الموسوعة
الفقهية الكويتية بِئْرٌ
انْظُرْ: آبَار
بِئْرُ بُضَاعَةَ
انْظُرْ: آبَار
(8/5)
بَاءَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبَاءَةُ لُغَةً: النِّكَاحُ (1) ، كُنِّيَ بِهِ عَنِ الْجِمَاعِ.
إِمَّا لأَِنَّهُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي الْمَنْزِل غَالِبًا، أَوْ
لأَِنَّ الرَّجُل يَتَبَوَّأُ مِنْ أَهْلِهِ - أَيْ يَسْتَمْكِنُ مِنْهَا -
كَمَا يَتَبَوَّأُ مِنْ دَارِهِ (2) .
وَفِي الْحَدِيثِ: يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ
الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ
لِلْفَرْجِ. (3) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ
لَهُ وِجَاءٌ.
وَقَال شَارِحُ الْمِنْهَاجِ: الْبَاءَةُ: مُؤَنُ النِّكَاحِ. (4)
__________
(1) لسان العرب المحيط مادة: " بوأ ".
(2) المصباح المنير مادة: " باء ".
(3) حديث: " يا معشر الشباب. . . . . " أخرجه البخاري (الفتح 9 / / 113 - ط
السلفية) . ومسلم (2 / / 1018 - ط الحلبي) .
(4) المحليي على المنهاج بحاشيتي قليوبي وعميرة 3 / / 206 ط مصطفى الحلبي.
(8/5)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - أ - الْبَاهُ: هُوَ الْوَطْءُ.
ب - أُهْبَةُ النِّكَاحِ: الْقُدْرَةُ عَلَى مُؤَنِهِ مِنْ مَهْرٍ
وَغَيْرِهِ، فَهِيَ بِمَعْنَى الْبَاءَةِ عَلَى قَوْل مَنْ فَسَّرَ
الْحَدِيثَ بِذَلِكَ. (1)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - الْبَاءَةُ بِمَعْنَى الْوَطْءِ تُنْظَرُ أَحْكَامُهَا فِي
مَوْضُوعِهَا (ر: وَطْء) .
أَمَّا بِمَعْنَى مُؤَنِ النِّكَاحِ فَإِنَّ مَنْ وَجَدَهَا، وَكَانَتْ
نَفْسُهُ تَتُوقُ إِلَى الْوَطْءِ، وَلاَ يَخْشَى الْوُقُوعَ فِي
الْمُحَرَّمِ، اسْتُحِبَّ لَهُ النِّكَاحُ. (2) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ
الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ. . . الْحَدِيثَ.
فَإِنْ كَانَ يَتَحَقَّقُ الْوُقُوعُ فِي الْمَحْظُورِ، فَيُفْتَرَضُ
عَلَيْهِ النِّكَاحُ؛ لأَِنَّهُ يَلْزَمُهُ إِعْفَافُ نَفْسِهِ،
وَصَوْنُهَا عَنِ الْحَرَامِ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَلأَِنَّ مَا لاَ
يُتَوَصَّل إِلَى تَرْكِ الْحَرَامِ إِلاَّ بِهِ يَكُونُ فَرْضًا (3) .
أَمَّا إِنْ وَجَدَ الأُْهْبَةَ، وَكَانَ بِهِ مَرَضٌ كَهَرَمٍ وَنَحْوِهِ،
فَإِنَّ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ كَرِهَ لَهُ النِّكَاحَ، (4)
__________
(1) المحليي على المنهاج بحاشيتي قليوبي وعميرة 3 / / 206. والحطاب 3 / /
403.
(2) المراجع السابقة، والمغني 6 / / 446.
(3) المغني 6 / / 446، وابن عابدين 2 / / 260، وشرح المنهاج بحاشية
القليوبي 3 / / 206.
(4) المحلي على المنهاج 3 / / 207.
(8/6)
وَمِنْهُمْ مَنْ قَال بِحُرْمَتِهِ
لإِِضْرَارِهِ بِالْمَرْأَةِ. (1)
وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ النِّكَاحِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ
وَجَدَ الْبَاءَةَ، وَلَمْ تَتُقْ نَفْسُهُ لِلْوَطْءِ، مِنْهُمْ مَنْ
يَرَى أَنَّ النِّكَاحَ أَفْضَل. (2) وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ
التَّخَلِّيَ لِلْعِبَادَةِ أَفْضَل، (3)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ كُلِّهِ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي أَوَّل كِتَابِ
النِّكَاحِ
.
بَادِي
انْظُرْ: بَدْو
__________
(1) المواق هامش الحطاب 3 / / 403.
(2) المغني 6 / 448.
(3) المرجع السابق، والمحليي على المنهاج 3 / / 206.
(8/6)
بَازِلَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْبَزْل فِي اللُّغَةِ: الشَّقُّ. يُقَال: بَزَل
الرَّجُل الشَّيْءَ يَبْزُلُهُ بَزْلاً: شَقَّهُ. وَالْبَازِلَةُ مِنَ
الشِّجَاجِ: هِيَ الَّتِي تَبْزُل الْجِلْدَ، أَيْ تَشُقُّهُ، يُقَال
انْبَزَل الطَّلْعُ: أَيْ تَشَقَّقَ. (1)
أَمَّا فِي اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ: فَهِيَ الَّتِي تَشُقُّ الْجِلْدَ
وَيَرْشَحُ مِنْهَا الدَّمُ. وَسَمَّاهَا بَعْضُهُمْ - وَمِنْهُمُ
الْحَنَفِيَّةُ - الدَّامِعَةَ؛ لِقِلَّةِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنَ
الدَّمِ، تَشْبِيهًا بِدَمْعِ الْعَيْنِ، وَسُمِّيَتْ أَيْضًا:
الدَّامِيَةَ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ فِي الْبَازِلَةِ حُكُومَةَ
عَدْلٍ فِي الْعَمْدِ وَغَيْرِهِ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: فِيهَا
الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ.
وَلَمَّا كَانَتِ الْبَازِلَةُ مِنْ أَنْوَاعِ الْجِرَاحِ فِي
الْجِنَايَاتِ تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ عَنْهَا فِي الْقِصَاصِ
وَالدِّيَاتِ.
__________
(1) لسان العرب مادة: " بزل ".
(8/7)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي أَبْوَابِ
الْجِنَايَاتِ، وَالدِّيَاتِ. (1)
بَاسُورٌ
انْظُرْ: أَعْذَار
__________
(1) الاختيار 5 / / 41، وحاشية الدسوقي 4 / / 251، وجواهر الإكليل 2 / /
259، وشرح روض الطالب 4 / / 22، وقليوبي 4 / 113، والمغني 8 / / 54 ط
السعودية.
(8/7)
بَاضِعَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْبَضْعِ فِي اللُّغَةِ: الشَّقُّ. يُقَال: بَضَعَ
الرَّجُل الشَّيْءَ يَبْضَعُهُ: إِذَا شَقَّهُ. وَمِنْهُ الْبَاضِعَةُ:
وَهِيَ الشَّجَّةُ الَّتِي تَشُقُّ اللَّحْمَ بَعْدَ الْجِلْدِ، وَلاَ
تَبْلُغُ الْعَظْمَ، وَلاَ يَسِيل بِهَا الدَّمُ. (1)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - الْبَاضِعَةُ مِنْ أَنْوَاعِ الْجِرَاحِ فِي الرَّأْسِ، وَقَدْ
تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ عَنْ حُكْمِهَا فِي الْجِنَايَاتِ وَالدِّيَاتِ،
وَتَفْصِيلِهَا فِيهِمَا. فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ
فِيهَا حُكُومَةَ عَدْلٍ فِي الْعَمْدِ وَغَيْرِهِ، وَهِيَ مَا يُقَدِّرُهُ
أَهْل الْخِبْرَةِ تَعْوِيضًا عَنِ الْجِنَايَةِ، بِمَا لاَ يَزِيدُ عَنْ
دِيَةِ أَصْل الْعُضْوِ الْمُصَابِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: فِيهَا الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ. (2)
__________
(1) لسان العرب في مادة " بضع ".
(2) الاختيار 5 / / 41 ط دار المعرفة، وحاشية الدسوقي 4 / / 251، وجواهر
الإكليل 2 / / 259 ط الباز، وشرح الروض 4 / / 22 ط المكتب الإسلامي،
والقليوبي 4 / / 113، والمغني 8 / / 54 ط الرياض.
(8/8)
بَاطِلٌ
انْظُرْ: بُطْلاَن
بَاغِي
انْظُرْ: بُغَاة
(8/8)
بَتَاتٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبَتَاتُ فِي اللُّغَةِ: الْقَطْعُ الْمُسْتَأْصِل. يُقَال: بَتَتُّ
الْحَبْل: أَيْ قَطَعْتُهُ قَطْعًا مُسْتَأْصِلاً. وَيُقَال: طَلَّقَهَا
ثَلاَثًا بَتَّةً وَبَتَاتًا: أَيْ بَتْلَةً بَائِنَةً، يَعْنِي قَطْعًا
لاَ عَوْدَ فِيهَا. وَيُقَال: الطَّلْقَةُ الْوَاحِدَةُ تَبُتُّ وَتَبِتُّ:
أَيْ تَقْطَعُ عِصْمَةَ النِّكَاحِ إِذَا انْقَضَتِ الْعِدَّةُ، كَمَا
يُقَال: حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ يَمِينًا بَتًّا وَبَتَّةً وَبَتَاتًا: أَيْ
يَمِينًا قَدْ أَمْضَاهَا.
وَمِثْل الْبَتَاتِ: الْبَتُّ، وَهُوَ مَصْدَرُ بَتَّ: إِذَا قَطَعَ.
يُقَال: بَتَّ الرَّجُل طَلاَقَ امْرَأَتِهِ، وَبَتَّ امْرَأَتَهُ: إِذَا
قَطَعَهَا عَنِ الرَّجْعَةِ. وَأَبَتَّ طَلاَقَهَا كَذَلِكَ.
وَيُسْتَعْمَل الْفِعْلاَنِ: بَتَّ وَأَبَتَّ لاَزِمَيْنِ كَذَلِكَ،
فَيُقَال: بَتَّ طَلاَقَهَا، وَأَبَتَّ، وَطَلاَقٌ بَاتٌّ وَمُبَتٌّ، كَمَا
يُسْتَعْمَل الْبَتُّ بِمَعْنَى الإِْلْزَامِ فَيُقَال: بَتَّ الْقَاضِي
الْحُكْمَ عَلَيْهِ: إِذَا قَطَعَهُ، أَيْ أَلْزَمَهُ، وَبَتَّ النِّيَّةَ:
جَزَمَهَا. (1)
__________
(1) تاج العروس، والمرجع للعلايلي " البتات
"، وتهذيب الأسماء واللغات، والأساس، والزاهر ص 324، والمصباح المنير مادة
" بتت ".
(8/9)
وَلاَ تَخْتَلِفُ مَعَانِي هَذِهِ
الأَْلْفَاظِ فِي الْفِقْهِ عَنْهَا فِي اللُّغَةِ، إِلاَّ أَنَّ
الشَّافِعِيَّةَ يُوقِعُونَ الطَّلاَقَ بِلَفْظِ " أَلْبَتَّةَ "
رَجْعِيًّا إِنْ كَانَتِ الْمُطَلَّقَةُ مَدْخُولاً بِهَا، وَنَوَى بِهَا
أَقَل مِنَ الثَّلاَثِ (1) .
كَمَا أَنَّهُمْ يُعَبِّرُونَ عَنْ خُلُوِّ الْعَقْدِ عَنِ الْخِيَارِ
بِالْبَتِّ فَيُقَال: الْبَيْعُ عَلَى الْبَتِّ. (2)
وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ كَمَا لاَ يَخْفَى.
وَكَذَا يُعَبِّرُونَ عَنِ الْمُعْتَدَّةِ الَّتِي طُلِّقَتْ ثَلاَثًا،
أَوْ فُرِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا بِخِيَارِ الْجَبِّ
وَالْعُنَّةِ وَنَحْوِهِمَا بِمُعْتَدَّةِ الْبَتِّ، وَهِيَ خِلاَفُ
الرَّجْعِيَّةِ (3) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُقُوعِ الطَّلاَقِ
ثَلاَثًا، فِيمَنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ بِقَوْلِهِ: هِيَ بَتَّةٌ؛ لأَِنَّهُ
طَلَّقَ امْرَأَتَهُ بِلَفْظٍ يَقْتَضِي الْبَيْنُونَةَ. وَالْبَتُّ: هُوَ
الْقَطْعُ، فَكَأَنَّهُ قَطَعَ النِّكَاحَ لَهُ، وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ
بِعَمَل الصَّحَابَةِ. (4)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَقَعُ وَاحِدَةً بَائِنَةً؛ لأَِنَّهُ وَصْفُ
الطَّلاَقِ بِمَا يَحْتَمِل الْبَيْنُونَةَ. (5) وَقَال الشَّافِعِيُّ:
__________
(1) ابن عابدين 2 / / 449، وجواهر الإكليل 1 / / 345، والشرواني 8 / / 47،
48، ومختصر المزني مع الأم 4 / / 74 ط. الأولى، والأم 4 / / 162 ط الأولى،
والقليوبي 3 / / 325، والمغني 7 / / 128، 9 / 230 ط 3.
(2) الدسوقي 3 / / 16 ط الحلبي.
(3) البحر الرائق 4 / / 163، وابن عابدين 2 / / 617.
(4) جواهر الإكليل 1 / / 345، والمغني 7 / / 128 ط الرياض.
(5) ابن عابدين 2 / / 449.
(8/9)
يُرْجَعُ إِلَى مَا نَوَاهُ. وَهِيَ
رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ اخْتَارَهَا أَبُو الْخَطَّابِ مِنْهُمْ.
(1) وَتَمَامُ الْكَلاَمِ عَلَى ذَلِكَ مَحَلُّهُ كِتَابُ الطَّلاَقِ.
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ لِلْبَتَاتِ - وَمِثْلُهُ بَقِيَّةُ
الْمَصَادِرِ وَالْمُشْتَقَّاتِ - فِي كِتَابِ الطَّلاَقِ، فِي الْكَلاَمِ
عَلَى أَلْفَاظِ الطَّلاَقِ كَمَا سَبَقَ.
كَمَا تَعَرَّضُوا فِي كِتَابِ الْعِدَّةِ لِمُعْتَدَّةِ الْبَتِّ، وَهَل
عَلَيْهَا الإِْحْدَادُ؟ . (2)
وَفِي الظِّهَارِ يَذْكُرُونَ أَنَّ الْبَتَاتَ يَلْزَمُ الزَّوْجَةَ إِنْ
ظَاهَرَ مِنْهَا زَوْجُهَا بِلَفْظٍ كِنَائِيٍّ، وَنَوَى بِهِ الطَّلاَقَ،
عَلَى تَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ. (3)
وَفِي الأَْيْمَانِ ذَكَرُوا مَعْنَى الْحَلِفِ عَلَى الْبَتِّ،
وَمُقَابِلُهُ الْحَلِفُ عَلَى الْعِلْمِ، أَوْ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ،
وَمَتَى يَحْلِفُ الْحَالِفُ عَلَى الْبَتِّ. (4)
وَفِي الشَّهَادَةِ ذَكَرُوا بَيِّنَةَ الْبَتِّ، وَمُقَابِلُهَا بَيِّنَةُ
السَّمَاعِ، وَمَتَى تُقَدَّمُ الأُْولَى عَلَى الثَّانِيَةِ. (5)
وَفِي الْبَيْعِ تَعَرَّضُوا لِذِكْرِ الْبَيْعِ عَلَى الْبَتِّ،
بِاعْتِبَارِهِ مُقَابِلاً لِلْخِيَارِ فِيهِ. (6)
__________
(1) الشرواني 8 / / 47، 48، ط الميمنية، ومختصر المزني 4 / / 74 ط الأولى،
والأم 4 / / 162 فما بعدها، والمغني 7 / 128.
(2) البحر الرائق 4 / / 163، وابن عابدين 2 / / 617.
(3) الشرح الصغير 2 / / 639 ط دار المعارف.
(4) المغني 9 / / 230 ط الثانية، 12 / / 118 ط الأولى، وانظر القليوبي 3 /
/ 292.
(5) الشرح الصغير 4 / / 278 ط دار المعارف.
(6) الدسوقي 3 / / 16.
(8/10)
بَتْرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبَتْرُ لُغَةً: اسْتِئْصَال الشَّيْءِ بِالْقَطْعِ، يُقَال: بَتَرَ
الذَّنَبَ أَوِ الْعُضْوَ: إِذَا قَطَعَهُ وَاسْتَأْصَلَهُ، كَمَا يُطْلَقُ
عَلَى قَطْعِ الشَّيْءِ دُونَ تَمَامٍ، بِأَنْ يَبْقَى مِنَ الْعُضْوِ
شَيْءٌ.
وَقَدِ اسْتُعْمِل اصْطِلاَحًا بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ عِنْدَ
الْفُقَهَاءِ. وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى كُل قَطْعٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ:
سَيْفٌ بَتَّارٌ أَيْ قَاطِعٌ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - الْبَتْرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عُدْوَانًا بِجِنَايَةٍ، عَمْدًا أَوْ
خَطَأً، وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَقٍّ، كَقَطْعِ
الْيَدِ حَدًّا أَوْ قِصَاصًا. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ وَسَائِل
الْعِلاَجِ بِقَطْعِ الْيَدِ الْمُصَابَةِ بِالأَْكِلَةِ لِمَنْعِ
السِّرَايَةِ لِلْبَدَنِ.
تَطْهِيرُ مَوْضِعِ الْبَتْرِ:
3 - مَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ مِنْ دُونِ الْمِرْفَقِ غَسَل مَا بَقِيَ مِنْ
مَحَل الْفَرْضِ، وَإِنْ قُطِعَتْ مِنَ الْمِرْفَقِ غَسَل الْعَظْمَ
الَّذِي هُوَ طَرَفُ الْعَضُدِ؛ لأَِنَّ غَسْل
(8/10)
الْعَظْمَيْنِ الْمُتَلاَقِيَيْنِ مِنَ
الذِّرَاعِ وَالْعَضُدِ وَاجِبٌ، فَإِذَا زَال أَحَدُهُمَا غُسِل الآْخَرُ.
وَإِنْ كَانَ مِنْ فَوْقِ الْمِرْفَقَيْنِ سَقَطَ الْغَسْل لِعَدَمِ
مَحَلِّهِ. (1) وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ (الْوُضُوءُ، وَالْغُسْل) .
بَتْرُ الأَْعْضَاءِ لِضَرُورَةٍ:
4 - يَجُوزُ بَتْرُ عُضْوٍ فَاسِدٍ مِنْ أَعْضَاءِ الإِْنْسَانِ، خَوْفًا
عَلَى سَلاَمَةِ الْجِسْمِ مِنِ انْتِشَارِ الْعِلَّةِ فِي الْجَمِيعِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (طِبّ، وَتَدَاوٍ) .
بَتْرُ الأَْعْضَاءِ فِي الْجِنَايَاتِ:
5 - بَتْرُ أَعْضَاءِ الْغَيْرِ عَمْدًا عُدْوَانًا يَجِبُ فِيهِ
الْقِصَاصُ، بِشُرُوطِهِ الْمُبَيَّنَةِ فِي مَبَاحِثِ الْقِصَاصِ فِيمَا
دُونَ النَّفْسِ، وَقَدْ يُعْدَل عَنِ الْقِصَاصِ لأَِسْبَابٍ مُعَيَّنَةٍ
تُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهَا. (ر: قِصَاص - جِنَايَات) .
أَمَّا بَتْرُ الْعُضْوِ خَطَأً فَتَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ الْمُقَدَّرَةُ
لِذَلِكَ الْعُضْوِ شَرْعًا أَوِ الأَْرْشُ بِالاِتِّفَاقِ. وَيَخْتَلِفُ
مِقْدَارُهَا بِاخْتِلاَفِ الْعُضْوِ الْمَبْتُورِ. (2) (ر: دِيَات) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / / 55، والخرشي 1 / / 123 ط بولاق - صادر، وقليوبي 1 / /
49، والمغني 1 / / 123.
(2) ابن عابدين 5 / / 353، والقليوبي 4 / / 145، والمغني 10 / 758،
والدسوقي 4 / / 254 ط دار الفكر.
(8/11)
أَعْضَاءُ الْحَيَوَانِ الْمَبْتُورَةُ:
6 - مَا بُتِرَ مِنْ أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ الْمَأْكُول
اللَّحْمِ حُكْمُهُ حُكْمُ مَيْتَتِهِ، فِي حِل أَكْلِهِ وَفِي نَجَاسَتِهِ
أَوْ طَهَارَتِهِ. فَلَوْ قُطِعَ طَرَفُ شَاةٍ أَوْ فَخِذُهَا لَمْ يَحِل،
وَلَوْ ضَرَبَ سَمَكَةً فَقَطَعَ جُزْءًا مِنْهَا حَل أَكْلُهُ؛ لأَِنَّ
مَيْتَتَهَا حَلاَلٌ، وَذَلِكَ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ - وَهِيَ حَيَّةٌ - فَهُوَ
كَمَيِّتٍ. (1)
وَهَذَا عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ. (ر: صَيْد:
ذَبَائِح)
وَمَا بُتِرَ مِنْ أَعْضَاءِ الإِْنْسَانِ حُكْمُهُ حُكْمُ الإِْنْسَانِ
الْمَيِّتِ فِي الْجُمْلَةِ، فِي وُجُوبِ تَغْسِيلِهِ وَتَكْفِينِهِ (2)
وَدَفْنِهِ وَفِي النَّظَرِ إِلَيْهِ (ر: جَنَائِز) .
__________
(1) حديث: " ما قطع من البهيمة. . . . " أخرجه أحمد (5 / / 218 - ط
الميمنية) والحاكم (4 / / 239 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه
الذهبي.
(2) ابن عابدين 1 / / 138 و 580، والدسوقي 1 / / 54، وقليوبي 1 / / 328، 4
/ / 242، والمغني 1 / / 73، 74، و 8 / / 556، 557، والنووي 1 / / 231، 232،
شرح الروضة 1 / / 10 / / 11.
(8/11)
بَتْرَاءُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبَتْرُ لُغَةً: الْقَطْعُ، وَالْبَتْرَاءُ مِنَ الشِّيَاهِ:
مَقْطُوعَةُ الذَّنَبِ عَلَى غَيْرِ تَمَامٍ، يُقَال لِلأُْنْثَى:
بَتْرَاءُ، وَلِلذَّكَرِ: أَبْتَرُ. وَاصْطِلاَحًا: لاَ يَخْتَلِفُ
مَعْنَاهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. (1)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - اسْتَعْمَل الْعُلَمَاءُ لَفْظَةَ " بَتْرَاءَ " فِي الشَّاةِ
الْمَقْطُوعَةِ الأَْلْيَةِ، حَيْثُ تَكَلَّمُوا عَنْهَا فِي الْهَدْيِ
وَالأُْضْحِيَّةِ. فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ الْبَتْرُ مِنَ الْعُيُوبِ الَّتِي تَمْنَعُ
الإِْجْزَاءَ فِي الأُْضْحِيَّةِ وَالْهَدْيِ. وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ
فَلَمْ يَعُدُّوا ذَلِكَ عَيْبًا يَمْنَعُ الإِْجْزَاءَ (2) (ر:
أُضْحِيَّة، هَدْي)
__________
(1) المصباح ولسان العرب مادة " بتر ".
(2) ابن عابدين 2 / / 251، 5 / / 206، وبداية المجتهد 1 / / 35، والحطاب 3
/ / 241، والقليوبي وعميرة 4 / / 251، والمغني 3 / 552، 8 / 625.
(8/12)
بِتْعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبِتْعُ: نَبِيذٌ يُتَّخَذُ مِنَ الْعَسَل فِي الْيَمَنِ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ كُل مُسْكِرٍ هُوَ
خَمْرٌ، يَحْرُمُ شُرْبُهُ، وَيَحْرُمُ بَيْعُهُ، وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ
بِعُمُومِ الْحَدِيثِ: كُل شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ (2)
وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ
فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ (3)
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَالْبِتْعُ عِنْدَهُمْ حَرَامٌ؛ لأَِنَّهُ مِمَّا
يُسْكِرُ كَثِيرُهُ. (4)
__________
(1) لسان العرب، والمغرب، وعمدة القاري 22 / / 69 وما بعدها طبع المنيرية.
(2) حديث: " كل شراب أسكر فهو حرام " أخرجه البخاري (الفتح 10 / / 41 ط
السلفية) ومسلم (3 / 1585 ط الحلبي) .
(3) حديث: " ما أسكر كثيره فقليله حرام ". أخرجه الترمذي (4 / / 292 ط
الحلبي) وقال ابن حجر في التلخيص (3 / 73 ط شركة الطباعة الفنية) : رجاله
ثقات.
(4) فتح الباري 10 / / 34، وشرح معاني الآثار للطحاوي 2 / 326 طبع الهند.
(8/12)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ
الْخَمْرَ هِيَ: النِّيءُ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إِذَا غَلاَ وَاشْتَدَّ
وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ، وَأَنَّهَا هِيَ الْمُحَرَّمَةُ لِعَيْنِهَا،
لِقَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حُرِّمَتِ
الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا (1) دُونَ غَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ الأَْشْرِبَةِ.
قَالُوا: لاَ يَحْرُمُ شُرْبُ الْبِتْعِ مَا دَامَ شَارِبُهُ لاَ يَسْكَرُ
مِنْهُ، فَإِذَا وَصَل إِلَى حَدِّ الإِْسْكَارِ حَرُمَ، وَلِذَلِكَ
فَإِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِل
عَنِ الْبِتْعِ قَال: كُل شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ يَعْنِي شُرِبَ
مِنْهُ حَتَّى السُّكْرِ، وَلَكِنَّهُمْ كَرِهُوا شُرْبَهُ لِدُخُولِهِ فِي
جُمْلَةِ مَا يُكْرَهُ مِنَ الأَْشْرِبَةِ؛ وَلِذَلِكَ قَال عَنْهُ أَبُو
حَنِيفَةَ: الْبِتْعُ خَمْرٌ يَمَانِيَّةٌ (2) . يَقْصِدُ أَنَّ أَهْل
الْيَمَنِ يَشْرَبُونَ مِنْهُ حَتَّى السُّكْرِ، وَمَا حَل شُرْبُهُ حَل
بَيْعُهُ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ
الأَْشْرِبَةِ.
__________
(1) حديث: " حرمت الحمر لعينها. . . "، أخرجه العقيلي مرفوعا في الضعفاء،
كما في نصب الراية 4 / / 306 ط المجلس العلمي، وأعله بمحمد بن الفرات. وصوب
الدارقطني كونه موقوفا على ابن عباس. (سنن الدارقطني 4 / / 256 ط دار
المحاسن) .
(2) عمدة القاري 21 / 170.
(8/13)
بَتْلَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - بَتَل فِي اللُّغَةِ: بِمَعْنَى قَطَعَ، وَالْمُتَبَتِّل:
الْمُنْقَطِعُ لِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْبَتْلَةُ:
الْمُنْقَطِعَةُ. وَلَمَّا كَانَ الطَّلاَقُ قَطْعًا لِحَبْل الزَّوَاجِ،
حَيْثُ تُصْبِحُ الْمَرْأَةُ بِهِ مُنْقَطِعَةً عَنْ زَوْجِهَا، فَإِنَّهُ
قَدْ يُكْنَى بِهِ عَنِ الطَّلاَقِ، فَيُقَال: أَنْتِ بَتْلَةٌ أَيْ
طَالِقٌ. (1) وَلِذَلِكَ اعْتَبَرَ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ " بَتْلَةٍ " مِنْ
كِنَايَاتِ الطَّلاَقِ الظَّاهِرَةِ، وَلَمْ يَكُنْ صَرِيحًا؛ لأَِنَّهُ
قَدْ يُقْصَدُ بِهِ الاِنْقِطَاعُ فِي غَيْرِ النِّكَاحِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لَفْظَ " بَتْلَةٍ " مِنْ
كِنَايَاتِ الطَّلاَقِ، وَأَنَّهُ لاَ يَقَعُ بِهَا الطَّلاَقُ إِلاَّ
بِالنِّيَّةِ - كَمَا هِيَ الْقَاعِدَةُ فِي الْكِنَايَاتِ - وَأَنَّهُ
إِنْ نَوَى بِهَا وَاحِدَةً وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ نَوَى بِهَا
ثَلاَثًا
__________
(1) لمصباح المنير، ولسان العرب، وأساس البلاغة مادة: " بتل " والخرشي 4 /
44.
(8/13)
وَقَعَ ثَلاَثٌ، وَإِنْ أَطْلَقَ فَلَمْ
يَنْوِ عَدَدًا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَال: يَقَعُ وَاحِدَةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ
قَال: يَقَعُ ثَلاَثٌ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (طَلاَق) . (1)
بَحَحٌ
انْظُرْ: كَلاَم
__________
(1) الاختيار 1 / / 133، وأسنى المطالب 3 / / 286، وكشاف القناع 5 / / 251،
والخرشي 4 / / 44.
(8/14)
بَحْرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبَحْرُ: الْمَاءُ الْكَثِيرُ، مِلْحًا كَانَ أَوْ عَذْبًا، وَهُوَ
خِلاَفُ الْبَرِّ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْبَحْرُ بَحْرًا لِسَعَتِهِ
وَانْبِسَاطِهِ، وَقَدْ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَاءِ الْمِلْحِ
حَتَّى قَل فِي الْعَذْبِ. (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - النَّهْرُ:
2 - النَّهْرُ: الْمَاءُ الْجَارِي، يُقَال: نَهَرَ الْمَاءُ إِذَا جَرَى
فِي الأَْرْضِ، وَكُل كَثِيرٍ جَرَى فَقَدْ نَهَرَ، وَاسْتَنْهَرَ (2)
وَلاَ يُسْتَعْمَل النَّهْرُ غَالِبًا إِلاَّ فِي الْمَاءِ الْعَذْبِ،
خِلاَفًا لِلْبَحْرِ.
ب - الْعَيْنُ:
3 - الْعَيْنُ: يَنْبُوعُ الْمَاءِ الَّذِي يَنْبُعُ مِنَ الأَْرْضِ
وَيَجْرِي. (3) وَهِيَ مِنَ الأَْلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ؛ لأَِنَّهَا
__________
(1) لسان العرب والكليات مادة: " بحر "
1 / / 390، وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 13.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير، والمغرب مادة: " نهر ".
