلَمْ يَكُنِ التَّقْيِيدُ بِسُكْنَاهُ مُفِيدًا، إِلاَّ إِذَا كَانَ
حَدَّادًا أَوْ قَصَّارًا أَوْ نَحْوَهُمَا مِمَّا يُوهِنُ عَلَيْهِ
الْبِنَاءُ (3) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اعْتِبَارِ الْقَيْدِ
مُطْلَقًا مَا لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ:
لَوْ شَرَطَ الْمُؤَجِّرُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ اسْتِيفَاءَ الْمَنْفَعَةِ
بِنَفْسِهِ فَسَدَ الْعَقْدُ، كَمَا لَوْ شَرَطَ عَلَى مُشْتَرٍ أَنْ لاَ
يَبِيعَ الْعَيْنَ لِلْغَيْرِ (4) .
ثَانِيًا: تَوْرِيثُ الاِنْتِفَاعِ:
31 - إِذَا كَانَ سَبَبُ الاِنْتِفَاعِ الإِْجَارَةَ أَوِ الْوَصِيَّةَ،
فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
__________
(1) فتح القدير 4 / 436، ونهاية المحتاج 5 / 373، والفروق للقرافي الفرق
(30) ، وكشاف القناع 4 / 265.
(2) البدائع 6 / 216، ونهاية المحتاج 5 / 128.
(3) ابن عابدين 5 / 22، والبدائع 6 / 216.
(4) المدونة 11 / 157، ونهاية المحتاج 5 / 303، والمغني 6 / 51.
(6/307)
وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ يَقْبَل
التَّوْرِيثَ. فَالإِْجَارَةُ لاَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الشَّخْصِ
الْمُسْتَأْجِرِ، وَيَقُومُ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي الاِنْتِفَاعِ بِهَا
إِلَى أَنْ تَنْتَهِيَ الْمُدَّةُ، أَوْ تُفْسَخَ الإِْجَارَةُ بِأَسْبَابٍ
أُخْرَى؛ لأَِنَّ الإِْجَارَةَ عَقْدٌ لاَزِمٌ، فَلاَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ
الْعَاقِدِ مَعَ سَلاَمَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. (1) إِلاَّ أَنَّ
الْحَنَابِلَةَ قَالُوا: إِنْ مَاتَ الْمُكْتَرِي، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
وَارِثٌ تَنْفَسِخُ الإِْجَارَةُ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ. (2)
وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ بِالْمَنْفَعَةِ لاَ تَنْتَهِي بِمَوْتِ الْمُوصَى
لَهُ، لأَِنَّهَا تَمْلِيكٌ وَلَيْسَتْ إِبَاحَةً لِلُزُومِهَا
بِالْقَبُول، فَيَجُوزُ لِوَرَثَتِهِ أَنْ يَنْتَفِعُوا بِهَا بِالْمُدَّةِ
الْبَاقِيَةِ، لأَِنَّهُ مَاتَ عَنْ حَقٍّ، فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ. (3)
32 - أَمَّا إِذَا كَانَ سَبَبُ الاِنْتِفَاعِ الْعَارِيَّةَ، فَقَدْ
صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِعَدَمِ تَوْرِيثِ
الاِنْتِفَاعِ بِهَا، لأَِنَّهَا عَقْدٌ غَيْرُ لاَزِمٍ، تَنْفَسِخُ
بِمَوْتِ الْعَاقِدَيْنِ. وَلأَِنَّ الْعَارِيَّةَ إِبَاحَةُ الاِنْتِفَاعِ
عِنْدَهُمْ، فَلاَ تَصْلُحُ أَنْ تَنْتَقِل إِلَى الْغَيْرِ حَتَّى فِي
حَيَاةِ الْمُسْتَعِيرِ. (4)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الاِنْتِفَاعَ لاَ يَقْبَل
التَّوْرِيثَ مُطْلَقًا. فَالْوَصِيَّةُ بِالْمَنْفَعَةِ تَبْطُل بِمَوْتِ
الْمُوصَى لَهُ، وَلَيْسَ لِوَرَثَتِهِ الاِنْتِفَاعُ بِهَا، كَمَا تَبْطُل
الْعَارِيَّةُ بِمَوْتِ الْمُسْتَعِيرِ، وَالإِْجَارَةُ بِمَوْتِ
الْمُسْتَأْجِرِ؛ لأَِنَّ الْمَنَافِعَ لاَ تَحْتَمِل الإِْرْثَ،
لأَِنَّهَا تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَاَلَّتِي
__________
(1) بلغة السالك 4 / 50، ونهاية المحتاج 5 / 314، والمغني 6 / 42.
(2) المغني 6 / 42.
(3) نهاية المحتاج 5 / 130، 131، وشرح الزرقاني 8 / 197، والمغني 5 / 354.
(4) نهاية المحتاج 6 / 83، وكشاف القناع 4 / 376.
(6/308)
تَحْدُثُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَيْسَتْ
مَوْجُودَةً حِينَ الْمَوْتِ، حَتَّى تَكُونَ تَرِكَةً عَلَى مِلْكِ
الْمُتَوَفَّى فَتُورَثَ. (1)
وَعَلَى ذَلِكَ يَعُودُ مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ بَعْدَ وَفَاةِ الْمُوصَى
لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ إِلَى الْمُوصَى لَهُ بِالرَّقَبَةِ، إِنْ كَانَ قَدْ
أَوْصَى بِالرَّقَبَةِ إِلَى آخَرَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَوْصَى بِهَا
عَادَ مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ إِلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي، كَمَا صَرَّحَ بِهِ
الْكَاسَانِيُّ (2) .
ثَالِثًا: نَفَقَاتُ الْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا:
33 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ فِي أَنَّ نَفَقَاتِ
الْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا تَكُونُ عَلَى صَاحِبِ الْعَيْنِ، إِذَا
كَانَ الاِنْتِفَاعُ بِمُقَابِلٍ، لاَ عَلَى مَنْ لَهُ الاِنْتِفَاعُ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَتَكْسِيَةُ الدَّارِ الْمُسْتَأْجَرَةِ وَإِصْلاَحُ
مَرَافِقِهَا وَمَا وَهَنَ مِنْ بِنَائِهَا عَلَى رَبِّ الدَّارِ
(الْمُؤَجِّرِ) . وَكَذَلِكَ عَلَفُ الدَّابَّةِ الْمُسْتَأْجَرَةِ
وَمَئُونَةُ رَدِّ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ عَلَى الآْجِرِ. (3) حَتَّى
إِنَّ الْحَنَابِلَةَ قَالُوا: إِنْ شَرَطَ الْمُكْرِي أَنَّ النَّفَقَةَ
الْوَاجِبَةَ عَلَيْهِ تَكُونُ عَلَى الْمُكْتَرِي فَالشَّرْطُ فَاسِدٌ.
وَإِذَا أَنْفَقَ الْمُكْتَرِي عَلَى ذَلِكَ احْتَسَبَ بِهِ عَلَى
الْمُكْرِي. (4)
لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَقُولُونَ: إِذَا أَصْلَحَ الْمُسْتَأْجِرُ
شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَحْتَسِبْ لَهُ بِمَا أَنْفَقَ، لأَِنَّهُ
أَصْلَحَ مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا. (5)
كَمَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ
__________
(1) البدائع 7 / 353، وابن عابدين 5 / 52، والزيلعي 5 / 144.
(2) البدائع 7 / 386.
(3) البدائع 4 / 208، 209، والاختيار 3 / 58، ونهاية المحتاج 5 / 295،
والشرح الكبير للدردير 4 / 54، وكشاف القناع 4 / 71.
(4) المغني 6 / 32.
(5) البدائع 4 / 208، 209.
(6/308)
وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ
يُجْبَرُ آجِرُ الدَّارِ عَلَى إِصْلاَحِهَا لِلْمُكْتَرِي، وَيُخَيَّرُ
السَّاكِنُ بَيْنَ الاِنْتِفَاعِ بِالسُّكْنَى، فَيَلْزَمُهُ الْكِرَاءُ
وَالْخُرُوجُ مِنْهَا. (1)
34 - أَمَّا إِذَا كَانَ الاِنْتِفَاعُ بِالْمَجَّانِ، كَمَا فِي
الْعَارِيَّةِ وَالْوَصِيَّةِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ
قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْعَارِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ فِي الْوَصِيَّةِ - إِلَى أَنَّ نَفَقَاتِ الْعَيْنِ
الْمُنْتَفَعِ بِهَا تَكُونُ عَلَى مَنْ لَهُ الاِنْتِفَاعُ. وَعَلَى
ذَلِكَ فَعَلَفُ الدَّابَّةِ وَنَفَقَاتُ الدَّارِ الْمُسْتَعَارَةِ عَلَى
الْمُسْتَعِيرِ، كَمَا أَنَّ نَفَقَةَ الدَّارِ الْمُوصَى بِمَنْفَعَتِهَا
عَلَى الْمُوصَى لَهُ، لأَِنَّهُمَا يَمْلِكَانِ الاِنْتِفَاعَ
بِالْمَجَّانِ، فَكَانَتِ النَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا، إِذِ الْغُرْمُ
بِالْغُنْمِ. وَلأَِنَّ صَاحِبَهَا فَعَل مَعْرُوفًا فَلاَ يَلِيقُ أَنْ
يُشَدَّدَ عَلَيْهِ. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ مَئُونَةَ الْمُسْتَعَارِ عَلَى الْمُعِيرِ
دُونَ الْمُسْتَعِيرِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْعَارِيَّةُ صَحِيحَةً أَمْ
فَاسِدَةً. فَإِنْ أَنْفَقَ الْمُسْتَعِيرُ لَمْ يَرْجِعْ إِلاَّ بِإِذْنِ
حَاكِمٍ أَوْ إِشْهَادِ بَيِّنَةٍ عَلَى الرُّجُوعِ عِنْدَ فَقْدِ
الْحَاكِمِ. (3)
كَذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ بِالاِنْتِفَاعِ، فَإِنَّ الْوَارِثَ أَوِ
الْمُوصَى لَهُ بِالرَّقَبَةِ هُوَ الَّذِي يَتَحَمَّل نَفَقَاتِ الْعَيْنِ
الْمُوصَى بِمَنْفَعَتِهَا، إِنْ أَوْصَى بِمَنْفَعَتِهَا مُدَّةً،
لأَِنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ لِلرَّقَبَةِ، وَكَذَلِكَ لِلْمَنْفَعَةِ فِيمَا
عَدَا تِلْكَ الْمُدَّةَ كَمَا عَلَّلَهُ الرَّمْلِيُّ (4) . وَهَذَا هُوَ
أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ
__________
(1) الشرح الكبير للدردير 4 / 54، والوجيز للغزالي 1 / 234.
