الموسوعة
الفقهية الكويتية انْحِلاَلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِنْحِلاَل لُغَةً: الاِنْفِكَاكُ، وَفِي دُسْتُورِ الْعُلَمَاءِ:
الاِنْحِلاَل: بُطْلاَنُ الصُّورَةِ. (2)
وَالاِنْحِلاَل عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِمَعْنَى الْبُطْلاَنِ،
وَالاِنْفِكَاكِ، وَالاِنْفِسَاخِ، وَالْفَسْخِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْبُطْلاَنُ:
2 - يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ الاِنْحِلاَل بِمَعْنَى الْبُطْلاَنِ، إِلاَّ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 249، والدسوقي 3 / 108، وجواهر الإكليل 2 / 40، والآداب
الشرعية 3 / 144، وقليوبي 3 / 203.
(2) تاج العروس، والمصباح مادة: " حلل "، ودستور العلماء، الألف مع النون 1
/ 195.
(3) الدسوقي 3 / 535 ط دار الفكر، وابن عابدين 2 / 500 ط بولاق الأولى،
الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 338 نشر لبنان.
(6/320)
أَنَّ الْبُطْلاَنَ يَكُونُ فِي
الْمُنْعَقِدِ وَغَيْرِهِ، أَمَّا الاِنْحِلاَل فَلاَ يُتَصَوَّرُ إِلاَّ
فِي الشَّيْءِ الْمُنْعَقِدِ، أَمَّا غَيْرُ الْمُنْعَقِدِ فَلاَ حِل لَهُ.
(1)
ب - الاِنْفِسَاخُ:
يُعَبِّرُ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ تَارَةً
بِالاِنْفِسَاخِ وَتَارَةً بِالاِنْحِلاَل. وَنَقَل الْحَطَّابُ عَنْ
بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الاِنْفِسَاخَ لاَ يُطْلَقُ فِي الْعُقُودِ
الْجَائِزَةِ إِلاَّ مَجَازًا (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ، وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - يَرِدُ لَفْظُ الاِنْحِلاَل فِي كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ أَكْثَرَ مَا
يَرِدُ فِي الأَْيْمَانِ، وَالطَّلاَقِ، وَالْعُقُودِ.
فَفِي الأَْيْمَانِ: مَتَى كَانَتِ الْيَمِينُ عَلَى فِعْل وَاجِبٍ أَوْ
تَرْكِ مُحَرَّمٍ كَانَ حَلُّهَا مُحَرَّمًا؛ لأَِنَّ حَلَّهَا بِفِعْل
الْمُحَرَّمِ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ. وَإِنْ كَانَتْ عَلَى فِعْل مَنْدُوبٍ
أَوْ تَرْكِ مَكْرُوهٍ فَحَلُّهَا مَكْرُوهٌ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى فِعْل
مُبَاحٍ فَحَلُّهَا مُبَاحٌ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى فِعْل مَكْرُوهٍ أَوْ
تَرْكِ مَنْدُوبٍ فَحَلُّهَا مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ. فَإِنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ
فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ،
وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ. (3)
وَإِنْ كَانَتِ الْيَمِينُ عَلَى فِعْل مُحَرَّمٍ أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ،
فَحَلُّهَا وَاجِبٌ لأَِنَّ حَلَّهَا بِفِعْل الْوَاجِبِ،
__________
(1) المغني 8 / 686، 687 ط الرياض.
(2) الدسوقي 3 / 535، والحطاب 5 / 369 نشر ليبيا.
(3) حديث: " إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا. . . . . ". أخرجه البخاري
(11 / 517 - الفتح ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1274 - ط الحلبي) .
(6/321)
وَفِعْل الْوَاجِبِ وَاجِبٌ. (1)
هَذَا مِنْ حَيْثُ أَصْل الْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ لِحَل الْيَمِينِ.
أَمَّا أَثَرُهُ فَهُوَ الْكَفَّارَةُ فِي الْيَمِينِ الْمُنْعَقِدَةِ
عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي (الأَْيْمَانُ) .
أَسْبَابُ انْحِلاَل الْيَمِينِ:
4 - لاِنْحِلاَل الْيَمِينِ أَسْبَابٌ، مِنْهَا:
أ - حُصُول مَا عَلَّقَ عَلَيْهِ الْحَالِفُ: فَتَنْحَل الْيَمِينُ
بِوُقُوعِ مَا عُلِّقَ عَلَيْهِ، إِلاَّ إِنْ كَانَتْ أَدَاةُ التَّعْلِيقِ
تَقْتَضِي التَّكْرَارَ فَالْيَمِينُ تَتَكَرَّرُ مَعَهَا، فَلَوْ قَال
لِزَوْجَتِهِ: إِنْ خَرَجْتِ بِغَيْرِ إِذْنِي فَأَنْتِ طَالِقٌ،
انْحَلَّتِ الْيَمِينُ بِالْخُرُوجِ مَرَّةً وَاحِدَةً. (2)
ب - زَوَال مَحَل الْبِرِّ: كَمَا لَوْ قَال إِنْ كَلَّمْتُ فُلاَنًا أَوْ
دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَمَاتَ فُلاَنٌ أَوْ جُعِلَتِ
الدَّارُ بُسْتَانًا بَطَل الْيَمِينُ. (3) وَانْظُرْ بَحْثَ (أَيْمَان)
ج - الْبِرُّ، وَالْحِنْثُ: فَلَوْ فَعَل مَا حَلَفَ عَلَى فِعْلِهِ
انْحَلَّتْ يَمِينُهُ، وَكَذَا تَنْحَل لَوِ انْعَقَدَتْ ثُمَّ حَصَل
الْحِنْثُ بِوُقُوعِ مَا حَلَفَ عَلَى نَفْيِهِ. (4)
د - الاِسْتِثْنَاءُ: تَنْحَل بِهِ الْيَمِينُ بِشُرُوطٍ وَتَفْصِيلاَتٍ
تُذْكَرُ فِي بَابَيِ الطَّلاَقِ وَالأَْيْمَانِ، وَقَدْ
__________
(1) المغني 8 / 682، 683، والإقناع مع حاشية البجيرمي 4 / 303.
(2) ابن عابدين 2 / 500، جواهر الإكليل 1 / 230 نشر دار الباز، وشرح الروض
3 / 285، 4 / 266 ط الميمنية، والبجيرمي على الخطيب 3 / 437 ط مصطفى
الحلبي، والمغني 7 / 186، 187.
(3) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 2 / 497، والمغني 8 / 497، وشرح الروض
4 / 266.
(4) شرح الروض 4 / 266، والروضة 11 / 36 ط المكتب الإسلامي، والإنصاف 11 /
105.
(6/321)
يَخْتَلِفُ ذَلِكَ فِي الْيَمِينِ
بِاَللَّهِ عَنْ غَيْرِهَا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ. (1)
هـ - زَوَال مِلْكِ النِّكَاحِ: تَنْحَل بِهِ الْيَمِينُ بِالطَّلاَقِ
عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ وَمَنَعَهُ الْبَعْضُ. وَمِنَ الأَْمْثِلَةِ
عَلَى انْفِكَاكِ الْيَمِينِ إِذَا زَال مِلْكُ النِّكَاحِ: مَا إِذَا قَال
لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا إِنْ فَعَلْتِ كَذَا، ثُمَّ
خَالَعَهَا قَبْل وُقُوعِ مَا عَلَّقَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْيَمِينَ
تَنْفَكُّ، وَلَوْ عَقَدَ عَلَيْهَا مِنْ جَدِيدٍ فَإِنَّهَا لاَ تَطْلُقُ
إِنْ فَعَلَتْ مَا عُلِّقَ قَبْل الْخُلْعِ، (2) وَالْبَعْضُ مَنَعَ ذَلِكَ
إِنْ كَانَ بِقَصْدِ الاِحْتِيَال. (3)
و الرِّدَّةُ: تَنْحَل بِهَا الْيَمِينُ عِنْدَ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ
الآْخَرِ.
ز - وَيَتِمُّ الاِنْحِلاَل فِي الْعُقُودِ بِأَسْبَابٍ، مِنْهَا: حَل
الْعَقْدِ غَيْرِ اللاَّزِمِ مِنْ كِلاَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، أَوْ مِمَّنْ
هُوَ غَيْرُ لاَزِمٍ فِي حَقِّهِ، وَمِنْهَا الْفَسْخُ بِالتَّرَاضِي أَوْ
بِحُكْمِ الْقَضَاءِ، وَمِنْهَا الإِْقَالَةُ. وَيُرْجَعُ إِلَى كُلٍّ مِنْ
هَذِهِ الأَْسْبَابِ فِي مَوْضِعِهِ.
انْحِنَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِنْحِنَاءُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ: حَنَى، فَالاِنْحِنَاءُ:
الاِنْعِطَافُ وَالاِعْوِجَاجُ عَنْ وَجْهِ الاِسْتِقَامَةِ. يُقَال
__________
(1) المغني 8 / 818، وجواهر الإكليل 1 / 226، والعدوي على الخرشي 2 / 57
نشر دار صادر.
(2) البجيرمي على الخطيب 3 / 412، وابن عابدين 2 / 501، وإعلام الموقعين 3
/ 292.
(3) إعلام الموقعين 2 / 292.
(6/322)
لِلرَّجُل إِذَا انْحَنَى مِنَ الْكِبَرِ
حَنَاهُ الدَّهْرُ، فَهُوَ مَحْنِيٌّ وَمَحْنُوٌّ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الرُّكُوعُ:
2 - الرُّكُوعُ نَوْعٌ مِنَ الاِنْحِنَاءِ، إِلاَّ أَنَّهُ فِي الصَّلاَةِ
عَلَى هَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ سَيَأْتِي بَيَانُهَا. (2)
ب - السُّجُودُ:
السُّجُودُ وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى الأَْرْضِ، وَهُوَ يَجْتَمِعُ مَعَ
الاِنْحِنَاءِ بِجَامِعِ الْمَيْل، إِلاَّ أَنَّ الْمَيَلاَنَ فِي
السُّجُودِ أَكْثَرُ بِوُصُول الْجَبْهَةِ إِلَى الأَْرْضِ (3) .
ج - الإِْيمَاءُ:
الإِْيمَاءُ هُوَ أَنْ تُشِيرَ بِرَأْسِكَ أَوْ بِيَدِكَ أَوْ بِعَيْنِكَ
أَوْ بِحَاجِبِكَ أَوْ بِأَقَل مِنْ هَذَا، كَمَا يُومِئُ الْمَرِيضُ
بِرَأْسِهِ لِلرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَقَدْ يَكُونُ الإِْيمَاءُ بِدُونِ
انْحِنَاءٍ (4) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الاِنْحِنَاءِ بِاخْتِلاَفِ السَّبَبِ الْبَاعِثِ
عَلَيْهِ:
__________
(1) معجم مقاييس اللغة، والصحاح، والمصباح المنير، والمطلع، والزاهر في
ألفاظ الشافعي مادة (حنا) .
(2) المغرب، والمصباح المنير.
(3) نفس المصادر السابقة.
(4) المغرب.
(6/322)
فَقَدْ يَكُونُ الاِنْحِنَاءُ مُبَاحًا،
كَالاِنْحِنَاءِ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الْمُسْلِمُ فِي أَعْمَالِهِ
الْيَوْمِيَّةِ.
وَقَدْ يَكُونُ فَرْضًا فِي الصَّلاَةِ، لاَ تَصِحُّ إِلاَّ بِهِ، كَمَا
هُوَ فِي الرُّكُوعِ فِي الصَّلاَةِ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ. وَقَدْ نَصَّ
الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ عَلَى صُورَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَمِقْدَارٍ
مُعَيَّنٍ، وَهُوَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ بِقَدْرِ مَا يَمُدُّ
يَدَيْهِ فَتَنَال رُكْبَتَيْهِ عِنْدَ الشَّخْصِ الْمُعْتَدِل الْقَامَةِ.
(1) وَتَفْصِيل هَذَا فِي (رُكُوع) .
وَقَدْ يَكُونُ مُحَرَّمًا، كَالاِنْحِنَاءِ تَعْظِيمًا لإِِنْسَانٍ أَوْ
حَيَوَانٍ أَوْ جَمَادٍ. وَهَذَا مِنَ الضَّلاَلاَتِ وَالْجَهَالاَتِ. (2)
وَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الاِنْحِنَاءَ عِنْدَ الاِلْتِقَاءِ
بِالْعُظَمَاءِ كَكِبَارِ الْقَوْمِ وَالسَّلاَطِينِ تَعْظِيمًا لَهُمْ -
حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. لأَِنَّ الاِنْحِنَاءَ لاَ يَكُونُ
إِلاَّ لِلَّهِ تَعَالَى تَعْظِيمًا لَهُ، وَلِقَوْلِهِ لِرَجُلٍ قَال
لَهُ: يَا رَسُول اللَّهِ، الرَّجُل مِنَّا يَلْقَى أَخَاهُ أَوْ صَدِيقَهُ
أَيَنْحَنِي لَهُ؟ قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ. (3)
أَمَّا إِنْ كَانَ ذَلِكَ الاِنْحِنَاءُ مُجَرَّدَ تَقْلِيدٍ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 300 ط بولاق، والفتاوى الهندية 1 / 70 ط المكتبة
الإسلامية، والفواكه الدواني 1 / 207 - 208 ط دار المعرفة، والبجيرمي على
الخطيب 2 / 26 ط دار المعرفة، والمحرر 1 / 61 ط السنة المحمدية.
(2) الفتاوى لابن تيمية 27 / 60 - 61 ط الرياض.
(3) مجمع الأنهر 2 / 542 ط العثمانية، والفواكه الدواني 2 / 424 - 425،
والشرح الصغير 4 / 760 ط دار المعارف، والقليوبي 4 / 76 ط عيسى الحلبي،
والفتاوى لابن تيمية 27 / 92 وحديث: " الرجل منا يلقي أخاه. . . . ". أخرجه
الترمذي (7 / 514 - تحفة الأحوذي ط السلفية) وفي إسناده راو ضعيف. . وذكر
الحديث من مناكيره الذهبي في الميزان (1 / 621 ط الحلبي) .
(6/323)
لِلْمُشْرِكِينَ، دُونَ قَصْدِ
التَّعْظِيمِ لِلْمُنْحَنَى لَهُ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ، لأَِنَّهُ يُشْبِهُ
فِعْل الْمَجُوسِ.
قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: الاِنْحِنَاءُ لِلْمَخْلُوقِ لَيْسَ مِنَ
السُّنَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ عَادَاتِ بَعْضِ الْمُلُوكِ
وَالْجَاهِلِينَ. (1)
أَمَّا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الاِنْحِنَاءِ لِلسُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ
فَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الإِْكْرَاهِ بِشُرُوطِهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ
مَعْنَى الْكُفْرِ. (2) وَتَفْصِيلُهُ فِي بَحْثِ (إِكْرَاه) .
انْحِنَاءُ الْمُصَلِّي أَثْنَاءَ الْقِيَامِ:
الْقِيَامُ الْمَطْلُوبُ فِي الصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا قَدْ يَعْتَرِيهِ
شَيْءٌ مِنَ الاِنْحِنَاءِ لِسَبَبٍ أَوْ آخَرَ، فَإِنْ كَانَ قَلِيلاً
بِحَيْثُ يَبْقَى اسْمُ الْقِيَامِ مَوْجُودًا، وَلاَ يَصِل إِلَى حَدِّ
الرُّكُوعِ الْمَطْلُوبِ فِي الصَّلاَةِ فَإِنَّهُ لاَ يُخِل بِصِفَةِ
الْقِيَامِ الْمَطْلُوبِ فِي الصَّلاَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ،
وَقَدْ سَمَّاهُ الْحَنَفِيَّةُ قِيَامًا غَيْرَ تَامٍّ. (3)
وَاخْتَلَفُوا فِي اقْتِدَاءِ الْمُسْتَوِي خَلْفَ الأَْحْدَبِ، فَقَال
الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِجَوَازِهِ، وَقَيَّدَهُ بَعْضُ
الْحَنَفِيَّةِ بِأَنْ لاَ تَبْلُغَ حَدَبَتُهُ حَدَّ الرُّكُوعِ،
وَتَمْيِيزِ قِيَامِهِ عَنْ رُكُوعِهِ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ بِجَوَازِهِ
مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَمَنَعَهُ الْحَنَابِلَةُ مُطْلَقًا. (4)
__________
(1) الفتاوى لابن تيمية 11 / 554 - 555.
(2) مجمع الأنهر 2 / 542.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 298، والشرح الصغير 1 / 307، وأسنى المطالب 1 /
145 - 146 ط بولاق، ونيل المآرب 1 / 35 ط الكويت.
(4) فتح القدير 1 / 220، وابن عابدين 1 / 396، والدسوقي 1 / 328، ومغني
المحتاج 1 / 340، والمغني لابن قدامة 2 / 223.
(6/323)
انْدِرَاسٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِنْدِرَاسُ: مَصْدَرُ انْدَرَسَ، وَأَصْل الْفِعْل دَرَسَ، يُقَال:
دَرَسَ الشَّيْءُ، وَانْدَرَسَ أَيْ: عَفَا وَخَفِيَتْ آثَارُهُ،
وَمِثْلُهُ الاِنْمِحَاءُ بِمَعْنَى ذَهَابِ الأَْثَرِ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ هَذَا، حَيْثُ
يَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ فِي ذَهَابِ مَعَالِمِ الشَّيْءِ وَبَقَاءِ
أَثَرِهِ فَقَطْ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الإِْزَالَةُ - وَالزَّوَال:
2 - الإِْزَالَةُ لُغَةً: مَصْدَرُ أَزَلْتُهُ إِذَا نَحَّيْتُهُ فَزَال.
وَمِنْ مَعَانِي الزَّوَال الْهَلاَكُ وَالاِنْتِهَاءُ. تَقُول: زَال
مِلْكُ فُلاَنٍ إِذَا انْتَهَى، وَلاَ يَكُونُ الزَّوَال إِلاَّ بَعْدَ
الاِسْتِقْرَارِ وَالثُّبُوتِ، فَالزَّوَال عَلَى هَذَا يَشْتَرِكُ مَعَ
الاِنْدِرَاسِ فِي الاِنْتِهَاءِ، (2) وَإِنْ كَانَ يَفْتَرِقُ عَنْهُ،
فَيُطْلَقُ عَلَى تَنْحِيَةِ الشَّيْءِ مِنْ مَكَان إِلَى آخَرَ مَعَ
بَقَاءِ ذَاتِهِ. وَلاَ يَخْرُجُ الاِسْتِعْمَال الْفِقْهِيُّ عَنْ هَذِهِ
الْمَعَانِي (3) .
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير - مادة (درس) و (محو) .
(2) تاج العروس والمصباح المنير مادة: (زول) .
(3) قليوبي 4 / 138 ط عيسى الحلبي، والفروق للعسكري ص 140.
(6/324)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
لِلاِنْدِرَاسِ أَحْكَامٌ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ مَوْضُوعِهِ:
أ - انْدِرَاسُ الْمَسَاجِدِ:
3 - الْكَلاَمُ عَنِ الاِنْدِرَاسِ فِي الْمَسْجِدِ يَتَنَاوَل مَا إِذَا
اسْتَغْنَى النَّاسُ عَنِ الْمَسْجِدِ بِأَنْ يَخْلُوَ عَنِ الْمُصَلِّينَ
فِي الْمَحَلَّةِ، أَوْ أَنْ يَخْرَبَ بِحَيْثُ لاَ يَنْتَفِعُ بِهِ
بِالْكُلِّيَّةِ، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ،
وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْمَرْجُوحَةُ عَنْ أَحْمَدَ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَبِي
يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ يَبْقَى مَسْجِدًا، وَلاَ يُبَاحُ وَلاَ يَرْجِعُ
إِلَى الْوَاقِفِ، بَل يَبْقَى مَسْجِدًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي
يُوسُفَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ.
وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهُ يَعُودُ مِلْكًا
لِلْوَاقِفِ أَوْ وَرَثَتِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الرَّاجِحَةِ عَنْ أَحْمَدَ،
وَهِيَ الرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ إِلَى جَوَازِ بَيْعِ
بَعْضِهِ لإِِصْلاَحِ بَاقِيهِ، إِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ
يُمْكِنِ الاِنْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ بِيعَ جَمِيعُهُ، وَوُضِعَ
ثَمَنُهُ فِي مَسْجِدٍ آخَرَ.
وَهَذَا الْحُكْمُ فِي بُقْعَةِ الْمَسْجِدِ، أَمَّا أَنْقَاضُهُ فَتُنْقَل
إِلَى أَقْرَبِ مَسْجِدٍ، فَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ إِلَيْهَا تُوضَعُ فِي
مَدْرَسَةٍ وَنَحْوِهَا مِنْ أَمَاكِنِ الْخَيْرَاتِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْل بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ: يَجُوزُ
بَيْعُهَا وَوَضْعُ ثَمَنِهَا فِي مَسْجِدٍ آخَرَ. (1)
ب - انْدِرَاسُ الْوَقْفِ:
4 - مَعْنَى انْدِرَاسِ الْوَقْفِ أَنَّهُ أَصْبَحَ بِحَالَةٍ لاَ
يُنْتَفَعُ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 371، ونهاية المحتاج 5 / 392، والحطاب 6 / 42، والشرح
الصغير 4 / 125، والمغني 5 / 575.
(6/324)
بِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، بِأَلاَّ يَحْصُل
مِنْهُ شَيْءٌ أَصْلاً، أَوْ لاَ يَفِي بِمَئُونَتِهِ، كَأَوْقَافِ
الْمَسْجِدِ إِذَا تَعَطَّلَتْ وَتَعَذَّرَ اسْتِغْلاَلُهَا. فِي هَذِهِ
الصُّورَةِ جَوَّزَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ الاِسْتِبْدَال عَلَى
الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ إِذَا كَانَ بِإِذْنِ الْقَاضِي وَرَأْيِهِ
لِمَصْلَحَةٍ فِيهِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ أَجَازَ جُمْهُورُهُمُ اسْتِبْدَال
الْوَقْفِ الْمَنْقُول فَقَطْ إِذَا دَعَتْ إِلَى ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ،
وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ مَالِكٍ. قَال الْخَرَشِيُّ:
إِنَّ الْمَوْقُوفَ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَقَارًا - إِذَا صَارَ لاَ
يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْوَجْهِ الَّذِي وُقِفَ فِيهِ كَالثَّوْبِ يَخْلَقُ،
وَالْفَرَسِ يَمْرَضُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ - فَإِنَّهُ يُبَاعُ
وَيُشْتَرَى مِثْلُهُ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ.
وَأَمَّا الْعَقَارُ فَقَدْ مَنَعَ الْمَالِكِيَّةُ اسْتِبْدَالَهُ مَعَ
شَيْءٍ مِنَ التَّفْصِيل.
فَفِي الْمَسَاجِدِ: أَجْمَعَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ
بَيْعِهَا.
وَفِي الدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ إِذَا كَانَتْ قَائِمَةَ الْمَنْفَعَةِ لاَ
يَجُوزُ بَيْعُهَا، وَاسْتَثْنَوْا تَوْسِيعَ الْمَسْجِدِ أَوِ
الْمَقْبَرَةِ أَوِ الطَّرِيقِ الْعَامِّ فَأَجَازُوا بَيْعَهُ، لأَِنَّ
هَذَا مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ لِلأُْمَّةِ، وَإذَا لَمْ تُبَعِ
الأَْحْبَاسُ لأَِجْلِهَا تَعَطَّلَتْ، وَأَصَابَ النَّاسَ ضِيقٌ، وَمِنَ
الْوَاجِبِ التَّيْسِيرُ عَلَى النَّاسِ فِي عِبَادَتِهِمْ وَسَيْرِهِمْ
وَدَفْنِ مَوْتَاهُمْ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ شَدَّدُوا كَثِيرًا فِي اسْتِبْدَال
الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ، حَتَّى أَوْشَكُوا أَنْ يَمْنَعُوهُ مُطْلَقًا
خَشْيَةَ ضَيَاعِ الْوَقْفِ أَوِ التَّفْرِيطِ فِيهِ.
قَال النَّوَوِيُّ: وَالأَْصَحُّ جَوَازُ بَيْعِ حُصُرِ الْمَسْجِدِ إِذَا
بَلِيَتْ، وَجُذُوعِهِ إِذَا انْكَسَرَتْ، وَلَمْ تَصْلُحْ إِلاَّ
لِلإِْحْرَاقِ. وَلَوِ انْهَدَمَ مَسْجِدٌ وَتَعَذَّرَ إِعَادَتُهُ لَمْ
يُبَعْ بِحَالٍ، وَتُصْرَفُ غَلَّةُ وَقْفِهِ إِلَى أَقْرَبِ الْمَسَاجِدِ
(6/325)
إِلَيْهِ. ثُمَّ إِنَّ الْمَسْجِدَ
الْمُنْهَدِمَ لاَ يُنْقَضُ إِلاَّ إِذَا خِيفَ عَلَى نَقْضِهِ، فَيُنْقَضُ
وَيُحْفَظُ أَوْ يُعَمَّرُ بِهِ مَسْجِدٌ آخَرُ إِنْ رَآهُ الْحَاكِمُ،
وَالأَْقْرَبُ إِلَيْهِ أَوْلَى، وَلاَ يُصْرَفُ نَقْضُهُ لِنَحْوِ بِئْرٍ
وَقَنْطَرَةٍ وَرِبَاطٍ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُبَاعُ
أَصْلُهَا وَلاَ تُبْتَاعُ وَلاَ تُوهَبُ وَلاَ تُورَثُ. (1)
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ: فَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ عَقَارٍ وَمَنْقُولٍ
فِي جَوَازِ الاِسْتِبْدَال وَعَدَمِهِ، وَأَخَذُوا حُكْمَ الْعَقَارِ مِنْ
حُكْمِ الْمَنْقُول، فَكَمَا أَنَّ الْفَرَسَ الْحَبِيسَةَ عَلَى الْغَزْوِ
إِذَا كَبِرَتْ وَلَمْ تَصْلُحْ لِلْغَزْوِ، وَصَلُحَتْ لِشَيْءٍ آخَرَ
يَجُوزُ بَيْعُهَا، فَكَذَلِكَ يُقَاسُ الْمَنْقُول الآْخَرُ وَغَيْرُ
الْمَنْقُول عَلَيْهَا. فَبَيْعُ الْمَسْجِدِ لِلْحَنَابِلَةِ لَهُمْ فِيهِ
رِوَايَتَانِ:
الرِّوَايَةُ الأُْولَى: يَجُوزُ بَيْعُ الْمَسْجِدِ إِذَا صَارَ
الْمَسْجِدُ غَيْرَ صَالِحٍ لِلْغَايَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهُ، كَأَنْ
ضَاقَ الْمَسْجِدُ، أَوْ خَرِبَتِ النَّاحِيَةُ، وَحِينَئِذٍ يُصْرَفُ
ثَمَنُهُ فِي إِنْشَاءِ مَسْجِدٍ آخَرَ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي مَكَانٍ
آخَرَ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِنَّ الْوَقْفَ إِذَا خَرِبَ وَتَعَطَّلَتْ
مَنَافِعُهُ، كَدَارٍ انْهَدَمَتْ، أَوْ أَرْضٍ خَرِبَتْ وَعَادَتْ
مَوَاتًا وَلَمْ تُمْكِنْ عِمَارَتُهَا، أَوْ مَسْجِدٍ انْتَقَل أَهْل
الْقَرْيَةِ عَنْهُ وَصَارَ فِي مَوْضِعٍ لاَ يُصَلَّى فِيهِ، أَوْ ضَاقَ
بِأَهْلِهِ وَلَمْ يُمْكِنْ تَوْسِيعُهُ فِي مَوْضِعِهِ، أَوْ تَشَعَّبَ
جَمِيعُهُ، وَلَمْ تُمْكِنْ عِمَارَتُهُ، وَلاَ عِمَارَةُ بَعْضِهِ إِلاَّ
بِبَيْعِ بَعْضِهِ، جَازَ بَيْعُ بَعْضِهِ لِتُعَمَّرَ بِهِ بَقِيَّتُهُ،
وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الاِنْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ بِيعَ جَمِيعُهُ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْمَسَاجِدِ. رَوَى
عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ أَنَّ الْمَسَاجِدَ لاَ تُبَاعُ وَإِنَّمَا تُنْقَل
آلَتُهَا.
__________
(1) حديث " لا يباع أصلها. . . " أخرجه البخاري (5 / 392 - ط السلفية ومسلم
(3 / 1255 - ط الحلبي) .
(6/325)
وَقَدْ رَجَّحَ ابْنُ قُدَامَةَ
الرِّوَايَةَ الأُْولَى. (1)
ج - انْدِرَاسُ قُبُورِ الْمَوْتَى:
5 - ذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْمَيِّتَ الْمُسْلِمَ
إِذَا بَلِيَ وَصَارَ تُرَابًا جَازَ نَبْشُ قَبْرِهِ وَدَفْنُ غَيْرِهِ
فِيهِ، أَمَّا إِذَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ عِظَامِهِ - غَيْرَ عَجْبِ
الذَّنَبِ - فَلاَ يَجُوزُ نَبْشُهُ وَلاَ الدَّفْنُ فِيهِ لِحُرْمَةِ
الْمَيِّتِ، وَيَعْرِفُ ذَلِكَ أَهْل الْخِبْرَةِ.
إِلاَّ أَنَّ صَاحِبَ التَّتَارْخَانِيَّةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ يَرَى
أَنَّ الْمَيِّتَ إِذَا صَارَ تُرَابًا فِي الْقَبْرِ يُكْرَهُ دَفْنُ
غَيْرِهِ فِي قَبْرِهِ؛ لأَِنَّ الْحُرْمَةَ بَاقِيَةٌ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ مُعَقِّبًا عَلَى هَذَا: لَكِنَّ فِي ذَلِكَ
مَشَقَّةً عَظِيمَةً، فَالأَْوْلَى إِنَاطَةُ الْجَوَازِ بِالْبِلَى، إِذْ
لاَ يُمْكِنُ أَنْ يُعَدَّ لِكُل مَيِّتٍ قَبْرٌ لاَ يُدْفَنُ فِيهِ
غَيْرُهُ وَإِنْ صَارَ الأَْوَّل تُرَابًا لاَ سِيَّمَا فِي الأَْمْصَارِ
الْكَبِيرَةِ الْجَامِعَةِ، وَإِلاَّ لَزِمَ أَنْ تَعُمَّ الْقُبُورُ
السَّهْل وَالْوَعِرَ.
عَلَى أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الْحَفْرِ إِلَى أَلاَّ يَبْقَى عَظْمٌ عَسِرٌ
جِدًّا، وَإِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ لِبَعْضِ النَّاسِ، لَكِنَّ الْكَلاَمَ فِي
جَعْلِهِ حُكْمًا عَامًّا لِكُل أَحَدٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ
الْحَرْثِ وَالزِّرَاعَةِ وَالْبِنَاءِ فِي الْمَقْبَرَةِ الْمُنْدَرِسَةِ،
فَأَجَازَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَمَنَعَهُ الْمَالِكِيَّةُ،
وَلَمْ نَعْثُرْ عَلَى نَصٍّ لِلشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ.
وَأَمَّا قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ فَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ
نَبْشِهَا، لِيُتَّخَذَ مَكَانُهَا مَسْجِدًا؛ لأَِنَّ مَوْضِعَ مَسْجِدِ
النَّبِيِّ كَانَ قُبُورًا لِلْمُشْرِكِينَ. (2)
__________
(1) ابن عابدين 3 / 535، والبحر الرائق 5 / 239، 240، وأنفع الوسائل ص 109
- 110، الخرشي 7 / 94 - 95، والدسوقي 4 / 92، ومغني المحتاج 2 / 292،
والجمل 3 / 590، والمغني مع الشرح 6 / 225، وما بعدها.
(2) ابن عابدين 1 / 199، والدسوقي 1 / 428، ومغني المحتاج 1 / 362، والجمل
2 / 201، وأسنى المطالب 1 / 331، وكشاف القناع 2 / 144.
(6/326)
إِحْيَاءُ الْمُنْدَرِسِ
6 - سَبَقَ فِي إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ - مِنْ أَبْحَاثِ الْمَوْسُوعَةِ -
أَنَّ مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً ثُمَّ تَرَكَهَا حَتَّى،
انْدَرَسَتْ، فَهَل تَصِيرُ مَوَاتًا إِذَا أَحْيَاهَا غَيْرُهُ مَلَكَهَا،
أَوْ تَبْقَى عَلَى مِلْكِ الأَْوَّل؟
ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَحَدُ أَقْوَالٍ ثَلاَثَةٍ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهَا تَبْقَى عَلَى مِلْكِ الأَْوَّل، وَلاَ
يَمْلِكُهَا الثَّانِي بِالإِْحْيَاءِ، مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً لَيْسَتْ
لأَِحَدٍ فَهِيَ لَهُ. (1) وَلأَِنَّ هَذِهِ أَرْضٌ يُعْرَفُ مَالِكُهَا
فَلَمْ تُمْلَكْ بِالإِْحْيَاءِ، كَاَلَّتِي مُلِكَتْ بِشِرَاءٍ أَوْ
عَطِيَّةٍ. وَفِي قَوْلٍ ثَانٍ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الثَّانِيَ يَمْلِكُهَا، قِيَاسًا عَلَى الصَّيْدِ،
إِذَا أَفْلَتَ وَلَحِقَ بِالْوَحْشِ وَطَال زَمَانُهُ، فَهُوَ لِلثَّانِي.
وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ لِلْمَالِكِيَّةِ: التَّفْرِيقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ
الأَْوَّل أَحْيَاهُ أَوِ اخْتَطَّهُ أَوِ اشْتَرَاهُ، فَإِنْ كَانَ
الأَْوَّل أَحْيَاهُ كَانَ الثَّانِي أَحَقَّ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الأَْوَّل
اخْتَطَّهُ أَوِ اشْتَرَاهُ كَانَ الأَْوَّل أَحَقَّ بِهِ. (2)
__________
(1) حديث: " من أحيا أرضا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق " أخرجه أبو داود
(3 / 454 - ط عزت عبيد دعاس) . وقال ابن حجر بعد أن ذكر طرق الحديث: وفي
أسانيدها مقال، لكن يقوي بعضها ببعض. (الفتح 5 / 19 - السلفية) .
(2) الفتاوى الهندية 5 / 386، وقليوبي وعميرة 3 / 88ط الحلبي، والمغني 5 /
564 ط الرياض، وهامش الحطاب 6 / 3، والرهوني 7 / 97 دار الفكر.
(6/326)
إِنْذَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْنْذَارُ لُغَةً: مَصْدَرُ أَنْذَرَهُ الأَْمْرَ، إِذَا أَبْلَغَهُ
وَأَعْلَمَهُ بِهِ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَل فِي التَّخْوِيفِ، يُقَال:
أَنْذَرَهُ إِذَا خَوَّفَهُ وَحَذَّرَ بِالزَّجْرِ عَنِ الْقَبِيحِ (1) .
وَفِي تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ: لاَ يَكَادُ الإِْنْذَارُ يَكُونُ إِلاَّ
فِي تَخْوِيفٍ يَتَّسِعُ مَعَ زَمَانِهِ لِلاِحْتِرَازِ، فَإِنْ لَمْ
يَتَّسِعْ زَمَانُهُ لِلاِحْتِرَازِ كَانَ إِشْعَارًا، وَلَمْ يَكُنْ
إِنْذَارًا (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْعْذَارُ:
2 - الْعُذْرُ: الْحُجَّةُ الَّتِي يُعْتَذَرُ بِهَا، وَالْجَمْعُ
أَعْذَارٌ، وَأَعْذَرَ إِعْذَارًا: أَبْدَى عُذْرًا، وَيَكُونُ أَعْذَرَ
بِمَعْنَى اعْتَذَرَ، وَأَعْذَرَ ثَبَتَ لَهُ عُذْرٌ (3) .
وَفِي التَّبْصِرَةِ: الإِْعْذَارُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْعُذْرِ،
وَمِنْهُ: قَدْ أَعْذَرَ مَنْ أَنْذَرَ، أَيْ قَدْ بَالَغَ فِي
الإِْعْذَارِ مَنْ تَقَدَّمَ إِلَيْكَ فَأَنْذَرَكَ (4) .
وَقَال ابْنُ عَرَفَةَ: الإِْعْذَارُ سُؤَال الْحَاكِمِ مَنْ تَوَجَّهَ
عَلَيْهِ الْحُكْمُ: هَل لَهُ مَا يُسْقِطُهُ (5) ؟ وَإِذًا،
فَالإِْنْذَارُ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمفردات للراغب، والكليات للكفوي 1 /
338، وترتيب القاموس المحيط
(2) القرطبي 1 / 184 ط دار الكتب
(3) لسان العرب وترتيب القاموس المحيط والمفردات
(4) التبصرة بهامش فتع العلي المالك 1 / 166 ط دار المعرفة
(5) جواهر الإكليل 2 / 227 ط دار المعرفة
(6/327)
يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِعْذَارًا إِنْ
كَانَ فِيهِ إِثْبَاتُ الْحُجَّةِ لِلْمُنْذِرِ، وَدَحْضُ حُجَّةِ
الْمُنْذَرِ إِذَا مَا وَقَعَ بِهِ الضَّرَرُ.
ب - النَّبْذُ:
3 - النَّبْذُ: طَرْحُ الشَّيْءِ، وَالنَّبْذُ: إِعْلاَمُ الْعَدُوِّ
بِتَرْكِ الْمُوَادَعَةِ، وقَوْله تَعَالَى: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ} (1)
أَيْ قُل لَهُمْ: قَدْ نَبَذْتُ إِلَيْكُمْ عَهْدَكُمْ، وَأَنَا
مُقَاتِلُكُمْ، لِيَعْلَمُوا ذَلِكَ (2) .
فَالنَّبْذُ مَقْصُودٌ بِهِ طَرْحُ الْعَهْدِ وَعَدَمُ الاِلْتِزَامِ بِهِ.
وَالأَْمْرُ بِالنَّبْذِ فِي الآْيَةِ الْكَرِيمَةِ يَجْمَعُ بَيْنَ
الأَْمْرَيْنِ: طَرْحِ الْعَهْدِ، وَإِعْلاَمِهِمْ بِذَلِكَ. فَهُوَ نَوْعٌ
مِنَ الإِْنْذَارِ.
ج - الْمُنَاشَدَةُ:
4 - نَشَدَ الضَّالَّةَ: طَلَبَهَا وَعَرَّفَهَا، وَنَشَدْتُكَ اللَّهَ:
أَيْ سَأَلْتُكَ بِاَللَّهِ، وَالْمُنَاشَدَةُ: الْمُطَالَبَةُ
بِاسْتِعْطَافٍ، وَنَاشَدَهُ مُنَاشَدَةً: حَلَّفَهُ، وَقَوْل النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي أُنْشِدُكَ عَهْدَكَ. . . (3)
أَيْ أُذَكِّرُكَ مَا عَاهَدْتَنِي بِهِ وَوَعَدْتَنِي وَأَطْلُبُهُ مِنْكَ
(4) . وَالْمُنَاشَدَةُ أَيْضًا تَكُونُ بِمَعْنَى الإِْنْذَارِ، لَكِنْ
مَعَ الاِسْتِعْطَافِ، وَهُوَ طَلَبُ الْكَفِّ عَنِ الْفِعْل الْقَبِيحِ،
يَقُول الْفُقَهَاءُ (5) : يُقَاتَل الْمُحَارِبُ (أَيْ قَاطِعُ
__________
(1) سورة الأنفال / 58
(2) لسان العرب، والمفردات، والقرطبي 8 / 32، والاختيار 4 / 121 ط دار
المعرفة
(3) حديث: " إني أنشدك عهدك " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 99 - ط السلفية)
(4) لسان العرب والمغرب وترتيب القاموس المحيط
(5) الشرح الصغير 4 / 493، دار المعارف
(6/327)
الطَّرِيقِ) جَوَازًا، وَيُنْدَبُ أَنْ
يَكُونَ قِتَالُهُ بَعْدَ الْمُنَاشَدَةِ، بِأَنْ يُقَال لَهُ (ثَلاَثَ
مَرَّاتٍ) : نَاشَدْتُكَ اللَّهَ إِلاَّ مَا خَلَّيْتَ سَبِيلِي.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
5 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الإِْنْذَارِ بِاخْتِلاَفِ مَوَاضِعِهِ:
فَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا: وَذَلِكَ كَإِنْذَارِ الأَْعْمَى مَخَافَةَ أَنْ
يَقَعَ فِي مَحْذُورٍ، كَخَوْفِ وُقُوعِهِ فِي بِئْرٍ، فَإِنَّهُ يَجِبُ
عَلَى مَنْ رَآهُ - وَلَوْ كَانَ فِي صَلاَةٍ - أَنْ يُحَذِّرَهُ خَشْيَةَ
الضَّرَرِ (1) .
وَكَإِنْذَارِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَمْ تَبْلُغْهُمُ الدَّعْوَةُ،
فَيَحْرُمُ الإِْقْدَامُ عَلَى قِتَالِهِمْ قَبْل إِبْلاَغِهِمْ
بِالدَّعْوَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ (2) .
وَكَإِنْذَارِ الْمُرْتَدِّ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِالْوُجُوبِ
كَالْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ (3) .
وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا: كَإِنْذَارِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ
بَلَغَتْهُمُ الدَّعْوَةُ، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ دَعْوَتُهُمْ إِلَى
الإِْسْلاَمِ مُبَالَغَةً فِي الإِْنْذَارِ (4) .
وَكَإِنْذَارِ الْمُرْتَدِّ، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْتَتَابَ
ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ يُوعَظُ فِيهَا وَيُخَوَّفُ لَعَلَّهُ يَرْجِعُ
وَيَتُوبُ (5) .
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 198 ط الحلبي، والمعراق بهامش الحطاب 2 / 36 ط
النجاح، وابن عابدين 1 / 575 ط بولاق ثالثة
(2) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 25، والأحكام السلطانية للماوردي ص 38،
والاختيار 4 / 119، والدسوقي 2 / 176
(3) المغني 8 / 124 ط الرياض
(4) الاختيار 4 / 119، والمهذب 2 / 232 ط دار المعرفة
(5) ابن عابدين 3 / 294، والكافي 2 / 1089 ط الرياض، والمهذب 2 / 223
(6/328)
وَكَتَنْبِيهِ الإِْمَامِ فِي الصَّلاَةِ
إِذَا هَمَّ بِتَرْكِ مُسْتَحَبٍّ (1) .
وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا: كَإِنْذَارِ الزَّوْجَةِ النَّاشِزِ بِالْوَعْظِ
أَوْ بِغَيْرِهِ (2) كَمَا وَرَدَ فِي الآْيَةِ الْكَرِيمَةِ {وَاَللاَّتِي
تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ. . .} (3) الآْيَةَ.
وَكَإِنْذَارِ صَاحِبِ الْحَائِطِ الْمَائِل (4) .
وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا: كَمَا إِذَا كَانَ فِي الإِْنْذَارِ ضَرَرٌ
أَشَدُّ مِنْ ضَرَرِ الْمُنْكَرِ الْوَاقِعِ (5) .
مَا يَكُونُ بِهِ الإِْنْذَارُ:
6 - الإِْنْذَارُ قَدْ يَكُونُ بِالْقَوْل، وَذَلِكَ كَوَعْظِ
الْمُتَشَاجِرِينَ، وَاسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّ، وَعَرْضِ الدَّعْوَةِ
عَلَى الْكُفَّارِ، وَوَعْظِ الزَّوْجَةِ النَّاشِزِ.
وَقَدْ يَكُونُ الإِْنْذَارُ بِالْفِعْل فِي أَحْوَالٍ، مِنْهَا:
أ - أَنْ يَكُونَ الْكَلاَمُ غَيْرَ جَائِزٍ، كَمَنْ كَانَ فِي الصَّلاَةِ
وَرَأَى رَجُلاً عِنْدَ بِئْرٍ، أَوْ رَأَى عَقْرَبًا تَدِبُّ إِلَى
إِنْسَانٍ، وَأَمْكَنَ تَحْذِيرُهُ بِغَمْزِهِ أَوْ لَكْزِهِ، فَإِنَّهُ
لاَ يَجُوزُ الْكَلاَمُ حِينَئِذٍ (6) .
وَهُنَاكَ صُورَةٌ أُخْرَى لِلتَّحْذِيرِ بَيَّنَهَا النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ - لِمَنْ كَانَ فِي الصَّلاَةِ وَرَأَى
مَا يَجِبُ التَّحْذِيرُ مِنْهُ - أَنْ يُسَبِّحَ الرَّجُل وَتُصَفِّقَ
الْمَرْأَةُ، فَفِي
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 198
(2) المهذب 2 / 70، وشرح منتهى الإرادات 3 / 105 ط، دار الفكر
(3) سورة النساء / 34
(4) الاختيار 5 / 46، ومنح الجليل 4 / 559 ط النجاح ليبيا
(5) شرح إحياء علوم الدين 7 / 43، والآداب الشرعية 1 / 181، والأشباه
للسيوطي ص 309 ط مصطفى محمد، ومنح الجليل 1 / 710
(6) ابن عابدين 1 / 575
(6/328)
الْبُخَارِيِّ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَا
لَكُمْ حِينَ نَابَكُمْ شَيْءٌ فِي الصَّلاَةِ أَخَذْتُمْ فِي
التَّصْفِيقِ؟ إِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ (1) ، وَفِي هَذَا
صُورَةُ التَّحْذِيرِ بِالْفِعْل بَدَل الْقَوْل بِالنِّسْبَةِ
لِلْمَرْأَةِ الَّتِي فِي الصَّلاَةِ.
ب - أَنْ يَكُونَ الْكَلاَمُ غَيْرَ مُجْدٍ، وَذَلِكَ إِذَا لَمْ تُفْلِحْ
طَرِيقَةُ الْوَعْظِ بِالنِّسْبَةِ لِلزَّوْجَةِ النَّاشِزِ، فَلِلزَّوْجِ
بَعْدَ الْوَعْظِ أَنْ يَهْجُرَهَا، فَإِنْ لَمْ يُفْلِحِ الْهَجْرُ
ضَرَبَهَا ضَرْبًا خَفِيفًا.
وَكَتَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ بِالْيَدِ لِمَنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ، عَمَلاً
بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَأَى
مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ
فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ
الإِْيمَانِ (2) .
مَنْ لَهُ حَقُّ الإِْنْذَارِ:
7 - الإِْنْذَارُ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ تَحْذِيرًا مِنْ شَيْءٍ ضَارٍّ
أَوْ عَمَلٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ، وَكُل مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مِنْ حَقِّ
كُل مُسْلِمٍ، عَمَلاً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ
يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ} (3) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ
أَضْعَفُ الإِْيمَانِ (4)
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 197. وحديث: " يا أيها الناس: مالكم حين نابكم. . . .
" أخرجه البخاري (الفتح 3 / 107 ط السلفية)
(2) حديث: " من رأى منكم منكرا فليغير بيده. . . . " أخرجه مسلم في الإيمان
1 / 49 / 69 ط البابي الحلبي)
(3) سورة آل عمران / 104
(4) حديث: " من رأى منكم منكرا فليغير بيده. . . " سبق تخريجه ف / 6
(6/329)
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ تَحْتَ
عِنْوَانِ الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَهُوَ
فَرْضُ كِفَايَةٍ بِشُرُوطِهِ الْخَاصَّةِ (1) . ر: (أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ
وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ) .
وَيَتَعَيَّنُ الإِْنْذَارُ بِالنِّسْبَةِ لِوَالِي الْحِسْبَةِ، لأَِنَّهُ
خُصِّصَ مِنْ قِبَل الإِْمَامِ لِذَلِكَ (2) . ر: (حِسْبَة) . وَتَثْبُتُ
وِلاَيَةُ الْحِسْبَةِ لِلزَّوْجِ وَالْمُعَلِّمِ وَالأَْبِ. ر: (حِسْبَة -
وِلاَيَة) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
يَأْتِي الإِْنْذَارُ فِي كُل مَا هُوَ ضَارٌّ أَوْ غَيْرُ مَشْرُوعٍ،
وَمَسَائِلُهُ مُتَعَدِّدَةٌ فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ، وَمِنْ ذَلِكَ:
إِنْذَارُ تَارِكِ الصَّلاَةِ (3) ، فِي بَابِ الصَّلاَةِ وَهَكَذَا
بَقِيَّةُ الْعِبَادَاتِ. وَفِي الْجِنَايَاتِ فِي الصِّيَال (4) ،
وَالْحَائِطِ الْمَائِل (5) ، وَفِعْل مَا يَضُرُّ بِالْمُسْلِمِينَ. وَفِي
بَابِ الأَْذَانِ، وَهَل يَجُوزُ قَطْعُهُ لإِِنْذَارِ غَيْرِهِ. فِي بَابِ
الْجُمُعَةِ حُكْمُ قَطْعِ الْخُطْبَةِ لِلإِْنْذَارِ وَحُكْمُ إِنْذَارِ
الْمُسْتَمِعِ لِغَيْرِهِ (6) .
وَفِي حُكْمِ الْجِوَارِ (7) ، وَفِي الْقَضَاءِ بِالنِّسْبَةِ
__________
(1) الآداب الشرعية لابن مفلح 1 / 181 ط الرياض، ومنح الجليل 1 / 710،
والأحكام السلطانية للماوردي ص 240 - 247، والفروق للقرافي 4 / 255 ط دار
المعرفة، وشرح الإحياء 7 / 3
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 240، وشرح إحياء علوم الدين 7 / 17 - 18،
والتبصرة بهامش فتح العلي المالك 2 / 187
(3) التبصرة 2 / 189
(4) جواهر الإكليل 2 / 297
(5) منح الجليل 4 / 559
(6) قليوبي 1 / 280
(7) التبصرة 2 / 187
(6/329)
لِلشُّهُودِ (1) ، وَفِي إِنْذَارِ
الزَّوْجِ الْغَائِبِ قَبْل التَّفْرِيقِ لِعَدَمِ الإِْنْفَاقِ، وَغَيْرِ
ذَلِكَ.
إِنْزَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْنْزَاءُ لُغَةً: حَمْل الْحَيَوَانِ عَلَى النَّزْوِ، وَهُوَ
الْوَثْبُ، وَلاَ يُقَال إِلاَّ لِلشَّاءِ، وَالدَّوَابِّ، وَالْبَقَرِ،
فِي مَعْنَى السِّفَادِ (2) .