(3) لسان العرب مادة: " عين "، والفواكه الدواني 1 / / 144.
(8/14)
تُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ أُخْرَى:
كَالْجَاسُوسِ، وَالذَّهَبِ، وَالْعَيْنِ الْبَاصِرَةِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْبَحْرِ:
يَتَعَلَّقُ بِالْبَحْرِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أ - مَاءُ الْبَحْرِ:
4 - اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى طَهُورِيَّةِ مَاءِ الْبَحْرِ
وَجَوَازِ التَّطَهُّرِ بِهِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَال: سَأَل رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ وَنَحْمِل مَعَنَا
الْقَلِيل مِنَ الْمَاءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا.
أَفَنَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ؟ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِل مَيْتَتُهُ. (1)
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال مَنْ لَمْ
يُطَهِّرْهُ مَاءُ الْبَحْرِ فَلاَ طَهَّرَهُ اللَّهُ وَلأَِنَّهُ مَاءٌ
بَاقٍ عَلَى أَصْل خِلْقَتِهِ، فَجَازَ الْوُضُوءُ بِهِ كَالْعَذْبِ.
وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو
أَنَّهُمَا قَالاَ فِي الْبَحْرِ: التَّيَمُّمُ أَعْجَبُ إِلَيْنَا مِنْهُ،
وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ (2) : أَيْ
كَانُوا لاَ يَرَوْنَ جَوَازَ الْوُضُوءِ بِهِ. (ر: طَهَارَة، مَاء) .
__________
(1) حديث: " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " أخرجه الترمذي (1 / / 101 ط
الحلبي) وصححه البخاري كما نقله عنه ابن حجر في التلخيص (1 / / 9 شركة
الطباعة الفنية المتحدة) .
(2) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 12، 13، وحاشية الدسوقي 1 / / 34،
والفواكه الدواني 1 / / 144، ومغني المحتاج 1 / 17 وكشاف القناع 1 / 26،
والمغني 1 / 8.
(8/15)
ب - صَيْدُ الْبَحْرِ:
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى إِبَاحَةِ صَيْدِ جَمِيعِ
حَيَوَانَاتِ الْبَحْرِ، سَوَاءٌ كَانَتْ سَمَكًا أَوْ غَيْرَهُ. لِقَوْل
اللَّهِ تَعَالَى: {أُحِل لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} (1) أَيْ
مَصِيدُهُ وَمَطْعُومُهُ. وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِل عَنْ مَاءِ الْبَحْرِ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ
الْحِل مَيْتَتُهُ.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: التِّمْسَاحَ
وَالضِّفْدِعَ، لِلنَّهْيِ عَنْ قَتْل الضِّفْدَعِ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ قَتْلِهِ (2)
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَال: لاَ تَقْتُلُوا الضَّفَادِعَ،
فَإِنَّ نَقِيقَهَا تَسْبِيحٌ (3) . وَلِلاِسْتِخْبَاثِ فِي التِّمْسَاحِ؛
وَلأَِنَّهُ يَتَقَوَّى بِنَابِهِ وَيَأْكُل النَّاسَ.
وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ: الْحَيَّةَ، وَصَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ مِنَ
الشَّافِعِيَّةِ بِتَحْرِيمِهَا وَغَيْرِهَا مِنْ ذَوَاتِ السُّمُومِ
الْبَحْرِيَّةِ، وَقَصَرَ الشَّافِعِيَّةُ التَّحْرِيمَ عَلَى الْحَيَّةِ
الَّتِي تَعِيشُ فِي الْبَحْرِ وَالْبَرِّ، وَأَمَّا الْحَيَّةُ الَّتِي
لاَ تَعِيشُ إِلاَّ فِي الْمَاءِ فَحَلاَلٌ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى إِبَاحَةِ السَّمَكِ مِنْ صَيْدِ
__________
(1) سورة المائدة / / 96.
(2) حديث: " نهى عن قتل الضفدع. . . " أخرجه أحمد (3 / / 453 ط الميمنية)
والبيهقي (9 / / 318 ط دائرة المعارف العثمانية) وقوى البيهقي إسناده.
(3) أثر عبد الله بن عمرو أخرجه البيهقي (9 / / 318 ط دائرة المعارف
العثمانية) وصحح البيهقي إسناده.
(8/15)
الْبَحْرِ فَقَطْ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ
الْحَيَوَانَاتِ الْبَحْرِيَّةِ. (1)
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (أَطْعِمَة) .
ج - مَيْتَةُ الْبَحْرِ:
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى إِبَاحَةِ مَيْتَةِ الْبَحْرِ،
سَوَاءٌ كَانَتْ سَمَكًا أَوْ غَيْرَهُ مِنْ حَيَوَانَاتِ الْبَحْرِ،
لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {أُحِل لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ}
(2) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ
الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِل مَيْتَتُهُ (3) ، وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: كُل دَابَّةٍ تَمُوتُ فِي الْبَحْرِ فَقَدْ
ذَكَّاهَا اللَّهُ لَكُمْ.
وَلَمْ يُبِحِ الْحَنَفِيَّةُ إِلاَّ مَيْتَةَ السَّمَكِ الَّذِي مَاتَ
بِآفَةٍ، وَأَمَّا الَّذِي مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، وَكَانَ غَيْرَ طَافٍ،
فَلَيْسَ بِمُبَاحٍ. وَحَدُّ الطَّافِي عِنْدَهُمْ: مَا كَانَ بَطْنُهُ
مِنْ فَوْقُ، فَلَوْ كَانَ ظَهْرُهُ مِنْ فَوْقُ، فَلَيْسَ بِطَافٍ
فَيُؤْكَل (4) . وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (أَطْعِمَة) .
د - الصَّلاَةُ فِي السَّفِينَةِ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الصَّلاَةِ فِي السَّفِينَةِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / / 194، وحاشية الدسوقي 2 / / 115، ومغني المحتاج
4 / / 297 وما بعدها، وكشاف القناع 6 / 193.
(2) سورة المائدة / / 96.
(3) سبق تخريجه (ف 4) .
(4) حاشية ابن عابدين 5 / / 194 وما بعدها، وحاشية الدسوقي 2 / / 115،
ومغني المحتاج 4 / / 297 وما بعدها، وكشاف القناع 6 / / 193، والإنصاف 10 /
/ 384.
(8/16)
مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، شَرِيطَةَ أَنْ
يَكُونَ الْمُصَلِّي مُسْتَقْبِلاً لِلْقِبْلَةِ عِنْدَ افْتِتَاحِ
الصَّلاَةِ، وَأَنْ يَدُورَ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ إِنْ دَارَتِ
السَّفِينَةُ لِغَيْرِهَا إِنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ؛ لِوُجُوبِ
الاِسْتِقْبَال. وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْفَرِيضَةِ
وَالنَّافِلَةِ لِتَيَسُّرِ اسْتِقْبَالِهِ.
وَخَالَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي النَّافِلَةِ، وَقَصَرُوا وُجُوبَ
الدَّوَرَانِ إِلَى الْقِبْلَةِ عَلَى الْفَرِيضَةِ فَقَطْ، وَلاَ
يَلْزَمُهُ أَنْ يَدُورَ فِي النَّفْل لِلْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ،
وَأَجَازُوا كَذَلِكَ لِلْمَلاَّحِ: أَلاَّ يَدُورَ فِي الْفَرْضِ أَيْضًا
لِحَاجَتِهِ لِتَسْيِيرِ السَّفِينَةِ. (1) وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ
مُصْطَلَحَ (قِبْلَة) .
هـ - حُكْمُ مَنْ مَاتَ فِي السَّفِينَةِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ فِي سَفِينَةٍ فِي
الْبَحْرِ، وَأَمْكَنَ دَفْنُهُ لِقُرْبِ الْبَرِّ، وَلاَ مَانِعَ،
لَزِمَهُمُ التَّأْخِيرُ لِيَدْفِنُوهُ فِيهِ، مَا لَمْ يَخَافُوا عَلَيْهِ
الْفَسَادَ، وَإِلاَّ غُسِّل وَكُفِّنَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ وَأُلْقِيَ فِي
الْبَحْرِ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ: أَنَّهُ يُوضَعُ بَعْدَ الصَّلاَةِ عَلَيْهِ
بَيْنَ لَوْحَيْنِ لِئَلاَّ يَنْتَفِخَ، وَيُلْقَى لِيَنْبِذَهُ الْبَحْرُ
إِلَى السَّاحِل، لَعَلَّهُ يَقَعُ إِلَى قَوْمٍ يَدْفِنُونَهُ. فَإِنْ
كَانَ أَهْل السَّاحِل كُفَّارًا ثُقِّل بِشَيْءٍ لِيَرْسُبَ. فَإِنْ لَمْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / / 512، وحاشية الدسوقي 1 / / 226، ومغني المحتاج
1 / / 144، وكشاف القناع 1 / / 304، وروضة الطالبين 1 / / 210.
(8/16)
يُوضَعْ بَيْنَ لَوْحَيْنِ ثُقِّل بِشَيْءٍ
لِيَنْزِل إِلَى الْقَرَارِ، وَإِلَى تَثْقِيلِهِ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ
أَيْضًا. (1)
و الْمَوْتُ غَرَقًا فِي الْبَحْرِ:
9 - ذَهَبَ الْعُلَمَاءُ إِلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ فِي الْبَحْرِ غَرَقًا،
فَإِنَّهُ شَهِيدٌ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: الْمَطْعُونُ، وَالْمَبْطُونُ، وَالْغَرِيقُ،
وَصَاحِبُ الْهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيل اللَّهِ. (2)
وَإِذَا وُجِدَ الْغَرِيقُ فَإِنَّهُ يُغَسَّل وَيُكَفَّنُ وَيُصَلَّى
عَلَيْهِ كَأَيِّ مَيِّتٍ آخَرَ، وَإِذَا لَمْ يُعْثَرْ عَلَيْهِ
فَيُصَلَّى عَلَيْهِ صَلاَةُ الْغَائِبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ، وَكَرِهَهَا الْمَالِكِيَّةُ، وَمَنَعَهَا
الْحَنَفِيَّةُ لاِشْتِرَاطِهِمْ لِصَلاَةِ الْجِنَازَةِ حُضُورَ
الْمَيِّتِ أَوْ حُضُورَ أَكْثَرِ بَدَنِهِ أَوْ نِصْفِهِ مَعَ رَأْسِهِ.
(3) (ر: غُسْل)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / / 599 وما بعدها، وحاشية الدسوقي 1 / / 429،
وروضة الطالبين 1 / / 141، والمغني لابن قدامة 2 / 500.
(2) حديث: " الشهداء خمسة: المطعون. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / / 139
ط السلفية) ومسلم (3 / / 1521 ط الحلبي) .
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 577، 611، وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح 319،
وحاشية الدسوقي 1 / / 415، 427، وشرح روض الطالب 1 / / 299، 315، 321،
والمغني 2 / 513، 536.
(8/17)
بُخَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبُخَارُ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا: مَا يَتَصَاعَدُ مِنَ الْمَاءِ أَوِ
النَّدَى أَوْ أَيِّ مَادَّةٍ رَطْبَةٍ تَتَعَرَّضُ لِلْحَرَارَةِ.
وَيُطْلَقُ الْبُخَارُ أَيْضًا عَلَى: دُخَانِ الْعُودِ وَنَحْوِهِ.
وَعَلَى: كُل رَائِحَةٍ سَاطِعَةٍ مِنْ نَتْنٍ أَوْ غَيْرِهِ. (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْبَخَرُ:
2 - الْبَخَرُ هُوَ: الرَّائِحَةُ الْمُتَغَيِّرَةُ مِنَ الْفَمِ. قَال
أَبُو حَنِيفَةَ: الْبَخَرُ: النَّتْنُ يَكُونُ فِي الْفَمِ وَغَيْرِهِ،
وَهُوَ أَبْخَرُ، وَهِيَ بَخْرَاءُ. (2) وَاسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ
لِلْبَخَرِ مَخْصُوصٌ بِالرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ فِي الْفَمِ فَقَطْ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْبُخَارِ:
لِلْبُخَارِ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ، فَقَدْ يَكُونُ طَاهِرًا، وَقَدْ
__________
(1) المصباح المنير، وتاج العروس، ولسان العرب، ومتن اللغة والمعجم الوسيط
مادة: " بخر "، والإنصاف 1 / / 319.
(2) لسان العرب والمصباح المنير.
(8/17)
يَكُونُ نَجِسًا، وَيَنْبَنِي عَلَيْهِ
جَوَازُ أَوْ عَدَمُ جَوَازِ التَّطَهُّرِ بِمَا تَقَاطَرَ مِنَ
الْبُخَارِ.
أ - رَفْعُ الْحَدَثِ بِمَا جُمِعَ مِنَ النَّدَى:
3 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ التَّطَهُّرِ بِالنَّدَى، وَهُوَ
الْمُتَجَمِّعُ عَلَى أَوْرَاقِ الشَّجَرِ إِذَا جُمِعَ؛ لأَِنَّهُ مَاءٌ
مُطْلَقٌ.
أَمَّا مَا وَرَدَ عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَنَّ النَّدَى: نَفَسُ
دَابَّةٍ فِي الْبَحْرِ، وَمِنْ ثَمَّ فَهَل هُوَ طَاهِرٌ أَوْ نَجِسٌ؟
فَلاَ يُعَوَّل عَلَيْهِ. (1)
ب - رَفْعُ الْحَدَثِ بِمَا جُمِعَ مِنَ الْبُخَارِ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ التَّطَهُّرِ مِنَ
الْحَدَثِ وَتَطْهِيرِ النَّجَسِ بِمَا جُمِعَ مِنْ بُخَارِ الْمَاءِ
الطَّاهِرِ الْمَغْلِيِّ بِوَقُودٍ طَاهِرٍ؛ لأَِنَّهُ مَاءٌ مُطْلَقٌ،
وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، خِلاَفًا لِمَا ذَهَبَ
إِلَيْهِ الرَّافِعِيُّ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ؛
لأَِنَّهُ لاَ يُسَمَّى مَاءً، بَل هُوَ بُخَارٌ. (2)
أَمَّا الْبُخَارُ الْمُتَأَثِّرُ بِدُخَانِ النَّجَاسَةِ فَهُوَ
مُخْتَلَفٌ فِي طَهَارَتِهِ، بِنَاءً عَلَى اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي
دُخَانِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / / 120، والحطاب مع المواق بهامشه 1 / / 50، والدسوقي 1
/ / 34، وحاشية الباجوري على ابن قاسم 1 / / 27، ومطالب أولي النهى 1 / /
34، وكشاف القناع 1 / 26 - 27.
(2) جواهر الإكليل 1 / / 6، والجمل 1 / / 29، وكشاف القناع 1 / 26.
(8/18)
النَّجَاسَةِ، هَل هُوَ طَاهِرٌ أَمْ
نَجِسٌ؟ . فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الْمُفْتَى بِهِ،
وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ، وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى:
أَنَّ دُخَانَ النَّجَاسَةِ وَبُخَارَهَا طَاهِرَانِ، قَال الْحَنَفِيَّةُ:
إِنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيل الاِسْتِحْسَانِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ. وَبِنَاءً
عَلَى هَذَا فَإِنَّ الْبُخَارَ الْمُتَصَاعِدَ مِنَ الْمَاءِ النَّجِسِ
طَهُورٌ يُزِيل الْحَدَثَ وَالنَّجَسَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ
الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى: أَنَّ دُخَانَ النَّجَاسَةِ
نَجِسٌ كَأَصْلِهَا، وَعَلَى هَذَا فَالْبُخَارُ الْمُتَأَثِّرُ بِدُخَانِ
النَّجَاسَةِ نَجِسٌ لاَ تَصِحُّ الطَّهَارَةُ بِهِ، لَكِنْ ذَهَبَ
الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ. (1)
وَأَمَّا الْبُخَارُ الْمُتَصَاعِدُ مِنَ الْحَمَّامَاتِ وَغَيْرِهَا -
كَالْغَازَاتِ الْكَرِيهَةِ الْمُتَصَاعِدَةِ مِنَ النَّجَاسَةِ - إِذَا
عَلِقَتْ بِالثَّوْبِ، فَإِنَّهُ لاَ يَنْجَسُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ
مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ، تَخْرِيجًا عَلَى الرِّيحِ الْخَارِجَةِ مِنَ
الإِْنْسَانِ، فَإِنَّهَا لاَ تَنْجَسُ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ سَرَاوِيلُهُ
مُبْتَلَّةً أَمْ لاَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ بَقِيَّةَ الْمَذَاهِبِ لاَ
تُخَالِفُ مَذْهَبَ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذَا. (2)
__________
(1) ابن عابدين 1 / / 216، ومجمع الأنهر 1 / / 61 والدسوقي 1 / 57 - 58،
وكشاف القناع 1 / / 28، والإنصاف 1 / / 319، والجمل 1 / / 179.
(2) ابن عابدين 1 / 216.
(8/18)
بَخَرٌ
التَّعْرِيفُ
1 - الْبَخَرُ: الرَّائِحَةُ الْمُتَغَيِّرَةُ مِنَ الْفَمِ مِنْ نَتْنٍ
وَغَيْرِهِ. يُقَال: بَخِرَ الْفَمُ بَخَرًا مِنْ بَابِ تَعِبَ، إِذَا
أَنْتَنَ وَتَغَيَّرَ رِيحُهُ، وَلَمْ يَخْرُجِ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ
عَنْ هَذَا الْمَعْنَى. (1)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - لَمَّا كَانَ الْبَخَرُ فِي الإِْنْسَانِ يُؤَدِّي إِلَى النَّفْرَةِ
وَالتَّأَذِّي اعْتَبَرَهُ الْفُقَهَاءُ عَيْبًا، وَاتَّفَقُوا عَلَى
أَنَّهُ مِنَ الْعُيُوبِ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا الْخِيَارُ فِي بَيْعِ
الإِْمَاءِ.
وَأَمَّا فِي النِّكَاحِ: فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ
وَالْفَسْخِ بِهِ. فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ
الْقَوْل الآْخَرُ لِلْحَنَابِلَةِ: لاَ يَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ وَلاَ
يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ. (2)
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " بخر
".
(2) ابن عابدين 2 / 597، 4 / 75، وجواهر الإكليل 1 / 299، 2 / 40، والجمل
على المنهج 4 / 215، ونهاية المحتاج 4 / 29، والمغني 4 / 168، 6 / 652 ط
السعودية.
(8/19)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ رَأْيٌ
لِلْحَنَابِلَةِ: يَثْبُتُ بِالْبَخَرِ الْخِيَارُ وَالْفَسْخُ فِي
النِّكَاحِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل الْقَوْل فِي ذَلِكَ فِي بَابِ خِيَارِ الْعَيْبِ فِي
الْبُيُوعِ، وَبَابِ الْعَيْبِ فِي النِّكَاحِ. وَأَمَّا فِي التَّرْخِيصِ
لِمَنْ بِهِ بَخَرٌ فِي حُضُورِ الْجَمَاعَاتِ وَالْجُمَعِ وَعَدَمِهِ -
فَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إِلَى بَابِ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ.
بَخْسٌ
انْظُرْ: غَبْن
(8/19)
الْبَخِيلَةُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبَخِيلَةُ مِنْ مَسَائِل الْعَوْل فِي الْمِيرَاثِ، سُمِّيَتْ
بَخِيلَةً؛ لأَِنَّهَا أَقَل الأُْصُول عَوْلاً. وَتُسَمَّى
(الْمِنْبَرِيَّةَ) لأَِنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سُئِل عَنْهَا
عَلَى الْمِنْبَرِ. وَهِيَ مِنْ سِهَامِ الْفَرَائِضِ الَّتِي تَعُول،
وَتَأْتِي فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ يَعُول فِيهِمَا أَصْل
أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ إِلَى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ.
2 - الْمَسْأَلَةُ الأُْولَى: هِيَ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا نِصْفٌ وَثُمُنٌ
وَثَلاَثَةُ أَسْدَاسٍ، كَزَوْجَةٍ وَبِنْتٍ وَأَبَوَيْنِ وَبِنْتِ ابْنٍ،
فَلِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ، وَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَلِبِنْتِ الاِبْنِ
السُّدُسُ، وَلِلأَْبَوَيْنِ السُّدُسَانِ.
3 - الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا مَعَ
الثُّمُنِ ثُلُثَانِ وَسُدُسَانِ، كَزَوْجَةٍ وَبِنْتَيْنِ وَأَبَوَيْنِ،
فَلِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ، وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ،
وَلِلأَْبَوَيْنِ السُّدُسَانِ، وَمَجْمُوعُهَا مِنَ الأَْرْبَعَةِ
وَالْعِشْرِينَ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ. وَكُلٌّ مِنْ هَاتَيْنِ
الْمَسْأَلَتَيْنِ تُسَمَّى الْبَخِيلَةَ لِقِلَّةِ عَوْلِهَا؛ لأَِنَّهَا
تَعُول مَرَّةً وَاحِدَةً. وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ
(8/20)
تُسَمَّى أَيْضًا (الْمِنْبَرِيَّةَ)
لأَِنَّ عَلِيًّا سُئِل عَنْهَا وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَأَجَابَ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ (الإِْرْثُ) عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ الْعَوْل.
__________
(1) ابن عابدين 5 / 502، وحاشية الدسوقي 4 / 465، وقليوبي وعميرة 3 / 152،
والمغني 6 / 192 ط السعودية، والعذب الفائض ص 170 ط مصطفى الحلبي.
(8/20)
بِدْعَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبِدْعَةُ لُغَةً: مِنْ بَدَعَ الشَّيْءَ يَبْدَعُهُ بَدْعًا،
وَابْتَدَعَهُ: إِذَا أَنْشَأَهُ وَبَدَأَهُ.
وَالْبِدْعُ: الشَّيْءُ الَّذِي يَكُونُ أَوَّلاً، وَمِنْهُ قَوْله
تَعَالَى: {قُل مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُل} (1) أَيْ لَسْتُ
بِأَوَّل رَسُولٍ بُعِثَ إِلَى النَّاسِ، بَل قَدْ جَاءَتِ الرُّسُل مِنْ
قَبْل، فَمَا أَنَا بِالأَْمْرِ الَّذِي لاَ نَظِيرَ لَهُ حَتَّى
تَسْتَنْكِرُونِي.
وَالْبِدْعَةُ: الْحَدَثُ، وَمَا ابْتُدِعَ فِي الدِّينِ بَعْدَ
الإِْكْمَال.
وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ: الْمُبْتَدِعُ الَّذِي يَأْتِي أَمْرًا عَلَى
شَبَهٍ لَمْ يَكُنْ، بَل ابْتَدَأَهُ هُوَ. وَأَبْدَعَ وَابْتَدَعَ
وَتَبَدَّعَ: أَتَى بِبِدْعَةٍ، (2) وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى:
{وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ
ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} (3) وَبَدَّعَهُ: نَسَبَهُ إِلَى
الْبِدْعَةِ، وَالْبَدِيعُ: الْمُحْدَثُ الْعَجِيبُ، وَأَبْدَعْتُ
الشَّيْءَ: اخْتَرَعْتُهُ لاَ عَلَى مِثَالٍ،
__________
(1) سورة الأحقاف / 9
(2) لسان العرب والصحاح مادة: " بدع ".
(3) سورة الحديد / 27.
(8/21)
وَالْبَدِيعُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ
تَعَالَى، وَمَعْنَاهُ: الْمُبْدِعُ، لإِِبْدَاعِهِ الأَْشْيَاءَ
وَإِحْدَاثِهِ إِيَّاهَا.
أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ، فَقَدْ تَعَدَّدَتْ تَعْرِيفَاتُ الْبِدْعَةِ
وَتَنَوَّعَتْ؛ لاِخْتِلاَفِ أَنْظَارِ الْعُلَمَاءِ فِي مَفْهُومِهَا
وَمَدْلُولِهَا.
فَمِنْهُمْ مَنْ وَسَّعَ مَدْلُولَهَا، حَتَّى أَطْلَقَهَا عَلَى كُل
مُسْتَحْدَثٍ مِنَ الأَْشْيَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ ضَيَّقَ مَا تَدُل
عَلَيْهِ، فَتَقَلَّصَ بِذَلِكَ مَا يَنْدَرِجُ تَحْتَهَا مِنَ
الأَْحْكَامِ.
وَسَنُوجِزُ هَذَا فِي اتِّجَاهَيْنِ.
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل:
2 - أَطْلَقَ أَصْحَابُ الاِتِّجَاهِ الأَْوَّل الْبِدْعَةَ عَلَى كُل
حَادِثٍ لَمْ يُوجَدْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي
الْعِبَادَاتِ أَمِ الْعَادَاتِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَذْمُومًا أَمْ غَيْرَ
مَذْمُومٍ. وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ، وَمِنْ
أَتْبَاعِهِ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ، وَالنَّوَوِيُّ، وَأَبُو
شَامَةَ. وَمِنَ الْمَالِكِيَّةِ: الْقَرَافِيُّ، وَالزَّرْقَانِيُّ.
وَمِنَ الْحَنَفِيَّةِ: ابْنُ عَابِدِينَ. وَمِنَ الْحَنَابِلَةِ: ابْنُ
الْجَوْزِيِّ. وَمِنَ الظَّاهِرِيَّةِ: ابْنُ حَزْمٍ.
وَيَتَمَثَّل هَذَا الاِتِّجَاهُ فِي تَعْرِيفِ الْعِزِّ بْنِ عَبْدِ
السَّلاَمِ لِلْبِدْعَةِ وَهُوَ: أَنَّهَا فِعْل مَا لَمْ يُعْهَدْ فِي
عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهِيَ
مُنْقَسِمَةٌ إِلَى بِدْعَةٍ وَاجِبَةٍ، وَبِدْعَةٍ مُحَرَّمَةٍ،
وَبِدْعَةٍ مَنْدُوبَةٍ، وَبِدْعَةٍ مَكْرُوهَةٍ، وَبِدْعَةٍ
(8/21)
مُبَاحَةٍ. (1)
وَضَرَبُوا لِذَلِكَ أَمْثِلَةً:
فَالْبِدْعَةُ الْوَاجِبَةُ: كَالاِشْتِغَال بِعِلْمِ النَّحْوِ الَّذِي
يُفْهَمُ بِهِ كَلاَمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَذَلِكَ وَاجِبٌ؛ لأَِنَّهُ
لاَ بُدَّ مِنْهُ لِحِفْظِ الشَّرِيعَةِ، وَمَا لاَ يَتِمُّ الْوَاجِبُ
إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ. وَالْبِدْعَةُ الْمُحَرَّمَةُ مِنْ
أَمْثِلَتِهَا: مَذْهَبُ الْقَدَرِيَّةِ، وَالْجَبْرِيَّةِ،
وَالْمُرْجِئَةِ، وَالْخَوَارِجِ. وَالْبِدْعَةُ الْمَنْدُوبَةُ: مِثْل
إِحْدَاثِ الْمَدَارِسِ، وَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ، وَمِنْهَا صَلاَةُ
التَّرَاوِيحِ جَمَاعَةً فِي الْمَسْجِدِ بِإِمَامٍ وَاحِدٍ.
وَالْبِدْعَةُ الْمَكْرُوهَةُ: مِثْل زَخْرَفَةِ الْمَسَاجِدِ، وَتَزْوِيقِ
الْمَصَاحِفِ.
وَالْبِدْعَةُ الْمُبَاحَةُ: مِثْل الْمُصَافَحَةِ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ،
وَمِنْهَا التَّوَسُّعُ فِي اللَّذِيذِ مِنَ الْمَآكِل وَالْمَشَارِبِ
وَالْمَلاَبِسِ. (2) وَاسْتَدَلُّوا لِرَأْيِهِمْ فِي تَقْسِيمِ
الْبِدْعَةِ إِلَى الأَْحْكَامِ الْخَمْسَةِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا:
(أ) قَوْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ
جَمَاعَةً فِي الْمَسْجِدِ فِي رَمَضَانَ نِعْمَتِ
__________
(1) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 2 / 172 ط الاستقامة، والحاوي
للسيوطي 1 / 539 ط محيي الدين، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي 1 / 22 القسم
الثاني ط المنيرية، وتلبيس إبليس لابن الجوزي ص 16 ط المنيرية، وابن عابدين
1 / 376 ط بولاق، والباعث على إنكار البدع والحوادث لأبي شامة 13 - 15 ط
المطبعة العربية.
(2) قواعد الأحكام 2 / 172، والفروق 4 / 219.
(8/22)
الْبِدْعَةُ هَذِهِ (1) . فَقَدْ رُوِيَ
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الْقَارِيِّ أَنَّهُ قَال: خَرَجْتُ
مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْلَةً فِي
رَمَضَانَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ،
يُصَلِّي الرَّجُل لِنَفْسِهِ، وَيُصَلِّي الرَّجُل فَيُصَلِّي بِصَلاَتِهِ
الرَّهْطُ. فَقَال عُمَرُ: إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلاَءِ عَلَى
قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَل، ثُمَّ عَزَمَ، فَجَمَعَهُمْ عَلَى
أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى، وَالنَّاسُ
يُصَلُّونَ بِصَلاَةِ قَارِئِهِمْ، قَال عُمَرُ: نِعْمَ الْبِدْعَةُ
هَذِهِ، وَالَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَل مِنَ الَّتِي يَقُومُونَ.
يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْل. وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ.
(ب) تَسْمِيَةُ ابْنِ عُمَرَ صَلاَةَ الضُّحَى جَمَاعَةً فِي الْمَسْجِدِ
بِدْعَةً، وَهِيَ مِنَ الأُْمُورِ الْحَسَنَةِ. رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ
قَال: دَخَلْتُ أَنَا وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ جَالِسٌ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ، وَإِذَا
نَاسٌ يُصَلُّونَ فِي الْمَسْجِدِ صَلاَةَ الضُّحَى، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ
صَلاَتِهِمْ - فَقَال: بِدْعَةٌ (2) .
(ج) الأَْحَادِيثُ الَّتِي تُفِيدُ انْقِسَامَ الْبِدْعَةِ إِلَى
الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ، وَمِنْهَا مَا رُوِيَ مَرْفُوعًا: مَنْ سَنَّ
سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِل بِهَا
__________
(1) حديث عمر في التراويح أخرجه البخاري (الفتح 4 / 250 - ط السلفية) .