(2) فتح القدير 5 / 434، والبدائع 4 / 221، 386، وبلغة السالك 3 / 576،
وكشاف القناع 4 / 375.
(3) نهاية المحتاج 5 / 124.
(4) نهاية المحتاج 6 / 86.
(6/309)
الْمَالِكِيَّةِ فِي الْعَارِيَّةِ، وَهُوَ
وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْوَصِيَّةِ. وَعَلَّلَهُ الْخَرَشِيُّ
بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ لَكَانَ كِرَاءً، وَرُبَّمَا
كَانَ عَلَفُ الدَّابَّةِ أَكْثَرَ مِنَ الْكِرَاءِ. (1)
رَابِعًا: ضَمَانُ الاِنْتِفَاعِ:
35 - الأَْصْل أَنَّ الاِنْتِفَاعَ الْمُبَاحَ وَالْمَأْذُونَ بِعَيْنٍ
مِنَ الأَْعْيَانِ لاَ يُوجِبُ الضَّمَانَ، وَعَلَى ذَلِكَ فَمَنِ
انْتَفَعَ بِالْمَأْجُورِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ، وَبِالصِّفَةِ
الَّتِي عُيِّنَتْ فِي الْعَقْدِ، أَوْ بِمِثْلِهَا، أَوْ دُونَهَا
ضَرَرًا، أَوْ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ فَتَلِفَ لاَ يُضْمَنُ؛
لأَِنَّ يَدَ الْمُكْتَرِي يَدُ أَمَانَةٍ مُدَّةَ الإِْجَارَةِ، وَكَذَا
بَعْدَهَا إِنْ لَمْ يَسْتَعْمِلْهَا اسْتِصْحَابًا لِمَا كَانَ. (2)
وَمَنِ اسْتَعَارَ عَيْنًا فَانْتَفَعَ بِهَا، وَهَلَكَتْ بِالاِسْتِعْمَال
الْمَأْذُونِ فِيهِ بِلاَ تَعَدٍّ لاَ يَضْمَنُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ. وَكَذَلِكَ إِذَا هَلَكَتْ بِدُونِ اسْتِعْمَالٍ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ ضَمَانَ الْعُدْوَانِ لاَ يَجِبُ إِلاَّ عَلَى
الْمُتَعَدِّي، وَمَعَ الإِْذْنِ بِالْقَبْضِ لاَ يُوصَفُ بِالتَّعَدِّي.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَضْمَنُ إِذَا هَلَكَتْ فِي غَيْرِ حَال
الاِسْتِعْمَال، لأَِنَّهُ قَبْضُ مَال الْغَيْرِ لِنَفْسِهِ لاَ عَنِ
اسْتِحْقَاقٍ، فَأَشْبَهَ الْغَصْبَ. (3)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الْعَارِيَّةُ الْمَقْبُوضَةُ مَضْمُونَةٌ
__________
(1) الخرشي 6 / 129، والمغني 6 / 79.
(2) الزيلعي 5 / 85، ونهاية المحتاج 5 / 305، وبلغة السالك 4 / 41، والمغني
6 / 117.
(3) الزيلعي 5 / 85، ونهاية المحتاج 5 / 125.
(6/309)
بِقِيمَتِهَا يَوْمَ التَّلَفِ بِكُل
حَالٍ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتَعَدَّى فِيهَا أَوْ يُفَرِّطَ فِيهَا
أَوْ لاَ. (1) أَمَّا إِذَا انْتَفَعَ بِهَا وَرَدَّهَا عَلَى صِفَتِهَا
فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ (يَحْتَمِل
الإِْخْفَاءَ) وَبَيْنَ مَا لاَ يُغَابُ عَلَيْهِ، فَقَالُوا: يَضْمَنُ
الْمُسْتَعِيرُ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ، كَالْحُلِيِّ وَالثِّيَابِ، إِنِ
ادَّعَى الضَّيَاعَ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ عَلَى ضَيَاعِهِ بِلاَ سَبَبٍ
مِنْهُ، كَذَلِكَ يَضْمَنُ بِانْتِفَاعِهِ بِهَا بِلاَ إِذْنِ رَبِّهَا
إِذَا تَلِفَتْ أَوْ تَعَيَّبَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ. أَمَّا فِيمَا لاَ
يُغَابُ عَلَيْهِ وَفِيمَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى تَلَفِهِ فَهُوَ
غَيْرُ مَضْمُونٍ. (2)
وَالاِنْتِفَاعُ بِالرَّهْنِ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ حُكْمُهُ حُكْمُ
الْعَارِيَّةِ، فَلَوْ هَلَكَ فِي حَالَةِ الاِسْتِعْمَال وَالْعَمَل لاَ
يَضْمَنُ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّ الاِنْتِفَاعَ
الْمَأْذُونَ لاَ يُوجِبُ الضَّمَانَ. وَإِذَا انْتَفَعَ بِهِ بِدُونِ
إِذْنِ الرَّاهِنِ يَضْمَنُ (3) مَعَ تَفْصِيلٍ سَبَقَ ذِكْرُهُ.
36 - وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الأَْصْل الاِنْتِفَاعُ بِمَال الْغَيْرِ
حَال الاِضْطِرَارِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا شَرْعًا، لَكِنَّهُ
يُوجِبُ الضَّمَانَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، عَمَلاً بِقَاعِدَةٍ فِقْهِيَّةٍ
أُخْرَى، هِيَ: أَنَّ الاِضْطِرَارَ لاَ يُبْطِل حَقَّ الْغَيْرِ (4) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ الضَّمَانِ عَمَلاً
__________
(1) كشاف القناع 4 / 70، والمغني 5 / 355 و 6 / 117.
(2) بلغة السالك 3 / 553، 574، وبداية المجتهد 2 / 284.
(3) ابن عابدين 5 / 336، ونهاية المحتاج 4 / 274، والمغني 4 / 289.
(4) ابن عابدين 5 / 215، ونهاية المحتاج 8 / 152، 153، والقليوبي 4 / 263،
والمغني 11 / 80.
(6/310)
بِالأَْصْل، وَهُوَ أَنَّ الاِنْتِفَاعَ
الْمُبَاحَ لاَ يُوجِبُ الضَّمَانَ. وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ
الْمُضْطَرِّ ثَمَنُ الطَّعَامِ لِيَشْتَرِيَهُ، لأَِنَّهُ لَمْ
يَتَعَلَّقْ بِذِمَّتِهِ كَمَا عَلَّل بِذَلِكَ الدَّرْدِيرُ (1) .
37 - أَمَّا الاِنْتِفَاعُ بِالْمَغْصُوبِ وَالْوَدِيعَةِ فَمُوجِبٌ
لِلضَّمَانِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ
فِيهِ، إِلاَّ مَا ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْوَدِيعَةِ مِنْ عَدَمِ
ضَمَانِ لُبْسِ الثَّوْبِ لِدَفْعِ الْعُفُونَةِ وَرُكُوبِ مَا لاَ
يَنْقَادُ لِلسَّقْيِ. (2)
كَذَلِكَ تُضْمَنُ مَنْفَعَةُ الدَّارِ بِالتَّفْوِيتِ وَالْفَوَاتِ،
بِأَنْ سَكَنَ الدَّارَ وَرَكِبَ الدَّابَّةَ، أَوْ لَمْ يَفْعَل ذَلِكَ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مَا تَدُل عَلَيْهِ نُصُوصُ
الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا:
لَوْ غَصَبَ الْعَيْنَ لاِسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، لاَ لِتَمَلُّكِ
الذَّاتِ، فَتَلِفَتِ الْعَيْنُ الْمُنْتَفَعُ بِهَا فَلاَ يَضْمَنُهَا
الْمُتَعَدِّي. فَمَنْ سَكَنَ دَارًا غَاصِبًا لِلسُّكْنَى، فَانْهَدَمَتْ
مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ فَلاَ يَضْمَنُ إِلاَّ قِيمَةَ السُّكْنَى. (3)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنَافِعَ الأَْعْيَانِ
الْمَنْقُولَةِ الْمَغْصُوبَةِ لَيْسَتْ بِمَضْمُونَةٍ. فَإِذَا غَصَبَ
دَابَّةً فَأَمْسَكَهَا أَيَّامًا وَلَمْ يَسْتَعْمِلْهَا، ثُمَّ رَدَّهَا
إِلَى يَدِ مَالِكِهَا لاَ يَضْمَنُ، لأَِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ تَفْوِيتُ
يَدِ الْمَالِكِ عَنِ الْمَنَافِعِ، لأَِنَّهَا أَعْرَاضٌ تَحْدُثُ شَيْئًا
فَشَيْئًا. فَالْمَنْفَعَةُ الْحَادِثَةُ عَلَى يَدِ الْغَاصِبِ لَمْ
تَكُنْ مَوْجُودَةً فِي يَدِ الْمَالِكِ، فَلَمْ يُوجَدْ تَفْوِيتُ يَدِ
الْمَالِكِ عَنْهَا. (4)
لَكِنْ إِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ مَال وَقْفٍ أَوْ مَال صَغِيرٍ أَوْ
__________
(1) بلغة السالك 2 / 185.