وَلاَ يَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - عَسَبُ الْفَحْل:
2 - قِيل: هُوَ الْكِرَاءُ الَّذِي يُؤْخَذُ عَلَى ضِرَابِ الْفَحْل،
وَقِيل: هُوَ ضِرَابُهُ، وَقِيل: مَاؤُهُ (3) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - الإِْنْزَاءُ الَّذِي لاَ يَضُرُّ - كَالإِْنْزَاءِ عَلَى مِثْلِهِ
أَوْ نَحْوِهِ أَوْ مُقَارِبِهِ - جَائِزٌ، كَخَيْلٍ بِمِثْلِهَا أَوْ
بِحَمِيرٍ، أَمَّا إِذَا كَانَ يَضُرُّ - كَإِنْزَاءِ الْحَمِيرِ عَلَى
الْخَيْل - فَإِنَّ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ كَرِهَهُ، أَخْذًا بِحَدِيثِ
عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) التبصرة 2 / 221
(2) لسان العرب، والمحيط، تاج العروس مادة: (نزا) .
(3) النظم المستعذب 1 / 401 ط مصطفى الحلبي، طلبة الطلبة ص 126، والمغني 5
/ 34.
(6/330)
قَال: أُهْدِيَتْ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَغْلَةٌ فَرَكِبَهَا، فَقُلْتُ: لَوْ
حَمَلْنَا الْحَمِيرَ عَلَى الْخَيْل فَكَانَتْ لَنَا مِثْل هَذِهِ، فَقَال
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا يَفْعَل
ذَلِكَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ (1) . وَقَالُوا: وَسَبَبُ النَّهْيِ
أَنَّهُ سَبَبٌ لِقِلَّةِ الْخَيْل وَضَعْفِهَا (2) .
قَال الْخَطَّابِيُّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ -
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الْحُمُرَ إِذَا حَمَلَتْ عَلَى الْخَيْل
تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُ الْخَيْل، وَقَل عَدَدُهَا، وَانْقَطَعَ نَمَاؤُهَا.
وَالْخَيْل يُحْتَاجُ إِلَيْهَا لِلرُّكُوبِ وَالطَّلَبِ، وَعَلَيْهَا
يُجَاهَدُ الْعَدُوُّ، وَبِهَا تُحْرَزُ الْغَنَائِمُ، وَلَحْمُهَا
مَأْكُولٌ، وَيُسْهَمُ لِلْفَرَسِ كَمَا يُسْهَمُ لِلْفَارِسِ، وَلَيْسَ
لِلْبَغْل شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْفَضَائِل، فَأَحَبَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْمُوَ عَدَدُ الْخَيْل وَيَكْثُرَ نَسْلُهَا
لِمَا فِيهَا مِنَ النَّفْعِ وَالصَّلاَحِ. وَلَكِنْ قَدْ يَحْتَمِل أَنْ
يَكُونَ حَمْل الْخَيْل عَلَى الْحُمُرِ جَائِزًا؛ لأَِنَّ الْكَرَاهَةَ
فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِنَّمَا جَاءَتْ فِي حَمْل الْحُمُرِ عَلَى
الْخَيْل، لِئَلاَّ تُشْغَل أَرْحَامُهَا بِنَسْل الْحُمُرِ، فَيَقْطَعَهَا
ذَلِكَ عَنْ نَسْل الْخَيْل، فَإِذَا كَانَتِ الْفُحُولَةُ خَيْلاً
وَالأُْمَّهَاتُ حُمُرًا فَقَدْ يَحْتَمِل أَنْ لاَ يَكُونَ دَاخِلاً فِي
النَّهْيِ، إِلاَّ أَنْ يَتَأَوَّل مُتَأَوِّلٌ أَنَّ الْمُرَادَ
بِالْحَدِيثِ صِيَانَةُ الْخَيْل عَنْ مُزَاوَجَةِ الْحُمُرِ، وَكَرَاهَةُ
اخْتِلاَطِ مَائِهَا، لِئَلاَّ يَضِيعَ طُرُقُهَا، وَلِئَلاَّ يَكُونَ
مِنْهُ الْحَيَوَانُ الْمُرَكَّبُ مِنْ نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَإِنَّ
أَكْثَرَ الْمُرَكَّبَاتِ الْمُتَوَلِّدَةِ بَيْنَ جِنْسَيْنِ مِنَ
الْحَيَوَانِ أَخْبَثُ طَبْعًا مِنْ أُصُولِهَا الَّتِي تَتَوَلَّدُ
مِنْهَا وَأَشَدُّ شَرَاسَةً كَالسِّمْعِ،
__________
(1) حديث: " إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون ". أخرجه أبو داود في الجهاد (3
/ 58 / 2565) ط الدعاس، وأحمد (766، 785) بتحقيق أحمد شاكر. وقال: إسناده
صحيح.
(2) المجموع 6 / 178 ط السلفية، القليوبي 3 / 203 ط عيسى الحلبي.
(6/330)
وَالْعِسْبَارِ وَنَحْوِهِمَا، وَكَذَلِكَ
الْبَغْل لِمَا يَعْتَرِيهِ مِنَ الشِّمَاسِ وَالْحِرَانِ وَالْعِضَاضِ،
وَنَحْوِهَا مِنَ الْعُيُوبِ وَالآْفَاتِ، ثُمَّ هُوَ حَيَوَانٌ عَقِيمٌ
لَيْسَ لَهُ نَسْلٌ وَلاَ نَمَاءٌ وَلاَ يُذَكَّى وَلاَ يُزَكَّى.
قُلْتُ: وَمَا أَرَى هَذَا الرَّأْيَ طَائِلاً، فَإِنَّ اللَّهَ
سُبْحَانَهُ قَال: {وَالْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا
وَزِينَةً} فَذَكَرَ الْبِغَال وَامْتَنَّ عَلَيْنَا بِهَا كَامْتِنَانِهِ
بِالْخَيْل وَالْحَمِيرِ، وَأَفْرَدَ ذِكْرَهَا بِالاِسْمِ الْخَاصِّ
الْمَوْضُوعِ لَهَا، وَنَبَّهَ عَلَى مَا فِيهَا مِنَ الإِْرَبِ
وَالْمَنْفَعَةِ، وَالْمَكْرُوهُ مِنَ الأَْشْيَاءِ مَذْمُومٌ لاَ
يَسْتَحِقُّ الْمَدْحَ وَلاَ يَقَعُ بِهَا الاِمْتِنَانُ، وَقَدِ
اسْتَعْمَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَغْل
وَاقْتَنَاهُ، وَرَكِبَهُ حَضَرًا وَسَفَرًا، وَكَانَ يَوْمَ حُنَيْنٍ
عَلَى بَغْلَتِهِ رَمَى الْمُشْرِكِينَ بِالْحَصْبَاءِ. وَقَال: شَاهَتِ
الْوُجُوهُ فَانْهَزَمُوا، وَلَوْ كَانَ مَكْرُوهًا لَمْ يَقْتَنِهِ وَلَمْ
يَسْتَعْمِلْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (1) .
وَالْحَنَفِيَّةُ أَجَازُوا إِنْزَاءَ الْحَمِيرِ عَلَى الْخَيْل
وَعَكْسَهُ (2) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
4 - بِالإِْضَافَةِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ تَكَلَّمَ الشَّافِعِيَّةُ فِي
امْتِنَاعِ الإِْنْزَاءِ عَلَى الدَّابَّةِ الْمَرْهُونَةِ، إِلاَّ إِنْ
ظَنَّ أَنَّهَا تَلِدُ قَبْل حُلُول الدَّيْنِ (3) . وَيُفَصِّل
الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي بَابِ (الرَّهْنِ) ، وَيُنْظَرُ حُكْمُ
الإِْجَارَةِ عَلَى الإِْنْزَاءِ فِي مُصْطَلَحِ (عَسَبُ الْفَحْل) .
__________
(1) معالم السنن 2 / 251، 252 ط محمد راغب الطباخ سنة 1351 هـ.
(2) الدر وحاشية ابن عابدين 5 / 249 ط بولاق الأولى.
(3) القليوبي 2 / 271 ط عيسى الحلبي.
(6/331)
إِنْزَالٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْنْزَال لُغَةً: مَصْدَرُ أَنْزَل، وَهُوَ مِنَ النُّزُول، وَمِنْ
مَعْنَاهُ الاِنْحِدَارُ مِنْ عُلْوٍ إِلَى سُفْلٍ، وَمِنْهُ إِنْزَال
الرَّجُل مَاءَهُ إِذَا أَمْنَى بِجِمَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: يُطْلَقُ الإِْنْزَال عَلَى خُرُوجِ مَاءِ الرَّجُل
أَوِ الْمَرْأَةِ بِجِمَاعٍ أَوِ احْتِلاَمٍ أَوْ نَظَرٍ أَوْ غَيْرِهِ (1)
. .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الاِسْتِمْنَاءُ:
2 - الاِسْتِمْنَاءُ لُغَةً: طَلَبُ خُرُوجِ الْمَنِيِّ، وَاصْطِلاَحًا:
إِخْرَاجُ الْمَنِيِّ بِغَيْرِ جِمَاعٍ، مُحَرَّمًا كَانَ أَوْ غَيْرَ
مُحَرَّمٍ (2) .
فَالاِسْتِمْنَاءُ عَلَى هَذَا أَخَصُّ مِنَ الإِْنْزَال؛ لأَِنَّ
الإِْنْزَال خُرُوجُ الْمَنِيِّ بِالْجِمَاعِ أَوْ غَيْرِهِ.
أَسْبَابُ الإِْنْزَال:
3 - يَكُونُ الإِْنْزَال بِالْجِمَاعِ، أَوْ بِالْيَدِ، أَوْ
بِالْمُدَاعَبَةِ، أَوِ النَّظَرِ، أَوِ الْفِكْرِ، أَوِ الاِحْتِلاَمِ (3)
.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - تَخْتَلِفُ أَحْكَامُ الإِْنْزَال بِاخْتِلاَفِ مَوَاطِنِهِ،
__________
(1) لسان العرب مادة: (نزل) .
(2) القاموس المحيط مادة: (مني) ، ابن عابدين 2 / 100، 3 / 156، والشرواني
3 / 410.
(3) مراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي ص 52.
(6/331)
فَيَكُونُ حَلاَلاً لِلرَّجُل
وَالْمَرْأَةِ إِذَا كَانَ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ، أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ.
وَيَكُونُ حَرَامًا إِذَا كَانَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ.
وَكِلاَ الإِْنْزَالَيْنِ يَكُونُ حَرَامًا فِي الْجُمْلَةِ إِذَا كَانَ
فِي نَهَارِ رَمَضَانَ. وَيَكُونُ حَرَامًا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُحْرِمِ
بِحَجٍّ أَوْ عَمْرَةٍ (1) .
وَيَحْرُمُ فِي الاِعْتِكَافِ الْوَاجِبِ - الإِْنْزَال، أَوْ فِعْل مَا
يُؤَدِّي إِلَيْهِ كَلَمْسٍ وَقُبْلَةٍ (2) .
الإِْنْزَال بِالاِسْتِمْنَاءِ:
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الإِْنْزَال بِالاِسْتِمْنَاءِ
عَلَى أَقْوَالٍ مَا بَيْنَ الْحُرْمَةِ وَالْكَرَاهَةِ، وَالْجَوَازِ
وَالْوُجُوبِ فِي حَال الضَّرُورَةِ. وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ:
(اسْتِمْنَاء ج 4 99)
وَالإِْنْزَال بِالاِسْتِمْنَاءِ يُبْطِل الصَّوْمَ عِنْدَ جُمْهُورِ
الْفُقَهَاءِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الإِْسْكَافِ
وَأَبُو الْقَاسِمِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، فَقَالاَ بِعَدَمِ إِبْطَال
الصَّوْمِ (3) .
وَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ خِلاَفٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي (صَوْم) .
وَيُبْطِل الإِْنْزَال بِالْيَدِ الاِعْتِكَافَ، وَفِي هَذَا تَفْصِيلٌ
يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِمْنَاء) .
وَالإِْنْزَال بِالاِسْتِمْنَاءِ لاَ يُفْسِدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ
عِنْدَ
__________
(1) قليوبي 2 / 120، 135، 136.
(2) قليوبي 2 / 77، المغني / 196، الثالثة، كشاف القناع 2 / 361، بدائع 2 /
115، الكافي 1 / 354.
(3) ابن عابدين 2 / 100، والزيلعي 2 / 323، والدسوقي 2 / 60، 68، والمهذب 2
/ 270، والبيجوري 1 / 303، كشاف القناع 6 / 102، الإنصاف 4 / 251، 252،
الجمل 1 / 241، والشبراملسي 1 / 312.
(6/332)
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ، لَكِنْ يَجِبُ فِيهِ دَمٌ، لأَِنَّهُ كَالْمُبَاشَرَةِ
فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فِي التَّحْرِيمِ وَالتَّعْزِيرِ، فَكَانَ
بِمَنْزِلَتِهَا فِي الْجَزَاءِ، أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا
بِفَسَادِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِهِ، وَأَوْجَبُوا الْقَضَاءَ
وَالْكَفَّارَةَ، وَلَوْ كَانَ نَاسِيًا، لأَِنَّهُ أَنْزَل بِفِعْلٍ
مَحْظُورٍ، وَتَفْصِيلُهُ فِي (الاِسْتِمْنَاء) أَيْضًا.
وَفِي الإِْنْزَال بِالنَّظَرِ أَوِ الْفِكْرِ وَأَثَرِهِ عَلَى الصَّوْمِ
أَوِ الاِعْتِكَافِ أَوِ الْحَجِّ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي
مَبْحَثِ (الاِسْتِمْنَاءِ) .
وَالإِْنْزَال بِالتَّفَكُّرِ حُكْمُهُ حُكْمُ الإِْنْزَال بِالنَّظَرِ
عَلَى الْخِلاَفِ السَّابِقِ.
الإِْنْزَال بِالاِحْتِلاَمِ:
6 - الإِْنْزَال بِالاِحْتِلاَمِ لاَ يُبْطِل الصَّوْمَ، وَلاَ يُوجِبُ
قَضَاءً أَوْ كَفَّارَةً (1) ، وَلاَ يُفْسِدُ الْحَجَّ وَلاَ يَلْزَمُ
بِهِ فِدْيَةٌ، وَلاَ يُبْطِل الاِعْتِكَافَ (2) . وَيُعْرَفُ الإِْنْزَال
فِي الاِحْتِلاَمِ بِعَلاَمَاتٍ مُعَيَّنَةٍ، بِوُجُودِ مَنِيٍّ فِي ثَوْبِ
نَوْمِهِ أَوْ فِرَاشِهِ، أَوْ بَلَلٍ مِنْ أَثَرِهِ.
فَإِذَا احْتَلَمَ وَلَمْ يُنْزِل فَلاَ غُسْل عَلَيْهِ، أَجْمَعَ عَلَى
ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ، وَإِذَا أَنْزَل فَعَلَيْهِ الْغُسْل. وَإِنْ وَجَدَ
مَنِيًّا وَلَمْ يَذْكُرِ احْتِلاَمًا فَعَلَيْهِ الْغُسْل (3) ، عَلَى
خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (احْتِلاَمٌ) .
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 3 / 50، والدسوقي1 / 523، ومغني المحتاج 1 /
430 ط الحلبي.
(2) ابن عابدين 2 / 132، والهندية 1 / 244، والحطاب 2 / 423، والشرح الصغير
1 / 728، جواهر الإكليل 1 / 159، الجمل 2 / 517، 363، ونهاية المحتاج 3 /
219، والمغني مع الشرح الكبير 3 / 330.
(3) الفتاوى الخانية 1 / 244، وابن عابدين 1 / 111، والحطاب 1 / 306، 307،
والمجموع 2 / 142، وشرح الروض وحاشية الرملي عليه 1 / 65، 66 ط الميمنية،
والمغني لابن قدامة 1 / 202.
(6/332)
حُكْمُ الاِغْتِسَال مِنَ الإِْنْزَال:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَنِيَّ إِذَا نَزَل عَلَى
وَجْهِ الدَّفْقِ وَالشَّهْوَةِ يَجِبُ مِنْهُ الْغُسْل، أَمَّا إِذَا
نَزَل لاَ عَلَى وَجْهِ الدَّفْقِ وَالشَّهْوَةِ فَلاَ يَجِبُ مِنْهُ
الْغُسْل عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ
عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ إِلَى وُجُوبِ الْغُسْل بِذَلِكَ،
فَإِذَا سَكَنَتِ الشَّهْوَةُ قَبْل خُرُوجِ الْمَنِيِّ إِلَى الظَّاهِرِ
ثُمَّ نَزَل فَفِيهِ خِلاَفٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (غُسْل) .
إِنْزَال الْمَرْأَةِ:
8 - الْمَرْأَةُ كَالرَّجُل فِي الأَْحْكَامِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى
إِنْزَال الْمَنِيِّ، لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ حَدَّثَتْ
أَنَّهَا سَأَلْتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
الْمَرْأَةُ تَرَى فِي مَنَامِهَا مَا يَرَى الرَّجُل؟ فَقَال رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا رَأَتْ ذَلِكَ
الْمَرْأَةُ فَلْتَغْتَسِل.
وَفِي لَفْظٍ أَنَّهَا قَالَتْ: هَل عَلَى الْمَرْأَةِ غُسْلٌ إِذَا هِيَ
احْتَلَمَتْ؟ فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
نَعَمْ، إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ (1) . فَخُرُوجُ الْمَنِيِّ بِشَهْوَةٍ فِي
يَقَظَةٍ أَوْ نَوْمٍ يُوجِبُ الْغُسْل عَلَى الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ،
وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.
وَمِثْل ذَلِكَ سَائِرُ الأَْحْكَامِ فِي الصِّيَامِ وَالاِعْتِكَافِ
وَالْحَجِّ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ. إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ
يَخْتَلِفُونَ فِيمَا يَتَحَقَّقُ بِهِ نُزُول الْمَنِيِّ مِنَ الْمَرْأَةِ
لِتَرَتُّبِ الأَْحْكَامِ عَلَيْهِ.
وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِوُصُول الْمَنِيِّ إِلَى الْمَحَل الَّذِي
تَغْسِلُهُ فِي الاِسْتِنْجَاءِ، وَهُوَ مَا يَظْهَرُ عِنْدَ جُلُوسِهَا
وَقْتَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عِنْدَ
__________
(1) حديث: " إذا رأت ذلك المرأة فلتغسل، أخرجه مسلم (1 / 250 ط الحلبي) .
(6/333)
الْحَنَفِيَّةِ، وَبِهَذَا قَال
الْمَالِكِيَّةُ عَدَا سَنَدٍ، وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
بِالنِّسْبَةِ لِلثَّيِّبِ. وَقَال سَنَدٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ
بُرُوزَ الْمَنِيِّ مِنَ الْمَرْأَةِ لَيْسَ شَرْطًا، بَل مُجَرَّدُ
الاِنْفِصَال عَنْ مَحَلِّهِ يُوجِبُ الْغُسْل؛ لأَِنَّ عَادَةَ مَنِيِّ
الْمَرْأَةِ يَنْعَكِسُ إِلَى الرَّحِمِ لِيَتَخَلَّقَ مِنْهُ الْوَلَدُ،
وَهَذَا مَا يُقَابِل ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الْبِكْرِ: لاَ يَجِبُ عَلَيْهَا الْغُسْل
حَتَّى يَخْرُجَ الْمَنِيُّ مِنْ فَرْجِهَا؛ لأَِنَّ دَاخِل فَرْجِهَا فِي
حُكْمِ الْبَاطِنِ (1) ر: (انْظُرْ: احْتِلاَم) .
إِنْزَال الْمَنِيِّ لِمَرَضٍ أَوْ بَرْدٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ:
9 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ) أَنَّ خُرُوجَ الْمَنِيِّ لِغَيْرِ لَذَّةٍ وَشَهْوَةٍ،
بِأَنْ كَانَ بِسَبَبِ بَرْدٍ أَوْ مَرَضٍ، أَوْ ضَرْبَةٍ عَلَى الظَّهْرِ،
أَوْ سُقُوطٍ مِنْ عُلْوٍ، أَوْ لَدْغَةِ عَقْرَبٍ، أَوْ مَا شَابَهُ
ذَلِكَ، لاَ يُوجِبُ الْغُسْل، وَلَكِنْ يُوجِبُ الْوُضُوءَ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْغُسْل عِنْدَهُمْ بِخُرُوجِ
الْمَنِيِّ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِشَهْوَةٍ وَلَذَّةٍ، أَمْ كَانَ بِغَيْرِ
ذَلِكَ، بِأَنْ كَانَ لِمَرَضٍ وَنَحْوِهِ مِمَّا سَبَقَ، وَهَذَا إِذَا
خَرَجَ الْمَنِيُّ مِنَ الْمَخْرَجِ الْمُعْتَادِ، وَكَذَا الْحُكْمُ إِذَا
خَرَجَ مِنْ غَيْرِ مَخْرَجِهِ الْمُعْتَادِ وَكَانَ مُسْتَحْكَمًا، أَمَّا
إِذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَحْكَمًا مَعَ خُرُوجِهِ مِنْ غَيْرِ الْمَخْرَجِ
الْمُعْتَادِ فَلاَ يَجِبُ الْغُسْل (2) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 108، والفتاوى الهندية 1 / 14، 15 والدسوقي 1 / 126،
127، والخرشي 1 / 162، والمجموع 2 / 140، ونهاية المحتاج 1 / 199، والمغني
1 / 199 وكشاف القناع 1 / 142.
(2) ابن عابدين 1 / 108، والاختيار 1 / 12، وحاشية الدسوقي 1 / 127، 128،
والشرح الصغير 1 / 61 ط الحلبي، والخرشي 1 / 163، ومغني المحتاج 1 / 70،
والقليوبي 1 / 63، والمجموع 2 / 140، 141، وكشاف القناع 1 / 139، 142.
(6/333)
انْسِحَابٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِنْسِحَابُ لُغَةً: مَصْدَرُ انْسَحَبَ، مُطَاوِعُ سَحَبَ، أَيْ
جَرَّ (1) .
وَيُرَادُ بِهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَالأُْصُولِيِّينَ امْتِدَادُ
الْفِعْل فِي أَوْقَاتٍ مُتَتَالِيَةٍ امْتِدَادًا اعْتِبَارِيًّا،
كَحُكْمِنَا عَلَى نِيَّةِ الْمُتَوَضِّئِ بِالاِنْسِحَابِ فِي جَمِيعِ
أَرْكَانِ الْوُضُوءِ، إِذَا نَوَى فِي أَوَّل الرُّكْنِ الأَْوَّل، ثُمَّ
ذَهِل عَنْهَا بَعْدُ فِي بَقِيَّةِ الأَْرْكَانِ. وَكَذَا الْحُكْمُ فِي
الْعَزْمِ عَلَى امْتِثَال الْمَأْمُورِ فِي الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ فِي
أَجْزَاءِ الْوَقْتِ بِمُجَرَّدِ الْعَزْمِ الأَْوَّل (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِسْتِصْحَابُ:
2 - الاِسْتِصْحَابُ فِي اللُّغَةِ: مُلاَزَمَةُ الشَّيْءِ شَيْئًا آخَرَ.
تَقُول: اسْتَصْحَبْتُ الْكِتَابَ وَغَيْرَهُ؛ إِذَا حَمَلْتَهُ
بِصُحْبَتِكَ. وَمِنْ هُنَا قِيل: اسْتَصْحَبْتُ الْحَال؛ إِذَا
تَمَسَّكْتُ بِمَا كَانَ ثَابِتًا، كَأَنَّكَ جَعَلْتَ تِلْكَ الْحَالَةَ
مُصَاحِبَةً غَيْرَ مُفَارِقَةٍ (3) .
وَاسْتِصْحَابُ الْحَال عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ مَعْنَاهُ: إِبْقَاءُ مَا
كَانَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ لاِنْعِدَامِ الْمُغَيِّرِ (4) .
__________
(1) المصباح (سحب) .
(2) فواتح الرحموت 1 / 73 ط بولاق.
(3) المصباح (صحب) .
(4) التعريفات للجرجاني ص 17، وحاشية الشربيني على شرح جمع الجوامع 348 ط
الحلبي.
(6/334)
وَقَدِ اسْتَعْمَل الْفُقَهَاءُ
الاِسْتِصْحَابَ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ حَيْثُ قَالُوا: إِنَّ الذُّهُول
عَنِ اسْتِمْرَارِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ بَعْدَ اسْتِحْضَارِهَا
مُغْتَفَرٌ لِمَشَقَّةِ اسْتِصْحَابِهَا (1) .
ب - الاِنْجِرَارُ:
3 - الاِنْجِرَارُ: مَصْدَرُ انْجَرَّ، مُطَاوِعُ جَرَّ. وَهُوَ بِمَعْنَى
الاِنْسِحَابِ فِي اللُّغَةِ، وَالْفُقَهَاءُ جَرَتْ عَادَتُهُمْ
بِالتَّعْبِيرِ بِالاِنْجِرَارِ فِي بَابِ الْوَلاَءِ، وَمُرَادُهُمْ بِهِ:
انْتِقَال الْوَلاَءِ مِنْ مَوْلًى إِلَى آخَرَ بَعْدَ بُطْلاَنِ وَلاَءِ
الأَْوَّل، وَعَبَّرُوا بِالاِنْسِحَابِ أَوِ الاِسْتِصْحَابِ فِي
مَبَاحِثِ النِّيَّةِ وَالْعَزْمِ عَلَى الْعِبَادَةِ فِي الْوَقْتِ
الْمُوَسَّعِ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أ - الاِنْسِحَابُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ:
4 - إِذَا كَانَ الْوَاجِبُ مُوَسَّعًا فَجَمِيعُ الْوَقْتِ وَقْتٌ
لأَِدَائِهِ، فَيَتَخَيَّرُ الْمُكَلَّفُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ فِي أَيِّ
وَقْتٍ شَاءَ مِنْ وَقْتِهِ الْمُقَدَّرِ لَهُ شَرْعًا. وَالْوَاجِبُ
عَلَيْهِ فِي كُل وَقْتٍ إِمَّا الْفِعْل أَوِ الْعَزْمُ عَلَى الْفِعْل،
وَلاَ يَجِبُ تَجْدِيدُ الْعَزْمِ فِي كُل جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ
الْوَقْتِ، بَل يَكْفِي الْعَزْمُ فِي أَوَّل الْوَقْتِ، ثُمَّ يَنْسَحِبُ
هَذَا الْعَزْمُ عَلَى بَقِيَّةِ الأَْجْزَاءِ إِلَى أَنْ يَتَضَيَّقَ
الْوَقْتُ (3) ، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ مَحَلُّهُمَا الْمُلْحَقُ
الأُْصُولِيُّ.
__________
(1) الزرقاني 1 / 66 ط بولاق، وشرح المنهج بحاشية الجمل 1 / 335 ط
الميمنية، وكشاف القناع 1 / 316 ط الرياض.
(2) شرح المنهاج بحاشية القليوبي 4 / 358، وشرح المنهج بحاشية الجمل 5 /
451 ط الميمنية، وفواتح الرحموت 1 / 73.
(3) فواتح الرحموت 1 / 73.
(6/334)
ب - الاِنْسِحَابُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:
5 - الأَْصْل فِي الْعِبَادَةِ الْوَاحِدَةِ ذَاتِ الأَْفْعَال
الْمُتَعَدِّدَةِ أَنْ يَكْتَفِيَ بِالنِّيَّةِ فِي أَوَّلِهَا، وَلاَ
يَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِهَا فِي كُل فِعْلٍ، اكْتِفَاءً بِانْسِحَابِهَا
عَلَيْهَا. (1)
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، قَال فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: الْمُعْتَمَدُ
أَنَّ الْعِبَادَةَ ذَاتَ الأَْفْعَال تَنْسَحِبُ نِيَّتُهَا عَلَى
كُلِّهَا.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَاحْتَرَزَ بِذَاتِ الأَْفْعَال عَمَّا هِيَ
فِعْلٌ وَاحِدٌ كَالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لاَ خِلاَفَ فِي الاِكْتِفَاءِ
بِالنِّيَّةِ فِي أَوَّلِهِ، وَيَرِدُ عَلَيْهِ الْحَجُّ، فَإِنَّهُ ذُو
أَفْعَالٍ مِنْهَا طَوَافُ الإِْفَاضَةِ لاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ أَصْل
نِيَّةِ الطَّوَافِ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ عَنِ الْفَرْضِ، حَتَّى لَوْ
طَافَ نَفْلاً فِي أَيَّامِهِ وَقَعَ عَنْهُ، وَالْجَوَابُ أَنَّ
الطَّوَافَ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ فِي ذَاتِهِ كَمَا هُوَ رُكْنٌ
لِلْحَجِّ، فَبِاعْتِبَارِ رُكْنِيَّتِهِ يَنْدَرِجُ فِي نِيَّةِ الْحَجِّ،
__________
(1) ابن عابدين 1 / 294 ط الأولى، والأشباه لابن نجيم ص45 ط الهلال
(6/335)
فَلاَ يُشْتَرَطُ تَعْيِينُهُ،
وَبِاعْتِبَارِ اسْتِقْلاَلِهِ اشْتُرِطَ فِيهِ أَصْل نِيَّةِ الطَّوَافِ،
حَتَّى لَوْ طَافَ هَارِبًا أَوْ طَالِبًا لِغَرِيمٍ لاَ يَصِحُّ،
بِخِلاَفِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ إِلاَّ فِي
ضِمْنِ الْحَجِّ، فَيَدْخُل فِي نِيَّتِهِ، وَعَلَى هَذَا الرَّمْيُ
وَالْحَلْقُ وَالسَّعْيُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ طَوَافَ الإِْفَاضَةِ يَقَعُ
بَعْدَ التَّحَلُّل بِالْحَلْقِ، حَتَّى إِنَّهُ يَحِل لَهُ سِوَى
النِّسَاءِ، وَبِذَلِكَ يَخْرُجُ مِنَ الْحَجِّ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ،
فَاعْتُبِرَ فِيهِ الشَّبَهَانِ. (1)
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
6 - ذَكَرَ الأُْصُولِيُّونَ الاِنْسِحَابَ فِي الْكَلاَمِ عَلَى
الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ مِنْ مَبَاحِثِ الأَْحْكَامِ، كَمَا ذَكَرَهُ
الْفُقَهَاءُ فِي كَلاَمِهِمْ عَلَى النِّيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ فِي
كُتُبِ الْفُرُوعِ، وَكُتُبِ الأَْشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 274، وانظر أيضا الأشباه والنظائر للسيوطي ص 27
(6/335)
إِنْشَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْنْشَاءُ: لُغَةً ابْتِدَاءُ الشَّيْءِ، وَرَفْعُهُ، وَمِنْهُ
قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ
مَعْرُوشَاتٍ} (1) وَفِعْلُهُ الْمُجَرَّدُ: نَشَأَ يَنْشَأُ، وَمِنْهُ
نَشَأَ السَّحَابُ نَشْئًا وَنُشُوءًا: إِذَا ارْتَفَعَ وَبَدَا. وقَوْله
تَعَالَى: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَئَاتُ فِي الْبَحْرِ
كَالأَْعْلاَمِ} (2) قَال الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ: الْمُنْشَئَاتُ:
السُّفُنُ الْمَرْفُوعَةُ الشُّرُعِ. (3)
وَالإِْنْشَاءُ عِنْدَ أَهْل الأَْدَبِ، قَال الْقَلْقَشَنْدِيُّ: هُوَ كُل
مَا رَجَعَ مِنْ صِنَاعَةِ الْكِتَابَةِ إِلَى تَأْلِيفِ الْكَلاَمِ
وَتَرْتِيبِ الْمَعَانِي. (4) وَأَمَّا فِي اصْطِلاَحِ الْبَيَانِيِّينَ
وَالأُْصُولِيِّينَ فَالإِْنْشَاءُ أَحَدُ قِسْمَيِ الْكَلاَمِ، إِذِ
الْكَلاَمُ عِنْدَهُمْ إِمَّا: خَبَرٌ أَوْ إِنْشَاءٌ. فَالْخَبَرُ هُوَ:
مَا احْتَمَل الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ لِذَاتِهِ، كَقَامَ زَيْدٌ، وَأَنْتَ
أَخِي. وَالإِْنْشَاءُ: الْكَلاَمُ الَّذِي لاَ يَحْتَمِل الصِّدْقَ
وَالْكَذِبَ، إِذْ لَيْسَ لَهُ فِي الْخَارِجِ نِسْبَةٌ تُطَابِقُهُ أَوْ
لاَ تُطَابِقُهُ. وَسُمِّيَ إِنْشَاءً لأَِنَّكَ أَنْشَأْتَهُ: أَيِ
ابْتَكَرْتَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْخَارِجِ وُجُودٌ.
2 - وَالإِْنْشَاءُ نَوْعَانِ:
الأَْوَّل: الإِْنْشَاءُ الطَّلَبِيُّ: وَيُسَمَّى طَلَبًا، وَهُوَ
__________
(1) سورة الأنعام / 141.
(2) سورة الرحمن / 24.
(3) لسان العرب.
(4) صبح الأعشى في صناعة الإنشاء 1 / 54
ط دار الكتب المصرية.
(7/5)
مَا أَفَادَ طَلَبًا بِالْوَضْعِ،
فَيُطْلَبُ بِهِ تَحْصِيل غَيْرِ حَاصِلٍ فِي الْخَارِجِ. فَإِنْ كَانَ
الْمَطْلُوبُ ذِكْرَ الْمَاهِيَّةِ فَهُوَ الاِسْتِفْهَامُ. وَإِنْ كَانَ
الْمَطْلُوبُ إِيجَادَ الْمَاهِيَّةِ فَهُوَ أَمْرٌ، أَوِ الْكَفُّ عَنْهَا
فَهُوَ نَهْيٌ. وَهَكَذَا.
الثَّانِي: الإِْنْشَاءُ غَيْرُ الطَّلَبِيِّ وَيَذْهَبُ بَعْضُ
الأُْصُولِيِّينَ إِلَى أَنَّ قِسْمَةَ الْكَلاَمِ ثُلاَثِيَّةٌ، فَهُوَ
إِمَّا خَبَرٌ، أَوْ طَلَبٌ، أَوْ إِنْشَاءٌ. خَصَّ أَصْحَابُ هَذَا
الْقَوْل الطَّلَبَ بِمَا سَمَّاهُ غَيْرُهُمُ الإِْنْشَاءَ الطَّلَبِيَّ،
وَالإِْنْشَاءُ لِمَا عَدَاهُ، كَأَلْفَاظِ الْعُقُودِ نَحْوَ: بِعْتُ
وَاشْتَرَيْتُ.
قَال التَّهَانُوِيُّ: وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى دُخُول الطَّلَبِ فِي
الإِْنْشَاءِ، وَأَنَّ مَعْنَى (اضْرِبْ) مَثَلاً وَهُوَ طَلَبُ الضَّرْبِ،
مُقْتَرِنٌ بِلَفْظِهِ. وَأَمَّا الضَّرْبُ الَّذِي يُوجَدُ بَعْدَ ذَلِكَ
فَهُوَ مُتَعَلِّقُ الطَّلَبِ، لاَ الطَّلَبُ نَفْسُهُ.
هَذَا، وَيَدْخُل فِي الإِْنْشَاءِ الطَّلَبِيِّ: الأَْمْرُ وَالنَّهْيُ
وَالاِسْتِفْهَامُ وَالتَّمَنِّي وَالنِّدَاءُ. وَيَدْخُل فِي الإِْنْشَاءِ
غَيْرِ الطَّلَبِيِّ أَفْعَال الْمَدْحِ وَالذَّمِّ، وَفِعْلاَ
التَّعَجُّبِ، وَالْقَسَمُ.
3 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ وَالأُْصُولِيُّونَ فِي أَلْفَاظِ الْعُقُودِ
كَبِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ، وَأَلْفَاظُ الْفُسُوخِ كَطَلَّقْتُ وَأَعْتَقْتُ،
وَنَحْوُهَا كَظَاهَرْتُ، وَصِيَغُ قَضَاءِ الْقَاضِي كَقَوْلِهِ: حَكَمْتُ
بِكَذَا، أَهِيَ خَبَرٌ أَمْ إِنْشَاءٌ، 4 وَمَحَل الْخِلاَفِ 4 لَيْسَ مَا
أُرِيدَ بِهِ الإِْخْبَارُ عَنْ عَقْدٍ سَابِقٍ أَوْ تَصَرُّفٍ سَابِقٍ،
كَقَوْل الْقَائِل: أَعْتَقْتُ عَبْدِي أَمْسِ، وَوَقَفْتُ دَارِي
الْيَوْمَ، بَل الْخِلاَفُ فِيمَا أُرِيدَ بِهِ إِنْشَاءُ الْعَقْدِ أَوِ
التَّصَرُّفُ، أَيِ اللَّفْظُ الْمُوجِبُ لِذَلِكَ، وَهُوَ الإِْيجَابُ
وَالْقَبُول فِي الْعَقْدِ، كَبِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ مَثَلاً.
(7/5)
فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: هِيَ إِنْشَاءٌ؛
لأَِنَّ دَلاَلَةَ لَفْظِ (بِعْتُ) مَثَلاً عَلَى الْمَعْنَى الْمُوجِبِ
لِلْبَيْعِ، وَهُوَ الْحَادِثُ فِي الذِّهْنِ عِنْدَ إِحْدَاثِ الْبَيْعِ،
هِيَ دَلاَلَةٌ بِالْعِبَارَةِ، فَهُوَ مَنْقُولٌ عُرْفًا عَنِ الْمَعْنَى
الْخَبَرِيِّ إِلَى الإِْنْشَاءِ، قَالُوا: وَلَوْ كَانَتْ خَبَرًا
لَكَانَتْ مُحْتَمِلَةً لِلتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ. وَلَكِنَّهَا لاَ
تَحْتَمِلُهُمَا، وَلَكَانَ لَهَا خَارِجٌ تُطَابِقُهُ أَوْ لاَ
تُطَابِقُهُ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: هِيَ إِخْبَارٌ؛ لأَِنَّ دَلاَلَتَهَا
بِالاِقْتِضَاءِ لاَ بِالْعِبَارَةِ. وَوَجْهُ كَوْنِ دَلاَلَتِهَا
بِالاِقْتِضَاءِ: أَنَّهَا حِكَايَةٌ عَنْ تَحْصِيل الْبَيْعِ، وَهُوَ
مُتَوَقِّفٌ عَلَى حُصُول الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْبَيْعِ. فَالْمَعْنَى
الْمُوجِبُ لاَزِمٌ مُتَقَدِّمٌ، أَمَّا الْعِبَارَةُ فَهِيَ: إِخْبَارٌ
عَنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الصِّيغَةَ مَوْضُوعَةٌ
لِلإِْخْبَارِ، وَالنَّقْل عَنْهُ إِلَى الإِْنْشَاءِ لَمْ يَثْبُتْ.
وَرَجَّحَ التَّهَانُوِيُّ - وَهُوَ حَنَفِيٌّ - قَوْل الشَّافِعِيَّةِ.
وَهُوَ قَوْل الْبَيَانِيِّينَ أَيْضًا. (1) وَيُنْظَرُ تَفْصِيل الْقَوْل
فِي هَذَا الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
انْشِغَال الذِّمَّةِ
انْظُرْ: ذِمَّةٌ.
__________
(1) كشاف اصطلاحات الفنون (مادة: خبر، نشأ) 2 / 412، 6 / 1360 ط الهند،
وشرح مسلم الثبوت 2 / 103 - 106، والعضد على مختصر ابن الحاجب 1 / 222،
وشروح تلخيص المفتاح وحواشيه 2 / 234 ط عيسى الحلبي، والتعريفات للجرجاني.
(7/6)
أَنْصَابٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْنْصَابُ: جَمْعٌ مُفْرَدُهُ نُصُبٌ، وَقِيل: النُّصُبُ جَمْعٌ
مُفْرَدُهُ نِصَابٌ، وَالنُّصُبُ: كُل مَا نُصِبَ فَجُعِل عَلَمًا. وَقِيل:
النُّصُبُ هِيَ الأَْصْنَامُ. وَقِيل: النُّصُبُ كُل مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ، قَال الْفَرَّاءُ: كَأَنَّ النُّصُبَ الآْلِهَةُ الَّتِي كَانَتْ
تُعْبَدُ مِنْ أَحْجَارٍ. وَالأَْنْصَابُ حِجَارَةٌ كَانَتْ حَوْل
الْكَعْبَةِ تُنْصَبُ فَيُهَل وَيُذْبَحُ عَلَيْهَا لِغَيْرِ اللَّهِ
تَعَالَى، وَرُوِيَ مِثْل ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ
جُرَيْجٍ، قَالُوا: إِنَّ النُّصُبَ أَحْجَارٌ مَنْصُوبَةٌ كَانُوا
يَعْبُدُونَهَا وَيُقَرِّبُونَ الذَّبَائِحَ لَهَا. (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الأَْصْنَامُ وَالأَْوْثَانُ:
2 - الأَْصْنَامُ: جَمْعُ صَنَمٍ، وَالصَّنَمُ: قِيل هُوَ الْوَثَنُ
الْمُتَّخَذُ مِنَ الْحِجَارَةِ أَوِ الْخَشَبِ، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيل الصَّنَمُ: جُثَّةٌ مِنْ فِضَّةٍ أَوْ نُحَاسٍ أَوْ
خَشَبٍ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا مُتَقَرِّبِينَ بِهَا إِلَى اللَّهِ
تَعَالَى.
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمفردات للراغب، وطلبة الطلبة ص 158 ط
دار الطباعة العامة، وأحكام القرآن للجصاص 2 / 380 ط المطبعة البهية،
وتفسير القرطبي 6 / 57 ط دار الكتب، وبدائع الصنائع 6 / 2776 ط الإمام،
والمهذب 2 / 287.
(7/6)
وَقِيل: الصَّنَمُ مَا كَانَ عَلَى صُورَةِ
حَيَوَانٍ. وَقِيل: كُل مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى يُقَال
لَهُ صَنَمٌ. (1) وَالْفَرْقُ بَيْنَ الأَْنْصَابِ وَالأَْصْنَامِ، أَنَّ
الأَْصْنَامَ مُصَوَّرَةٌ مَنْقُوشَةٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الأَْنْصَابُ
لأَِنَّهَا حِجَارَةٌ مَنْصُوبَةٌ. (2)
وَفِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ لِلْجَصَّاصِ: الْوَثَنُ كَالنُّصُبِ سَوَاءٌ،
وَيَدُل عَلَى أَنَّ الْوَثَنَ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى مَا لَيْسَ بِمُصَوَّرٍ،
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِعَدِيِّ بْنِ
حَاتِمٍ حِينَ جَاءَهُ وَفِي عُنُقِهِ صَلِيبٌ: " أَلْقِ هَذَا الْوَثَنَ
مِنْ عُنُقِكَ " (3) فَسَمَّى الصَّلِيبَ وَثَنًا، فَدَل ذَلِكَ عَلَى
أَنَّ النُّصُبَ وَالْوَثَنَ اسْمٌ لَمَا نُصِبَ لِلْعِبَادَةِ، وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ مُصَوَّرًا وَلاَ مَنْقُوشًا، فَعَلَى هَذَا الرَّأْيِ تَكُونُ
الأَْنْصَابُ كَالأَْوْثَانِ فِي أَنَّهَا غَيْرُ مُصَوَّرَةٍ. (4) وَعَلَى
الرَّأْيِ الأَْوَّل يَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الأَْنْصَابِ وَالأَْوْثَانِ
أَنَّ الأَْنْصَابَ غَيْرُ مُصَوَّرَةٍ (5) ، وَالأَْوْثَانَ مُصَوَّرَةٌ.
التَّمَاثِيل:
3 - التَّمَاثِيل: جَمْعُ تِمْثَالٍ، وَهُوَ الصُّورَةُ مِنْ حَجَرٍ أَوْ
غَيْرِهِ سَوَاءٌ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَمْ لَمْ يُعْبَدْ. (6)
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمفردات للراغب، والمهذب 2 / 82 ط دار
المعرفة
(2) أحكام القرآن للجصاص 2 / 380، والطبري 9 / 508 ط دار المعارف.
(3) حديث " ألق هذا الوثن من عنقك. . . " أخرجه الترمذي (التحفة 8 / 492 -
ط السلفية) وقال: هذا حديث غريب، وغطيف بن أعين - يعني الذي في إسناده -
ليس بمعروف في الحديث.
(4) أحكام القرآن للجصاص 2 / 380، والمفردات للراغب
(5) أحكام القرآن للجصاص 2 / 380، والمفردات للراغب
(6) لسان العرب والمعجم الوسيط والمصباح المنير.
(7/7)
أَنْصَابُ الْحَرَمِ:
4 - حَرَمُ مَكَّةَ هُوَ مَا أَحَاطَ بِهَا مِنْ جَوَانِبِهَا، جَعَل
اللَّهُ حُكْمَهُ حُكْمَهَا فِي الْحُرْمَةِ. وَلِلْحَرَمِ عَلاَمَاتٌ
مُبَيَّنَةٌ، وَهِيَ أَنْصَابٌ مَبْنِيَّةٌ فِي جَمِيعِ جَوَانِبِهِ، قِيل
أَوَّل مَنْ نَصَبَهَا إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ
بِدَلاَلَةِ جِبْرِيل لَهُ، فَقِيل نَصَبَهَا إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ
السَّلَامُ. ثُمَّ تَتَابَعَ ذَلِكَ حَتَّى نَصَبَهَا النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ، ثُمَّ الْخُلَفَاءُ مِنْ
بَعْدِهِ. (1) (ر: أَعْلاَمُ الْحَرَمِ) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَنْصَابِ الْكُفَّارِ: أَنَّ أَعْلاَمَ
الْحَرَمِ عَلاَمَاتٌ تُبَيِّنُ حُدُودَ الْحَرَمِ دُونَ تَقْدِيسٍ أَوْ
عِبَادَةٍ، أَمَّا أَنْصَابُ الْكُفَّارِ فَكَانَتْ تُقَدَّسُ
وَيُتَقَرَّبُ بِهَا لِغَيْرِ اللَّهِ وَيُذْبَحُ عَلَيْهَا.
حُكْمُ الذَّبْحِ عَلَى النُّصُبِ:
5 - الذَّبْحُ عَلَى النُّصُبِ كَانَ عَادَةً مِنْ عَادَاتِ أَهْل
الْجَاهِلِيَّةِ، يَنْصِبُونَ الأَْحْجَارَ وَيُقَدِّسُونَهَا
وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهَا بِالذَّبَائِحِ. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ
تَعَالَى أَنَّ هَذِهِ الذَّبَائِحَ لاَ تَحِل. قَال اللَّهُ تَعَالَى:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا
أُهِل لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ
وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَل السَّبْعُ إِلاَّ مَا
ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} . (2) قَال ابْنُ جُرَيْجٍ:
الْمَعْنَى: وَالنِّيَّةُ فِيهَا تَعْظِيمُ النُّصُبِ.
وَقَال ابْنُ زَيْدٍ: مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَمَا أُهِل بِهِ
لِغَيْرِ اللَّهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ.
__________
(1) شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام 1 / 54 ط عيسى الحلبي.
(2) سورة المائدة / 3.
(7/7)
وَقَال ابْنُ عَطِيَّةَ: مَا ذُبِحَ عَلَى
النُّصُبِ جُزْءٌ مِمَّا أُهِل بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَكِنْ خُصَّ
بِالذِّكْرِ بَعْدَ جِنْسِهِ لِشُهْرَةِ الأَْمْرِ.
حُكْمُ صُنْعِهَا وَبَيْعِهَا وَاقْتِنَائِهَا:
6 - الأَْنْصَابُ بِالْمَعْنَى الْعَامِّ الشَّامِل لِكُل مَا صُنِعَ
لِيُعْبَدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تُعْتَبَرُ رِجْسًا مِنْ عَمَل الشَّيْطَانِ
كَمَا وَرَدَ فِي الآْيَةِ الْكَرِيمَةِ: {إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ وَالأَْنْصَابُ وَالأَْزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَل
الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} . (1)
2 وَكُل مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَحْرُمُ صُنْعُهُ وَبَيْعُهُ
وَاقْتِنَاؤُهُ 2.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ صَنْعَةَ التَّصَاوِيرِ
الْمُجَسَّدَةِ لإِِنْسَانٍ أَوْ حَيَوَانٍ حَرَامٌ عَلَى فَاعِلِهَا،
سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنْ حَجَرٍ أَمْ خَشَبٍ أَمْ طِينٍ أَمْ غَيْرِ ذَلِكَ؛
لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: الَّذِينَ يَصْنَعُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ
يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُقَال لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ
(2) وَعَنْ مَسْرُوقٍ قَال: دَخَلْنَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بَيْتًا فِيهِ
تَمَاثِيل، فَقَال لِتِمْثَالٍ مِنْهَا: تِمْثَال مَنْ هَذَا؟ قَالُوا:
تِمْثَال مَرْيَمَ، قَال عَبْدُ اللَّهِ: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ (3) وَالأَْمْرُ بِعَمَلِهِ مُحَرَّمٌ
كَعَمَلِهِ، (4) بَل إِنَّ
__________
(1) سورة المائدة / 90.
(2) حديث: " إن الذين يصنعون هذه الصور. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 /
383 - ط السلفية) .
(3) حديث: " إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون " أخرجه البخاري
(الفتح 10 / 382 - ط السلفية) .
(4) المغني 7 / 7، ومنح الجليل 2 / 166 - 167، والمهذب 2 / 66، وبدائع
الصنائع 5 / 126 ط الجمالية، وقليوبي 3 / 297 ط عيسى الحلبي.
(7/8)
الأُْجْرَةَ عَلَى صُنْعِ مِثْل هَذِهِ
الأَْشْيَاءِ لاَ تَجُوزُ وَهَذَا فِي مُطْلَقِ التَّصَاوِيرِ
الْمُجَسَّدَةِ، فَإِذَا كَانَتْ مِمَّا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ
فَذَلِكَ أَشَدُّ تَحْرِيمًا.
فَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: لَوِ اسْتَأْجَرَ رَجُلاً يَنْحِتُ لَهُ
أَصْنَامًا لاَ شَيْءَ لَهُ، (1) وَالإِْجَارَةُ عَلَى الْمَعَاصِي لاَ
تَصِحُّ. (2)
وَيَقُول بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّهُ لاَ قَطْعَ فِي سَرِقَةِ صَنَمٍ
وَصَلِيبٍ؛ لأَِنَّ التَّوَصُّل إِلَى إِزَالَةِ الْمَعْصِيَةِ مَنْدُوبٌ
إِلَيْهِ، فَصَارَ شُبْهَةً كَإِرَاقَةِ الْخَمْرِ (3) (ر: سَرِقَةٌ) .