(2) قول ابن عمر في صلاة الضحى. أخرجه البخاري (الفتح 3 / 599 -.) .
(8/22)
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَنَّ
سُنَّةً سَيِّئَةً، فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِل بِهَا إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ (1)
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي:
3 - اتَّجَهَ فَرِيقٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى ذَمِّ الْبِدْعَةِ،
وَقَرَّرُوا أَنَّ الْبِدْعَةَ كُلَّهَا ضَلاَلَةٌ، سَوَاءٌ فِي
الْعَادَاتِ أَوِ الْعِبَادَاتِ. وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الإِْمَامُ
مَالِكٌ وَالشَّاطِبِيُّ وَالطُّرْطُوشِيُّ. وَمِنَ الْحَنَفِيَّةِ:
الإِْمَامُ الشُّمُنِّيُّ، وَالْعَيْنِيُّ. وَمِنَ الشَّافِعِيَّةِ:
الْبَيْهَقِيُّ، وَابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ، وَابْنُ حَجَرٍ
الْهَيْتَمِيُّ. وَمِنَ الْحَنَابِلَةِ: ابْنُ رَجَبٍ، وَابْنُ تَيْمِيَةَ
(2) .
وَأَوْضَحُ تَعْرِيفٍ يُمَثِّل هَذَا الاِتِّجَاهَ هُوَ تَعْرِيفُ
الشَّاطِبِيِّ، حَيْثُ عَرَّفَ الْبِدْعَةَ بِتَعْرِيفَيْنِ:
الأَْوَّل أَنَّهَا: طَرِيقَةٌ فِي الدِّينِ مُخْتَرَعَةٌ، تُضَاهِي
الشَّرْعِيَّةَ، يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ عَلَيْهَا الْمُبَالَغَةُ فِي
التَّعَبُّدِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ. وَهَذَا التَّعْرِيفُ لَمْ يُدْخِل
الْعَادَاتِ فِي الْبِدْعَةِ، بَل خَصَّهَا بِالْعِبَادَاتِ،
__________
(1) حديث: " من سنة حسنة. . . " أخرجه مسلم (2 / 705 ط الحلبي) .
(2) الاعتصام للشاطبي 1 / / 18، 19 ط التجارية، والاعتقاد على مذاهب السلف
للبيهقي ص 114 ط دار العهد الجديد، والحوادث والبدع للإمام الطرطوشي ص 8 ط
تونس، واقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية ص 228، 278 ط المحمدية، وجامع
بيان العلوم والحكم ص 160 ط الهند، وجواهر الإكليل 1 / / 112 ط شقرون،
وعمدة القاري 25 / / 37 ط المنيرية، وفتح الباري 5 / / 156 ط الحلبي.
(8/23)
بِخِلاَفِ الاِخْتِرَاعِ فِي أُمُورِ
الدُّنْيَا.
الثَّانِي أَنَّهَا: طَرِيقَةٌ فِي الدِّينِ مُخْتَرَعَةٌ تُضَاهِي
الشَّرِيعَةَ يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ عَلَيْهَا مَا يُقْصَدُ بِالطَّرِيقَةِ
الشَّرْعِيَّةِ. (1) وَبِهَذَا التَّعْرِيفِ تَدْخُل الْعَادَاتُ فِي
الْبِدَعِ إِذَا ضَاهَتِ الطَّرِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ، كَالنَّاذِرِ
لِلصِّيَامِ قَائِمًا لاَ يَقْعُدُ مُتَعَرِّضًا لِلشَّمْسِ لاَ يَسْتَظِل،
وَالاِقْتِصَارِ فِي الْمَأْكَل وَالْمَلْبَسِ عَلَى صِنْفٍ دُونَ صِنْفٍ
مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ. (2)
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِذَمِّ الْبِدْعَةِ مُطْلَقًا بِأَدِلَّةٍ
مِنْهَا:
(أ) أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ قَدْ كَمُلَتْ قَبْل وَفَاةِ
الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال سُبْحَانَهُ:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِْسْلاَمَ دِينًا} (3) فَلاَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَجِيءَ
إِنْسَانٌ وَيَخْتَرِعَ فِيهَا شَيْئًا؛ لأَِنَّ الزِّيَادَةَ عَلَيْهَا
تُعْتَبَرُ اسْتِدْرَاكًا عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَتُوحِي
بِأَنَّ الشَّرِيعَةَ نَاقِصَةٌ، وَهَذَا يُخَالِفُ مَا جَاءَ فِي كِتَابِ
اللَّهِ.
(ب) وَرَدَتْ آيَاتٌ قُرْآنِيَّةٌ تَذُمُّ الْمُبْتَدِعَةَ فِي
الْجُمْلَةِ، مِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا
__________
(1) الاعتصام للشاطبي 1 / / 19 ط التجارية.
(2) التعريف الأول للشاطبي خص البدعة بالاختراع في الدين، بخلاف الاختراع
في الدنيا فلا يسمى بدعة، وبهذا القيد تنفصل العلوم الخادمة للدين عن
البدعة، مثل علم النحو والصرف.
(3) سورة المائدة / 3.
(8/23)
صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ
تَتَّبِعُوا السُّبُل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (1)
(ج) كُل مَا وَرَدَ مِنْ أَحَادِيثَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبِدْعَةِ جَاءَ بِذَمِّهَا، مِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ
الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ: وَعَظَنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ،
وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ. فَقَال قَائِلٌ: يَا رَسُول اللَّهِ
كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا. فَقَال:
أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِوُلاَةِ
الأَْمْرِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ
مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي
وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا،
وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ
الأُْمُورِ. فَإِنَّ كُل مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُل بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ
(2)
(د) أَقْوَال الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ، مِنْ هَذَا مَا رُوِيَ عَنْ
مُجَاهِدٍ قَال: دَخَلْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مَسْجِدًا،
وَقَدْ أُذِّنَ فِيهِ، وَنَحْنُ نُرِيدُ أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِ، فَثَوَّبَ
الْمُؤَذِّنُ، فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مِنَ الْمَسْجِدِ،
وَقَال: " اخْرُجْ بِنَا مِنْ عِنْدِ هَذَا الْمُبْتَدِعِ " وَلَمْ يُصَل
فِيهِ (3) .
__________
(1) سورة الأنعام / / 153.
(2) حديث العرباض أحرجه ابن ماجه (1 / / 16 - ط الحلبي) وأبو داود (5 / 16
- ط عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / / 96 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه
وافقه الذهبي.
(3) أثر عبد الله بن عمر أخرجه الطبراني (مجمع الزوائد 2 / 202)
(8/24)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمُحْدَثَاتُ:
4 - الْحَدِيثُ نَقِيضُ الْقَدِيمِ، وَالْحُدُوثُ: كَوْنُ شَيْءٍ بَعْدَ
أَنْ لَمْ يَكُنْ. وَمُحْدَثَاتُ الأُْمُورِ: مَا ابْتَدَعَهُ أَهْل
الأَْهْوَاءِ مِنَ الأَْشْيَاءِ الَّتِي كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ عَلَى
غَيْرِهَا. وَفِي الْحَدِيثِ: إِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُْمُورِ (1)
وَالْمُحْدَثَاتُ جَمْعُ مُحْدَثَةٍ بِالْفَتْحِ، وَهِيَ: مَا لَمْ يَكُنْ
مَعْرُوفًا فِي كِتَابٍ وَلاَ سُنَّةٍ وَلاَ إِجْمَاعٍ. (2) وَعَلَى هَذَا
الْمَعْنَى تَلْتَقِي الْمُحْدَثَاتُ مَعَ الْبِدْعَةِ عَلَى الْمَعْنَى
الثَّانِي.
ب - الْفِطْرَةُ:
5 - الْفِطْرَةِ: الاِبْتِدَاءُ وَالاِخْتِرَاعُ. وَفَطَرَ اللَّهُ
الْخَلْقَ: خَلَقَهُمْ وَبَدَأَهُمْ، وَيُقَال: أَنَا فَطَرْتُ الشَّيْءَ
أَيْ: أَوَّل مَنِ ابْتَدَأَهُ. (3) وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَلْتَقِي
مَعَ الْبِدْعَةِ فِي بَعْضِ مَعَانِيهَا اللُّغَوِيَّةِ.
ج - السُّنَّةُ:
6 - السُّنَّةُ فِي اللُّغَةِ: الطَّرِيقَةُ، حَسَنَةً كَانَتْ أَوْ
سَيِّئَةً. (4) قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ سَنَّ
__________
(1) حديث: " إياكم ومحدثات الأمور. . . " سبق مطولا وتخريجه ورد في ف / / 3
(2) لسان العرب والصحاح للجوهري مادة: " حدث ".
(3) لسان العرب والصحاح مادة: " فطر ".
(4) لسان العرب والصحاح والمصباح والمغرب مادة: " سنن ".
(8/24)
سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا
وَأَجْرُ مَنْ عَمِل بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَنَّ
سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِل بِهَا إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمَسْلُوكَةُ الْجَارِيَةُ فِي
الدِّينِ الْمَأْثُورَةُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَوْ صَحْبِهِ. لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي
وَهِيَ بِهَذَا الْمَعْنَى مُقَابِلَةٌ لِلْبِدْعَةِ وَمُضَادَّةٌ لَهَا
تَمَامًا.
وَلِلسُّنَّةِ إِطْلاَقَاتٌ أُخْرَى شَرْعِيَّةٌ اشْتُهِرَتْ بِهَا،
مِنْهَا:
أَنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى الشَّرِيعَةِ كُلِّهَا، كَقَوْلِهِمْ: الأَْوْلَى
بِالإِْمَامَةِ الأَْعْلَمُ بِالسُّنَّةِ. وَمِنْهَا: مَا هُوَ أَحَدُ
الأَْدِلَّةِ الأَْرْبَعَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهُوَ مَا صَدَرَ عَنْ رَسُول
اللَّهِ - غَيْرَ الْقُرْآنِ - مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ تَقْرِيرٍ.
وَمِنْهَا: مَا يَعُمُّ النَّفَل، وَهُوَ مَا فِعْلُهُ خَيْرٌ مِنْ
تَرْكِهِ مِنْ غَيْرِ افْتِرَاضٍ وَلاَ وُجُوبٍ. (2)
د - الْمَعْصِيَةُ:
7 - الْعِصْيَانُ: خِلاَفُ الطَّاعَةِ يُقَال: عَصَى الْعَبْدُ رَبَّهُ
إِذَا خَالَفَ أَمْرَهُ، وَعَصَى فُلاَنٌ أَمِيرَهُ: إِذَا خَالَفَ
أَمْرَهُ.
وَشَرْعًا: عِصْيَانُ أَمْرِ الشَّارِعِ قَصْدًا، وَهِيَ لَيْسَتْ
بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ.
__________
(1) حديث: " من سن سنة حسنة. . . " سبق تخريجه (ف / / 2) .
(2) التهانوي 3 / / 703، ودستور العلماء 2 / / 182 ط الأعلى للطباعة.
(8/25)
فَهِيَ إِمَّا كَبَائِرُ وَهِيَ: مَا
يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حَدٌّ، أَوْ وَعِيدٌ بِالنَّارِ أَوِ اللَّعْنَةِ
أَوِ الْغَضَبِ، أَوْ مَا اتَّفَقَتِ الشَّرَائِعُ عَلَى تَحْرِيمِهِ،
عَلَى اخْتِلاَفٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي تَحْدِيدِهَا.
وَإِمَّا صَغَائِرُ وَهِيَ: مَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِمَّا
ذُكِرَ إِذَا اجْتُنِبَ الإِْصْرَارُ عَلَيْهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ
سَيِّئَاتِكُمْ} (1) وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْبِدْعَةُ أَعَمَّ مِنَ
الْمَعْصِيَةِ، حَيْثُ تَشْمَل الْمَعْصِيَةَ، كَالْبِدْعَةِ
الْمُحَرَّمَةِ وَالْمَكْرُوهَةِ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ، وَغَيْرَ
الْمَعْصِيَةِ كَالْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ وَالْمُبَاحَةِ. (2)
هـ - الْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ:
8 - الْمَصْلَحَةُ لُغَةً كَالْمَنْفَعَةِ وَزْنًا وَمَعْنًى، فَهِيَ
مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الصَّلاَحِ، أَوْ هِيَ اسْمٌ لِلْوَاحِدِ مِنَ
الْمَصَالِحِ.
وَالْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ اصْطِلاَحًا هِيَ: الْمُحَافَظَةُ عَلَى
مَقْصُودِ الشَّرْعِ الْمُنْحَصِرِ فِي الضَّرُورِيَّاتِ. الْخَمْسِ، كَمَا
قَال الإِْمَامُ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، أَوْ هِيَ اعْتِبَارُ
الْمُنَاسِبِ الَّذِي لاَ يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ عِنْدَ
الشَّاطِبِيِّ، أَوْ هِيَ أَنْ يَرَى الْمُجْتَهِدُ أَنَّ هَذَا الْفِعْل
فِيهِ مَنْفَعَةٌ رَاجِحَةٌ وَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ مَا يَنْفِيهِ عِنْدَ
ابْنِ تَيْمِيَةَ. أَوْ هِيَ أَنْ يُنَاطَ الأَْمْرُ بِاعْتِبَارٍ
__________
(1) سورة النساء / / 31.
(2) المغني لابن قدامة 9 / / 167، وحاشية ابن عابدين 4 / 377، ومغني
المحتاج 4 / 427.
(8/25)
مُنَاسِبٍ لَمْ يَدُل الشَّرْعُ عَلَى
اعْتِبَارِهِ وَلاَ إِلْغَائِهِ إِلاَّ أَنَّهُ مُلاَئِمٌ لِتَصَرُّفَاتِ
الشَّرْعِ، (1) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّعْرِيفَاتِ الأُْخْرَى
الَّتِي يُرْجَعُ لِتَفَاصِيلِهَا إِلَى مُصْطَلَحِ (مَصْلَحَةٌ
مُرْسَلَةٌ) .
حُكْمُ الْبِدْعَةِ التَّكْلِيفِيُّ:
9 - ذَهَبَ الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ وَالْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ
وَأَبُو شَامَةَ، وَالنَّوَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالإِْمَامُ
الْقَرَافِيُّ وَالزَّرْقَانِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَابْنُ
الْجَوْزِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَابْنُ عَابِدِينَ مِنَ الْحَنِيفَةِ
إِلَى تَقْسِيمِ الْبِدْعَةِ تَبَعًا لِلأَْحْكَامِ الْخَمْسَةِ إِلَى:
وَاجِبَةٍ أَوْ مُحَرَّمَةٍ أَوْ مَنْدُوبَةٍ أَوْ مَكْرُوهَةٍ أَوْ
مُبَاحَةٍ. (2)
وَضَرَبُوا لِكُلٍّ مِنْ هَذِهِ الأَْقْسَامِ أَمْثِلَةً:
فَمِنْ أَمْثِلَةِ الْبِدْعَةِ الْوَاجِبَةِ: الاِشْتِغَال بِعِلْمِ
النَّحْوِ، الَّذِي يُفْهَمُ بِهِ كَلاَمُ اللَّهِ وَكَلاَمُ رَسُولِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِنَّ حِفْظَ الشَّرِيعَةِ وَاجِبٌ،
وَلاَ يَتَأَتَّى حِفْظُهَا إِلاَّ بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ، وَمَا لاَ يَتِمُّ
الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ. وَتَدْوِينُ الْكَلاَمِ فِي
الْجَرْحِ
__________
(1) المستصفى 1 / / 286 والاعتصام 2 / / 95، ومجموع فتاوى ابن تيمية 11 / /
342، وإرشاد الفحول ص 242.
(2) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 2 / / 172 ط دار الكتب العلمية
بيروت، ودليل الفالحين 1 / / 416، والحناوي للسيوطي 1 / / 539 ط محيي
الدين، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي 1 / / 22 القسم الثاني ط المنيرية،
وتلبيس إبليس لابن الجوزي ص 16 ط المنيرية، وحاشية ابن عابدين 1 / / 376 ط
بولاق، والباعث على إنكار البدع والحوادث لأبي شامة ص 13 - 15 ط المطبعة
العربية، والمنثور في القواعد 1 / / 218.
(8/26)
وَالتَّعْدِيل لِتَمْيِيزِ الصَّحِيحِ مِنَ
السَّقِيمِ؛ لأَِنَّ قَوَاعِدَ الشَّرِيعَةِ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ حِفْظَ
الشَّرِيعَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ فِيمَا زَادَ عَلَى الْقَدْرِ
الْمُتَعَيِّنِ، وَلاَ يَتَأَتَّى حِفْظُهَا إِلاَّ بِمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْبِدْعَةِ الْمُحَرَّمَةِ: مَذْهَبُ الْقَدَرِيَّةِ
وَالْخَوَارِجِ وَالْمُجَسِّمَةِ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْبِدْعَةِ الْمَنْدُوبَةِ: إِحْدَاثُ الْمَدَارِسِ
وَبِنَاءُ الْقَنَاطِرِ وَصَلاَةُ التَّرَاوِيحِ فِي الْمَسْجِدِ
جَمَاعَةً.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْمَكْرُوهَةِ: زَخْرَفَةُ الْمَسَاجِدِ وَتَزْوِيقُ
الْمَصَاحِفِ.
وَأَمَّا أَمْثِلَةُ الْبِدْعَةِ الْمُبَاحَةِ فَمِنْهَا: الْمُصَافَحَةُ
عَقِيبَ صَلاَةِ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، وَمِنْهَا التَّوَسُّعُ فِي
اللَّذِيذِ مِنَ الْمَآكِل وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلاَبِسِ (1) .
هَذَا وَقَدْ قَسَّمَ الْعُلَمَاءُ الْبِدْعَةَ الْمُحَرَّمَةَ إِلَى
بِدْعَةٍ مُكَفِّرَةٍ وَغَيْرِ مُكَفِّرَةٍ، وَصَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ عَلَى
مَا سَيَأْتِي.
الْبِدْعَةُ فِي الْعَقِيدَةِ:
10 - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْبِدْعَةَ فِي الْعَقِيدَةِ
مُحَرَّمَةٌ، وَقَدْ تَتَدَرَّجُ إِلَى أَنْ تَصِل إِلَى الْكُفْرِ.
فَأَمَّا الَّتِي تَصِل إِلَى الْكُفْرِ فَهِيَ أَنْ تُخَالِفَ مَعْلُومًا
مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، كَبِدْعَةِ الْجَاهِلِيِّينَ الَّتِي
نَبَّهَ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فِي قَوْله تَعَالَى:
__________
(1) قواعد الأحكام 2 / / 172، والفروق 4 / 219، والمنثور في القواعد 1 /
219.
(8/26)
{مَا جَعَل اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ
سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ} (1) وقَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا
مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَْنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ
عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} (2)
وَحَدَّدُوا كَذَلِكَ ضَابِطًا لِلْبِدْعَةِ الْمُكَفِّرَةِ، وَهِيَ: أَنْ
يَتَّفِقَ الْكُل عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْبِدْعَةَ كُفْرٌ صُرَاحٌ لاَ
شُبْهَةَ فِيهِ (3) .
الْبِدْعَةُ فِي الْعِبَادَاتِ:
اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْبِدْعَةَ فِي الْعِبَادَاتِ مِنْهَا
مَا يَكُونُ حَرَامًا وَمَعْصِيَةً، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مَكْرُوهًا.
أ - الْبِدْعَةُ الْمُحَرَّمَةُ:
11 - وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا: بِدْعَةُ التَّبَتُّل وَالصِّيَامِ قَائِمًا
فِي الشَّمْسِ، وَالْخِصَاءِ لِقَطْعِ الشَّهْوَةِ فِي الْجِمَاعِ
وَالتَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ. لِمَا جَاءَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الرَّهْطِ الَّذِينَ فَعَلُوا
ذَلِكَ: جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ، فَلَمَّا
أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ
مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ. قَال أَحَدُهُمْ: أَمَّا
أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْل أَبَدًا، وَقَال الآْخَرُ: أَنَا أَصُومُ
الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ، وَقَال الآْخَرُ: أَنَا أَعْتَزِل النِّسَاءَ
فَلاَ
__________
(1) سورة المائدة / 103.
(2) سورة الأنعام / 139.
(3) قواعد الأحكام 2 / 172، والاعتصام 2 / 31، 32.
(8/27)
أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: أَنْتُمُ الَّذِينَ
قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأََخْشَاكُمْ لِلَّهِ
وَأَتْقَاكُمْ لَهُ. لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ،
وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي.
(1)
ب - الْبِدْعَةُ الْمَكْرُوهَةُ:
12 - قَدْ تَكُونُ الْبِدْعَةُ فِي الْعِبَادَاتِ مِنَ الْمَكْرُوهَاتِ،
مِثْل الاِجْتِمَاعِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ لِلدُّعَاءِ لِغَيْرِ الْحُجَّاجِ
فِيهَا (2) ، وَذِكْرِ السَّلاَطِينِ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ
لِلتَّعْظِيمِ، أَمَّا لِلدُّعَاءِ فَسَائِغٌ، وَكَزَخْرَفَةِ الْمَسَاجِدِ
(3) . جَاءَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي
الْبُحْتُرِيِّ قَال: أَخْبَرَ رَجُلٌ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ أَنَّ
قَوْمًا يَجْلِسُونَ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِيهِمْ رَجُلٌ
يَقُول: كُبِّرُوا اللَّهَ كَذَا وَكَذَا، وَسَبِّحُوا اللَّهَ كَذَا
وَكَذَا، وَاحْمَدُوا اللَّهَ كَذَا وَكَذَا، قَال عَبْدُ اللَّهِ: فَإِذَا
رَأَيْتَهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَأْتِنِي فَأَخْبِرْنِي بِمَجْلِسِهِمْ،
فَأَتَاهُمْ فَجَلَسَ، فَلَمَّا سَمِعَ مَا يَقُولُونَ قَامَ فَأَتَى ابْنَ
مَسْعُودٍ فَجَاءَ - وَكَانَ رَجُلاً حَدِيدًا - فَقَال أَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ،
__________
(1) حديث: " وجاء ثلاثة رهط. . . " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 104 ـ ط
السلفية) ومسلم (2 / 1020ـ ط الحلبي) .
(2) البدع والنهي عنها للوضاح القرطبي ص 46، 47 ط الاعتدال دمشق 1349هـ.
(3) قواعد الأحكام 2 / 172، والاعتصام 2 / 31، 32، وإنكار البدع والحوادث ص
25، 23.
(8/27)
وَاللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ
لَقَدْ جِئْتُمْ بِبِدْعَةٍ ظُلْمًا، وَلَقَدْ فَضَلْتُمْ أَصْحَابَ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِلْمًا. فَقَال عَمْرُو بْنُ
عُتْبَةَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ. فَقَال عَلَيْكُمْ بِالطَّرِيقِ
فَالْزَمُوهُ، وَلَئِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالاً لَتَضِلُّنَّ
ضَلاَلاً بَعِيدًا (1) .
الْبِدْعَةُ فِي الْعَادَاتِ:
13 - الْبِدْعَةُ فِي الْعَادَاتِ مِنْهَا الْمَكْرُوهُ، كَالإِْسْرَافِ
فِي الْمَآكِل وَالْمَشَارِبِ وَنَحْوِهَا. وَمِنْهَا الْمُبَاحُ، مِثْل
التَّوَسُّعِ فِي اللَّذِيذِ مِنَ الْمَآكِل وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلاَبِسِ
وَالْمَسَاكِنِ، وَلُبْسِ الطَّيَالِسَةِ، وَتَوْسِيعِ الأَْكْمَامِ، مِنْ
غَيْرِ سَرَفٍ وَلاَ اخْتِيَالٍ.
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الاِبْتِدَاعَ فِي الْعَادَاتِ الَّتِي لَيْسَ
لَهَا تَعَلُّقٌ بِالْعِبَادَاتِ جَائِزٌ؛ لأَِنَّهُ لَوْ جَازَتِ
الْمُؤَاخَذَةُ فِي الاِبْتِدَاعِ فِي الْعَادَاتِ لَوَجَبَ أَنْ تُعَدَّ
كُل الْعَادَاتِ الَّتِي حَدَثَتْ بَعْدَ الصَّدْرِ الأَْوَّل - مِنَ
الْمَآكِل وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلاَبِسِ وَالْمَسَائِل النَّازِلَةِ -
بِدَعًا مَكْرُوهَاتٍ، وَالتَّالِي بَاطِلٌ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَقُل أَحَدٌ
بِأَنَّ تِلْكَ الْعَادَاتِ الَّتِي بَرَزَتْ بَعْدَ الصَّدْرِ الأَْوَّل
مُخَالِفَةٌ لَهُمْ؛ وَلأَِنَّ الْعَادَاتِ مِنَ الأَْشْيَاءِ الَّتِي
تَدُورُ مَعَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. (2)
دَوَاعِي الْبِدْعَةِ وَأَسْبَابُهَا:
14 - دَوَاعِي الْبِدْعَةِ وَأَسْبَابُهَا وَبَوَاعِثُهَا كَثِيرَةٌ
__________
(1) تلبيس إبليس 16 - 17 ط النهضة، والآداب الشرعية 2 / 110 ط الرياض،
وإنكار البدع والحوادث لأبي شامة ص 23.
(2) قواعد الأحكام 2 / 172، 173، والاعتصام للشاطبي 2 / 31، 32
(8/28)
وَمُتَعَدِّدَةٌ، يَصْعُبُ حَصْرُهَا؛
لأَِنَّهَا تَتَجَدَّدُ وَتَتَنَوَّعُ حَسَبَ الأَْحْوَال وَالأَْزْمَانِ
وَالأَْمْكِنَةِ وَالأَْشْخَاصِ، وَأَحْكَامُ الدِّينِ وَفُرُوعُهُ
كَثِيرَةٌ، وَالاِنْحِرَافُ عَنْهَا وَاتِّبَاعُ سُبُل الشَّيْطَانِ فِي
كُل حُكْمٍ مُتَعَدِّدُ الْوُجُوهِ. وَكُل خُرُوجٍ إِلَى وَسِيلَةٍ مِنْ
وَسَائِل الْبَاطِل لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ بَاعِثٍ. وَمَعَ ذَلِكَ فَمِنَ
الْمُمْكِنِ إِرْجَاعُ الدَّوَاعِي وَالأَْسْبَابِ إِلَى مَا يَأْتِي:
أ - الْجَهْل بِوَسَائِل الْمَقَاصِدِ:
15 - أَنْزَل اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْقُرْآنَ عَرَبِيًّا لاَ
عُجْمَةَ فِيهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ جَارٍ فِي أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ
وَأَسَالِيبِهِ عَلَى لِسَانِ الْعَرَبِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى
بِذَلِكَ فَقَال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (1) .
وَقَال: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} (2) وَمِنْ هَذَا
يُعْلَمُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ لاَ تُفْهَمُ إِلاَّ إِذَا فَهِمَ اللِّسَانُ
الْعَرَبِيُّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا
عَرَبِيًّا} (3) وَالإِْخْلاَل فِي ذَلِكَ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى
الْبِدْعَةِ.
ب - الْجَهْل بِالْمَقَاصِدِ:
16 - مَا يَنْبَغِي لِلإِْنْسَانِ أَنْ يَعْلَمَهُ وَلاَ يَجْهَلَهُ مِنَ
الْمَقَاصِدِ أَمْرَانِ:
(1) أَنَّ الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ كَامِلَةً تَامَّةً لاَ نَقْصَ فِيهَا
وَلاَ زِيَادَةَ، وَيَجِبُ أَنْ يُنْظَرُ إِلَيْهَا بِعَيْنِ الْكَمَال
__________
(1) سورة يوسف / 2.
(2) سورة الزمر / 28.
(3) سورة الرعد / 37.
(8/28)
لاَ بِعَيْنِ النَّقْصِ، وَأَنْ يَرْتَبِطَ
بِهَا ارْتِبَاطَ ثِقَةٍ وَإِذْعَانٍ، فِي عَادَاتِهَا وَعِبَادَاتِهَا
وَمُعَامَلاَتِهَا، وَأَلاَّ يَخْرُجَ عَنْهَا أَلْبَتَّةَ. وَهَذَا
الأَْمْرُ أَغْفَلَهُ الْمُبْتَدِعَةُ فَاسْتَدْرَكُوا عَلَى الشَّرْعِ،
وَكَذَبُوا عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقِيل لَهُمْ فِي ذَلِكَ فَقَالُوا: نَحْنُ لَمْ نَكْذِبْ عَلَى رَسُول
اللَّهِ وَإِنَّمَا كَذَبْنَا لَهُ. وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ،
الْمَعْرُوفِ بِالأُْرْدُنِّيِّ، أَنَّهُ قَال: إِذَا كَانَ الْكَلاَمُ
حَسَنًا لَمْ أَرَ فِيهِ بَأْسًا، أَجْعَل لَهُ إِسْنَادًا إِلَى رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(2) أَنْ يُوقِنَ إِيقَانًا جَازِمًا أَنَّهُ لاَ تَضَادَّ بَيْنَ آيَاتِ
الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَبَيْنَ الأَْحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ بَعْضِهَا
مَعَ بَعْضٍ، أَوْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ؛ لأَِنَّ
النَّبْعَ وَاحِدٌ، وَمَا كَانَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى،
وَإِنَّ قَوْمًا اخْتَلَفَ عَلَيْهِمُ الأَْمْرُ لِجَهْلِهِمْ، هُمُ
الَّذِينَ عَنَاهُمُ الرَّسُول بِقَوْلِهِ: يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ
يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ.
فَيَتَحَصَّل مِمَّا قَدَّمْنَا كَمَال الشَّرِيعَةِ وَعَدَمُ التَّضَادِّ
بَيْنَ نُصُوصِهَا.
أَمَّا كَمَال الشَّرِيعَةِ فَقَدْ أَخْبَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِْسْلاَمَ دِينًا} (1) .
وَأَمَّا عَدَمُ التَّضَادِّ فِي اللَّفْظِ أَوِ الْمَعْنَى فَقَدْ بَيَّنَ
اللَّهُ أَنَّ الْمُتَدَبِّرَ لاَ يَجِدُ فِي الْقُرْآنِ اخْتِلاَفًا؛
لأَِنَّ
__________
(1) سورة المائدة / 3.