(2) القليوبي 3 / 32، 185، وجواهر الإكليل 2 / 140، 149، والمغني 5 / 376،
و7 / 280، وابن عابدين 5 / 116.
(3) القليوبي 3 / 33، وجواهر الإكليل 2 / 151، والمغني 5 / 415.
(4) البدائع 7 / 145.
(6/310)
كَانَ مُعَدًّا لِلاِسْتِغْلاَل يَلْزَمُهُ
ضَمَانُ الْمَنْفَعَةِ. وَيُرْجَعُ لِتَفْصِيلِهِ إِلَى مُصْطَلَحِ
(ضَمَان) .
خَامِسًا: تَسْلِيمُ الْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا:
38 - لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ يَلْزَمُ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ
بِهَا إِلَى مَنْ لَهُ الاِنْتِفَاعُ، إِذَا ثَبَتَ الاِنْتِفَاعُ
بِالْعَقْدِ اللاَّزِمِ وَبِعِوَضٍ، كَالإِْجَارَةِ. فَالْمُؤَجِّرُ
مُكَلَّفٌ بَعْدَ انْعِقَادِ الْعَقْدِ أَنْ يُسَلِّمَ الْمَأْجُورَ إِلَى
الْمُسْتَأْجِرِ، وَيُمَكِّنَهُ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِهِ عِنْدَ عَامَّةِ
الْفُقَهَاءِ. أَمَّا الاِنْتِفَاعُ بِالْعَقْدِ غَيْرِ اللاَّزِمِ فَلاَ
يُوجِبُ تَسْلِيمَ الْعَيْنِ لِلْمُنْتَفِعِ، كَالإِْعَارَةِ، فَلاَ
يَلْزَمُ الْمُعِيرُ أَنْ يُسَلِّمَ الْمُسْتَعَارَ إِلَى الْمُسْتَعِيرِ؛
لأَِنَّ التَّبَرُّعَ لاَ أَثَرَ لَهُ قَبْل الْقَبْضِ.
39 - أَمَّا رَدُّ الْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا إِلَى مَالِكِهَا، فَقَدْ
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الاِنْتِفَاعَ إِذَا كَانَ بِدُونِ عِوَضٍ
كَالْعَارِيَّةِ فَرَدُّ الْعَيْنِ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، مَتَى
طَلَبَ الْمُعِيرُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْعَارِيَّةَ مِنَ الْعُقُودِ غَيْرِ
اللاَّزِمَةِ، فَلِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَدُّهَا مَتَى شَاءَ، وَلَوْ
مُؤَقَّتَةً بِوَقْتٍ لَمْ يُنْقَضْ أَمَدُهُ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: الْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ، وَالْعَارِيَّةُ
مُؤَدَّاةٌ. (1) وَلأَِنَّ الإِْذْنَ هُوَ السَّبَبُ لإِِبَاحَةِ
الاِنْتِفَاعِ، وَقَدِ انْقَطَعَ بِالطَّلَبِ. وَلِهَذَا لَوْ كَانَتْ
مُؤَقَّتَةً، فَأَمْسَكَهَا بَعْدَ مُضِيِّ الْوَقْتِ، وَلَمْ يَرُدَّهَا
حَتَّى هَلَكَتْ ضَمِنَ. (2) وَلَكِنْ إِذَا أَعَارَ أَرْضًا لِزِرَاعَةٍ
__________
(1) حديث: " المنحة مردودة والعارية مؤداة ". أخرجه أبو داود في البيوع (3
/ 824 / 3565) ط الدعاس. وأخرجه أحمد (5 / 293) قال الهيثمي (4 / 145) :
ورجاله ثقات.
(2) الزيلعي 5 / 84، 89، ونهاية المحتاج 5 / 129، وكشاف القناع 4 / 73.
(6/311)
وَرَجَعَ قَبْل إِدْرَاكِ الزَّرْعِ
فَعَلَيْهِ الإِْبْقَاءُ إِلَى الْحَصَادِ، وَلَهُ الأُْجْرَةُ مِنْ وَقْتِ
وُجُوبِ إِرْجَاعِهَا إِلَى حَصَادِ الزَّرْعِ. كَمَا لَوْ أَعَارَهُ
دَابَّةً ثُمَّ رَجَعَ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، فَإِنَّ عَلَيْهِ نَقْل
مَتَاعِهِ إِلَى مَأْمَنٍ بِأَجْرِ الْمِثْل. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَزِمَتِ الْعَارِيَّةُ الْمُقَيَّدَةُ بِعَمَلٍ
أَوْ أَجَلٍ لاِنْقِضَائِهِ، فَلَيْسَ لِرَبِّهَا أَخْذُهَا قَبْلَهُ،
سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَعَارُ أَرْضًا لِزِرَاعَةٍ، أَوْ سُكْنَى، أَوْ
كَانَ حَيَوَانًا أَوْ كَانَ عَرَضًا. (2)
40 - أَمَّا إِذَا كَانَ الاِنْتِفَاعُ بِعِوَضٍ كَالإِْجَارَةِ، فَلاَ
يُكَلَّفُ الْمُسْتَأْجِرُ رَدَّ الْمَأْجُورِ بَعْدَ الاِنْقِضَاءِ،
وَلَيْسَ لِلآْجِرِ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمَأْجُورَ قَبْل اسْتِيفَاءِ
الْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودَةِ، وَلاَ قَبْل مُضِيِّ الْمُدَّةِ
الْمُقَرَّرَةِ. وَحُكْمُ بَقَاءِ الزَّرْعِ إِلَى الْحَصَادِ بَعْدَ
انْقِضَاءِ مُدَّةِ الإِْجَارَةِ كَحُكْمِ الْعَارِيَّةِ،
فَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُبْقِيَ الزَّرْعَ فِي الأَْرْضِ إِلَى
إِدْرَاكِهِ بِأُجْرَةِ الْمِثْل. لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَيَّدُوهُ
بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ تَأْخِيرُ الزِّرَاعَةِ بِسَبَبِ تَقْصِيرِ
الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُسْتَعِيرِ. (3)
أَمَّا مُؤْنَةُ رَدِّ الْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا، فَقَدِ اتَّفَقُوا
عَلَى أَنَّهَا فِي الإِْجَارَةِ عَلَى الْمُؤَجِّرِ؛ لأَِنَّ الْعَيْنَ
الْمُسْتَأْجَرَةَ مَقْبُوضَةٌ لِمَنْفَعَتِهِ بِأَخْذِ الأَْجْرِ، وَعَلَى
الْمُسْتَعِيرِ فِي الْعَارِيَّةِ لأَِنَّ الاِنْتِفَاعَ لَهُ، عَمَلاً
بِقَاعِدَةِ (الْغُرْمُ بِالْغُنْمِ) .
__________
(1) البدائع 6 / 217، ونهاية المحتاج 5 / 139، وكشاف القناع 4 / 73.
(2) البدائع 6 / 217، ونهاية المحتاج 5 / 139، وكشاف القناع 4 / 73.
(3) نهاية المحتاج 5 / 139.
(6/311)
إِنْهَاءُ الاِنْتِفَاعِ وَانْتِهَاؤُهُ
41 - إِنْهَاءُ الاِنْتِفَاعِ مَعْنَاهُ وَقْفُ آثَارِ الاِنْتِفَاعِ فِي
الْمُسْتَقْبَل بِإِرَادَةِ الْمُنْتَفِعِ أَوْ مَالِكِ الرَّقَبَةِ أَوِ
الْقَاضِي، وَعَبَّرَ عَنْهُ الْفُقَهَاءُ بِلَفْظِ (فَسْخٍ) .
وَانْتِهَاءُ الاِنْتِفَاعِ مَعْنَاهُ أَنْ تَتَوَقَّفَ آثَارُهُ بِدُونِ
إِرَادَةِ الْمُنْتَفِعِ أَوْ مَالِكِ الْعَيْنِ، وَعَبَّرَ عَنْهُ
الْفُقَهَاءُ بِلَفْظِ (انْفِسَاخٍ) .