7 - وَكَمَا يَحْرُمُ صُنْعُ هَذِهِ الأَْشْيَاءِ يَحْرُمُ بَيْعُهَا
وَاقْتِنَاؤُهَا، فَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَْصْنَامِ (4)
، يَقُول ابْنُ الْقَيِّمِ: يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَحْرِيمُ
بَيْعِ كُل آلَةٍ مُتَّخَذَةٍ لِلشِّرْكِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَتْ،
وَمِنْ أَيِّ نَوْعٍ كَانَتْ. صَنَمًا أَوْ وَثَنًا أَوْ صَلِيبًا،
فَهَذِهِ كُلُّهَا يَجِبُ إِزَالَتُهَا وَإِعْدَامُهَا. وَبَيْعُهَا
ذَرِيعَةٌ إِلَى اقْتِنَائِهَا وَاتِّخَاذِهَا، وَلِذَلِكَ يَحْرُمُ
الْبَيْعُ (5)
__________
(1) الفتاوى الهندية 4 / 450 ط المكتبة الإسلامية - تركيا.
(2) ابن عابدين 5 / 35 ط ثالثة.
(3) بدائع الصنائع 5 / 126، ومنح الجليل 2 / 167، ومغني المحتاج 4 / 266،
وقليوبي 3 / 297، والمغني 7 / 6.
(4) حديث: " إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام "
أخرجه البخاري (الفتح 4 / 424 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1207 ط الحلبي) .
(5) زاد المعاد 4 / 245 ط مصطفى الحلبي.
(7/8)
بَل إِنَّ الْمَادَّةَ الَّتِي تُصْنَعُ
مِنْهَا هَذِهِ الأَْشْيَاءُ سَوَاءٌ كَانَتْ حَجَرًا أَمْ خَشَبًا أَمْ
غَيْرَ ذَلِكَ - وَإِنْ كَانَتْ مَالاً وَيُنْتَفَعُ بِهَا - لاَ يَجُوزُ
بَيْعُهَا لِمَنْ يَتَّخِذُهَا لِمِثْل ذَلِكَ، كَمَا لاَ يَصِحُّ عِنْدَ
جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ بَيْعُ الْعِنَبِ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا،
وَلاَ بَيْعُ أَدَوَاتِ الْقِمَارِ وَلاَ بَيْعُ دَارٍ لِتُعْمَل
كَنِيسَةً، وَلاَ بَيْعُ الْخَشَبَةِ لِمَنْ يَتَّخِذُهَا صَلِيبًا، وَلاَ
بَيْعُ النُّحَاسِ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ نَاقُوسًا، وَكَذَلِكَ كُل شَيْءٍ
عُلِمَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَصَدَ بِهِ أَمْرًا لاَ يَجُوزُ. (1)
وَفِي الْمَبْسُوطِ فِي بَابِ الأَْشْرِبَةِ أَوْرَدَ السَّرَخْسِيُّ
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَْنْصَابُ
وَالأَْزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَل الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} (2) ثُمَّ
قَال بَعْدَ ذَلِكَ: بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ كُل ذَلِكَ رِجْسٌ،
وَالرِّجْسُ مَا هُوَ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ وَأَنَّهُ مِنْ عَمَل
الشَّيْطَانِ.
حُكْمُ ضَمَانِ إِتْلاَفِ الأَْنْصَابِ وَنَحْوِهَا:
8 - يَقُول بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: مَنْ كَسَرَ صَلِيبًا أَوْ صَنَمًا لَمْ
يَضْمَنْهُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَحِل بَيْعُهُ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ
الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَالأَْصْنَامِ. (3) (ر: ضَمَانٌ)
.
__________
(1) الفتاوى الهندية 4 / 450، والحطاب 4 / 254، 258 ط النجاح ليبيا،
والخرشي 5 / 11 ط دار صادر، ومنح الجليل 2 / 469، والمهذب 1 / 19، 268،
381، ومغني المحتاج 2 / 12، والمغني 4 / 283، 5 / 301، وشرح منتهى الإرادات
2 / 155 ط دار الفكر.
(2) سورة المائدة / 90.
(3) ابن عابدين 5 / 133، والمغني 5 / 301، ومغني المحتاج 2 / 285. وحديث: "
إن الله ورسوله حرم بيع الخمر. . . " سبق تخريجه (ف / 7) .
(7/9)
إِنْصَاتٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْنْصَاتُ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا: السُّكُوتُ لِلاِسْتِمَاعِ. (1)
وَعَرَّفَهُ الْبَعْضُ بِالسُّكُوتِ. (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِسْتِمَاعُ:
2 - الاِسْتِمَاعُ قَصْدُ السَّمَاعِ بُغْيَةَ فَهْمِ الْمَسْمُوعِ أَوِ
الاِسْتِفَادَةِ مِنْهُ، فَالإِْنْصَاتُ سُكُوتٌ بِقَصْدِ الاِسْتِمَاعِ.
(3) وَفِي الْفُرُوقِ فِي اللُّغَةِ: أَنَّ الاِسْتِمَاعَ اسْتِفَادَةُ
الْمَسْمُوعِ بِالإِْصْغَاءِ إِلَيْهِ لِيَفْهَمَ، وَلِهَذَا لاَ يُقَال
إِنَّ اللَّهَ يَسْتَمِعُ. (4)
__________
(1) المغرب، والمصباح المنير، ولسان العرب، مادة: (نصت) . وأحكام القرآن
للجصاص 3 / 49 ط البهية، وتفسير الرازي 15 / 103 ط البهية، والنظم المستعذب
هامش المهذب 1 / 81 نشر دار المعرفة، والقليوبي 1 / 280 ط الحلبي.
(2) روح المعاني 9 / 150 ط المنيرية، والمجموع 4 / 523، ط السلفية،
والبدائع 1 / 264 ط أولى.
(3) مفردات الراغب (السين مع الميم) والمغني 9 / 173، ط الرياض، والمصباح
المنير، والفروق في اللغة ص 81 ط دار الآفاق، والمجموع 4 / 523.
(4) الفروق في اللغة ص 81.
(7/9)
ب - السَّمَاعُ:
3 - السَّمَاعُ مَصْدَرُ (سَمِعَ) وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي السَّمَاعِ قَصْدُ
الْمَسْمُوعِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الإِْنْصَاتِ قَصْدُهُ. (1)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
4 - يَتَنَاوَل الْفُقَهَاءُ الإِْنْصَاتَ فِي عِدَّةِ مَوَاطِنَ مِنْهَا:
أ - الإِْنْصَاتُ لِخُطْبَةِ الْجُمُعَةِ، فَيَرَى الْجُمْهُورُ وُجُوبَ
الإِْنْصَاتِ عَلَى مَنْ حَضَرَ الْجُمُعَةَ، وَفِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ
(2) وَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِمَاعٌ) وَالإِْنْصَاتُ فِي خُطْبَةِ
الْعِيدَيْنِ، حُكْمُهُ حُكْمُ الإِْنْصَاتِ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ،
صَرَّحَ بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَيُنْدَبُ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ. (3)
أَمَّا الإِْنْصَاتُ فِي الصَّلاَةِ عِنْدَ جَهْرِ الإِْمَامِ
بِالْقِرَاءَةِ، وَكَذَلِكَ الإِْنْصَاتُ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ
الْكَرِيمِ خَارِجَهَا فَهُوَ مَطْلُوبٌ شَرْعًا لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:
{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} (4)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِمَاعٍ) .
__________
(1) المرجع السابق.
(2) المجموع 4 / 523، 525 ط المنيرية، وابن عابدين 1 / 366، والمغني 2 /
320 - 325.
(3) ابن عابدين 1 / 366، وشرح الروض 1 / 280، وجواهر الإكليل 1 / 50، 103
نشر مكة المكرمة، والحطاب 2 / 196 ط ليبيا، والمغني 2 / 387، وكشاف القناع
1 / 343 ط النصر الحديثة، وأحكام القرآن للجصاص 3 / 51.
(4) سورة الأعراف / 204، وانظر عابدين 1 / 366، 367، والآداب الشرعية 2 /
328، والفخر الرازي 15 / 102.
(7/10)
انْضِبَاطٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - لَمْ يَرِدِ الاِنْضِبَاطُ فِيمَا بَيْنَ أَيْدِينَا مِنْ مَعَاجِمِ
اللُّغَةِ الْقَدِيمَةِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ فِعْلُهُ فِي الْمُعْجَمِ
الْوَسِيطِ حَيْثُ قَال: (انْضَبَطَ مُطَاوِعُ ضَبَطَ) . وَمَعْنَى
الضَّبْطِ: الْحِفْظُ بِالْحَزْمِ. وَالضَّابِطَةُ: الْقَاعِدَةُ.
وَالْجَمْعُ ضَوَابِطُ. (1)
وَالاِنْضِبَاطُ فِي الاِصْطِلاَحِ: الاِنْدِرَاجُ وَالاِنْتِظَامُ تَحْتَ
ضَابِطٍ أَيْ حُكْمٍ كُلِّيٍّ (2) وَبِهِ يَكُونُ الشَّيْءُ مَعْلُومًا.
(3)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - ذَهَبَ الأُْصُولِيُّونَ إِلَى أَنَّ مِنْ شَرَائِطِ الْعِلَّةِ أَنْ
تَكُونَ وَصْفًا ضَابِطًا لِلْحِكْمَةِ، لاَ حِكْمَةً مُجَرَّدَةً لِعَدَمِ
انْضِبَاطِهَا. وَذَلِكَ كَالْمَشَقَّةِ، فَإِنَّهُ مِنَ الْوَاضِحِ
الْبَيِّنِ أَنَّهُ لَمْ يُعْتَبَرْ كُل قَدْرٍ مِنْهَا، بَل قَدْرٌ
مُعَيَّنٌ، وَهُوَ غَيْرُ مَضْبُوطٍ فِي ذَاتِهِ، فَضُبِطَ بِمَظِنَّتِهِ
وَهِيَ السَّفَرُ. وَلَوْ وُجِدَتِ الْحِكْمَةُ مُنْضَبِطَةً جَازَ رَبْطُ
الْحُكْمِ بِهَا لِعَدَمِ الْمَانِعِ، بَل يَجِبُ؛ لأَِنَّهَا الْمُنَاسِبُ
الْمُؤَثِّرُ فِي الْحَقِيقَةِ. وَقِيل لاَ يَجُوزُ رَبْطُ الْحُكْمِ بِهَا
وَلَوْ مَعَ انْضِبَاطِهَا. (4) وَتَمَامُ الْكَلاَمِ فِيهِ مَحَلُّهُ
الْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ.
__________
(1) التاج (ضبط) .
(2) المرجع للعلايلي.
(3) نهاية المحتاج 4 / 196.
(4) فواتح الرحموت 2 / 274
(7/10)
وَإِذْ قَدْ كَانَ الأَْمْرُ عَلَى مَا
بَيَّنَّا فَقَدِ اعْتُرِضَ عَلَى الْقَائِلِينَ بِالْمُنَاسَبَةِ بِأَنَّ
الْمُنَاسِبَ وَصْفٌ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ مِثْل الْحَرَجِ وَالزَّجْرِ
وَنَحْوِهِمَا، فَإِنَّهَا مُشَكِّكَاتٌ، وَلاَ يُعْتَبَرُ كُل قَدْرٍ مِنْ
آحَادِهَا. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْوَصْفَ الْمُنَاسِبَ مُنْضَبِطٌ،
وَطُرُقُ انْضِبَاطِهِ ثَلاَثَةٌ:
الأُْولَى: أَنْ يَنْضَبِطَ بِنَفْسِهِ بِأَنْ يَعْتَبِرَ مُطْلَقَهُ
كَالإِْيمَانِ لَوْ قِيل بِتَشْكِيكِ الْيَقِينِ، فَالْمُعْتَبَرُ مُطْلَقُ
الْيَقِينِ فِي أَيِّ فَرْدٍ تَحَقَّقَ مِنْ أَفْرَادِهِ الْمُخْتَلِفَةِ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَنْضَبِطَ فِي الْعُرْفِ كَالْمَنْفَعَةِ
وَالْمَضَرَّةِ، فَإِنَّهُمَا وَصْفَانِ مَضْبُوطَانِ عُرْفًا.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَنْضَبِطَ فِي الشَّرْعِ بِالْمَظِنَّةِ كَالسَّفَرِ،
فَإِنَّ مَرْتَبَةَ الْحَرَجِ إِنَّمَا تَتَعَيَّنُ بِهِ، وَكَالْحَدِّ
فَإِنَّهُ بِهِ يَتَحَدَّدُ مِقْدَارُ الزَّجْرِ. (1)
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الاِنْضِبَاطِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:
أَوَّلاً: انْضِبَاطُ الْمُسْلَمِ فِيهِ:
3 - يَصِحُّ السَّلَمُ فِي الْمُخْتَلَطِ بِسَبَبِ الصَّنْعَةِ، إِذَا
انْضَبَطَتْ عِنْدَ أَهْل تِلْكَ الصَّنْعَةِ الأَْجْزَاءُ الْمَقْصُودَةُ
الَّتِي صُنِعَ مِنْهَا الْمُسْلَمُ فِيهِ، وَذَلِكَ كَالْعَتَّابِيِّ،
وَهُوَ مَا رُكِّبَ مِنْ قُطْنٍ وَحَرِيرٍ، وَكَالْخَزِّ وَهُوَ مَا
رُكِّبَ مِنْ حَرِيرٍ وَوَبَرٍ وَصُوفٍ، فَلاَ بُدَّ لِكُلٍّ مِنَ
الْمُتَعَاقِدَيْنِ مَعْرِفَةُ وَزْنِ كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الأَْجْزَاءِ؛
لأَِنَّ الْقِيَمَ وَالأَْغْرَاضَ تَتَفَاوَتُ بِذَلِكَ تَفَاوُتًا
ظَاهِرًا، (2) فَإِذَا لَمْ تُضْبَطْ هَذِهِ الأُْمُورُ أَدَّى ذَلِكَ
إِلَى النِّزَاعِ، وَمِنْ بَابِ أَوْلَى إِذَا كَانَتْ بِحَيْثُ لاَ
يُمْكِنُ ضَبْطُهَا.
__________
(1) فواتح الرحموت 2 / 274
(2) نهاية المحتاج 4 / 195، 196.
(7/11)
ثَانِيًا: الاِنْضِبَاطُ فِي الْقِصَاصِ:
4 - يُشْتَرَطُ فِي قِصَاصِ مَا دُونَ النَّفْسِ أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ
مُنْضَبِطَةً كَالْقَطْعِ مِنَ الْمِفْصَل، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ
انْضِبَاطُهُمَا كَالْجَوَائِفِ فَلاَ يَجِبُ، بِخِلاَفِ قِصَاصِ النَّفْسِ
فَلاَ يُشْتَرَطُ الاِنْضِبَاطُ فِي جِرَاحَتِهِ الَّتِي سَرَتْ إِلَيْهَا.
(1)
ثَالِثًا: الاِنْضِبَاطُ فِي الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ:
5 - عَلَى الْمُدَّعِي إِذَا ادَّعَى عَيْنًا تَنْضَبِطُ أَنْ يَصِفَهَا
بِصِفَةِ السَّلَمِ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ
الْعَيْنُ مِثْلِيَّةً كَالْحُبُوبِ، أَوْ قِيَمِيَّةً كَالْحَيَوَانِ،
عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي بَابِ السَّلَمِ. (2)
مِنْ مَوَاطِنِ الْبَحْثِ:
6 - ذَكَرَ الأُْصُولِيُّونَ الاِنْضِبَاطَ فِي كَلاَمِهِمْ عَلَى عِلَّةِ
الْقِيَاسِ، وَفِي آدَابِ الْمُنَاظَرَةِ ضَمْنَ الأَْسْئِلَةِ
الْوَارِدَةِ عَلَى الْقِيَاسِ. وَذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي كَلاَمِهِمْ
عَلَى شُرُوطِ الْمُسْلَمِ وَالْقِصَاصِ وَالدَّعْوَى. (3)
إِنْظَارٌ
انْظُرْ: إِمْهَالٌ
__________
(1) القليوبي 4 / 112.
(2) القليوبي 4 / 336
(3) المراجع السابقة.
(7/11)
أَنْعَامٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْنْعَامُ لُغَةً: جَمْعٌ مُفْرَدُهُ نَعَمٌ، وَهِيَ ذَوَاتُ
الْخُفِّ وَالظِّلْفِ، وَهِيَ الإِْبِل، وَالْبَقَرُ، وَالْغَنَمُ،
وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ عَلَى الإِْبِل. وَالنَّعَمُ مُذَكَّرٌ، فَيُقَال:
هَذَا نَعَمٌ وَارِدٌ. وَالأَْنْعَامُ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ، وَنَقَل
النَّوَوِيُّ عَنِ الْوَاحِدِيِّ: اتِّفَاقَ أَهْل اللُّغَةِ عَلَى
إِطْلاَقِهِ عَلَى الإِْبِل، وَالْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ. وَقِيل: تُطْلَقُ
الأَْنْعَامُ عَلَى هَذِهِ الثَّلاَثَةِ، فَإِذَا انْفَرَدَتِ الإِْبِل
فَهِيَ نَعَمٌ، وَإِنِ انْفَرَدَتِ الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ لَمْ تُسَمَّ
نَعَمًا. (1)
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ الأَْنْعَامُ هِيَ الإِْبِل، وَالْبَقَرُ،
وَالْغَنَمُ (2) سُمِّيَتْ نَعَمًا لِكَثْرَةِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى
فِيهَا عَلَى خَلْقِهِ بِالنُّمُوِّ، وَالْوِلاَدَةِ، وَاللَّبَنِ،
وَالصُّوفِ، وَالْوَبَرِ، وَالشَّعْرِ، وَعُمُومِ الاِنْتِفَاعِ. (3)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالأَْنْعَامِ، وَمَوَاطِنِ الْبَحْثِ:
2 - تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الأَْنْعَامِ إِنْ بَلَغَتْ نِصَابًا
بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. (4)
__________
(1) المصباح المنير، والصحاح، مادة: (نعم) ، والقليوبي وعميرة 2 / 3 ط عيسى
الحلبي
(2) القليوبي 2 / 3، 3 / 203.
(3) جواهر الإكليل 1 / 118، نشر دار الباز.
(4) ابن عابدين 2 / 17، 19 ط بولاق الأولى، وجواهر الإكليل 1 / 18،
والقليوبي وعميرة على المحلى 2 / 3، 8، 9، والمغني 2 / 577، 591، 597 ط
الرياض
(7/12)
رَوَى أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَا مِنْ
صَاحِبِ إِبِلٍ وَلاَ بَقَرٍ وَلاَ غَنَمٍ لاَ يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إِلاَّ
جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا كَانَتْ وَأَسْمَنَ تَنْطَحُهُ
بِقُرُونِهَا وَتَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا، كُلَّمَا نَفَذَتْ أُخْرَاهَا
عَادَتْ عَلَيْهِ أُولاَهَا حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ. (1)
وَتَفْصِيل النِّصَابِ فِي الأَْنْعَامِ بِأَنْوَاعِهَا الثَّلاَثَةِ
وَالْوَاجِبِ فِيهَا يُنْظَرُ فِي (الزَّكَاةُ) .
وَلاَ يُشْرَعُ الْهَدْيُ وَالأُْضْحِيَّةُ وَنَحْوُهُمَا مِنَ
الذَّبَائِحِ الْمُسَمَّاةِ الْمَطْلُوبَةِ شَرْعًا كَالْعَقِيقَةِ إِلاَّ
مِنَ الأَْنْعَامِ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ
فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ
الأَْنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} . (2)
وَالأَْفْضَل فِي الْهَدْيِ الإِْبِل ثُمَّ الْبَقَرُ ثُمَّ الْغَنَمُ؛ (3)
لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنِ اغْتَسَل يَوْمَ الْجُمُعَةِ
غُسْل الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ
رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ
رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقَرْنَ،
وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً،
وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً
(4)
__________
(1) حديث أبي ذر: " ما من صاحب إبل. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 323 ط
السلفية) وأحمد (5 / 158 - 159 ط الميمنية) واللفظ له. وانظر ابن عابدين 2
/ 19، المحلى بحاشيتي القليوبي، وعميرة 2 / 8، وجواهر الإكليل 1 / 119،
والمغني 2 / 591.
(2) سورة الحج / 28
(3) المغني مع الشرح الكبير 3 / 574 - 576 ط المنار الأولى.
(4) حديث: " من اغتسل يوم الجمعة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 366 ط
السلفية) ومسلم (2 / 582 ط الحلبي)
(7/12)
وَلِلأَْنْعَامِ الَّتِي تُجْعَل هَدْيًا
أَوْ عَقِيقَةً أَوْ أُضْحِيَّةً أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ تُنْظَرُ فِي
مُصْطَلَحَاتِهَا.
وَيَحِل ذَبْحُ الأَْنْعَامِ وَأَكْلُهَا فِي الْحِل وَالْحَرَمِ،
وَحَالَةِ الإِْحْرَامِ بِخِلاَفِ الصَّيْدِ مِنَ الْحَيَوَانِ
الْوَحْشِيِّ، وَبِخِلاَفِ مَا حَرُمَ مِنْهَا مِنَ الْمَيْتَةِ
وَنَحْوِهَا مِمَّا تَفْصِيلُهُ فِي (أَطْعِمَةٍ) ؛ لِقَوْل اللَّهِ
سُبْحَانَهُ: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَْنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى
عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (1)
وَالأَْفْضَل فِي تَذْكِيَةِ الأَْنْعَامِ: النَّحْرُ فِي الإِْبِل،
وَالذَّبْحُ فِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ. وَبِالإِْضَافَةِ إِلَى مَا
تَقَدَّمَ يَتَكَلَّمُ الْفُقَهَاءُ عَنْ وَسْمِ إِبِل الصَّدَقَةِ عِنْدَ
كَلاَمِهِمْ فِي قَسْمِ الصَّدَقَاتِ. (2) وَفِي خِيَارِ الرَّدِّ
بِالتَّصْرِيَةِ (3) عِنْدَ مَنْ يَقُول بِهِ، نَرَى أَنَّ الْبَعْضَ
يَجْعَل الْخِيَارَ خَاصًّا بِالنَّعَمِ دُونَ غَيْرِهَا، وَالْبَعْضَ
يُخَيِّرُ فِي رَدِّ الْمُصَرَّاةِ مِنْ نَعَمٍ وَغَيْرِهِ، وَتَفْصِيل
ذَلِكَ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ. (4)
انْعِزَالٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِنْعِزَال: انْفِعَالٌ مِنَ الْعَزْل. وَالْعَزْل: هُوَ
__________
(1) سورة المائدة / 1
(2) القرطبي أول سورة المائدة
(3) التصرية أن يترك الشاة فلا يحلبها أياما حتى يجتمع اللبن في ضرعها
(4) القليوبي 2 / 210
(7/13)
فَصْل الشَّيْءِ عَنْ غَيْرِهِ: تَقُول:
عَزَلْتُ الشَّيْءَ عَنِ الشَّيْءِ إِذَا نَحَّيْتُهُ عَنْهُ، وَمِنْهُ
عَزَلْتُ النَّائِبَ أَوِ الْوَكِيل: إِذَا أَخْرَجْتُهُ عَمَّا كَانَ لَهُ
مِنَ الْحُكْمِ. (1)
وَيُفْهَمُ مِنَ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ
عِنْدَهُمْ: خُرُوجُ ذِي الْوِلاَيَةِ عَمَّا كَانَ لَهُ مِنْ حَقِّ
التَّصَرُّفِ. وَالاِنْعِزَال قَدْ يَكُونُ بِالْعَزْل، أَوْ يَكُونُ
حُكْمِيًّا، كَانْعِزَال الْمُرْتَدِّ وَالْمَجْنُونِ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - الأَْصْل أَنَّ مَنْ تَوَلَّى عَمَلاً بِأَهْلِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَوْ
شُرُوطٍ خَاصَّةٍ، ثُمَّ فَقَدَ هَذِهِ الأَْهْلِيَّةَ، أَوْ شَرْطًا مِنَ
الشُّرُوطِ الأَْسَاسِيَّةِ (لاَ شُرُوطِ الأَْوْلَوِيَّةِ) فَإِنَّهُ
يَنْعَزِل حُكْمًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى عَزْلٍ، هَذَا فِي
الْجُمْلَةِ.
وَفِي تَطْبِيقَاتِ هَذَا الأَْصْل تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي كُل
مُصْطَلَحٍ ذِي صِلَةٍ، كَالإِْمَامَةِ، وَالْقَضَاءِ، وَالْوَقْفِ
(النَّاظِرِ) وَالْوِلاَيَةِ عَلَى الْيَتِيمِ وَنَحْوِهِ.
هَذَا، وَهُنَاكَ فَرْقٌ بَيْنَ الاِنْعِزَال وَاسْتِحْقَاقِ الْعَزْل،
فَإِنَّ الاِنْعِزَال قَدْ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى الْعَزْل، وَلاَ يَنْفُذُ
شَيْءٌ مِنْ تَصَرُّفَاتِ مَنِ انْعَزَل. أَمَّا اسْتِحْقَاقُ الْعَزْل
فَيَكُونُ بِأَنْ يَرْتَكِبَ ذُو الْوِلاَيَةِ أَمْرًا يُوجِبُ عَلَى
وَلِيِّ الأَْمْرِ، أَوْ عَلَى الأَْصِيل أَنْ يُعْزَل، كَفِسْقِ
الْقَاضِي، أَوْ حُكْمِهِ بِالْهَوَى، أَوْ أَخْذِهِ الرِّشْوَةَ (3) .
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير (عزل)
(2) الوجيز للغزالي 238، 2 / 239
(3) ابن عابدين 4 / 304، 342، جامع الفصولين 1 / 17 وبدائع الصنائع 2 /
242، والشرح الصغير 4 / 191، وحاشية الدسوقي 3 / 396، وقليوبي مع عميرة 2 /
299، 310، 343 - 348، 3 / 178، والمغني 5 / 601، 6 / 141، 9 / 103،
والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 4 - 12
(7/13)
انْعِقَادٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِنْعِقَادُ فِي اللُّغَةِ: ضِدُّ الاِنْحِلاَل، وَمِنْهُ انْعِقَادُ
الْحَبْل، وَمِنْ مَعَانِيهِ أَيْضًا الْوُجُوبُ، وَالاِرْتِبَاطُ،
وَالتَّأَكُّدُ. (1)
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ يَخْتَلِفُ الْمُرَادُ مِنْهُ بِاخْتِلاَفِ
الْمَوْضُوعِ، فَانْعِقَادُ الْعِبَادَةِ مِنْ صَلاَةٍ، وَصَوْمٍ:
ابْتِدَاؤُهَا صَحِيحَةً (2) ، وَانْعِقَادُ الْوَلَدِ حَمْل الأُْمِّ
بِهِ، (3) وَانْعِقَادُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى صِيغَةٍ مِنَ الْعُقُودِ:
هُوَ ارْتِبَاطُ الإِْيجَابِ بِالْقَبُول عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَبَرِ
شَرْعًا. (4)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الصِّحَّةُ:
2 - يُعَبِّرُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الصِّحَّةِ بِالاِنْعِقَادِ،
فَقَوْلُهُمْ: تَنْعَقِدُ الصَّلاَةُ بِقِرَاءَةِ الآْيَةِ مَعْنَاهُ:
تَصِحُّ بِهَا، إِلاَّ أَنَّ النَّاظِرَ فِي اللَّفْظَيْنِ يَجِدُ أَنَّ
هُنَاكَ فَرْقًا بَيْنَ الصِّحَّةِ وَالاِنْعِقَادِ، فَالصِّحَّةُ لاَ
تَحْصُل إِلاَّ بَعْدَ تَمَامِ
__________
(1) لسان العرب المحيط، والمصباح، وتهذيب الأسماء واللغات مادة (عقد)
(2) القليوبي 1 / 141، 2 / 59 ط مصطفى الحلبي
(3) القليوبي 4 / 177
(4) الكفاية على الهداية مع شرح فتح القدير 5 / 456 نشر دار إحياء التراث
العربي.
(7/14)
الأَْرْكَانِ وَالشُّرُوطِ، أَمَّا
الاِنْعِقَادُ فَإِنَّهُ قَدْ يَحْصُل وَإِنْ لَمْ تَتِمَّ الشُّرُوطُ. (1)
مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الاِنْعِقَادُ:
3 - انْعِقَادُ الْعُقُودِ يَكُونُ تَارَةً بِالْقَوْل، وَتَارَةً
بِالْفِعْل، فَالْقَوْل كَالاِرْتِبَاطِ الْحَاصِل بِسَبَبِ صِيَغِ
الْعُقُودِ الْمُعْتَبَرَةِ شَرْعًا كَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهِ. (2)
وَالْفِعْل كَالْمُعَاطَاةِ عِنْدَ أَغْلَبِ الْفُقَهَاءِ، وَتَفْصِيل
ذَلِكَ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي صِيَغِ الْعُقُودِ. وَالاِنْعِقَادُ
قَدْ يَقَعُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ، وَقَدْ يُشْتَرَطُ فِيهِ
اللَّفْظُ الصَّرِيحُ.
فَالأَْوَّل نَحْوُ كُل تَصَرُّفٍ يَسْتَقِل بِهِ الشَّخْصُ كَالطَّلاَقِ،
وَالْعَتَاقِ وَالإِْبْرَاءِ، (3) فَإِنَّ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ تَنْعَقِدُ
بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ، وَكَذَا مَا لاَ يَسْتَقِل بِهِ الشَّخْصُ
مِنَ الْعُقُودِ، وَكَانَ مِمَّا يَقْبَل التَّعْلِيقَ كَالْمُكَاتَبَةِ
وَالْخُلْعِ، فَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ لاَ يَقْبَل التَّعْلِيقَ فَفِي
انْعِقَادِهِ خِلاَفٌ، وَيُفَصِّل الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي صِيَغِ
الْعُقُودِ. (4)
__________
(1) المستصفى 1 / 123 ط بولاق الأولى، وفواتح الرحموت بهامشه 1 / 121
(2) ابن عابدين 4 / 5 وما بعدها ط بولاق، وجواهر الإكليل 2 / 2 ط مكة
المكرمة، والمجموع 9 / 162، 163 نشر المكتبة السلفية، والمغني مع الشرح
الكبير 7 / 431 ط المنار الأولى
(3) المراجع السابقة
(4) المجموع 9 / 166، 167، والروضة 3 / 338 ط المكتب الإسلامي، والأشباه
والنظائر للسيوطي 239 ط التجارية، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 11 / 207،
والمغني 9 / 33، 331 ط الرياض، وجواهر الإكليل 2 / 298
(7/14)
وَالْبَاطِل مِنْ عِبَادَةٍ وَعَقْدٍ
وَغَيْرِهِمَا غَيْرُ مُنْعَقِدٍ اتِّفَاقًا، وَأَمَّا الْمُعَامَلاَتُ
فَفِي انْعِقَادِ فَاسِدِهَا خِلاَفٌ، وَأَغْلَبُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ
الْعَقْدَ الْفَاسِدَ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ كَذَلِكَ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
الْعَقْدُ الْفَاسِدُ يَنْعَقِدُ غَيْرَ صَحِيحٍ، وَالاِنْعِقَادُ
حِينَئِذٍ بِمَشْرُوعِيَّةِ الأَْصْل دُونَ الْوَصْفِ. (1)
وَمِنَ التَّصَرُّفَاتِ مَا يَنْعَقِدُ مَعَ الْهَزْل كَالنِّكَاحِ،
وَالطَّلاَقِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
ثَلاَثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلاَقُ،
وَالرَّجْعَةُ، (2) وَمِنْهَا مَا لاَ يَنْعَقِدُ مَعَهُ كَالْبَيْعِ
وَنَحْوِهِ. (3)
وَأَغْلَبُ الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ تَنْعَقِدُ بِإِشَارَةِ الأَْخْرَسِ،
كَالْبَيْعِ، وَالنِّكَاحِ وَالطَّلاَقِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. (4)
أَمَّا إِشَارَةُ الْقَادِرِ عَلَى النُّطْقِ فَلاَ يَتِمُّ بِهَا
الاِنْعِقَادُ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ إِذْ لاَ
يَعْدِل عَنِ الْعِبَارَةِ إِلَى الإِْشَارَةِ إِلاَّ لِعُذْرٍ. (5)
__________
(1) ابن عابدين 4 / 7
(2) حديث: " ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة " أخرجه
الترمذي التحفة (4 / 362 ط السلفية) وحسنه ابن حجر في التلخيص 3 / 210 ط
شركة الطباعة الفنية المتحدة.
(3) المرجع السابق، والمغني مع الشرح الكبير 7 / 431 ط المنار الأولى
(4) نتائج الأفكار تكملة فتح القدير 8 / 511 ط بولاق الأولى، وابن عابدين 4
/ 9، 5 / 470، وجواهر الإكليل 1 / 348، والحطاب 4 / 258 ط ليبيا، ونهاية
المحتاج 6 / 426 ط مصطفى الحلبي، والكافي لابن قدامة 2 / 802 ط المكتب
الإسلامي، والمغني مع الشرح 7 / 430.
(5) نهاية المحتاج 6 / 426، والكافي لابن قدامة 2 / 802، وابن عابدين 4 /
9، وأشباه ابن نجيم ص 343، 344 مكتبة الهند
(7/15)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ إِشَارَةَ
غَيْرِ الأَْخْرَسِ يُعْتَدُّ بِهَا فِي سَائِرِ الْعُقُودِ. (1)
وَانْعِقَادُ الإِْمَامَةِ الْكُبْرَى يَكُونُ بِاخْتِيَارِ أَهْل الْحَل
وَالْعَقْدِ، غَيْرَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ يَتَفَاوَتُونَ فِي تَحْدِيدِ
أَقَل عَدَدٍ تَنْعَقِدُ بِهِ الْبَيْعَةُ مِنْ أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ،
وَمَوْطِنُ ذَلِكَ مُصْطَلَحُ (الإِْمَامَةِ الْكُبْرَى) . (2)
أَوْ يَكُونُ بِعَهْدٍ مِنَ الإِْمَامِ لِمَنْ بَعْدَهُ مَعَ
الْمُبَايَعَةِ مِنْ أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ، وَقَدْ أَجْمَعَ
الْمُسْلِمُونَ عَلَى صِحَّةِ الْعَهْدِ بِالإِْمَامَةِ لأَِمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَهِدَ بِهَا إِلَى
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ عُمَرَ عَهِدَ بِهَا إِلَى أَهْل الشُّورَى، فَقَبِلَتِ
الْجَمَاعَةُ دُخُولَهُمْ فِيهَا، وَهُمْ أَعْيَانُ الْعَصْرِ، اعْتِقَادًا
لِصِحَّةِ الْعَهْدِ بِهَا، فَصَارَ الْعَهْدُ بِهَا إِجْمَاعًا فِي
انْعِقَادِ الإِْمَامَةِ. (3)
أَمَّا انْعِقَادُ الإِْمَامَةِ بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلاَ اخْتِيَارٍ
فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهَا لاَ تَنْعَقِدُ، وَيَلْزَمُ أَهْل
الاِخْتِيَارِ عَقْدُ الإِْمَامَةِ لَهُ، لَكِنْ ذَهَبَ بَعْضُ
الْفُقَهَاءِ إِلَى انْعِقَادِهَا بِالتَّغَلُّبِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي
(الإِْمَامَةِ الْكُبْرَى) . (4)
وَتَنْعَقِدُ الْوِلاَيَاتُ مَعَ الْحُضُورِ بِاللَّفْظِ مُشَافَهَةً،
وَمَعَ الْغَيْبَةِ مُكَاتَبَةً، وَمُرَاسَلَةً، وَكَيْفِيَّةُ انْعِقَادِ
كُل وِلاَيَةٍ تُذْكَرُ فِي مَوْطِنِهَا، وَيَتَكَلَّمُ الْفُقَهَاءُ عَنْ
ذَلِكَ
__________
(1) الحطاب 4 / 229
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 6 ط مصطفى الحلبي.
(3) الأحكام السلطانية للماوردي ص 10.
(4) المرجع السابق ص 8، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 7 ط مصطفى الحلبي.
(7/15)
غَالِبًا فِي كُتُبِ السِّيَاسَةِ
الشَّرْعِيَّةِ وَالأَْحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ. (1)
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
4 - يَتَكَلَّمُ الْفُقَهَاءُ فِي الأَْيْمَانِ عَنِ انْعِقَادِ
الْيَمِينِ، وَمَوَاطِنُ الاِنْعِقَادِ يَصْعُبُ سَرْدُهَا لِذَا يَرْجِعُ
إِلَى كُل عِبَادَةٍ أَوْ تَصَرُّفٍ فِي مَوْطِنِهِ لِبَيَانِ
الاِنْعِقَادِ مِنْ عَدَمِهِ.
انْعِكَاسٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِنْعِكَاسُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ انْعَكَسَ مُطَاوِعُ عَكَسَ.
(2) وَالْعَكْسُ: رَدُّ أَوَّل الشَّيْءِ عَلَى آخِرِهِ. يُقَال: عَكَسَهُ
يَعْكِسُهُ عَكْسًا مِنْ بَابِ ضَرَبَ. (3) وَمِنْهُ قِيَاسُ الْعَكْسِ
عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ وَهُوَ: إِثْبَاتُ عَكْسِ حُكْمِ شَيْءٍ
لِمِثْلِهِ لِتَعَاكُسِهِمَا فِي الْعِلَّةِ، كَمَا فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ:
أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَال:
أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟
(4)
وَالاِنْعِكَاسُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ: انْتِفَاءُ الْحُكْمِ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 69، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 48.
(2) تاج العروس (عكس)
(3) المصباح (عكس)
(4) حديث: " أيأتي أحدنا شهوته. . . " أخرجه مسلم 2 / 698 ط الحلبي
(7/16)
بِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ كَانْتِفَاءِ
حُرْمَةِ الْخَمْرِ بِزَوَال إِسْكَارِهَا. (1)
وَضِدُّ الاِنْعِكَاسِ الاِطِّرَادُ، كَمَا أَنَّ ضِدَّ الْعَكْسِ
الطَّرْدُ. (ر: اطِّرَادٌ) .
2 - وَذَهَبَ جُمْهُورُ الأُْصُولِيِّينَ إِلَى أَنَّ الاِنْعِكَاسَ مَعَ
الاِطِّرَادِ مَسْلَكٌ مِنَ الْمَسَالِكِ الَّتِي بِهَا تُعْرَفُ
الْعِلَّةُ. وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ الْحَنَفِيَّةُ وَكَثِيرٌ مِنَ
الأَْشْعَرِيَّةِ كَالْغَزَالِيِّ وَالآْمِدِيِّ مِنْ مَسَالِكِ
الْعِلَّةِ. (2)
كَمَا ذَهَبَ بَعْضُ الأُْصُولِيِّينَ إِلَى أَنَّ الاِنْعِكَاسَ مِنْ
شَرَائِطِ الْعِلَّةِ، وَالآْخَرُونَ لَمْ يَشْتَرِطُوا فِيهَا هَذَا
الشَّرْطَ. (3)
وَتَمَامُ الْكَلاَمِ عَلَى ذَلِكَ مَوْطِنُهُ الْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ.
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - ذَكَرَ الأُْصُولِيُّونَ الاِنْعِكَاسَ فِي مَبَاحِثِ الْعِلَّةِ مِنَ
الْقِيَاسِ، فِي شُرُوطِهَا، وَفِي مَسَالِكِهَا، بِاعْتِبَارِهِ أَحَدَ
شُرُوطِهَا وَمَسَالِكِهَا عَلَى الْخِلاَفِ الَّذِي تَقَدَّمَ كَمَا
ذَكَرُوهُ فِي مَبْحَثِ التَّرْجِيحَاتِ الْقِيَاسِيَّةِ بِاعْتِبَارِهِ
أَحَدَ طُرُقِ التَّرْجِيحِ بَيْنَ الأَْقْيِسَةِ، (4) وَفِي الْكَلاَمِ
عَلَى الْحِكْمَةِ وَالْمَظِنَّةِ، وَأَنَّهُ لاَ يَجِبُ فِي مَظِنَّةِ
الْحِكْمَةِ الطَّرْدُ وَالْعَكْسُ، (5) وَفِي الْكَلاَمِ عَلَى قَوَادِحِ
الْعِلَّةِ. (6)
__________
(1) كشاف اصطلاحات الفنون (طرد) ، والمستصفى 2 / 307، 308، وفواتح الرحموت
2 / 282
(2) مسلم الثبوت 2 / 302، وإرشاد الفحول ص 220 ط م الحلبي.
(3) فواتح الرحموت 2 / 282، وشرح جمع الجوامع 2 / 343 ط م الحلبي.
(4) فواتح الرحموت 2 / 328
(5) فواتح الرحموت 2 / 274
(6) شرح جمع الجوامع 2 / 305 ط م الحلبي
(7/16)
أَنْفٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْنْفُ: الْمَنْخِرُ وَهُوَ مَعْرُوفٌ، وَالْجَمْعُ آنَافٌ
وَأُنُوفٌ (1)
مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الأَْحْكَامِ:
تَخْتَلِفُ الأَْحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالأَْنْفِ بِاخْتِلاَفِ
مَوَاضِعِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ.
أ - فِي الْوُضُوءِ:
2 - غَسْل الأَْنْفِ مِنَ الدَّاخِل (الاِسْتِنْشَاقُ) سُنَّةٌ، وَغَسْلُهُ
مِنَ الظَّاهِرِ فَرْضٌ بِاعْتِبَارِهِ جُزْءًا مِنَ الْوَجْهِ، وَتَفْصِيل
ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (وُضُوءٍ) .
ب - فِي الْغُسْل:
3 - غَسْل ظَاهِرِ الأَْنْفِ فِي الْغُسْل فَرْضٌ عِنْدَ جَمِيعِ
الْفُقَهَاءِ. وَغَسْل بَاطِنِهِ (وَهُوَ الاِسْتِنْشَاقُ) فَرْضٌ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَسُنَّةٌ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي
مُصْطَلَحِ (غُسْلٍ) .
ج - السُّجُودُ عَلَى الأَْنْفِ فِي الصَّلاَةِ:
4 - تَمْكِينُ الأَْنْفِ مَعَ الْجَبْهَةِ فِي السُّجُودِ سُنَّةٌ عِنْدَ
جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو حُمَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير
(7/17)
أَنَّ النَّبِيَّ سَجَدَ وَمَكَّنَ
جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ عَلَى الأَْرْضِ. (1)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ وَاجِبٌ، وَهُوَ رِوَايَةٌ لِلْحَنَابِلَةِ
وَالْقَوْل الْمَرْجُوحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ:
الْجَبْهَةِ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى أَنْفِهِ - وَالْيَدَيْنِ
وَالرُّكْبَتَيْنِ وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ (2) وَإِشَارَتُهُ إِلَى
أَنْفِهِ تَدُل عَلَى أَنَّهُ أَرَادَهُ. (3)
د - وُصُول شَيْءٍ إِلَى جَوْفِ الصَّائِمِ عَنْ طَرِيقِ الأَْنْفِ:
5 - إِذَا اسْتَعَطَ الصَّائِمُ فَوَصَل الدَّوَاءُ إِلَى جَوْفِهِ أَوْ
حَلْقِهِ أَوْ دِمَاغِهِ فَسَدَ صَوْمُهُ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَعِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ لاَ يَفْسُدُ إِلاَّ بِالْوُصُول إِلَى الْجَوْفِ أَوِ
الْحَلْقِ - كَذَلِكَ مَنِ اسْتَنْشَقَ فَوَصَل الْمَاءُ إِلَى جَوْفِهِ
أَوْ حَلْقِهِ فَسَدَ صَوْمُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَفِي قَوْلٍ
لِلشَّافِعِيَّةِ.
وَلِلْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِذَا بَالَغَ فِي الاِسْتِنْشَاقِ
فَوَصَل الْمَاءُ إِلَى جَوْفِهِ أَوْ حَلْقِهِ رَأْيَانِ: الْفَسَادُ
وَعَدَمُهُ (4) .
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد. . . " أخرجه أبو داود (1 /
471 - ط عزت عبيد دعاس) وصححه ابن خزيمة (1 / 323 - ط المكتب الإسلامي) .
(2) حديث: " أمرت أن أسجد على سبعة أعظم " أخرجه البخاري (2 / 297 - الفتح
- ط السلفية) ، ومسلم (1 / 354 - ط الحلبي)
(3) المغني 1 / 516 ط الرياض، والمهذب 1 / 83 ط دار المعرفة، والبدائع 1 /
208 ط الجمالية، ومنح الجليل 1 / 151 ط النجاح ليبيا
(4) منتهى الإرادات 1 / 447 ط دار الفكر، والمغني 3 / 108، والمهذب 1 / 189
- 190، ومنح الجليل 1 / 399 - 400، والهداية 1 / 125 ط المكتبة الإسلامية
(7/17)
هـ - الْجِنَايَةُ عَلَى الأَْنْفِ:
6 - الْجِنَايَةُ عَلَى الأَْنْفِ عَمْدًا تُوجِبُ الْقِصَاصَ مَتَى
أَمْكَنَ اسْتِيفَاءُ الْمِثْل بِلاَ حَيْفٍ. وَالْقِصَاصُ وَاجِبٌ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالأَْنْفُ بِالأَْنْفِ} . (1)
فَإِذَا لَمْ يُمْكِنِ اسْتِيفَاءُ الْمِثْل أَوْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ
خَطَأً فَالْوَاجِبُ هُوَ الدِّيَةُ، وَفِي ذَهَابِ الشَّمِّ وَحْدَهُ
الدِّيَةُ.
وَفِي ذَهَابِ الشَّمِّ وَمَارِنِ الأَْنْفِ دِيَتَانِ.
وَإِنْ قَطَعَ جُزْءًا مِنَ الأَْنْفِ وَجَبَ فِيهِ الدِّيَةُ بِقَدْرِهِ.
(2)
وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ كَثِيرٌ (ر: جِنَايَةٌ، وَدِيَةٌ،
وَأَطْرَافٌ، وَجِرَاحٌ) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
7 - لِلأَْنْفِ أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ وَتَرِدُ فِي مَسَائِل
مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، وَذَلِكَ كَالاِسْتِنْشَاقِ فِي
بَابِ الْوُضُوءِ، وَبَابِ الْغُسْل، وَغُسْل الْمَيِّتِ، وَفِي صَبِّ
لَبَنِ الْمُرْضِعِ فِيهِ، وَهَل يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ بِذَلِكَ
أَمْ لاَ، وَذَلِكَ فِي بَابِ الرَّضَاعِ، وَاتِّخَاذِ أَنْفٍ مِنْ ذَهَبٍ
أَوْ فِضَّةٍ، وَذَلِكَ فِي بَابِ اللِّبَاسِ.
إِنْفَاقٌ
انْظُرْ: نَفَقَةٌ.
__________
(1) سورة المائدة / 45
(2) منتهى الإرادات 3 / 292 ط 317، والمهذب 2 / 180 - 203، ومنح الجليل 4 /
366، 406، 408، البدائع 7 / 297 - 311.
(7/18)
أَنْفَالٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّفَل بِالتَّحْرِيكِ: الْغَنِيمَةُ، وَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيزِ:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَْنْفَال} (1) سَأَلُوا عَنْهَا؛ لأَِنَّهَا
كَانَتْ حَرَامًا عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ فَأَحَلَّهَا اللَّهُ
لَهُمْ. وَأَصْل مَعْنَى الأَْنْفَال مِنَ النَّفْل - بِسُكُونِ الْفَاءِ -
أَيِ الزِّيَادَةِ. (2)
وَاصْطِلاَحًا، اخْتُلِفَ فِي تَعْرِيفِهَا عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ:
2 - الأَْوَّل: هِيَ الْغَنَائِمُ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ فِي
رِوَايَةٍ، وَمُجَاهِدٍ فِي رِوَايَةٍ، وَالضِّحَاكِ وَقَتَادَةَ
وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ فِي رِوَايَةٍ.
3 - الثَّانِي: الْفَيْءُ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عَنْ كُلٍّ مِنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ، وَهُوَ مَا يَصِل إِلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ
أَمْوَال الْمُشْرِكِينَ بِغَيْرِ قِتَالٍ، فَذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ.
4 - الثَّالِثُ: الْخُمُسُ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عَنْ
مُجَاهِدٍ.
5 - الرَّابِعُ: التَّنْفِيل، وَهُوَ مَا أُخِذَ قَبْل إِحْرَازِ
الْغَنِيمَةِ بِدَارِ الإِْسْلاَمِ وَقِسْمَتِهَا، فَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ
فَلاَ يَجُوزُ التَّنْفِيل إِلاَّ مِنَ الْخُمْسِ (3) . وَتَفْصِيلُهُ فِي
__________
(1) سورة الأنفال / 1
(2) لسان العرب والمصباح المنير في المادة، والمفردات في غريب القرآن
للأصفهاني (نفل)
(3) أحكام القرآن للجصاص 3 / 55
(7/18)
مُصْطَلَحِ (تَنْفِيلٍ) .
6 - خَامِسًا: السَّلَبُ، وَهُوَ الَّذِي يُدْفَعُ إِلَى الْفَارِسِ
زَائِدًا عَنْ سَهْمِهِ مِنَ الْمَغْنَمِ، تَرْغِيبًا لَهُ فِي الْقِتَال،
كَمَا إِذَا قَال الإِْمَامُ: وَمَنْ قَتَل قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ "
أَوْ قَال لِسَرِيَّةٍ: مَا أَصَبْتُمْ فَهُوَ لَكُمْ، أَوْ يَقُول:
فَلَكُمْ نِصْفُهُ أَوْ ثُلُثُهُ أَوْ رُبُعُهُ (1) .
7 - فَالأَْنْفَال بِنَاءً عَلَى هَذِهِ الأَْقْوَال تُطْلَقُ عَلَى
أَمْوَال الْحَرْبِيِّينَ الَّتِي آلَتْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ بِقِتَالٍ
أَوْ غَيْرِ قِتَالٍ، وَيَدْخُل فِيهَا الْغَنِيمَةُ وَالْفَيْءُ. قَال
ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَال عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ: هَا هُنَا
ثَلاَثَةُ أَسْمَاءٍ: الأَْنْفَال، وَالْغَنَائِمُ، وَالْفَيْءُ.
فَالنَّفَل الزِّيَادَةُ، وَتَدْخُل فِيهِ الْغَنِيمَةُ، وَهِيَ مَا أُخِذَ
مِنْ أَمْوَال الْكُفَّارِ بِقِتَالٍ.