(8/29)
الاِخْتِلاَفَ مُنَافٍ لِلْعِلْمِ
وَالْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ (1) {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ
وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا
كَثِيرًا} . (2)
ج - الْجَهْل بِالسُّنَّةِ:
17 - مِنَ الأُْمُورِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى الْبِدْعَةِ الْجَهْل
بِالسُّنَّةِ.
وَالْجَهْل بِالسُّنَّةِ يَعْنِي أَمْرَيْنِ:
الأَْوَّل، جَهْل النَّاسِ بِأَصْل السُّنَّةِ.
وَالثَّانِي: جَهْلُهُمْ بِالصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِهِ، فَيَخْتَلِطُ
عَلَيْهِمُ الأَْمْرُ.
أَمَّا جَهْلُهُمْ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، فَيَجْعَلُهُمْ يَأْخُذُونَ
بِالأَْحَادِيثِ الْمَكْذُوبَةِ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ وَرَدَتِ الآْثَارُ مِنَ الْقُرْآنِ
وَالسُّنَّةِ تَنْهَى عَنْ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْفُ مَا
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُل
أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} (3) وَقَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا
فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ (4) .
__________
(1) الاعتصام 2 / 268، والفخر الرازي 10 / 196، 197.
(2) سورة النساء / 82.
(3) سورة الإسراء / 39.
(4) حديث: " من كذب على معتمدا. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 202 ط
السلفية) من حديث أبي هريرة، ومسلم (4 / 2298، 2299 ط الحلبي) من حديث أبي
سعيد الخدري.
(8/29)
وَمِنْ جَهْلِهِمْ بِالسُّنَّةِ،
جَهْلُهُمْ بِدَوْرِهَا فِي التَّشْرِيعِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَكَانَةَ السُّنَّةِ فِي التَّشْرِيعِ: {وَمَا
آتَاكُمُ الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) .
د - تَحْسِينُ الظَّنِّ بِالْعَقْل:
18 - عَدَّ الْعُلَمَاءُ مِنْ دَوَاعِي الْبِدْعَةِ تَحْسِينَ الظَّنِّ
بِالْعَقْل، وَيَتَأَتَّى هَذَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُبْتَدِعَ
يَعْتَمِدَ عَلَى عَقْلِهِ، وَلاَ يَعْتَمِدُ عَلَى الْوَحْيِ وَإِخْبَارِ
الْمَعْصُومِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَجُرُّهُ عَقْلُهُ
الْقَاصِرُ إِلَى أَشْيَاءَ بَعِيدَةٍ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ،
فَيَقَعُ بِذَلِكَ فِي الْخَطَأِ وَالاِبْتِدَاعِ، وَيَظُنُّ أَنَّ
عَقْلَهُ مُوَصِّلُهُ، فَإِذَا هُوَ مُهْلِكُهُ.
وَهَذَا لأَِنَّ اللَّهَ جَعَل لِلْعُقُول فِي إِدْرَاكِهَا حَدًّا
تَنْتَهِي إِلَيْهِ لاَ تَتَعَدَّاهُ، مِنْ نَاحِيَةِ الْكَمِّ وَمِنْ
نَاحِيَةِ الْكَيْفِ. أَمَّا عِلْمُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَلاَ يَتَنَاهَى،
وَالْمُتَنَاهِي لاَ يُسَاوِي مَا لاَ يَتَنَاهَى.
وَيَتَخَلَّصُ مِنْ ذَلِكَ:
(1) أَنَّ الْعَقْل مَا دَامَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ لاَ يُجْعَل
حَاكِمًا بِإِطْلاَقٍ، وَقَدْ ثَبَتَ عَلَيْهِ حَاكِمٌ بِإِطْلاَقٍ، وَهُوَ
الشَّرْعُ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَدِّمَ مَا حَقُّهُ
التَّقْدِيمُ، وَيُؤَخِّرَ مَا حَقُّهُ التَّأْخِيرُ.
(2) إِذَا وَجَدَ الإِْنْسَانُ فِي الشَّرْعِ أَخْبَارًا يَقْتَضِي
ظَاهِرُهَا خَرْقَ الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ - الَّتِي لَمْ يَسْبِقْ لَهُ
أَنْ رَآهَا أَوْ عَلِمَ بِهَا عِلْمًا صَحِيحًا -
__________
(1) سورة الحشر / 7.
(8/30)
لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ بَيْنَ
يَدَيْهِ لأَِوَّل وَهْلَةٍ الإِْنْكَارَ بِإِطْلاَقٍ، بَل أَمَامَهُ
أَحَدُ أَمْرَيْنِ:
الأَْوَّل: إِمَّا أَنْ يُصَدِّقَ بِهِ وَيَكِل الْعِلْمَ فِيهِ
لِلرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ وَالْمُتَخَصِّصِينَ فِيهِ مُتَمَثِّلاً
بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا
بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} (1)
الثَّانِي: يَتَأَوَّل عَلَى مَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ مِنَ
الآْرَاءِ بِمُقْتَضَى الظَّاهِرِ. (2) وَيَحْكُمُ هَذَا كُلَّهُ قَوْله
تَعَالَى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَْمْرِ
فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (3)
وَقَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُول وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ
فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول إِنْ كُنْتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ
تَأْوِيلاً} (4) .
هـ - اتِّبَاعُ الْمُتَشَابِهِ:
19 - قَال بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُتَشَابِهُ هُوَ مَا اخْتُلِفَ فِيهِ
مِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ، وَقَال آخَرُونَ: هُوَ مَا تَقَابَلَتْ فِيهِ
الأَْدِلَّةُ. (5) وَقَدْ نَهَى الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنِ اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهِ بِقَوْلِهِ: إِذَا رَأَيْتُمُ
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى
اللَّهُ
__________
(1) سورة آل عمران / 7.
(2) الاعتصام للشاطبي 2 / 275 - 284، وإعلام الموقعين 1 / 47 ط دار الجيل،
والموافقات 1 / 87.
(3) سورة الجاثية / 18.
(4) سورة النساء / 59.
(5) أحكام القرآن للجصاص 3 / 2 ط دار الكتب، وتفسير الطبري 3 / 173ط
الحلبي، والاعتصام 1 / 174.
(8/30)
فَاحْذَرُوهُمْ (1) وَقَدْ ذَكَرَهُمُ
الْقُرْآنُ فِي قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَل عَلَيْكَ
الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ
مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ
مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} (2) . فَلَيْسَ نَظَرُهُمْ فِي الدَّلِيل نَظَرَ
الْمُسْتَبْصِرِ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَحْتَ حُكْمِهِ، بَل نَظَرُ مَنْ
حَكَمَ بِالْهَوَى. ثُمَّ أَتَى بِالدَّلِيل كَالشَّاهِدِ لَهُ. (3)
و اتِّبَاعُ الْهَوَى:
20 - يُطْلَقُ الْهَوَى عَلَى مَيْل النَّفْسِ وَانْحِرَافِهَا نَحْوَ
الشَّيْءِ، ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَيْل الْمَذْمُومِ
وَالاِنْحِرَافِ السَّيِّئِ. (4)
وَنُسِبَتِ الْبِدَعُ إِلَى الأَْهْوَاءِ، وَسُمِّيَ أَصْحَابُهَا بِأَهْل
الأَْهْوَاءِ؛ لأَِنَّهُمْ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ فَلَمْ يَأْخُذُوا
الأَْدِلَّةَ مَأْخَذَ الاِفْتِقَارِ إِلَيْهَا وَالتَّعْوِيل عَلَيْهَا،
بَل قَدَّمُوا أَهْوَاءَهُمْ وَاعْتَمَدُوا عَلَى آرَائِهِمْ، ثُمَّ
جَعَلُوا الأَْدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ مَنْظُورًا فِيهَا مِنْ وَرَاءِ
ذَلِكَ.
21 - مَدَاخِل هَذِهِ الأَْهْوَاءِ (5) :
أ - اتِّبَاعُ الْعَادَاتِ وَالآْبَاءِ وَجَعْلُهَا دِينًا. قَال
__________
(1) حديث: " إذا رأيتم الذين يتبعون ماتشابه منه. . . " أخرجه البخاري
(الفتح 8 / 209 ط السلفية) ومسلم (4 / 2053 ط الحلبي) واللفظ لمسلم.
(2) سورة آل عمران / 7.
(3) الاعتصام 1 / 175.
(4) المصباح في المادة.
(5) الاعتصام للشاطبي 2 / 293 - 313، واقتضاء الصراط المستقيم ص 14 - 35.
(8/31)
تَعَالَى فِي شَأْنِ هَؤُلاَءِ: {إِنَّا
وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ}
(1)
فَقَال الْحَقُّ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ {قَال أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ
بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} (2)
ب - رَأْيُ بَعْضِ الْمُقَلِّدِينَ فِي أَئِمَّتِهِمْ وَالتَّعَصُّبُ
لَهُمْ، فَقَدْ يُؤَدِّي هَذَا التَّغَالِي فِي التَّقْلِيدِ إِلَى
إِنْكَارِ بَعْضِ النُّصُوصِ وَالأَْدِلَّةِ أَوْ تَأْوِيلِهَا، وَعَدِّ
مَنْ يُخَالِفُهُمْ مُفَارِقًا لِلْجَمَاعَةِ.
ج - التَّصَوُّفُ الْفَاسِدُ وَأَخْذُ مَا نُقِل عَنِ الْمُتَصَوِّفَةِ
مِنَ الأَْحْوَال الْجَارِيَةِ عَلَيْهِمْ، أَوِ الأَْقْوَال الصَّادِرَةِ
عَنْهُمْ دِينًا وَشَرِيعَةً، وَإِنْ كَانَتْ مُخَالِفَةً لِلنُّصُوصِ
الشَّرْعِيَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
د - التَّحْسِينُ وَالتَّقْبِيحُ الْعَقْلِيَّانِ. فَإِنَّ مَحْصُول هَذَا
الْمَذْهَبِ تَحْكِيمُ عُقُول الرِّجَال دُونَ الشَّرْعِ، وَهُوَ أَصْلٌ
مِنَ الأُْصُول الَّتِي بَنَى عَلَيْهَا أَهْل الاِبْتِدَاعِ فِي الدِّينِ،
بِحَيْثُ إِنَّ الشَّرْعَ إِنْ وَافَقَ آرَاءَهُمْ قَبِلُوهُ وَإِلاَّ
رُدَّ.
هـ - الْعَمَل بِالأَْحْلاَمِ. فَإِنَّ الرُّؤْيَا قَدْ تَكُونُ مِنَ
الشَّيْطَانِ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ
أَخْلاَطٍ مُهْتَاجَةٍ. فَمَتَى تَتَعَيَّنُ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ
النَّقِيَّةُ حَتَّى يُحْكَمَ بِهَا؟ ،.
__________
(1) سورة الزخرف / 22.
(2) سورة الزخرف / 24.
(8/31)
أَنْوَاعُ الْبِدْعَةِ:
تَنْقَسِمُ الْبِدْعَةُ مِنْ حَيْثُ قُرْبُهَا مِنَ الأَْدِلَّةِ أَوْ
بُعْدُهَا عَنْهَا إِلَى حَقِيقِيَّةٍ وَإِضَافِيَّةٍ.
الْبِدْعَةُ الْحَقِيقِيَّةُ:
22 - هِيَ الَّتِي لَمْ يَدُل عَلَيْهَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، لاَ مِنْ
كِتَابٍ وَلاَ سُنَّةٍ وَلاَ إِجْمَاعٍ وَلاَ اسْتِدْلاَلٍ مُعْتَبَرٍ
عِنْدَ أَهْل الْعِلْمِ، لاَ فِي الْجُمْلَةِ وَلاَ فِي التَّفْصِيل،
وَلِهَذَا سُمِّيَتْ بِدْعَةً حَقِيقِيَّةً؛ لأَِنَّهَا شَيْءٌ مُخْتَرَعٌ
عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ، وَإِنْ كَانَ الْمُبْتَدِعُ يَأْبَى أَنْ
يُنْسَبَ إِلَيْهِ الْخُرُوجُ عَنِ الشَّرْعِ؛ إِذْ هُوَ مُدَّعٍ أَنَّهُ
دَاخِلٌ بِمَا اسْتَنْبَطَ تَحْتَ مُقْتَضَى الأَْدِلَّةِ، وَلَكِنْ ثَبَتَ
أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى غَيْرُ صَحِيحَةٍ، لاَ فِي نَفْسِ الأَْمْرِ وَلاَ
بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، أَمَّا بِحَسَبِ نَفْسِ الأَْمْرِ فَبِالْعَرْضِ،
وَأَمَّا بِحَسَبِ الظَّاهِرِ فَإِنَّ أَدِلَّتَهُ شُبَهٌ وَلَيْسَتْ
بِأَدِلَّةٍ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا: (1) التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ
تَعَالَى بِالرَّهْبَانِيَّةِ وَتَرْكِ الزَّوَاجِ مَعَ وُجُودِ الدَّاعِي
إِلَيْهِ وَفَقْدِ الْمَانِعِ الشَّرْعِيِّ، كَرَهْبَانِيَّةِ النَّصَارَى
الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا
كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} (2)
فَهَذِهِ كَانَتْ قَبْل الإِْسْلاَمِ، أَمَّا فِي الإِْسْلاَمِ فَقَدْ
نُسِخَتْ فِي شَرِيعَتِنَا بِمِثْل قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي. (3)
__________
(1) الاعتصام / 1 / 232.
(2) سورة الحديد / 27.
(3) حديث: " فمن رغب. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 104 ط السلفية) .
(8/32)
وَمِنْهَا: أَنْ يَفْعَل الْمُسْلِمُ مِثْل
مَا يَفْعَل أَهْل الْهِنْدِ فِي تَعْذِيبِ النَّفْسِ بِأَنْوَاعِ
الْعَذَابِ الشَّنِيعِ وَالْقَتْل بِالأَْصْنَافِ الَّتِي تَفْزَعُ مِنْهَا
الْقُلُوبُ وَتَقْشَعِرُّ مِنْهَا الْجُلُودُ، مِثْل الإِْحْرَاقِ
بِالنَّارِ عَلَى جِهَةِ اسْتِعْجَال الْمَوْتِ لِنَيْل الدَّرَجَاتِ
الْعُلْيَا وَالْقُرْبَى مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي زَعْمِهِمْ.
الْبِدْعَةُ الإِْضَافِيَّةُ:
23 - وَهِيَ الَّتِي لَهَا شَائِبَتَانِ: إِحْدَاهُمَا لَهَا مِنَ
الأَْدِلَّةِ مُتَعَلِّقٌ، فَلاَ تَكُونُ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ بِدْعَةً،
وَالثَّانِيَةُ لَيْسَ لَهَا مُتَعَلِّقٌ إِلاَّ مِثْل مَا لِلْبِدْعَةِ
الْحَقِيقِيَّةِ. وَلَمَّا كَانَ الْعَمَل لَهُ شَائِبَتَانِ، وَلَمْ
يَتَخَلَّصْ لأَِحَدٍ الطَّرَفَيْنِ، وُضِعَتْ لَهُ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ؛
لأَِنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ سُنَّةٌ
لاِسْتِنَادِهَا إِلَى دَلِيلٍ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجِهَةِ
الأُْخْرَى بِدْعَةٌ لاِسْتِنَادِهَا إِلَى شُبْهَةٍ لاَ إِلَى دَلِيلٍ،
أَوْ لأَِنَّهَا غَيْرُ مُسْتَنِدَةٍ إِلَى شَيْءٍ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ
الْبِدَعِ هُوَ مَثَارُ الْخِلاَفِ بَيْنَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْبِدَعِ
وَالسُّنَنِ. وَلَهُ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: صَلاَةُ الرَّغَائِبِ،
وَهِيَ: اثْنَتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ الأُْولَى
مِنْ رَجَبٍ بِكَيْفِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَقَدْ قَال الْعُلَمَاءُ:
إِنَّهَا بِدْعَةٌ قَبِيحَةٌ مُنْكَرَةٌ. وَكَذَا صَلاَةُ لَيْلَةِ
النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَهِيَ: مِائَةُ رَكْعَةٍ بِكَيْفِيَّةٍ
خَاصَّةٍ. وَصَلاَةُ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ.
وَوَجْهُ كَوْنِهَا بِدْعَةً إِضَافِيَّةً: أَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ،
بِاعْتِبَارِ النَّظَرِ إِلَى أَصْل الصَّلاَةِ، لِحَدِيثٍ رَوَاهُ
(8/32)
الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَْوْسَطِ
الصَّلاَةُ خَيْرٌ مَوْضُوعٌ (1) وَغَيْرُ مَشْرُوعَةٍ بِاعْتِبَارِ مَا
عَرَضَ لَهَا مِنَ الْتِزَامِ الْوَقْتِ الْمَخْصُوصِ وَالْكَيْفِيَّةِ
الْمَخْصُوصَةِ. فَهِيَ مَشْرُوعَةٌ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهَا، مُبْتَدَعَةٌ
بِاعْتِبَارِ مَا عَرَضَ لَهَا. (2)
الْبِدَعُ الْمُكَفِّرَةُ وَغَيْرُ الْمُكَفِّرَةِ:
24 - الْبِدَعُ مُتَفَاوِتَةٌ، فَلاَ يَصِحُّ أَنْ يُقَال: إِنَّهَا عَلَى
حُكْمٍ وَاحِدٍ هُوَ الْكَرَاهَةُ فَقَطْ، أَوِ التَّحْرِيمُ فَقَطْ.
فَقَدْ وُجِدَ أَنَّهَا تَخْتَلِفُ فِي أَحْكَامِهَا، فَمِنْهَا مَا هُوَ
كُفْرٌ صُرَاحٌ، كَبِدْعَةِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي نَبَّهَ الْقُرْآنُ
عَلَيْهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ
الْحَرْثِ وَالأَْنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ
وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} (3) الآْيَةَ، وقَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا مَا
فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَْنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى
أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} (4) وقَوْله
تَعَالَى: {مَا جَعَل اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ
وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ} (5) .
__________
(1) حديث: " الصلاة خير موضوع " أخرجه ابن حبان (ص 52 - موارد الظمآن ط
السلفية) .
(2) ابن عابدين 1 / 461، والاعتصام للشاطبي 1 / 232، والمجموع للنووي 4 /
56، إنكار البدع والحوادث ص 63 - 67.
(3) سورة الأنعام / 136.
(4) سورة الأنعام / 139.
(5) المائدة / 103، وانظر القرطبي 7 / 335 ط دار الكتب، والفخر الرازي 12 /
109، 13 / 204 ط عبد الرحمن محمد.
(8/33)
وَكَذَلِكَ بِدْعَةُ الْمُنَافِقِينَ
الَّذِينَ اتَّخَذُوا الدِّينَ ذَرِيعَةً لِحِفْظِ النَّفْسِ وَالْمَال
وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي
قُلُوبِهِمْ} (1) فَهَذَا وَأَضْرَابُهُ لاَ يَشُكُّ أَحَدٌ فِي أَنَّهُ
كُفْرٌ صُرَاحٌ، لاِبْتِدَاعِهِ أَشْيَاءَ أَنْكَرَتْهَا النُّصُوصُ
وَتَوَعَّدَتْ عَلَيْهَا.
وَمِنْهَا مَا هُوَ كَبِيرَةٌ وَلَيْسَ بِكُفْرٍ، أَوْ يُخْتَلَفُ فِيهِ
هَل هُوَ كُفْرٌ أَمْ لاَ؟ كَبِدَعِ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ. وَمِنْهَا مَا
هُوَ مَعْصِيَةٌ وَلَيْسَ بِكُفْرٍ اتِّفَاقًا، كَبِدْعَةِ التَّبَتُّل
وَالصِّيَامِ قَائِمًا فِي الشَّمْسِ، وَالْخِصَاءِ بِقَطْعِ شَهْوَةِ
الْجِمَاعِ، لِلأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ،
وَقَدْ سَبَقَ بَعْضٌ مِنْهَا وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (2) .
تَقْسِيمُ الْبِدَعِ غَيْرِ الْمُكَفِّرَةِ إِلَى كَبِيرَةٍ وَصَغِيرَةٍ:
25 - إِنَّ الْمَعَاصِيَ مِنْهَا صَغَائِرُ وَمِنْهَا كَبَائِرُ،
وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِكَوْنِهَا وَاقِعَةً فِي الضَّرُورِيَّاتِ أَوِ
الْحَاجِيَّاتِ أَوِ التَّحْسِينَاتِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي الضَّرُورِيَّاتِ
فَهِيَ أَعْظَمُ الْكَبَائِرِ، وَإِنْ وَقَعَتْ فِي التَّحْسِينَاتِ فَهِيَ
أَدْنَى رُتْبَةً بِلاَ إِشْكَالٍ، وَإِنْ وَقَعَتْ فِي الْحَاجِيَّاتِ
فَمُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ الرُّتْبَتَيْنِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ
يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِْثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ} (3)
وَقَوْلِهِ: {إِنْ تَجْتَنِبُوا
__________
(1) سورة آل عمران / 167.
(2) سورة النساء / 29، وانظر أحكام أهل الذمة 2 / 673.
(3) سورة النجم / 32.
(8/33)
كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ
عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا} (1) ، وَإِذَا
كَانَتْ لَيْسَتْ رُتْبَةً وَاحِدَةً فَالْبِدَعُ مِنْ جُمْلَةِ
الْمَعَاصِي، وَقَدْ ثَبَتَ التَّفَاوُتُ فِي الْمَعَاصِي، فَكَذَلِكَ
يُتَصَوَّرُ مِثْلُهُ فِي الْبِدَعِ، فَمِنْهَا مَا يَقَعُ فِي
الضَّرُورِيَّاتِ، وَمِنْهَا مَا يَقَعُ فِي رُتْبَةِ الْحَاجِيَّاتِ،
وَمِنْهَا مَا يَقَعُ فِي رُتْبَةِ التَّحْسِينَاتِ. وَمَا يَقَعُ فِي
رُتْبَةِ الضَّرُورِيَّاتِ، مِنْهُ مَا يَقَعُ فِي الدِّينِ، أَوِ
النَّفْسِ، أَوِ النَّسْل، أَوِ الْعَقْل، أَوِ الْمَال. (2)
فَمِثَال وُقُوعِهِ فِي الدِّينِ: اخْتِرَاعُ الْكُفَّارِ وَتَغْيِيرُهُمْ
مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: {مَا جَعَل
اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ} (3)
وَحَاصِل مَا فِي الآْيَةِ تَحْرِيمُ مَا أَحَل اللَّهُ عَلَى نِيَّةِ
التَّقَرُّبِ بِهِ إِلَيْهِ، مَعَ كَوْنِهِ حَلاَلاً بِحُكْمِ الشَّرِيعَةِ
الْمُتَقَدِّمَةِ.
وَمِثَال مَا يَقَعُ فِي النَّفْسِ: مَا عَلَيْهِ بَعْضُ نِحَل الْهِنْدِ،
مِنْ تَعْذِيبِهَا أَنْفُسَهَا بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ وَاسْتِعْجَال
الْمَوْتِ، لِنَيْل الدَّرَجَاتِ الْعُلَى عَلَى زَعْمِهِمْ.
وَمِثَال مَا يَقَعُ فِي النَّسْل: مَا كَانَ مِنْ أَنْكِحَةِ
الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ مَعْهُودَةً وَمَعْمُولاً بِهَا
وَمُتَّخَذَةً
__________
(1) سورة النساء / 31.
(2) الاعتصام للشاطبي 2 / 31، وقواعد الأحكام 1 / 19، وابن عابدين 3 / 309،
310.
(3) سورة المائدة / 103.
(8/34)
كَالدِّينِ، وَهِيَ لاَ عَهْدَ بِهَا فِي
شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلاَ غَيْرِهِ، بَل كَانَتْ
مِنْ جُمْلَةِ مَا اخْتَرَعُوهُ. مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَتْهُ عَائِشَةُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي حَدِيثِ أَنْكِحَةِ الْجَاهِلِيَّةِ. (1)
وَمِثَال مَا يَقَعُ فِي الْعَقْل: مَا يُتَنَاوَل مِنَ الْمُسْكِرَاتِ
وَالْمُخَدِّرَاتِ بِدَعْوَى تَحْصِيل النَّفْعِ وَالتَّقَوِّي عَلَى
الْقِيَامِ بِبَعْضِ الْوَاجِبَاتِ الْمَشْرُوعَةِ فِي ذَاتِهَا.
وَمِثَال مَا يَقَعُ فِي الْمَال: قَوْلُهُمْ {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْل
الرِّبَا} (2) فَإِنَّهُمُ احْتَجُّوا بِقِيَاسٍ فَاسِدٍ. (3) وَكَذَلِكَ
سَائِرُ مَا يُحْدِثُ النَّاسُ بَيْنَهُمْ مِنَ الْبُيُوعِ الْمَبْنِيَّةِ
عَلَى الْمُخَاطَرَةِ وَالْغَرَرِ.
26 - هَذَا التَّقْسِيمُ مِنْ حَيْثُ اعْتِبَارُ الْبِدْعَةِ كَبِيرَةً
أَوْ صَغِيرَةً مَشْرُوطٌ بِشُرُوطٍ:
الأَْوَّل: أَلاَّ يُدَاوَمَ عَلَيْهَا، فَإِنَّ الصَّغِيرَةَ مِنَ
الْمَعَاصِي لِمَنْ دَاوَمَ عَلَيْهَا تَكْبُرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ؛
لأَِنَّ ذَلِكَ نَاشِئٌ عَنِ الإِْصْرَارِ عَلَيْهَا، وَالإِْصْرَارُ عَلَى
الصَّغِيرَةِ يُصَيِّرُهَا كَبِيرَةً، وَلِذَلِكَ قَالُوا: لاَ صَغِيرَةَ
مَعَ إِصْرَارٍ، وَلاَ كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ، فَكَذَلِكَ
الْبِدْعَةُ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ.
الثَّانِي: أَلاَّ يَدْعُوَ إِلَيْهَا. فَإِذَا ابْتُلِيَ إِنْسَانٌ
بِبِدْعَةٍ فَدَعَا إِلَيْهَا تَحَمَّل وِزْرَهَا وَأَوْزَارَ الآْخَرِينَ
مَعَهُ، مِصْدَاقًا لِقَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: مَنْ سَنَّ
__________
(1) حديث عائشة في أنكحة الجاهلية أخرجه البخاري (الفتح 9 / 182ـ 183 ط
السلفية) .
(2) سورة البقرة / 276
(3) الاعتصام للشاطبي 2 / 31 - 59.
(8/34)
سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا
وَوِزْرُ مَنْ عَمِل بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. (1)
الثَّالِثُ: أَلاَّ تُفْعَل فِي الأَْمَاكِنِ الْعَامَّةِ الَّتِي
يَجْتَمِعُ فِيهَا النَّاسُ، أَوِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا
السُّنَنُ، وَتَظْهَرُ فِيهَا أَعْلاَمُ الشَّرِيعَةِ، وَأَلاَّ يَكُونَ
مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ أَوْ يَحْسُنُ بِهِ الظَّنُّ، فَإِنَّ الْعَوَامَّ
يَقْتَدُونَ - بِغَيْرِ نَظَرٍ - بِالْمَوْثُوقِ بِهِمْ أَوْ بِمَنْ
يُحْسِنُونَ الظَّنَّ بِهِ، فَتَعُمُّ الْبَلْوَى وَيَسْهُل عَلَى النَّاسِ
ارْتِكَابُهَا. (2)
تَقْسِيمُ الْمُبْتَدِعِ إِلَى دَاعِيَةٍ لِبِدْعَتِهِ وَغَيْرِ دَاعِيَةٍ:
27 - الْمَنْسُوبُ إِلَى الْبِدْعَةِ فِي الْعُرْفِ لاَ يَخْلُو أَنْ
يَكُونَ مُجْتَهِدًا فِيهَا أَوْ مُقَلِّدًا، وَالْمُقَلِّدُ إِمَّا أَنْ
يَكُونَ مُقَلِّدًا مَعَ الإِْقْرَارِ بِالدَّلِيل الَّذِي زَعَمَهُ
الْمُجْتَهِدُ الْمُبْتَدِعُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقَلِّدًا مِنْ
غَيْرِ نَظَرٍ، كَالْعَامِّيِّ الصِّرْفِ الَّذِي حَسَّنَ الظَّنَّ
بِصَاحِبِ الْبِدْعَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ دَلِيلٌ عَلَى التَّفْصِيل
يَتَعَلَّقُ بِهِ، إِلاَّ تَحْسِينَ الظَّنِّ بِالْمُبْتَدِعِ خَاصَّةً.
وَهَذَا الْقِسْمُ كَثِيرٌ فِي الْعَوَامِّ، فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ
الْمُبْتَدِعَ آثِمٌ، فَلَيْسَ الإِْثْمُ الْوَاقِعُ عَلَيْهِ عَلَى
رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ. بَل هُوَ عَلَى مَرَاتِبَ مُخْتَلِفَةٍ، مِنْ جِهَةِ
كَوْنِ صَاحِبِ الْبِدْعَةِ دَاعِيًا إِلَيْهَا أَمْ لاَ؛ لأَِنَّ
الزَّيْغَ فِي قَلْبِ الدَّاعِي أَمْكَنُ مِنْهُ فِي قَلْبِ الْمُقَلِّدِ؛
وَلأَِنَّهُ أَوَّل مَنْ
__________
(1) حديث: " من سن سنة سيئة. . " سبق تخريجه ف / 2.
(2) الاعتصام 2 / 57، وابن عابدين 2 / 140، والزواجر 1 / 4، وقواعد الأحكام
لابن عبد السلام 1 / 22ط الاستقامة.
(8/35)
سَنَّ تِلْكَ السُّنَّةَ؛ وَلأَِنَّهُ
يَتَحَمَّل وِزْرَ مَنْ تَبِعَهُ، مِصْدَاقًا لِحَدِيثِ: مَنْ سَنَّ
سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِل بِهَا إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ. كَمَا يَخْتَلِفُ الإِْثْمُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى
الإِْسْرَارِ وَالإِْعْلاَنِ؛ لأَِنَّ الْمُسِرَّ ضَرَرُهُ مَقْصُورٌ
عَلَيْهِ لاَ يَتَعَدَّاهُ، بِخِلاَفِ الْمُعْلِنِ.