أَوَّلاً: إِنْهَاءُ الاِنْتِفَاعِ:
يُنْهَى الاِنْتِفَاعُ فِي الْحَالاَتِ الآْتِيَةِ:
أ - الإِْرَادَةُ الْمُنْفَرِدَةُ:
42 - يُمْكِنُ إِنْهَاءُ الاِنْتِفَاعِ بِالإِْرَادَةِ الْمُنْفَرِدَةِ فِي
عُقُودِ التَّبَرُّعِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ قِبَل مَالِكِ الرَّقَبَةِ
أَوِ الْمُنْتَفِعِ نَفْسِهِ. فَكَمَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالاِنْتِفَاعِ
يُمْكِنُ إِنْهَاؤُهَا مِنْ قِبَل الْمُوصَى لَهُ فِي حَيَاتِهِ، يَصِحُّ
إِنْهَاؤُهَا مِنْ قِبَل الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي. وَكَمَا
أَنَّ الإِْعَارَةَ يُمْكِنُ إِنْهَاؤُهَا مِنْ قِبَل الْمُعِيرِ، فَلَهُ
أَنْ يَرْجِعَ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ، خِلاَفًا
لِلْمَالِكِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ. كَذَلِكَ يَسُوغُ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ
يَرُدَّهَا أَيَّ وَقْتٍ شَاءَ. لأَِنَّ الإِْعَارَةَ وَالْوَصِيَّةَ مِنَ
الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ كَالْوَكَالَةِ،
فَلِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَسْخُهَا مَتَى شَاءَ، وَلَوْ مُؤَقَّتَةً
بِوَقْتٍ لَمْ يَنْقَضِ أَمَدُهُ، إِلاَّ فِي صُوَرٍ مُسْتَثْنَاةٍ
لِدَفْعِ الضَّرَرِ. (1)
ب - حَقُّ الْخِيَارِ:
43 - يَصِحُّ إِنْهَاءُ الاِنْتِفَاعِ بِاسْتِعْمَال الْخِيَارِ فِي بَعْضِ
الْعُقُودِ كَالإِْجَارَةِ، فَإِنَّهَا تُفْسَخُ بِالْعَيْبِ، سَوَاءٌ
أَكَانَ
__________
(1) البدائع 6 / 216، والزيلعي 5 / 84، ونهاية المحتاج 5 / 129، والمغني 5
/ 364، 6 / 437.
(6/312)
الْعَيْبُ مُقَارِنًا لِلْعَقْدِ أَوْ
حَادِثًا بَعْدَهُ؛ لأَِنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الإِْجَارَةِ -
وَهِيَ الْمَنَافِعُ - يَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَمَا وُجِدَ مِنَ
الْعَيْبِ يَكُونُ حَادِثًا قَبْل الْقَبْضِ فِي حَقِّ مَا بَقِيَ مِنَ
الْمَنَافِعِ، فَيُوجَدُ الْخِيَارُ. (1)
كَذَلِكَ يُمْكِنُ إِنْهَاءُ الاِنْتِفَاعِ فِي الإِْجَارَةِ بِفَسْخِهَا
بِسَبَبِ خِيَارِ الشَّرْطِ، وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ عِنْدَ مَنْ يَقُول
بِهِ، لأَِنَّ الإِْجَارَةَ بَيْعُ الْمَنَافِعِ. فَكَمَا يَجُوزُ فَسْخُ
الْبَيْعِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ - كَذَلِكَ يَصِحُّ إِنْهَاءُ
الاِنْتِفَاعِ فِي الإِْجَارَةِ بِسَبَبِ هَذَيْنِ الْخِيَارَيْنِ. (2)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ.
44 - وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ إِنْهَاءُ
الاِنْتِفَاعِ فِي حَالَةِ تَعَذُّرِهِ، وَذَلِكَ فِي الْعُقُودِ
اللاَّزِمَةِ، كَالإِْجَارَةِ. أَمَّا الْعُقُودُ غَيْرُ اللاَّزِمَةِ
كَالإِْعَارَةِ فَإِنَّهَا قَابِلَةٌ لِلْفَسْخِ بِدُونِ التَّعَذُّرِ
كَمَا سَبَقَ.
وَالتَّعَذُّرُ أَعَمُّ مِنَ التَّلَفِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، فَيَشْمَل
الضَّيَاعَ وَالْمَرَضَ وَالْغَصْبَ وَغَلْقَ الْحَوَانِيتِ قَهْرًا. (3)
وَقَدْ تَوَسَّعَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِنْهَاءِ
الاِنْتِفَاعِ بِسَبَبِ الْعُذْرِ. وَعَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ:
عَجْزُ الْعَاقِدِ عَنِ الْمُضِيِّ بِمُوجِبِ الْعَقْدِ إِلاَّ بِتَحَمُّل
ضَرَرٍ زَائِدٍ، كَمَنِ اسْتَأْجَرَ حَانُوتًا يَتَّجِرُ فِيهِ فَأَفْلَسَ
(4) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ إِنْ تَعَذَّرَ الزَّرْعُ بِسَبَبِ
غَرَقِ الأَْرْضِ أَوِ انْقِطَاعِ مَائِهَا فَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارُ.
وَإِنْ قَل الْمَاءُ بِحَيْثُ لاَ يَكْفِي الزَّرْعَ فَلَهُ الْفَسْخُ.
وَكَذَلِكَ إِذَا انْقَطَعَ الْمَاءُ بِالْكُلِّيَّةِ، أَوْ حَدَثَ بِهَا
عَيْبٌ، أَوْ حَدَثَ
__________
(1) الزيلعي 5 / 143، ونهاية المحتاج 5 / 300، والمغني مع الشرح الكبير 6 /
27.
(2) الزيلعي 5 / 145، وابن عابدين 5 / 47.
(3) الشرح الصغير 4 / 49
(4) الزيلعي 5 / 145.
(6/312)
خَوْفٌ عَامٌّ يَمْنَعُ مِنْ سُكْنَى
الْمَكَانِ الَّذِي فِيهِ الْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ تَنْفَسِخُ الإِْجَارَةُ بِعُذْرٍ،
كَتَعَذُّرِ وَقُودِ الْحَمَّامِ أَوْ خَرَابِ مَا حَوْل الدَّارِ
وَالدُّكَّانِ. وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ وَافَقُوا الْجُمْهُورَ عَلَى جَوَازِ
إِنْهَاءِ الاِنْتِفَاعِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ حَيْثُ قَالُوا: إِذَا
انْقَطَعَ مَاءُ أَرْضٍ لِلزِّرَاعَةِ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارُ فِي
الْفَسْخِ، وَمَا يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْمَنْفَعَةِ شَرْعًا يُوجِبُ
الْفَسْخَ، كَمَا لَوْ سَكَنَ أَلَمُ السِّنِّ الْمُسْتَأْجَرِ عَلَى
قَلْعِهِ. (2)
ج - الإِْقَالَةُ:
45 - لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الاِنْتِفَاعَ يُمْكِنُ إِنْهَاؤُهُ بِسَبَبِ
الإِْقَالَةِ، وَهِيَ فَسْخُ الْعَقْدِ بِإِرَادَةِ الطَّرَفَيْنِ. وَهَذَا
إِذَا كَانَ الاِنْتِفَاعُ حَاصِلاً بِسَبَبِ عَقْدٍ لاَزِمٍ
كَالإِْجَارَةِ.
أَمَّا فِي غَيْرِ الْعَقْدِ، وَفِي الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ، فَلاَ
يَحْتَاجُ لِلإِْقَالَةِ، لأَِنَّهُ يُمْكِنُ بِالرُّجُوعِ عَنِ الإِْذْنِ
أَوِ الإِْرَادَةِ الْمُنْفَرِدَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ.
ثَانِيًا: انْتِهَاءُ الاِنْتِفَاعِ:
يَنْتَهِي الاِنْتِفَاعُ فِي الْحَالاَتِ الآْتِيَةِ:
أ - انْتِهَاءُ الْمُدَّةِ:
46 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الاِنْتِفَاعَ يَنْتَهِي
بِانْتِهَاءِ الْمُدَّةِ الْمُعَيَّنَةِ أَيًّا كَانَ سَبَبُهُ، فَإِذَا
أَبَاحَ شَخْصٌ لآِخَرَ الاِنْتِفَاعَ مِنْ أَمْلاَكِهِ الْخَاصَّةِ
لِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ يَنْتَهِي الاِنْتِفَاعُ بِانْتِهَاءِ تِلْكَ
الْمُدَّةِ. وَإِذَا آجَرَهُ أَوْ أَعَارَهُ دَابَّةً لِشَهْرٍ فَإِنَّ
الاِنْتِفَاعَ بِهَا يَنْتَهِي بِمُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ،
__________
(1) المغني 6 / 28 - 30.
(2) نهاية المحتاج 5 / 318، والوجيز 1 / 239.
(6/313)
وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا
بَعْدَهَا، وَإِلاَّ يَكُونُ غَاصِبًا كَمَا تَقَدَّمَ. (1)
ب - هَلاَكُ الْمَحَل أَوْ غَصْبُهُ:
47 - يَنْتَهِي الاِنْتِفَاعُ بِهَلاَكِ الْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا
عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. فَتَنْفَسِخُ الإِْجَارَةُ وَالإِْعَارَةُ
وَالْوَصِيَّةُ بِهَلاَكِ الدَّابَّةِ الْمُسْتَأْجَرَةِ، وَبِتَلَفِ
الْعَيْنِ الْمُسْتَعَارَةِ، وَبِانْهِدَامِ الدَّارِ الْمُوصَى
بِمَنْفَعَتِهَا. (2)
أَمَّا غَصْبُ الْمَحَل فَمُوجِبٌ لِفَسْخِ الْعَقْدِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ
(الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ
الْحَنَفِيَّةِ) لاَ لِلاِنْفِسَاخِ. (3)
وَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْغَصْبَ أَيْضًا مُوجِبٌ
لِلاِنْفِسَاخِ، لِزَوَال التَّمَكُّنِ مِنَ الاِنْتِفَاعِ. (4)
ج - وَفَاةُ الْمُنْتَفِعِ:
سَبَقَ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَلَى تَوْرِيثِ الاِنْتِفَاعِ مَا يَتَّصِل
بِهَذَا السَّبَبِ. انْظُرْ فِقْرَةَ (30) .