وَالْفَيْءُ، وَهُوَ مَا أُخِذَ بِغَيْرِ قِتَالٍ، وَسُمِّيَ كَذَلِكَ؛
لأَِنَّهُ رَجَعَ إِلَى مَوْضِعِهِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ وَهُوَ
انْتِفَاعُ الْمُؤْمِنِ بِهِ. (2)
وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى مَا بَذَلَهُ الْكُفَّارُ لِنَكُفَّ عَنْ
قِتَالِهِمْ، وَكَذَلِكَ مَا أُخِذَ بِغَيْرِ تَخْوِيفٍ كَالْجِزْيَةِ
وَالْخَرَاجِ، وَالْعُشْرِ، وَمَال الْمُرْتَدِّ، وَمَال مَنْ مَاتَ مِنَ
الْكُفَّارِ وَلاَ وَارِثَ لَهُ. (3)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الرَّضْخُ:
8 - الرَّضْخُ لُغَةً: الْعَطَاءُ غَيْرُ الْكَثِيرِ، وَاصْطِلاَحًا: مَالٌ
مِنَ الْغَنِيمَةِ لاَ يَزِيدُ عَلَى سَهْمٍ وَاحِدٍ مِنَ
__________
(1) الفخر الرازي 15 / 115 الطبعة الأولى
(2) أحكام القرآن لابن العربي 2 / 825
(3) الوجيز 1 / 288، والمبسوط 10 / 7، والعدوي على الخرشي 3 / 128،
والمصباح المنير في المادة
(7/19)
الْغَانِمِينَ، تَقْدِيرُهُ إِلَى وَلِيِّ
الأَْمْرِ، أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ كَقَائِدِ الْجَيْشِ يُعْطَى لِمَنْ
حَضَرَ الْمَعْرَكَةَ، وَأَعَانَ عَلَى الْقِتَال، مِنَ النِّسَاءِ،
وَالصِّبْيَانِ، وَنَحْوِهِمْ، وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّونَ وَالْعَبِيدُ
بِقَدْرِ مَا يَبْذُلُونَ مِنْ جَهْدٍ، مِثْل مُدَاوَاةِ الْجَرْحَى
وَالْمَرْضَى، وَالدَّلاَلَةُ عَلَى الطَّرِيقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. (1)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
9 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الأَْنْفَال بِحَسَبِ مُفْرَدَاتِهَا السَّابِقَةِ
مِنْ: غَنِيمَةٍ، وَفَيْءٍ، وَسَلَبٍ، وَرَضْخٍ، وَتَنْفِيلٍ، وَيُنْظَرُ
حُكْمُ كُلٍّ مِنْ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِهِ (2)
انْفِرَادٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِنْفِرَادُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ انْفَرَدَ وَهُوَ بِمَعْنَى
تَفَرَّدَ. (3) وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ ذَلِكَ (4)
__________
(1) المبسوط 10 / 16، وفتح القدير 4 / 326، والوجيز 1 / 290، والمغني 8 /
415 ط الرياض، والقواعد لابن رجب ص 311 ط دار المعرفة، والمدونة 3 / 33 ط
دار صادر
(2) ابن عابدين 3 / 238، وفتح القدير 4 / 333، وحاشية الدسوقي 2 / 190 ط
دار الفكر، ومغني المحتاج 3 / 102 ط مصطفى الحلبي، والمغني 8 / 378 ط
الرياض
(3) لسان العرب، المحيط، ومختار الصحاح، والمصباح المنير مادة: (فرد)
(4) شرح فتح القدير 6 / 89، وما بعدها، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3
/ 392، والمهذب 1 / 353، وكشاف القناع 5 / 500، وما بعدها
(7/19)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِسْتِبْدَادُ:
2 - الاِسْتِبْدَادُ: مَصْدَرُ اسْتَبَدَّ، يُقَال: اسْتَبَدَّ بِالأَْمْرِ
إِذَا انْفَرَدَ بِهِ مِنْ غَيْرِ مُشَارِكٍ لَهُ فِيهِ (1) .
ب: الاِسْتِقْلاَل:
3 - مِنْ مَعَانِي الاِسْتِقْلاَل: الاِعْتِمَادُ عَلَى النَّفْسِ،
وَالاِسْتِبْدَادُ بِالأَْمْرِ، وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى يُرَادِفُ
الاِنْفِرَادَ، غَيْرَ أَنَّهُ يُخَالِفُهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ
إِطْلاَقَاتِهِ اللُّغَوِيَّةِ، فَيَكُونُ مِنَ الْقِلَّةِ وَمِنَ
الاِرْتِفَاعِ. (2)
ج - الاِشْتِرَاكُ:
4 - الاِشْتِرَاكُ ضِدُّ الاِنْفِرَادِ.
أَحْكَامُ الاِنْفِرَادِ:
الاِنْفِرَادُ فِي الصَّلاَةِ:
5 - صَلاَةُ الْمُنْفَرِدِ جَائِزَةٌ وَلَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ،
وَالْجَمَاعَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ عِنْدَ
الْجُمْهُورِ (إِلاَّ فِي الْجُمُعَةِ بِالاِتِّفَاقِ، وَالْعِيدَيْنِ
عَلَى خِلاَفٍ) ، وَفِي صَلاَةِ الْمُنْفَرِدِ أَجْرٌ لِقَوْل النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَال: قَال
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ صَلاَةَ الْجَمَاعَةِ
تَفْضُل صَلاَةَ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً (3)
__________
(1) لسان العرب مادة: (بدد) وكشاف القناع 5 / 500، وحاشية الدسوقي 3 / 352،
والمهذب 1 / 353
(2) لسان العرب، والصحاح، وتاج العروس مادة: (قلل) بتصرف
(3) حديث: " صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة ". أخرجه
البخاري (الفتح 2 / 131 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 450 - ط الحلبي) من حديث
ابن عمر
(7/20)
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى بِخَمْسٍ
وَعِشْرِينَ دَرَجَةً (1) لأَِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ النِّسْبَةِ
بَيْنَهُمَا - بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ - ثُبُوتُ الأَْجْرِ فِيهِمَا، وَإِلاَّ
فَلاَ نِسْبَةَ وَلاَ تَقْدِيرَ، وَلاَ يَنْقُصُ أَجْرُ الْمُصَلِّي
مُنْفَرِدًا مَعَ الْعُذْرِ، لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كَتَبَ
اللَّهُ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَل صَحِيحًا مُقِيمًا (2) وَلاَ تَجِبُ
الإِْعَادَةُ لِفَرْضٍ عَلَى مَنْ صَلاَّهُ وَحْدَهُ.
أَمَّا صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ فَهِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ لِلرِّجَال عِنْدَ
الْجُمْهُورِ، وَقِيل: هِيَ وَاجِبَةٌ إِلاَّ فِي جُمُعَةٍ فَشَرْطٌ،
وَكَذَا الْعِيدُ عَلَى الْقَوْل بِوُجُوبِ الْعِيدِ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ
وَاجِبًا. (3) (ر: صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ) .
الاِنْفِرَادُ فِي التَّصَرُّفَاتِ:
أ - انْفِرَادُ أَحَدِ الأَْوْلِيَاءِ بِالتَّزْوِيجِ:
6 - إِنِ اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ مِنَ الأَْوْلِيَاءِ
الْمُتَسَاوِينَ فِي جِهَةِ الْقَرَابَةِ وَالدَّرَجَةِ وَالْقُوَّةِ
كَالإِْخْوَةِ الأَْشِقَّاءِ، أَوِ الأَْبِ، وَالأَْعْمَامُ كَذَلِكَ،
وَتَشَاحَّوْا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَطَلَبَ كُلٌّ مِنْهُمْ أَنْ يَتَوَلَّى
الْعَقْدَ. فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ
قَطْعًا لِلنِّزَاعِ، وَلِتَسَاوِيهِمْ فِي الْحَقِّ،
__________
(1) الرواية الأخرى من حديث أبي هريرة. أخرجه البخاري (الفتح 2 / 131)
ومسلم (1 / 450)
(2) حديث: " إذا مرض العبد أو سافر. . . . ". أخرجه البخاري (الفتح 6 / 136
- ط السلفية)
(3) رد المحتار 1 / 368، 371 - 373 وما بعدها، وشرح فتح القدير 1 / 222،
229، 300، وحاشية 1 / 200، 255، 319، 373، والشرح الصغير 1 / 424، 425،
490، 496، ونهاية المحتاج 2 / 2، 128 - 136، 145 وما بعدها، والمجموع شرح
المهذب 4 / 182 - 185، 189، والمغني لابن قدامة 2 / 176، 177، وكشاف القناع
6 / 453 - 455
(7/20)
وَتَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمْ، فَمَنْ
خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ زَوَّجَ. فَإِنْ سَبَقَ غَيْرُ مَنْ خَرَجَتْ لَهُ
الْقُرْعَةُ فَزَوَّجَ، وَقَالَتْ أَذِنْتُ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ صَحَّ
التَّزْوِيجُ؛ لأَِنَّهُ صَدَرَ مِنْ وَلِيٍّ كَامِل الْوِلاَيَةِ بِإِذْنِ
مُوَلِّيَتِهِ فَصَحَّ مِنْهُ، كَمَا لَوِ انْفَرَدَ بِالْوِلاَيَةِ؛
وَلأَِنَّ الْقُرْعَةَ شُرِعَتْ لإِِزَالَةِ الْمُشَاحَّةِ لاَ لِسَلْبِ
الْوِلاَيَةِ. (1)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: عِنْدَ تَسَاوِيهِمْ دَرَجَةً وَقَرَابَةً
يَنْظُرُ الْحَاكِمُ فِيمَنْ يَرَاهُ أَحْسَنَهُمْ رَأْيًا لِيَتَوَلَّى
الْعَقْدَ. (2)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَكُونُ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَتَوَلَّى
الْعَقْدَ وَيُزَوِّجَ، رَضِيَ الآْخَرُ أَوْ سَخِطَ، إِذَا كَانَ
التَّزْوِيجُ مِنْ كُفْءٍ وَبِمَهْرٍ وَافِرٍ. (3) وَهَذَا إِذَا اتَّحَدَ
الْخَاطِبُ.
7 - أَمَّا إِذَا تَعَدَّدَ الْخَاطِبُ، فَالتَّزْوِيجُ لِمَنْ تَرْضَاهُ
الْمَرْأَةُ؛ لأَِنَّ لَهَا الْحَقَّ عِنْدَهُمْ أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا
مِنْ كُفْءٍ إِذَا كَانَتْ بَالِغَةً رَشِيدَةً، وَلاَ يُزَوِّجُهَا إِلاَّ
الْوَلِيُّ الَّذِي تَرْضَاهُ بِوَكَالَةٍ، فَإِنْ لَمْ تُعَيِّنِ
الْمَرْأَةُ وَاحِدًا مِنَ الْمُسْتَوِينَ دَرَجَةً وَقَرَابَةً،
وَأَذِنَتْ لِكُلٍّ مِنْهُمْ بِانْفِرَادِهِ، أَوْ قَالَتْ: أَذِنْتُ فِي
فُلاَنٍ، فَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ فَلْيُزَوِّجْنِي مِنْهُ، صَحَّ
التَّزْوِيجُ مِنْ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ؛ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوِلاَيَةِ
فِي كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَمَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ،
وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، فَإِنْ بَادَرَ أَحَدُهُمْ
فَزَوَّجَهَا مِنْ كُفْءٍ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مَا
يُمَيِّزُ
__________
(1) الولي: هو البالغ العاقل الوارث، انظر ابن عابدين 2 / 295، ونهاية
المحتاج 6 / 342 - 344، وروضة الطالبين 7 / 87، 88، والمغني لابن قدامة 6 /
510، 511، ومطالب أولي النهى 5 / 72، 73
(2) حاشية الدسوقي 2 / 233، وجواهر الإكليل 1 / 283
(3) البدائع 2 / 251، وشرح فتح القدير 3 / 172، 183 - 185
(7/21)
أَحَدَهُمْ عَنْ غَيْرِهِ.
وَلَوْ أَذِنَتْ لَهُمْ فِي التَّزْوِيجِ، فَزَوَّجَهَا أَحَدُ
الأَْوْلِيَاءِ الْمُسْتَوِينَ فِي الدَّرَجَةِ، وَزَوَّجَهَا الآْخَرُ
مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ عُرِفَ السَّابِقُ فَهُوَ الصَّحِيحُ وَالآْخَرُ
بَاطِلٌ، وَإِنْ وَقَعَ الْعَقْدَانِ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ، أَوْ جُهِل
السَّابِقُ مِنْهُمَا، فَبَاطِلاَنِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَيْ " نِكَاحٌ، وَوِلاَيَةٌ ".
ب - انْفِرَادُ أَحَدِ الأَْوْلِيَاءِ بِالتَّصَرُّفِ فِي مَال الصَّغِيرِ:
8 - قَال فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ مَاتَ الرَّجُل عَنْ أَوْلاَدٍ
صِغَارٍ، وَلَمْ يُوصِ إِلَى أَحَدٍ عَلَيْهِمْ، فَتَصَرَّفَ فِي
أَمْوَالِهِمْ أَحَدُ أَعْمَامِهِمْ، أَوْ إِخْوَتُهُمُ الْكِبَارُ
بِالْمَصْلَحَةِ، فَتَصَرُّفُهُ مَاضٍ، لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِأَنَّ
مَنْ ذُكِرَ يَقُومُ مَقَامَ الأَْبِ، (2)
وَلَمْ يَعْثُرْ عَلَى تَعَدُّدِ الأَْوْلِيَاءِ وَانْفِرَادِ أَحَدِهِمْ
بِالتَّصَرُّفِ فِي الْمَال سِوَى مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي الْمَذْهَبِ
الْمَالِكِيِّ.
وَإِذَا تَعَدَّدَ الأَْوْلِيَاءُ أَوِ الأَْوْصِيَاءُ فَإِنِ اتَّفَقُوا
فِي التَّصَرُّفِ فَالأَْمْرُ ظَاهِرٌ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا يُرْفَعُ
لِلْحَاكِمِ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ
فِي مُصْطَلَحَيْ (إِيصَاءٍ) (وَوِلاَيَةٍ) .
ج - انْفِرَادُ أَحَدِ الْوَكِيلَيْنِ بِالتَّصَرُّفِ:
9 - لِكُلٍّ مِنَ الْوَكِيلَيْنِ الاِنْفِرَادُ بِالتَّصَرُّفِ، إِنْ جَعَل
__________
(1) المراجع السابقة
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 256، 4 / 452 ط عيسى الحلبي بمصر،
وجواهر الإكليل 2 / 99
(7/21)
الْمُوَكِّل الاِنْفِرَادَ بِالتَّصَرُّفِ
لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَبِهَذَا قَال الْحَنَابِلَةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ؛ لأَِنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَجْعَل
لَهُ الاِنْفِرَادَ، فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ
بِهِ. (1)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَجُوزُ لأَِحَدِ الْوَكِيلَيْنِ أَنْ يَنْفَرِدَ
بِالتَّصَرُّفِ فِيمَا لاَ يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى اجْتِمَاعِ رَأْيِهِمَا
كَتَوْكِيل الْمُوَكِّل لَهَا فِي الْخُصُومَةِ، فَلاَ يُشْتَرَطُ
اجْتِمَاعُهُمَا؛ لأَِنَّ اجْتِمَاعَهُمَا فِيهَا مُتَعَذَّرٌ
لِلإِْفْضَاءِ إِلَى الشَّغَبِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَلاَ بُدَّ مِنْ
صِيَانَتِهِ عَنِ الشَّغَبِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ فِيهِ إِظْهَارُ
الْحَقِّ، وَلِهَذَا لَوْ خَاصَمَ أَحَدُهُمَا بِدُونِ الآْخَرِ جَازَ
وَلَوْ لَمْ يَحْضُرِ الآْخَرُ عِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ.
وَقَال بَعْضُهُمْ: يُشْتَرَطُ حُضُورُهُ أَثْنَاءَ مُخَاصَمَةِ الأَْوَّل،
وَكَتَوْكِيلِهِ لَهُمَا بِطَلاَقِ زَوْجَتِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، أَوْ
بِعِتْقِ عَبْدِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، أَوْ بِرَدِّ وَدِيعَةٍ عِنْدَهُ، أَوْ
بِقَضَاءِ دَيْنٍ عَلَى الْمُوَكِّل؛ لأَِنَّ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ أَدَاءُ
الْوَكَالَةِ فِيهَا تَعْبِيرٌ مَحْضٌ لِكَلاَمِ الْمُوَكِّل، وَعِبَارَةُ
الْمُثَنَّى وَالْوَاحِدِ سَوَاءٌ؛ لِعَدَمِ اخْتِلاَفِ الْمَعْنَى.
أَمَّا مَا يَحْتَاجُ إِلَى رَأْيٍ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ
وَالتَّزْوِيجِ فَلاَ بُدَّ مِنَ اجْتِمَاعِهِمَا (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ لأَِحَدِ الْوَكِيلَيْنِ عَلَى مَالٍ
وَنَحْوِهِ الاِنْفِرَادُ بِمَا يَفْعَلُهُ عَنْ مُوَكِّلِهِ، دُونَ
إِطْلاَعِ الْوَكِيل الآْخَرِ، إِلاَّ لِشَرْطٍ مِنَ الْمُوَكِّل أَلاَّ
يَسْتَبِدَّ أَيُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَوْ أَلاَّ يَسْتَبِدَّ فُلاَنٌ،
فَحِينَئِذٍ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا الاِسْتِبْدَادُ، وَسَوَاءٌ فِيمَا
ذُكِرَ إِنْ كَانَتْ وَكَالَتُهُمَا عَلَى التَّعَاقُبِ، عَلِمَ
أَحَدُهُمَا بِالآْخَرِ أَمْ لاَ،
__________
(1) المهذب 1 / 358، وحواشي الشرواني على تحفة المحتاج بشرح المنهاج 5 /
342، وكشاف القناع 5 / 473، والمغني 5 / 96
(2) شرح فتح القدير 6 / 89 - 91، والهداية 3 / 148
(7/22)
أَوْ وَكَّلاَ جَمِيعًا.
وَالْوَكِيل عَلَى مَالٍ كَأَنْ يَكُونَ وَكَّلَهُمَا عَلَى بَيْعٍ، أَوْ
شِرَاءٍ، أَوْ قَضَاءِ دَيْنٍ، وَنَحْوُ الْمَال: كَطَلاَقٍ وَهِبَةٍ
وَوَقْفٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. (1) وَالتَّفْصِيل يَكُونُ فِي مُصْطَلَحِ:
(وَكَالَةٌ) .
د - انْفِرَادُ أَحَدِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلشُّفْعَةِ بِطَلَبِهَا:
10 - إِنْ كَانَ أَحَدُ الشُّفَعَاءِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلشُّفْعَةِ
حَاضِرًا أَوْ قَدِمَ مِنَ السَّفَرِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ غَائِبًا
وَطَلَبَ الْحَاضِرُ الشُّفْعَةَ، فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ أَخْذُ الْكُل أَوْ
تَرْكُهُ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَعْلَمِ الآْنَ مُطَالِبَ سِوَاهُ؛ وَلأَِنَّ
فِي أَخْذِهِ الْبَعْضَ تَبْعِيضًا لِصَفْقَةِ الْمُشْتَرِي، وَلاَ يَجُوزُ
لَهُ ذَلِكَ، وَلاَ يُمْكِنُ تَأْخِيرُ حَقِّهِ إِلَى أَنْ يَقْدُمَ
شُرَكَاؤُهُ لأَِنَّ فِي التَّأْخِيرِ إِضْرَارًا بِالْمُشْتَرِي.
وَإِنْ كَانَ الشُّفَعَاءُ كُلُّهُمْ غَائِبِينَ لَمْ تَسْقُطِ الشُّفْعَةُ
لِمَوْضِعِ الْعُذْرِ. فَإِذَا أَخَذَ مَنْ حَضَرَ جَمِيعَ الشِّقْصِ
الْمَشْفُوعِ، ثُمَّ حَضَرَ شَرِيكٌ آخَرُ قَاسَمَهُ إِنْ شَاءَ؛ لأَِنَّ
الْمُطَالَبَةَ إِنَّمَا وُجِدَتْ مِنْهُمَا، وَإِنْ عَفَا بَقِيَ
الشِّقْصُ لِلأَْوَّل. فَإِنْ قَاسَمَهُ ثُمَّ حَضَرَ الثَّالِثُ
قَاسَمَهُمَا إِنْ أَحَبَّ الأَْخْذَ بِالشُّفْعَةِ، وَبَطَلَتِ
الْقِسْمَةُ الأُْولَى؛ لأَِنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ لَهُمَا شَرِيكًا لَمْ
يُقَاسِمْ وَلَمْ يَأْذَنْ، وَإِنْ عَفَا الثَّالِثُ عَنْ شُفْعَتِهِ
بَقِيَ الشِّقْصُ لِلأَْوَّلَيْنِ؛ لأَِنَّهُ لاَ مُشَارِكَ لَهُمَا
وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. (2)
وَالتَّفْصِيل يَكُونُ فِي مُصْطَلَحِ: (شُفْعَةٌ) .
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 392، وجواهر الإكليل 2 / 130
(2) رد المحتار على الدر المختار 5 / 141 وما بعدها، وحاشية الدسوقي 3 /
490، والمهذب 1 / 388، ونهاية المحتاج 5 / 212 - 213، والمغني لابن قدامة 5
/ 367، وكشاف القناع 4 / 148
(7/22)
هـ - انْفِرَادُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ
بِالتَّصَرُّفِ:
11 - إِذَا كَانَتِ الشَّرِكَةُ شَرِكَةَ مِلْكٍ، كَمَنْ وَرِثُوا دَارًا
وَلَمْ يَقْسِمُوهَا، فَلَيْسَ لأَِحَدِ الشَّرِيكَيْنِ الاِنْفِرَادُ
بِالتَّصَرُّفِ فِي جَمِيعِ الدَّارِ إِلاَّ بِالتَّرَاضِي، أَوْ
بِالْمُهَايَأَةِ أَيِ اسْتِقْلاَل كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالاِنْتِفَاعِ
بِجَمِيعِهَا زَمَنًا مُحَدَّدًا وَهَكَذَا.
أَمَّا فِي شَرِكَاتِ الْعَقْدِ، فَفِي شَرِكَةِ الْعِنَانِ (1) يَجُوزُ
لأَِحَدِ الشُّرَكَاءِ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالتَّصَرُّفِ
بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْوَكَالَةِ
وَالأَْمَانَةِ؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِدَفْعِ الْمَال إِلَى
صَاحِبِهِ أَمِنَهُ، وَبِإِذْنِهِ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ وَكَّلَهُ، وَمِنْ
شُرُوطِ صِحَّتِهَا أَنْ يَأْذَنَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ فِي
التَّصَرُّفِ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ مُطْلَقًا فِي جَمِيعِ التِّجَارَاتِ
تَصَرَّفَ فِيهَا، وَيَجُوزُ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَبِيعَ
وَيَشْتَرِيَ مُسَاوَمَةً، وَمُرَابَحَةً، وَتَوْلِيَةً، وَمُوَاضَعَةً،
وَكَيْفَمَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ؛ لأَِنَّ هَذَا عَادَةُ التُّجَّارِ،
وَأَنْ يَقْبِضَ الْمَبِيعَ، وَالثَّمَنَ، وَيَقْبِضَهُمَا، وَيُخَاصِمَ
فِي الدَّيْنِ وَيُطَالِبَ بِهِ، وَيُحِيل وَيَقْبَل الْحَوَالَةَ،
وَيَرُدَّ بِالْعَيْبِ فِيمَا وَلِيَهُ هُوَ، وَفِيمَا وَلِيَ صَاحِبُهُ،
وَأَنْ يَسْتَأْجِرَ مِنْ مَال الشَّرِكَةِ وَيُؤَجِّرَ، وَأَنْ يَفْعَل
كُل مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ أَمْثَالِهِ مِنَ التُّجَّارِ، إِذَا رَأَى
فِيهِ مَصْلَحَةً؛ لِتَنَاوُل الإِْذْنِ لِذَلِكَ دُونَ التَّبَرُّعِ،
وَالْحَطِيطَةِ، وَالْقَرْضِ، وَتَزْوِيجِهِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ
بِتِجَارَةٍ، وَإِنَّمَا فَوَّضَ
__________
(1) هي أن يشترك اثنان فأكثر بماليهما ليعملا فيه بينهما وربحه بينهما على
حسب ما اشترطاه، أو يشترك اثنان فأكثر بماليهما على أن يعمل فيه أحدهما
بشرط أن يكون للعامل من الربح أكثر من ربح ماله، ليكون الجزء الزائد في
نظير عمله غي مال الشركة. حاشية الدسوقي 3 / 359 ونهاية المحتاج 5 / 4،
وكشاف القناع 5 / 497، ورد المحتار 3 / 344
(7/23)
إِلَيْهِ الْعَمَل بِرَأْيِهِ فِي
التِّجَارَةِ. وَإِنْ عَيَّنَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لِلآْخَرِ جِنْسًا،
أَوْ نَوْعًا، أَوْ بَلَدًا، تَصَرَّفَ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ؛ لأَِنَّهُ
مُتَصَرِّفٌ بِالإِْذْنِ فَوَقَفَ عَلَيْهِ. (1)
وَإِنْ أَذِنَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَأْذَنِ الآْخَرُ تَصَرَّفَ
الْمَأْذُونُ لَهُ فِي الْجَمِيعِ، وَلاَ يَتَصَرَّفُ الآْخَرُ إِلاَّ فِي
نَصِيبِهِ، وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. (2) وَالتَّفْصِيل يَكُونُ فِي
مُصْطَلَحِ (شَرِكَةٌ)
وَ - انْفِرَادُ أَحَدِ الْوَصِيِّينَ أَوِ النَّاظِرَيْنِ بِالتَّصَرُّفِ:
12 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُوصِيَ إِذَا أَوْصَى
لاِثْنَيْنِ مَعًا أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ، وَأَطْلَقَ أَوْ نَصَّ عَلَى
وُجُوبِ اجْتِمَاعِهِمَا، فَلاَ يَجُوزُ لأَِحَدِهِمَا الاِنْفِرَادُ.
أَمَّا إِذَا نَصَّ عَلَى جَوَازِ الاِنْفِرَادِ، فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ
يَنْفَرِدَ بِالتَّصَرُّفِ، عَمَلاً بِقَوْل الْمُوصِي. وَذَهَبَ أَبُو
يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الاِنْفِرَادُ، وَلَوْ نَصَّ عَلَى
الاِجْتِمَاعِ؛ لأَِنَّهُ مِنْ قَبِيل الْخِلاَفَةِ، وَالْخَلِيفَةُ
يَنُوبُ عَنِ الْمُسْتَخْلِفِ فِي كُل مَا يَمْلِكُهُ، وَفِي الْمَسَائِل
الَّتِي لاَ تَحْتَاجُ إِلَى تَبَادُل الرَّأْيِ كَرَدِّ الْوَدِيعَةِ،
وَشِرَاءِ حَاجَاتِ الطِّفْل، وَشِرَاءِ كَفَنِ الْمَيِّتِ، وَرَدِّ
الْمَغْصُوبِ، وَقَضَاءِ الدَّيْنِ، فَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِجَوَازِ
انْفِرَادِ أَحَدِ الْوَصِيَّيْنِ بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا.
هَذَا، وَإِنَّ أَحْكَامَ الْوَقْفِ مُسْتَقَاةٌ غَالِبًا مِنْ
__________
(1) شرح فتح القدير 5 / 402 - 404، ورد المحتار، 3 / 344، وحاشية الدسوقي 3
/ 352، ونهاية المحتاج 5 / 4، والمغني لابن قدامة 5 / 21، 22، وكشاف القناع
5 / 947، 500، وما بعدها
(2) نهاية المحتاج 5 / 4، والمهذب 1 / 353، واللجنة ترى أن قواعد المذاهب
الأخرى لا تأبى هذا البيان، لأن التصرف مبني على الإذن وليس هناك إذن
(7/23)
أَحْكَامِ الْوَصِيَّةِ، وَمَا يَجْرِي
عَلَى الْوَصِيِّينَ هُنَا يَجْرِي كَذَلِكَ عَلَى نُظَّارِ الْوَقْفِ. (1)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (وَصِيَّةٌ، وَوَكَالَةٌ، وَالْوَقْفُ) .
ز - انْفِرَادُ الزَّوْجَةِ بِمَسْكَنٍ:
13 - لِلزَّوْجَةِ حَقُّ الاِنْفِرَادِ بِمَسْكَنٍ خَاصٍّ بِهَا لَهُ
غَلْقٌ وَمَرَافِقُ، (2) وَلَوْ كَانَ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ، وَتَسْكُنُ
ضَرَّتُهَا فِي جُزْءٍ مُسْتَقِلٍّ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ أَهْل زَوْجِهَا،
وَلَيْسَ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تَمْنَعَ طِفْل زَوْجِهَا غَيْرَ الْمُمَيِّزِ
مِنَ السُّكْنَى مَعَهُمَا. وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. (3)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ إِذَا اشْتَرَطَ
عَلَيْهَا سُكْنَاهَا مَعَ أَقَارِبِ الزَّوْجِ أَوْ مَعَ ضَرَّتِهَا
فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَالِبَ بِسَكَنٍ مُنْفَرِدٍ، وَكَذَلِكَ إِذَا
كَانَ مُسْتَوَاهَا الاِجْتِمَاعِيُّ يَسْمَحُ بِذَلِكَ. (4)
وَالشُّرُوطُ الْوَاجِبُ تَوَافُرُهَا فِي مَسْكَنِ الزَّوْجَةِ
وَتَقْدِيرِ مُسْتَوَاهُ يَكُونُ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْتُ الطَّاعَةِ)
(وَنَفَقَةٌ) .
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 5 / 449، 450، والاختيار شرح المختار 5 / 67،
وشرح الدردير وحاشية الدسوقي 4 / 88، 453، وجواهر الإكليل 2 / 208، والحطاب
6 / 33، 37، ونهاية المحتاج 6 / 107، وروضة الطالبين 5 / 348، والمغني 6 /
136، 142، وكشاف القناع 4 / 273
(2) مسكن الزوجة في اصطلاح الفقهاء: محل منفرد معين مختص بالزوجة ليس فيه
ما يشاركها به أحد من أهل الدار له غلق يخصه ومرافق. انظر: رد المحتار 2 /
662، 663، والشرح الصغير 2 / 507 وما بعدها
(3) رد المحتار 2 / 662، 663، وشرح فتح القدير 4 / 207، ونهاية المحتاج 1 /
375، وشرح المنهاج 3 / 300 وما بعدها، وكشاف القناع 5 / 196 وما بعدها،
والمغني لابن قدامة 7 / 26، 27
(4) الشرح الكبير حاشية الدسوقي 2 / 512، 513 بشيء من التصرف
(7/24)
انْفِسَاخٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِنْفِسَاخُ: مَصْدَرُ انْفَسَخَ، وَهُوَ مُطَاوِعُ فَسَخَ، وَمِنْ
مَعْنَاهُ: النَّقْضُ وَالزَّوَال. يُقَال: فَسَخْتُ الشَّيْءَ فَانْفَسَخَ
أَيْ: نَقَضْتُهُ فَانْتَقَضَ، وَفَسَخْتُ الْعَقْدَ أَيْ: رَفَعْتُهُ. (1)
وَالاِنْفِسَاخُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: هُوَ انْحِلاَل الْعَقْدِ
إِمَّا بِنَفْسِهِ، وَإِمَّا بِإِرَادَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، أَوْ
بِإِرَادَةِ أَحَدِهِمَا. (2)
وَقَدْ يَكُونُ الاِنْفِسَاخُ أَثَرًا لِلْفَسْخِ، فَهُوَ بِهَذَا
الْمَعْنَى مُطَاوِعٌ لِلْفَسْخِ وَنَتِيجَةٌ لَهُ، كَمَا سَيَأْتِي فِي
أَسْبَابِ الاِنْفِسَاخِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْقَالَةُ:
2 - الإِْقَالَةُ فِي اللُّغَةِ، عِبَارَةٌ عَنِ الرَّفْعِ، (3) وَفِي
الشَّرْعِ: رَفْعُ الْعَقْدِ وَإِزَالَتُهُ بِرِضَا الطَّرَفَيْنِ، وَهَذَا
الْقَدْرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، لَكِنَّهُمُ
اخْتَلَفُوا فِي اعْتِبَارِهَا فَسْخًا أَوْ عَقْدًا جَدِيدًا. (4)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِقَالَةٌ) .
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب مادة: (فسخ) .
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 338، والأشباه للسيوطي ص 224، والقواعد
لابن رجب ص 107، والفروق للقرافي 3 / 269
(3) المصباح المنير مادة: (قيل)
(4) الشرح الصغير للدردير 3 / 209، وقواعد ابن رجب ص 109، 379، والقليوبي 2
/ 190، والبدائع 5 / 306، ومجلة الأحكام العدلية م 163، 191، 194.
(7/24)
ب - الاِنْتِهَاءُ:
3 - انْتِهَاءُ الشَّيْءِ: بُلُوغُهُ أَقْصَى مَدَاهُ، وَانْتَهَى
الأَْمْرُ: بَلَغَ النِّهَايَةَ. (1) وَانْتِهَاءُ الْعَقْدِ: مَعْنَاهُ
بُلُوغُهُ نِهَايَتَهُ، وَهَذَا يَكُونُ بِتَمَامِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ
كَالاِسْتِئْجَارِ لأَِدَاءِ عَمَلٍ فَأَتَمَّهُ الأَْجِيرُ، أَوِ
الْقَضَاءُ مُدَّةَ الْعَقْدِ كَاسْتِئْجَارِ مَسْكَنٍ أَوْ أَرْضٍ
لِمُدَّةٍ مَحْدُودَةٍ. وَقَدْ يُسْتَعْمَل فِي الْعُقُودِ
الْمُسْتَمِرَّةِ كَانْتِهَاءِ عَقْدِ الزَّوَاجِ بِالْمَوْتِ أَوِ
الطَّلاَقِ (2) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَالْفَرْقُ بَيْنَ الاِنْفِسَاخِ وَالاِنْتِهَاءِ، أَنَّ
الاِنْفِسَاخَ يُسْتَعْمَل فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ، وَيَكُونُ فِي عُقُودِ
الْمُدَّةِ قَبْل نِهَايَتِهَا أَيْضًا، بِخِلاَفِ الاِنْتِهَاءِ،
وَبَعْضُهُمْ يَسْتَعْمِل الاِنْفِسَاخَ مَكَانَ الاِنْتِهَاءِ
وَبِالْعَكْسِ. (3)
ج - الْبُطْلاَنُ:
4 - الْبُطْلاَنُ لُغَةً: فَسَادُ الشَّيْءِ وَزَوَالُهُ، وَيَأْتِي
بِمَعْنَى: النَّقْضِ وَالسُّقُوطِ. (4) وَالْبُطْلاَنُ يَطْرَأُ عَلَى
الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلاَتِ إِذَا وُجِدَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِهِ،
وَيُرَادِفُ الْفَسَادَ إِذَا اسْتُعْمِل فِي الْعِبَادَاتِ عِنْدَ
الْفُقَهَاءِ إِلاَّ فِي الْحَجِّ. (5)
أَمَّا فِي الْعُقُودِ فَالْبَاطِل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، هُوَ مَا لَمْ
يَكُنْ مَشْرُوعًا لاَ بِأَصْلِهِ وَلاَ بِوَصْفِهِ، بِأَنْ فَقَدَ رُكْنًا
مِنْ أَرْكَانِهِ، أَوْ وَرَدَ الْعَقْدُ عَلَى غَيْرِ مَحَلِّهِ،
__________
(1) المصباح المنير مادة: (نهى)
(2) البدائع 4 / 223
(3) البدائع 4 / 222 - 224
(4) المصباح المنير مادة: (بطل)
(5) الأشباه لابن نجيم ص 337.
(7/25)
وَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ مِنْ
نَقْل الْمِلْكِيَّةِ أَوِ الضَّمَانِ أَوْ غَيْرِهِمَا.
وَعَلَى هَذَا يَخْتَلِفُ الاِنْفِسَاخُ عَن الْبُطْلاَنِ، بِأَنَّ
الاِنْفِسَاخَ يَرِدُ عَلَى الْمُعَامَلاَتِ دُونَ الْعِبَادَاتِ،
وَيُعْتَبَرُ الْعَقْدُ قَبْل الاِنْفِسَاخِ عَقْدًا مَوْجُودًا ذَا أَثَرٍ
شَرْعِيٍّ، بِخِلاَفِ الْبُطْلاَنِ؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ الْبَاطِل فِي
اصْطِلاَحِ الْحَنَفِيَّةِ لاَ وُجُودَ لَهُ أَصْلاً، وَكَذَلِكَ عِنْدَ
غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لاَ يُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَاسِدِ. (1)
د - الْفَسَادُ:
5 - الْفَسَادُ نَقِيضُ الصَّلاَحِ، وَفَسَادُ الْعِبَادَةِ بُطْلاَنُهَا
إِلاَّ فِي بَعْضِ مَسَائِل الْحَجِّ كَمَا سَبَقَ، وَالْفَاسِدُ مِنَ
الْعُقُودِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ: مَا كَانَ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ
دُونَ وَصْفِهِ، وَأَمَّا عِنْدَ غَيْرِهِمْ فَيُطْلَقُ الْفَاسِدُ
وَالْبَاطِل عَلَى كُل تَصَرُّفٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ، وَالْفَاسِدُ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ قَدْ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بَعْضُ الأَْحْكَامِ،
فَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ عِنْدَهُمْ إِذَا اتَّصَل بِهِ الْقَبْضُ أَفَادَ
الْمِلْكَ، وَلَكِنَّهُ مِلْكٌ خَبِيثٌ، يَجِبُ فَسْخُ الْعَقْدِ مَا
دَامَتِ الْعَيْنُ قَائِمَةً، لِحَقِّ الشَّارِعِ. (2)
وَيُعْتَبَرُ الْعَقْدُ الْفَاسِدُ عَقْدًا مَوْجُودًا ذَا أَثَرٍ،
لَكِنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لاَزِمٍ، يَجِبُ شَرْعًا فَسْخُهُ رَفْعًا
لِلْفَسَادِ (3) .
__________
(1) التعريفات للجرجاني ص 145، والزيلعي 4 / 44، 103، 5 / 143، والأشباه
للسيوطي ص 233، وبلغة السالك 3 / 86، ونهاية المحتاج 5 / 313، 314
(2) التعريفات للجرجاني ص 143، والأشباه لابن نجيم ص 337
(3) البدائع 5 / 300، والزيلعي 4 / 44، 45، والقليوبي 1 / 186، والأشباه
والنظائر للسيوطي ص 233، ومجلة الأحكام العدلية م 109، 171، وبلغة السالك 3
/ 86
(7/25)
هـ - الْفَسْخُ:
6 - الْفَسْخُ: هُوَ حَل ارْتِبَاطِ الْعَقْدِ، وَهَذَا يَكُونُ
بِإِرَادَةِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا، أَوْ بِحُكْمِ
الْقَاضِي، فَهُوَ عَمَل الْمُتَعَاقِدَيْنِ غَالِبًا، أَوْ فِعْل
الْحَاكِمِ فِي بَعْضِ الأَْحْوَال كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَوْضِعِهِ.
أَمَّا الاِنْفِسَاخُ: فَهُوَ انْحِلاَل ارْتِبَاطِ الْعَقْدِ، سَوَاءٌ
أَكَانَ أَثَرًا لِلْفَسْخِ، أَوْ نَتِيجَةً لِعَوَامِل غَيْرِ
اخْتِيَارِيَّةٍ. فَإِذَا كَانَ الاِنْحِلاَل أَثَرًا لِلْفَسْخِ كَانَتِ
الْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالاِنْفِسَاخِ عَلاَقَةَ السَّبَبِ
بِالْمُسَبَّبِ، كَمَا إِذَا فَسَخَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ عَقْدَ
الْبَيْعِ بِسَبَبِ الْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ مَثَلاً، فَالاِنْفِسَاخُ فِي
هَذِهِ الْحَالَةِ نَتِيجَةُ الْفَسْخِ الَّذِي مَارَسَهُ الْعَاقِدُ
اخْتِيَارًا. يَقُول الْقَرَافِيُّ: الْفَسْخُ قَلْبُ كُل وَاحِدٍ مِنَ
الْعِوَضَيْنِ لِصَاحِبِهِ، وَالاِنْفِسَاخُ انْقِلاَبُ كُل وَاحِدٍ مِنَ
الْعِوَضَيْنِ لِصَاحِبِهِ، فَالأَْوَّل فِعْل الْمُتَعَاقِدَيْنِ إِذَا
ظَفِرُوا بِالْعُقُودِ الْمُحَرَّمَةِ، وَالثَّانِي صِفَةُ الْعِوَضَيْنِ،
فَالأَْوَّل سَبَبٌ شَرْعِيٌّ، وَالثَّانِي حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، فَهَذَانِ
فَرْعَانِ: فَالأَْوَّل مِنْ جِهَةِ الْمَوْضُوعَاتِ، وَالثَّانِي مِنْ
جِهَةِ الأَْسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ. (1)
وَمِثْلُهُ مَا جَاءَ فِي الْمَنْثُورِ لِلزَّرْكَشِيِّ، إِلاَّ أَنَّهُ
أَطْلَقَ وَلَمْ يُقَيِّدِ الْفَسْخَ بِالْعُقُودِ الْمُحَرَّمَةِ؛ لأَِنَّ
الْفَسْخَ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِي الْعُقُودِ غَيْرِ الْمُحَرَّمَةِ،
وَذَلِكَ بِإِرَادَةِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا كَمَا هُوَ
الْحَال غَالِبًا. (2)
أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ الاِنْفِسَاخُ أَثَرًا لِلْفَسْخِ، بَل نَتِيجَةً
لِعَوَامِل خَارِجَةٍ عَنْ إِرَادَةِ الْعَاقِدَيْنِ، كَمَوْتِ أَحَدِ
الْعَاقِدَيْنِ فِي الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ مَثَلاً، فَلاَ يُوجَدُ
بَيْنَ
__________
(1) الفروق للقرافي 3 / 269.
(2) المنثور للزركشي 3 / 42.
(7/26)
الْفَسْخِ وَالاِنْفِسَاخِ عَلاَقَةُ
السَّبَبِيَّةِ الَّتِي قَرَّرَهَا الْقَرَافِيُّ.
7 - وَمِنَ الأَْمْثِلَةِ الَّتِي قَرَّرَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا انْفِسَاخَ
الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ فَسْخٍ مَا يَأْتِي:
أ - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ تَلِفَتِ الْعَيْنُ
الْمُسْتَأْجَرَةُ انْفَسَخَتِ الإِْجَارَةُ، كَمَا إِذَا تَلِفَتِ
الدَّابَّةُ الْمُعَيَّنَةُ، أَوِ انْهَدَمَتِ الدَّارُ الْمُسْتَأْجَرَةُ.
(1)
ب - لَوْ غُصِبَتِ الْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ مِنْ يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ
سَقَطَ الأَْجْرُ لِزَوَال التَّمَكُّنِ مِنَ الاِنْتِفَاعِ، وَتَنْفَسِخُ
الإِْجَارَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، لَكِنَّ
الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ قَالُوا: لاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ
بِنَفْسِهِ، بَل يَثْبُتُ خِيَارُ الْفَسْخِ لِلْمُسْتَأْجِرِ. (2)
ج - إِذَا مَاتَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلاَهُمَا فِي الْعُقُودِ
غَيْرِ اللاَّزِمَةِ، (3) كَالْعَارِيَّةِ وَالْوَكَالَةِ انْفَسَخَ
الْعَقْدُ.
د - يَنْفَسِخُ عَقْدُ الإِْجَارَةِ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ
كِلَيْهِمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، خِلاَفًا لِلْجُمْهُورِ، وَكَذَلِكَ
تَنْفَسِخُ الإِْجَارَةُ بِالأَْعْذَارِ (4) ، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ
يُذْكَرُ فِي أَسْبَابِ الاِنْفِسَاخِ.
وَسَوْفَ يَقْتَصِرُ الْكَلاَمُ فِي هَذَا الْبَحْثِ عَلَى الاِنْفِسَاخِ
الَّذِي لاَ يَكُونُ أَثَرًا لِلْفَسْخِ. أَمَّا الاِنْفِسَاخُ الَّذِي
هُوَ أَثَرٌ لِلْفَسْخِ فَيُرْجَعُ إِلَيْهِ تَحْتَ عُنْوَانِ (فَسْخٌ) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 52، والشرح الصغير 4 / 49، ونهاية المحتاج 5 / 300،
318، والإقناع لحل ألفاظ أبي شجاع ص 72، والمغني 6 / 25
(2) الزيلعي 5 / 108، وابن عابدين 5 / 8، والشرح الصغير 4 / 49، ونهاية
المحتاج 5 / 318، والمغني 6 / 28 - 30
(3) العقود غير اللازمة هي ما للعاقد نسخه ولو لم يكن العاقد الآخر راضيا
(الأشباه لابن نجيم ص 193)
(4) ابن عابدين 5 / 52، والشرح الصغير 4 / 49، ونهاية المحتاج 5 / 314،
والمغني 6 / 42
(7/26)
مَا يَرِدُ عَلَيْهِ الاِنْفِسَاخُ:
8 - مَحَل الاِنْفِسَاخِ الْعَقْدُ لاَ غَيْرُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ سَبَبُهُ
الْفَسْخَ أَمْ غَيْرَهُ؛ لأَِنَّهُمْ عَرَّفُوا الاِنْفِسَاخَ بِانْحِلاَل
ارْتِبَاطِ الْعَقْدِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لاَ يُتَصَوَّرُ إِلاَّ إِذَا
كَانَ هُنَاكَ ارْتِبَاطٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ بِوَاسِطَةِ الْعَقْدِ. (1)
أَمَّا إِذَا أُرِيدَ مِنَ الاِنْفِسَاخِ الْبُطْلاَنُ وَالنَّقْضُ،
فَيُمْكِنُ أَنْ يَرِدَ عَلَى التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَنْشَأُ عَنْ
إِرَادَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَذَلِكَ الْعُهُودُ وَالْوُعُودُ، كَمَا
يُسْتَعْمَل أَحْيَانًا فِي الْعِبَادَاتِ وَيَرِدُ عَلَى النِّيَّاتِ،
كَانْفِسَاخِ نِيَّةِ صَلاَةِ الْفَرْضِ إِلَى النَّفْل، وَكَذَلِكَ
انْفِسَاخُ الْحَجِّ بِالْعُمْرَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، فَإِنَّهُمْ
قَالُوا: إِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَصَرَفَهُ إِلَى الْعُمْرَةِ
يَنْفَسِخُ الْحَجُّ إِلَى الْعُمْرَةِ.
وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي
الْجَدِيدِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَفْسَخَ نِيَّةَ الْحَجِّ
بَعْدَمَا أَحْرَمَ، وَيَقْطَعَ أَفْعَالَهُ، وَيَجْعَل إِحْرَامَهُ
وَأَفْعَالَهُ لِلْعُمْرَةِ. (2)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْرَامٌ) .
أَسْبَابُ الاِنْفِسَاخِ:
9 - الاِنْفِسَاخُ لَهُ أَسْبَابٌ مُخْتَلِفَةٌ: مِنْهَا مَا هُوَ
اخْتِيَارِيٌّ، وَهُوَ مَا يَأْتِي بِإِرَادَةِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ
بِإِرَادَةِ كِلَيْهِمَا أَوْ بِحُكْمِ الْقَاضِي، وَمِنْهَا مَا هُوَ
سَمَاوِيٌّ وَهُوَ مَا يَأْتِي بِدُونِ إِرَادَةِ الْعَاقِدَيْنِ أَوِ
الْقَاضِي، بَل بِعَوَامِل خَارِجَةٍ عَنِ الإِْرَادَةِ لاَ يُمْكِنُ
اسْتِمْرَارُ الْعَقْدِ مَعَهَا.
__________
(1) المنثور للزركشي 3 / 45، والأشباه لابن نجيم ص 338
(2) ابن عابدين 2 / 172، والمغني 3 / 289، ولتفصيل جواز وعدم جواز انفساخ
الحج للعمرة، وما ورد فيه من الأحاديث وأدلة المجوزين والمانعين راجع فتح
القدير 3 / 365، 366
(7/27)
يَقُول الْكَاسَانِيُّ: مَا يَنْفَسِخُ
بِهِ الْعَقْدُ نَوْعَانِ: اخْتِيَارِيٌّ وَضَرُورِيٌّ، فَالاِخْتِيَارِيُّ
هُوَ أَنْ يَقُول: فَسَخْتُ الْعَقْدَ أَوْ نَقَضْتُهُ وَنَحْوُهُ،
وَالضَّرُورِيُّ: أَنْ يَهْلِكَ الْمَبِيعُ قَبْل الْقَبْضِ مَثَلاً. (1)
الأَْسْبَابُ الاِخْتِيَارِيَّةُ:
أَوَّلاً: الْفَسْخُ:
10 - الْمُرَادُ بِالْفَسْخِ هُنَا مَا يَرْفَعُ بِهِ حُكْمَ الْعَقْدِ
بِإِرَادَةِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا، وَهَذَا يَكُونُ فِي
الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ بِطَبِيعَتِهَا، كَعَقْدَيِ الْعَارِيَّةِ
وَالْوَكَالَةِ مَثَلاً، أَوْ مَا يَكُونُ فِيهِ أَحَدُ الْخِيَارَاتِ،
أَوْ بِسَبَبِ الأَْعْذَارِ الَّتِي يَتَعَذَّرُ بِهَا اسْتِمْرَارُ
الْعَقْدِ، أَوْ بِسَبَبِ الْفَسَادِ.
وَيُنْظَرُ حُكْمُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مُصْطَلَحَيْ: (إِقَالَةٌ وَفَسْخٌ)
.
ثَانِيًا: الإِْقَالَةُ:
11 - الإِْقَالَةُ رَفْعُ الْعَقْدِ وَإِزَالَتُهُ بِرِضَى الطَّرَفَيْنِ
(2) ، وَهِيَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الاِنْفِسَاخِ الاِخْتِيَارِيَّةِ،
وَتَرِدُ عَلَى الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ، كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْعَقْدُ غَيْرَ لاَزِمٍ كَالْعَارِيَّةِ، أَوْ
لاَزِمًا بِطَبِيعَتِهِ وَلَكِنْ فِيهِ أَحَدُ الْخِيَارَاتِ فَلاَ حَاجَةَ
فِيهِ لِلإِْقَالَةِ؛ لِجَوَازِ فَسْخِهِ بِطَرِيقٍ أُخْرَى، كَمَا
تَقَدَّمَ. (3)
وَيُنْظَرُ الْكَلاَمُ فِيهِ تَحْتَ عُنْوَانِ: (إِقَالَةٌ) .