كَمَا يَخْتَلِفُ كَذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الإِْصْرَارِ عَلَيْهَا أَوْ
عَدَمِهِ، وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا حَقِيقِيَّةً أَوْ إِضَافِيَّةً، وَمِنْ
جِهَةِ كَوْنِهَا كُفْرًا أَوْ غَيْرَ كُفْرٍ. (1)
رِوَايَةُ الْمُبْتَدِعِ لِلْحَدِيثِ:
28 - رَدَّ الْعُلَمَاءُ رِوَايَةَ مَنْ كَفَرَ بِبِدْعَتِهِ، وَلَمْ
يَحْتَجُّوا بِهِ فِي صِحَّةِ الرِّوَايَةِ. وَلَكِنَّهُمْ شَرَطُوا
لِلْكُفْرِ بِالْبِدْعَةِ، أَنْ يُنْكِرَ الْمُبْتَدِعُ أَمْرًا
مُتَوَاتِرًا مِنَ الشَّرْعِ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ.
أَمَّا مَنْ لَمْ يَكْفُرْ بِبِدْعَتِهِ، فَلِلْعُلَمَاءِ فِي رِوَايَتِهِ
ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: لاَ يُحْتَجُّ بِرِوَايَتِهِ مُطْلَقًا، وَهُوَ رَأْيُ
الإِْمَامِ مَالِكٍ؛ لأَِنَّ فِي الرِّوَايَةِ عَنِ الْمُبْتَدِعِ
تَرْوِيجًا لأَِمْرِهِ وَتَنْوِيهًا بِذِكْرِهِ؛ وَلأَِنَّهُ أَصْبَحَ
فَاسِقًا بِبِدْعَتِهِ.
الثَّانِي: يُحْتَجُّ بِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَسْتَحِل الْكَذِبَ
فِي نُصْرَةِ مَذْهَبِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ دَاعِيَةً أَمْ لاَ، وَهُوَ
قَوْل الشَّافِعِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ وَالثَّوْرِيِّ.
__________
(1) الاعتصام 1 / 126، 129، 130، وابن عابدين 3 / 297، 5 / 446 والاعتصام 1
/ 129، 130.
(8/35)
الثَّالِثُ: قِيل يُحْتَجُّ بِهِ إِنْ لَمْ
يَكُنْ دَاعِيًا إِلَى بِدْعَتِهِ، وَلاَ يُحْتَجُّ بِهِ إِنْ كَانَ
دَاعِيَةً إِلَيْهَا.
قَال النَّوَوِيُّ وَالسُّيُوطِيُّ: هَذَا الْقَوْل هُوَ الأَْعْدَل
وَالأَْظْهَرُ، وَهُوَ قَوْل الْكَثِيرِ أَوِ الأَْكْثَرِ، وَيُؤَيِّدُهُ
احْتِجَاجُ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِكَثِيرٍ مِنَ
الْمُبْتَدِعَةِ غَيْرِ الدُّعَاةِ.
شَهَادَةُ الْمُبْتَدِعِ:
29 - رَدَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ شَهَادَةَ الْمُبْتَدِعِ،
سَوَاءٌ أَكَفَرَ بِبِدْعَتِهِ أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ دَاعِيًا لَهَا
أَمْ لاَ. وَهُوَ رَأْيُ شَرِيكٍ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدَ وَأَبِي
ثَوْرٍ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُبْتَدِعَ فَاسِقٌ تُرَدُّ
شَهَادَتُهُ لِلآْيَةِ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (1)
وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}
(2) وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ:
تُقْبَل شَهَادَةُ الْمُبْتَدِعِ مَا لَمْ يَكْفُرْ بِبِدْعَتِهِ،
كَمُنْكِرِ صِفَاتِ اللَّهِ وَخَلْقِهِ لأَِفْعَال الْعِبَادِ؛ لأَِنَّهُمْ
يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ مُصِيبُونَ فِي ذَلِكَ لِمَا قَامَ عِنْدَهُمْ
مِنَ الأَْدِلَّةِ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَرْجُوحِ عِنْدَهُمْ:
لاَ تُقْبَل شَهَادَةُ الْمُبْتَدِعِ الدَّاعِي إِلَى الْبِدْعَةِ (3) .
__________
(1) سورة الطلاق / 2.
(2) سورة الحجرات / 6.
(3) تدريب الراوي شرح التقريب للنووي ص 216، 217، ط المكتبة العلمية،
والكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص 125 - 132، وقواعد التحديث 194ـ
195 ط عيسى الحلبي، والجمل شرح المنهج 5 / 385، 386، والمغني 8 / 166ط
السعودية، وحاشية الدسوقي 4 / 165ط دار الفكر، والشرح الصغير 4 / 240 ط
المعارف، والمجموع للنووي 4 / 254 ط المنيرية والسلفية.
(8/36)
الصَّلاَةُ خَلْفَ الْمُبْتَدِعِ
30 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ الصَّلاَةِ خَلْفَ الْمُبْتَدِعِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رَأْيٌ
لِلْمَالِكِيَّةِ إِلَى جَوَازِ الصَّلاَةِ خَلْفَ الْمُبْتَدِعِ مَعَ
الْكَرَاهَةِ مَا لَمْ يَكْفُرْ بِبِدْعَتِهِ، فَإِنْ كَفَرَ بِبِدْعَتِهِ
فَلاَ تَجُوزُ الصَّلاَةُ خَلْفَهُ. وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ
مِنْهَا: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلُّوا خَلْفَ مَنْ
قَال لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ (1) وَقَوْلُهُ: صَلُّوا خَلْفَ كُل بَرٍّ
وَفَاجِرٍ (2) .
وَمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ
يُصَلِّي مَعَ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ زَمَنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ وَهُمْ يَقْتَتِلُونَ، فَقِيل لَهُ: أَتُصَلِّي مَعَ هَؤُلاَءِ
وَمَعَ هَؤُلاَءِ، وَبَعْضُهُمْ يَقْتُل بَعْضًا؟ فَقَال: مَنْ قَال حَيَّ
عَلَى الصَّلاَةِ أَجَبْتُهُ، وَمَنْ قَال: حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ
أَجَبْتُهُ. وَمَنْ قَال: حَيَّ عَلَى قَتْل أَخِيكَ الْمُسْلِمِ وَأَخْذِ
مَالِهِ قُلْتُ: لاَ.
وَلأَِنَّ الْمُبْتَدِعَ الْمَذْكُورَ تَصِحُّ صَلاَتُهُ، فَصَحَّ
__________
(1) حديث: " صلوا خلف من قال لا إله إلا الله " أخرجه الدارقطني (2 / 56 -
ط دار المحاسن) من حديث ابن عمر، وقال ابن حجر: عثمان بن عبد الرحمن - يعني
الذي في إسناده - كذبه يحيى بن معين (التلخيص 2 / 35 ـ ط شركة الطباعة
الفنية) .
(2) حديث: " صلوا خلف كل بر وفاجر ". أخرجه أبو داود (1 / 398 ـ ط عزت عبيد
دعاس) والدارقطني " 2 / 56 ط دار المحاسن) واللفظ له، وقال ابن حجر، منقطع
(التخليص 2 / 35 ط شركة الطباعة الفنية) .
(8/36)
الاِئْتِمَامُ بِهِ كَغَيْرِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى خَلْفَ
الْمُبْتَدِعِ الَّذِي يُعْلِنُ بِدْعَتَهُ وَيَدْعُو إِلَيْهَا أَعَادَ
صَلاَتَهُ نَدْبًا، وَأَمَّا مَنْ صَلَّى خَلْفَ مُبْتَدِعٍ يَسْتَتِرُ
بِبِدْعَتِهِ فَلاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِ. (1) وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ رَجُلاً،
وَلاَ فَاجِرٌ مُؤْمِنًا إِلاَّ أَنْ يَقْهَرَهُ بِسُلْطَانٍ، أَوْ يَخَافَ
سَوْطَهُ أَوْ سَيْفَهُ. (2)
وِلاَيَةُ الْمُبْتَدِعِ:
31 - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ أَصْحَابِ
الْوِلاَيَاتِ الْعَامَّةِ - كَالإِْمَامِ الأَْعْظَمِ الْخَلِيفَةِ
وَأُمَرَاءِ الْوِلاَيَاتِ وَالْقُضَاةِ وَغَيْرِهِمْ - الْعَدَالَةَ،
وَأَلاَّ يَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ الأَْهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، وَذَلِكَ
لِتَكُونَ الْعَدَالَةُ وَازِعَةً عَنِ التَّقْصِيرِ فِي جَلْبِ
الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ؛ وَحَتَّى لاَ يُخْرِجَهُ الْهَوَى
مِنَ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِل، وَقَدْ وَرَدَ: حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي
وَيُصِمُّ. (3) وَلَكِنَّ وِلاَيَةَ الْمُتَغَلِّبِ عَلَى
__________
(1) المغني لابن قدامة 2 / 185، ومغني المحتاج 1 / 242، وفتح القدير 1 /
304، وحاشية ابن عابدين 1 / 376، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 329.
(2) حديث: " لا تؤمن امرأة رجلا. . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 343 ـ ط
الحلبي) وفي الزوائد: إسناده ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان وعبد الله بن
محمد العدوي.
(3) قواعد الأحكام في مصالح الأنام 2 / 75، ونخبة الفكر 1 / 159، ومغني
المحتاج 4 / 130، 375، وحاشية ابن عابدين 4 / 298، والمغني لابن قدامة 9 /
39، والأحكام السلطانية للماوردي ص 9.
(8/37)
الإِْمَامَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ
الْوِلاَيَاتِ تَنْعَقِدُ، وَتَجِبُ طَاعَتُهُ فِيمَا يَجُوزُ مِنْ
أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَقَضَائِهِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَإِنْ كَانَ
مِنْ أَهْل الْبِدَعِ. وَالأَْهْوَاءِ، مَا لَمْ يَكْفُرْ بِبِدْعَتِهِ؛
دَرْءًا لِلْفِتْنَةِ، وَصَوْنًا لِشَمْل الْمُسْلِمِينَ، وَاحْتِفَاظًا
بِوَحْدَةِ الْكَلِمَةِ. (1)
الصَّلاَةُ عَلَى الْمُبْتَدِعِ:
32 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الصَّلاَةِ عَلَى الْمُبْتَدِعِ
الْمَيِّتِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى وُجُوبِ الصَّلاَةِ
عَلَى الْمُبْتَدِعِ الَّذِي لَمْ يَكْفُرْ بِبِدْعَتِهِ، لِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلُّوا عَلَى مَنْ قَال
لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. (2)
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَرَوْنَ كَرَاهِيَةَ صَلاَةِ أَصْحَابِ
الْفَضْل عَلَى الْمُبْتَدِعِ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ رَدْعًا وَزَجْرًا
لِغَيْرِهِمْ عَنْ مِثْل حَالِهِمْ؛ وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِرَجُلٍ قَتَل نَفْسَهُ لَمْ يُصَل عَلَيْهِ.
(3)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى مَنْعِ الصَّلاَةِ عَلَى الْمُبْتَدِعِ؛
لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ الصَّلاَةَ
عَلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ وَقَاتِل نَفْسِهِ (4) وَهُمَا أَقَل جُرْمًا مِنَ
الْمُبْتَدِعِ.
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 132، والأحكام السلطانية للماوردي ص 33.
(2) حديث: " صلوا على من قال لا إله إلا الله " سبق تخريجه ف / 30.
(3) حديث: " أتي برجل قتل نفسه فلم يصل عليه " أخرجه مسلم (2 / 672 ط
الحلبي) .
(4) حديث " ترك الصلاة على صاحب الدين " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 467 ط
السلفية) .
(8/37)
تَوْبَةُ الْمُبْتَدِعِ:
33 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَبُول تَوْبَةِ الْمُبْتَدِعِ
الْمُكَفَّرِ بِبِدْعَتِهِ، فَقَال جُمْهُورُ كُلٍّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِقَبُول
تَوْبَتِهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ
يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (1) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِل النَّاسَ حَتَّى
يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا فَقَدْ عَصَمُوا
مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ
عَلَى اللَّهِ (2)
وَمِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ مَنْ يَرَى أَنَّ تَوْبَةَ الْمُبْتَدِعِ لاَ تُقْبَل
إِذَا كَانَ مِمَّنْ يُظْهِرُ الإِْسْلاَمَ وَيُبْطِنُ الْكُفْرَ،
كَالْمُنَافِقِ وَالزِّنْدِيقِ وَالْبَاطِنِيِّ؛ لأَِنَّ تَوْبَتَهُ
صَدَرَتْ عَنْ خَوْفٍ؛ وَلأَِنَّهُ لاَ تَظْهَرُ مِنْهُ عَلاَمَةٌ
تُبَيِّنُ صِدْقَ تَوْبَتِهِ، حَيْثُ كَانَ مُظْهِرًا لِلإِْسْلاَمِ
مُسِرًّا لِلْكُفْرِ، فَإِذَا أَظْهَرَ التَّوْبَةَ لَمْ يَزِدْ عَلَى مَا
كَانَ مِنْهُ قَبْلَهَا، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِبَعْضِ الأَْحَادِيثِ،
وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَيَخْرُجُ فِي
أُمَّتِي أَقْوَامٌ تَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الأَْهْوَاءُ، كَمَا يَتَجَارَى
الْكَلْبُ بِصَاحِبِهِ، لاَ يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلاَ مِفْصَلٌ إِلاَّ
دَخَلَهُ. (3)
__________
(1) سورة الأنفال / 38.
(2) حديث: " أمرت أن أقاتل الناس. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 112 ـ
ط السلفية) ومسلم (1 / 53 ـ ط الحلبي) .
(3) حديث: " سيخرج في أمتي أقوام. . " أخرجه أحمد (4 / 102 ـ ط الميمنية)
وأبو داود (5 / 5 ـ ط عزت عبيد دعاس) وحسنه ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف
(2 / 83 ـ ط دار الكتاب العربي) .
(8/38)
وَهَذَا الْخِلاَفُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ
فِي قَبُول تَوْبَةِ الْمُبْتَدِعِ يَنْحَصِرُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ
بِأَحْكَامِ الدُّنْيَا فِي حَقِّهِ، أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِقَبُول
اللَّهِ تَعَالَى لِتَوْبَتِهِ وَغُفْرَانِهِ لِذَنْبِهِ إِذَا أَخْلَصَ
وَصَدَقَ فِي تَوْبَتِهِ فَلاَ خِلاَفَ فِيهِ. (1)
مَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ تُجَاهَ الْبِدْعَةِ:
34 - يَنْبَغِي عَلَى الْمُسْلِمِينَ تُجَاهَ الْبِدْعَةِ أَشْيَاءُ
لِمَنْعِ الْوُقُوعِ فِيهَا - مِنْهَا:
أ - تَعَهُّدُ الْقُرْآنِ وَحِفْظُهُ وَتَعْلِيمُهُ وَبَيَانُ أَحْكَامِهِ،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ مَا نُزِّل إِلَيْهِمْ} (2) وَلِقَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ
وَعَلَّمَهُ (3) وَفِي رِوَايَةٍ أَفْضَلُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ
وَعَلَّمَهُ (4) وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
تَعَاهَدُوا الْقُرْآنَ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ
تَفَصِّيًا مِنَ الإِْبِل فِي عُقُلِهَا (5) لأَِنَّ فِي
__________
(1) الاعتصام 2 / 230، والأم للإمام الشافعي 6 / 165، والمغني لابن قدامة 8
/ 126، ومغني المحتاج 4 / 140 والجمل شرح المنهج 5 / 126، وحاشية ابن
عابدين 3 / 297.
(2) سورة النحل / 44.
(3) حديث: " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 74 ط
السلفية) .
(4) حديث: " أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 74 ط
السلفية) .
(5) حديث: " تعاهدوا القرآن، فوالذي نفسي بيده. . " أخرجه البخاري (الفتح 9
/ 79 ط السلفية) .
(8/38)
تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَبَيَانِ
أَحْكَامِهِ قَطْعَ الطَّرِيقِ عَلَى الْمُبْتَدِعِينَ بِإِظْهَارِ
الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.
ب - إِظْهَارُ السُّنَّةِ وَالتَّعْرِيفُ بِهَا: لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}
(1) وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا
قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ
أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَل ضَلاَلاً
مُبِينًا} . (2)
وَعَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَضَّرَ اللَّهُ
امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ.
(3)
وَعَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَحْدَثَ
قَوْمٌ بِدْعَةً إِلاَّ رُفِعَ مِثْلُهَا مِنَ السُّنَّةِ. (4)
ج - عَدَمُ قَبُول الاِجْتِهَادِ مِمَّنْ لاَ يَتَأَهَّل لَهُ، وَرَدُّ
الاِجْتِهَادِ فِي الدِّينِ مِنَ الْمَصَادِرِ غَيْرِ الْمَقْبُولَةِ،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْل الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ
تَعْلَمُونَ} (5) وَقَوْلِهِ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ
إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول} (6) وَقَوْلِهِ: {وَمَا يَعْلَمُ
__________
(1) سورة الحشر / 7.
(2) سورة الأحزاب / 36.
(3) حديث: " نضر الله امرأ سمع منا حديثا. . . " أخرجه أبو داود (4 / 69 ـ
ط عزت عبيد دعاس) وصححه ابن حجر كما في فيض القدير (6 / 285 - ط المكتبة
التجارية)
(4) حديث: " ما أحدث قوم بدعة إلا. . . . ". أخرجه أحمد (4 / 105 ـ ط
الميمنية) وقال الهيثمي: فيه أبو بكر بن أبي مريم وهو منكر الحديث (مجمع
الزوائد 1 / 188 ـ ط القدسي) .
(5) سورة النحل / 43.
(6) سورة النساء / 59.
(8/39)
تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} . (1)
د - نَبْذُ التَّعَصُّبِ لِرَأْيٍ مِنَ الآْرَاءِ أَوِ اجْتِهَادٍ مِنَ
الاِجْتِهَادَاتِ، مَا لَمْ يَكُنْ مُؤَيَّدًا بِالْحَقِّ مِنَ
الأَْدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَضَل مِمَّنِ
اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} . (2)
هـ - مَنْعُ الْعَامَّةِ مِنَ الْقَوْل فِي الدِّينِ، وَعَدَمُ
الاِعْتِدَادِ بِآرَائِهِمْ مَهْمَا كَانَتْ مَنَاصِبُهُمْ وَتَقْوَاهُمْ
إِلاَّ بِالدَّلِيل. يَقُول أَبُو يَزِيدَ الْبَسْطَامِيُّ: لَوْ
نَظَرْتُمْ إِلَى رَجُلٍ أُعْطِيَ مِنَ الْكَرَامَاتِ حَتَّى يَرْتَقِيَ
فِي الْهَوَاءِ، فَلاَ تَغْتَرُّوا بِهِ حَتَّى تَنْظُرُوا كَيْفَ
تَجِدُونَهُ عَنِ الأَْمْرِ وَالنَّهْيِ وَحِفْظِ الْحُدُودِ وَأَدَاءِ
الشَّرِيعَةِ (3) .
وَقَال أَبُو عُثْمَانَ الْحِيرِيُّ: مَنْ أَمَّرَ السُّنَّةَ عَلَى
نَفْسِهِ قَوْلاً وَفِعْلاً نَطَقَ بِالْحِكْمَةِ، وَمَنْ أَمَّرَ الْهَوَى
عَلَى نَفْسِهِ نَطَقَ بِالْبِدْعَةِ (4) .
قَال تَعَالَى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} . (5)
و صَدُّ التَّيَّارَاتِ الْفِكْرِيَّةِ الْمُضَلِّلَةِ الَّتِي تُشَكِّكُ
النَّاسَ فِي الدِّينِ، وَتَحْمِل بَعْضَهُمْ عَلَى التَّأْوِيل بِغَيْرِ
دَلِيلٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
__________
(1) سورة آل عمران / 7.
(2) سورة القصص / 50.
(3) الرسالة القشيرية 1 / 82.
(4) المصدر السابق 1 / 11.
(5) سورة النور / 54.
(8/39)
يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ
كَافِرِينَ} . (1)
مَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ تُجَاهَ أَهْل الْبِدْعَةِ:
35 - يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أُولِي الأَْمْرِ وَغَيْرِهِمْ أَنْ
يَأْمُرُوا أَهْل الْبِدَعِ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْهُمْ عَنِ
الْمُنْكَرِ، وَيَحُضُّوهُمْ عَلَى اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَالإِْقْلاَعِ
عَنِ الْبِدْعَةِ وَالْبُعْدِ عَنْهَا. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ
مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2)
وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ} (3) .
36 - مَرَاحِل الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ
لِمَنْعِ الْبِدْعَةِ:
أ - التَّعْرِيفُ بِبَيَانِ الصَّوَابِ مِنَ الْخَطَأِ بِالدَّلِيل.
ب - الْوَعْظُ بِالْكَلاَمِ الْحَسَنِ مِصْدَاقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{ادْعُ إِلَى سَبِيل رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} .
(4)
ج - التَّعْنِيفُ وَالتَّخْوِيفُ مِنَ الْعِقَابِ الدُّنْيَوِيِّ
وَالأُْخْرَوِيِّ، بَيَانُ أَحْكَامِ ذَلِكَ فِي أَمْرِ بِدْعَتِهِ.
__________
(1) سورة آل عمران / 100.
(2) سورة آل عمران / 104
(3) سورة التوبة / 71.
(4) سورة النحل / 125.
(8/40)
د - الْمَنْعُ بِالْقَهْرِ، مِثْل كَسْرِ
الْمَلاَهِي وَتَمْزِيقِ الأَْوْرَاقِ وَفَضِّ الْمَجَالِسِ.
هـ - التَّخْوِيفُ وَالتَّهْدِيدُ بِالضَّرْبِ الَّذِي يَصِل إِلَى
التَّعْزِيرِ، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ لاَ تَنْبَغِي إِلاَّ لِلإِْمَامِ
(1) أَوْ بِإِذْنِهِ؛ لِئَلاَّ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا ضَرَرٌ أَكْبَرُ
مِنْهَا. وَلِلتَّفْصِيل يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ (الأَْمْرُ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ) .
مُعَامَلَةُ الْمُبْتَدِعِ وَمُخَالَطَتُهُ:
37 - إِذَا كَانَ الْمُبْتَدِعُ غَيْرَ مُجَاهِرٍ بِبِدْعَتِهِ يُنْصَحُ،
وَلاَ يُجْتَنَبُ وَلاَ يُشَهَّرُ بِهِ، لِحَدِيثِ الرَّسُول صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي
الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ. (2)
وَأَمَّا إِذَا كَانَ مُجَاهِرًا بِشَيْءٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ مِنَ الْبِدَعِ
الاِعْتِقَادِيَّةِ أَوِ الْقَوْلِيَّةِ أَوِ الْعَمَلِيَّةِ - وَهُوَ
يَعْلَمُ ذَلِكَ - فَإِنَّهُ يُسَنُّ هَجْرُهُ، وَقَدِ اشْتَهَرَ هَذَا
عِنْدَ الْعُلَمَاءِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال: لاَ تُجَالِسُوا أَهْل الْقَدَرِ، وَلاَ تُفَاتِحُوهُمْ (3) وَقَال
ابْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ
__________
(1) إحياء علوم الدين 2 / 306، 315، وفتاوى ابن تيمية 28 / 219، والسياسة
الشرعية ص 102.
(2) حديث: " من ستر مسلما ستره الله " أخرجه مسلم (4 / 1996 ـ ط الحلبي) .
(3) حديث: " لا تجالسوا أهل القدر ولا. . . " أخرجه أبو داود (5 / 84 - ط
عزت عبيد دعاس) وفي إسناده جهالة. (عون المعبود 4 / 365 ـ نشر دار الكتاب
العربي) .
(8/40)
أَحَبَّ أَنْ يُكْرِمَ دِينَهُ
فَلْيَعْتَزِل مُخَالَطَةَ الشَّيْطَانِ وَمُجَالَسَةَ أَصْحَابِ
الأَْهْوَاءِ، فَإِنَّ مَجَالِسَهُمْ أَلْصَقُ مِنَ الْحَرْبِ (1) .
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: لاَ تُجَالِسُوا أَهْل الْقَدَرِ وَلاَ
تُنَاكِحُوهُمْ.
وَعَنْ أَبِي قِلاَبَةَ " لاَ تُجَالِسُوا أَهْل الأَْهْوَاءِ، فَإِنِّي
لاَ آمَنُ أَنْ يَغْمِسُوكُمْ فِي ضَلاَلاَتِهِمْ، أَوْ يَلْبِسُوا
عَلَيْكُمْ بَعْضَ مَا تَعْرِفُونَ " (2) وَقَدْ هَجَرَ أَحْمَدُ مَنْ
قَالُوا بِخَلْقِ الْقُرْآنِ. (3)
قَال ابْنُ تَيْمِيَةَ: يَنْبَغِي لأَِهْل الْخَيْرِ وَالدِّينِ أَنْ
يَهْجُرُوا الْمُبْتَدِعَ حَيًّا وَمَيِّتًا، إِذَا كَانَ فِي ذَلِكَ كَفٌّ
لِلْمُجْرِمِينَ، فَيَتْرُكُوا تَشْيِيعَ جِنَازَتِهِ. (4)
إِهَانَةُ الْمُبْتَدِعِ:
38 - صَرَّحَ الْعُلَمَاءُ بِجَوَازِ إِهَانَةِ الْمُبْتَدِعِ بِعَدَمِ
الصَّلاَةِ خَلْفَهُ، أَوْ الصَّلاَةِ عَلَى جِنَازَتِهِ، وَكَذَلِكَ لاَ
يُعَادُ إِذَا مَرِضَ، عَلَى خِلاَفٍ فِي ذَلِكَ.
بَدَلٌ
انْظُرْ: إِبْدَال
__________
(1) الاعتصام للشاطبي 1 / 278 ط المعرفة.
(2) الاعتقاد على مذاهب السلف ص 118.
(3) الآداب الشرعية 1 / 258 - 261، والاعتقاد على مذاهب السلف ص117.
(4) الفتاوى لابن تيمية 28 / 17 - 18
(8/41)
بَدَنَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبَدَنَةُ فِي اللُّغَةِ: مِنَ الإِْبِل خَاصَّةً، وَيُطْلَقُ هَذَا
اللَّفْظُ عَلَى الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى، وَالْجَمْعُ الْبُدْنُ.
وَسُمِّيَتْ بَدَنَةً لِضَخَامَتِهَا.
قَال فِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ: وَالْبَدَنَةُ قَالُوا: هِيَ نَاقَةٌ
أَوْ بَقَرَةٌ، وَزَادَ الأَْزْهَرِيُّ: أَوْ بَعِيرٌ ذَكَرٌ. قَال: وَلاَ
تُطْلَقُ الْبَدَنَةُ عَلَى الشَّاةِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْبَدَنَةُ اسْمٌ تَخْتَصُّ بِهِ الإِْبِل، إِلاَّ
أَنَّ الْبَقَرَةَ لَمَّا صَارَتْ فِي الشَّرِيعَةِ فِي حُكْمِ الْبَدَنَةِ
قَامَتْ مَقَامَهَا، وَذَلِكَ لِمَا قَال جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ:
نَحَرْنَا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ
الْحُدَيْبِيَةِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ
(1) فَصَارَ الْبَقَرُ فِي حُكْمِ الْبُدْنِ مَعَ تَغَايُرِهِمَا لِوُجُودِ
الْعَطْفِ بَيْنَهُمَا، وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ. (2)
__________
(1) حديث: جابر بن عبد الله: " نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. . "
أخرجه مسلم (2 / 955 - ط الحلبي) .
(2) الفروق في اللغة ص 300 بيروت، والمصباح المنير، والمغرب مادة: " بدن ".
(8/41)
وَمَعَ هَذَا فَقَدْ أَطْلَقَ بَعْضُ
الْفُقَهَاءِ " الْبَدَنَةَ " عَلَى الإِْبِل وَالْبَقَرِ. (1)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
تَتَعَلَّقُ بِالْبُدْنِ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ مِنْهَا:
أ - بَوْل الْبُدْنِ وَرَوْثُهَا:
2 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى نَجَاسَةِ بَوْل
وَرَوْثِ الْحَيَوَانِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِمَّا يُؤْكَل لَحْمُهُ أَمْ لاَ،
وَمِنَ الْحَيَوَانِ: الْبُدْنُ. لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جِيءَ لَهُ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ
لِيَسْتَنْجِيَ بِهَا، أَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَرَدَّ الرَّوْثَةَ، وَقَال:
هَذَا رِكْسٌ (2) وَالرِّكْسُ: النَّجَسُ.
وَأَمَّا نَجَاسَةُ الْبَوْل فَلِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: تَنَزَّهُوا مِنَ الْبَوْل، فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ
مِنْهُ (3) حَيْثُ يَدْخُل فِيهِ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الأَْبْوَال.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى طَهَارَةِ بَوْل وَرَوْثِ
مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ، لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ
الْعُرَنِيِّينَ أَنْ يَلْحَقُوا بِإِبِل الصَّدَقَةِ، فَيَشْرَبُوا مِنْ
أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا (4) وَالنَّجَسُ لاَ يُبَاحُ شُرْبُهُ،
وَلأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 200
(2) حديث: " هذا ركس " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 256 ـ ط السلفية) .
(3) حديث: " تنزهوا من البول. . . " أخرجه الدارقطني (1 / 127ـ ط شركة
الطباعة الفنية) من طريقين، وقال: لا بأس به
(4) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر العرنين. . . " أخرجه البخاري
(الفتح 1 / 335 ـ ط السلفية) . ومسلم (3 / 1296 ـ ط الحلبي) .
(8/42)
كَانَ يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ،
وَأَمَرَ بِالصَّلاَةِ فِيهَا. (1)
ب - نَقْضُ الْوُضُوءِ:
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ أَكْل لَحْمِ الْجَزُورِ -
وَهُوَ لَحْمُ الإِْبِل - لاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ
عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال:
الْوُضُوءُ مِمَّا خَرَجَ لاَ مِمَّا دَخَل (2) ، وَلِمَا رَوَى جَابِرٌ
قَال: كَانَ آخِرُ الأَْمْرَيْنِ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ (3)
وَلأَِنَّهُ مَأْكُولٌ أَشْبَهَ سَائِرَ الْمَأْكُولاَتِ.