د - زَوَال الْوَصْفِ الْمُبِيحِ:
48 - يَنْتَهِي الاِنْتِفَاعُ كَذَلِكَ بِزَوَال الْوَصْفِ الْمُبِيحِ
كَمَا فِي حَالَةِ الاِضْطِرَارِ، حَيْثُ قَالُوا: إِذَا زَالَتْ حَالَةُ
الاِضْطِرَارِ زَال حِل الاِنْتِفَاعِ. (5)
__________
(1) الزيلعي 5 / 114، والبدائع 6 / 217، ونهاية المحتاج 5 / 139، والخرشي 6
/ 127، والمغني 5 / 365.
(2) نهاية المحتاج 5 / 300، وابن عابدين 5 / 8، والشرح الصغير 4 / 49،
والمغني 6 / 25.
(3) ابن عابدين 5 / 8، ونهاية المحتاج 5 / 318، والشرح الصغير 4 / 51،
والمغني 6 / 28 - 30.
(4) الزيلعي 5 / 108.
(5) الوجيز للغزالي 1 / 239، والزيلعي 5 / 145، والمغني 6 / 29، وانظر
القاعدة (23) في مجلة الأحكام العدلية.
(6/313)
انْتِقَالٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِنْتِقَال فِي اللُّغَةِ: التَّحَوُّل مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى آخَرَ.
(1) وَيُسْتَعْمَل مَجَازًا فِي التَّحَوُّل الْمَعْنَوِيِّ، فَيُقَال:
انْتَقَلَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ عِدَّةِ الطَّلاَقِ إِلَى عِدَّةِ
الْوَفَاةِ.
وَيُطْلَقُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَلَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ كَمَا
سَيَأْتِي.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - الزَّوَال:
الزَّوَال فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى: التَّنَحِّي، وَمَعْنَى الْعَدَمِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الاِنْتِقَال وَالزَّوَال: أَنَّ الزَّوَال يَعْنِي
الْعَدَمَ فِي بَعْضِ الأَْحْيَانِ، وَالاِنْتِقَال لاَ يَعْنِي ذَلِكَ.
وَأَيْضًا: أَنَّ الاِنْتِقَال يَكُونُ فِي الْجِهَاتِ كُلِّهَا، أَمَّا
الزَّوَال فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْجِهَاتِ دُونَ بَعْضٍ، أَلاَ
تَرَى أَنَّهُ لاَ يُقَال: زَال مِنْ سُفْلٍ إِلَى عُلْوٍ. وَيُقَال:
انْتَقَل مِنْ سُفْلٍ إِلَى عُلْوٍ، وَثَمَّةَ فَرْقٌ ثَالِثٌ هُوَ أَنَّ
الزَّوَال لاَ يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ اسْتِقْرَارٍ وَثَبَاتٍ صَحِيحٍ أَوْ
مُقَدَّرٍ، تَقُول: زَال مِلْكُ فُلاَنٍ، وَلاَ تَقُول ذَلِكَ إِلاَّ
بَعْدَ ثَبَاتِ الْمِلْكِ لَهُ، وَتَقُول: زَالَتِ الشَّمْسُ، وَهَذَا
وَقْتُ الزَّوَال، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ
__________
(1) تاج العروس مادة: (نقل) .
(6/314)
يُقَدِّرُونَ أَنَّ الشَّمْسَ تَسْتَقِرُّ
فِي كَبِدِ السَّمَاءِ ثُمَّ تَزُول، وَذَلِكَ لِمَا يُظَنُّ مِنْ بُطْءِ
حَرَكَتِهَا. وَلَيْسَ كَذَلِكَ الاِنْتِقَال. (1) فَعَلَى هَذَا يَكُونُ
الاِنْتِقَال أَتَمَّ مِنَ الزَّوَال.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
قَدْ يَكُونُ الاِنْتِقَال وَاجِبًا، وَقَدْ يَكُونُ جَائِزًا.
أ - الاِنْتِقَال الْوَاجِبُ:
3 - إِذَا تَعَذَّرَ الأَْصْل وَجَبَ الاِنْتِقَال إِلَى الْبَدَل، (2)
وَالْمُتَتَبِّعُ لأَِحْكَامِ الْفِقْهِ يَجِدُ كَثِيرًا مِنَ
التَّطْبِيقَاتِ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ، مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا هَلَكَ
الْمَغْصُوبُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ وَجَبَ مِثْلُهُ أَوْ قِيمَتُهُ. (3)
وَأَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنِ الْوُضُوءِ لِفَقْدِ الْمَاءِ وَجَبَ عَلَيْهِ
الاِنْتِقَال إِلَى التَّيَمُّمِ، وَمَنْ عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ فِي
الصَّلاَةِ انْتَقَل إِلَى الْقُعُودِ، وَمَنْ عَجَزَ عَنِ الصِّيَامِ
لِشَيْخُوخَةٍ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَمَنْ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ
صَلاَةِ الْجُمُعَةِ لِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ صَلاَةُ
الظُّهْرِ، وَمَنْ أَتْلَفَ لآِخَرَ شَيْئًا لاَ مِثْل لَهُ وَجَبَتْ
عَلَيْهِ قِيمَتُهُ، وَإِذَا لَمْ يَجِدِ الْمُصَدِّقُ - جَابِي
الصَّدَقَةِ - السِّنَّ الْمَطْلُوبَةَ مِنَ الإِْبِل أَخَذَ سِنًّا
أَعْلَى مِنْهَا وَدَفَعَ الْفَرْقَ، أَوْ أَخَذَ سِنًّا أَدْنَى مِنْهَا
وَأَخَذَ الْفَرْقَ، وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى خَمْرٍ وَجَبَ
الاِنْتِقَال إِلَى مَهْرِ الْمِثْل. (4) وَمَنْ عَجَزَ عَنْ خِصَال
كَفَّارَةِ الْيَمِينِ انْتَقَل إِلَى الْبَدَل وَهُوَ الصِّيَامُ، (5)
__________
(1) الفروق في اللغة ص 139، 140.
(2) انظر مجلة الأحكام العدلية - المادة 53.
(3) حاشية قليوبي 2 / 8.
(4) الاختيار 3 / 104.
(5) حاشية قليوبي 2 / 290.
(6/314)
وَهَكَذَا كُل كَفَّارَةٍ لَهَا بَدَلٌ،
يُصَارُ إِلَى الْبَدَل عِنْدَ تَعَذُّرِ الأَْصْل (1) .
ب - الاِنْتِقَال الْجَائِزُ:
4 - الاِنْتِقَال الْجَائِزُ قَدْ يَكُونُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، وَقَدْ
يَكُونُ بِاتِّفَاقِ الطَّرَفَيْنِ، وَيَجُوزُ الاِنْتِقَال مِنَ الأَْصْل
إِلَى الْبَدَل إِذَا كَانَ فِي الْبَدَل مَصْلَحَةٌ ظَاهِرَةٌ شَرْعًا،
فَيَجُوزُ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ دَفْعُ بَدَل
الْوَاجِبِ فِي الزَّكَاةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَزَكَاةِ الْفِطْرِ،
وَالنَّذْرِ، وَالْكَفَّارَةِ، وَالْعُشْرِ، وَالْخَرَاجِ (2) .
كَمَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِ الْعَلاَقَةِ الاِنْتِقَال مِنَ
الْوَاجِبِ إِلَى الْبَدَل فِي دَيْنِ الْقَرْضِ، وَبَدَل الْمُتْلَفَاتِ
مَثَلاً وَقِيمَتِهِ، وَثَمَنِ الْمَبِيعِ، وَالأُْجْرَةِ، وَالصَّدَاقِ،
وَعِوَضِ الْخُلْعِ، وَبَدَل الدَّمِ، وَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي دَيْنِ
السَّلَمِ. (3)
أَنْوَاعُ الاِنْتِقَال:
يَتَنَوَّعُ الاِنْتِقَال إِلَى الأَْنْوَاعِ الآْتِيَةِ:
أ - الاِنْتِقَال الْحِسِّيُّ:
5 - إِذَا انْتَقَلَتِ الْحَاضِنَةُ مِنْ بَلَدِ الْوَلِيِّ إِلَى آخَرَ
لِلاِسْتِيطَانِ سَقَطَ حَقُّهَا فِي الْحَضَانَةِ.
وَيَنْتَقِل الْقَاضِي أَوْ نَائِبُهُ أَوْ مَنْ يَنْدُبُهُ إِلَى
الْمُخَدَّرَةِ (وَهِيَ مَنْ لاَ تَخْرُجُ فِي الْعَادَةِ لِقَضَاءِ
حَاجَتِهَا) وَالْعَاجِزَةِ لِسَمَاعِ شَهَادَتِهَا، وَلاَ تُكَلَّفُ هِيَ
بِالْحُضُورِ
__________
(1) انظر كثيرا في التطبيقات على ذلك في مجلة الأحكام العدلية - المواد:
298، 308، 309، 777، 891، 912 وغيرها.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 22.
(3) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 331 طبعة مصطفى الحلبي 1378 هـ 1959 م.
(6/315)
إِلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي لأَِدَاءِ
الشَّهَادَةِ.