__________
(1) البدائع 5 / 298.
(2) ابن عابدين 4 / 164، ومجلة الأحكام م 163.
(3) البدائع 5 / 306، والمنثور للزركشي 3 / 47.
(7/27)
أَسْبَابُ الاِنْفِسَاخِ غَيْرُ
الاِخْتِيَارِيَّةِ:
أَوَّلاً: تَلَفُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ:
تَلَفُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَهُ أَثَرٌ فِي انْفِسَاخِ بَعْضِ
الْعُقُودِ، وَالْعُقُودُ نَوْعَانِ:
12 - الأَْوَّل: الْعُقُودُ الْفَوْرِيَّةُ: وَهِيَ الَّتِي لاَ يَحْتَاجُ
تَنْفِيذُهَا إِلَى زَمَنٍ مُمْتَدٍّ يَشْغَلُهُ بِاسْتِمْرَارٍ، بَل
يَتِمُّ تَنْفِيذُهَا فَوْرًا دَفْعَةً وَاحِدَةً فِي الْوَقْتِ الَّذِي
يَخْتَارُهُ الْعَاقِدَانِ، كَالْبَيْعِ الْمُطْلَقِ وَالصُّلْحِ
وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهَا.
وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْعُقُودِ لاَ يَنْفَسِخُ بِتَلَفِ الْمَعْقُودِ
عَلَيْهِ إِذَا تَمَّ قَبْضُهُ. فَعَقْدُ الْبَيْعِ مَثَلاً يَتِمُّ
بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول، وَإِذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ
وَهَلَكَ بِيَدِهِ لاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ؛ لأَِنَّ الْهَالِكَ مِلْكُ
الْمُشْتَرِي، وَالْمَالِكُ هُوَ الَّذِي يَتَحَمَّل تَبِعَةَ الْهَالِكِ
كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
(1)
أَمَّا إِذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ بَعْدَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول وَقَبْل
الْقَبْضِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ وَبَيَانٌ: فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ -
وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلاَمِ الْحَنَابِلَةِ - أَنَّهُ إِذَا كَانَ
الْمَبِيعُ مِمَّا فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ لِمُشْتَرِيهِ، وَهُوَ الْمَال
الْمِثْلِيُّ مِنْ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ أَوْ مَعْدُودٍ، يَنْفَسِخُ
الْعَقْدُ بِالتَّلَفِ وَالضَّمَانِ عَلَى الْبَائِعِ. أَمَّا إِذَا كَانَ
الْمَبِيعُ مُعَيَّنًا وَكَانَ عَقَارًا، أَوْ مِنَ الأَْمْوَال
الْقِيَمِيَّةِ الَّتِي لَيْسَ لِمُشْتَرِيهَا حَقُّ تَوْفِيَةٍ فَلاَ
يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِالتَّلَفِ، وَيَنْتَقِل الضَّمَانُ إِلَى
الْمُشْتَرِي بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ اللاَّزِمِ. (2)
__________
(1) الشرح الصغير للدردير 3 / 195، والمغني 3 / 569، وتحفة الفقهاء
للسمرقندي 5 / 54، والقليوبي 2 / 201، والإقناع لحل ألفاظ أبي شجاع ص 72.
(2) الشرح الصغير للدردير 3 / 195، 196، والمغني 3 / 569.
(7/28)
وَأَطْلَقَ الْحَنَفِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ الْقَوْل بِانْفِسَاخِ الْبَيْعِ إِذَا هَلَكَ
الْمَبِيعُ قَبْل قَبْضِهِ. قَال السَّمَرْقَنْدِيُّ: وَلَوْ هَلَكَ
الْمَبِيعُ قَبْل التَّسْلِيمِ فَالْهَلاَكُ يَكُونُ عَلَى الْبَائِعِ،
يَعْنِي يَسْقُطُ الثَّمَنُ وَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ. (1) وَمِثْلُهُ مَا
جَاءَ فِي الْقَلْيُوبِيِّ: الْمَبِيعُ قَبْل قَبْضِهِ مِنْ ضَمَانِ
الْبَائِعِ، فَإِنْ تَلِفَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ انْفَسَخَ الْبَيْعُ
وَسَقَطَ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي. (2)
13 - وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ، أَمَّا إِذَا تَلِفَ
الثَّمَنُ، فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ
غَيْرَهُمَا فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَبِيعِ، لَوْ تَلِفَ انْفَسَخَ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا هَلَكَ الثَّمَنُ قَبْل
الْقَبْضِ فَإِنْ كَانَ مِثْلِيًّا لاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ؛ لأَِنَّهُ
يُمْكِنُ تَسْلِيمُ مِثْلِهِ، بِخِلاَفِ الْمَبِيعِ؛ لأَِنَّهُ عَيْنٌ
وَلِلنَّاسِ أَغْرَاضٌ فِي الأَْعْيَانِ. أَمَّا إِنْ هَلَكَ الثَّمَنُ
وَلَيْسَ لَهُ مِثْلٌ فِي الْحَال فَفِيهِ خِلاَفٌ. وَلاَ أَثَرَ لِتَلَفِ
الثَّمَنِ فِي الاِنْفِسَاخِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَيْنًا بِأَنْ كَانَ
نَقْدًا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودًا
بِالْعَقْدِ (3) ؛ وَلأَِنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لاَ تَتَعَيَّنُ
بِالتَّعْيِينِ فِي الْعَقْدِ.
هَذَا، وَأَمَّا إِتْلاَفُ الْمَبِيعِ قَبْل الْقَبْضِ إِنْ كَانَ مِنْ
قِبَل الْبَائِعِ يَنْفَسِخُ بِهِ الْعَقْدُ بِلاَ خِلاَفٍ. وَإِنْ كَانَ
مِنْ قِبَل الْمُشْتَرِي يُعْتَبَرُ قَبْضًا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَيْهِ.
(4)
__________
(1) تحفة الفقهاء للسمرقندي الحنفي 2 / 56، انظر ابن عابدين 4 / 46.
(2) القليوبي 2 / 210، 211.
(3) القليوبي 2 / 13، وتحفة الفقهاء 2 / 54 - 56.
(4) القليوبي 2 / 211، وابن عابدين 4 / 46، والمغني 3 / 569.
(7/28)
14 - الثَّانِي: الْعُقُودُ
الْمُسْتَمِرَّةُ: وَهِيَ الَّتِي يَسْتَغْرِقُ تَنْفِيذُهَا مُدَّةً مِنَ
الزَّمَنِ وَتَمْتَدُّ بِامْتِدَادِ الزَّمَنِ حَسَبَ الشُّرُوطِ
الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ وَالَّتِي تَقْتَضِيهَا
طَبِيعَةُ هَذِهِ الْعُقُودِ، كَالإِْجَارَةِ وَالإِْعَارَةِ
وَالْوَكَالَةِ وَأَمْثَالِهَا.
وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْعُقُودِ يَنْفَسِخُ بِتَلَفِ الْمَعْقُودِ
عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ قَبْل الْقَبْضِ أَمْ بَعْدَهُ، وَهَذَا
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ.
فَعَقْدُ الإِْجَارَةِ مَثَلاً يَنْفَسِخُ بِهَلاَكِ الْعَيْنِ
الْمُسْتَأْجَرَةِ. فَإِنْ تَلِفَتْ قَبْل الْقَبْضِ أَوْ عَقِيبَ
الْقَبْضِ قَبْل مُضِيِّ مُدَّةٍ يَتَمَكَّنُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنَ
الاِنْتِفَاعِ بِهَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ مِنْ أَصْلِهِ وَيَسْقُطُ
الأَْجْرُ. وَإِنْ تَلِفَتِ الْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ بَعْدَ مُضِيِّ
شَيْءٍ مِنَ الْمُدَّةِ فَإِنَّ الإِْجَارَةَ تَنْفَسِخُ فِيمَا بَقِيَ
مِنَ الْمُدَّةِ، دُونَ مَا مَضَى، وَيَكُونُ لِلْمُؤَجِّرِ مِنَ الأَْجْرِ
بِقَدْرِ مَا اسْتَوْفَى مِنَ الْمَنْفَعَةِ أَوْ بِقَدْرِ مَا مَضَى مِنَ
الْمُدَّةِ. (1)
وَفِي إِجَارَةِ الدَّوَابِّ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ: أَنَّهُ إِذَا وَقَعَتِ
الإِْجَارَةُ عَلَى دَوَابَّ بِعَيْنِهَا لِحَمْل الْمَتَاعِ، فَمَاتَتِ
انْفَسَخَتِ الإِْجَارَةُ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا وَقَعَتْ عَلَى دَوَابَّ
لاَ بِعَيْنِهَا وَسَلَّمَ الأَْجْرَ إِلَيْهِ فَمَاتَتْ لاَ يَنْفَسِخُ
الْعَقْدُ، وَعَلَى الْمُؤَجِّرِ أَنْ يَأْتِيَ بِغَيْرِ ذَلِكَ
لِلْمُسْتَأْجِرِ. (2)
وَكَذَلِكَ إِذَا وَقَعَ عَلَى الْعَيْنِ مَا يَمْنَعُ نَفْعَهَا
بِالْكُلِّيَّةِ، كَمَا لَوْ أَصْبَحَتِ الدَّارُ الْمُسْتَأْجَرَةُ غَيْرَ
صَالِحَةٍ لِلسُّكْنَى عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْمَالِكِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ
__________
(1) المغني 5 / 453، والحطاب 4 / 432، والفتاوى الهندية 4 / 461، والقليوبي
3 / 84، والوجيز للغزالي 1 / 236.
(2) الفتاوى الهندية 4 / 461، والوجيز 1 / 236، والشرح الصغير للدردير 4 /
49.
(7/29)
ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) وَذَلِكَ لِزَوَال الاِسْمِ
بِفَوَاتِ السُّكْنَى؛ لأَِنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا
تَلِفَتْ فَانْفَسَخَتِ الإِْجَارَةُ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً
لِيَرْكَبَهَا فَزَمِنَتْ (أَيْ مَرِضَتْ مَرَضًا مُزْمِنًا) بِحَيْثُ لاَ
تَصْلُحُ إِلاَّ لِتَدُورَ فِي الرَّحَى.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ لَكِنْ لَهُ الْفَسْخُ؛ لأَِنَّ
أَصْل الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لاَ يَفُوتُ؛ لأَِنَّ الاِنْتِفَاعَ
بِالْعَرْصَةِ (وَهِيَ أَرْضُ الْمَبْنَى) مُمْكِنٌ بِدُونِ الْبِنَاءِ،
إِلاَّ أَنَّهُ نَاقِصٌ، فَصَارَ كَالْعَيْبِ (1)
وَمِنَ الْعُقُودِ الْمُسْتَمِرَّةِ الَّتِي تَنْفَسِخُ بِتَلَفِ
الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَقْدُ الشَّرِكَةِ وَعَقْدُ الْمُضَارَبَةِ، كَمَا
هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَوْضِعِهِمَا. وَكَذَلِكَ عَقْدُ الْعَارِيَّةِ
بِتَلَفِ الْمُعَارِ، وَتَنْتَهِي الْوَكَالَةُ الْخَاصَّةُ بِفَوَاتِ
مَحَل الْوَكَالَةِ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مُصْطَلَحَيْ (إِعَارَةٌ،
وَوَكَالَةٌ) .
أَمَّا إِذَا غُصِبَ الْمَحَل وَحِيل بَيْنَ الشَّخْصِ الْمُنْتَفِعِ
وَالْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا فَلاَ يَنْفَسِخُ بِهِ الْعَقْدُ مِنْ
تِلْقَاءِ نَفْسِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ) بَل
لِلْمُسْتَأْجِرِ حَقُّ الْفَسْخِ. وَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ
الْغَصْبَ أَيْضًا مُوجِبٌ لِلاِنْفِسَاخِ؛ لِزَوَال التَّمَكُّنِ مِنَ
الاِنْتِفَاعِ، كَمَا سَيَأْتِي. (2)
__________
(1) البدائع 4 / 196، والاختيار 2 / 61، والشرح الصغير 4 / 50، والقليوبي 3
/ 84، والمغني 5 / 454، 499.
(2) نهاية المحتاج 5 / 318، وابن عابدين 5 / 8، والشرح الصغير 4 / 49، 51،
والمغني 5 / 454، 455، 6 / 28 - 30، والزيلعي 5 / 108.
(7/29)
ثَانِيًا: مَوْتُ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ
أَوْ كِلَيْهِمَا:
15 - لاَ يُؤَثِّرُ الْمَوْتُ فِي انْفِسَاخِ جَمِيعِ الْعُقُودِ عَلَى
حَدٍّ سَوَاءٍ، فَبَعْضُ الْعُقُودِ يَتِمُّ الْغَرَضُ مِنْهَا بَعْدَ
الإِْيجَابِ وَالْقَبُول فَوْرًا، فَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى الْعَاقِدَيْنِ
وَأَهْلِيَّتِهِمَا بَعْدَ انْعِقَادِهَا، كَالْبَيْعِ الَّذِي يُفِيدُ
تَمَلُّكَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ، وَتَمَلُّكَ الْبَائِعَ الثَّمَنَ
فَوْرَ إِنْشَائِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْرُونًا بِالْخِيَارِ فَإِذَا
مَاتَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلاَهُمَا بَعْدَ إِتْمَامِ الْعَقْدِ
وَانْتِقَال مِلْكِيَّةِ الْبَدَلَيْنِ لاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ وَعَلَى
عَكْسِ ذَلِكَ يَنْتَهِي عَقْدُ النِّكَاحِ بِمَوْتِ أَحَدِ
الْعَاقِدَيْنِ؛ لأَِنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ دَوَامُ الْعِشْرَةِ وَقَدْ زَال
بِالْمَوْتِ.
وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَيْهِ، وَهُنَاكَ عُقُودٌ
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْفِسَاخِهَا بِالْمَوْتِ، كَعَقْدِ
الإِْجَارَةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ، وَعُقُودٌ أُخْرَى
اتَّفَقُوا عَلَى انْفِسَاخِهَا بِالْمَوْتِ فِي الْجُمْلَةِ وَلَكِنَّهُمُ
اخْتَلَفُوا فِي تَكْيِيفِ انْفِسَاخِهَا وَتَعْلِيلِهِ، كَعُقُودِ
الْعَارِيَّةِ الْوَدِيعَةِ وَالشَّرِكَةِ، (1) وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِيمَا
يَأْتِي:
أ - انْفِسَاخُ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ:
16 - الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ هُوَ مَا لاَ يَسْتَبِدُّ أَحَدُ
الْعَاقِدَيْنِ بِفَسْخِهَا، كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَالصُّلْحِ
وَنَحْوِهَا.
وَبَعْضُ هَذِهِ الْعُقُودِ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى امْتِدَادِ الزَّمَنِ،
فَلاَ أَثَرَ لِلْمَوْتِ فِي انْفِسَاخِهَا بَعْدَ تَمَامِهَا، كَعَقْدِ
الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ لاَ يَنْفَسِخُ بِوَفَاةِ الْبَائِعِ أَوِ
الْمُشْتَرِي بَعْدَ مَا تَمَّ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا، وَيَقُومُ
الْوَرَثَةُ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ فِيمَا نَشَأَ مِنْ آثَارِ الْعَقْدِ.
وَهُنَاكَ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ يَتَوَقَّفُ
آثَارُهَا
__________
(1) مسلم الثبوت 1 / 175، والتوضيح مع التلويح 2 / 178.
(7/30)
عَلَى مُرُورِ الزَّمَنِ، كَعَقْدِ
الإِْجَارَةِ، وَفِي انْفِسَاخِ عَقْدِ الإِْجَارَةِ بِمَوْتِ أَحَدِ
الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ:
فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ) عَلَى أَنَّ عَقْدَ الإِْجَارَةِ لاَ يَنْفَسِخُ
بِمَوْتِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، بَل تَبْقَى إِلَى انْقِضَاءِ
الْمُدَّةِ؛ لأَِنَّهَا عَقْدٌ لاَزِمٌ، فَلاَ يَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ،
كَعَقْدِ الْبَيْعِ. وَيَخْلُفُ الْمُسْتَأْجَرَ وَارِثُهُ فِي اسْتِيفَاءِ
الْمَنْفَعَةِ. وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ مَعَ خِلاَفٍ بَيْنَهُمْ فِي
بَعْضِ الْفُرُوعِ سَيَأْتِي ذِكْرُهُ. (1)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الإِْجَارَةَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ
الْعَاقِدَيْنِ إِنْ عَقَدَهَا لِنَفْسِهِ؛ لأَِنَّهَا عَقْدٌ عَلَى
الْمَنْفَعَةِ وَهِيَ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَتَنْعَقِدُ
الإِْجَارَةُ بِحُدُوثِهَا شَيْئًا فَشَيْئًا، فَلاَ تَبْقَى بِدُونِ
الْعَاقِدِ. وَإِنْ عَقَدَهَا لِغَيْرِهِ لَمْ تَنْفَسِخْ كَالْوَصِيِّ
وَالْوَلِيِّ وَقَيِّمِ الْوَقْفِ؛ وَلأَِنَّ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ
الْمَوْتُ إِنْ كَانَ هُوَ الْمُؤَجِّرَ فَالْعَقْدُ يَقْتَضِي اسْتِيفَاءَ
الْمَنَافِعِ مِنْ مِلْكِهِ، وَلَوْ بَقِيَ بَعْدَ مَوْتِهِ لاَسْتُوفِيَتِ
الْمَنَافِعُ مِنْ مِلْكِ غَيْرِهِ، وَهَذَا خِلاَفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ،
وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُسْتَأْجِرَ فَالْعَقْدُ يَقْتَضِي اسْتِحْقَاقَ
الأُْجْرَةِ مِنْ مَالِهِ، وَلَوْ بَقِيَ الْعَقْدُ بَعْدَ مَوْتِهِ
لاَسْتَحَقَّتِ الأُْجْرَةَ مِنْ مَال غَيْرِهِ، وَهَذَا خِلاَفُ مُقْتَضَى
الْعَقْدِ. بِخِلاَفِ مَا إِذَا مَاتَ مَنْ لَمْ يَقَعْ لَهُ الْعَقْدُ
كَالْوَكِيل وَنَحْوِهِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَقْتَضِي اسْتِحْقَاقَ
الْمَنَافِعِ وَلاَ اسْتِحْقَاقَ الأُْجْرَةِ مِنْ مِلْكِهِ، فَإِبْقَاءُ
الْعَقْدِ بَعْدَ مَوْتِهِ لاَ يُوجِبُ تَغْيِيرَ مُوجِبِ الْعَقْدِ. (2)
__________
(1) الإقناع لحل ألفاظ أبي شجاع 2 / 72، وبلغة السالك 4 / 50، والمغني 5 /
467 - 468.
(2) الاختيار 2 / 61، والبدائع 4 / 222.
(7/30)
4 وَأَصْل الْخِلاَفِ 4 يَرْجِعُ إِلَى
تَكْيِيفِ الإِْجَارَةِ فِي نَقْل الْمَنَافِعِ. فَالْجُمْهُورُ عَلَى
أَنَّ الإِْجَارَةَ إِذَا تَمَّتْ وَكَانَتْ عَلَى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ
مَلَكَ الْمُسْتَأْجِرُ الْمَنَافِعَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا إِلَى
الْمُدَّةِ، وَيَكُونُ حُدُوثُهَا عَلَى مِلْكِهِ. وَكَذَلِكَ الْمُؤَجِّرُ
يَمْلِكُ الأُْجْرَةَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ إِذَا لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا التَّأْجِيل، كَمَا
يَمْلِكُ الْبَائِعُ الثَّمَنَ بِالْبَيْعِ. فَإِذَا مَاتَ أَحَدُ
الْعَاقِدَيْنِ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ وَقَبْل انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ
يَقُومُ الْوَرَثَةُ مَقَامَ الْمُتَوَفَّى وَلاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ.
(1)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الإِْجَارَةِ
الْمَنْفَعَةُ، وَالأُْجْرَةُ تُسْتَحَقُّ بِاسْتِيفَائِهَا أَوْ
بِاشْتِرَاطِ التَّعْجِيل. وَلاَ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ لَدَى
الْعَقْدِ؛ لأَِنَّهَا تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَهِيَ عَقْدُ
مُعَاوَضَةٍ، فَتَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ فَلاَ تَجِبُ الأُْجْرَةُ بِنَفْسِ
الْعَقْدِ، فَإِذَا اسْتَوْفَى الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ اسْتَحَقَّ
الأُْجْرَةَ عَمَلاً بِالْمُسَاوَاةِ. (2)
وَقَوْل الْجُمْهُورِ بِعَدَمِ انْفِسَاخِ عَقْدِ الإِْجَارَةِ بِمَوْتِ
الْعَاقِدَيْنِ لاَ يَعْنِي أَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ فِي الاِنْفِسَاخِ فِي
جَمِيعِ الْحَالاَتِ. فَقَدْ صَرَّحُوا: أَنَّ عَقْدَ الإِْجَارَةِ
يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الأَْجِيرِ الْمُعَيَّنِ، وَبِمَوْتِ الْمُرْضِعَةِ،
وَمَوْتِ الصَّبِيِّ الْمُسْتَأْجِرِ لِتَعْلِيمِهِ وَعَلَى رَضَاعِهِ.
وَقَدْ نُقِل عَنِ الشَّافِعِيَّةِ فِي مَوْتِ الصَّبِيِّ الْمُتَعَلِّمِ
أَوِ الْمُرْتَضِعِ قَوْلٌ آخَرُ بِعَدَمِ الاِنْفِسَاخِ. (3)
__________
(1) المغني 5 / 442 - 443، والشرح الصغير 4 / 49، 50، والقليوبي 3 / 84.
(2) الاختيار 2 / 55.
(3) الحطاب 4 / 432، والمغني 5 / 499، والإقناع لحل ألفاظ أبي شجاع 2 / 72،
والمهذب 1 / 412 - 413، والوجيز للغزالي 1 / 239.
(7/31)
ب - الاِنْفِسَاخُ بِالْمَوْتِ فِي
الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ:
17 - الْعُقُودُ غَيْرُ اللاَّزِمَةِ (الْجَائِزَةُ) هِيَ مَا يَسْتَبِدُّ
أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ بِفَسْخِهَا كَالْعَارِيَّةِ وَالْوَكَالَةِ
وَالشَّرِكَةِ الْوَدِيعَةِ وَنَحْوِهَا.
وَهَذِهِ الْعُقُودُ تَنْفَسِخُ بِوَفَاةِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ
كِلَيْهِمَا؛ لأَِنَّهَا عُقُودٌ جَائِزَةٌ يَجُوزُ لِكُل وَاحِدٍ مِنَ
الطَّرَفَيْنِ فَسْخُهَا فِي حَيَاتِهِ، فَإِذَا مَا تُوُفِّيَ فَقَدْ
ذَهَبَتْ إِرَادَتُهُ، وَانْتَهَتْ رَغْبَتُهُ، فَبَطَلَتْ آثَارُ هَذِهِ
الْعُقُودِ الَّتِي كَانَتْ تَسْتَمِرُّ بِاسْتِمْرَارِ إِرَادَةِ
الْعَاقِدَيْنِ، وَهَذَا الْحُكْمُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ
فِي الْجُمْلَةِ.
فَعَقْدُ الإِْعَارَةِ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُعِيرِ أَوِ الْمُسْتَعِيرِ
عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ) ؛ لأَِنَّهَا عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ، وَهِيَ
تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَيَتَجَدَّدُ الْعَقْدُ حَسَبَ حُدُوثِ
الْمَنَافِعِ، وَلاَ يُمْكِنُ ذَلِكَ بَعْدَ وَفَاةِ أَحَدِ
الْعَاقِدَيْنِ، كَمَا عَلَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ؛ (1) وَلأَِنَّ
الْعَارِيَّةَ إِبَاحَةُ الْمَنَافِعِ، وَهِيَ تَحْتَاجُ إِلَى الإِْذْنِ،
وَقَدْ بَطَل بِالْمَوْتِ، فَانْفَسَخَتِ الإِْعَارَةُ، كَمَا عَلَّلَهُ
الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ. (2)
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَالْعَارِيَّةُ عِنْدَهُمْ عَقْدٌ لاَزِمٌ، إِذَا
كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِأَجَلٍ أَوْ عَمَلٍ، فَلاَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ
الْمُعِيرِ أَوِ الْمُسْتَعِيرِ، وَتَدُومُ إِلَى أَنْ تَتِمَّ الْمُدَّةُ،
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْعَارِيَّةُ مُطْلَقَةً فَفِي انْفِسَاخِهَا عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ رِوَايَتَانِ ظَاهِرُهُمَا عَدَمُ الاِنْفِسَاخِ إِلَى
الْعَمَل أَوِ الزَّمَنِ الْمُعْتَادِ. (3)
وَكَذَلِكَ عَقْدُ الْوَكَالَةِ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْوَكِيل أَوِ
الْمُوَكِّل عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّهَا عَقْدٌ جَائِزٌ
يَنْفَسِخُ
__________
(1) الزيلعي 5 / 84، وابن عابدين 4 / 507.
(2) نهاية المحتاج 5 / 130، والمغني 5 / 225.
(3) المدونة 15 / 167، وجواهر الإكليل 2 / 146.
(7/31)
بِالْعَزْل، وَالْمَوْتُ فِي حُكْمِ عَزْل
الْوَكِيل. وَإِذَا مَاتَ الْوَكِيل زَالَتْ أَهْلِيَّتُهُ لِلتَّصَرُّفِ،
وَإِذَا مَاتَ الْمُوَكِّل زَالَتْ صَلاَحِيَّتُهُ بِتَفْوِيضِ الأَْمْرِ
إِلَى الْوَكِيل فَتَبْطُل الْوَكَالَةُ.
هَذَا وَلاَ يَشْتَرِطُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي انْفِسَاخِ
الْوَكَالَةِ عِلْمَ الْوَكِيل بِمَوْتِ الْمُوَكِّل. وَاشْتَرَطَ بَعْضُ
الْمَالِكِيَّةِ (وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) عِلْمَ
الْوَكِيل بِمَوْتِ الْمُوَكِّل فِي انْفِسَاخِ الْوَكَالَةِ كَمَا
ذَكَرَهُ ابْنُ رُشْدٍ. (1)
وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ كَعَقْدِ
الشَّرِكَةِ، الْوَدِيعَةِ وَغَيْرِهِمَا تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ
الْعَاقِدَيْنِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ يُرْجَعُ إِلَيْهَا
فِي مَوَاضِعِهَا.
هَذَا، وَهُنَاكَ عُقُودٌ أُخْرَى تُعْتَبَرُ لاَزِمَةً مِنْ جَانِبِ
أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، جَائِزَةً مِنْ جَانِبِ الْعَاقِدِ الآْخَرِ،
كَعَقْدِ الْكَفَالَةِ، فَهِيَ لاَزِمَةٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْكَفِيل الَّذِي
لاَ يَسْتَبِدُّ بِفَسْخِهَا، دُونَ إِذْنِ الْمَكْفُول لَهُ، لَكِنَّهَا
جَائِزَةٌ مِنْ جَانِبِ الْمَكْفُول لَهُ يَسْتَبِدُّ بِفَسْخِهَا.
وَكَعَقْدِ الرَّهْنِ، فَهُوَ لاَزِمٌ مِنْ قِبَل الرَّاهِنِ، جَائِزٌ مِنْ
قِبَل الْمُرْتَهِنِ الَّذِي يَسْتَطِيعُ فَسْخَهُ بِدُونِ إِذْنِ
الرَّاهِنِ.
وَفِيمَا يَلِي أَثَرُ الْمَوْتِ فِي انْفِسَاخِ هَذَيْنِ الْعَقْدَيْنِ:
أَثَرُ الْمَوْتِ فِي انْفِسَاخِ عَقْدِ الْكَفَالَةِ:
18 - مَوْتُ الْكَفِيل أَوِ الْمَكْفُول لاَ تَنْفَسِخُ بِهِ الْكَفَالَةُ،
وَلاَ يَمْنَعُ مُطَالَبَةَ الْمَكْفُول لَهُ بِالدَّيْنِ، فَإِذَا مَاتَ
الْكَفِيل أَوِ الْمَكْفُول يَحِل الدَّيْنُ الْمُؤَجَّل عَلَى
__________
(1) الوجيز للغزالي 1 / 187 - 225، والقليوبي 3 / 59، وابن عابدين 4 / 417،
وبداية المجتهد 2 / 273، والمغني 5 / 123، ونهاية المحتاج 5 / 55،
والقوانين الفقهية لابن جزي ص 216.
(7/32)
الْمَيِّتِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ
(الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ) وَهُوَ رِوَايَةٌ
عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، تُحَصِّل الدَّيْنَ مِنْ تَرِكَةِ الْمُتَوَفَّى،
وَلَوْ مَاتَا خُيِّرَ الطَّالِبُ فِي أَخْذِهِ مِنْ أَيِّ
التَّرِكَتَيْنِ. وَلَوْ مَاتَ الْمَكْفُول لَهُ يَحِل الْوَرَثَةُ
مَحَلَّهُ فِي الْمُطَالَبَةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ يَحِل الدَّيْنُ
الْمُؤَجَّل بِمَوْتِ الْكَفِيل أَوِ الْمَكْفُول، وَيَبْقَى مُؤَجَّلاً
كَمَا هُوَ.
أَثَرُ الْمَوْتِ فِي انْفِسَاخِ عَقْدِ الرَّهْنِ:
19 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ لاَ يَنْفَسِخُ
بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ بَعْدَ قَبْضِ الْمَرْهُونِ، فَإِذَا مَاتَ
الرَّاهِنُ أَوِ الْمُرْهِنُ يَقُومُ الْوَرَثَةُ مَقَامَ الْمُتَوَفَّى،
وَتَبْقَى الْعَيْنُ الْمَرْهُونَةُ تَحْتَ يَدِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ
وَرَثَتِهِ، وَلاَ سَبِيل إِلَى خَلاَصِ الرَّهْنِ إِلاَّ بِقَضَاءِ
الدَّيْنِ أَوْ إِبْرَاءِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ. وَالْمُرْتَهِنُ أَحَقُّ
بِالرَّهْنِ وَبِثَمَنِهِ إِنْ بِيعَ فِي حَيَاةِ الرَّاهِنِ أَوْ بَعْدَ
وَفَاتِهِ. (1)
وَعَقْدُ الرَّهْنِ قَبْل قَبْضِ الْمَرْهُونِ عَقْدٌ غَيْرُ لاَزِمٍ
عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ) وَكَانَ الْمَفْرُوضُ أَنْ يَنْفَسِخَ بِمَوْتِ أَحَدِ
الْعَاقِدَيْنِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ، إِلاَّ أَنَّهُمُ
اخْتَلَفُوا فِي انْفِسَاخِهِ قَبْل الْقَبْضِ:
فَقَال الْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - لاَ
يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ. فَإِنْ مَاتَ الْمُرْتَهِنُ
قَامَ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 234، والبدائع 6 / 145، ومختصر الطحاوي ص 95، والمدونة
5 / 309، والقليوبي 2 / 273، 275، والمغني 4 / 447، 448.
(7/32)
وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي الْقَبْضِ، لَكِنْ
إِنْ مَاتَ الرَّاهِنُ لَمْ يَلْزَمْ وَرَثَتَهُ الإِْقْبَاضُ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: وَهِيَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ - إِنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ
الْعَاقِدَيْنِ قَبْل الْقَبْضِ؛ لأَِنَّهُ عَقْدٌ جَائِزٌ. (1) أَمَّا
الْمَالِكِيَّةُ فَصَرَّحُوا بِأَنَّ الرَّهْنَ يَلْزَمُ بِالْعَقْدِ،
وَيُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى التَّسْلِيمِ، إِلاَّ أَنْ يَتَرَاخَى
الْمُرْتَهِنُ عَنِ الْمُطَالَبَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يَنْفَسِخُ
بِوَفَاةِ الْمُرْتَهِنِ، وَيَقُومُ وَرَثَتُهُ مَقَامَ مُوَرِّثِهِمْ فِي
مُطَالَبَةِ الْمَدِينِ وَقَبْضِ الْمَرْهُونِ، لَكِنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى
أَنَّ الرَّهْنَ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الرَّاهِنِ وَفَلْسِهِ قَبْل حَوْزِهِ
وَلَوْ جَدَّ فِيهِ. (2)
أَثَرُ تَغَيُّرِ الأَْهْلِيَّةِ فِي انْفِسَاخِ الْعُقُودِ:
20 - الأَْهْلِيَّةُ: صَلاَحِيَّةُ الإِْنْسَانِ لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ لَهُ
وَعَلَيْهِ، وَلِصُدُورِ الْفِعْل مِنْهُ عَلَى وَجْهٍ يُعْتَدُّ بِهِ
شَرْعًا (3) . وَتَعْرِضُ لِلأَْهْلِيَّةِ أُمُورٌ تُغَيِّرُهَا
وَتُحَدِّدُهَا فَتَتَغَيَّرُ بِهَا الأَْحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ، كَمَا
سَيَأْتِي فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
وَتَغَيُّرُ الأَْهْلِيَّةِ بِمَا يَعْرِضُ مِنْ بَعْضِ الْعَوَارِضِ،
كَالْجُنُونِ أَوِ الإِْغْمَاءِ أَوِ الاِرْتِدَادِ وَنَحْوِهَا، لَهُ
أَثَرٌ فِي انْفِسَاخِ بَعْضِ الْعُقُودِ، فَقَدْ صَرَّحَ جُمْهُورُ
الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) أَنَّ
الْعُقُودَ الْجَائِزَةَ: مِثْل الْمُضَارَبَةِ، وَالشَّرِكَةِ،
وَالْوَكَالَةِ، الْوَدِيعَةِ، وَالْعَارِيَّةِ، تَنْفَسِخُ بِجُنُونِ
أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا (4) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 308، والمغني 4 / 365، ونهاية المحتاج 4 / 251.
(2) بداية المجتهد 2 / 274، والشرح الصغير 3 / 316.
(3) التلويح والتوضيح 2 / 161، 162.
(4) ابن عابدين 3 / 351 و 4 / 417، والبدائع 6 / 38، والوجيز 1 / 187، 225،
وقليوبي 3 / 59، 181، ونهاية المحتاج 5 / 55، والمغني 5 / 124، 133، ومطالب
أولي النهى 3 / 453.
(7/33)
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَعَقْدُ
الْمُضَارَبَةِ عِنْدَهُمْ عَقْدٌ لاَزِمٌ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَل
وَلِهَذَا يُورَثُ، وَكَذَلِكَ عَقْدُ الْعَارِيَّةِ إِذَا كَانَتْ
مُقَيَّدَةً بِأَجَلٍ أَوْ عَمَلٍ، فَلاَ يَنْفَسِخَانِ بِالْجُنُونِ.
أَمَّا فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ
جُنُونَ الْوَكِيل لاَ يُوجِبُ عَزْلَهُ إِنْ بَرِأَ، وَكَذَا جُنُونُ
الْمُوَكِّل وَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ، فَإِنْ طَال نَظَرَ السُّلْطَانُ فِي
أَمْرِهِ.
وَيُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ حُكْمُ الشَّرِكَةِ؛ لأَِنَّ الشَّرِيكَ يُعْتَبَرُ
وَكِيلاً عَنْ صَاحِبِهِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا عَنْهُ،
وَكِلاَهُمَا مِنَ الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ (الْجَائِزَةِ) . (1)
أَمَّا الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ، فَلاَ
تَنْفَسِخُ بِالْجُنُونِ بَعْدَ تَمَامِهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ.
حَتَّى إِنَّ الْحَنَفِيَّةَ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِانْفِسَاخِ
الإِْجَارَةِ بِالْمَوْتِ؛ لأَِنَّهَا عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ - وَهِيَ
تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا - صَرَّحُوا بِعَدَمِ انْفِسَاخِهَا
بِالْجُنُونِ، فَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: الإِْجَارَةُ لاَ
تَنْفَسِخُ بِجُنُونِ الآْجِرِ أَوِ الْمُسْتَأْجِرِ وَلاَ
بِارْتِدَادِهِمَا، وَإِذَا ارْتَدَّ الآْجِرُ أَوِ الْمُسْتَأْجِرُ فِي
مُدَّةِ الإِْجَارَةِ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَقَضَى الْقَاضِي
بِلَحَاقِهِ بَطَلَتِ الإِْجَارَةُ، وَإِنْ عَادَ مُسْلِمًا إِلَى دَارِ
الإِْسْلاَمِ فِي مُدَّةِ الإِْجَارَةِ عَادَتِ الإِْجَارَةُ. (2)
وَلَعَل دَلِيل التَّفْرِقَةِ بَيْنَ انْفِسَاخِ الإِْجَارَةِ بِالْمَوْتِ
وَعَدَمِ انْفِسَاخِهَا بِالْجُنُونِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ أَنَّ
الْمَوْتَ سَبَبُ نَقْل الْمِلْكِيَّةِ، فَلَوْ أَبْقَيْنَا الْعَقْدَ
لاَسْتُوفِيَتِ
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 237، 253، 297، ومنح الجليل 3 / 392.
(2) الفتاوى الهندية 4 / 463، وانظر ابن عابدين 5 / 52.
(7/33)
الْمَنَافِعُ أَوِ الأُْجْرَةُ مِنْ مِلْكِ
الْغَيْرِ (الْوَرَثَةُ) وَهَذَا خِلاَفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، بِخِلاَفِ
الْجُنُونِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ سَبَبًا لاِنْتِقَال الْمِلْكِيَّةِ،
فَبَقَاءُ الإِْجَارَةِ لأَِنَّ اسْتِيفَاءَ الْمَنَافِعِ وَالأُْجْرَةِ
مِنْ مِلْكِ الْعَاقِدَيْنِ. (1)
21 - وَمِنَ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ الَّتِي لاَ تَنْفَسِخُ تِلْقَائِيًّا
بِالْجُنُونِ عَقْدُ النِّكَاحِ، لَكِنَّهُ يُعْتَبَرُ عَيْبًا يَثْبُتُ
بِهِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْعَقْدِ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ
الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) ر
(نِكَاحٌ. فَسْخٌ) .
22 - وَرِدَّةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ مُوجِبَةٌ لاِنْفِسَاخِ عَقْدِ
النِّكَاحِ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {لاَ
هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (2) ، وَقَوْلِهِ
سُبْحَانَهُ: {وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} . (3)
فَإِذَا ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا وَكَانَ ذَلِكَ قَبْل الدُّخُول انْفَسَخَ
النِّكَاحُ فِي الْحَال وَلَمْ يَرِثْ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ، وَإِنْ كَانَ
بَعْدَ الدُّخُول قَال الشَّافِعِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ - حِيل بَيْنَهُمَا إِلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ
رَجَعَ إِلَى الإِْسْلاَمِ قَبْل أَنْ تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ فَالْعِصْمَةُ
بَاقِيَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى الإِْسْلاَمِ انْفَسَخَ النِّكَاحُ
بِلاَ طَلاَقٍ. (4) وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ، وَهُوَ
رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ ارْتِدَادَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ
فَسْخٌ عَاجِلٌ بِلاَ قَضَاءٍ فَلاَ يُنْقِصُ عَدَدَ الطَّلاَقِ، سَوَاءٌ
أَكَانَ قَبْل الدُّخُول أَمْ بَعْدَهُ. (5) وَقَال الْمَالِكِيَّةُ،
وَهُوَ قَوْل مُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِذَا ارْتَدَّ أَحَدُ
الزَّوْجَيْنِ انْفَسَخَ النِّكَاحُ
__________
(1) البدائع 4 / 222.
(2) سورة الممتحنة / 10.
(3) سورة الممتحنة / 10.
(4) الأم 2 / 48، والمغني 6 / 298، 639.
(5) ابن عابدين 2 / 393، 394، والمغني 6 / 298.
(7/34)
بِطَلاَقٍ بَائِنٍ. (1)
أَمَّا إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ وَتَخَلَّفَ الآْخَرُ - مَا
لَمْ يَكُنِ الْمُتَخَلِّفُ زَوْجَةً كِتَابِيَّةً - حَتَّى انْقَضَتْ
عِدَّةُ الْمَرْأَةِ انْفَسَخَ النِّكَاحُ فِي قَوْل الْجُمْهُورِ، سَوَاءٌ
أَكَانَا بِدَارِ الإِْسْلاَمِ أَمْ بِدَارِ الْحَرْبِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُتَخَلِّفُ عَنِ
الإِْسْلاَمِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ، أَمَّا إِنْ كَانَ
بِدَارِ الإِْسْلاَمِ فَلاَ بُدَّ مِنْ عَرْضِ الإِْسْلاَمِ عَلَيْهِ،
فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلاَّ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا.
وَهَل يُعْتَبَرُ هَذَا الاِنْفِسَاخُ طَلاَقًا أَمْ لاَ؟ اخْتَلَفُوا
فِيهِ: فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ - إِذَا امْتَنَعَ الزَّوْجُ عَنِ الإِْسْلاَمِ يُعْتَبَرُ
هَذَا التَّفْرِيقُ طَلاَقًا يُنْقِصُ الْعَدَدَ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا
امْتَنَعَتِ الْمَرْأَةُ عَنِ الإِْسْلاَمِ حَيْثُ يُعْتَبَرُ التَّفْرِيقُ
فَسْخًا؛ لأَِنَّهَا لاَ تَمْلِكُ الطَّلاَقَ.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ)
إِلَى أَنَّهُ فَسْخٌ لاَ طَلاَقٌ فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ. (2)
أَثَرُ تَعَذُّرِ أَوْ تَعَسُّرِ تَنْفِيذِ الْعَقْدِ:
23 - الْمُرَادُ بِذَلِكَ صُعُوبَةُ دَوَامِ الْعَقْدِ (3) ، وَهُوَ
أَعَمُّ مِنَ التَّلَفِ، فَيَشْمَل الضَّيَاعَ وَالْمَرَضَ وَالْغَصْبَ
وَغَيْرَ ذَلِكَ. (4)
وَهَذَا يَكُونُ بِأُمُورٍ، مِنْهَا هَلاَكُ مَحَل الْعَقْدِ، وَقَدْ
__________
(1) الدسوقي 2 / 270، وابن عابدين 2 / 392.
(2) ابن عابدين 2 / 389، والمغني 6 / 614، 617، والدسوقي 2 / 270، والأم 5
/ 45، 48.
(3) لسان العرب مادة (عذر) .
(4) الشرح الصغير 4 / 49، والبدائع 4 / 200.
(7/34)
تَقَدَّمَ الْكَلاَمُ عَلَيْهِ، وَمِنْهَا
الاِسْتِحْقَاقُ وَبَيَانُهُ فِيمَا يَلِي:
أَثَرُ الاِسْتِحْقَاقِ فِي الاِنْفِسَاخِ:
24 - الاِسْتِحْقَاقُ: ظُهُورُ كَوْنِ الشَّيْءِ حَقًّا وَاجِبًا
لِلْغَيْرِ، (1) فَإِذَا بِيعَ أَوِ اسْتُؤْجِرَ شَيْءٌ ثُمَّ ظَهَرَ
بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ حَقٌّ لِغَيْرِ الْبَائِعِ أَوِ الْمُؤَجِّرِ فَهَل
يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ؟ .
صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْحُكْمَ بِالاِسْتِحْقَاقِ لاَ يُوجِبُ
فَسْخَ الْعَقْدِ، بَل يُوجِبُ تَوَقُّفَهُ عَلَى إِجَازَةِ
الْمُسْتَحِقِّ. فَإِذَا لَمْ يُجِزِ الْمُسْتَحِقُّ الْعَقْدَ، أَوْ
رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى بَائِعِهِ بِالثَّمَنِ، أَوْ طَلَبَ
الْمُشْتَرِي مِنَ الْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ عَلَى الْبَائِعِ بِدَفْعِ
الثَّمَنِ، فَحَكَمَ لَهُ بِذَلِكَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فَيَأْخُذُ
الْمُسْتَحِقُّ الْمَبِيعَ، وَيَسْتَرِدُّ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ مِنَ
الْبَائِعِ. (2)
وَانْفِسَاخُ الْبَيْعِ بِاسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ هُوَ مَا ذَهَبَ
إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ. (3)
هَذَا إِذَا كَانَ الاِسْتِحْقَاقُ قَدْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ اتِّفَاقًا،
وَكَذَلِكَ إِذَا ثَبَتَ بِإِقْرَارِ الْمُشْتَرِي، أَوْ نُكُولِهِ عِنْدَ
بَعْضِ الْفُقَهَاءِ.
وَهَذَا إِذَا اسْتَحَقَّ كُل الْمَبِيعِ. أَمَّا إِذَا اسْتَحَقَّ بَعْضَ
الْمَبِيعِ، فَقِيل: يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فِي الْكُل، وَقِيل: يَنْفَسِخُ
فِي الْجُزْءِ الْمُسْتَحَقِّ فَقَطْ، وَقِيل: يُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي
بَيْنَ فَسْخِ الْعَقْدِ فِي الْجَمِيعِ وَبَيْنَ فَسْخِهِ فِي الْبَعْضِ
الْمُسْتَحَقِّ. وَبَعْضُهُمْ فَصَلُوا بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْجُزْءُ
الْمُسْتَحَقُّ مُعَيَّنًا أَوْ مُشَاعًا. (4)
__________
(1) القوانين الفقهية لابن جزي ص 219، وابن عابدين 4 / 342.
(2) ابن عابدين 4 / 191.
(3) القواعد لابن رجب ص 383، والمغني 4 / 598، وبداية المجتهد 2 / 325،
والمهذب 1 / 295، وأسنى المطالب 2 / 350.
(4) ابن عابدين 4 / 200، 201، والمغني لابن قدامة 4 / 598، والأم للشافعي 3
/ 222، والدسوقي على الشرح الكبير 3 / 135، 469.
(7/35)
هَذَا، وَلِلاِسْتِحْقَاقِ أَثَرٌ فِي
انْفِسَاخِ عَقْدِ الإِْجَارَةِ وَالرَّهْنِ وَالْهِبَةِ وَعَقْدِ
الْمُسَاقَاةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا فَصَّلَهُ الْفُقَهَاءُ فِي مَوَاضِعِهِ.
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (اسْتِحْقَاقٌ) .
ثَالِثًا - الْغَصْبُ:
25 - غَصْبُ مَحَل الْعَقْدِ يُوجِبُ الاِنْفِسَاخَ فِي بَعْضِ الْعُقُودِ،
فَفِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ مَثَلاً صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ: أَنْ لَوْ
غُصِبَتِ الْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ مِنْ يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ سَقَطَ
الأَْجْرُ كُلُّهُ فِيمَا إِذَا غُصِبَتْ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ. وَإِنْ
غُصِبَتْ فِي بَعْضِهَا سَقَطَ بِحِسَابِهَا لِزَوَال التَّمَكُّنِ مِنَ
الاِنْتِفَاعِ. وَتَنْفَسِخُ الإِْجَارَةُ بِالْغَصْبِ فِي الْمَشْهُورِ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، خِلاَفًا لِقَاضِي خَانْ. فَلَوْ زَال الْغَصْبُ
قَبْل نِهَايَةِ الْمُدَّةِ لاَ تَعُودُ الإِْجَارَةُ عَلَى الْمَشْهُورِ،
وَتَعُودُ عَلَى قَوْل قَاضِي خَانْ فَيَسْتَوْفِي بَاقِيَ الْمُدَّةِ. (1)
وَأَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ الْغَصْبَ بِتَلَفِ الْمَحَل فَحَكَمُوا
بِانْفِسَاخِ الْعَقْدِ بِهِ. فَقَدْ صَرَّحُوا أَنَّ الإِْجَارَةَ
تَنْفَسِخُ بِتَعَذُّرِ مَا يَسْتَوْفِي مِنَ الْمَنْفَعَةِ،
وَالتَّعَذُّرُ أَعَمُّ مِنَ التَّلَفِ، فَيَشْمَل الضَّيَاعَ وَالْمَرَضَ
وَالْغَصْبَ وَغَلْقَ الْحَوَانِيتِ قَهْرًا وَغَيْرَ ذَلِكَ. (2)
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: إِنْ غُصِبَتِ
الْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْفَسْخُ؛ لأَِنَّ فِيهِ
تَأْخِيرَ حَقِّهِ، فَإِنْ فَسَخَ فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوِ انْفَسَخَ،
وَإِنْ لَمْ يَفْسَخْ حَتَّى انْقَضَتْ مُدَّةُ الإِْجَارَةِ فَلَهُ
الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالرُّجُوعِ بِالْمُسَمَّى، وَبَيْنَ
الْبَقَاءِ عَلَى الْعَقْدِ وَمُطَالَبَةِ الْغَاصِبِ بِأَجْرِ الْمِثْل.
(3)
__________
(1) الزيلعي 5 / 108، وابن عابدين 5 / 8، والفتاوى الهندية 4 / 437.
(2) الشرح الصغير للدردير 4 / 49.
(3) نهاية المحتاج 5 / 318، والمغني 5 / 417، 453، والقليوبي 3 / 85.
(7/35)
وَلِمَعْرِفَةِ تَأْثِيرِ الْغَصْبِ فِي
انْفِسَاخِ الْعُقُودِ الأُْخْرَى يَرْجِعُ إِلَى هَذِهِ الْعُقُودِ
وَإِلَى مُصْطَلَحِ (غَصْبٌ) .