وَهَذَا الْقَوْل مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ
وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَأَبِي
طَلْحَةَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ
وَأَبِي أُمَامَةَ، وَبِهِ قَال جُمْهُورُ التَّابِعِينَ، وَهُوَ مَذْهَبُ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ
الشَّافِعِيَّةِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 213، وحاشية الدسوقي 1 / 51، ومغني المحتاج 1 / 79،
وكشاف القناع 1 / 194. وحديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في
مرابض الغنم. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 41 ـ ط السلفية) .
(2) حديث: " الوضوء مما خرج لا مما دخل. . . " أخرجه الدارقطني (1 / 151 ـ
ط شركة الطباعة الفنية) وقال ابن حجر: وفي إسناده الفضل بن المختار، وهو
ضعيف جدا، ونقل عن ابن عدي أنه قال: الأصل في هذا الحديث أنه موقوف
(3) حديث جابر: " كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار " أخرجه أبو
داود (1 / 133 ـ ط عزت عبيد دعاس) وصححه ابن خزيمة (1 / 28 ـ ط المكتب
الإسلامي)
(8/42)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، وَالشَّافِعِيُّ
فِي الْقَدِيمِ إِلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ مِنْ أَكْل لَحْمِ الْجَزُورِ
عَلَى كُل حَالٍ، نِيئًا أَوْ مَطْبُوخًا، عَالِمًا كَانَ أَوْ جَاهِلاً.
وَبِهِ قَال إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى. وَحَكَاهُ
الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ: زَيْدُ بْنُ
ثَابِتٍ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو مُوسَى وَأَبُو طَلْحَةَ، وَاخْتَارَهُ
مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَبُو بَكْرِ بْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ،
وَأَشَارَ الْبَيْهَقِيُّ إِلَى تَرْجِيحِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَقَوَّاهُ
النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَال: سُئِل رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُحُومِ الإِْبِل، فَقَال:
تَوَضَّئُوا مِنْهَا، وَسُئِل عَنْ لُحُومِ الْغَنَمِ، فَقَال: لاَ
يُتَوَضَّأُ مِنْهَا (1) وَبِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: تَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الإِْبِل، وَلاَ تَتَوَضَّئُوا مِنْ
لُحُومِ الْغَنَمِ. (2)
أَمَّا أَلْبَانُ الإِْبِل، فَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ رِوَايَتَانِ فِي
نَقْضِ الْوُضُوءِ بِشُرْبِهَا:
إِحْدَاهُمَا: يُنْقَضُ الْوُضُوءُ؛ لِمَا رَوَى أُسَيْدُ بْنُ
__________
(1) حديث: " سئل عن لحوم الإبل ولحوم الغنم. . " أخرجه أبو دواد (1 / 128 ـ
ط عزت عبيد دعاس) وابن خزيمة (1 / 22 - ط المكتب الإسلامي) . وقال: لم نر
خلافا بين علماء أهل الحديث أن هذا الخبر صحيح من جهة النقل لعدالة ناقليه
(2) حديث: " توضئوا من لحوم الإبل. . . . " أخرجه ابن ماجه بتحقيق محمد
فؤاد عبد الباقي (1 / 166) وفي إسناده بقية بن الوليد وهو مدلس، وقد رواه
بالعنعنة، ورجاله ثقات، وخالد بن عمر مجهول الحال
(8/43)
حُضَيْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: تَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الإِْبِل
وَأَلْبَانِهَا. (1)
وَالثَّانِيَةُ: لاَ وُضُوءَ فِيهِ؛ لأَِنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ
إِنَّمَا وَرَدَ فِي اللَّحْمِ، وَرَجَّحَ هَذَا الْقَوْل صَاحِبُ كَشَّافِ
الْقِنَاعِ. (2)
ج - سُؤْرُ الْبَدَنَةِ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى طَهَارَةِ سُؤْرِ الْبَدَنَةِ، وَسَائِرِ
الإِْبِل وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَلاَ كَرَاهَةَ فِي أَسْآرِهَا مَا
لَمْ تَكُنْ جَلاَّلَةً. قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ
عَلَى أَنَّ سُؤْرَ مَا أُكِل لَحْمُهُ يَجُوزُ شُرْبُهُ وَالْوُضُوءُ
بِهِ. (3)
د - الصَّلاَةُ فِي أَعْطَانِ الإِْبِل وَمَرَابِضِ الْبَقَرِ:
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى كَرَاهَةِ الصَّلاَةِ فِي
مَعَاطِنِ الإِْبِل. وَقَدْ أَلْحَقَ الْحَنَفِيَّةُ بِالإِْبِل الْبَقَرَ
فِي الْكَرَاهَةِ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ
الْبَقَرَ كَالْغَنَمِ فِي
__________
(1) حديث: توضئوا من لحوم الإبل وألبانها رواه أحمد (4 / 352 - ط الميمنية)
وابن ماجه (1 / 166 ـ ط الحلبي) وقال البوصيري: إسناده ضعيف لضعف حجاج بن
أرطأة وتدليسه.
(2) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 47 - 48، وحاشية الدسوقي 1 / 123، وشرح
الروض 1 / 55، والمجموع 2 / 57 وما بعدها، والمغني 1 / 187، 190، وكشاف
القناع 1 / 130
(3) المغني 1 / 50 وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 17
(8/43)
جَوَازِ الصَّلاَةِ فِي مَرَابِضِهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ الصَّلاَةِ فِي أَعْطَانِ
الإِْبِل، وَهِيَ: مَا تُقِيمُ فِيهِ وَتَأْوِي إِلَيْهِ. أَمَّا مَوَاضِعُ
نُزُولِهَا فِي سَيْرِهَا فَلاَ بَأْسَ بِالصَّلاَةِ فِيهِ. (1)
هـ - الدِّمَاءُ الْوَاجِبَةُ:
6 - تُجْزِئُ الْبَدَنَةُ عَنْ سَبْعَةٍ فِي حَالَتَيِ الْقِرَانِ
وَالتَّمَتُّعِ، وَفِي الأُْضْحِيَّةِ، وَفِي فِعْل بَعْضِ الْمَحْظُورَاتِ
أَوْ تَرْكِ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ حَال الإِْحْرَامِ بِحَجٍّ أَوْ
عُمْرَةٍ.
وَتَجِبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بَدَنَةٌ كَامِلَةٌ عَلَى الْحَائِضِ
وَالنُّفَسَاءِ إِذَا طَافَتَا.
كَمَا تَجِبُ بَدَنَةٌ كَامِلَةٌ إِذَا قَتَل الْمُحْرِمُ صَيْدًا
كَبِيرًا، كَالزَّرَافَةِ وَالنَّعَامَةِ، عَلَى التَّخْيِيرِ الْمُفَصَّل
فِي مَوْضِعِهِ.
وَتَجِبُ أَيْضًا عَلَى مَنْ جَامَعَ حَال الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ
وَالْعُمْرَةِ قَبْل التَّحَلُّل الأَْصْغَرِ، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ
يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي الْمُصْطَلَحَاتِ التَّالِيَةِ: (إِحْرَام، وَحَجّ،
وَهَدْي، وَصَيْد) .
وَالْهَدْيُ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْهَدْيَ سُنَّةٌ، وَلاَ يَجِبُ
إِلاَّ بِالنَّذْرِ. وَيَكُونُ مِنَ الإِْبِل وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ،
__________
(1) ابن عابدين 1 / 254 - 255، وحاشية الدسوقي 1 / 188 ـ 189، ومغني
المحتاج 1 / 203، وكشاف القناع 1 / 294 - 295
(8/44)
وَلاَ يُجْزِئُ إِلاَّ الثَّنِيُّ مِنَ
الإِْبِل، وَهُوَ مَا كَمَّل خَمْسَ سِنِينَ وَدَخَل فِي السَّادِسَةِ.
فَفِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْدَى
فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِائَةَ بَدَنَةٍ (1) . وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ
مَا يُهْدِيهِ سَمِينًا حَسَنًا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ
شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (2) فَسَّرَهَا
ابْنُ عَبَّاسٍ بِالاِسْتِسْمَانِ وَالاِسْتِحْسَانِ. وَيُسْتَحَبُّ
تَقْلِيدُ الْبَدَنَةِ فِي الْهَدْيِ (3) .
وَهُنَاكَ تَفْصِيلاَتٌ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (حَجّ، وَهَدْي،
وَإِحْرَام، وَقِرَان، وَتَمَتُّع) .
ز - ذَكَاةُ الْبَدَنَةِ:
8 - تَخْتَصُّ الإِْبِل - وَمِنْهَا الْبَدَنَةُ - بِالنَّحْرِ، فَقَدْ
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى سُنِّيَّةِ نَحْرِ الإِْبِل. وَذَهَبَ
الْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ نَحْرِهَا، وَأَلْحَقُوا بِهَا
الزَّرَافَةَ.
وَأَمَّا ذَبْحُهَا، فَقَدْ قَال بِجَوَازِهِ الشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ، وَكَرِهَهُ الْحَنَفِيَّةُ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، عَلَى
مَا نَقَلَهُ ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ أَبِي السُّعُودِ عَنِ الدِّيرِيِّ.
__________
(1) حديث: " أنه صلى الله عليه وسلم أهدى في حجة الوداع مائة بدنة " أخرجه
البخاري (الفتح 3 / 557 ـ ط السلفية)
(2) سورة الحج / 32.
(3) ابن عابدين 2 / 294، والدسوقي 2 / 82 وما بعدها، وشرح الروض 1 / 532،
ما بعدها، وكشاف القناع 2 / 529، وما بعدها. وتقليد البدنة هو: وضع علامة
في رقبتها ليعلم أنها هدي
(8/44)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: جَازَ الذَّبْحُ
فِي الإِْبِل، وَالنَّحْرُ فِي غَيْرِهَا لِلضَّرُورَةِ.
ثُمَّ النَّحْرُ - كَمَا قَال ابْنُ عَابِدِينَ - هُوَ قَطْعُ الْعُرُوقِ
فِي أَسْفَل الْعُنُقِ عِنْدَ الصَّدْرِ، أَمَّا الذَّبْحُ فَقَطْعُهَا فِي
أَعْلاَهُ تَحْتَ اللَّحْيَيْنِ.
وَالسُّنَّةُ نَحْرُهَا قَائِمَةً مَعْقُولَةً يَدُهَا الْيُسْرَى؛ لِمَا
وَرَدَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يَنْحَرُونَ الْبَدَنَةَ
مَعْقُولَةَ الْيُسْرَى، قَائِمَةً عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ قَوَائِمِهَا (1)
وَفِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} (2) دَلِيلٌ عَلَى
أَنَّهَا تُنْحَرُ قَائِمَةً.
وَكَيْفِيَّتُهُ: أَنْ يَطْعَنَهَا بِالْحَرْبَةِ فِي الْوَهْدَةِ الَّتِي
بَيْنَ أَصْل الْعُنُقِ وَالصَّدْرِ. (3)
ج - الدِّيَاتُ: الدِّيَةُ بَدَل النَّفْسِ:
9 - وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الدِّيَةِ فِي: الإِْبِل
وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْخَيْل وَالْبَقَرِ
وَالْغَنَمِ. وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (دِيَة) .
__________
(1) حديث عبد الرحمن بن سابط: " أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا
ينحرون البدنة. . . " أخرجه أبو داود (2 / 371 - ط عزت عبيد دعاس) من حديث
عبد الرحمن بن سابط مرسلا مقرونا بحديث جابر بن عبد الله متصلا، وله أصل في
صحيح البخاري (الفتح 3 / 553 ـ ط السلفية) ومسلم (2 / 958 ط الحلبي)
(2) سورة الحج / 36
(3) ابن عابدين 5 / 192، والدسوقي 2 / 100، ومغني المحتاج 4 / 271، وكشاف
القناع 3 / 7، والمواق بهامش الحطاب 3 / 220.
(8/45)
بَدْوٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبَادِيَةُ: خِلاَفُ الْحَاضِرَةِ. قَال اللَّيْثُ: الْبَادِيَةُ
اسْمٌ لِلأَْرْضِ الَّتِي لاَ حَضَرَ فِيهَا، وَالْبَادِي: هُوَ الْمُقِيمُ
فِي الْبَادِيَةِ، وَمَسْكَنُهُ الْمَضَارِبُ وَالْخِيَامُ، وَلاَ
يَسْتَقِرُّ فِي مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ. وَالْبَدْوُ: سُكَّانُ الْبَادِيَةِ،
سَوَاءٌ أَكَانُوا مِنَ الْعَرَبِ أَمْ مِنْ غَيْرِهِمْ، أَمَّا
الأَْعْرَابُ فَهُمْ سُكَّانُ الْبَادِيَةِ مِنَ الْعَرَبِ خَاصَّةً. وَفِي
الْحَدِيثِ: مَنْ بَدَا جَفَا (1) أَيْ: مَنْ نَزَل الْبَادِيَةَ صَارَ
فِيهِ جَفَاءُ الأَْعْرَابِ (2) .
وَلاَ يَخْتَلِفُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ ذَلِكَ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْبَدْوِ:
2 - الأَْصْل فِي الشَّرْعِ أَنَّ الأَْحْكَامَ تَتَعَلَّقُ بِالْمُكَلَّفِ
بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ مَكَانِ سُكْنَاهُ، وَبِذَلِكَ تَسْتَوِي
أَحْكَامُ الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ، إِلاَّ مَا وَرَدَ عَلَى
__________
(1) حديث: " من بدا جفا. . " أخرجه أبو داود (3 / 278 ـ ط عزت عبيد دعاس) ،
والترمذي (4 / 523 ط الحلبي) وحسنه
(2) لسان العرب، والنهاية في غريب الحديث، ومفردات الراغب الأصبهاني،
الاخيتار 5 / 85، وقليوبي وعميرة 3 / 125، والمغني 7 / 527
(8/45)
سَبِيل الاِسْتِثْنَاءِ مِنْ هَذِهِ
الْقَاعِدَةِ، بِسَبَبِ اخْتِلاَفِ طَبِيعَةِ حَيَاةِ الْبَدْوِ عَنْ
طَبِيعَةِ حَيَاةِ الْحَضَرِ، فَتَبَعًا لِهَذَا الاِخْتِلاَفِ تَخْتَلِفُ
بَعْضُ الأَْحْكَامِ، وَسَيَأْتِي أَهَمُّهَا.
أ - الأَْذَانُ فِي الْبَادِيَةِ:
3 - يُسَنُّ لِلْبَادِي الأَْذَانُ عِنْدَ كُل صَلاَةٍ فِي بَادِيَتِهِ،
لِحَدِيثِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِبِي
سَعِيدٍ: إِنَّكَ رَجُلٌ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ. فَإِذَا دَخَل
وَقْتُ الصَّلاَةِ فَأَذِّنْ، وَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ، فَإِنَّهُ
لاَ يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلاَ إِنْسٌ وَلاَ شَيْءٌ
إِلاَّ شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (1) (ر: أَذَان) .
ب - سُقُوطُ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ:
4 - لاَ تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى أَهْل الْبَادِيَةِ. وَلَوْ أَقَامُوهَا
فِي بَادِيَتِهِمْ لاَ تَصِحُّ جُمُعَةٌ لِعَدَمِ الاِسْتِيطَانِ، حَيْثُ
لَمْ يُؤْمَرْ بِهَا الْبَدْوُ مِمَّنْ كَانُوا حَوْل الْمَدِينَةِ وَلاَ
قَبَائِل الْبَادِيَةِ مِمَّنْ أَسْلَمُوا، وَلاَ أَقَامُوهَا، وَلَوْ
أَقَامُوهَا لَنُقِل ذَلِكَ، بَل لاَ تُجْزِئُهُمْ عَنِ الظُّهْرِ،
وَلَكِنْ إِذَا كَانُوا مُقِيمِينَ بِمَوْضِعٍ يَسْمَعُونَ فِيهِ نِدَاءَ
الْحَضَرِ وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ. (2)
__________
(1) الجمل على شرح المناهج 1 / 298، والإنصاف 1 / 418، والمغني 2 / 327،
331، وابن عابدين 1 / 261، والمجموع 4 / 375، وأسنى المطالب 1 / 279:
وحديث: " إنك رجل تحب الغنم والبادية ". أخرجه البخاري 2 / 87، 88ط السلفية
(2) ابن عابدين 1 / 253، 546، وجواهر الإكليل 1 / 92، وروضة الطالبين 2 /
38، والمغني 2 / 327
(8/46)
ج - وَقْتُ الأُْضْحِيَّةِ:
5 - يَرَى الْجُمْهُورُ أَنَّ وَقْتَ الأُْضْحِيَّةِ لِلْبَدْوِ كَوَقْتِهِ
لِلْحَضَرِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ حَيْثُ قَالُوا: لَمَّا
كَانَتْ لاَ تَجِبُ عَلَى الْبَدْوِ صَلاَةُ الْعِيدِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ
لَهُمْ أَنْ يَذْبَحُوا أَضَاحِيَّهُمْ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ
الصَّادِقِ مِنْ يَوْمِ الْعِيدِ، فِي حِينِ لاَ يَجُوزُ لأَِهْل الْحَضَرِ
أَنْ يَذْبَحُوا أَضَاحِيَّهُمْ إِلاَّ بَعْدَ صَلاَةِ الْعِيدِ؛ لأَِنَّ
صَلاَةَ الْعِيدِ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِمْ. (1)
د - عَدَمُ اسْتِحْقَاقِهِمُ الْعَطَاءَ:
6 - يَخْتَصُّ أَهْل الْحَاضِرَةِ بِالْعَطَاءِ، أَمَّا الْبَدْوُ فَلاَ
يُفْرَضُ لَهُمْ فَرِيضَةٌ رَاتِبَةٌ تَجْرِي عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْتِ
الْمَال، لاَ أَعْطِيَةَ الْمُقَاتِلَةِ، وَلاَ أَرْزَاقَ الذُّرِّيَّةِ،
حَتَّى قَال أَبُو عُبَيْدٍ: فَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الأَْئِمَّةِ
بَعْدَهُ أَنَّهُ فَعَل ذَلِكَ - أَيْ أَعْطَى الْبَدْوَ عَطَاءَ الْجُنْدِ
وَأَرْزَاقَ الذُّرِّيَّةِ - إِلاَّ بِأَهْل الْحَاضِرَةِ، الَّذِينَ هُمْ
أَهْل الْغَنَاءِ عَنِ الإِْسْلاَمِ. وَلِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ مَرْفُوعًا
قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا
أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ، أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ
بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا. ثُمَّ قَال:
اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيل اللَّهِ. قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ
بِاللَّهِ. اغْزُوا وَلاَ تَغُلُّوا، وَلاَ تَغْدِرُوا، وَلاَ تُمَثِّلُوا،
__________
(1) فتح القدير 8 / 72 طبع بولاق، وحلية العلماء للقفال 3 / 320 طبعة أولى
1400هـ، والإفصاح 1 / 202 طبع المطبعة الحلبية، وآثار محمد بن الحسن ص 135،
وآثار أبي يوسف ص 63
(8/46)
وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا
لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلاَثِ خِصَالٍ
أَوْ خِلاَلٍ فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَل مِنْهُمْ وَكُفَّ
عَنْهُمْ. ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِْسْلاَمِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَل
مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ. ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّل مِنْ
دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ
فَعَلُوا ذَلِكَ، فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى
الْمُهَاجِرِينَ. فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا،
فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ، يَجْرِي
عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلاَ
يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ. إِلاَّ أَنْ
يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ
الْجِزْيَةَ. فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَل مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ،
فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ. وَإِذَا
حَاصَرْتَ أَهْل حِصْنٍ، فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَل لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ
وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ، فَلاَ تَجْعَل لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلاَ ذِمَّةَ
نَبِيِّهِ. وَلَكِنِ اجْعَل لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ.
فَإِنَّكُمْ إِنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ، أَهْوَنُ
مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ. وَإِذَا
حَاصَرْتَ أَهْل حِصْنٍ، فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ
اللَّهِ، فَلاَ تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ
عَلَى حُكْمِكَ، فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ
أَمْ لاَ. (1)
وَلَكِنْ لأَِهْل الْبَادِيَةِ عَلَى الإِْمَامِ وَعَلَى
__________
(1) حديث بريدة: " إذا لقيت عدوك من المشركين. . . . . " أخرجه مسلم 3 /
1375 ط الحلبي
(8/47)
الْمُسْلِمِينَ نَصْرُهُمْ وَالدَّفْعُ
عَنْهُمْ بِالأَْبْدَانِ وَالأَْمْوَال إِنِ اعْتُدِيَ عَلَيْهِمْ،
وَالْمَئُونَةُ وَالْمُوَاسَاةُ إِذَا نَزَلَتْ بِهِمْ جَائِحَةٌ أَوْ
جَدْبٌ (1) .
هـ - عَدَمُ دُخُول الْبَدْوِ فِي عَاقِلَةِ الْحَضَرِ وَعَكْسُهُ:
7 - لاَ يَدْخُل الْبَدَوِيُّ فِي عَاقِلَةِ الْقَاتِل الْحَضَرِيِّ، وَلاَ
الْحَضَرِيُّ فِي عَاقِلَةِ الْبَدَوِيِّ الْقَاتِل، لِعَدَمِ التَّنَاصُرِ
بَيْنَهُمَا، كَمَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ. (2)
وَلِلتَّفْصِيل (ر: عَاقِلَة)
و إِمَامَةُ الْبَدَوِيِّ:
8 - تُكْرَهُ إِمَامَةُ الأَْعْرَابِيِّ فِي الصَّلاَةِ كَمَا يَقُول
الْحَنَفِيَّةُ؛ لأَِنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِمُ الْجَهْل بِالأَْحْكَامِ.
(3) وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ، بَابِ
صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ. (ر: إِمَامَةُ الصَّلاَةِ، وَصَلاَةُ الْجَمَاعَةِ)
ز - نَقْل اللَّقِيطِ إِلَى الْبَادِيَةِ وَحُكْمُهُ:
9 - إِذَا وَجَدَ حَضَرِيٌّ أَوْ بَدَوِيٌّ لَقِيطًا فِي الْحَضَرِ
فَلَيْسَ لَهُ نَقْلُهُ إِلَى الْبَادِيَةِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ
الضَّرَرِ عَلَيْهِ بِفَوَاتِ الدِّينِ وَالْعِلْمِ وَالصَّنْعَةِ، أَمَّا
إِنْ
__________
(1) الأموال لأبي عبيد ص 227 وما بعدها طبع مصطفى محمد
(2) الشرح الصغير 2 / 402 طبع دار المعارف
(3) الاختيار 5 / 58 طبع بيروت دار المعارف
(8/47)
وَجَدَهُ فِي الْبَادِيَةِ فَلَهُ أَنْ
يَنْقُلَهُ إِلَى الْحَاضِرَةِ؛ لأَِنَّ فِي نَقْلِهِ مَصْلَحَةً لَهُ.
وَلَهُ أَنْ يُبْقِيَهُ فِي الْبَادِيَةِ. كَمَا صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ
بِذَلِكَ، وَتُنْظَرُ التَّفَاصِيل فِي (لَقِيط) (1)
ح - شَهَادَةُ الْبَدَوِيِّ عَلَى الْحَضَرِيِّ:
10 - اخْتُلِفَ فِي شَهَادَةِ الْبَدَوِيِّ عَلَى الْحَضَرِيِّ،
فَأَجَازَهَا الْجُمْهُورُ، وَمَنَعَهَا الْمَالِكِيَّةُ (2) . لِقَوْل
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ
بَدَوِيٍّ عَلَى صَاحِبِ قَرْيَةٍ (3) وَلأَِنَّهُمْ فِي الْغَالِبِ لاَ
يَضْبِطُونَ الشَّهَادَةَ عَلَى وَجْهِهَا.
ط - عَدَمُ الاِحْتِكَامِ إِلَى عَادَاتِهِمْ فِيمَا يَحِل أَكْلُهُ:
11 - يُقْتَصَرُ عَلَى الْعَرَبِ مِنَ الْحَاضِرَةِ - عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - فِي تَحْدِيدِ مَنْ يُرْجَعُ
إِلَيْهِمْ فِي مَعْرِفَةِ الْمُسْتَخْبَثِ وَالطَّيِّبِ، مِمَّا لَمْ
يُنَصَّ عَلَى حُكْمِهِ مِنَ الطَّعَامِ. قَال النَّوَوِيُّ: يُرْجَعُ فِي
ذَلِكَ إِلَى الْعَرَبِ مِنْ أَهْل الرِّيفِ وَالْقُرَى وَأَهْل الْيَسَارِ
وَالْغِنَى، دُونَ الأَْجْلاَفِ مِنْ أَهْل الْبَادِيَةِ وَالْفُقَرَاءِ
__________
(1) حاشية قليوبي 5 / 125، وأسنى المطالب 2 / 497
(2) المغني 9 / 167
(3) حديث: " لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية. . . ". أخرجه أبو داود 4 /
26 ط عزت عبيد دعاس. والحاكم 4 / 99 ط دائرة المعارف العثمانية، وقال ابن
دقيق العيد: رجاله إلى منتهاه رجال الصحيح (الإلمام ص 520 ط دار الثقافة
الإسلامية. الرياض)
(8/48)
وَأَهْل الضَّرُورَةِ. وَقَال ابْنُ
قُدَامَةَ: لأَِنَّهُمْ لِلضَّرُورَةِ وَالْمَجَاعَةِ يَأْكُلُونَ مَا
وَجَدُوا. (1)
ي - حُكْمُ ارْتِحَال الْمُعْتَدَّةِ مِنْ أَهْل الْبَادِيَةِ:
12 - لَمَّا كَانَ الأَْصْل فِي حَيَاةِ الْبَدْوِ الاِنْتِقَال
لاِنْتِجَاعِ مَوَاقِعِ الْكَلأَِ، فَإِنَّ الْبَدَوِيَّةَ الْمُعْتَدَّةَ
إِذَا ارْتَحَل أَهْلُهَا عَنْ مَوَاقِعِهِمْ تَرْتَحِل مَعَهُمْ، وَلاَ
تَكُونُ آثِمَةً بِذَلِكَ؛ لأَِنَّ مِنَ الْحَرَجِ إِقَامَتُهَا وَحْدَهَا
دُونَ أَهْلِهَا؛ وَلأَِنَّ الرِّحْلَةَ مِنْ طَبِيعَةِ حَيَاتِهِمْ،
وَقَدْ فَصَّل ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الْعِدَّةِ مِنْ كُتُبِ
الْفِقْهِ. (2)
ك - تَحَوُّل الْبَدَوِيِّ إِلَى حَضَرِيٍّ:
13 - إِذَا اسْتَوْطَنَ الْبَدَوِيُّ الْحَاضِرَةَ أَصْبَحَ مِنْ
أَهْلِهَا، وَسَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْحَضَرِ.
__________
(1) المجموع 9 / 25 ط المنيرية، والمغني 8 / 585 ط الرياض
(2) المغني 7 / 527 الطبعة الثالثة
(8/48)
بَذْرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبَذْرُ لُغَةً: إِلْقَاءُ الْحَبِّ فِي الأَْرْضِ لِلزِّرَاعَةِ،
وَهَذَا هُوَ الْمَصْدَرُ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَا يُبْذَرُ، فَيَكُونُ
مِنْ إِطْلاَقِ الْمَصْدَرِ عَلَى اسْمِ الْمَفْعُول. (1) وَلاَ يَخْرُجُ
الاِسْتِعْمَال الْفِقْهِيُّ عَنْ ذَلِكَ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - الأَْصْل فِي إِلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الأَْرْضِ لِلزِّرَاعَةِ
الإِْبَاحَةُ فِيمَا هُوَ مُبَاحَةٌ زِرَاعَتُهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ
الزَّارِعُونَ} (2)
فَالآْيَةُ تَدُل عَلَى إِبَاحَةِ الزَّرْعِ مِنْ جِهَةِ الاِمْتِنَانِ
بِهِ. وَقَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا بِقَصْدِ التَّصَدُّقِ لِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ
يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُل مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ
إِلاَّ
__________
(1) لسان العرب، والكليات في مادة " بذر
"، وطلبة الطلبة ص 20، والفتاوى البزازية - بهامش الفتاوى الهندية 6 / 88
(2) سورة الواقعة / 63ـ 65
(8/49)
كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ (1) . وَقَدْ
يَكُونُ، وَاجِبًا إِذَا احْتَاجَ النَّاسُ إِلَيْهِ. وَقَدْ يَكُونُ
إِلْقَاءُ بَعْضِ أَنْوَاعِ الْبُذُورِ حَرَامًا، مِثْل إِلْقَاءِ حَبٍّ
لِزَرْعٍ يَضُرُّ بِالنَّاسِ، كَالْحَشِيشَةِ وَالأَْفْيُونِ؛ لأَِنَّ
هَذَا وَمَا يُمَاثِلُهُ يُؤَدِّي إِلَى الضَّرَرِ وَفِعْل الْحَرَامِ،
وَمَا أَدَّى إِلَى الْحَرَامِ فَهُوَ حَرَامٌ (2) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ عَنِ الْبَذْرِ فِي الْمُزَارَعَةِ
وَالزَّكَاةِ وَالْغَصْبِ فِي مَوَاطِنَ مُعَيَّنَةٍ:
فَمِنَ الْمُزَارَعَةِ: تَعْيِينُ مَنْ عَلَيْهِ الْبَذْرُ فِي عَقْدِ
الْمُزَارَعَةِ لِصِحَّةِ الْمُزَارَعَةِ أَوْ فَسَادِهَا، عِنْدَ مَنِ
اعْتَبَرَهَا مِنَ الْفُقَهَاءِ، كَالْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ. (3) وَلُزُومُ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ بِوَضْعِ الْبَذْرِ
فِي الأَْرْضِ، عَلَى تَفْصِيلٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي الْمُزَارَعَةِ (4)
.
وَمِنَ الزَّكَاةِ: مَسْأَلَةُ الْخَارِجِ مِنَ الزَّارِعَةِ بِشُرُوطِهِ،
عَلَى تَفْصِيلٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي زَكَاةِ الزُّرُوعِ (5) .