وَلاَ تَنْتَقِل الْمُعْتَدَّةُ رَجْعِيًّا مِنْ بَيْعِهَا إِلاَّ
لِضَرُورَةٍ اقْتَضَتْ ذَلِكَ
ب - انْتِقَال الدَّيْنِ:
6 - يَنْتَقِل الدَّيْنُ الثَّابِتُ فِي الذِّمَّةِ إِلَى ذِمَّةِ شَخْصٍ
آخَرَ بِالْحَوَالَةِ.
ج - انْتِقَال النِّيَّةِ:
7 - انْتِقَال النِّيَّةِ أَثْنَاءَ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ
الْمَحْضَةِ يُفْسِدُ تِلْكَ الْعِبَادَةَ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ تَفْسُدُ إِلاَّ إِذَا رَافَقَهَا شُرُوعٌ فِي
غَيْرِهَا، فَفِي الصَّلاَةِ مَثَلاً؛ إِذَا انْتَقَل وَهُوَ فِي
الصَّلاَةِ مِنْ نِيَّةِ الْفَرْضِ الَّذِي نَوَاهُ إِلَى نِيَّةِ فَرْضٍ
آخَرَ، أَوْ إِلَى نَفْلٍ، فَسَدَتْ صَلاَتُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ،
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ تَفْسُدُ إِلاَّ إِذَا كَبَّرَ لِلصَّلاَةِ
الأُْخْرَى. وَإِذَا فَسَدَتْ صَلاَتُهُ، فَهَل تَصِحُّ الصَّلاَةُ
الْجَدِيدَةُ الَّتِي انْتَقَل إِلَيْهَا؟
قَال الْجُمْهُورُ: لاَ تَصِحُّ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: تَصِحُّ
مُسْتَأْنَفَةً مِنْ حِينِ التَّكْبِيرِ، وَقَال بَعْضُهُمْ: إِنْ نَقَل
نِيَّةَ الْفَرْضِ إِلَى النَّفْل صَحَّ النَّفَل، وَقَال آخَرُونَ: لاَ
تَصِحُّ. (1)
وَمِنْ صُوَرِ انْتِقَال النِّيَّةِ أَيْضًا نِيَّةُ الْمُقْتَدِي
الاِنْفِصَال عَنِ الإِْمَامِ، وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ بَعْضُ الأَْئِمَّةِ
وَمَنَعَهُ آخَرُونَ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (اقْتِدَاء) .
__________
(1) انظر المغني 1 / 466، 468، وابن عابدين 1 / 419، وأسنى المطالب 1 /
143، ومواهب الجليل 1 / 515.
(6/315)
د - انْتِقَال الْحُقُوقِ:
الْحُقُوقُ مِنْ حَيْثُ قَابِلِيَّتُهَا لِلاِنْتِقَال عَلَى نَوْعَيْنِ:
حُقُوقٍ تَقْبَل الاِنْتِقَال، وَحُقُوقٍ لاَ تَقْبَل الاِنْتِقَال.
(1) الْحُقُوقُ الَّتِي لاَ تَقْبَل الاِنْتِقَال:
8 - أَوَّلاً: الْحُقُوقُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِشَخْصِ الإِْنْسَانِ،
وَتَتَعَلَّقُ بِإِرَادَتِهِ، وَهِيَ حُقُوقٌ غَيْرُ مَالِيَّةٍ فِي
الْغَالِبِ كَاللِّعَانِ، وَالْفَيْءِ بَعْدَ الإِْيلاَءِ، وَالْعَوْدِ فِي
الظِّهَارِ، وَالاِخْتِيَارِ بَيْنَ النِّسْوَةِ اللاَّتِي أَسْلَمَ
عَلَيْهِنَّ إِذَا كُنَّ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ، وَاخْتِيَارِ إِحْدَى
زَوْجَتَيْهِ الأُْخْتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَسْلَمَ عَلَيْهِنَّ، وَحَقِّ
الزَّوْجَةِ فِي الطَّلاَقِ بِسَبَبِ الضَّرَرِ وَنَحْوِهِ، وَحَقِّ
الْوَلِيِّ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ لِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ، وَمَا فُوِّضَ
إِلَيْهِ مِنَ الْوِلاَيَاتِ وَالْمَنَاصِبِ كَالْقَضَاءِ وَالتَّدْرِيسِ
وَالأَْمَانَاتِ وَالْوَكَالاَتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَقَدْ تَكُونُ حُقُوقًا مَالِيَّةً، كَحَقِّ الْفَسْخِ بِخِيَارِ
الشَّرْطِ، وَحَقِّ الرُّجُوعِ بِالْهِبَةِ، وَحَقِّ الْخِيَارِ فِي قَبُول
الْوَصِيَّةِ، إِذْ لاَ تَنْتَقِل هَذِهِ الْحُقُوقُ إِلَى الْوَرَثَةِ
بِالْمَوْتِ. عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ يُعْرَفُ فِي أَبْوَابِهَا
9 - ثَانِيًا: حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى الْبَدَنِيَّةُ الْخَالِصَةُ
الْمَفْرُوضَةُ فَرْضًا عَيْنِيًّا، كَالصَّلاَةِ، وَالصِّيَامِ،
وَالْحُدُودِ إِلاَّ الْقَذْفَ لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ.
(2) الْحُقُوقُ الَّتِي تَقْبَل الاِنْتِقَال:
10 - قَال الْقَرَافِيُّ: مِنَ الْحُقُوقِ مَا يَنْتَقِل إِلَى الْوَارِثِ،
وَمِنْهَا مَا لاَ يَنْتَقِل، فَمِنْ حَقِّ الإِْنْسَانِ أَنْ يُلاَعِنَ
عِنْدَ سَبَبِ اللِّعَانِ، وَأَنْ يَفِيءَ بَعْدَ الإِْيلاَءِ، وَأَنْ
يَعُودَ بَعْدَ الظِّهَارِ، وَأَنْ يَخْتَارَ مِنْ نِسْوَةٍ إِذَا أَسْلَمَ
(6/316)
عَلَيْهِنَّ، وَهُنَّ أَكْثَرُ مِنْ
أَرْبَعٍ، وَأَنْ يَخْتَارَ إِحْدَى الأُْخْتَيْنِ إِذَا أَسْلَمَ
عَلَيْهِنَّ، وَإِذَا حَمَل الْمُتَبَايِعَانِ لَهُ الْخِيَارَ فَمِنْ
حَقِّهِ أَنْ يَمْلِكَ إِمْضَاءَ الْبَيْعِ عَلَيْهِمَا وَفَسْخَهُ، وَمِنْ
حَقِّهِ مَا فُوِّضَ إِلَيْهِ مِنَ الْوِلاَيَاتِ وَالْمَنَاصِبِ،
كَالْقِصَاصِ وَالإِْمَامَةِ وَالْخَطَابَةِ وَغَيْرِهِمَا،
وَكَالأَْمَانَةِ وَالْوَكَالَةِ، فَجَمِيعُ هَذِهِ الْحُقُوقِ لاَ
يَنْتَقِل لِلْوَارِثِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَتْ ثَابِتَةً
لِلْمُورَثِ. بَل الضَّابِطُ لِمَا يَنْتَقِل إِلَيْهِ مَا كَانَ
مُتَعَلِّقًا بِالْمَال، أَوْ يَدْفَعُ ضَرَرًا عَنِ الْوَارِثِ فِي
عِرْضِهِ بِتَخْفِيفِ أَلَمِهِ. وَمَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِنَفْسِ
الْمُورَثِ وَعَقْلِهِ وَشَهَوَاتِهِ لاَ يَنْتَقِل لِلْوَارِثِ.
وَالسِّرُّ فِي الْفَرْقِ أَنَّ الْوَرَثَةَ يَرِثُونَ الْمَال فَيَرِثُونَ
مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَبَعًا لَهُ، وَلاَ يَرِثُونَ عَقْلَهُ وَلاَ
شَهْوَتَهُ وَلاَ نَفْسَهُ، فَلاَ يَرِثُونَ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ،
وَمَا لاَ يُورَثُ لاَ يَرِثُونَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، فَاللِّعَانُ
يَرْجِعُ إِلَى أَمْرٍ يَعْتَقِدُهُ لاَ يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ
غَالِبًا، وَالاِعْتِقَادَاتُ لَيْسَتْ مِنْ بَابِ الْمَال، وَالْفَيْئَةُ
شَهْوَتُهُ، وَالْعَوْدُ إِرَادَتُهُ، وَاخْتِيَارُ الأُْخْتَيْنِ
وَالنِّسْوَةِ إِرْبُهُ وَمَيْلُهُ، وَقَضَاؤُهُ عَلَى الْمُتَبَايِعَيْنِ
عَقْلُهُ وَفِكْرَتُهُ وَرَأْيُهُ وَمَنَاصِبُهُ وَوِلاَيَاتُهُ وَآرَاؤُهُ
وَاجْتِهَادَاتُهُ وَأَفْعَالُهُ الدِّينِيَّةُ فَهُوَ دِينُهُ، وَلاَ
يَنْتَقِل شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِلْوَارِثِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَرِثْ
مُسْتَنَدَهُ وَأَصْلَهُ.