26 - هَذَا وَهُنَاكَ أَنْوَاعٌ أُخْرَى مِنَ التَّعَذُّرِ تُوجِبُ
انْفِسَاخَ الْعَقْدِ، أَوْ تُعْطِي لِلْعَاقِدِ خِيَارَ الْفَسْخِ،
مِنْهَا مَا يَلِي:
أَوَّلاً: عَجْزُ الْعَاقِدِ عَنِ الْمُضِيِّ فِي مُوجِبِ الْعَقْدِ
شَرْعًا، بِأَنْ كَانَ الْمُضِيُّ فِيهِ حَرَامًا، كَمَا إِذَا اسْتَأْجَرَ
شَخْصًا عَلَى قَلْعِ الضِّرْسِ إِذَا اشْتَكَتْ ثُمَّ سَكَنَتْ، أَوْ
عَلَى قَطْعِ الْيَدِ الْمُتَآكِلَةِ إِذَا بَرَأَتْ، أَوِ اسْتِيفَاءِ
الْقِصَاصِ إِذَا سَقَطَ بِالْعَفْوِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالاَتِ تَنْفَسِخُ
الإِْجَارَةُ بِنَفْسِهَا. (1)
ثَانِيًا: تَضَمُّنُ الضَّرَرِ بِأَنْ كَانَ الْمُضِيُّ فِي مُوجِبِ
الْعَقْدِ غَيْرَ مُمْكِنٍ إِلاَّ بِتَحَمُّل ضَرَرٍ زَائِدٍ لَمْ
يَسْتَحِقَّ بِالْعَقْدِ، كَمَا إِذَا اسْتَأْجَرَ الطَّبَّاخَ
لِلْوَلِيمَةِ ثُمَّ خَالَعَ الْمَرْأَةَ، أَوِ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً
لِيُسَافِرَ عَلَيْهَا فَفَاتَهُ وَقْتُ الْحَجِّ أَوْ مَرِضَ، أَوِ
اسْتَأْجَرَ ظِئْرًا فَحَبِلَتْ، فَفِي هَذِهِ الصُّوَرِ وَأَمْثَالِهَا
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ قَائِلٍ بِانْفِسَاخِ الْعَقْدِ بِنَفْسِهِ،
وَقَائِلٍ بِاسْتِحْقَاقِ الْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارَ فِي الْفَسْخِ. (2)
ثَالِثًا: زَوَال الْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا، كَدَارٍ
انْهَدَمَتْ وَأَرْضٍ غَرِقَتْ وَانْقَطَعَ مَاؤُهَا. فَهَذِهِ الصُّوَرُ
إِنْ لَمْ يَبْقَ فِيهَا نَفْعٌ أَصْلاً فَهِيَ كَالتَّالِفَةِ يَنْفَسِخُ
بِهَا الْعَقْدُ، كَمَا سَبَقَ. وَإِنْ بَقِيَ فِيهَا نَفْعٌ غَيْرَ مَا
اسْتَأْجَرَهَا لَهُ، مِثْل أَنْ يُمْكِنَهُ الاِنْتِفَاعُ بِعَرْصَةِ
الدَّارِ، وَالأَْرْضِ بِوَضْعِ حَطَبٍ فِيهَا، أَوْ نَصْبِ خَيْمَةٍ
__________
(1) البدائع 4 / 200، والحطاب 4 / 433، ونهاية المحتاج 5 / 312، والوجيز 1
/ 239، والمغني 5 / 469.
(2) الزيلعي 5 / 145، 146، والبدائع 4 / 200، والحطاب 4 / 433، والقليوبي 3
/ 84، والمغني 5 / 448.
(7/36)
فِي أَرْضٍ اسْتَأْجَرَهَا لِلزِّرَاعَةِ،
انْفَسَخَ الْعَقْدُ فِيهِمَا عِنْدَ الْبَعْضِ لِزَوَال الاِسْمِ؛
وَلأَِنَّ الْمَنْفَعَةَ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الْعَقْدُ تَلِفَتْ،
وَلاَ تَنْفَسِخُ عِنْدَ الآْخَرِينَ؛ لأَِنَّ الْمَنْفَعَةَ لَمْ تَبْطُل
جُمْلَةً، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَقَصَ نَفْعُهَا مَعَ بَقَائِهَا. فَعَلَى
هَذَا يُخَيَّرُ الْمُسْتَأْجَرُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالإِْمْضَاءِ. (1)
الاِنْفِسَاخُ فِي الْجُزْءِ وَأَثَرُهُ فِي الْكُل:
27 - انْفِسَاخُ الْعَقْدِ فِي جُزْءٍ مِنَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ
مِنَ الأَْسْبَابِ يُؤَدِّي فِي بَعْضِ الأَْحْوَال إِلَى الاِنْفِسَاخِ
فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كُلِّهِ. وَهَذَا إِنْ لَمْ يَكُنِ الْجُزْءُ
الَّذِي يَنْفَسِخُ فِيهِ الْعَقْدُ قَدْ قُدِّرَ نَصِيبُهُ مِنَ
الْعِوَضِ، أَوْ كَانَ فِي تَجْزِئَةِ الْعَقْدِ ضَرَرٌ بَيِّنٌ لأَِحَدِ
الْعَاقِدَيْنِ، أَوْ يَجْمَعُ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ بَيْنَ مَا يَجُوزُ
بَيْعُهُ وَمَا لاَ يَجُوزُ، وَهَذَا مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ الْفُقَهَاءُ
بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ.
فَإِذَا جَمَعَ فِي الْعَقْدِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَمَا لاَ يَجُوزُ
يَبْطُل فِيمَا لاَ يَجُوزُ بِغَيْرِ خِلاَفٍ. وَهَل يَبْطُل فِي
الْبَاقِي، يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلاَفِ الْعُقُودِ، وَإِمْكَانِ
التَّجْزِئَةِ وَالاِجْتِنَابِ عَنْ إِلْحَاقِ الضَّرَرِ بِأَحَدِ
الطَّرَفَيْنِ. وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي
مُصْطَلَحِ: (تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ) .
28 - وَمِنْ هَذَا الْقَبِيل مَا ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ مِنَ الْمَسَائِل
الآْتِيَةِ:
أ - إِنْ وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ فَتَلِفَ بَعْضُهُ
قَبْل قَبْضِهِ لَمْ يَنْفَسِخِ الْعَقْدُ فِي الْبَاقِي، وَيَأْخُذُ
__________
(1) البدائع 5 / 196، والزيلعي 5 / 145، 146، والمغني 5 / 454، والشرح
الصغير 4 / 49، والحطاب 4 / 433.
(7/36)
الْمُشْتَرِي الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهِ مِنَ
الثَّمَنِ؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ صَحِيحًا، فَذَهَابُ بَعْضِ
الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لاَ يَفْسَخُهُ؛ لإِِمْكَانِ تَبْعِيضِهِ مَعَ
عَدَمِ إِلْحَاقِ الضَّرَرِ بِأَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ
الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ. (1)
ب - وَفِي الْقَوَاعِدِ لاِبْنِ رَجَبٍ الْحَنْبَلِيِّ أَنَّهُ: إِذَا
طَرَأَ مَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ إِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ بِعَيْنِهَا،
كَرِدَّةٍ وَرَضَاعٍ اخْتَصَّتْ بِانْفِسَاخِ النِّكَاحِ وَحْدَهَا
بِغَيْرِ خِلاَفٍ. وَإِنْ طَرَأَ مَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْجَمْعِ
بَيْنَهُمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لإِِحْدَاهُمَا مَزِيَّةٌ، بِأَنْ
صَارَتَا أُمًّا وَبِنْتًا بِالاِرْتِضَاعِ، فَفِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ:
أَصَحُّهُمَا يَخْتَصُّ الاِنْفِسَاخُ بِالأُْمِّ وَحْدَهَا إِذَا لَمْ
يَدْخُل بِهِمَا؛ لأَِنَّ الاِسْتِدَامَةَ أَقْوَى مِنَ الاِبْتِدَاءِ،
فَهُوَ كَمَنْ أَسْلَمَ عَلَى أُمٍّ وَبِنْتٍ لَمْ يَدْخُل بِهِمَا،
فَإِنَّهُ يَثْبُتُ نِكَاحُ الْبِنْتِ دُونَ الأُْمِّ. (2)
ج - سَبَقَ أَنَّ مَذْهَبَ الْحَنَفِيَّةِ انْفِسَاخُ عَقْدِ الإِْجَارَةِ
بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا. فَإِذَا أَجَّرَ
رَجُلاَنِ دَارًا مِنْ رَجُلٍ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الْمُؤَجَّرَيْنِ فَإِنَّ
الإِْجَارَةَ تَبْطُل (تَنْفَسِخُ) فِي نَصِيبِهِ فَقَطْ، وَتَبْقَى
بِالنِّسْبَةِ لِنَصِيبِ الْحَيِّ عَلَى حَالِهَا. وَكَذَا إِذَا مَاتَ
أَحَدُ الْمُسْتَأْجَرِينَ. وَلَوِ اسْتَأْجَرَ دَارَيْنِ فَسَقَطَتْ
إِحْدَاهُمَا فَلَهُ أَنْ يَتْرُكَهُمَا؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ عَلَيْهِمَا
صَفْقَةً وَاحِدَةً، وَقَدْ تَفَرَّقَتْ، فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ. (3)
د - لَوْ بَاعَ دَابَّتَيْنِ فَتَلِفَتْ إِحْدَاهُمَا قَبْل قَبْضِهَا
انْفَسَخَ الْبَيْعُ فِيمَا تَلِفَ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. أَمَّا فِيمَا
لَمْ يَتْلَفْ فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يَنْفَسِخُ وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ، بَل
يَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي بَيْنَ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 201، والمغني 4 / 263.
(2) القواعد لابن رجب ص 424.
(3) البدائع 4 / 197، 222.
(7/37)
الْفَسْخِ وَالإِْجَازَةِ، فَإِنْ
أَجَازَهُ فَبِحِصَّتِهِ مِنَ الْمُسَمَّى، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَيَنْفَسِخُ فِي الْجَمِيعِ
عِنْدَهُمْ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. (1)
هـ - لَوِ اسْتَحَقَّ بَعْضَ الْمَبِيعِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ كُلُّهُ فِي
قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ إِذَا كَانَ الْجُزْءُ
الْمُسْتَحَقُّ هُوَ الأَْكْثَرُ وَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فِي الْجُزْءِ
الْمُسْتَحَقِّ وَحْدَهُ فِي قَوْلٍ آخَرَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ
مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ إِذَا كَانَ الاِسْتِحْقَاقُ بَعْدَ
الْقَبْضِ وَكَانَ الْمَبِيعُ مِمَّا لاَ يَضُرُّ تَبْعِيضُهُ، كَمَا إِذَا
اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ فَاسْتَحَقَّ أَحَدَهُمَا.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي
بَيْنَ الْفَسْخِ فِي الْكُل وَبَيْنَ الإِْمْضَاءِ فِي الْبَاقِي (2)
عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِحْقَاقٌ) .
آثَارُ الاِنْفِسَاخِ:
29 - آثَارُ الاِنْفِسَاخِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْعُقُودِ
وَاخْتِلاَفِ أَسْبَابِ الاِنْفِسَاخِ، وَطَبِيعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ،
وَهَل هُوَ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ أَمْ طَرَأَ عَلَيْهِ التَّغْيِيرُ مِنَ
الزِّيَادَةِ أَوِ النُّقْصَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَلاَ تَجْمَعُهَا
قَوَاعِدُ كُلِّيَّةٌ وَأَحْكَامٌ شَامِلَةٌ؟ .
وَمَا أَجْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ بَعْضِ الآْثَارِ فِي أَنْوَاعٍ
__________
(1) القليوبي 1 / 188، والمنثور للزركشي 1 / 407، وكشف الأسرار للبزدوي 1 /
316.
(2) المغني 4 / 598، والأم للشافعي 3 / 224، وابن عابدين 4 / 201، وفتح
القدير 5 / 513، والدسوقي 3 / 135، وتهذيب الفروق بهامش الفروق للقرافي 4 /
63.
(7/37)
خَاصَّةٍ مِنَ الْعُقُودِ، لاَ يَخْلُو
عَنِ اسْتِثْنَاءَاتٍ حَسَبَ طَبِيعَةِ هَذِهِ الْعُقُودِ وَمَا يُؤَثِّرُ
عَلَى انْفِسَاخِهَا مِنْ عَوَامِل، وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيل بَعْضِ هَذِهِ
الآْثَارِ.
أَوَّلاً: إِعَادَةُ الطَّرَفَيْنِ إِلَى مَا قَبْل الْعَقْدِ:
أ - فِي الْعُقُودِ الْفَوْرِيَّةِ:
30 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي أَكْثَرَ مِنْ مَوْضِعٍ أَنَّ الاِنْفِسَاخَ
يَجْعَل الْعَقْدَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ. (1)
وَهَذَا صَحِيحٌ فِي الْجُمْلَةِ فِي الْعُقُودِ الْفَوْرِيَّةِ (الَّتِي
لاَ تَتَعَلَّقُ بِمُدَّةٍ) فَعَقْدُ الْبَيْعِ مَثَلاً إِذَا انْفَسَخَ
بِسَبَبِ هَلاَكِ الْمَبِيعِ قَبْل الْقَبْضِ يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنَ
الأَْصْل وَيَكُونُ كَأَنْ لَمْ يَبِعْهُ أَصْلاً، فَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي
عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ إِذَا سَلَّمَهُ إِيَّاهُ؛ لأَِنَّ
الضَّمَانَ قَبْل قَبْضِ الْمَبِيعِ يَكُونُ عَلَى الْبَائِعِ عَلَى
تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْمَنْقُول وَالْعَقَارِ كَمَا تَقَدَّمَ. (2)
ب - فِي الْعُقُودِ الْمُسْتَمِرَّةِ:
31 - أَمَّا الاِنْفِسَاخُ فِي الْعُقُودِ الْمُسْتَمِرَّةِ (الَّتِي
تَتَعَلَّقُ بِالْمُدَّةِ) فَإِنَّهُ يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ حِينِهِ
قَطْعًا، لاَ مِنْ أَصْلِهِ. فَفِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ مَثَلاً، صَرَّحَ
الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ - الأَْجِيرَ الْمُعَيَّنَ
وَالدَّابَّةَ الْمُعَيَّنَةَ - إِذَا تَلِفَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فِي
الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَل لاَ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، فَيَلْزَمُهُ
أُجْرَةُ مَا مَضَى بِحِسَابِهِ، وَمَا لَمْ يَحْصُل فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ
فِيهِ. (3)
__________
(1) الزيلعي 4 / 37، والبدائع 4 / 196.
(2) الشرح الصغير 3 / 195، 196، والمغني 3 / 569، وابن عابدين 4 / 46،
والقليوبي 2 / 210، 211.
(3) البدائع 4 / 179، والشرح الصغير 4 / 49، 50، ونهاية المحتاج 5 / 313،
314، والمغني 5 / 453، والفتاوى الهندية 4 / 461، والقواعد لابن رجب ص 47.
(7/38)
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي عُقُودِ
الْعَارِيَّةِ وَالشَّرِكَةِ، وَالْمُضَارَبَةِ وَالْوَكَالَةِ
وَنَحْوِهَا، إِذَا انْفَسَخَتْ فَالاِنْفِسَاخُ فِيهَا يَرْفَعُ الْعَقْدَ
مِنْ حِينِهِ لاَ مِنْ أَصْلِهِ. وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ وَتَفْصِيلُهُ
فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.
ثَانِيًا: أَثَرُ تَغْيِيرِ الْمَحَل قَبْل الاِنْفِسَاخِ:
32 - انْفِسَاخُ الْعَقْدِ يُوجِبُ زَوَال أَثَرِ الْعَقْدِ وَرَدَّ
الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إِلَى مَنْ كَانَ لَهُ قَبْل الْعَقْدِ.
فَإِذَا كَانَ قَائِمًا وَلَمْ يَتَغَيَّرْ يُرَدُّ بِعَيْنِهِ
كَالْمَبِيعِ إِذَا انْفَسَخَ الْبَيْعُ بِسَبَبِ الْفَسَادِ أَوِ
الإِْقَالَةِ أَوِ الْخِيَارِ أَوِ الاِسْتِحْقَاقِ وَنَحْوِهَا. فَفِي
هَذِهِ الْحَالاَتِ وَأَمْثَالِهَا تُرَدُّ الْعَيْنُ الْمَعْقُودُ
عَلَيْهَا إِلَى صَاحِبِهَا الأَْصْلِيِّ، وَيَسْتَرِدُّ الْمُشْتَرِي
الثَّمَنَ مِنَ الْبَائِعِ. وَكَذَلِكَ إِذَا انْفَسَخَتِ الإِْجَارَةُ
بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ بِالاِسْتِحْقَاقِ أَوْ بِانْتِهَاءِ
الْمُدَّةِ، فَتُرَدُّ الْعَيْنُ الْمَأْجُورَةُ إِلَى صَاحِبِهَا، إِذَا
كَانَتْ قَائِمَةً وَلَمْ تَتَغَيَّرْ.
وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي عُقُودِ الإِْيدَاعِ وَالإِْعَارَةِ وَالرَّهْنِ
إِذَا انْفَسَخَتْ تُرَدُّ الْوَدِيعَةُ وَالْمُعَارُ وَالْمَرْهُونُ إِلَى
أَصْحَابِهَا بِعَيْنِهَا إِذَا كَانَتْ قَائِمَةً. 33 - أَمَّا لَوْ
تَغَيَّرَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ بِأَنْ زَادَ الْمَبِيعُ مَثَلاً
فَالْحُكْمُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ سَبَبِ الاِنْفِسَاخِ، فَفِي
انْفِسَاخِ الْبَيْعِ بِسَبَبِ الْفَسَادِ، إِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي
الْمَبِيعِ مُنْفَصِلَةً عَنْهُ كَالثَّمَرَةِ وَاللَّبَنِ وَالْوَلَدِ،
أَوْ مُتَّصِلَةً مُتَوَلِّدَةً مِنَ الأَْصْل، فَإِنَّ هَذَا لاَ يَمْنَعُ
مِنْ رَدِّ أَصْل الْمَبِيعِ مَعَ الزِّيَادَةِ إِلَى الْبَائِعِ عِنْدَ
جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ) . (1)
__________
(1) البدائع 5 / 302، والهداية مع شروحها 4 / 19، ومغني المحتاج 2 / 40،
286، والمهذب 1 / 255، والمغني لابن قدامة 4 / 253.
(7/38)
وَلَوْ حَصَل التَّغَيُّرُ بِنُقْصَانِ
الْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا يُرَدُّ الْمَبِيعُ مَعَ أَرْشِ النُّقْصَانِ
عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ، فَإِنَّ التَّغَيُّرَ
بِالزِّيَادَةِ أَوِ النُّقْصَانِ يُعْتَبَرُ تَفْوِيتًا لِلْمَبِيعِ
عِنْدَهُمْ. (1)
34 - وَفِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ إِذَا تَغَيَّرَ الْمَأْجُورُ قَبْل
الاِنْفِسَاخِ ثُمَّ انْفَسَخَتِ الإِْجَارَةُ، فَإِنْ كَانَ التَّغَيُّرُ
بِالنُّقْصَانِ وَبِتَقْصِيرٍ مِنَ الْمُسْتَأْجِرِ يَلْزَمُهُ رَدُّ
الْمَأْجُورِ مَعَ أَرْشِ النُّقْصَانِ. وَإِنْ كَانَ بِالزِّيَادَةِ
كَالْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ فِي الأَْرْضِ وَقَدْ تَمَّتْ مُدَّةُ
الإِْجَارَةِ، فَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ قَلْعُ الْغَرْسِ وَهَدْمُ
الْبِنَاءِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، إِلاَّ إِذَا رَضِيَا
بِدَفْعِ قِيمَةِ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ،
وَيُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ تَمَلُّكِ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ
بِقِيمَتِهِ، أَوْ تَرْكِهِ بِأُجْرَتِهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ. (2)
أَمَّا إٍذَا كَانَ التَّغَيُّرُ فِي الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ
بِالزِّرَاعَةِ وَانْفَسَخَتِ الإِْجَارَةُ بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ قَبْل
أَنْ يَحِينَ وَقْتُ حَصَادِهَا، فَلَيْسَ لِلْمُؤَجِّرِ إِجْبَارُ
الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى تَسْلِيمِ الأَْرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ لَهُ، بَل
تُتْرَكُ بِيَدِ الْمُسْتَأْجِرِ إِلَى وَقْتِ الْحَصَادِ بِأَجْرِ
الْمِثْل. وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي الْعَارِيَّةِ؛ لأَِنَّهُمْ صَرَّحُوا
أَنَّهُ (إِذَا اسْتَعَارَ أَرْضًا لِلزِّرَاعَةِ فَزَرَعَهَا ثُمَّ
أَرَادَ صَاحِبُ الأَْرْضِ أَنْ يَأْخُذَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ
حَتَّى يَحْصُدَ الزَّرْعَ، بَل يُتْرَكُ إِلَى وَقْتِ الْحَصَادِ بِأَجْرِ
الْمِثْل) . (3) وَلاَ خِلاَفَ فِي أَصْل هَذَا الْحُكْمِ بَيْنَ
الْفُقَهَاءِ. إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَيَّدُوهُ بِأَنْ
__________
(1) المراجع السابقة، وانظر منح الجليل 2 / 580.
(2) الزيلعي 5 / 114، 115، ومنتهى الإرادات 2 / 382، والمهذب 1 / 410، 411،
وجواهر الإكليل 2 / 197.
(3) البدائع 6 / 217.
(7/39)
لاَ يَكُونَ تَأَخُّرُ الزَّرْعِ
بِتَقْصِيرِ الْمُسْتَأْجِرِ أَوِ الْمُسْتَعِيرِ. وَالْحَنَابِلَةُ
قَيَّدُوهُ بِأَنْ لاَ يَكُونَ ذَلِكَ بِتَفْرِيطِهِمَا. (1)
ثَالِثًا: ضَمَانُ الْخَسَارَةِ النَّاشِئَةِ عَنِ الاِنْفِسَاخِ:
35 - إِذَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ بِالتَّلَفِ، كَأَنْ تَلِفَ الْمَبِيعُ
قَبْل الْقَبْضِ، أَوْ تَلِفَتِ الْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ (2) بِيَدِ
الْمُسْتَأْجِرِ فَضَمَانُهَا عَلَى الْبَائِعِ أَوِ الْمُؤَجِّرِ؛ لأَِنَّ
الْهَالِكَ مِنْ تَبِعَةِ الْمَالِكِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ
فِي الإِْجَارَةِ، أَمَّا فِي الْبَيْعِ فَهُنَاكَ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ
يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي (بَيْعٌ) .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ بِالإِْتْلاَفِ وَالتَّعَدِّي فَضَمَانُهَا عَلَى
مَنْ أَتْلَفَهَا. فَفِي عَقْدِ الْبَيْعِ مَثَلاً إِتْلاَفُ الْمُشْتَرِي
لِلْمَبِيعِ يُعْتَبَرُ قَبْضًا، فَالْمِلْكُ لَهُ وَالضَّمَانُ عَلَيْهِ.
وَفِي الإِْجَارَةِ يَضْمَنُ الْمُسْتَأْجِرُ كُل تَلَفٍ أَوْ نَقْصٍ
يَطْرَأُ عَلَى الْمَأْجُورِ بِفِعْلٍ غَيْرِ مَأْذُونٍ بِهِ.
وَالأَْصْل أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بَعْدَ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ
أَمَانَةٌ بِيَدِ الْعَاقِدِ غَيْرِ الْمَالِكِ. فَالْمَبِيعُ
وَالْمَأْجُورُ الْوَدِيعَةُ وَالْعَارِيَّةُ وَالْمَرْهُونُ وَنَحْوُهَا
عَلَى خِلاَفٍ فِيهَا، كُلُّهَا أَمَانَةٌ بَعْدَ الاِنْفِسَاخِ بِيَدِ
الْعَاقِدِ غَيْرِ الْمَالِكِ إِلاَّ إِذَا امْتَنَعَ عَنْ تَسْلِيمِهَا
لأَِصْحَابِهَا بِدُونِ عُذْرٍ. فَإِذَا تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَعَدٍّ أَوْ
تَقْصِيرٍ فَلاَ ضَمَانَ فِيهِ، وَإِلاَّ فَفِيهِ الضَّمَانُ. (3)
__________
(1) الزيلعي 5 / 114، والبدائع 4 / 223، ونهاية المحتاج 5 / 139، والمغني 5
/ 365، 6 / 364، وجواهر الإكليل 2 / 197.
(2) تحفة الفقهاء 2 / 56، وابن عابدين 4 / 46، والقليوبي 2 / 210، والشرح
الصغير 3 / 195، وقواعد ابن رجب ص 55.
(3) البدائع 5 / 300، 304، وابن عابدين 5 / 24 - 26، ونهاية المحتاج 5 /
309، والقليوبي 2 / 323، ومجلة الأحكام 600 - 606، وقواعد ابن رجب 55 - 61،
والقوانين الفقهية لابن جزي 176 - 180.
(7/39)
وَالْمُرَادُ بِالضَّمَانِ أَدَاءُ
الْمِثْل فِي الْمِثْلِيَّاتِ وَأَدَاءُ الْقِيمَةِ فِي الْقِيَمِيَّاتِ.
(1) وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ:
(ضَمَانٌ) .
انْفِصَالٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِنْفِصَال لُغَةً: الاِنْقِطَاعُ، يُقَال: فَصَل الشَّيْءَ
فَانْفَصَل أَيْ قَطَعَهُ فَانْقَطَعَ، فَهُوَ مُطَاوِعُ فَصَل، وَهُوَ
ضِدُّ الاِتِّصَال. (2)
وَالاِنْفِصَال هُوَ الاِنْقِطَاعُ الظَّاهِرُ، وَالاِنْقِطَاعُ يَكُونُ
ظَاهِرًا وَخَافِيًا، (3) وَهَذَا مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ.
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْبَيْنُونَةُ:
2 - الْبَيْنُونَةُ تَأْتِي بِمَعْنَى الاِنْفِصَال، (4) وَكَثُرَتْ عَلَى
أَلْسِنَةِ الْفُقَهَاءِ فِي الطَّلاَقِ غَيْرِ الرَّجْعِيِّ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - الأَْجْزَاءُ الَّتِي تَنْفَصِل مِنَ الْبَدَنِ تَارَةً تَبْقَى لَهَا
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهَا قَبْل الاِنْفِصَال، وَتَارَةً
تَتَغَيَّرُ،
__________
(1) مجلة الأحكام. م 416، والقليوبي 2 / 323.
(2) لسان العرب المحيط، وكشاف اصطلاحات الفنون (فصل) .
(3) الفروق في اللغة ص 144.
(4) لسان العرب المحيط مادة: (بين) .
(7/40)
فَالأَْوَّل نَحْوُ 2 كُل عُضْوٍ يَحْرُمُ
النَّظَرُ إِلَيْهِ قَبْل الاِنْفِصَال فَإِنَّهُ يَحْرُمُ النَّظَرُ
إِلَيْهِ بَعْدَ الاِنْفِصَال 2. فَأَجْزَاءُ الْعَوْرَةِ لاَ فَرْقَ فِي
حُرْمَةِ النَّظَرِ إِلَيْهَا قَبْل الاِنْفِصَال (1) وَبَعْدَهُ، عَلَى
خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي أَحْكَامِ النَّظَرِ مِنْ بَابِ
الْحَظْرِ وَالإِْبَاحَةِ.
4 - وَمِمَّا يَتَغَيَّرُ حُكْمُهُ بِالاِنْفِصَال اسْتِدْخَال الْمَرْأَةِ
الذَّكَرَ الْمَقْطُوعَ، فَلاَ حَدَّ فِيهِ، وَإِنْ حَرُمَ ذَلِكَ
الْفِعْل. (2)
5 - وَمَا انْفَصَل مِنْ أَجْزَاءِ الْمَيِّتِ أَخَذَ حُكْمَهُ عِنْدَ
الْبَعْضِ، يُغَسَّل وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَيُدْفَنُ؛ لإِِجْمَاعِ
الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، قَال أَحْمَدُ: صَلَّى أَبُو
أَيُّوبَ عَلَى رِجْلٍ، وَصَلَّى عُمَرُ عَلَى عِظَامٍ بِالشَّامِ،
وَصَلَّى أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى رُءُوسٍ بِالشَّامِ، رَوَى ذَلِكَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بِإِسْنَادِهِ، وَقَال الشَّافِعِيُّ: أَلْقَى
طَائِرٌ يَدًا بِمَكَّةَ مِنْ وَقْعَةِ الْجَمَل فَعُرِفَتْ بِالْخَاتَمِ،
وَكَانَتْ يَدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَتَّابِ بْنِ أُسَيْدٍ، فَصَلَّى
عَلَيْهَا أَهْل مَكَّةَ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ،
وَلَمْ يُعْرَفْ مِنَ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فِي ذَلِكَ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: إِنْ وُجِدَ الأَْكْثَرُ صُلِّيَ
عَلَيْهِ، وَإِلاَّ فَلاَ؛ لأَِنَّهُ بَعْضٌ لاَ يَزِيدُ عَلَى النِّصْفِ
فَلَمْ يُصَل عَلَيْهِ، كَالَّذِي بَانَ فِي حَيَاةِ صَاحِبِهِ كَالشَّعْرِ
وَالظُّفْرِ.
وَلَمْ يُفَرِّقِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ أَجْزَاءِ
الْحَيِّ وَأَجْزَاءِ الْمَيِّتِ الْمُنْفَصِلَةِ عَنْهُ، وَقَال
الشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ لَفُّ وَدَفْنُ مَا انْفَصَل مِنْ حَيٍّ
كَيَدِ سَارِقٍ،
__________
(1) الدر وحاشية ابن عابدين 5 / 238.
(2) بجيرمي على الخطيب 4 / 141 ط الحلبي، الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 53 ط
دار الإيمان، وشرح الروض 1 / 65.
(7/40)
وَظُفْرٍ، وَعَلَقَةٍ، وَشَعْرٍ،
وَاسْتَظْهَرَ بَعْضُهُمْ وُجُوبَ لَفِّ الْيَدِ وَدَفْنِهَا. (1)
وَتَنْتَهِي الْعِدَّةُ بِانْفِصَال الْوَلَدِ عَنْ رَحِمِ أُمِّهِ
انْفِصَالاً كَامِلاً، وَفِي انْفِصَال الْمُضْغَةِ تَفْصِيلٌ يُذْكَرُ فِي
(الْعِدَّةِ) . (2)
انْفِصَال السِّقْطِ:
6 - السِّقْطُ إِنِ انْفَصَل حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَإِنَّهُ كَالْكَبِيرِ
فِي التَّسْمِيَةِ، وَالإِْرْثِ، وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، وَفِي غُسْلِهِ
وَتَكْفِينِهِ، وَالصَّلاَةِ عَلَيْهِ، وَدَفْنِهِ، وَاسْتَثْنَى بَعْضُ
الْمَالِكِيَّةِ مِنْ ذَلِكَ التَّسْمِيَةَ إِنْ مَاتَ قَبْل الْيَوْمِ
السَّابِعِ مِنْ وِلاَدَتِهِ (3) .
وَإِنِ انْفَصَل مَيِّتًا، فَإِنَّهُ لاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ، لَكِنَّهُ
يُدْفَنُ، وَفِي غُسْلِهِ خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ: مِنْهُمْ مَنْ
أَوْجَبَ الْغُسْل إِنْ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَ
تَغْسِيل السِّقْطِ مُطْلَقًا، وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ يُوجِبُ تَكْفِينَهُ،
وَالْبَعْضُ يَكْتَفِي بِلَفِّهِ بِخِرْقَةٍ، وَيُفَصِّل الْفُقَهَاءُ
ذَلِكَ فِي كِتَابِ (الْجَنَائِزِ) (4) .
وَتَسْمِيَةُ مَنْ وُلِدَ مَيِّتًا فِيهَا خِلاَفٌ كَذَلِكَ،
__________
(1) شرح الروض 1 / 313، والمغني 2 / 539، والخرشي 2 / 141، والطحطاوي ص
319.
(2) نهاية المحتاج 7 / 127، 138.
(3) البحر الرائق 2 / 202 ط العلمية، والخرشي 2 / 138 ط دار صادر، وشرح
الروض 1 / 313 ط الميمنية، والمغني 2 / 522 ط الرياض.
(4) البحر الرائق 2 / 198، 203، والخرشي 2 / 142، وشرح الروض 1 / 313، وابن
عابدين 1 / 595 ط الرياض.
(7/41)
فَالْبَعْضُ يَقُول بِالتَّسْمِيَةِ،
وَالْبَعْضُ يَمْنَعُهَا، وَيَتَكَلَّمُونَ عَنْ ذَلِكَ فِي مَبْحَثِ
(الْعَقِيقَةِ وَالْجَنَائِزِ) (1) .
وَلاَ يَرِثُ مَنِ انْفَصَل بِنَفْسِهِ مَيِّتًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ،
وَكَذَا إِذَا انْفَصَل بِفِعْلٍ عِنْدَ أَغْلَبِ الْفُقَهَاءِ لاَ يَرِثُ،
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْوَرَثَةِ يَرِثُ
وَيُورَثُ؛ لأَِنَّ الشَّرْعَ لَمَّا أَوْجَبَ عَلَى الْجَانِي الْغُرَّةَ
فَقَدْ حَكَمَ بِحَيَاتِهِ (2) ، وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي
(الإِْرْثِ) ، وَالْبَعْضُ يَذْكُرُهُ فِي (الْجَنَائِزِ) .
7 - وَانْفِصَال الزَّوْجَيْنِ يَكُونُ بِوَاحِدٍ مِنْ ثَلاَثَةِ أُمُورٍ،
الْفَسْخِ أَوِ الاِنْفِسَاخِ، وَالطَّلاَقِ، وَالْمَوْتِ.
8 - وَانْفِصَال الْمُسْتَثْنَى عَنِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ زَمَنًا
طَوِيلاً فِي صِيَغِ الإِْقْرَارِ وَالْيَمِينِ وَنَحْوِهِمَا يُبْطِل
الاِسْتِثْنَاءَ، وَقِيل: يَصِحُّ التَّأْخِيرُ مَا دَامَ الْمَجْلِسُ (3)
، وَيَتَكَلَّمُ الأُْصُولِيُّونَ عَنْ ذَلِكَ فِي شَرَائِطِ
الاِسْتِثْنَاءِ، وَالْفُقَهَاءُ فِي الإِْقْرَارِ، وَالطَّلاَقِ غَالِبًا.
وَبِالإِْضَافَةِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ بِذِكْرِ الاِنْفِصَال فِي الْغُسْل
(4) ، وَالْبَيْعِ - الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ - وَفِي الرَّهْنِ -
زِيَادَةُ الْمَرْهُونِ الْمُنْفَصِلَةُ، وَفِي الْوَصِيَّةِ.
__________
(1) البحر الرائق 2 / 203، والخرشي 2 / 138، ونهاية المحتاج 8 / 139 ط
مصطفى الحلبي، والمغني 2 / 523 ط الرياض.
(2) الفتاوى الهندية 6 / 456 ط بولاق الأولى، والطحطاوي على مراقي الفلاح ص
327 ط دار الإيمان، والمغني مع الشرح 7 / 198 ط المنار الأولى. وشرح
السراجية 321 ط الكردي.
(3) مسلم الثبوت 1 / 221 ط دار صادر.
(4) شرح الروض 1 / 65.
(7/41)
أَنْقَاضٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - أَنْقَاضٌ: جَمْعٌ مُفْرَدُهُ نِقْضٌ. وَالنِّقْضُ - بِكَسْرِ النُّونِ
وَضَمِّهَا - الْمَنْقُوضُ أَيِ الْمَهْدُومُ.
وَالنِّقْضُ: اسْمٌ لِبِنَاءِ الْمَنْقُوضِ إِذَا هُدِمَ، وَالنَّقْضُ -
بِالْفَتْحِ - الْهَدْمُ (1) .
وَاسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ بِالْمَعْنَى نَفْسِهِ (2) .
الأَْحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهِ.
أَوَّلاً: حُكْمُ التَّصَرُّفِ فِي أَنْقَاضِ الْوَقْفِ:
2 - مَا انْهَدَمَ مِنْ بِنَاءِ الْوَقْفِ فَإِنَّهُ يُنْتَفَعُ
بِأَنْقَاضِهِ فِي عِمَارَتِهِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ إِعَادَةُ عَيْنِهِ بِيعَ
وَصُرِفَ الثَّمَنُ فِي عِمَارَتِهِ.
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمَسْجِدِ إِذَا انْهَدَمَ، فَإِذَا لَمْ
يُمْكِنِ الاِنْتِفَاعُ بِالْمَسْجِدِ وَلاَ إِعَادَةُ بِنَائِهِ انْتَفَعَ
بِأَنْقَاضِهِ أَوْ بِثَمَنِهَا فِي مَسْجِدٍ آخَرَ.
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَالْحَنَفِيَّةِ غَيْرِ مُحَمَّدٍ،
وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ كَابْنِ زَرْبٍ وَابْنِ لُبَابَةَ، وَكَذَلِكَ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. إِلاَّ أَنَّهُ عِنْدَهُمْ إِذَا لَمْ يُنْتَفَعْ
بِأَنْقَاضِ الْمَسْجِدِ فِي مَسْجِدٍ آخَرَ فَإِنَّهُ يُحْفَظُ وَلاَ
يُبَاعُ. وَعِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ يَعُودُ إِلَى الْبَانِي أَوْ
إِلَى
__________
(1) لسان العرب، وتاج العروس، والنهاية لابن الأثير ص 107.
(2) الدسوقي 4 / 96 ط دار الفكر.
(7/42)
الْوَرَثَةِ. وَقَال الشَّيْخُ خَلِيلٌ
وَالشَّيْخُ عُلَيْشٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِعَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ نَقْضِ
الْعَقَارِ الْمَوْقُوفِ (1) .
ثَانِيًا: حُكْمُ نَقْضِ الأَْبْنِيَةِ الْمُقَامَةِ:
الأَْبْنِيَةُ إِمَّا أَنْ يُقِيمَهَا الإِْنْسَانُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ
أَوْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ.
مَا يُقِيمُهُ الإِْنْسَانُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ:
3 - مَا يُقِيمُهُ الإِْنْسَانُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ وَكَانَ فِيهِ ضَرَرٌ
عَلَى الْغَيْرِ يَجِبُ نَقْضُهُ، وَذَلِكَ كَمَنْ أَخْرَجَ جَنَاحًا إِلَى
الطَّرِيقِ وَكَانَ يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ نَقْضُهُ
لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ ضَرَرَ وَلاَ
ضِرَارَ (2) . وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ. وَمَا تَوَلَّدَ مِنْ سُقُوطِهِ فَهُوَ
مَضْمُونٌ عَلَى صَاحِبِهِ. وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ (3) وَفِي ذَلِكَ
تَفْصِيلٌ: (ر: جِنَايَةٌ - تَلَفٌ - ضَمَانٌ) .
مَا يُقِيمُهُ الإِْنْسَانُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ:
4 - مَا يُقِيمُهُ الإِْنْسَانُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ
بِإِذْنِ صَاحِبِهِ أَوْ بِدُونِ إِذْنِهِ.
__________
(1) منتهى الإرادات 2 / 515 ط دار الفكر، والمغني 5 / 631 ط الرياض،
والبدائع 6 / 221 ط الجمالية، وابن عابدين 3 / 382، 383 ط ثالثة، وفتح
القدير 5 / 446 ط دار إحياء التراث العربي، ومغني المحتاج 2 / 392 ط
الحلبي، ومنح الجليل 4 / 69 ط النجاح ليبيا، والمواق بهامش الحطاب 6 / 42 ط
النجاح.
(2) حديث: " لا ضرر ولا ضرار " أخرجه ابن ماجه (2 / 784 - ط الحلبي) ، وقال
النووي: (له طرق يقوي بعضها بعضا) . جامع العلوم والحكم لابن رجب (ص 286 -
ط الحلبي) .
(3) جواهر الإكليل 2 / 122 ط دار المعرفة بيروت، والمهذب 1 / 341 ط دار
المعرفة بيروت، والاختيار 5 / 45 ط دار المعرفة بيروت، ومنتهى الإرادات 2 /
269.
(7/42)
أ - مَا يُقِيمُهُ الإِْنْسَانُ فِي مِلْكِ
غَيْرِهِ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ وَذَلِكَ كَمَنْ يَسْتَعِيرُ أَرْضًا
لِلْبِنَاءِ بِإِذْنِ صَاحِبِهَا. فَإِنْ كَانَتِ الْعَارِيَّةُ مُطْلَقَةً
أَوْ مُؤَقَّتَةً بِوَقْتٍ، وَشَرَطَ الْمُعِيرُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ
نَقْضَ الْبِنَاءِ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْوَقْتِ أَوْ عِنْدَ الرُّجُوعِ،
فَإِنَّ الْمُسْتَعِيرَ يُلْزَمُ بِنَقْضِ الْبِنَاءِ لِحَدِيثِ:
الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ (1) .
وَإِنْ كَانَ الْمُعِيرُ لَمْ يَشْتَرِطِ النَّقْضَ، فَإِنْ رَضِيَ
الْمُسْتَعِيرُ بِالنَّقْضِ نَقَضَ، وَإِنْ أَبَى لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ
لِمَفْهُومِ حَدِيثِ: لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ (2) ؛ وَلأَِنَّهُ
بُنِيَ بِإِذْنِ رَبِّ الأَْرْضِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِ قَلْعَهُ،
وَفِي الْقَلْعِ ضَرَرٌ بِنَقْصِ قِيمَتِهِ بِذَلِكَ. وَيَكُونُ - فِي
هَذِهِ الْحَالَةِ - الْخِيَارُ لِلْمُعِيرِ بَيْنَ أَخْذِ الْبِنَاءِ
بِقِيمَتِهِ، وَبَيْنَ قَلْعِهِ مَعَ ضَمَانِ نُقْصَانِهِ جَمْعًا بَيْنَ
الْحَقَّيْنِ، أَوْ يُبْقِيهِ بِأَجْرِ مِثْلِهِ.
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (3) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ كَانَتِ الْعَارِيَّةُ مُطْلَقَةً أَوْ
مُؤَقَّتَةً وَانْتَهَى وَقْتُهَا فَلِلْمَالِكِ أَنْ يُجْبِرَ
الْمُسْتَعِيرَ عَلَى نَقْضِ الْبِنَاءِ؛ لأَِنَّ فِي التَّرْكِ ضَرَرًا
بِالْمُعِيرِ؛ لأَِنَّهُ لاَ نِهَايَةَ لَهُ وَلاَ غَرَرَ مِنْ جِهَتِهِ.
وَإِنْ كَانَتْ مُؤَقَّتَةً وَأَرَادَ إِخْرَاجَهُ قَبْل الْوَقْتِ فَلاَ
يُجْبَرُ الْمُسْتَعِيرُ عَلَى النَّقْضِ بَل يَكُونُ بِالْخِيَارِ إِنْ
شَاءَ ضَمَّنَ صَاحِبَ الأَْرْضِ قِيمَةَ الْبِنَاءِ قَائِمًا سَلِيمًا
وَتَرَكَهُ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ بِنَاءَهُ وَلاَ شَيْءَ عَلَى
__________
(1) حديث: " المسلمون على شروطهم. . . " أخرجه الترمذي (التحفة 4 / 584 ط
السلفية) وله طرق يشهد بعضها لبعض.
(2) حديث: " ليس لعرق ظالم حق " أخرجه أبو داود (3 / 454 - ط عزت عبيد
دعاس) وقواه ابن حجر في الفتح (5 / 19 - ط السلفية) .
(3) منتهى الإرادات 2 / 394، ومغني المحتاج 2 / 271 - 273.
(7/43)
صَاحِبِ الأَْرْضِ.
ثُمَّ إِنَّمَا يَثْبُتُ نَقْضُ الْبِنَاءِ إِذَا لَمْ يَكُنِ النَّقْضُ
مُضِرًّا بِالأَْرْضِ، فَإِنْ كَانَ مُضِرًّا بِهَا فَالْخِيَارُ
لِلْمَالِكِ؛ لأَِنَّ الأَْرْضَ أَصْلٌ وَالْبِنَاءَ تَابِعٌ، فَكَانَ
الْمَالِكُ صَاحِبَ أَصْلٍ فَلَهُ الْخِيَارُ، إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ
الْبِنَاءَ بِالْقِيمَةِ، وَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِالنَّقْضِ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الإِْعَارَةِ
الْمُشْتَرَطَةِ أَوِ الْمُعْتَادَةِ وَفِي الأَْرْضِ بِنَاءٌ،
فَالْمُعِيرُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِلْزَامِ الْمُسْتَعِيرِ بِالْهَدْمِ،
وَبَيْنَ أَخْذِ الْبِنَاءِ وَدَفْعِ قِيمَتِهِ مَنْقُوضًا (2) .
ب - مَا يُقِيمُهُ الإِْنْسَانُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ
صَاحِبِهِ، كَمَنْ غَصَبَ أَرْضًا وَبَنَى فِيهَا، فَإِنَّ الْغَاصِبَ
يُجْبَرُ عَلَى نَقْضِ الْبِنَاءِ مَتَى طَالَبَهُ رَبُّ الأَْرْضِ
بِذَلِكَ، وَيُلْزَمُ بِتَسْوِيَتِهَا وَأَرْشِ نَقْصِهَا، وَهَذَا عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (3) .
إِلاَّ أَنَّهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا كَانَتِ الأَْرْضُ تَنْقُصُ
بِالنَّقْضِ فَلِلْمَالِكِ أَخْذُ الْبِنَاءِ وَضَمَانُ قِيمَتِهِ
مَنْقُوضًا، وَهُوَ أَيْضًا رَأْيُ الْمَجْدِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ مِنَ
الْحَنَابِلَةِ.
وَقَال الْكَرْخِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْبِنَاءِ
أَكْثَرَ فَإِنَّ الْغَاصِبَ يَضْمَنُ قِيمَةَ الأَْرْضِ وَلاَ يُؤْمَرُ
بِالْقَلْعِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ أَخْذِ الْبِنَاءِ
وَدَفْعِ قِيمَتِهِ مَنْقُوضًا، وَبَيْنَ أَمْرِ الْغَاصِبِ بِهَدْمِهِ
وَتَسْوِيَةِ أَرْضِهِ (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 216.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 439 ط دار الفكر.
(3) كشاف القناع 4 / 81 ط النصر بالرياض، ومغني المحتاج 2 / 291، وابن
عابدين 5 / 126، والبدائع 7 / 149.
(4) الدسوقي 3 / 454.
(7/43)
وَمَنْ غَصَبَ لَبِنًا أَوْ آجُرًّا أَوْ
خَشَبَةً فَأَدْخَلَهَا فِي الْبِنَاءِ، فَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ يُلْزَمُ الْغَاصِبُ بِرَدِّهَا، وَإِنِ انْتَقَضَ
الْبِنَاءُ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يَمْلِكُ الْمَالِكُ الاِسْتِرْدَادَ لأَِنَّ
الْمَغْصُوبَ بِالإِْدْخَال فِي الْبِنَاءِ صَارَ شَيْئًا آخَرَ غَيْرَ
الأَْوَّل، وَلِذَلِكَ لاَ يُنْقَضُ الْبِنَاءُ. وَقَال الْكَرْخِيُّ
وَأَبُو جَعْفَرٍ: لاَ يُنْقَضُ الْبِنَاءُ إِذَا كَانَ الْبِنَاءُ حَوْل
الْخَشَبَةِ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي الْبِنَاءِ، أَمَّا إِذَا
بَنَى عَلَيْهَا يُنْقَضُ الْبِنَاءُ،
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ هَدْمِ الْبِنَاءِ
وَأَخْذِ مَا غُصِبَ مِنْهُ، وَبَيْنَ إِبْقَائِهِ وَأَخْذِ قِيمَتِهِ
يَوْمَ الْغَصْبِ (1) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
5 - نَقْضُ الْبِنَاءِ يَأْتِي فِي مَوَاطِنَ مُتَعَدِّدَةٍ فِي كُتُبِ
الْفِقْهِ، فَهُوَ يَرِدُ فِي إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ
أَوْ بِدُونِ إِذْنِ الإِْمَامِ (2) ، وَفِي الشُّفْعَةِ فِيمَنِ اشْتَرَى
أَرْضًا وَبَنَى فِيهَا ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ وَقَضَى لَهُ بِشُفْعَةِ
الأَْرْضِ (3) ، وَفِي بَابِ الإِْجَارَةِ فِيمَا إِذَا بَنَى
الْمُسْتَأْجِرُ وَانْتَهَتْ مُدَّةُ الإِْجَارَةِ (4) ، وَفِي الشَّرِكَةِ
إِذَا طَلَبَ الشَّرِيكُ نَقْضَ حَائِطٍ مُشْتَرَكٍ (5) ، وَفِي الصُّلْحِ
(6) .
__________
(1) المراجع السابقة في الغصب.
(2) مغني المحتاج 2 / 369.
(3) بدائع الصنائع 5 / 29.
(4) المهذب 1 / 411.
(5) المنتهى 2 / 281.
(6) المنتهى 2 / 268.
(7/44)
انْقِرَاضٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِنْقِرَاضُ لُغَةً: الاِنْقِطَاعُ، وَالْمَوْتُ وَلاَ يَخْرُجُ
اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ ذَلِكَ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - أ - يَخْتَلِفُ الأُْصُولِيُّونَ فِي انْقِرَاضِ عَصْرِ أَهْل
الإِْجْمَاعِ، أَهُوَ شَرْطٌ فِي حُجِّيَّةِ الإِْجْمَاعِ؟ ذَهَبَ
الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ
الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ، وَقِيل إِنْ كَانَ الإِْجْمَاعُ
بِالْقَوْل وَالْفِعْل أَوْ بِأَحَدِهِمَا فَلاَ يُشْتَرَطُ، وَإِنْ كَانَ
الإِْجْمَاعُ بِالسُّكُوتِ عَنْ مُخَالَفَةِ الْقَائِل فَيُشْتَرَطُ،
رُوِيَ هَذَا عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ، وَقَال الْجُوَيْنِيُّ:
إِنْ كَانَ عَنْ قِيَاسٍ كَانَ شَرْطًا (2) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي
الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ (إِجْمَاعٌ) .
- ب - وَفِي الْوَقْفِ، يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْوَقْفَ لاَ يَصِحُّ عَلَى مَنْ يَنْقَرِضُ
كَالْوَقْفِ عَلَى الأَْوْلاَدِ؛ لأَِنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ التَّأْبِيدَ
فِي الْوَقْفِ، وَيَصِحُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَفِي هَذِهِ الْحَال،
إِذَا انْقَرَضَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِمْ (3) ، لَهُمْ تَفْصِيلاَتٌ
فِيمَنْ يَرْجِعُ إِلَيْهِ الْوَقْفُ، تَنْظُرُ فِي مُصْطَلَحِ (وَقْفٌ) .
__________
(1) لسان العرب، المحيط، ترتيب القاموس (قرض) ، النظم المستعذب هامش المهذب
1 / 448، نشر دار المعرفة.
(2) إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول ص 83، 84 ط مصطفى الحلبي.