__________
(1) حديث: " ما من مسلم يغرس غرسا. . . . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 3 -
ط السلفية)
(2) ابن عابدين 2 / 424، 3 / 165 - 166
(3) ابن عابدين 5 / 176، الهداية 4 / 4، وجواهر الإكليل2 / 24، 25، 36،
وقليوبي وعميرة 3 / 61، والمغني 5 / 338 ط السعودية
(4) ابن عابدين 5 / 177، وجواهر الإكليل 2 / 123، وحاشية الدسوقي على الشرح
الكبير 3 / 272
(5) حاشية ابن عابدين 2 / 55 والإقناع 1 / 257 - 258
(8/49)
وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ
حَبٍّ وُقِفَ لِيُزْرَعَ كُل عَامٍ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ أَوْ
مُسْتَأْجَرَةٍ إِذَا بَلَغَ نِصَابًا، بِخِلاَفِ الْحَبِّ الَّذِي وُقِفَ
لِلتَّسْلِيفِ، فَلاَ زَكَاةَ فِيهِ عِنْدَ مَنْ يَرَى جَوَازَ وَقْفِ
الْبَذْرِ لِيُزْرَعَ لِحَاجَةِ الْفُقَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ (1) .
وَمِنَ الْغَصْبِ، الْبَذْرُ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ أَوْ مُتَعَدًّى
عَلَيْهَا، وَاسْتِرْجَاعُ مَالِكِهَا لَهَا بَعْدَ الْبَذْرِ، هَل
يُعَوَّضُ الْمُغْتَصِبُ عَنِ الْبَذْرِ أَمْ لاَ. وَبَيَانُهُ فِي غَصْبٍ
(2) .
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 485
(2) جواهر الإكليل 2 / 154، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 461،
والمغني 5 / 234
(8/50)
بَذْرَقَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبَذْرَقَةُ، قَال ابْنُ خَالَوَيْهِ: فَارِسِيَّةٌ مُعَرَّبَةٌ،
وَقِيل: مُوَلَّدَةٌ (أَيْ عَرَبِيَّةٌ غَيْرُ مَحْضَةٍ) ، وَمَعْنَاهَا:
الْخِفَارَةُ، وَالْجَمَاعَةُ تَتَقَدَّمُ الْقَافِلَةَ لِلْحِرَاسَةِ.
كَمَا أَنَّ بَعْضَهُمْ يَنْطِقُهَا بِالذَّال، وَبَعْضُهُمْ بِالدَّال،
وَبَعْضُهُمْ بِهِمَا جَمِيعًا. وَهِيَ فِي الاِصْطِلاَحِ بِهَذَا
الْمَعْنَى، غَيْرَ أَنَّهُ يُرَادُ بِهَا الْحِرَاسَةُ فِي السَّفَرِ
وَغَيْرِهِ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - أَجَازَ الْعُلَمَاءُ بِالاِتِّفَاقِ الْبَذْرَقَةَ " الْخِفَارَةَ
أَوِ الْحِرَاسَةَ " وَأَجَازُوا أَخْذَ الأَْجْرِ عَلَيْهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَضْمِينِهِمْ عَلَى رَأْيَيْنِ، بِنَاءً عَلَى
تَكْيِيفِ الْبَذْرَقَةِ عَلَى أَنَّهَا إِجَارَةٌ عَامَّةٌ أَوْ خَاصَّةٌ.
الأَْوَّل: يَضْمَنُ قِيمَةَ مَا يُفْقَدُ مِنْهُ، وَهُوَ لأَِبِي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة " بذرق " وابن عابدين 5 / 44 ط بولاق،
وتبصرة الحكام بهامش فتح العلي المالك 2 / 287 ط التجارية الكبرى، وقليوبي
وعميرة 3 / 81 ط الحلبي، وكشاف القناع 4 / 32
(8/50)
وَالثَّانِي: لاَ يَضْمَنُ، وَهُوَ
الأَْصَحُّ وَالْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ رَأْيُ
الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَمَنْشَأُ هَذَا الْخِلاَفِ فِي اعْتِبَارِ الْحَارِسِ أَجِيرًا خَاصًّا
أَوْ عَامًّا، فَمَنِ اعْتَبَرَهُ أَجِيرًا خَاصًّا لَمْ يُضَمِّنْهُ (1)
وَمَنِ اعْتَبَرَهُ أَجِيرًا عَامًّا - مِثْل أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ -
ضَمَّنَهُ. وَلِبَيَانِ هَذِهِ الْمَوَاطِنِ يُرْجَعُ إِلَى - (إِجَارَة،
وَضَمَان (2) ، وَخِفَارَة (3)) .
__________
(1) الهداية 3 / 246، والبدائع 4 / 211 والمهذب 1 / 408، ونهاية المحتاج 5
/ 308، وكشاف القناع 4 / 25، والمغني 6 / 108، والشرح الصغير 4 / 32، 41
(2) البدائع 4 / 211، 212، والهداية 3 / 244، والفتاوى الهندية 4 / 500،
وحاشية ابن عابدين 2 / 40، وحاشية الدسوقي 4 / 28، والمهذب1 / 415، وحاشية
قليوبي 3 / 81
(3) واللجنة ترى أنها إذا كانت خفارة لقافلة معينة فينبغي أن تجرى عليها
أحكام الأجير الخاص، وإذا كانت خفارة لكل قافلة، فينبغي أن تجري عليها
أحكام الأجير المشترك لجميع القوافل المارة في هذا الطريق
(8/51)
بَرَاءَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبَرَاءَةُ فِي اللُّغَةِ: الْخُرُوجُ مِنَ الشَّيْءِ
وَالْمُفَارَقَةُ لَهُ، وَالأَْصْل الْبُرْءُ بِمَعْنَى: الْقَطْعِ،
فَالْبَرَاءَةُ قَطْعُ الْعَلاَقَةِ، يُقَال: بَرِئْتُ مِنَ الشَّيْءِ،
وَأَبْرَأَ بَرَاءَةً: إِذَا أَزَلْتَهُ عَنْ نَفْسِكَ وَقَطَعْتَ
أَسْبَابَهُ، وَبَرِئْتُ مِنَ الدَّيْنِ: انْقَطَعَ عَنِّي، وَلَمْ يَبْقَ
بَيْنَنَا عَلَقَةٌ (1)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِلْبَرَاءَةِ عَنْ مَعْنَاهَا
اللُّغَوِيِّ، فَإِنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِالْبَرَاءَةِ فِي أَلْفَاظِ
الطَّلاَقِ: الْمُفَارَقَةَ، وَفِي الدُّيُونِ وَالْمُعَامَلاَتِ
وَالْجِنَايَاتِ: التَّخَلُّصَ وَالتَّنَزُّهَ، وَكَثِيرًا مَا يَتَرَدَّدُ
عَلَى أَلْسِنَةِ الْفُقَهَاءِ قَوْلُهُمْ: الأَْصْل بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ
أَيْ تَخَلُّصُهَا وَعَدَمُ انْشِغَالِهَا بِحَقِّ آخَرَ. (2)
__________
(1) لسان العرب والصحاح مادة: " برأ " والكليات لأبي البقاء 1 / 427،
والفروق في اللغة ص 131، وتفسير القرطبي 8 / 63، وتفسير الفخر الرازي 16 /
217
(2) درر الحكام شرح مجلة الأحكام 1 / 22، والاختيار 3 / 132، والقليوبي 4 /
293
(8/51)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْبْرَاءُ:
2 - الإِْبْرَاءُ فِي اللُّغَةِ: إِفْعَالٌ مِنْ بَرِئَ، إِذَا تَخَلَّصَ
وَتَنَزَّهَ. وَفِي الاِصْطِلاَحِ: إِسْقَاطُ شَخْصٍ حَقًّا لَهُ فِي
ذِمَّةِ آخَرَ أَوْ قِبَلَهُ، وَفِي الْمُعَامَلاَتِ وَالدُّيُونِ
عَرَّفَهُ الأَْبِيُّ الْمَالِكِيُّ بِأَنَّهُ: إِسْقَاطُ الدَّيْنِ عَنْ
ذِمَّةِ مَدِينِهِ وَتَفْرِيغٌ لَهَا مِنْهُ.
فَإِذَا أَبْرَأَ الدَّائِنُ مَثَلاً، بِإِسْقَاطِ الدَّيْنِ عَنْ ذِمَّةِ
مَدِينِهِ وَتَفْرِيغِهَا مِنْهُ، حَصَلَتِ الْبَرَاءَةُ. وَعَلَى ذَلِكَ
فَالإِْبْرَاءُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْبَرَاءَةِ، وَهِيَ قَدْ تَحْصُل
بِالإِْبْرَاءِ، وَقَدْ تَحْصُل بِسَبَبٍ آخَرَ كَمَا لَوِ اسْتَوْفَى
الدَّائِنُ حَقَّهُ مِنَ الْمَدِينِ، أَوْ زَال سَبَبُ الضَّمَانِ
بِعَامِلٍ آخَرَ غَيْرِ فِعْل الدَّائِنِ. وَقَدْ يُسْتَعْمَل أَحَدُهُمَا
مَكَانَ الآْخَرِ؛ لِعَلاَقَةِ الأَْثَرِ وَالْمُؤَثِّرِ بَيْنَهُمَا. (1)
(ر: إِبْرَاء) .
ب - الْمُبَارَأَةُ:
3 - الْمُبَارَأَةُ لُغَةً: مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْبَرَاءَةِ، فَهِيَ
الاِشْتِرَاكُ فِي الْبَرَاءَةِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ. (2) وَتُعْتَبَرُ
مِنْ أَلْفَاظِ الْخُلْعِ، وَإِذَا حَصَلَتْ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ تُوجِبُ
سُقُوطَ حَقِّ كُلٍّ مِنْهُمَا قِبَل الآْخَرِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ
__________
(1) لسان العرب مادة: " برأ " وفتح القدير 6 / 309، 310، والمنثور في
القواعد للزركشي 1 / 81، وجواهر الإكليل 2 / 12، والمغني لابن قدامة 5 /
659
(2) لسان العرب والمصباح مادة: " برئ "
(8/52)
بِالنِّكَاحِ، عَلَى تَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ.
وَتُسْتَعْمَل غَالِبًا فِي إِسْقَاطِ الزَّوْجَةِ حُقُوقَهَا عَلَى
الزَّوْجِ مُقَابِل الطَّلاَقِ، (1) كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَبَاحِثِ
الطَّلاَقِ وَالْخُلْعِ. فَالْمُبَارَأَةُ أَخَصُّ مِنَ الْبَرَاءَةِ.
ج - الاِسْتِبْرَاءُ:
4 - الاِسْتِبْرَاءُ لُغَةً: طَلَبُ الْبَرَاءَةِ، وَشَرْعًا يُسْتَعْمَل
فِي مَعْنَيَيْنِ:
الأَْوَّل: فِي الطَّهَارَةِ بِمَعْنَى نَظَافَةِ الْمَخْرَجَيْنِ مِنَ
الأَْذَى. وَالثَّانِي: فِي النَّسَبِ بِمَعْنَى: طَلَبِ بَرَاءَةِ
الْمَرْأَةِ مِنَ الْحَبَل وَمِنْ مَاءِ الْغَيْرِ، كَمَا عَبَّرُوا عَنْهُ
بِاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ. (2)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
5 - الْبَرَاءَةُ حَالَةٌ أَصْلِيَّةٌ فِي الأَْشْخَاصِ، فَكُل شَخْصٍ
يُولَدُ وَذِمَّتُهُ بَرِيئَةٌ، وَشَغْلُهَا يَحْصُل بِالْمُعَامَلاَتِ
أَوِ الأَْعْمَال الَّتِي يُجْرِيهَا فِيمَا بَعْدُ، فَكُل شَخْصٍ يَدَّعِي
خِلاَفَ هَذَا الأَْصْل يُطْلَبُ مِنْهُ أَنْ يُبَرْهِنَ عَلَى ذَلِكَ،
فَإِذَا ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ بِحَقٍّ، فَالْقَوْل قَوْل الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ لِمُوَافَقَتِهِ الأَْصْل، وَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي
لِدَعْوَاهُ مَا خَالَفَ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 560، والاختيار 3 / 160، والقليوبي 3 / 310، والمغني 7
/ 58، وبداية المجتهد 2 / 66
(2) لسان العرب مادة: " برأ " وابن عابدين 1 / 230، و 5 / 239، وجواهر
الإكليل 1 / 94، وحاشية القليوبي 4 / 58، والمغني 1 / 161، 7 / 512
(8/52)
الأَْصْل، فَإِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ
إِثْبَاتِ دَعْوَاهُ بِالْبَيِّنَةِ يُحْكَمُ بِبَرَاءَةِ ذِمَّةِ
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ اعْتِبَارًا بِالْقَاعِدَةِ الْفِقْهِيَّةِ:
(الأَْصْل بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ) . وَكَذَلِكَ إِذَا اخْتَلَفَا فِي
مِقْدَارِ الْمَغْصُوبِ وَالْمُتْلَفِ، فَالْقَوْل قَوْل الْغَارِمِ
(الْمَدِينِ) لأَِنَّ الأَْصْل الْبَرَاءَةُ مِمَّا زَادَ. (1)
وَالْبَرَاءَةُ وَصْفٌ تُوصَفُ بِهِ الذِّمَّةُ، وَلِهَذَا صَرَّحَ
الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ الأَْعْيَانَ لاَ تُوصَفُ بِالْبَرَاءَةِ، إِلاَّ
أَنْ يُؤَوَّل بِالْبَرَاءَةِ مِنَ الْعُهْدَةِ أَوْ عَنِ الدَّعْوَى. (2)
هَذَا، وَلِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ فُرُوعٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْمُعَامَلاَتِ
وَالْجِنَايَاتِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مَبَاحِثِ الدَّعْوَى
وَالْبَيِّنَاتِ.
6 - ثُمَّ إِنَّ بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ كَالأَْصْل لاَ تَحْتَاجُ إِلَى
دَلِيلٍ، فَإِذَا شُغِلَتِ الذِّمَّةُ بِارْتِكَابِ عَمَلٍ أَوْ إِجْرَاءِ
مُعَامَلَةٍ، فَبَرَاءَتُهَا تَحْصُل بِأَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ حَسَبَ
اخْتِلاَفِ اشْتِغَال الذِّمَّةِ وَضَمَانِهَا. فَفِي حُقُوقِ اللَّهِ
تَعَالَى إِذَا كَانَتِ الذِّمَّةُ مَشْغُولَةً بِمَا يَلْزَمُ مِنَ
الأَْمْوَال كَالزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ فَلاَ تَحْصُل
الْبَرَاءَةُ إِلاَّ بِأَدَائِهَا مَا دَامَتْ مُيَسَّرَةً. أَمَّا إِذَا
كَانَتْ مَشْغُولَةً بِالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ كَالصَّلاَةِ
وَالصَّوْمِ فَبَرَاءَتُهَا تَحْصُل بِالأَْدَاءِ، وَإِذَا فَاتَ
الأَْوَانُ فَبِالْقَضَاءِ إِذَا كَانَتْ قَلِيلَةً يُمْكِنُ
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص59، وللسيوطي ص 53، والقوانين الفقهية ص
303
(2) ابن عابدين 4 / 474، والدسوقي 3 / 411، وحاشية القليوبي3 / 13، وشرح
منتهى الإرادات 2 / 521
(8/53)
قَضَاؤُهَا، وَإِلاَّ فَبِالتَّوْبَةِ
وَالاِسْتِغْفَارِ، وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ.
وَفِي حُقُوقِ الْعِبَادِ إِذَا أَتْلَفَ أَوْ غَصَبَ شَخْصٌ مَال شَخْصٍ
آخَرَ، تَحْصُل الْبَرَاءَةُ بِالضَّمَانِ، وَهُوَ إِعْطَاءُ عَيْنِ
الشَّيْءِ إِذَا كَانَ قَائِمًا، أَوْ مِثْلِهِ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا،
أَوْ قِيمَتِهِ إِذَا كَانَ قِيَمِيًّا (1) . وَلِتَفْصِيل هَذِهِ
الْمَسَائِل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (إِتْلاَف، غَصْب، ضَمَان) .
كَذَلِكَ تَحْصُل الْبَرَاءَةُ بِإِبْرَاءِ الطَّالِبِ مِنْ حَقِّهِ عَلَى
الْمَطْلُوبِ مِنْهُ دُونَ الأَْدَاءِ أَوِ الاِسْتِيفَاءِ، كَمَا
عَبَّرُوا عَنْهُ بِبَرَاءَةِ الإِْسْقَاطِ، أَوْ إِبْرَاءِ الإِْسْقَاطِ
(2) . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (إِبْرَاء) .
7 - هَذَا، وَقَدْ تَحْصُل الْبَرَاءَةُ بِانْتِقَال الضَّمَانِ مِنْ
ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ أُخْرَى كَمَا فِي الْحَوَالَةِ، فَإِذَا أَحَال
الْمَدِينُ حَقَّ الدَّائِنِ عَلَى شَخْصٍ ثَالِثٍ (الْمُحَال عَلَيْهِ)
وَتَمَّ الْعَقْدُ، بَرِئَتْ ذِمَّةُ الْمُحِيل مِنَ الدَّيْنِ، وَبَرِئَتْ
ذِمَّةُ الْكَفِيل إِذَا كَانَ لَهُ كَفِيلٌ، وَذَلِكَ لاِنْتِقَال
الدَّيْنِ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحَال عَلَيْهِ، فَإِذَا حَصَل التَّوَى (3)
(تَعَذَّرَ الاِسْتِيفَاءُ مِنَ الْمُحَال عَلَيْهِ) رَجَعَ
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية مادة " 415 "، والبدائع 7 / 96، والفواكه الدواني
1 / 88، 89، والروضة 2 / 254، والمغني 9 / 201
(2) فتح القدير 6 / 310، المجلة العدلية مادة " 1562 "، والدسوقي 3 / 411
(3) ابن عابدين 4 / 291، ومجلة الأحكام العدلية مادة " 690 " وجواهر
الإكليل 2 / 108، وحاشية القليوبي 2 / 321، والمغني لابن قدامة 4 / 525
(8/53)
الدَّيْنُ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحِيل،
وَفِيهِ خِلاَفٌ (ر: حَوَالَة) .
8 - وَقَدْ تَحْصُل الْبَرَاءَةُ بِالتَّبَعِيَّةِ كَمَا فِي الْكَفَالَةِ،
فَإِنَّهُ إِذَا حَصَلَتْ بَرَاءَةُ الْمَدِينِ بِأَدَاءِ الدَّيْنِ أَوْ
إِبْرَاءِ الدَّائِنِ لَهُ بَرِئَتْ ذِمَّةُ الْكَفِيل، وَكَذَلِكَ إِذَا
زَال سَبَبُ الضَّمَانِ بِوَجْهٍ آخَرَ، كَمَنْ كَانَ كَفِيلاً بِثَمَنِ
الْمَبِيعِ وَانْفَسَخَ الْبَيْعُ مَثَلاً؛ لأَِنَّ بَرَاءَةَ الأَْصِيل
تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيل (1) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (كَفَالَة) . هَذَا، وَهُنَاكَ اسْتِعْمَالٌ
آخَرُ لِكَلِمَةِ بَرَاءَةٍ بِمَعْنَى: التَّنَزُّهِ وَالاِنْقِطَاعِ عَنِ
الأَْدْيَانِ وَالْمُعْتَقَدَاتِ الْبَاطِلَةِ، كَمَا يُطْلَبُ مِمَّنْ
يُشْهِرُ إِسْلاَمَهُ أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ كُل عَقِيدَةٍ
وَدِينٍ يُخَالِفُ دِينَ الإِْسْلاَمِ. (2)
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِسْلاَم) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
9 - بَحَثَ الْفُقَهَاءُ الْبَرَاءَةَ فِي أَبْوَابِ الدَّعْوَى
وَالْبَيِّنَاتِ، وَفِي بَحْثِ الْكَفَالَةِ تُذْكَرُ بَرَاءَةُ ذِمَّةِ
الْكَفِيل، وَفِي الْحَوَالَةِ بِأَنَّهَا تُوجِبُ بَرَاءَةَ ذِمَّةِ
الْمَدِينِ، وَفِي الْبُيُوعِ حَيْثُ قَالُوا: إِنَّ اشْتِرَاطَ الْبَائِعِ
الْبَرَاءَةَ مِنْ عُيُوبِ الْمَبِيعِ سَبَبٌ لِسُقُوطِ الْخِيَارِ
وَلُزُومِ الْعَقْدِ، كَمَا ذَكَرُوهَا فِي بَابِ الإِْبْرَاءِ وَآثَارِهِ
مِنْ بَرَاءَةِ الاِسْتِيفَاءِ وَبَرَاءَةِ الإِْسْقَاطِ.
__________
(1) ابن عابدين 4 / 273، ومجلة الأحكام العدلية مادة " 662، 669 " وحاشية
القليوبي 2 / 331، والمغني 4 / 548
(2) ابن عابدين 3 / 287، والمغني 8 / 141
(8/54)
بَرَاجِمُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبَرَاجِمُ لُغَةً: جَمْعُ بُرْجُمَةٍ، وَهِيَ: الْمَفَاصِل
وَالْعُقَدُ الَّتِي تَكُونُ فِي ظُهُورِ الأَْصَابِعِ، وَيَجْتَمِعُ
فِيهَا الْوَسَخُ.
وَمَعْنَى الْكَلِمَةِ فِي الاِصْطِلاَحِ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - يُنْدَبُ غَسْل الْبَرَاجِمِ فِي الطَّهَارَةِ - فِي الْوُضُوءِ
وَالْغُسْل - وَفِي غَيْرِهِمَا (2) ، لِحَدِيثِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ. . . وَعَدَّ مِنْهَا:
غَسْل الْبَرَاجِمِ. (3)
وَيُلْحَقُ بِالْبَرَاجِمِ الْمَوَاطِنُ الَّتِي يَجْتَمِعُ فِيهَا
الْوَسَخُ عَادَةً: كَالأُْذُنِ وَالأَْنْفِ وَالأَْظَافِرِ وَأَيِّ
مَوْضِعٍ مِنَ الْبَدَنِ.
__________
(1) الصحاح ولسان العرب مادة " برجم "
(2) شرح صحيح مسلم للنووي 3 / 150ط الأزهرية، وعون المعبود 1 / 80 ط
السلفية
(3) حديث: " عشر من الفطرة. . . ". أخرجه مسلم (1 / 223 ـ ط الحلبي)
(8/54)
هَذَا إِذَا كَانَ الْوَسَخُ لاَ يَمْنَعُ
وُصُول الْمَاءِ إِلَى الْبَشَرَةِ، أَمَّا إِنْ مَنَعَ وُصُول الْمَاءِ
إِلَيْهَا، فَإِنَّهُ يَجِبُ إِزَالَتُهُ فِي الْجُمْلَةِ، لِيَصِل
الْمَاءُ إِلَى الْعُضْوِ فِي الطَّهَارَةِ. هَذَا وَيَتَكَلَّمُ
الْفُقَهَاءُ عَنِ الْبَرَاجِمِ وَغَيْرِهَا مِنْ خِصَال الْفِطْرَةِ فِي
الْوُضُوءِ، وَالْغُسْل، وَخِصَال الْفِطْرَةِ. (1)
__________
(1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 40، والمغني 1 / 108 ط السعودية،
وحاشية الدسوقي 1 / 89 ط دار الفكر، وشرح صحيح مسلم للنووي 1 / 89 ط
الأزهرية، وعون المعبود 1 / 80 ط السلفية
(8/55)
بَرَازٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبَرَازُ (بِالْفَتْحِ) لُغَةً: اسْمٌ لِلْفَضَاءِ الْوَاسِعِ.
وَكَنُّوا بِهِ عَنْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ. كَمَا كَنُّوا عَنْهُ
بِالْخَلاَءِ؛ لأَِنَّهُمْ كَانُوا يَتَبَرَّزُونَ فِي الأَْمْكِنَةِ
الْخَالِيَةِ مِنَ النَّاسِ. يُقَال: بَرَزَ إِذَا خَرَجَ إِلَى
الْبَرَازِ، وَهُوَ الْغَائِطُ، وَتَبَرَّزَ الرَّجُل: خَرَجَ إِلَى
الْبَرَازِ لِلْحَاجَةِ. وَهُوَ بِكَسْرِ الْبَاءِ مَصْدَرٌ مِنَ
الْمُبَارَزَةِ فِي الْحَرْبِ، وَيُكْنَى بِهِ أَيْضًا عَنِ الْغَائِطِ (1)
وَهُوَ بِمَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيِّ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى
الْكِنَائِيِّ؛ إِذْ هُوَ ثُفْل الْغِذَاءِ، وَهُوَ الْغَائِطُ الْخَارِجُ
عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْغَائِطُ:
2 - الْغَائِطُ: أَصْلُهُ مَا انْخَفَضَ مِنَ الأَْرْضِ، وَالْجَمْعُ
الْغِيطَانِ وَالأَْغْوَاطُ. وَبِهِ سُمِّيَتْ غَوْطَةُ دِمَشْقَ،
وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَقْصِدُ هَذَا الصِّنْفَ مِنَ الْمَوَاضِعِ لِقَضَاءِ
حَاجَتِهَا تَسَتُّرًا عَنْ أَعْيَنِ النَّاسِ.
__________
(1) لسان العرب مادة " برز "
(8/55)
ثُمَّ سُمِّيَ الْحَدَثُ الْخَارِجُ مِنَ
الإِْنْسَانِ غَائِطًا لِلْمُقَارَنَةِ. (1)
وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى يَتَّفِقُ مَعَ الْبَرَازِ - بِالْفَتْحِ -
كِنَائِيًّا فِي الدَّلاَلَةِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا
كِنَايَةٌ عَنْ ثُفْل الْغِذَاءِ وَفَضَلاَتِهِ الْخَارِجَةِ.
- الْبَوْل:
3 - الْبَوْل: وَاحِدُ الأَْبْوَال. يُقَال: بَال الإِْنْسَانُ
وَالدَّابَّةُ، يَبُول بَوْلاً وَمَبَالاً، فَهُوَ بَائِلٌ. ثُمَّ
اسْتُعْمِل الْبَوْل فِي الْعَيْنِ. أَيْ فِي الْمَاءِ الْخَارِجِ مِنَ
الْقُبُل، وَجُمِعَ عَلَى أَبْوَالٍ. (2)
وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى يَأْخُذُ حُكْمَ الْبَرَازِ (بِالْفَتْحِ)
كِنَائِيًّا، مِنْ حَيْثُ إِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا نَجِسٌ، وَإِنِ
اخْتَلَفَا مَخْرَجًا.
ج - النَّجَاسَةُ:
4 - النَّجَاسَةُ لُغَةً: كُل مُسْتَقْذَرٍ. (3)
وَاصْطِلاَحًا: صِفَةٌ حُكْمِيَّةٌ تُوجِبُ لِمَوْصُوفِهَا مَنْعَ
اسْتِبَاحَةِ الصَّلاَةِ وَنَحْوِهَا. (4) وَهِيَ بِهَذَا الْمَعْنَى
أَعَمُّ مِنَ الْبَرَازِ (بِالْفَتْحِ) مَكْنِيًّا إِذْ تَشْمَلُهُ
وَغَيْرَهُ مِنَ الأَْنْجَاسِ، كَالدَّمِ
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 5 / 220 ط دار الكتب 1937
(2) لسان العرب، والصحاح، والمصباح المنير مادة " بول "
(3) لسان العرب والمصباح المنيرة مادة " نجس "
(4) الشرح الكبير للدردير 1 / 32
(8/56)
وَالْبَوْل وَالْمَذْيِ وَالْوَدْيِ
وَالْخَمْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَْنْجَاسِ الأُْخْرَى.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
5 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى نَجَاسَةِ الْبَرَازِ. وَأَنَّهُ
تَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ مِنْهَا: أَنَّهُ مُنَجِّسٌ لِلْبَدَنِ
وَالثَّوْبِ وَالْمَكَانِ. وَأَنَّ تَطْهِيرَ ذَلِكَ وَاجِبٌ، سَوَاءٌ
أَكَانَ ذَلِكَ بِالاِسْتِنْجَاءِ أَوِ الْغُسْل، عَلَى مَا هُوَ مُفَصَّلٌ
فِي مَوْطِنِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمِقْدَارِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ
مِنْهُ، وَفِي جَوَازِ بَيْعِهِ. (1) وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي أَبْوَابِ
الطِّهَارَاتِ وَفِي مُصْطَلَحِ (قَضَاءُ الْحَاجَةِ) .
__________
(1) الاختيار شرح المختار 1 / 6، 12، 18، 30 - 35، 43، وفتح القدير 1 /
168، ورد المحتار على الدر المختار 5 / 46، والمهذب في فقه الإمام الشافعي
1 / 10، 34 - 36، 55 - 57، 67 - 68، 268، والشرح الكبير للدردير 1 / 30 -
34، 65 - 68، 80، 3 / 10، والمغني لابن قدامة 1 / 6، 10، 30، 156، 233، 2 /
63 - 64، 83، 4 / 83 ط الرياض
(8/56)
بَرْدٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبَرْدُ لُغَةً: ضِدُّ الْحَرِّ، وَالْبُرُودَةُ نَقِيضُ
الْحَرَارَةِ. (1) وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلْكَلِمَةِ
عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ فِي الْجُمْلَةِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
إِبْرَادٌ:
2 - مِنْ مَعَانِي الإِْبْرَادِ فِي اللُّغَةِ: الدُّخُول فِي الْبَرْدِ
وَالدُّخُول فِي آخِرِ النَّهَارِ. (2) وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ: تَأْخِيرُ
الظُّهْرِ إِلَى وَقْتِ الْبَرْدِ. (3)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ عَنِ الْبَرْدِ فِي التَّيَمُّمِ وَالْجُمُعَةِ
وَالْجَمَاعَةِ وَجَمْعِ الصَّلَوَاتِ وَالْحُدُودِ وَالتَّعَازِيرِ
وَالصَّلاَةِ.
أ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والصحاح في المادة
(2) المصباح المنير وتاج العروس مادة " برد
"
(3) الطحطاوي على مراقي الفلاح 98، والجمل على المنهج 1 / 277
(8/57)
- فَفِي التَّيَمُّمِ: أَجَازَ
الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ رَأْيٌ
لِلْحَنَفِيَّةِ - التَّيَمُّمَ لِلْحَدَثِ الأَْكْبَرِ وَالأَْصْغَرِ فِي
الْبَرْدِ الشَّدِيدِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ، إِذَا لَمْ يَجِدْ مَا
يُسَخِّنُهُ وَخَشِيَ الضَّرَرَ. وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ - فِي
الْمَشْهُورِ - عِنْدَهُمُ التَّيَمُّمَ لِلْحَدَثِ الأَْكْبَرِ دُونَ
الأَْصْغَرِ؛ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الضَّرَرِ فِي الأَْصْغَرِ غَالِبًا،
لَكِنْ لَوْ تَحَقَّقَ الضَّرَرُ جَازَ فِيهِ أَيْضًا اتِّفَاقًا، كَمَا
قَرَّرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ، قَال: لأَِنَّ الْحَرَجَ مَدْفُوعٌ
بِالنَّصِّ، وَهُوَ ظَاهِرُ إِطْلاَقِ الْمُتُونِ.