وَانْتَقَل لِلْوَارِثِ خِيَارُ الشَّرْطِ فِي الْبَيْعَاتِ، وَقَالَهُ
الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ
وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لاَ يَنْتَقِل إِلَيْهِ. وَيَنْتَقِل
لِلْوَارِثِ خِيَارُ الشُّفْعَةِ عِنْدَنَا (عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ)
وَخِيَارُ التَّعْيِينِ إِذَا اشْتَرَى مَوْرُوثُهُ عَبْدًا مِنْ
عَبْدَيْنِ عَلَى أَنْ يَخْتَارَ، وَخِيَارُ الْوَصِيَّةِ إِذَا مَاتَ
الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَخِيَارُ الإِْقَالَةِ
وَالْقَبُول إِذَا أَوْجَبَ الْبَيْعَ لِزَيْدٍ فَلِوَارِثِهِ الْقَبُول
وَالرَّدُّ. وَقَال ابْنُ الْمَوَّازِ: إِذَا قَال: مَنْ جَاءَنِي
(6/316)
بِعَشَرَةٍ فَغُلاَمِي لَهُ، فَمَتَى جَاءَ
أَحَدٌ بِذَلِكَ إِلَى شَهْرَيْنِ لَزِمَهُ، وَخِيَارُ الْهِبَةِ وَفِيهِ
خِلاَفٌ، وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ خِيَارَ الشُّفْعَةِ، وَسَلَّمَ خِيَارَ
الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَخِيَارَ تَعَدُّدِ الصَّفْقَةِ، وَحَقَّ
الْقِصَاصِ، وَحَقَّ الرَّهْنِ، وَحَبْسِ الْمَبِيعِ، وَخِيَارَ مَا وُجِدَ
مِنْ أَمْوَال الْمُسْلِمِينَ فِي الْغَنِيمَةِ فَمَاتَ رَبُّهُ قَبْل أَنْ
يَخْتَارَهُ أَخَذَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، وَوَافَقْنَاهُ نَحْنُ عَلَى
خِيَارِ الْهِبَةِ فِي الأَْبِ لِلاِبْنِ بِالاِعْتِصَارِ، وَخِيَارُ
الْعِتْقِ وَاللِّعَانِ وَالْكِتَابَةِ وَالطَّلاَقِ، بِأَنْ يَقُول:
طَلَّقْتَ امْرَأَتِي مَتَى شِئْتَ، فَيَمُوتُ الْمَقُول لَهُ، وَسَلَّمَ
الشَّافِعِيُّ جَمِيعَ مَا سَلَّمْنَاهُ، وَسَلَّمَ خِيَارَ الإِْقَالَةِ
وَالْقَبُول. (1)
هـ - انْتِقَال الأَْحْكَامِ:
11 - أَوَّلاً: إِذَا طَلَّقَ الرَّجُل زَوْجَتَهُ غَيْرَ الْحَامِل، ثُمَّ
مَاتَ عَنْهَا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَإِنَّهَا تَنْتَقِل مِنْ عِدَّةِ
الطَّلاَقِ إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ فِي الْجُمْلَةِ. (2)
وَإِذَا طَلَّقَهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ لاَ تَحِيضُ، فَابْتَدَأَتْ
عِدَّتُهَا بِالأَْشْهُرِ ثُمَّ حَاضَتِ، انْتَقَلَتْ عِدَّتُهَا إِلَى
الْحَيْضِ.
12 - ثَانِيًا: حَجْبُ النُّقْصَانِ يَنْتَقِل فِيهِ الْوَارِثُ مِنْ
فَرْضٍ إِلَى فَرْضٍ أَقَل، فَالزَّوْجُ - مَثَلاً - يَنْتَقِل فَرْضُهُ
مِنَ النِّصْفِ إِلَى الرُّبُعِ، عِنْدَ وُجُودِ الْفَرْعِ الْوَارِثِ.
__________
(1) الفروق للقرافي 3 / 276 - 278.
(2) حاشية قليوبي 4 / 49، والمغني مع الشرح الكبير 9 / 110.
(6/317)
انْتِهَابٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِنْتِهَابُ فِي اللُّغَةِ: مِنْ نَهَبَ نَهْبًا؛ إِذَا أَخَذَ
الشَّيْءَ بِالْغَارَةِ وَالسَّلْبِ. وَالنُّهْبَةُ، وَالنُّهْبَى: اسْمٌ
لِلاِنْتِهَابِ، وَاسْمٌ لِلْمَنْهُوبِ. (1) وَيُعَرِّفُ الْفُقَهَاءُ
الاِنْتِهَابَ بِقَوْلِهِمْ: أَخْذُ الشَّيْءِ قَهْرًا، (2) أَيْ
مُغَالَبَةً.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِخْتِلاَسُ:
2 - يَفْتَرِقُ الاِنْتِهَابُ عَنِ الاِخْتِلاَسِ، إِذِ الاِعْتِمَادُ فِي
الاِخْتِلاَسِ عَلَى سُرْعَةِ الأَْخْذِ، بِخِلاَفِ الاِنْتِهَابِ، فَإِنَّ
ذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِيهِ. (3) وَأَيْضًا فَإِنَّ الاِخْتِلاَسَ
يَسْتَخْفِي فِيهِ الْمُخْتَلِسُ فِي ابْتِدَاءِ اخْتِلاَسِهِ،
وَالاِنْتِهَابُ لاَ يَكُونُ فِيهِ اسْتِخْفَاءٌ فِي أَوَّلِهِ وَلاَ
آخِرِهِ (4) .
ب - الْغَصْبُ:
3 - يَفْتَرِقُ الاِنْتِهَابُ عَنِ الْغَصْبِ: فِي أَنَّ الْغَصْبَ
__________
(1) تاج العروس، ولسان العرب، والنهاية في غريب الحديث مادة: " نهب ".
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 199 طبعة بولاق الأولى.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 199.
(4) المغني لابن قدامة 8 / 240 طبعة المنار الثالثة.
(6/317)
لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي أَخْذِ مَمْنُوعٍ
أَخْذُهُ، وَالاِنْتِهَابُ قَدْ يَكُونُ فِي مَمْنُوعٍ أَخْذُهُ، وَفِيمَا
أُبِيحَ أَخْذُهُ.
ج - الْغُلُول:
4 - الْغُلُول: الأَْخْذُ مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْل الْقِسْمَةِ، وَلَيْسَ
مِنَ الْغُلُول أَخْذُ الْغُزَاةِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ طَعَامٍ
وَنَحْوِهِ، أَوِ الاِنْتِفَاعُ بِالسِّلاَحِ مَعَ إِعَادَتِهِ عِنْدَ
الاِسْتِغْنَاءِ عَنْهُ، فَهَذَا مِنَ الاِنْتِهَابِ الْمَأْذُونِ بِهِ
مِنَ الشَّرْعِ، وَكَذَلِكَ أَخْذُ السَّلْبِ بِشُرُوطِهِ، ر: (غُلُول،
سَلْب، غَنَائِم) .
أَنْوَاعُ الاِنْتِهَابِ:
5 - الاِنْتِهَابُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَنْوَاعٍ:
أ - نَوْعٌ لاَ تَسْبِقُهُ إِبَاحَةٌ مِنَ الْمَالِكِ.
ب - نَوْعٌ تَسْبِقُهُ إِبَاحَةٌ مِنَ الْمَالِكِ، كَانْتِهَابِ النِّثَارِ
الَّذِي يُنْثَرُ عَلَى رَأْسِ الْعَرُوسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ
نَاثِرَهُ - الْمَالِكَ - أَبَاحَ لِلنَّاسِ انْتِهَابَهُ.
ج - نَوْعٌ أَبَاحَهُ الْمَالِكُ لِيُؤْكَل عَلَى وَجْهِ مَا يُؤْكَل بِهِ،
فَانْتَهَبَهُ النَّاسُ، كَانْتِهَابِ الْمَدْعُوِّينَ طَعَامَ
الْوَلِيمَةِ.
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ النَّوْعِ الأَْوَّل مِنَ
الاِنْتِهَابِ - وَهُوَ انْتِهَابُ مَا لَمْ يُبِحْهُ مَالِكُهُ -
لأَِنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْغَصْبِ الْمُحَرَّمِ بِالإِْجْمَاعِ. وَيَجِبُ
فِيهِ التَّعْزِيرُ، وَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ
السَّرِقَةِ وَكِتَابِ الْغَصْبِ.
7 - أَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الاِنْتِهَابِ، كَانْتِهَابِ
النِّثَارِ،
(6/318)
فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ،
فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ تَحْرِيمًا لَهُ كَالشَّوْكَانِيِّ، وَمِنْهُمْ
مَنْ مَنَعَهُ كَرَاهَةً لَهُ كَأَبِي مَسْعُودٍ الأَْنْصَارِيِّ (1) ،
وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَعِكْرِمَةَ
وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَابْنِ سِيرِينَ
وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ
عَنْهُ. (2)
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِالتَّحْرِيمِ بِمَا وَرَدَ مِنْ نَهْيِ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النُّهْبَى. (3)
وَاسْتَدَل الآْخَرُونَ: بِأَنَّ الاِنْتِهَابَ الْمُحَرَّمَ الَّذِي
وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ هُوَ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْعَرَبُ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْغَارَاتِ، وَعَلَى الاِمْتِنَاعِ مِنْهُ وَقَعَتِ
الْبَيْعَةُ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ بَايَعْنَا رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَلاَّ نَنْتَهِبَ. (4)
أَمَّا انْتِهَابُ مَا أَبَاحَهُ مَالِكُهُ فَهُوَ مُبَاحٌ، وَلَكِنَّهُ
يُكْرَهُ لِمَا فِي الاِلْتِقَاطِ مِنَ الدَّنَاءَةِ.