(3) ابن عابدين 3 / 366، 367 ط بولاق الأولى، والخرشي 7 / 89 - 91، المهذب
1 / 448، نشر دار المعرفة، والروضة 5 / 326، وكشاف القناع 4 / 252.
(7/44)
انْقِضَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِنْقِضَاءُ: مُطَاوِعُ الْقَضَاءِ. وَمِنْ مَعَانِيهِ لُغَةً:
ذَهَابُ الشَّيْءِ وَفَنَاؤُهُ، وَانْقَضَى الشَّيْءُ: إِذَا تَمَّ.
وَيَأْتِي بِمَعْنَى الْخُرُوجِ مِنَ الشَّيْءِ وَالاِنْفِصَال مِنْهُ.
قَال الزُّهْرِيُّ وَالْقَاضِي عِيَاضٌ: قَضَى فِي اللُّغَةِ عَلَى
وُجُوهٍ، مَرْجِعُهَا إِلَى انْقِطَاعِ الشَّيْءِ وَتَمَامِهِ
وَالاِنْفِصَال مِنْهُ (1) .
وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ بِهَذِهِ الْمَعَانِي (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - إِمْضَاءٌ:
2 - يُسْتَعْمَل لَفْظُ الإِْمْضَاءِ بِمَعْنَى الإِْنْهَاءِ، يُقَال:
أَمْضَتِ الْمَرْأَةُ عِدَّتَهَا أَيْ أَنْهَتْهَا، وَيُسْتَعْمَل كَذَلِكَ
فِي إِنْفَاذِ الشَّيْءِ، يُقَال: أَمْضَى الْقَاضِي حُكْمَهُ: بِمَعْنَى
أَنْفَذَهُ (3) .
ب - انْتِهَاءٌ:
3 - يُسْتَعْمَل لَفْظُ الاِنْتِهَاءِ بِمَعْنَى الاِنْقِضَاءِ فَيُقَال:
انْتَهَتِ الْمُدَّةُ بِمَعْنَى انْقَضَتْ، وَانْتَهَى الْعَقْدُ بِمَعْنَى
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، ومشارق الأنوار، مادة: (قضى) .
(2) البدائع 4 / 222، 223، 6 / 1984، والحطاب 2 / 468، والمهذب 1 / 29،
والمغني 7 / 474، 475.
(3) لسان العرب المحيط (مضى) .
(7/45)
انْقَضَى، وَيُسْتَعْمَل كَذَلِكَ
بِمَعْنَى الْكَفِّ عَنِ الشَّيْءِ، وَبِمَعْنَى بُلُوغِ الشَّيْءِ
وَالْوُصُول إِلَيْهِ. يُقَال: انْتَهَى عَنِ الشَّيْءِ وَانْتَهَى
إِلَيْهِ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
مَا يَتَعَلَّقُ بِالاِنْقِضَاءِ مِنْ أَحْكَامٍ يَكَادُ يَنْحَصِرُ فِي
أَسْبَابِهِ وَآثَارِهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أَسْبَابُ الاِنْقِضَاءِ وَآثَارُهُ:
4 - تَخْتَلِفُ أَسْبَابُ الاِنْقِضَاءِ وَآثَارُهُ بِاخْتِلاَفِ
الْمَوْضُوعَاتِ وَالْمَسَائِل الْفِقْهِيَّةِ، فَمَا قَدْ يَكُونُ سَبَبًا
لاِنْقِضَاءِ شَيْءٍ لاَ يَكُونُ سَبَبًا لاِنْقِضَاءِ غَيْرِهِ، بَل قَدْ
تَتَنَوَّعُ الأَْسْبَابُ وَالآْثَارُ فِي مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ كَمَا فِي
الْعُقُودِ، وَعِدَّةِ الْمَرْأَةِ، وَغَيْرِهِمَا. وَلَمَّا كَانَ
الاِنْقِضَاءُ هُوَ بُلُوغَ النِّهَايَةِ فِي كُل شَيْءٍ بِحَسَبِهِ؛
لأَِنَّ كُل حَادِثٍ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ نِهَايَةٍ، فَإِنَّهُ مِنَ
الْعَسِيرِ اسْتِقْصَاءُ ذَلِكَ فِي كُل الْمَوْضُوعَاتِ. لِذَلِكَ
سَنَكْتَفِي بِذِكْرِ الأَْمْثِلَةِ الَّتِي تُوَضِّحُ ذَلِكَ.
أَوَّلاً: الْعُقُودُ:
تَنْقَضِي الْعُقُودُ لأَِسْبَابٍ مُتَنَوِّعَةٍ. وَمِنْهَا:
انْتِهَاءُ الْمَقْصُودِ مِنَ الْعَقْدِ:
5 - كُل عَقْدٍ لَهُ غَايَةٌ أَوْ غَرَضٌ مِنْ إِنْشَائِهِ، وَيُعْتَبَرُ
الْعَقْدُ مُنْقَضِيًا بِتَحَقُّقِ الْغَايَةِ أَوِ الْغَرَضِ مِنْهُ،
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:
أ - عَقْدُ الإِْجَارَةِ:
إِذَا كَانَ عَقْدُ الإِْجَارَةِ لِمُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ لِمَنْفَعَةٍ
مُعَيَّنَةٍ
__________
(1) لسان العرب المحيط، والبدائع 4 / 223، 6 / 113، 184.
(7/45)
فَإِنَّ الْعَقْدَ يَنْقَضِي بِانْتِهَاءِ
ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الثَّابِتَ إِلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ
الْغَايَةِ.
وَهَكَذَا كُل عَقْدٍ مُقَيَّدٌ بِزَمَنٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ يَنْقَضِي
بِانْتِهَاءِ ذَلِكَ، مِثْل عَقْدِ الْهُدْنَةِ وَالْعَارِيَّةِ
وَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ.
وَإِذَا انْقَضَى الْعَقْدُ تَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ مِنْ وُجُوبِ
الرَّدِّ، وَثُبُوتِ حَقِّ الاِسْتِرْدَادِ، وَاسْتِقْرَارِ الأُْجْرَةِ،
أَوِ الْقَدْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. وَالضَّمَانُ بِالتَّعَدِّي، أَوِ
التَّفْرِيطِ، وَإِنْذَارُ الأَْعْدَاءِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْهُدْنَةِ،
وَهَكَذَا.
وَالاِنْقِضَاءُ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ
هُنَاكَ عُذْرٌ يَسْتَدْعِي امْتِدَادَهَا فَتْرَةً أُخْرَى دَفْعًا
لِلضَّرَرِ (1) . (ر: إِجَارَةٌ. هُدْنَةٌ. مُسَاقَاةٌ) .
ب - عَقْدُ الْوَكَالَةِ:
يَنْقَضِي عَقْدُ الْوَكَالَةِ بِتَمَامِ الْمُوَكَّل فِيهِ.
فَالْوَكَالَةُ بِالشِّرَاءِ مَثَلاً تَنْقَضِي بِشِرَاءِ الْوَكِيل مَا
وُكِّل فِي شِرَائِهِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ قَدْ حَصَل فَيَنْقَضِي
الْعَقْدُ بِذَلِكَ، وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ مِنَ انْعِزَال
الْوَكِيل وَمَنْعِهِ مِنَ التَّصَرُّفِ، وَمِثْل ذَلِكَ يُقَال فِي
الرَّهْنِ يَنْقَضِي بِسَدَادِ الدَّيْنِ، وَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ
تَنْقَضِي بِالأَْدَاءِ أَوِ الإِْبْرَاءِ، وَتَتَرَتَّبُ أَحْكَامُ
الْعُقُودِ مِنْ سُقُوطِ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ، وَرَدِّ الْمَرْهُونِ،
وَالضَّمَانُ بِالتَّفْرِيطِ أَوِ التَّعَدِّي وَهَكَذَا (2) . (ر:
وَكَالَةٌ. رَهْنٌ. كَفَالَةٌ) .
__________
(1) البدائع 4 / 223، 6 / 184، 188، 7 / 110، ومنح الجليل 1 / 766، 3 /
496، 499، 713، 729، ومغني المحتاج 2 / 270، 273، والمهذب 1 / 399 - 408، 2
/ 261، والمغني 5 / 227، 406، 436، 438، ومنتهى الإرادات 2 / 343، 371،
383، 395، 398.
(2) البدائع 6 / 11، 113، 153، ومنح الجليل 3 / 392، ونهاية المحتاج 4 /
431، وكشاف القناع 3 / 342، 364.
(7/46)
فَسَادُ الْعَقْدِ:
6 - إِذَا كَانَ الْعَقْدُ مِنَ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ كَالْبَيْعِ،
وَلَكِنَّهُ وَقَعَ فَاسِدًا، كَانَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَى كُلٍّ مِنْ
طَرَفَيْهِ فَسْخُهُ؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ يَسْتَحِقُّ الْفَسْخَ
حَقًّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَل لِمَا فِي الْفَسْخِ مِنْ رَفْعِ الْفَسَادِ،
وَرَفْعُ الْفَسَادِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ، فَيَظْهَرُ
فِي حَقِّ الْكُل فَكَانَ فَسْخًا فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً، فَلاَ
تَقِفُ صِحَّتُهُ عَلَى الْقَضَاءِ وَلاَ عَلَى الرِّضَى. وَيَجُوزُ
لِلْقَاضِي فَسْخُهُ جَبْرًا عَلَى الْعَاقِدَيْنِ.
وَيَنْقَضِي الْعَقْدُ بِالْفَسْخِ لِلْفَسَادِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى
ذَلِكَ وُجُوبُ رَدِّ الْمَبِيعِ، وَالثَّمَنِ، وَالضَّمَانِ عِنْدَ
تَعَذُّرِ الرَّدِّ (1) .
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ (ر: بَيْعٌ - فَسَادٌ - عُقُودٌ) .
إِنْهَاءُ صَاحِبِ الْحَقِّ حَقَّهُ:
7 - يَنْقَضِي الْعَقْدُ بِإِنْهَاءِ مَنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ، سَوَاءٌ
أَكَانَ الإِْنْهَاءُ مِنْ طَرَفٍ وَاحِدٍ أَمْ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، وَمِنْ
أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:
أ - الْعُقُودُ الْجَائِزَةُ غَيْرُ اللاَّزِمَةِ كَالْوَكَالَةِ
وَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْعَارِيَّةِ:
هَذِهِ الْعُقُودُ يَجُوزُ فِيهَا لِكُل وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ
فَسْخُ الْعَقْدِ لأَِنَّهُ غَيْرُ لاَزِمٍ، وَيُعْتَبَرُ الْعَقْدُ
مُنْقَضِيًا بِذَلِكَ، وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْفَسْخِ مِنْ
وُجُوبِ الرَّدِّ، وَثُبُوتِ حَقِّ الاِسْتِرْدَادِ، وَمِنَ الضَّمَانِ
بِالتَّفْرِيطِ أَوِ التَّعَدِّي، وَمِنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ فِي الرِّبْحِ.
هَذَا مَعَ التَّفْصِيل فِيمَا إِذَا تَعَلَّقَ بِالْوَكَالَةِ حَقٌّ، أَوْ
كَانَ
__________
(1) البدائع 5 / 305، وابن عابدين 4 / 110، والدسوقي 3 / 71، والمهذب 1 /
268، 273، 275.
(7/46)
رَأْسُ الْمَال فِي الْمُضَارَبَةِ لَمْ
يَنِضَّ وَغَيْرُ ذَلِكَ (1) وَيُنْظَرُ فِي (وَكَالَةٌ - مُضَارَبَةٌ -
شَرِكَةٌ) .
ب - الإِْقَالَةُ:
قَدْ يَصْدُرُ الْعَقْدُ مُسْتَكْمِلاً أَرْكَانَهُ وَشُرُوطَهُ، وَمَعَ
ذَلِكَ يَجُوزُ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ فَسْخُهُ بِرِضَاهُمَا، وَذَلِكَ مَا
يُسَمَّى بِالإِْقَالَةِ، فَإِذَا تَقَايَلاَ انْفَسَخَ الْعَقْدُ عِنْدَ
مَنْ يَقُول بِأَنَّ الإِْقَالَةَ فَسْخٌ، وَانْقَضَى الْعَقْدُ بِذَلِكَ
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الإِْقَالَةِ رَدُّ كُل حَقٍّ لِصَاحِبِهِ (2) . (ر:
إِقَالَةٌ) .
ج - عَقْدُ النِّكَاحِ:
يَنْقَضِي عَقْدُ النِّكَاحِ بِالْفُرْقَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَذَلِكَ
بِإِنْهَاءِ الزَّوْجِ لَهُ بِالطَّلاَقِ الْبَائِنِ، وَكَذَلِكَ يَمْلِكُ
الزَّوْجَانِ إِنْهَاءَهُ بِالْخُلْعِ، وَبِذَلِكَ يَنْقَضِي عَقْدُ
النِّكَاحِ وَتَتَرَتَّبُ أَحْكَامُ الْفُرْقَةِ مِنْ عِدَّةٍ وَغَيْرِهَا
(3) . وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (نِكَاحٍ - طَلاَقٍ) .
د - الْعُقُودُ الْمَوْقُوفَةُ:
مِنَ الْعُقُودِ مَا هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَةِ غَيْرِ الْعَاقِدِ،
كَعَقْدِ الْفُضُولِيِّ الَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ صَاحِبِ
الشَّأْنِ، عِنْدَ مَنْ يَرَى مَشْرُوعِيَّةَ هَذَا الْعَقْدِ،
كَالْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَلِلْمَالِكِ أَيْضًا إِنْهَاءُ
الْعَقْدِ بِعَدَمِ إِجَازَتِهِ، وَبِذَلِكَ يَنْقَضِي الْعَقْدُ (4) .
__________
(1) البدائع 6 / 37، 77، 112، 216، والدسوقي 3 / 396، ومنح الجليل 3 / 392،
496، ومغني المحتاج 2 / 215، 270، 319، ومنتهى الإرادات 2 / 305.
(2) البدائع 5 / 306، والدسوقي 3 / 156، وأسنى المطالب 2 / 74، ومنتهى
الإرادات 2 / 193.
(3) البدائع 2 / 336، وجواهر الإكليل 1 / 330، 337.
(4) البدائع 5 / 151، ومنح الجليل 2 / 481.
(7/47)
اسْتِحَالَةُ التَّنْفِيذِ:
8 - قَدْ يَتَعَذَّرُ تَنْفِيذُ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا هَلَكَ
الْمَبِيعُ الْقِيَمِيُّ فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْل أَنْ يَتَسَلَّمَهُ
الْمُشْتَرِي، وَكَذَهَابِ مَحَل اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ فِي
الإِْجَارَةِ، وَكَمَوْتِ الْمُوَكِّل أَوِ الْوَكِيل أَوِ الشَّرِيكِ،
فَفِي هَذِهِ الْحَالاَتِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ وَيَنْقَضِي لاِسْتِحَالَةِ
تَنْفِيذِهِ، وَتَتَرَتَّبُ الأَْحْكَامُ الْمُقَرَّرَةُ فِي ذَلِكَ مِنْ
سُقُوطِ الثَّمَنِ وَالأُْجْرَةِ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ (ر: هَلاَكٌ -
انْفِسَاخٌ) .
هَذِهِ هِيَ أَسْبَابُ انْقِضَاءِ الْعُقُودِ غَالِبًا مَعَ وُجُودِ
غَيْرِهَا كَالْجُنُونِ، وَتَعَدِّي الأَْمِينِ فِي عُقُودِ الأَْمَانَاتِ
(1) .
ثَانِيًا: الْعِدَّةُ:
9 - تَنْقَضِي عِدَّةُ الْمُعْتَدَّةِ، إِمَّا بِوَضْعِ الْحَمْل، أَوْ
بِانْتِهَاءِ الأَْشْهُرِ أَوْ بِالأَْقْرَاءِ. وَإِذَا انْقَضَتِ
الْعِدَّةُ تَرَتَّبَ عَلَيْهَا أَحْكَامُهُ، مِنَ انْقِطَاعِ الرَّجْعَةِ
لِلْمُطَلَّقَةِ رَجْعِيًّا، وَانْقِطَاعِ الإِْرْثِ، وَانْقِطَاعِ
النَّفَقَةِ، وَالسُّكْنَى، وَانْتِهَاءِ الإِْحْدَادِ لِلْمُتَوَفَّى
عَنْهَا زَوْجُهَا، وَإِبَاحَةِ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَنْزِل، وَحِلِّهَا
لِلأَْزْوَاجِ (2) . وَغَيْرِ ذَلِكَ وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي (عِدَّةٍ)
.
ثَالِثًا: الْحَضَانَةُ وَالْكَفَالَةُ:
10 - إِذَا كَانَ الطِّفْل بَيْنَ أَبَوَيْهِ فَإِنَّ حَضَانَتَهُ تَكُونُ
لَهُمَا، وَتَنْقَضِي بِبُلُوغِ الطِّفْل ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى،
__________
(1) البدائع 5 / 238، 239، 6 / 78، والدسوقي 4 / 58، 59، وبداية المجتهد 2
/ 229، والمهذب 1 / 355، 364، والقواعد لابن رجب ص 64.
(2) البدائع 3 / 187 وما بعدها، وجواهر الإكليل 1 / 384 وما بعدها، والمهذب
2 / 143، والمغني 7 / 456.
(7/47)
وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ
(الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) . وَعِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ تَكُونُ حَضَانَةُ الذَّكَرِ لِبُلُوغِهِ، وَالأُْنْثَى
لِدُخُول الزَّوْجِ بِهَا.
أَمَّا إِذَا افْتَرَقَ الأَْبَوَانِ فَإِنَّ الْحَضَانَةَ تَكُونُ
لِلأُْمِّ أَوَّلاً عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، لَكِنَّهُمْ
يَخْتَلِفُونَ فِي وَقْتِ انْقِضَاءِ حَضَانَتِهَا. فَعِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَنْقَضِي حَضَانَةُ الأُْمِّ عِنْدَ
سِنِّ التَّمْيِيزِ، وَحَدَّدَهَا الْحَنَابِلَةُ بِسَبْعِ سِنِينَ. قَال
الشَّافِعِيَّةُ: أَوْ ثَمَانِي سِنِينَ، ثُمَّ تَكُونُ الْحَضَانَةُ
لِمَنْ يَخْتَارُهُ الطِّفْل مِنْ أَبَوَيْهِ إِلَى وَقْتِ الْبُلُوغِ،
سَوَاءٌ أَكَانَ الطِّفْل ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى كَمَا يَقُول
الشَّافِعِيَّةُ، أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيَجْعَلُونَ التَّخْيِيرَ
لِلذَّكَرِ، أَمَّا الأُْنْثَى فَتَنْتَقِل حَضَانَتُهَا إِلَى الأَْبِ
دُونَ تَخْيِيرٍ وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَظَل الْحَضَانَةُ لِلأُْمِّ
قَائِمَةً بَعْدَ طَلاَقِهَا، وَلاَ تَنْقَضِي حَضَانَتُهَا إِلاَّ
بِبُلُوغِ الذَّكَرِ وَدُخُول الأُْنْثَى. وَيَقُول الْحَنَفِيَّةُ.
تَنْقَضِي حَضَانَةُ الأُْمِّ بِبَلُوعِ الأُْنْثَى وَبِاسْتِغْنَاءِ
الذَّكَرِ، بِأَنْ يَأْكُل وَحْدَهُ، وَيَشْرَبَ وَحْدَهُ، وَيَسْتَنْجِيَ
وَحْدَهُ، دُونَ تَقْدِيرِ سِنٍّ، وَذَكَرَ الْخَصَّافُ سَبْعَ سِنِينَ
أَوْ ثَمَانِيَ سِنِينَ.
وَإِذَا اسْتَغْنَى الذَّكَرُ أَوْ بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ أَوْ ثَمَانِيًا
كَمَا يَقُول الْخَصَّافُ انْعَقَلَتْ حَضَانَتُهُ لِلأَْبِ إِلَى
بُلُوغِهِ (1) . (ر: حَضَانَةٌ) .
رَابِعًا: الإِْيلاَءُ:
11 - يَنْقَضِي الإِْيلاَءُ (وَهُوَ الْحَلِفُ عَلَى تَرْكِ وَطْءِ
الزَّوْجَةِ) بِالآْتِي:
__________
(1) البدائع 4 / 42، 43، ومنح الجليل 2 / 452، والمهذب 2 / 170، 172،
والمغني 7 / 614.
(7/48)
أ - تَعْجِيل مُقْتَضِي الْحِنْثِ
بِالْفَيْءِ قَبْل مُضِيِّ مُدَّةِ الإِْيلاَءِ (وَهِيَ أَرْبَعَةُ
أَشْهُرٍ) بِأَنْ يَفْعَل مَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِهِ وَهُوَ الْوَطْءُ،
وَيَلْزَمُهُ التَّكْفِيرُ.
ب - تَكْفِيرُ الْيَمِينِ وَالْوَطْءُ بَعْدَ الْمُدَّةِ الْمَحْلُوفِ
عَلَيْهَا.
ج - مُضِيُّ مُدَّةِ الإِْيلاَءِ وَهِيَ الأَْرْبَعَةُ الأَْشْهُرُ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، إِذْ تَبِينُ الزَّوْجَةُ مِنْهُ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ
حَاجَةٍ إِلَى قَضَاءِ الْقَاضِي، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى انْقِضَاءِ أَجَل
الإِْيلاَءِ إِمَّا وُجُوبُ الْفَيْءِ أَوِ الطَّلاَقُ الرَّجْعِيُّ كَمَا
يَقُول الْجُمْهُورُ، أَوِ الْبَائِنُ كَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ، إِلاَّ
إِذَا رَضِيَتِ الزَّوْجَةُ بِالْمُقَامِ مَعَهُ دُونَ فَيْءٍ كَمَا يَقُول
الْجُمْهُورُ (1) . وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (إِيلاَءٍ) .
خَامِسًا: الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ:
12 - يَنْقَضِي حُكْمُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ بِالْغُسْل
الْوَاجِبِ، وَبِتَخَرُّقِ الْخُفِّ كَثِيرًا، وَبِنَزْعِهِ، وَبِمُضِيِّ
الْمُدَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ (2) . وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ بُطْلاَنُ
الْمَسْحِ. (ر: الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ) .
سَادِسًا: صَلاَةُ الْمُسَافِرِ:
13 - مِمَّا يَنْقَضِي بِهِ حُكْمُ قَصْرِ الصَّلاَةِ لِلْمُسَافِرِ
انْقِضَاءُ مُدَّةِ الإِْقَامَةِ الْمُبِيحَةِ لِلْقَصْرِ، عَلَى خِلاَفٍ
بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي كَوْنِهَا أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ أَوْ خَمْسَةَ
عَشَرَ،
__________
(1) البدائع 3 / 175 - 179، والاختيار 3 / 152، وجواهر الإكليل 1 / 369،
والمهذب 2 / 110، والمغني 7 / 304، 318، 322.
(2) البدائع 1 / 12، وجواهر الإكليل 1 / 25، والمهذب 1 / 29، والمغني 1 /
287.
(7/48)
وَكَذَلِكَ يَنْقَضِي بِنِيَّةِ
الإِْتْمَامِ، وَبِدُخُول الْوَطَنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ (1) . (ر: صَلاَةُ
الْمُسَافِرِ) .
سَابِعًا: انْقِضَاءُ الأَْجَل:
14 - يَنْقَضِي الأَْجَل إِمَّا بِالإِْسْقَاطِ أَوْ بِالسُّقُوطِ.
وَمِثَالُهُ فِي الإِْسْقَاطِ: إِسْقَاطُ الْمَدِينِ حَقَّهُ مِنَ
الأَْجَل. وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يُصْبِحَ الدَّيْنُ حَالًّا.
وَمِثَالُهُ فِي السُّقُوطِ: انْتِهَاءُ مُدَّتِهِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ
إِمَّا بَدْءُ تَنْفِيذِ الاِلْتِزَامِ، كَوُجُوبِ الزَّكَاةِ بِانْقِضَاءِ
الْحَوْل عَلَى مِلْكِ النِّصَابِ، وَإِمَّا إِنْهَاءُ الاِلْتِزَامِ
كَالإِْجَارَةِ الْمُقَيَّدَةِ بِزَمَنٍ، فَإِنَّهَا تَنْقَضِي
بِانْقِضَاءِ الأَْجَل. وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (أَجَلٍ) .
هَذِهِ بَعْضُ أَمْثِلَةٍ لِلاِنْقِضَاءِ، وَغَيْرُهَا كَثِيرٌ،
كَانْقِضَاءِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ، وَانْقِضَاءِ
الْحَجْرِ بِالرُّشْدِ، وَانْقِضَاءِ خِيَارِ الشَّرْطِ بِانْتِهَاءِ
مُدَّتِهِ أَوْ بِالتَّصَرُّفِ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ. وَيُنْظَرُ تَفْصِيل
ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ.
الاِخْتِلاَفُ فِي الاِنْقِضَاءِ:
15 - إِذَا تَنَازَعَ طَرَفَانِ فِي انْقِضَاءِ شَيْءٍ أَوْ بَقَائِهِ،
فَإِنَّ الْحُكْمَ بِالاِنْقِضَاءِ وَعَدَمِهِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ
التَّصَرُّفَاتِ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:
أ - فِي الْهِدَايَةِ: إِذَا قَالَتِ الْمُعْتَدَّةُ انْقَضَتْ عِدَّتِي
وَكَذَّبَهَا الزَّوْجُ، كَانَ الْقَوْل قَوْلَهَا مَعَ الْيَمِينِ؛
لأَِنَّهَا
__________
(1) البدائع 1 / 97، والدسوقي 1 / 364، ومنتهى الإرادات 1 / 278.
(7/49)
أَمِينَةٌ فِي ذَلِكَ، وَقَدِ اتُّهِمَتْ
فِي ذَلِكَ فَتَحْلِفُ كَالْمُودَعِ (1) .
ب - فِي جَوَاهِرِ الإِْكْلِيل: إِنِ اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي
فِي انْقِضَاءِ الأَْجَل (بِالنِّسْبَةِ لِلثَّمَنِ) لاِخْتِلاَفِهِمَا فِي
مَبْدَئِهِ بِأَنْ قَال الْبَائِعُ: أَوَّل الشَّهْرِ وَقَال الْمُبْتَاعُ
مُنْتَصَفُهُ، وَلاَ بَيِّنَةَ لأَِحَدِهِمَا، وَفَاتَتِ السِّلْعَةُ
فَالْقَوْل لِمُنْكِرِ التَّقَضِّي، أَيِ انْقِضَاءِ الأَْجَل مُشْتَرِيًا
كَانَ أَوْ بَائِعًا، بِيَمِينِهِ إِنْ أَشْبَهَ سَوَاءٌ أَشْبَهَ الآْخَرَ
أَمْ لاَ؛ لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ انْقِضَائِهِ، فَإِنْ لَمْ تَفُتِ
السِّلْعَةُ حَلَفَا وَفُسِخَ الْبَيْعُ (2) . ج - فِي الْمُهَذَّبِ: إِنِ
اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي انْقِضَاءِ مُدَّةِ الإِْيلاَءِ فَادَّعَتِ
الْمَرْأَةُ انْقِضَاءَهَا وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ فَالْقَوْل قَوْل
الزَّوْجِ؛ لأَِنَّ الأَْصْل أَنَّهَا لَمْ تَنْقَضِ؛ وَلأَِنَّ هَذَا
اخْتِلاَفٌ فِي وَقْتِ الإِْيلاَءِ فَكَانَ الْقَوْل فِيهِ قَوْلَهُ (3) .
انْقِطَاعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - يَأْتِي الاِنْقِطَاعُ فِي اللُّغَةِ بِمَعَانٍ عِدَّةٍ مِنْهَا:
التَّوَقُّفُ وَالتَّفَرُّقُ (4) .
وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ بِهَذِهِ الْمَعَانِي، كَمَا يُطْلِقُونَ
__________
(1) الهداية 2 / 30.
(2) جواهر الإكليل 2 / 65.
(3) المهذب 2 / 112.
(4) تاج العروس، وترتيب القاموس مادة: (قطع) .
(7/49)
لَفْظَ الْمُنْقَطِعِ عَلَى الصَّغِيرِ
الَّذِي فَقَدَ أُمَّهُ مِنْ بَنِي آدَمَ (1) .
وَالاِنْقِطَاعُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ: عَدَمُ اتِّصَال سَنَدِ
الْحَدِيثِ، سَوَاءٌ سَقَطَ ذِكْرُ الرَّاوِي مِنْ أَوَّل الإِْسْنَادِ
أَوْ وَسَطِهِ أَوْ آخِرِهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الرَّاوِي وَاحِدًا أَمْ
أَكْثَرَ، عَلَى التَّوَالِي أَوْ غَيْرِهِ، فَيَشْمَل الْمُرْسَل،
وَالْمُعَلَّقَ، وَالْمُعْضَل، وَالْمُدَلَّسَ، إِلاَّ أَنَّ الْغَالِبَ
اسْتِعْمَالُهُ فِي رِوَايَةِ مَنْ دُونَ التَّابِعِيِّ عَنِ الصَّحَابِيِّ
كَمَالِكٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ (2) . وَهَذَا أَحَدُ مَعَانِيهِ، وَلَهُ
بَعْضُ الْمَعَانِي يَتَكَلَّمُ عَنْهَا الأُْصُولِيُّونَ فِي مَبْحَثِ
السُّنَّةِ (الْمُرْسَل) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الاِنْقِرَاضُ:
2 - يُعَبِّرُ الْفُقَهَاءُ بِالاِنْقِطَاعِ عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي لَمْ
يُوجَدْ أَصْلاً كَالْوَقْفِ عَلَى مُنْقَطِعِ الأَْوَّل، أَمَّا
الاِنْقِرَاضُ فَيَكُونُ فِي الأَْشْيَاءِ الَّتِي وُجِدَتْ ثُمَّ
انْعَدَمَتْ (3) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي الاِنْقِطَاعِ بِاخْتِلاَفِ مَا يُضَافُ
إِلَيْهِ، فَفِي انْقِطَاعِ دَمِ الْحَيْضِ أَوِ النِّفَاسِ يَكُونُ
الْحُكْمُ كَالآْتِي:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ وَطْءِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ
__________
(1) القليوبي 3 / 189 ط مصطفى الحلبي، وجواهر الإكليل 1 / 3، نشر دار
الباز، والطحطاوي على مراقي الفلاح ص 80 نشر دار الإيمان.
(2) كشاف اصطلاحات الفنون مادة: (قطع) .
(3) النظم المستعذب بهامش المهذب 1 / 448.
(7/50)
قَبْل انْقِطَاعِ دَمِهِمَا، وَاخْتَلَفُوا
هَل يَكُونُ الْغُسْل شَرْطًا لِحِل الاِسْتِمْتَاعِ بَعْدَ انْقِطَاعِ
الدَّمِ، أَوْ يَكْفِي أَنْ تَكُونَ فِي حُكْمِ الطَّاهِرَاتِ؟ . فَذَهَبَ
الْجُمْهُورُ إِلَى تَحْرِيمِ الْوَطْءِ حَتَّى تَغْتَسِل أَوْ تَتَيَمَّمَ
إِنْ كَانَتْ أَهْلاً لَهُ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِنِ انْقَطَعَ
دَمُهَا لأَِكْثَرِ الْحَيْضِ وَهُوَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ عِنْدَهُ حَل
الْوَطْءُ فِي الْحَال، وَإِنِ انْقَطَعَ لأَِقَلِّهِ لَمْ يَحِل حَتَّى
تَغْتَسِل أَوْ تَتَيَمَّمَ، أَوْ تَصِيرَ الصَّلاَةُ دَيْنًا فِي
ذِمَّتِهَا، بِأَنْ يَمْضِيَ وَقْتٌ بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ يَتَّسِعُ
لِلْغُسْل أَوِ التَّيَمُّمِ وَالصَّلاَةِ (1) ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي
بَابِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ.
انْقِطَاعُ الاِقْتِدَاءِ بِنِيَّةِ الْمُفَارَقَةِ:
4 - يَنْقَطِعُ الاِقْتِدَاءُ فِي الصَّلاَةِ مِنْ جَانِبِ الْمَأْمُومِ
إِنْ نَوَى مُفَارَقَةَ إِمَامِهِ، وَفِي كَوْنِ الصَّلاَةِ مَعَ
الْمُفَارَقَةِ صَحِيحَةً أَوْ بَاطِلَةً خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ،
مِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّهَا صَحِيحَةٌ مُطْلَقًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى
أَنَّهَا بَاطِلَةٌ مُطْلَقًا، وَيُفَرِّقُ الْبَعْضُ بَيْنَ نِيَّةِ
الْمُفَارَقَةِ مَعَ الْعُذْرِ وَبِدُونِهِ، فَهِيَ مَعَ الْعُذْرِ
صَحِيحَةٌ، وَبَاطِلَةٌ بِدُونِهِ (2) . وَيُفَصِّل الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ
فِي صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ وَالاِقْتِدَاءِ.
وَكَذَلِكَ تَنْقَطِعُ الْقُدْوَةُ بِخُرُوجِ الإِْمَامِ مِنْ صَلاَتِهِ
وَمَعَ خُرُوجِهِ تَنْشَأُ بَعْضُ الأَْحْكَامِ، فَقَدْ تَبْطُل صَلاَتُهُ
وَصَلاَةُ الْمَأْمُومِينَ، وَقَدْ يَسْتَخْلِفُ وَتَصِحُّ الصَّلاَةُ (3)
وَيُفَصِّل الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي (صَلاَةِ
__________
(1) المجموع 2 / 370 - 371، 380.
(2) المغني 2 / 233، والحطاب 2 / 122، والطحطاوي على مراقي الفلاح ص 184.
(3) مغني المحتاج 1 / 259 ط مصطفى الحلبي، والطحطاوي على مراقي الفلاح ص
169.
(7/50)
الْجَمَاعَةِ، وَاسْتِخْلاَفٌ) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
5 - يَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ الاِنْقِطَاعَ فِي الْمَوَاضِعِ الآْتِيَةِ: فِي
انْقِطَاعِ التَّتَابُعِ فِي صَوْمِ الْكَفَّارَاتِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا
التَّتَابُعُ، كَكَفَّارَةِ الْقَتْل وَالظِّهَارِ وَالإِْفْطَارِ فِي
رَمَضَانَ.
وَفِي الْوَقْفِ فِي شَرْطِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، وَهَل يَصِحُّ
الْوَقْفُ إِنْ كَانَ عَلَى مُنْقَطِعِ الأَْوَّل أَوِ الآْخَرِ أَوِ
الْوَسَطِ (1) ؟ .
وَفِي إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ، وَحُقُوقِ الاِرْتِفَاقِ أَوِ الْمَنَافِعِ
الْمُشْتَرَكَةِ: أَثْنَاءَ الْكَلاَمِ عَنْ بَذْل مِيَاهِ الآْبَارِ إِذَا
كَانَتْ تَنْقَطِعُ أَوْ تَسْتَخْلِفُ، وَعَمَّا إِذَا حَفَرَ بِئْرًا
فَانْقَطَعَ بِهِ مَاءُ بِئْرِ جَارِهِ (2) .
وَفِي النِّكَاحِ: عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ الْغَيْبَةِ الْمُنْقَطِعَةِ،
وَنَقَل الْوِلاَيَةُ بِسَبَبِهَا.
وَفِي الْقَضَاءِ: عِنْدَ الْكَلاَمِ عَلَى انْقِطَاعِ الإِْنْسَانِ
لِلْقَضَاءِ وَالْفُتْيَا، وَرِزْقُ الْقَاضِي لِلْمُنْقَطِعِ لَهُمَا،
وَعِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ انْقِطَاعِ الْخُصُومَةِ بِالْيَمِينِ (3) .
انْقِلاَبُ الْعَيْنِ
انْظُرْ: تَحَوُّلٌ.
__________
(1) المجموع 6 / 394، والقليوبي 3 / 102، 189.
(2) الكافي لابن عبد البر 2 / 944.
(3) الروضة 12 / 40 ط المكتب الإسلامي، وكشاف القناع 6 / 291 ط الرياض.
(7/51)
إِنْكَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْنْكَارُ لُغَةً: مَصْدَرُ أَنْكَرَ وَيَأْتِي فِي اللُّغَةِ
لِثَلاَثَةِ مَعَانٍ:
الأَْوَّل: الْجَهْل بِالشَّخْصِ أَوِ الشَّيْءِ أَوِ الأَْمْرِ. تَقُول:
أَنْكَرْتُ زَيْدًا وَأَنْكَرْتُ الْخَبَرَ إِنْكَارًا، وَنَكَّرْتُهُ،
إِذَا لَمْ تَعْرِفْهُ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ
فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} (1) .
وَقَدْ يَكُونُ فِي الإِْنْكَارِ مَعَ عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ بِالشَّيْءِ
النَّفْرَةُ مِنْهُ وَالتَّخَوُّفُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا
جَاءَ آل لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قَال إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} (2)
أَيْ تُنْكِرُكُمْ نَفْسِي وَتَنْفِرُ مِنْكُمْ، فَأَخَافُ أَنْ
تَطْرُقُونِي بِشَرٍّ.
الثَّانِي: نَفْيُ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى، أَوِ الْمَسْئُول عَنْهُ.
وَالثَّالِثُ: تَغْيِيرُ الأَْمْرِ الْمُنْكَرِ وَعَيْبُهُ وَالنَّهْيُ
عَنْهُ. وَالْمُنْكَرُ هُوَ الأَْمْرُ الْقَبِيحُ، خِلاَفُ الْمَعْرُوفِ.
وَاسْمُ الْمَصْدَرِ هُنَا (النَّكِيرُ) ، وَمَعْنَاهُ (الإِْنْكَارُ) (3)
أَمَّا فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ فَيَرِدُ اسْتِعْمَال (الإِْنْكَارِ)
بِمَعْنَى الْجَحْدِ، وَبِمَعْنَى تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ، وَلَمْ يُسْتَدَل
عَلَى وُرُودِهِ بِمَعْنَى الْجَهْل بِالشَّيْءِ فِي كَلاَمِهِمْ.
__________
(1) سورة يوسف / 58.
(2) سورة الحجر / 62.
(3) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: (نكر) .
(7/51)
أَوَّلاً: الإِْنْكَارُ بِمَعْنَى
الْجَحْدِ
الْمُقَارَنَةُ بَيْنَ الإِْنْكَارِ بِهَذَا الْمَعْنَى وَالْجَحْدِ
وَالْجُحُودِ:
2 - سَاوَى بَعْضُ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ فِي الْمَعْنَى بَيْنَ الإِْنْكَارِ
وَبَيْنَ الْجَحْدِ وَالْجُحُودِ. قَال فِي اللِّسَانِ: الْجَحْدُ
وَالْجُحُودُ نَقِيضُ الإِْقْرَارِ، كَالإِْنْكَارِ وَالْمَعْرِفَةِ.
وَقَال الْجَوْهَرِيُّ: الْجُحُودُ الإِْنْكَارُ مَعَ الْعِلْمِ. يُقَال:
جَحَدَهُ حَقَّهُ وَبِحَقِّهِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - النَّفْيُ:
3 - النَّفْيُ يَكُونُ بِمَعْنَى الإِْنْكَارِ أَوِ الْجَحْدِ، وَهُوَ
مُقَابِل الإِْيجَابِ: وَقِيل الْفَرْقُ بَيْنَ النَّفْيِ وَبَيْنَ
الْجَحْدِ أَنَّ النَّافِيَ إِنْ كَانَ صَادِقًا سُمِّيَ كَلاَمُهُ نَفْيًا
وَلاَ يُسَمَّى جَحْدًا، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا سُمِّيَ جَحْدًا وَنَفْيًا
أَيْضًا، فَكُل جَحْدٍ نَفْيٌ. وَلَيْسَ كُل نَفْيٍ جَحْدًا. ذَكَرَهُ
أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ. قَالُوا: وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى:
{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}
(2) .
ب - النُّكُول:
4 - النُّكُول أَنْ يَمْتَنِعَ مِنَ الْحَلِفِ مَنْ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ
الْيَمِينُ فِي الدَّعْوَى، بِقَوْلِهِ: أَنَا نَاكِلٌ، أَوْ يَقُول لَهُ
الْقَاضِي: احْلِفْ، فَيَقُول: لاَ أَحْلِفُ. أَوْ سَكَتَ سُكُوتًا يَدُل
عَلَى الاِمْتِنَاعِ.
ج - الرُّجُوعُ:
5 - الرُّجُوعُ عَنِ الشَّيْءِ تَرْكُهُ بَعْدَ الإِْقْدَامِ عَلَيْهِ.
__________
(1) لسان العرب (جحد) .
(2) سورة النمل / 14، وانظر كشاف اصطلاحات الفنون 2 / 192، 6 / 1437 ط
الهند.
(7/52)
فَالرُّجُوعُ فِي الشَّهَادَةِ أَنْ يَقُول
الشَّاهِدُ أَبْطَلْتُ شَهَادَتِي، أَوْ فَسَخْتُهَا، أَوْ رَدَدْتُهَا.
وَقَدْ يَكُونُ الرُّجُوعُ عَنِ الإِْقْرَارِ بِادِّعَاءِ الْغَلَطِ
وَنَحْوِهِ (1) .
د - الاِسْتِنْكَارُ:
6 - الاِسْتِنْكَارُ يَأْتِي بِمَعْنَى عَدِّ الشَّيْءِ مُنْكَرًا،
وَبِمَعْنَى الاِسْتِفْهَامِ عَمَّا تُنْكِرُهُ، وَبِمَعْنَى جَهَالَةِ
الشَّيْءِ مَعَ حُصُول الاِشْتِبَاهِ (2) .
وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الاِسْتِنْكَارَ يُوَافِقُ الإِْنْكَارَ فِي
مَجِيئِهِمَا بِمَعْنَى الْجَهَالَةِ، وَيَنْفَرِدُ الإِْنْكَارُ
بِمَجِيئِهِ بِمَعْنَى الْجَحْدِ، وَيَنْفَرِدُ الاِسْتِنْكَارُ
بِمَجِيئِهِ بِمَعْنَى الاِسْتِفْهَامِ عَمَّا يُنْكَرُ.
الأَْحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالإِْنْكَارِ فِي
الدَّعْوَى.
7 - يَجِبُ عَلَى الْمُدَّعِي لإِِثْبَاتِ حَقِّهِ أَنْ يَأْتِيَ
بِبَيِّنَةٍ تُثْبِتُ دَعْوَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ
فَإِنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَلْزَمُهُ الْجَوَابُ عَمَّا ادَّعَى
عَلَيْهِ بِهِ، فَإِمَّا أَنْ يُقِرَّ، وَإِمَّا أَنْ يُنْكِرَ.
فَإِنْ أَقَرَّ لَزِمَهُ الْحَقُّ، وَإِنْ أَنْكَرَ فَعَلَى الْمُدَّعِي
الْبَيِّنَةُ، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قَضَى لَهُ، وَإِنْ لَمْ
يُقِمْهَا وَطَلَبَ الْيَمِينَ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَلَّفَهُ
الْحَاكِمُ، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ مِنَ الْمُدَّعِي، وَإِنْ نَكَل حَكَمَ
عَلَيْهِ. وَقِيل: تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي. هَذَا طَرِيقُ
الْحُكْمِ إِجْمَالاً، لِقَوْل النَّبِيِّ: الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي
وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ (3)
__________
(1) القليوبي 4 / 332، 3 / 5.
(2) لسان العرب، ومعجم اللغة، والمرجع في اللغة.
(3) حديث: " البينة على المدعي، واليمين على من أنكر ". أخرجه البيهقي في
سننه (10 / 252 - ط حيدر آباد) وحسنه ابن الصلاح كما في جامع العلوم والحكم
(ص 294 - ط الحلبي) .
(7/52)
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلاَتٌ تُنْظَرُ فِي
(إِثْبَاتٍ، وَدَعْوَى، حَلِفٍ، إِقْرَارٍ، نُكُولٍ) .
مَا بِهِ يَتَحَقَّقُ الإِْنْكَارُ:
أَوَّلاً: النُّطْقُ:
8 - يَتَحَقَّقُ الإِْنْكَارُ بِالنُّطْقِ. وَيُشْتَرَطُ فِي النُّطْقِ
أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا بِحَيْثُ لاَ يُحْتَمَل إِلاَّ الإِْنْكَارَ، كَأَنْ
يَقُول لَمْ تُسَلِّفْنِي مَا تَدَّعِيهِ. وَهُنَاكَ أَلْفَاظٌ اخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِي كَوْنِهَا صَرِيحَةً أَوْ غَيْرَ صَرِيحَةٍ، كَأَنْ
يَقُول: لاَ حَقَّ لَهُ عِنْدِي. فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ إِنْكَارًا،
وَهَذَا هُوَ الْقَوْل الْمُقَدَّمُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل
ابْنِ الْقَاسِمِ، وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ. وَالْقَوْل الآْخَرُ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْل الْحَنَابِلَةِ
أَنْ يَكُونَ إِنْكَارًا؛ لأَِنَّ نَفْيَ الْمُطْلَقِ يَشْمَل نَفْيَ
الْمُقَيَّدِ، فَقَوْلُهُ لَيْسَ لَهُ عَلَيَّ حَقٌّ نَفْيٌ مُطْلَقٌ
لِحَقِّ الْمُدَّعِي، أَيًّا كَانَ سَبَبُهُ، فَيُعْتَبَرُ جَوَابًا
كَافِيًا وَإِنْكَارًا مُوجِبًا لِلْحَلِفِ بِشُرُوطِهِ (1) .
ثَانِيًا: الاِمْتِنَاعُ مِنَ الإِْقْرَارِ وَالإِْنْكَارِ:
9 - لَوْ قَال الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: لاَ أُقِرُّ وَلاَ أُنْكِرُ، فَقَدِ
اخْتَلَفَتْ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ امْتِنَاعِهِ هَذَا. فَقَال
صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ: هُوَ إِنْكَارٌ،
فَيُسْتَحْلَفُ بَعْدَهُ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - وَهُوَ قَوْلٌ
لِلْمَالِكِيَّةِ - إِنَّ قَوْلَهُ لاَ أُقِرُّ وَلاَ أُنْكِرُ
بِمَنْزِلَةِ النُّكُول، فَيَقْضِي بِلاَ اسْتِحْلاَفٍ، كَمَا يَقْضِي
عَلَى النَّاكِل عَنِ الْيَمِينِ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ
__________
(1) معين الحكام ص 74، وتبصرة الحكام 1 / 162. والقليوبي 4 / 338، وشرح
منتهى الإرادات 3 / 485
(7/53)
يُعْلِمَهُ الْقَاضِي أَنَّهُ إِنْ لَمْ
يُقِرَّ وَلَمْ يُنْكِرْ حَكَمَ عَلَيْهِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ الْمُقَدَّمُ
عِنْدَهُمْ: إِنْ قَال لاَ أُقِرُّ وَلاَ أُنْكِرُ لاَ يُسْتَحْلَفُ؛
لأَِنَّهُ لَمْ يُظْهِرِ الإِْنْكَارَ، وَيُحْبَسُ حَتَّى يُقِرَّ
وَيُنْكِرَ. وَفِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ
الْقَاضِيَ يُؤَدِّبُهُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ، فَإِنِ اسْتَمَرَّ
عَلَى امْتِنَاعِهِ حَكَمَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ يَمِينٍ.
وَنَقَل الْكَاسَانِيُّ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ قَوْلَهُ لاَ
أُقِرُّ وَلاَ أُنْكِرُ إِقْرَارٌ (1) . وَلَمْ نَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ
نَصًّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
ثَالِثًا: السُّكُوتُ:
10 - مَنِ ادَّعَى عَلَيْهِ أَمَامَ الْقَضَاءِ فَسَكَتَ، فَفِي اعْتِبَارِ
سُكُوتِهِ إِنْكَارًا أَقْوَالٌ:
الأَْوَّل: إِنَّ سُكُوتَهُ إِنْكَارٌ، وَهَذَا قَوْل أَبِي يُوسُفَ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَهُمْ؛ لأَِنَّ الْفَتْوَى
عَلَى قَوْلِهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَضَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبُ
الشَّافِعِيَّةِ. قَال صَاحِبُ الْبَدَائِعِ: لأَِنَّ الدَّعْوَى
أَوْجَبَتِ الْجَوَابَ عَلَيْهِ، وَالْجَوَابُ إِمَّا إِقْرَارٌ وَإِمَّا
إِنْكَارٌ، فَلاَ بُدَّ مِنْ حَمْل السُّكُوتِ عَلَى أَحَدِهِمَا،
وَالْحَمْل عَلَى الإِْنْكَارِ أَوْلَى؛ لأَِنَّ الْعَاقِل الْمُتَدَيِّنَ
لاَ يَسْكُتُ عَنْ إِظْهَارِ الْحَقِّ الْمُسْتَحَقِّ لِغَيْرِهِ مَعَ
الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَكَانَ حَمْل السُّكُوتِ عَلَى الإِْنْكَارِ
أَوْلَى، فَكَانَ السُّكُوتُ إِنْكَارًا دَلاَلَةً.
وَهَذَا إِنْ كَانَ سُكُوتُهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ
كَمَا لَوْ كَانَ فِي لِسَانِهِ آفَةٌ تَمْنَعُهُ عَنِ التَّكَلُّمِ، أَوْ
فِي
__________
(1) ابن عابدين 4 / 423، ومعين الحكام ص 75، ولسان الحكام 1 / 60، وتبصرة
الحكام 1 / 163، 299، 301، وشرح المنتهى 3 / 95، والبدائع 8 / 3925.
(7/53)
سَمْعِهِ مَا يَمْنَعُهُ مِنْ سَمَاعِ
الْكَلاَمِ، فَلاَ يُعَدُّ سُكُوتُهُ إِنْكَارًا.
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ مِنَ الأَْعْذَارِ أَيْضًا أَنْ يَسْكُتَ
لِدَهْشَةٍ أَوْ غَبَاوَةٍ. أَمَّا الأَْخْرَسُ فَقَالُوا: إِنَّ تَرْكَهُ
الإِْشَارَةَ بِمَنْزِلِهِ السُّكُوتِ (1) . فَعَلَى هَذَا الْقَوْل
يَطْلُبُ الْقَاضِي مِنَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ، عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ
فِي دُرَرِ الْحُكَّامِ (2) .