وَأَمَّا مَنْ أَبَاحَ الاِنْتِهَابَ، فَقَدْ قَال: إِنَّ تَرْكَهُ
أَوْلَى، وَلَكِنْ لاَ كَرَاهَةَ فِيهِ، وَمِنْ هَؤُلاَءِ: الْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ، وَعَامِرُ الشَّعْبِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ
سَلاَّمٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ
وَبَعْضُ
__________
(1) في المطبوع من شرح معاني الآثار 3 / 50، وفي نيل الأوطار أيضا 6 / 209
(ابن مسعود) وهو خطأ، وصوابه (أبو مسعود) كما في سنن البيهقي 7 / 287،
وعمدة القاري 13 / 25 فاقتضى التنبيه على ذلك.
(2) المغني 7 / 12، وعمدة القاري 13 / 25، ونيل الأوطار 6 / 209، ومواهب
الجليل 4 / 6، وجواهر الإكليل 1 / 326، والقليوبي 3 / 299.
(3) حديث: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النهى. . . . " أخرجه
البخاري (الفتح 5 / 119 ط السلفية) .
(4) حديث عبادة: " بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا ننتهب ".
أخرجه البخاري (الفتح 7 / 219 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1334 ط الحلبي) .
(6/318)
الْمَالِكِيَّةِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ
فِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ عَنْهُ. (1) وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِمَا رَوَتْهُ
أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ بَعْضَ نِسَائِهِ،
فَنُثِرَ عَلَيْهِ التَّمْرُ. (2) وَبِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
قُرْطٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَحَبُّ الأَْيَّامِ إِلَى اللَّهِ يَوْمُ
النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ عَرَفَةَ. فَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَدَنَاتٍ خَمْسًا
أَوْ سِتًّا فَطَفِقْنَ يَزْدَلِفْنَ إِلَيْهِ بِأَيَّتِهِنَّ يَبْدَأُ،
فَلَمَّا وَجَبَتْ - سَقَطَتْ - جُنُوبُهَا، قَال كَلِمَةً خَفِيفَةً لَمْ
أَفْهَمْهَا - أَيْ لَمْ يَفْهَمْهَا الرَّاوِي، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ قُرْطٍ - فَقُلْتُ لِلَّذِي كَانَ إِلَى جَنْبِي: مَا قَال رَسُول
اللَّهِ؟ فَقَال - قَال: مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ. (3) {
وَشَهِدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِمْلاَكَ
شَابٍّ مِنَ الأَْنْصَارِ، فَلَمَّا زَوَّجُوهُ قَال: عَلَى الأُْلْفَةِ
وَالطَّيْرِ الْمَيْمُونِ وَالسَّعَةِ وَالرِّزْقِ، بَارَكَ اللَّهُ
لَكُمْ، دَفِّفُوا عَلَى رَأْسِ صَاحِبِكُمْ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَتِ
الْجَوَارِي مَعَهُنَّ الأَْطْبَاقُ عَلَيْهَا اللَّوْزُ وَالسُّكَّرُ،
فَأَمْسَكَ الْقَوْمُ أَيْدِيَهُمْ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلاَ تَنْتَهِبُونَ، فَقَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ
إِنَّكَ نَهَيْتَ عَنِ النُّهْبَةِ، قَال: تِلْكَ نُهْبَةُ الْعَسَاكِرِ،
فَأَمَّا الْعُرْسَاتُ فَلاَ، فَرَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ يُجَاذِبُهُمْ
وَيُجَاذِبُونَهُ (4)
__________
(1) نيل الأوطار 6 / 209، المغني 7 / 12، وكشاف القناع 5 / 183، وابن
عابدين 3 / 324، ومواهب الجليل 4 / 6، ونهاية المحتاج6 / 371.
(2) حديث عائشة: " تزوج بعض نسائه فنثر عليه التمر. . . . " أخرجه البيهقي
(7 / 287 ط دائرة المعارف العثمانية) وضعفه.
(3) حديث عبد الله بن قرط. أخرجه أبو داود (2 / 370 - ط عزت عبيد دعاس)
والطحاوي في شرح معاني الآثار (3 / 50 - ط مطبعة الأنوار المحمدية) .
واللفظ للطحاوي وإسناده حسن. (نيل الأوطار 5 / 148 ط الحلبي) .
(4) حديث: (تلك نهبة العساكر. . . . " أخرجه الطحاوي (3 / 50 - ط مطبعة
الأنوار المحمدية. وفي إسناده ضعف وانقطاع (نيل الأوطار 6 / 209 ط الحلبي)
.
(6/319)
8 - أَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ: وَهُوَ
مَا أَبَاحَهُ مَالِكُهُ لِفِئَةٍ مِنَ النَّاسِ لِيَتَمَلَّكُوهُ دُونَ
انْتِهَابٍ، بَل عَلَى وَجْهِ التَّسَاوِي، أَوْ عَلَى وَجْهٍ يَقْرَبُ
مِنَ التَّسَاوِي - كَوَضْعِهِ الطَّعَامَ أَمَامَ الْمَدْعُوِّينَ إِلَى
الْوَلِيمَةِ - فَإِنَّ انْتِهَابَهُ حَرَامٌ لاَ يَحِل وَلاَ يَجُوزُ؛
لأَِنَّ مُبِيحَهُ إِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَتَسَاوَوْا فِي أَكْلِهِ -
مَثَلاً - فَمَنْ أَخَذَ مِنْهُ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَأْكُل مِنْهُ مَعَ
أَصْحَابِهِ عَلَى وَجْهِ الأَْكْل، فَقَدْ أَخَذَ حَرَامًا وَأَكَل
سُحْتًا. (1)
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ عِنْدَ حَدِيثِهِمْ عَنِ الْوَلِيمَةِ
فِي كِتَابِ النِّكَاحِ.
أَثَرُ الاِنْتِهَابِ:
9 - يَمْلِكُ الْمُنْتَهِبُ مَا انْتَهَبَهُ مِمَّا أَبَاحَهُ مَالِكُهُ
بِالاِنْتِهَابِ بِأَخْذِهِ، لأَِنَّهُ مُبَاحٌ، وَتُمْلَكُ الْمُبَاحَاتُ
بِالْحِيَازَةِ. أَوْ هُوَ هِبَةٌ، فَيُمْلَكُ بِمَا تُمْلَكُ بِهِ
الْهِبَاتُ. (2)
أُنْثَيَانِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأُْنْثَيَانِ: الْخُصْيَتَانِ (3) ، وَهُمَا فِي الاِصْطِلاَحِ
بِهَذَا الْمَعْنَى (4) .
__________
(1) مواهب الجليل 4 / 6.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 324.
(3) لسان العرب والمصباح مادة: (أنث) .
(4) ابن عابدين 2 / 593 ط بولاق الأولى.
(6/319)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - أ - الأُْنْثَيَانِ مِنَ الْعَوْرَةِ الْمُغَلَّظَةِ فَتَأْخُذُ
حُكْمَهَا (ر: عَوْرَة) .
ب - الاِخْتِصَاءُ وَالإِْخْصَاءُ وَالْجَبُّ لِلإِْنْسَانِ حَرَامٌ
لِنَهْيِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ مَسْعُودٍ عَنِ الاِخْتِصَاءِ، فَعَنْ إِسْمَاعِيل بْنِ قَيْسٍ قَال:
قَال عَبْدُ اللَّهِ: كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ لَنَا شَيْءٌ، فَقُلْنَا: أَلاَ نَسْتَخْصِي؟
فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ (1) .
وَقِيل: نَزَل فِي هَذَا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا
طَيِّبَاتِ مَا أَحَل اللَّهُ لَكُمْ} (2) ، وَفِي الْبَابِ جُمْلَةٌ مِنَ
الأَْحَادِيثِ الَّتِي تُحَرِّمُ ذَلِكَ.
ج - فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْخُصْيَتَيْنِ فِي غَيْرِ الْعَمْدِ
الدِّيَةُ، وَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ، فَإِنْ قَطَعَ
أُنْثَيَيْهِ فَذَهَبَ نَسْلُهُ لَمْ يَجِبْ أَكْثَرُ مِنَ الدِّيَةِ،
وَإِنْ ذَهَبَ نَسْلُهُ بِقَطْعِ إِحْدَاهُمَا لَمْ يَجِبْ أَكْثَرُ مِنْ
نِصْفِ الدِّيَةِ. (3) (ر: دِيَة) .
أَمَّا فِي الْعَمْدِ فَفِيهِمَا الْقِصَاصُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلاَ
يُوجِبُونَ فِي الأُْنْثَيَيْنِ الْقِصَاصَ لأَِنَّ ذَلِكَ لاَ يُعْلَمُ
لَهُ مَفْصِلٌ فَلاَ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْل. (4) (ر: قِصَاص) .
__________
(1) حديث عبد الله بن مسعود. . . أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 117 - ط
السلفية) .
(2) سورة المائدة / 87. وانظر جواهر الإكليل 2 / 30، 39، 40، 150، وقليوبي
2 / 197.
(3) الاختيار 5 / 38، والمغني 8 / 34، وقليوبي 4 / 113، والشرح الصغير 4 /
388 ط المعارف.
(4) شرح الروض 4 / 23، وابن عابدين 5 / 356، والبدائع 7 / 309، والمغني 9 /
426، نهاية المحتاج 7 / 30، وشرح الزرقاني 8 / 17.
(6/320)
قَطْعُ أُنْثَيَيِ الْحَيَوَانِ:
3 - ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ قَطْعِ أُنْثَيَيِ
الْحَيَوَانِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى كَرَاهَتِهِ، (1) عَلَى خِلاَفٍ
وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِخْصَاء) .
انْحِصَارٌ
انْظُرْ: حَصَرَ. |