11 - الْقَوْل الثَّانِي مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ،
وَهُوَ ثَانِي قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ سُكُوتَ الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ النُّكُول، فَيَحْكُمُ عَلَيْهِ الْقَاضِي
بِالسُّكُوتِ كَمَا يَحْكُمُ عَلَى الْمُنْكِرِ النَّاكِل عَنِ الْيَمِينِ،
بَعْدَ أَنْ يُعْلِمَهُ الْقَاضِي بِحُكْمِ سُكُوتِهِ، فَيَقُول لَهُ: إِنْ
أَجَبْتَ عَنْ دَعْوَاهُ وَإِلاَّ جَعَلْتُك نَاكِلاً وَقَضَيْتُ عَلَيْكَ،
وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. عَلَى أَنَّهُ لاَ
يَحْكُمُ عَلَيْهِ إِلاَّ بَعْدَ رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
12 - الْقَوْل الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ أَيْضًا:
يَحْبِسُهُ الْقَاضِي حَتَّى يُجِيبَ عَنِ الدَّعْوَى (3) .
غَيْبَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ إِنْكَارِهِ:
13 - إِذَا حَضَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيْنَ يَدَيِ الْقَاضِي،
فَأَنْكَرَ مَا ادَّعَى عَلَيْهِ بِهِ، ثُمَّ غَابَ قَبْل إِقَامَةِ
الْبَيِّنَةِ
__________
(1) شرح المجلة للأتاسي 6 / 118، والبدائع 8 / 3925، مطبعة الإمام، وابن
عابدين والدر المختار 4 / 423، ومعين الحكام ص 75، وشرح المنهاج مع حاشية
القليوبي وعميرة 4 / 338.
(2) درر الحكام 4 / 574.
(3) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 4 / 338، والمقنع 3 / 619 ط السلفية، وشرح
المقنع بهامش المغني 11 / 430، والتبصرة 1 / 301.
(7/54)
عَلَيْهِ، لَمْ يَجُزِ الْحُكْمُ عَلَيْهِ
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَكَذَا إِذَا سُمِعَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ
ثُمَّ غَابَ قَبْل الْقَضَاءِ؛ لأَِنَّ الشَّرْطَ قِيَامُ الإِْنْكَارِ
وَقْتَ الْقَضَاءِ.
وَخَالَفَهُ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَقَال بِصِحَّةِ الْقَضَاءِ
فِي هَذِهِ الْحَال؛ لأَِنَّ الشَّرْطَ عِنْدَهُ الإِْصْرَارُ عَلَى
الإِْنْكَارِ إِلَى وَقْتِ الْقَضَاءِ، وَالإِْصْرَارُ ثَابِتٌ بَعْدَ
غَيْبَتِهِ بِالاِسْتِصْحَابِ.
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ
الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ أَصْلاً.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُقْضَى عَلَى الْغَائِبِ فِي الْحُقُوقِ كُلِّهَا
وَالْمُعَامَلاَتِ وَالْمُدَايَنَاتِ وَالْوَكَالاَتِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ
إِلاَّ الْعَقَارَ وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ لاَ يَحْكُمُ عَلَيْهِ فِيهِ إِلاَّ
أَنْ تَطُول غَيْبَتُهُ وَيَضُرَّ ذَلِكَ بِخَصْمِهِ (1) .
حُكْمُ الْمُنْكِرِ:
14 - إِذَا ادُّعِيَ عَلَى إِنْسَانٍ بِشَيْءٍ فَأَنْكَرَ، فَإِنَّ
الْبَيِّنَةَ تُطْلَبُ مِنْ خَصْمِهِ، فَإِنْ أَقَامَهَا حُكِمَ لَهُ،
وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إِقَامَتِهَا فَإِنَّ الْقَاضِيَ
يَسْتَحْلِفُ الْمُنْكِرَ إِذَا طَلَبَ خَصْمُهُ تَحْلِيفَهُ، فَإِنْ
حَلَفَ حَكَمَ بِبَرَاءَتِهِ مِنَ الْمُدَّعِي، وَإِنْ نَكَل قَضَى
عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، أَمَّا عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فَلاَ يَقْضِي عَلَيْهِ حَتَّى يَرُدَّ
الْيَمِينَ عَلَى طَالِبِ الْحَقِّ، فَإِنْ حَلَفَ الطَّالِبُ حِينَئِذٍ
قَضَى لَهُ (2) .
وَدَلِيل اسْتِحْلاَفِ الْمُنْكِرِ حَدِيثُ: الْبَيِّنَةُ عَلَى
الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ (3) السَّابِقُ،
__________
(1) فتح القدير 6 / 401، قليوبي 4 / 308، والكافي 2 / 931.
(2) الطرق الحكمية 116.
(3) حديث: " البينة على المدعي، واليمين على من أنكر " سبق تخريجه (ف 7) .
(7/54)
وَحَدِيثُ وَائِل بْنِ حُجْرٍ، وَفِيهِ
أَنَّ رَجُلاً مِنْ حَضْرَمَوْتَ، وَرَجُلاً مِنْ كِنْدَةَ أَتَيَا رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال الْحَضْرَمِيُّ: إِنَّ
هَذَا غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ لِي وَرِثْتُهَا عَنْ أَبِي. وَقَال
الْكِنْدِيُّ: أَرْضِي وَفِي يَدَيَّ لاَ حَقَّ لَهُ فِيهَا. فَقَال
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شَاهِدَاك أَوْ يَمِينُهُ
قَال: إِنَّهُ لاَ يَتَوَرَّعُ عَنْ شَيْءٍ. قَال: لَيْسَ لَكَ إِلاَّ
ذَلِكَ (1) .
شَرْطُ اسْتِحْلاَفِ الْمُنْكِرِ:
15 - انْفَرَدَ الْمَالِكِيَّةُ عَنْ بَقِيَّةِ الْمَذَاهِبِ بِاشْتِرَاطِ
شَرْطَيْنِ لاِسْتِحْلاَفِ الْمُنْكِرِ، وَعَلَيْهِ فُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ
السَّبْعَةُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ فِي شَرْحِ
الأَْرْبَعِينَ:
أ - أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ مُخَالَطَةٌ بِدَيْنٍ أَوْ
تَكَرُّرُ بَيْعٍ وَلَوْ مَرَّةً، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا
مُخَالَطَةٌ، وَأَنْكَرَ، وَلَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، لَمْ يَثْبُتْ عَلَى
الْمُنْكِرِ شَيْءٌ، وَلَمْ يُطَالَبْ بِيَمِينٍ.
وَالْمُخَالَطَةُ عِنْدَهُمْ فِي كُل مُعَامَلَةٍ بِحَسْبِهَا.
وَاسْتَثْنَوْا مَوَاضِعَ تَجِبُ فِيهَا الْيَمِينُ بِدُونِ خُلْطَةٍ:
مِنْهَا: أَهْل الظُّلْمِ، وَالضَّيْفُ، وَالْمُتَّهَمُ، وَالْمَرِيضُ،
وَالصُّنَّاعُ فِيمَا ادُّعِيَ عَلَيْهِمُ اسْتِصْنَاعُهُ، وَأَرْبَابُ
الأَْسْوَاقِ وَالْحَوَانِيتِ فِيمَا ادُّعِيَ عَلَيْهِمْ بَيْعُهُ،
وَالرُّفَقَاءُ فِي السَّفَرِ يَدَّعِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ،
الْوَدِيعَةُ إِذَا ادُّعِيَتْ عَلَى أَهْلِهَا، وَالْمُزَايَدَةُ إِذَا
ادُّعِيَ عَلَى مَنْ حَضَرَهَا أَنَّهُ اشْتَرَى الْمَعْرُوضَ لِلْبَيْعِ
(2) .
__________
(1) حديث: " شاهداك أو يمينه " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 280 - ط السلفية)
ومسلم (1 / 123 - ط الحلبي) .
(2) تبصرة الحكام 1 / 196، 201، وجواهر الإكليل 2 / 226، والدسوقي 4 / 145،
والفتح المبين لابن حجر الهيثمي ص 243، وجامع العلوم والحكم لابن رجب ص
299.
(7/55)
ب - أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي
دَعْوَى التَّعَدِّي وَالْغَصْبِ وَنَحْوِهِمَا مَعْرُوفًا بِمِثْل مَا
ادُّعِيَ عَلَيْهِ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَّهَمًا بِمِثْلِهِ لَمْ
يُسْتَحْلَفْ (1) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي: دَعْوَى، وَقَضَاءٍ، وَيَمِينٍ.
الْمَوَاضِعُ الَّتِي يُسْتَحْلَفُ فِيهَا الْمُنْكِرُ وَالَّتِي لاَ
يُسْتَحْلَفُ فِيهَا:
16 - إِنَّهُ وَإِنْ كَانَتِ الْقَاعِدَةُ أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى مَنْ
أَنْكَرَ إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ الأُْمُورِ لاَ اسْتِحْلاَفَ فِيهَا؛ لأَِنَّ
الْحُقُوقَ نَوْعَانِ:
الأَْوَّل: حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى، كَالْعِبَادَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ
وَالْحُدُودِ: فَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ
وَاللَّيْثُ، أَنَّ الْمُنْكِرَ يُسْتَحْلَفُ فِيهَا إِذَا اتُّهِمَ.
وَقَدْ حُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِيمَنْ تَزَوَّجَ مَنْ لاَ تَحِل لَهُ،
ثُمَّ ادَّعَى الْجَهْل. أَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى دَعْوَاهُ. وَكَذَا قَال
إِسْحَاقُ فِي طَلاَقِ السَّكْرَانِ: يَحْلِفُ أَنَّهُ مَا كَانَ يَعْقِل،
وَفِي طَلاَقِ النَّاسِي: يَحْلِفُ عَلَى نِسْيَانِهِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ اسْتِحْلاَفَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى
أَصْلاً. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي الزَّكَاةِ، وَبِهِ قَال طَاوُوسٌ
وَالثَّوْرِيُّ.
الثَّانِي: حُقُوقُ الْعِبَادِ. أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى
الاِسْتِحْلاَفِ فِي الأَْمْوَال، وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِهَا: فَقَال
الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ: يُسْتَحْلَفُ
فِي جَمِيعِ حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ.
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 327، 328، وجامع العلوم والحكم ص 299.
(7/55)
وَقَال مَالِكٌ: لاَ يُسْتَحْلَفُ إِلاَّ
فِي كُل دَعْوَى لاَ تَحْتَاجُ إِلَى شَاهِدَيْنِ. وَعَنْ أَحْمَدَ: لاَ
يُسْتَحْلَفُ إِلاَّ فِيمَا يَصِحُّ بَذْلُهُ. وَفِي رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ:
لاَ يُسْتَحْلَفُ إِلاَّ فِيمَا يُقْضَى فِيهِ بِالنُّكُول.
وَمَثَّل لَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ بِمَنِ ادَّعَى دَيْنًا عَلَى مَيِّتٍ،
وَلِلْمَيِّتِ وَصِيٌّ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ وَتَنْفِيذِ وَصَايَاهُ،
فَأَنْكَرَ. فَإِنْ كَانَ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ حَكَمَ بِهَا، وَإِنْ
لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، وَأَرَادَ تَحْلِيفَ الْوَصِيِّ عَلَى نَفْيِ
الْعِلْمِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ مَقْصُودَ التَّحْلِيفِ أَنْ
يُقْضَى عَلَيْهِ بِالنُّكُول، وَالْوَصِيُّ لاَ يُقْبَل إِقْرَارُهُ
بِالدَّيْنِ، وَلَوْ نَكَل لَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ، فَلاَ فَائِدَةَ فِي
تَحْلِيفِهِ.
وَهَذَا الْخِلاَفُ الْمُتَقَدِّمُ فِي حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ هُوَ فِي
غَيْرِ الْمُؤْتَمَنِ، أَمَّا الْمُؤْتَمَنُ فَفِيهِ لِلْعُلَمَاءِ
ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ،
وَالشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ الْحَنَابِلَةِ، عَلَيْهِ الْيَمِينُ؛
لأَِنَّهُ مُنْكِرٌ فَيَدْخُل فِي عُمُومِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ:
الْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ.
الثَّانِي: لاَ يَمِينَ؛ لأَِنَّهُ صَدَّقَهُ، وَلاَ يَمِينَ مَعَ
التَّصْدِيقِ، وَهُوَ قَوْل الْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ.
الثَّالِثُ: وَهُوَ الرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ نَصُّ
أَحْمَدَ. لاَ يَمِينَ عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يُتَّهَمَ؛ لأَِنَّهُ إِذَا
قَامَتْ قَرِينَةٌ تُنَافِي مَعْنَى الاِئْتِمَانِ فَقَدِ اخْتَل
الاِئْتِمَانُ (1) .
وَتَفْصِيل مَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، أَنَّ
الاِسْتِحْلاَفَ لاَ يَكُونُ فِي الْحُدُودِ وَاللِّعَانِ، بِأَنْ
__________
(1) جامع العلوم والحكم ص 300، وانظر الفتح المبين بشرح الأربعين ص 243،
والطرق الحكمية لابن القيم ص 108، والإنصاف 12 / 112، وما بعدها.
(7/56)
ادَّعَتْ عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ
قَذَفَهَا بِمَا يُوجِبُ اللِّعَانَ وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ
الْحُدُودَ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَاللِّعَانُ فِي مَعْنَاهَا، فَلاَ
يُؤْخَذُ فِيهِمَا بِالنُّكُول.
وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُمْ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ. فَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ
يُسْتَحْلَفُ الْمُنْكِرُ فِي النِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ وَالْفَيْءِ فِي
الإِْيلاَءِ وَالرِّقِّ وَالاِسْتِيلاَدِ وَالْوَلاَءِ. وَقَال أَبُو
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يُسْتَحْلَفُ فِيهَا. وَالْفَتْوَى عَلَى
قَوْلِهِمَا. وَقِيل عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ
يَنْظُرَ فِي حَال الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ رَآهُ مُتَعَنِّتًا
يُحَلِّفُهُ أَخْذًا بِقَوْلِهِمَا، وَإِنْ رَآهُ مَظْلُومًا لاَ
يُحَلِّفُهُ أَخْذًا بِقَوْل أَبِي حَنِيفَةَ.
ثُمَّ قَدْ قَال صَاحِبُ الأَْشْبَاهِ: لاَ يُسْتَحْلَفُ فِي إِحْدَى
وَثَلاَثِينَ صُورَةً. وَنَقَل هَذَا صَاحِبُ الدُّرِّ وَعَدَّدَهَا
بِالتَّفْصِيل، وَأَضَافَ إِلَيْهَا هُوَ وَابْنُ عَابِدِينَ مِنَ
الصُّوَرِ مَا تَمَّتْ بِهِ تِسْعًا وَسِتِّينَ صُورَةً (1) .
حُكْمُ الإِْنْكَارِ كَذِبًا:
17 - يَجُوزُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ الإِْنْكَارُ إِنْ لَمْ يَكُنْ
لِلْمُدَّعِي عِنْدَهُ حَقٌّ وَكَانَ مُبْطِلاً فِي دَعْوَاهُ. أَمَّا إِنْ
كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَالِمًا بِحَقِّ الْمُدَّعِي عِنْدَهُ فَلاَ
يَحِل لَهُ الإِْنْكَارُ.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مَسْأَلَتَيْنِ يَجُوزُ فِيهِمَا
الإِْنْكَارُ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ الْمُدَّعِيَ مُحِقٌّ:
الأُْولَى: دَعْوَى الْعَيْبِ الْقَدِيمِ، كَمَا إِذَا ادَّعَى
الْمُشْتَرِي أَنَّ الْمَال الَّذِي اشْتَرَيْتُهُ مِنْكَ فِيهِ كَذَا،
فَلِلْبَائِعِ - وَلَوْ كَانَ وَاقِفًا عَلَى الْعَيْبِ الْقَدِيمِ - أَنْ
__________
(1) تكملة فتح القدير 7 / 169، 171، ط الميمنية، وحاشية ابن عابدين 3 /
447، 449، 451.
(7/56)
يُنْكِرَ وُجُودَهُ حَتَّى يَثْبُتَهُ
الْمُشْتَرِي، وَيَرُدَّهُ إِلَيْهِ لِيَتَمَكَّنَ بِدَوْرِهِ أَنْ
يَرُدَّهُ عَلَى مَنْ بَاعَهُ إِيَّاهُ.
الثَّانِيَةُ: لِوَصِيِّ الْمُتَوَفَّى أَنْ يُنْكِرَ دَيْنَ الْمَيِّتِ
وَلَوْ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ.
هَذَا مَا ذَكَرَهُ فِي دُرَرِ الْحُكَّامِ. وَفِي شَرْحِ الأَْتَاسِيِّ
عَلَى الْمَجَلَّةِ مَا يُفِيدُ أَنَّ الْقَاعِدَةَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ
يَسُوغُ لَهُ الإِْنْكَارُ إِنْ تَحَقَّقَتْ حَاجَتُهُ إِلَى الْبَيِّنَةِ.
قَال: وَهَذَا فِي مَسَائِل مِنْهَا: اسْتَحَقَّ الْمَبِيعُ فِي يَدِ
الْمُشْتَرِي يُعْذَرُ فِي الإِْنْكَارِ، وَإِنْ عَلِمَ صِدْقَ
الْمُدَّعِي، إِذْ لَوْ أَقَرَّ هُوَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى بَائِعِهِ
بِالْيَمِينِ (1) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا نَصَبَ الْقَاضِي مُسَخَّرًا (أَيْ
مُمَثِّلاً لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ) يُنْكِرُ عَنِ الْبَائِعِ جَازَ
لِلْمُسَخِّرِ الإِْنْكَارُ وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا. وَعَلَّلُوا ذَلِكَ
بِالْمَصْلَحَةِ (2) . وَلَعَلَّهُمْ يَقْصِدُونَ مَصْلَحَةَ تَمْكِينِ
الْمُدَّعِي مِنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ؛ لِتَكُونَ الْبَيِّنَةُ بِنَاءً
عَلَى إِنْكَارِ مُنْكِرٍ.
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَجُوزُ الإِْنْكَارُ فِي حَال الْخَوْفِ
عَلَى النَّفْسِ أَوِ الْمَال، وَجَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ بَابِ الإِْكْرَاهِ.
قَالُوا: إِذَا اسْتَخْفَى الرَّجُل عِنْدَ الرَّجُل مِنَ السُّلْطَانِ
الْجَائِرِ الَّذِي يُرِيدُ دَمَهُ أَوْ مَالَهُ، فَسَأَلَهُ السُّلْطَانُ
عَنْهُ، فَسَتَرَ عَلَيْهِ، وَجَحَدَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ، فَقَال لَهُ:
احْلِفْ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَك، فَحَلَفَ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدِي؛
لِيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ وَدَمِهِ، أَوْ مَا دُونَ ذَلِكَ مِنْ مَالِهِ،
فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ خَائِفًا عَلَى نَفْسِهِ. أَمَّا إِنْ
كَانَ آمِنًا عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَقِيَهُ
بِيَمِينِهِ فَقَدْ أُجِرَ فِيمَا فَعَل، وَلَزِمَهُ الْحِنْثُ فِيمَا
حَلَفَ.
__________
(1) درر الحكام شرح المجلة 4 / 574 م 1817، وشرح المجلة للآتاسي 6 / 96.
(2) القليوبي 4 / 308.
(7/57)
قَالُوا: وَكَذَلِكَ فَعَل مَالِكٌ فِي
هَذَا بِعَيْنِهِ. أَمَّا التَّخَلُّصُ مِنْ مِثْل هَذَا الْمَأْزِقِ
بِالتَّأْوِيل وَالتَّوْرِيَةِ فَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (تَوْرِيَةٌ) (1)
.
جَحَدَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ كَذِبًا، إِنْ كَانَ الآْخَرُ جَاحِدًا
لِحَقِّهِ:
18 - ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ
الدَّيْنُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْحَدَهُ حَتَّى فِي حَالَةِ مَا لَوْ كَانَ
لَهُ دَيْنٌ قِبَل الْمُدَّعِي، وَكَانَ الْمُدَّعِي قَدْ جَحَدَهُ،
لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَدِّ الأَْمَانَةَ
إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ (2) .
وَلأَِنَّ الدَّيْنَ الَّذِي عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنْ
غَيْرِ جِنْسِ دَيْنِهِ، كَأَنْ يَكُونَ دَيْنُ أَحَدِهِمَا ذَهَبًا
وَدَيْنُ الآْخَرِ فِضَّةً، فَإِنَّ الْجَحْدَ هُنَا يَكُونُ كَبَيْعِ
الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَهُوَ لاَ يَجُوزُ وَلَوْ تَرَاضَيَا. وَإِنْ
كَانَ الدَّيْنَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَانَ ذَلِكَ مِنْ قَبِيل
الْمُقَاصَّةِ، وَهِيَ لاَ تَجُوزُ إِلاَّ بِالتَّرَاضِي. إِذَنْ لَيْسَ
لَهُ تَعْيِينُ حَقِّهِ بِغَيْرِ صَاحِبِهِ.
وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ لِلْمَدِينِ جَحْدُ دَيْنِ مَنْ جَحَدَ
دَيْنَهُ، إِذَا كَانَ عَلَى الْجَاحِدِ مِثْل مَا لَهُ عَلَيْهِ، أَوْ
أَكْثَرُ مِنْهُ، فَتَحْصُل الْمُقَاصَّةُ بَيْنَ الدَّيْنَيْنِ، وَإِنْ
لَمْ تُوجَدْ شُرُوطُهَا لِلضَّرُورَةِ. فَإِنْ كَانَ لَهُ دُونَ مَا
لِلآْخَرِ جَحَدَ مِنْ حَقَّةِ بِقَدْرِهِ (3) .
وَلَمْ نَجِدْ لِلْحَنَفِيَّةِ تَعَرُّضًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 300، 2 / 180، وانظر شرح المنتهى 3 / 491، والقليوبي
4 / 341.
(2) حديث: " أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك ". أخرجه أبو داود
(3 / 805 - ط عزت عبيد دعاس) والحاكم (2 / 46 - ط دائرة المعارف العثمانية)
وصححه ووافقه الذهبي.
(3) شرح الإقناع 6 / 358، وشرح المنتهى 3 / 503 والوجيز للغزالي 2 / 260،
وتحفة المحتاج بحاشية الشرواني 10 / 292 ط الميمنية، والمدونة 15 / 160.
(7/57)
تَعْرِيضُ الْقَاضِي بِالإِْنْكَارِ فِي
الْحُدُودِ:
19 - لِلْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ تَعْرِيضِ الْقَاضِي بِالإِْنْكَارِ
لِلْمُقِرِّ بِحَدٍّ، ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ
اخْتِيَارُ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْقَوْل الصَّحِيحُ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ - كَمَا قَال النَّوَوِيُّ - أَنَّ مَنْ أَقَرَّ لَدَى
الْحَاكِمِ ابْتِدَاءً، أَوْ بَعْدَ دَعْوَى بِمَا يَسْتَوْجِبُ عُقُوبَةً
لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، كَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ، فَإِنَّ لِلْحَاكِمِ
أَنْ يَعْرِضَ لَهُ بِالرُّجُوعِ عَنِ الإِْقْرَارِ. وَهَذَا عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ عَلَى سَبِيل الْجَوَازِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ،
وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى سَبِيل الاِسْتِحْبَابِ.
وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِمَاعِزٍ لَمَّا أَقَرَّ بِالزِّنَى: لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، أَوْ
غَمَزْتَ، أَوْ نَظَرْتَ (1) .
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي أَقَرَّ
بِالسَّرِقَةِ. مَا أَخَالُكَ سَرَقْتَ (2) .
الْقَوْل الثَّانِي: وَهُوَ لِلشَّافِعِيَّةِ، أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ
التَّعْرِيضُ بِالإِْنْكَارِ فِي ذَلِكَ أَصْلاً.
وَالْقَوْل الثَّالِثُ: وَهُوَ لِلشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا، أَنَّهُ يَعْرِضُ
لَهُ بِالرُّجُوعِ إِنْ كَانَ الْمُقِرُّ لاَ يَعْلَمُ أَنَّ لَهُ
الرُّجُوعَ. فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ لاَ يَعْرِضُ لَهُ.
أَمَّا التَّصْرِيحُ بِالرُّجُوعِ عَنِ الإِْقْرَارِ بِالْحَدِّ،
وَتَلْقِينُ الْمُقِرِّ ذَلِكَ، فَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِعَدَمِ
جَوَازِهِ.
__________
(1) حديث: " لعلك قبلت، أو غمزت، أو نظرت " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 135
- ط السلفية) .
(2) حديث: " ما أخالك سرقت " أخرجه أحمد (5 / 293 - ط الميمنية) وأبو داود
(4 / 543 - ط عزت عبيد دعاس) وأعله الخطابي كما في التلخيص لابن حجر (4 /
66 - ط شركة الطباعة الفنية المتحدة) .
(7/58)
قَالُوا: لاَ يَقُول لَهُ: " ارْجِعْ عَنْ
إِقْرَارِكَ " وَأَجَازَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، فَقَالُوا:
لاَ بَأْسَ بِتَلْقِينِهِ الرُّجُوعَ.
وَهَذَا يُفْهَمُ مِنْهُ جَوَازُ التَّصْرِيحِ. وَيُؤَيِّدُهُ احْتِجَاجُ
صَاحِبِ الْمُغْنِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِمَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ
مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ أُتِيَ بِجَارِيَةٍ سَوْدَاءَ
قَدْ سَرَقَتْ، فَقَال لَهَا: (أَسَرَقْتِ؟ قُولِي: لاَ) فَقَالَتْ: لاَ.
فَخَلَّى سَبِيلَهَا (1) .
الضَّمَانُ بَعْدَ إِنْكَارِ الْحَقِّ:
20 - إِذَا أَنْكَرَ الْمُودَعُ الْوَدِيعَةَ بَعْدَ طَلَبِ رَبِّهَا
لَهَا، دَخَلَتْ فِي ضَمَانِهِ، فَإِنْ تَلِفَتْ بَعْدَ إِنْكَارِهِ،
كَأَنْ كَانَتْ دَابَّةً فَمَاتَتْ، أَوْ دَارًا فَانْهَدَمَتْ،
يَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ ضَمَانُهَا، وَيَضْمَنُهَا بِقِيمَتِهَا؛ لأَِنَّهُ
بِإِنْكَارِهِ لَهَا يَكُونُ غَاصِبًا؛ وَلأَِنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ
بِطَلَبِ الْمَالِكِ الْوَدِيعَةَ وَإِنْكَارِ الْمُودِعِ لَهَا؛ لأَِنَّهُ
بِإِنْكَارِهِ عَزَل نَفْسَهُ عَنِ الْحِفْظِ الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى
الْعَقْدِ، فَيَبْقَى مَال الْغَيْرِ بِيَدِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ،
فَيَكُونُ مَضْمُونًا، فَإِذَا هَلَكَ ضَمِنَهُ.
وَلَوْ أَنَّ الْمُودِعَ عَادَ بَعْدَ إِنْكَارِهِ، فَأَقَرَّ
الْوَدِيعَةَ، لَمْ يَزُل عَنْهُ الضَّمَانُ.
وَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يَضْمَنُ الْمُودِعُ الْوَدِيعَةَ
بِالإِْنْكَارِ، إِلاَّ إِنْ نَقَلَهَا مِنْ مَكَانِهَا الَّذِي كَانَتْ
فِيهِ وَقْتَ الإِْنْكَارِ، إِنْ كَانَتْ مِمَّا يُنْقَل، وَإِنْ لَمْ
يَنْقُلْهَا مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ بَعْدَ الْجُحُودِ، فَهَلَكَتْ، لاَ
يَضْمَنُ.
أَمَّا إِنْ رَدَّ الْوَدِيعَةَ إِلَى صَاحِبِهَا بَعْدَ الإِْنْكَارِ
وَقَبْل
__________
(1) حديث أبي الدرداء: " أتي بجارية سوداء قد سرقت. . . " أخرجه البيهقي في
سننه (8 / 276 - ط دائرة المعارف العثمانية) وإسناده حسن وانظر حاشية
الدسوقي القليوبي 4 / 196، وتبصرة الحكام 2 / 259، والمغني 8 / 212.
(7/58)
تَلَفِهَا فَيَزُول الضَّمَانُ، فَلَوْ
أَوْدَعَهُ إِيَّاهَا مَرَّةً ثَانِيَةً فَتَلِفَتْ فَإِنَّهُ لاَ يَضْمَنُ
(1) .
قَطْعُ مُنْكِرِ الْعَارِيَّةِ:
مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ
أَحْمَدَ: أَنَّهُ لاَ قَطْعَ عَلَى مُنْكِرِ الْوَدِيعَةِ أَوِ
الْعَارِيَّةِ أَوِ الأَْمَانَةِ، وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ،
كَمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِهِمْ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ الأَْخْذِ مِنْ
حِرْزٍ. قَالُوا: وَلِحَدِيثِ: لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ وَلاَ مُنْتَهِبٍ،
وَلاَ مُخْتَلِسٍ، قَطْعٌ (2) .
وَالْخَائِنُ هُوَ جَاحِدُ الْوَدِيعَةِ وَنَحْوِهَا. وَالرِّوَايَةُ
الأُْخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهِيَ الْمَذْهَبُ، عَدَمُ وُجُوبِ
الْقَطْعِ عَلَيْهِمْ، إِلاَّ جَاحِدَ الْعَارِيَّةِ خَاصَّةً يَجِبُ
قَطْعُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ سَارِقٌ؛ لِمَا وَرَدَ أَنَّ امْرَأَةً
كَانَتْ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِ يَدِهَا (3) .
قَال أَحْمَدُ: لاَ أَعْلَمُ شَيْئًا يَدْفَعُهُ. وَقَال الْجُمْهُورُ: فِي
حَدِيثِ الْمَخْزُومِيَّةِ هَذَا، إِنَّ أَكْثَر رِوَايَاتِهِ أَنَّهَا "
سَرَقَتْ " فَيُؤْخَذُ بِهَا. وَيُحْتَمَل أَنَّهَا كَانَتْ تَسْتَعِيرُ
وَتَجْحَدُ، وَكَانَتْ تَسْرِقُ فَقُطِعَتْ لَسَرِقَتِهَا لاَ لِجُحُودِهَا
(4)
__________
(1) ابن عابدين 4 / 498، وتبصرة الحكام 2 / 53، ومنح الجليل 3 / 466، 510،
ونهاية المحتاج 6 / 130، والمغني 6 / 394 ط ثالثة.
(2) حديث: " ليس على المنتهب ولا على المختلس ولا على الخائن قطع " أخرجه
الترمذي (4 / 52 - ط الحلبي) وهو حديث صحيح لطرقه، وذكرها ابن حجر في
التلخيص (4 / 65 - 66 ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) حديث: " أن امرأة. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1316 ط الحلبي) .
(4) تبيين الحقائق 3 / 216، نشر دار المعرفة بلبنان، ومنح الجليل 3 / 466،
510، وشرح المنهاج مع حاشية القليوبي 4 / 194، وكشاف القناع 6 / 129،
والعدة على إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام 4 / 371 - ط السلفية.
(7/59)
وَيَرْجِعُ فِي تَفْصِيل هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ وَالْخِلاَفُ فِيهَا إِلَى مُصْطَلَحِ: (سَرِقَةٌ) .
الإِْنْكَارُ بَعْدَ الإِْقْرَارِ:
21 - مَنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ، فَإِمَّا أَنْ
يَكُونَ إِقْرَارُهُ فِي الْحُدُودِ الَّتِي لِحَقِّ اللَّهِ، أَوْ فِي
غَيْرِ ذَلِكَ:
أ - الإِْنْكَارُ بَعْدَ الإِْقْرَارِ بِمَا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ:
22 - لَوْ أَقَرَّ رَجُلٌ بِالزِّنَى أَوْ نَحْوِهِ مِمَّا فِيهِ حَقُّ
اللَّهِ، ثُمَّ أَنْكَرَهُ أَوْ رَجَعَ عَنْهُ، فَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ
اتِّجَاهَاتٌ ثَلاَثَةٌ:
الأَْوَّل: وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالْقَوْل
الْمُقَدَّمُ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: لاَ
يَلْزَمُهُ حُكْمُ إِقْرَارِهِ، بَل إِذَا رَجَعَ وَأَنْكَرَ السَّبَبَ
أَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ، أَوْ أَنْكَرَ إِقْرَارَهُ بِهِ، أَوْ أَكْذَب
الشُّهُودَ - أَيْ شُهُودَ الإِْقْرَارِ - سَقَطَ الْحَدُّ، فَلَمْ يَقُمْ
عَلَيْهِ. وَلَوْ كَانَ رُجُوعُهُ أَثْنَاءَ إِقَامَةِ الْحَدِّ سَقَطَ
بَاقِيهِ.
قَال الْمَرْغِينَانِيُّ: لأَِنَّ الرُّجُوعَ خَبَرٌ مُحْتَمِلٌ
لِلصِّدْقِ، كَالإِْقْرَارِ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يُكَذِّبُهُ فِيهِ،
فَتَتَحَقَّقُ الشُّبْهَةُ فِي الإِْقْرَارِ، بِخِلاَفِ مَا فِيهِ حَقُّ
الْعَبْدِ وَهُوَ الْقِصَاصُ وَحَدُّ الْقَذْفِ؛ لِوُجُودِ مَنْ
يُكَذِّبُهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا هُوَ حَقٌّ خَالِصٌ لِلشَّرْعِ (1) .
وَمِثْل حَدِّ الزِّنَى فِي ذَلِكَ حَدُّ السَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْحَدَّ إِذَا ثَبَتَ بِالإِْقْرَارِ لَمْ يَسْقُطْ
بِإِنْكَارِهِ أَوِ الرُّجُوعِ عَنْهُ.
__________
(1) الهداية وفتح القدير 5 / 12، وابن عابدين 3 / 144، والزرقاني على خليل
8 / 81، 107، وشرح المنهاج بحاشية القليوبي 4 / 181، 182، وشرح المنتهى 3 /
340، 348.
(7/59)
وَهَذَا قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ فِي
السَّرِقَةِ خَاصَّةً (1) . الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ
قَالَهُ أَشْهَبُ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّ الرُّجُوعَ لاَ يُقْبَل
إِلاَّ بِأَمْرٍ يُعْذَرُ بِهِ الْمُقِرُّ - لاَ مُطْلَقًا - وَمِثَال مَا
يُعْذَرُ بِهِ الْمُقِرُّ أَنْ يَقُول وَطِئْتُ زَوْجَتِي أَوْ أَمَتِي
وَهِيَ حَائِضٌ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ زِنًى (2) .
ب - الإِْنْكَارُ بَعْدَ الإِْقْرَارِ فِيمَا هُوَ حَقٌّ لِلْعِبَادِ:
23 - قَال ابْنُ قُدَامَةَ: حُقُوقُ الآْدَمِيِّينَ وَحُقُوقُ اللَّهِ
الَّتِي لاَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ لاَ
يُقْبَل رُجُوعُهُ عَنْ إِقْرَارِهِ بِهَا. لاَ نَعْلَمُ فِي هَذَا
خِلاَفًا (3) .
حَتَّى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهَا ثَبَتَ
الْمَال؛ لأَِنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ، وَسَقَطَ الْقَطْعُ؛ لأَِنَّهُ حَقُّ
اللَّهِ. غَيْرَ أَنَّ الشُّبْهَةَ الَّتِي عَرَضَتْ مِنَ احْتِمَال أَنْ
يَكُونَ صَادِقًا فِي رُجُوعِهِ عَنْ إِقْرَارِهِ، دَعَتْ بَعْضَ
الْفُقَهَاءِ أَنْ يَقُولُوا إِنَّ الْقَاضِيَ، إِنْ رَجَعَ الْمُقِرُّ فِي
إِقْرَارٍ، لاَ يَقْضِي عَلَيْهِ إِلاَّ بَعْدَ اسْتِحْلاَفِ خَصْمِهِ
أَنَّ الإِْقْرَارَ لَمْ يَكُنْ بَاطِلاً.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ وَهَبَ وَأَقْبَضَ الْهِبَةَ،
أَوْ أَنَّهُ قَبَضَ الْمَبِيعَ، أَوْ آجَرَ الْمُسْتَأْجِرُ، ثُمَّ
أَنْكَرَ ذَلِكَ وَسَأَل إِحْلاَفَ خَصْمِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يُسْتَحْلَفُ
عَلَى رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ؛
لأَِنَّ دَعْوَاهُ تَكْذِيبٌ لإِِقْرَارِهِ؛ وَلأَِنَّ الإِْقْرَارَ
أَقْوَى مِنَ الْبَيِّنَةِ، وَلَوْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ فَقَال:
حَلِّفُوهُ لِي مَعَ بَيِّنَتِهِ لَمْ يُسْتَحْلَفْ. فَكَذَلِكَ هُنَا.
قَال: وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ يُسْتَحْلَفُ وَهُوَ قَوْل
الشَّافِعِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ؛
__________
(1) حاشية شرح المنهاج 4 / 196، ونهاية المحتاج 7 / 441.
(2) الزرقاني 8 / 81.
(3) المغني لابن قدامة 5 / 151 ط ثالثة.
(7/60)
لأَِنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ
بِالإِْقْرَارِ قَبْل الْقَبْضِ، فَيُحْتَمَل صِحَّةُ مَا قَالَهُ،
فَيَنْبَغِي أَنْ يُسْتَحْلَفَ خَصْمُهُ لِنَفْيِ الاِحْتِمَال (1) .
أَثَرُ جُحُودِ الْعُقُودِ فِي انْفِسَاخِهَا:
24 - إِذَا جَحَدَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ الْبَيْعَ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ
الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ - غَيْرَ النِّكَاحِ - لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى
إِنْكَارِهِ لَهُ انْفِسَاخُ الْعَقْدِ، وَكَانَ لِلآْخَرِ التَّمَسُّكُ
بِالْعَقْدِ، وَلَهُ بَعْدَ الإِْثْبَاتِ الْمُطَالَبَةُ بِتَنْفِيذِهِ.
لَكِنْ إِنْ رَضِيَ هَذَا الآْخَرُ بِالْفَسْخِ قَوْلاً، أَوْ بِتَرْكِهِ
الْخُصُومَةَ مَعَ فِعْلٍ يَدُل عَلَى الرِّضَى بِالْفَسْخِ، كَنَقْلِهِ
الْمَبِيعَ إِلَى مَنْزِلِهِ، يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ. فَلَوْ قَال
الْمَالِكُ: اشْتَرَيْتُ مِنِّي هَذِهِ الدَّابَّةَ، وَأَنْكَرَ الآْخَرُ
الشِّرَاءَ، فَرَضِيَ الْبَائِعُ، انْفَسَخَ الْبَيْعُ، وَكَانَ لَهُ أَنْ
يَرْكَبَ الدَّابَّةَ، وَلَوْ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ ادَّعَى الشِّرَاءَ
بَعْدَ رِضَى الْبَائِعِ بِالْفَسْخِ لاَ يُقْبَل؛ لاِنْفِسَاخِ الْعَقْدِ.
أَمَّا النِّكَاحُ فَلَوْ جَحَدَ الرَّجُل أَنَّهُ تَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ،
ثُمَّ ادَّعَى الزَّوَاجَ وَبَرْهَنَ، يُقْبَل مِنْهُ بُرْهَانُهُ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ النِّكَاحَ لاَ يَحْتَمِل الْفَسْخَ بِسَائِرِ
الأَْسْبَابِ فَكَذَا بِهَذَا السَّبَبِ (2) .
وَيُوَافِقُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
الْحَنَفِيَّةَ عَلَى أَنَّ إِنْكَارَ الزَّوْجِ النِّكَاحَ لاَ يَكُونُ
فَسْخًا، وَلَيْسَ هُوَ أَيْضًا طَلاَقًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ،
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَلَوْ نَوَاهُ؛ لأَِنَّ الْجُحُودَ
هُنَا لِعَقْدِ النِّكَاحِ، لاَ لِكَوْنِهَا امْرَأَتَهُ. بِخِلاَفِ مَا
لَوْ قَال: لَيْسَتْ هِيَ
__________
(1) المغني 5 / 196 - ثالثة، ورد المحتار 4 / 458، وتبصرة الحكام 2 / 30.
(2) الدر المختار 4 / 363، وفتح القدير مع حواشيه 6 / 418.
(7/60)
امْرَأَتِي، فَإِنَّهُ إِنْ نَوَى
الطَّلاَقَ وَقَعَ طَلاَقًا. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لَوْ نَوَى
الطَّلاَقَ بِجَحْدِ النِّكَاحِ يَكُونُ طَلاَقًا، كَأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ
مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلاَقِ (1) .
أَثَرُ إِنْكَارِ الرِّدَّةِ فِي حُصُول التَّوْبَةِ مِنْهَا:
25 - إِذَا ثَبَتَتْ رِدَّةُ إِنْسَانٍ بِالْبَيِّنَةِ، فَأَنْكَرَ أَنْ
يَكُونَ ارْتَدَّ، فَلِلْفُقَهَاءِ فِي اعْتِبَارِ ذَلِكَ الإِْنْكَارِ
مِنْهُ تَوْبَةً قَوْلاَنِ:
الأَْوَّل: وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ مَنْ شَهِدَتْ عَلَيْهِ
الْبَيِّنَةُ بِالرِّدَّةِ، وَهُوَ يُنْكِرُهَا، وَهُوَ مُقِرٌّ
بِالتَّوْحِيدِ وَبِمَعْرِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَبِدِينِ الإِْسْلاَمِ، فَلاَ يَتَعَرَّضُ لَهُ، لاَ
لِتَكْذِيبِ الشُّهُودِ، بَل لأَِنَّ إِنْكَارَهُ تَوْبَةٌ وَرُجُوعٌ،
فَيُمْتَنَعُ الْقَتْل فَقَطْ، وَتَثْبُتُ بَقِيَّةُ أَحْكَامِ الرِّدَّةِ،
كَحُبُوطِ عَمَلٍ وَبُطْلاَنِ وَقْفٍ. . . إِلَخْ (2) .
الثَّانِي: وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: يُحْكَمُ
بِرِدَّتِهِ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَصِيرُ بِهِ الْكَافِرُ
مُسْلِمًا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَل اسْتُتِيبَ، فَإِنْ تَابَ وَإِلاَّ قُتِل
(3) .
وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْمَالِكِيَّةُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا
اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ مِنْ كَلاَمِهِمْ. هَذَا وَقَدْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ
عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ ثُبُوتُ رِدَّتِهِ بِالإِْقْرَارِ. فَإِنَّ
إِنْكَارَهُ يَكُونُ تَوْبَةً، وَلاَ يَتَعَرَّضُ لَهُ، كَمَا فِي سَائِرِ
الْحُدُودِ (4) . وَلَمْ نَجِدْ لِغَيْرِ الْحَنَابِلَةِ نَصًّا فِي
ذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَوْضِعُ اتِّفَاقٍ.
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 375، نقلا عن البدائع، وجواهر الإكليل 1 / 323،
ونهاية المحتاج 8 / 323، وشرح منتهى الإرادات 3 / 484.
(2) الدر المختار 3 / 299.
(3) القليوبي 4 / 176.
(4) شرح المنتهى 3 / 392.
(7/61)
الصُّلْحُ مَعَ الإِْنْكَارِ:
26 - الصُّلْحُ عَقْدٌ يُتَوَصَّل بِهِ إِلَى الإِْصْلاَحِ بَيْنَ
الْمُتَخَاصِمَيْنِ. وَالصُّلْحُ فِي الأَْمْوَال نَوْعَانِ: صُلْحٌ مَعَ
الإِْنْكَارِ، وَصُلْحٌ مَعَ الإِْقْرَارِ. وَالصُّلْحُ مَعَ الإِْنْكَارِ
عِنْدَمَا يَكُونُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَرَى أَنَّهُ لاَ حَقَّ عَلَيْهِ،
فَيَدْفَعُ إِلَى الْمُدَّعِي شَيْئًا افْتِدَاءً لِيَمِينِهِ وَقَطْعًا
لِلْخُصُومَةِ، وَصِيَانَةً لِنَفْسِهِ عَنِ التَّبَذُّل بِالْمُخَاصَمَةِ
فِي مَجَالِسِ الْقَضَاءِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ مِثْل هَذَا الصُّلْحِ،
فَأَجَازَهُ الْجُمْهُورُ، مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ،
وَمَنَعَهُ الشَّافِعِيُّ.
وَأَمَّا مَتَى كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُقِرًّا بِالْحَقِّ فَصَالَحَ
عَنْهُ بِبَعْضِهِ، فَهُوَ الْمُسَمَّى بِالصُّلْحِ مَعَ الإِْقْرَارِ (1)
.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل الْقَوْل فِي نَوْعَيِ الصُّلْحِ تَحْتَ عُنْوَانِ
(صُلْحٌ) .
إِنْكَارُ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ:
27 - لاَ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُنْكِرَ شَيْئًا مِنْ دِينِ
الإِْسْلاَمِ.
وَلَكِنْ مَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ لاَ يُحْكَمُ
بِكُفْرِهِ، إِلاَّ إِنْ كَانَ مَا أَنْكَرَهُ أَمْرًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ
قَدْ عُلِمَ قَطْعًا مَجِيءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِهِ. كَوُجُوبِ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ
الْمُنْكِرُ جَاهِلاً بِالْحُكْمِ وَلاَ مُكْرَهًا، وَهَذَا قَوْل
جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.
وَاشْتَرَطَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضُ
الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الْمَجْحُودُ قَدْ عَلِمَ مَجِيءَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ بِالضَّرُورَةِ، أَيْ عِلْمًا
ضَرُورِيًّا لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى
__________
(1) المغني 4 / 476.
(7/61)
نَظَرٍ وَاسْتِدْلاَلٍ. أَوْ كَمَا عَبَّرَ
الْبَعْضُ: يَعْرِفُهُ كُل الْمُسْلِمِينَ.
قَال ابْنُ الْهُمَامِ فِي مُسَايَرَةٍ: وَأَمَّا مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ،
وَلَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الضَّرُورَةِ، كَاسْتِحْقَاقِ بِنْتِ الاِبْنِ
السُّدُسَ مَعَ الْبِنْتِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، فَظَاهِرُ كَلاَمِ
جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ الإِْكْفَارُ بِجَحْدِهِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ
يَشْرِطُوا سِوَى الْقَطْعِ فِي الثُّبُوتِ. وَأَمَّا عِنْدَ مَنْ شَرَطَ
كَوْنَهُ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ فَلاَ يَكْفُرُ عِنْدَهُ مَنْ جَحَدَ
مِثْل هَذَا الْحُكْمِ.
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمَسَائِل
الإِْجْمَاعِيَّةَ تَارَةً يَصْحَبُهَا التَّوَاتُرُ عَنْ صَاحِبِ
الشَّرْعِ، وَتَارَةً لاَ يَصْحَبُهَا. فَالأَْوَّل يَكْفُرُ جَاحِدُهُ
لِمُخَالَفَتِهِ التَّوَاتُرَ لاَ لِمُخَالَفَتِهِ الإِْجْمَاعَ. وَنَقَل
ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ مِثْل ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَقَرِيبٌ مِنْ قَوْل مَنِ اشْتَرَطَ فِي الْمَجْحُودِ أَنْ يَكُونَ
مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ قَوْل الْحَنَابِلَةِ،
فَإِنَّهُمُ اشْتَرَطُوا لِمَا يَكْفُرُ بِإِنْكَارِهِ أَنْ يَكُونَ
ظَاهِرًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لاَ شُبْهَةَ فِيهِ، وَعِبَارَةُ شَرْحِ
الْمُنْتَهَى: مَنْ جَحَدَ حُكْمًا ظَاهِرًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ -
بِخِلاَفِ (نَحْوِ) فَرْضِ السُّدُسِ لِبِنْتِ الاِبْنِ مَعَ بِنْتِ
الصُّلْبِ، وَكَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ إِجْمَاعًا
قَطْعِيًّا لاَ سُكُوتِيًّا؛ لأَِنَّ فِيهِ - أَيِ الإِْجْمَاعِ
السُّكُوتِيِّ - شُبْهَةً، كَجَحْدِ تَحْرِيمِ الزِّنَى، أَوْ جَحْدِ
تَحْرِيمِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ، أَوْ مُذَكَّاةِ بَهِيمَةِ الأَْنْعَامِ
وَالدَّجَاجِ، وَمِثْلُهُ لاَ يَجْهَلُهُ لِكَوْنِهِ نَشَأَ بَيْنَ
الْمُسْلِمِينَ، أَوْ كَانَ مِثْلُهُ يَجْهَلُهُ وَعَرَفَ حُكْمَهُ،
وَأَصَرَّ عَلَى الْجَحْدِ، كَفَرَ (1) .
__________
(1) ابن عابدين 3 / 284، والإعلام بقواطع الإسلام لابن حجر الهيتمي، مطبوع
مع الزواجر له 2 / 352 - 354، وشرح المنهاج مع حاشية القليوبي وعميرة 4 /
175، وشرح منتهى الإرادات 3 / 386.
(7/62)
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ تَحْتَ عُنْوَانِ (رِدَّةٌ) .
ثَانِيًا الإِْنْكَارُ فِي الْمُنْكَرَاتِ
28 - إِنْكَارُ الْمُنْكَرِ هُوَ النَّهْيُ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ
بِالْيَدِ أَوِ بِاللِّسَانِ، أَوْ بِالْقَلْبِ. فَمَنْ رَأَى حُدُودَ
اللَّهِ تُنْتَهَكُ شُرِعَ لَهُ التَّغْيِيرُ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى:
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1) وَقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ
مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ
فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ
الإِْيمَانِ (2) .
وَتَفْصِيل الْقَوْل فِي هَذَا الأَْمْرِ، وَبَيَانِ آدَابِ النَّهْيِ عَنِ
الْمُنْكَرِ يُنْظَرُ تَحْتَ عُنْوَانِ. (الأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ) .
هَذَا، وَإِنَّ تَرْكَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الإِْنْكَارَ عَلَى مَا يَرَاهُ مِنَ الأَْفْعَال، أَوْ مَا يَسْمَعُهُ
مِنَ الأَْقْوَال، يَدُل عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ الْفِعْل أَوِ الْقَوْل،
وَأَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِهِ شَرْعًا. وَهَذَا التَّرْكُ هُوَ أَحَدُ أُصُول
الأَْدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ السُّنَّةِ
النَّبَوِيَّةِ، وَيُسَمِّيهِ الأُْصُولِيُّونَ (الإِْقْرَارَ) أَوِ
(التَّقْرِيرَ) وَيُنْظَرُ تَفْصِيل مَبَاحِثِهِ تَحْتَ عُنْوَانِ
(تَقْرِيرٌ) وَفِي بَابِ (السُّنَّةِ) مِنَ الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) سورة آل عمران / 104.
(2) حديث: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده. . . . . " أخرجه مسلم (1 / 69
- ط الحلبي) .
(7/62)
|