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ التَّيَمُّمَ لِلْبَرْدِ الشَّدِيدِ
الْمُسَبِّبِ بُرُودَةَ الْمَاءِ، إِذَا خَافَ الصَّحِيحُ الْحَاضِرُ أَوِ
الْمُسَافِرُ خُرُوجَ وَقْتِ الصَّلاَةِ بِطَلَبِهِ الْمَاءَ
وَتَسْخِينِهِ. (1)
ب - وَفِي صَلاَةِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ: أَجَازَ الْفُقَهَاءُ فِي
الْبَرْدِ الشَّدِيدِ التَّخَلُّفَ عَنْ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ، وَعَنْ
صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ نَهَارًا أَوْ لَيْلاً. (2)
ج - وَفِي جَمْعِ الصَّلَوَاتِ: أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ رَأْيٌ
لِلْحَنَابِلَةِ الْجَمْعَ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ فَقَطْ جَمْعَ تَقْدِيمٍ
فِي الْبَرْدِ الشَّدِيدِ، حَالًّا أَوْ مُتَوَقَّعًا. وَأَجَازَ
الشَّافِعِيَّةُ الْجَمْعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 156 ط بيروت، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1
/ 150، وبداية المجتهد لابن رشد 1 / 67 ط الحلبي، والمهذب 1 / 35 ط الحلبي،
والمغني لابن قدامة 1 / 261
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 548 ط بيروت، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير1 /
390 ط الحلبي، وقليوبي وعميرة 1 / 226، 268 الحلبي، والمغني لابن قدامة 2 /
276 ط الرياض
(8/57)
وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ
بِشُرُوطٍ مُدَوَّنَةٍ فِي مَوَاطِنِهَا. وَمَنَعَ الْحَنَفِيَّةُ
الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَوَاتِ تَقْدِيمًا أَوْ تَأْخِيرًا فِي الْبَرْدِ؛
لِقَصْرِهِمُ الْجَمْعَ عَلَى مَوْطِنَيْنِ هُمَا: مُزْدَلِفَةُ وَعَرَفَةُ
(1) .
د - وَفِي الْحُدُودِ وَالتَّعَازِيرِ: أَوْجَبَ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجُمْلَةِ مَنْعَ إِقَامَةِ
الْحُدُودِ وَالتَّعَازِيرِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فِي الْبَرْدِ
الشَّدِيدِ، حَتَّى يَعْتَدِل الزَّمَانُ؛ لأَِنَّ إِقَامَتَهَا
مَهْلَكَةٌ، وَلَيْسَ رَدْعًا. (2)
هـ - وَفِي الصَّلاَةِ: أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ السُّجُودَ عَلَى كَوْرِ الْعِمَامَةِ أَثْنَاءَ
الصَّلاَةِ عَلَى الأَْرْضِ الْمَكْشُوفَةِ الْبَارِدَةِ لِلضَّرُورَةِ (3)
.
بَرَدٌ
انْظُرْ: مِيَاه.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 256، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 370 ط
الحلبي، وقليوبي وعميرة 1 / 467، والمغني 2 / 276 ط الرياض
(2) حاشية الطحطاوي على الدر المختار 2 / 428، والفواكه الدواني على رسالة
القيرواني 2 / 191 ط بيروت، وبداية المجتهد لابن رشد 2 / 445 ط القاهرة،
والمهذب 2 / 271ط بيروت وقليوبي وعميرة 4 / 183 ط الحلبي
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 253، 336 ط بيروت، وحاشية الدسوقي على الشرح
الكبير 1 / 253 الحلبي، والمغني 1 / 517، 518 ط الرياض
(8/58)
بُرٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبُرُّ بِالضَّمِّ يُطْلَقُ لُغَةً: عَلَى الْقَمْحِ، وَالْوَاحِدَةُ
مِنْهُ (بُرَّةٌ) (1) ، وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ بِهَذَا الْمَعْنَى.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - الْبُرُّ - مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ حَبًّا خَارِجًا مِنَ الأَْرْضِ -
وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ إِذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ عِنْدَ
الْجُمْهُورِ، وَمِنْهُمْ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ. وَأَوْجَبَهَا أَبُو
حَنِيفَةَ فِي الْخَارِجِ مُطْلَقًا، وَلَوْ لَمْ يَبْلُغْ خَمْسَةَ
أَوْسُقٍ. وَنِسْبَةُ الْوَاجِبِ إِذَا سُقِيَتِ الأَْرْضُ سَيْحًا أَوْ
بِمَاءِ السَّمَاءِ: الْعُشْرُ، وَإِذَا سُقِيَتْ بِآلَةٍ: نِصْفُ
الْعُشْرِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ. وَإِذَا كَانَتِ الأَْرْضُ خَرَاجِيَّةً
فَفِيهَا الْخَرَاجُ دُونَ الْعُشْرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. (2)
__________
(1) لسان العرب، والصحاح، المصباح مادة " برر
"
(2) الاختيار 1 / 113، 2 / 24، 123 ط المعرفة، وقليوبي 2 / 18 ط عيسى
الحلبي، جواهر الإكليل 1 / 124، المغني 2 / / 6
(8/58)
وَالْبُرُّ مِنَ الأَْجْنَاسِ
الْمُجْزِئَةِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ الْوَاجِبَةِ، وَالْقَدْرُ
الْمُجْزِئُ مِنْهُ صَاعٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَنِصْفُهُ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ (1) . وَتَفْصِيلُهُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ.
وَإِذَا قُصِدَ فِي الْبُرِّ التِّجَارَةُ قُوِّمَ كَالْعُرُوضِ،
وَأُخْرِجَتْ عَنْهُ الزَّكَاةُ كَمَا تُخْرَجُ عَنْهَا. وَتَفْصِيلُهُ فِي
الزَّكَاةِ.
وَيُعَدُّ الْبُرُّ مِنَ الْمَالِيَّاتِ الْمُتَقَوِّمَةِ الَّتِي يَجُوزُ
بَيْعُهَا وَهِبَتُهَا وَالسَّلَمُ فِيهَا، وَيَدْخُلُهُ الرِّبَا إِذَا
بِيعَ بِمِثْلِهِ. فَيُشْتَرَطُ لَهُ: الْمُمَاثَلَةُ وَالْحُلُول
وَالتَّقَابُضُ. لِقَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ
بِالْبُرِّ. . . . (2)
كَمَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ مُحَاقَلَةً فِي الْجُمْلَةِ، وَهِيَ: بَيْعُ
الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا بِمِثْلِهَا مِنَ الْحِنْطَةِ وَلَوْ خَرْصًا،
وَلاَ مُخَاضَرَةً، وَهِيَ: الْبَيْعُ قَبْل بُدُوِّ الصَّلاَحِ
وَالزَّرْعُ أَخْضَرُ، خِلاَفًا لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ. (3)
وَالتَّفْصِيل فِي (الْبَيْعِ، وَالرِّبَا، وَالْبَيْعِ الْمَنْهِيِّ
عَنْهُ) .
__________
(1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح 395، وابن عابدين 2 / 76، بداية
المجتهد 1 / 286، والمغني 3 / 57 ط الرياض
(2) حديث: " الذهب بالذهب. . . " أخرجه مسلم (3 / 1211 ـ ط الحلبي)
(3) الاختيار 2 / 24، 30، 123، وبدائع الصنائع 7 / 3081، والشرح الصغير 3 /
33، 47، والدسوقي 3 / 17، وقليوبي 2 / 237، المغني 4 / 19، 20
(8/59)
بِرٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - تَدُورُ مَعَانِي لَفْظِ الْبِرِّ لُغَةً: عَلَى الصِّدْقِ
وَالطَّاعَةِ وَالصِّلَةِ وَالإِْصْلاَحِ وَالاِتِّسَاعِ فِي الإِْحْسَانِ
إِلَى النَّاسِ. يُقَال: بَرَّ يَبَرُّ: إِذَا صَلَحَ. وَبَرَّ فِي
يَمِينِهِ: إِذَا صَدَقَ، وَالْبَرُّ: الصَّادِقُ. وَأَبَرَّ اللَّهُ
الْحَجَّ وَبَرَّهُ: أَيْ قَبِلَهُ. وَالْبِرُّ: ضِدُّ الْعُقُوقِ،
وَالْمَبَرَّةُ مِثْلُهُ. وَبَرَرْتُ وَالِدَيَّ: أَيْ وَصَلْتُهُمَا.
وَمِنْ أَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (الْبَرُّ) أَيِ الصَّادِقُ
فِيمَا وَعَدَ أَوْلِيَاءَهُ. (1) وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ
لِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ، فَهُوَ عِنْدَهُمْ: اسْمٌ
جَامِعٌ لِلْخَيْرَاتِ كُلِّهَا، يُرَادُ بِهِ التَّخَلُّقُ بِالأَْخْلاَقِ
الْحَسَنَةِ مَعَ النَّاسِ بِالإِْحْسَانِ إِلَيْهِمْ وَصِلَتِهِمْ
وَالصِّدْقِ مَعَهُمْ، وَمَعَ الْخَالِقِ بِالْتِزَامِ أَمْرِهِ
وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ.
كَمَا يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْعَمَل الدَّائِمُ الْخَالِصُ مِنَ
الْمَأْثَمِ.
__________
(1) لسان العرب مادة: " برر " وتهذيب
الأسماء 3 / 23
(8/59)
وَيُقَابِلُهُ: الْفُجُورُ وَالإِْثْمُ؛
لأَِنَّ الْفُجُورَ خُرُوجٌ عَنِ الدِّينِ، وَمَيْلٌ إِلَى الْفَسَادِ،
وَانْبِعَاثٌ فِي الْمَعَاصِي، وَهُوَ اسْمٌ جَامِعٌ لِلشَّرِّ. (1)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - تَظَاهَرَتْ نُصُوصُ الشَّرِيعَةِ عَلَى الأَْمْرِ بِالْبِرِّ
وَالْحَضِّ عَلَيْهِ، فَهُوَ خُلُقٌ جَامِعٌ لِلْخَيْرِ، حَاضٌّ عَلَى
الْتِزَامِ الطَّاعَةِ وَاجْتِنَابِ الْمَعْصِيَةِ.
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَل
الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآْخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ
وَآتَى الْمَال عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيل وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ
وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا
عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ
الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} .
(2)
جَاءَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ (3) : أَنَّ الْبِرَّ هُنَا اسْمٌ
جَامِعٌ لِلْخَيْرِ، وَقَال: تَقْدِيرُ الْكَلاَمِ: وَلَكِنَّ الْبِرَّ
بِرُّ مَنْ آمَنَ. أَوِ التَّقْدِيرُ: وَلَكِنَّ ذَا الْبِرِّ مَنْ آمَنَ،
وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا
هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَفُرِضَتِ الْفَرَائِضُ، وَصُرِفَتِ
الْقِبْلَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَحُدَّتِ الْحُدُودُ، أَنْزَل اللَّهُ
هَذِهِ الآْيَةَ.
__________
(1) فتح الباري 10 / 508، الفتح الرباني 1 / 34، 35
(2) سورة البقرة / 177
(3) تفسير القرطبي 2 / 238
(8/60)
فَأَفَادَتْ أَنَّ الْبِرَّ لَيْسَ كُلُّهُ
بِالصَّلاَةِ، وَلَكِنَّ الْبِرَّ بِالإِْيمَانِ بِاللَّهِ إِلَى آخِرِهَا
مِنْ صِفَاتِ الْخَيْرِ الْجَامِعَةِ.
وَقَال تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ
تَعَاوَنُوا عَلَى الإِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) . قَال الْمَاوَرْدِيُّ:
نَدَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِلَى التَّعَاوُنِ بِالْبِرِّ، وَقَرَنَهُ
بِالتَّقْوَى لَهُ؛ لأَِنَّ فِي التَّقْوَى رِضَى اللَّهِ تَعَالَى وَفِي
الْبِرِّ رِضَى النَّاسِ، وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ رِضَى اللَّهِ تَعَالَى
وَرِضَى النَّاسِ فَقَدْ تَمَّتْ سَعَادَتُهُ وَعَمَّتْ نِعْمَتُهُ.
وَقَال ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ: وَالتَّعَاوُنُ عَلَى الْبِرِّ
وَالتَّقْوَى يَكُونُ بِوُجُوهٍ، فَوَاجِبٌ عَلَى الْعَالِمِ أَنْ يُعِينَ
النَّاسَ بِعِلْمِهِ فَيُعَلِّمَهُمْ، وَيُعِينُهُمُ الْغَنِيُّ بِمَالِهِ،
وَالشُّجَاعُ بِشَجَاعَتِهِ فِي سَبِيل اللَّهِ، وَأَنْ يَكُونَ
الْمُسْلِمُونَ مُتَظَاهِرِينَ كَالْيَدِ الْوَاحِدَةِ. (2)
وَفِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَال: سَأَلْتُ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبِرِّ وَالإِْثْمِ، فَقَال
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبِرُّ حُسْنُ
الْخُلُقِ، وَالإِْثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ
عَلَيْهِ النَّاسُ. (3)
قَال النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَى مُسْلِمٍ: قَال الْعُلَمَاءُ:
الْبِرُّ يَكُونُ بِمَعْنَى الصِّلَةِ، وَبِمَعْنَى اللُّطْفِ
وَالْمَبَرَّةِ وَحُسْنِ الصُّحْبَةِ وَالْعِشْرَةِ،
__________
(1) سورة المائدة / 2
(2) تفسير القرطبي6 / 46
(3) حديث النواس بن سمعان قال: " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . .
" أخرجه مسلم (4 / 1980 ـ ط الحلبي)
(8/60)
وَبِمَعْنَى الطَّاعَةِ، وَهَذِهِ
الأُْمُورُ هِيَ مَجَامِعُ حُسْنِ الْخُلُقِ. وَمَعْنَى حَاكَ فِي
صَدْرِكَ: أَيْ تَحَرَّكَ فِيهِ وَتَرَدَّدَ، وَلَمْ يَنْشَرِحْ لَهُ
الصَّدْرُ، وَحَصَل فِي الْقَلْبِ مِنْهُ الشَّكُّ وَخَوْفُ كَوْنِهِ
ذَنْبًا (1) .
وَيَتَعَلَّقُ بِالْبِرِّ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا:
بِرُّ الْوَالِدَيْنِ:
3 - بِرُّ الْوَالِدَيْنِ بِمَعْنَى: طَاعَتِهِمَا وَصِلَتِهِمَا وَعَدَمِ
عُقُوقِهِمَا، وَالإِْحْسَانِ إِلَيْهِمَا مَعَ إِرْضَائِهِمَا بِفِعْل مَا
يُرِيدَانِهِ مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَضَى
رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}
. (2)
وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
قَال: سَأَلْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ
الْعَمَل أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَال: الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا،
قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَال: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟
قَال: الْجِهَادُ فِي سَبِيل اللَّهِ. (3) فَهَذِهِ النُّصُوصُ تَدُل عَلَى
وُجُوبِ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَتَعْظِيمِ حَقِّهِمَا. وَلِلتَّفْصِيل فِي
بَيَانِ حَقِّ الْوَالِدَيْنِ وَبِرِّهِمَا انْظُرْ مُصْطَلَحَ (بِرُّ
الْوَالِدَيْنِ) .
بِرُّ الأَْرْحَامِ:
4 - بِرُّ الأَْرْحَامِ وَهُوَ بِمَعْنَى صِلَتِهِمْ وَالإِْحْسَانِ
__________
(1) النووي على مسلم 16 / 111
(2) سورة الإسراء / 23
(3) حديث عبد الله بن مسعود: " سألت رسول الله. . . " أخرجه البخاري (الفتح
2 / 9 ـ ط السلفية) ومسلم (1 / 90 ـ ط الحلبي)
(8/61)
إِلَيْهِمْ وَتَفَقُّدِ أَحْوَالِهِمْ
وَالْقِيَامِ عَلَى حَاجَاتِهِمْ وَمُوَاسَاتِهِمْ. قَال اللَّهُ تَعَالَى:
{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ
إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ
ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ
السَّبِيل وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (1)
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ
الْخَلْقَ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ، قَامَتِ الرَّحِمُ فَقَالَتْ:
هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ، قَال: نَعَمْ، أَمَا
تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِل مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ:
بَلَى، قَال: فَذَلِكَ لَكِ. ثُمَّ قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَهَل عَسَيْتُمْ إِنْ
تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَْرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى
أَبْصَارَهُمْ} (2) .
فَهَذِهِ النُّصُوصُ تَدُل عَلَى أَنَّ صِلَةَ الأَْرْحَامِ وَبِرَّهَا
وَاجِبٌ، وَقَطِيعَتَهَا مُحَرَّمَةٌ فِي الْجُمْلَةِ، إِلاَّ أَنَّهَا
دَرَجَاتٌ بَعْضُهَا أَرْفَعُ مِنْ بَعْضٍ، وَأَدْنَاهَا تَرْكُ الْهَجْرِ،
وَالصِّلَةُ بِالْكَلاَمِ وَالسَّلاَمِ.
وَتَخْتَلِفُ هَذِهِ الدَّرَجَاتُ بِاخْتِلاَفِ الْقُدْرَةِ
__________
(1) سورة النساء / 36
(2) سورة محمد / 22، 23
(8/61)
وَالْحَاجَةِ، فَمِنْهَا الْوَاجِبُ،
وَمِنْهَا الْمُسْتَحَبُّ. إِلاَّ أَنَّهُ لَوْ وَصَل بَعْضَ الصِّلَةِ،
وَلَمْ يَصِل غَايَتَهَا، لاَ يُسَمَّى قَاطِعًا، وَلَوْ قَصَّرَ عَمَّا
يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَيَنْبَغِي لَهُ لاَ يَكُونُ وَاصِلاً. (1)
أَمَّا حَدُّ الرَّحِمِ الَّتِي تَجِبُ صِلَتُهَا وَيَحْرُمُ قَطْعُهَا:
فَهُوَ الْقَرَابَاتُ مِنْ جِهَةِ أَصْل الإِْنْسَانِ، كَأَبِيهِ وَجَدِّهِ
وَإِنْ عَلاَ، وَفُرُوعِهِ كَأَبْنَائِهِ وَبَنَاتِهِ وَإِنْ نَزَلُوا.
وَمَا يَتَّصِل بِهِمَا مِنْ حَوَاشٍ كَالإِْخْوَةِ وَالأَْخَوَاتِ
وَالأَْعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَالأَْخْوَال وَالْخَالاَتِ، وَمَا يَتَّصِل
بِهِمْ مِنْ أَوْلاَدِهِمْ بِرَحِمٍ جَامِعَةٍ. (2)
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (أَرْحَام) .
بِرُّ الْيَتَامَى وَالضَّعَفَةِ وَالْمَسَاكِينِ:
5 - بِرُّ الْيَتَامَى وَالضَّعَفَةِ وَالْمَسَاكِينِ يَكُونُ
بِالإِْحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَالْقِيَامِ عَلَى مَصَالِحِهِمْ
وَحُقُوقِهِمْ، وَعَدَمِ تَضْيِيعِهَا، فَفِي حَدِيثِ سَهْل بْنِ سَعْدٍ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا وَكَافِل الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا
وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا. (3)
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: السَّاعِي عَلَى الأَْرْمَلَةِ
__________
(1) دليل الفالحين 2 / 146
(2) النووي على مسلم 16 / 112
(3) حديث سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا وكافل
اليتيم. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 436ـ ط السلفية)
(8/62)
وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيل
اللَّهِ. وَأَحْسَبُهُ قَال: وَكَالْقَائِمِ الَّذِي لاَ يَفْتُرُ،
وَكَالصَّائِمِ الَّذِي لاَ يُفْطِرُ. (1)
الْحَجُّ الْمَبْرُورُ:
6 - الْحَجُّ الْمَبْرُورُ هُوَ: الْحَجُّ الْمَقْبُول الَّذِي لاَ
يُخَالِطُهُ إِثْمٌ وَلاَ رِيَاءٌ. (2)
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْعُمْرَةُ إِلَى
الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ
لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الْجَنَّةُ (3) وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ
(حَجّ) .
الْبَيْعُ الْمَبْرُورُ:
7 - الْبَيْعُ الْمَبْرُورُ: هُوَ الَّذِي لاَ غِشَّ فِيهِ وَلاَ
خِيَانَةَ. فَفِي حَدِيثِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ
قَال: سُئِل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ
الْكَسْبِ أَفْضَل قَال: عَمَل الرَّجُل بِيَدِهِ، وَكُل بَيْعٍ مَبْرُورٍ
(4)
__________
(1) حديث: " الساعي على الأرملة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 437 ـ ط
السلفية) ومسلم (4 / 2286 ـ ط الحلبي)
(2) فتح الباري 1 / 78
(3) حديث: " العمرة إلى العمرة كفارة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 597
ـ ط السلفية) ومسلم (2 / 983 ـ ط الحلبي)
(4) حديث: أبي بردة بن نيار عن ابن عمر قال: سئل رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " أي الكسب أفضل؟ . . . " رواه الطبراني في الأوسط والكبير ورجاله
ثقات. (مجمع الزوائد للهيثمي 4 / 61 ـ ط القدسي)
(8/62)
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (بَيْع)
.
بِرُّ الْيَمِينِ:
8 - بِرُّ الْيَمِينِ مَعْنَاهُ: أَنْ يَصْدُقَ فِي يَمِينِهِ، فَيَأْتِي
بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ.
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَنْقُضُوا الأَْيْمَانَ بَعْدَ
تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} . (1)
وَهُوَ وَاجِبٌ فِي الْحَلِفِ عَلَى فِعْل الْوَاجِبِ أَوْ تَرْكِ
الْحَرَامِ، فَيَكُونُ يَمِينَ طَاعَةٍ يَجِبُ الْبِرُّ بِهِ بِالْتِزَامِ
مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الْحِنْثُ فِيهِ.
أَمَّا إِنْ حَلَفَ عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْل مُحَرَّمٍ فَهُوَ
يَمِينُ مَعْصِيَةٍ، يَجِبُ الْحِنْثُ فِيهِ. فَإِنْ حَلَفَ عَلَى فِعْل
نَفْلٍ، كَصَلاَةِ تَطَوُّعٍ أَوْ صَدَقَةِ تَطَوُّعٍ فَالْتِزَامُ
الْيَمِينِ مَنْدُوبٌ، وَمُخَالَفَتُهُ مَكْرُوهَةٌ.
فَإِنْ حَلَفَ عَلَى تَرْكِ نَفْلٍ فَالْيَمِينُ مَكْرُوهَةٌ،
وَالإِْقَامَةُ عَلَيْهَا مَكْرُوهَةٌ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَحْنَثَ فِيهَا.
وَإِنْ كَانَتْ عَلَى فِعْلٍ مُبَاحٍ فَالْحِنْثُ بِهَا مُبَاحٌ (2) قَال
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا حَلَفْتَ عَلَى
يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ،
وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ (3)
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (أَيْمَان) .
__________
(1) سورة النحل / 91
(2) روضة الطالبين 2 / 20، والمغني 9 / 493
(3) حديث: " إذا حلفت على يمين. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 11 / / 608 ـ
ط السلفية) ومسلم (3 / 1274 ـ ط الحلبي) واللفظ للبخاري
(8/63)
بِرُّ الْوَالِدَيْنِ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْبِرِّ فِي اللُّغَةِ: الْخَيْرُ وَالْفَضْل
وَالصِّدْقُ وَالطَّاعَةُ وَالصَّلاَحُ (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: يُطْلَقُ فِي الأَْغْلَبِ عَلَى الإِْحْسَانِ
بِالْقَوْل اللَّيِّنِ اللَّطِيفِ الدَّال عَلَى الرِّفْقِ وَالْمَحَبَّةِ،
وَتَجَنُّبِ غَلِيظِ الْقَوْل الْمُوجِبِ لِلنُّفْرَةِ، وَاقْتِرَانِ
ذَلِكَ بِالشَّفَقَةِ وَالْعَطْفِ وَالتَّوَدُّدِ وَالإِْحْسَانِ بِالْمَال
وَغَيْرِهِ مِنَ الأَْفْعَال الصَّالِحَاتِ. (2) وَالأَْبَوَانِ: هُمَا
الأَْبُ وَالأُْمُّ. (3)
وَيَشْمَل لَفْظُ (الأَْبَوَيْنِ) الأَْجْدَادَ وَالْجَدَّاتِ. (4) قَال
ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَالأَْجْدَادُ آبَاءٌ،
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، الصحاح مادة " برر "، والكليات لأبي
البقاء 1 / 398 ط دمشق، وزارة الثقافة 1974
(2) الفواكه الدواني على رسالة القيرواني 2 / 382 ـ 383، والزواجر عن
اقتراف الكبائر للهيثمي 2 / 66 ط دار المعرفة ببيروت
(3) لسان العرب، والصحاح 1 / 5
(4) حاشية ابن عابدين 3 / 220 (التعليق على قول الشارح له أبوان) ، وتبيين
الحقائق شرح كنز الدقائق 3 / 242، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 2 / 230،
وتحفة المحتاج بشرح المنهاج 9 / 232ـ 233 ومطالب أولي النهى 2 / 513
(8/63)
وَالْجَدَّاتُ أُمَّهَاتٌ، فَلاَ يَغْزُو
الْمَرْءُ إِلاَّ بِإِذْنِهِمْ، وَلاَ أَعْلَمُ دَلاَلَةً تُوجِبُ ذَلِكَ
لِغَيْرِهِمْ مِنَ الإِْخْوَةِ وَسَائِرِ الْقَرَابَاتِ. (1)
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - اهْتَمَّ الإِْسْلاَمُ بِالْوَالِدَيْنِ اهْتِمَامًا بَالِغًا. وَجَعَل
طَاعَتَهُمَا وَالْبِرَّ بِهِمَا مِنْ أَفْضَل الْقُرُبَاتِ. وَنَهَى عَنْ
عُقُوقِهِمَا وَشَدَّدَ فِي ذَلِكَ غَايَةَ التَّشْدِيدِ. كَمَا وَرَدَ فِي
الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَقَضَى
رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا
إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ
تَقُل لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّل مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَبِّي
ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (2) ، فَقَدْ أَمَرَ سُبْحَانَهُ
بِعِبَادَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَجَعَل بِرَّ الْوَالِدَيْنِ مَقْرُونًا
بِذَلِكَ، وَالْقَضَاءُ هُنَا: بِمَعْنَى الأَْمْرِ وَالإِْلْزَامِ
وَالْوُجُوبِ.
كَمَا قَرَنَ شُكْرَهُمَا بِشُكْرِهِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {أَنِ
اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (3) . فَالشُّكْرُ
لِلَّهِ عَلَى نِعْمَةِ الإِْيمَانِ، وَلِلْوَالِدَيْنِ عَلَى نِعْمَةِ
التَّرْبِيَةِ. وَقَال سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: مَنْ صَلَّى
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 10 / 241.
(2) سورة الإسراء / 23، 24.
(3) سورة لقمان / 14.
(8/64)
الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فَقَدْ شَكَرَ
اللَّهَ تَعَالَى، وَمَنْ دَعَا لِوَالِدَيْهِ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ
فَقَدْ شَكَرَهُمَا.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَال:
سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الأَْعْمَال
أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَل؟ قَال: الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا
قَال: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَال: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ قَال: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَال:
الْجِهَادُ فِي سَبِيل اللَّهِ (1) . فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ أَفْضَل الأَْعْمَال بَعْدَ
الصَّلاَةِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ دَعَائِمِ الإِْسْلاَمِ. (2)
وَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْجِهَادِ؛ لأَِنَّ
بِرَّهُمَا فَرْضُ عَيْنٍ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهِ، وَلاَ
يَنُوبُ عَنْهُ فِيهِ غَيْرُهُ. فَقَدْ قَال رَجُلٌ لاِبْنِ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَغْزُوَ الرُّومَ،
وَإِنَّ أَبَوَيَّ مَنَعَانِي. فَقَال: أَطِعْ أَبَوَيْكَ، فَإِنَّ
الرُّومَ سَتَجِدُ مَنْ يَغْزُوهَا غَيْرَكَ (3) .
وَالْجِهَادُ فِي سَبِيل اللَّهِ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا قَامَ بِهِ
الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ، وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ فَرْضُ عَيْنٍ،
وَفَرْضُ الْعَيْنِ أَقْوَى مِنْ فَرْضِ الْكِفَايَةِ. وَفِي خُصُوصِ
ذَلِكَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا مَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْغَزْوِ.
__________
(1) حديث ابن مسعود: " أي الأعمال أحب إلى الله. . . " أخرجه البخاري
(الفتح 10 / 400 ـ ط السلفية) ومسلم (1 / 90 ـ ط الحلبي) .
(2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 10 / 237ـ 238.
(3) المهذب في فقه الإمام الشافعي 2 / 230.
(8/64)
فَقَال: أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ قَال: نَعَمْ.
قَال فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ. (1)
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
الْعَاصِ. جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَال: جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ، وَتَرَكْتُ
أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ فَقَال: ارْجِعْ إِلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا
أَبْكَيْتَهُمَا. (2)
وَفِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَجُلاً هَاجَرَ إِلَى
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْيَمَنِ. فَقَال:
هَل لَكَ أَحَدٌ بِالْيَمَنِ؟ قَال: أَبَوَايَ. قَال: أَذِنَا لَكَ؟ قَال:
لاَ. قَال: فَارْجِعْ فَاسْتَأْذِنْهُمَا فَإِنْ أَذِنَا لَكَ فَجَاهِدْ،
وَإِلاَّ فَبِرَّهُمَا. (3)
هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنِ النَّفِيرُ عَامًّا. وَإِلاَّ أَصْبَحَ خُرُوجُهُ
فَرْضَ عَيْنٍ؛ إِذْ يَتَعَيَّنُ عَلَى الْجَمِيعِ الدَّفْعُ وَالْخُرُوجُ
لِلْعَدُوِّ. (4) وَإِذَا كَانَ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ فَرْضَ عَيْنٍ،
فَإِنَّ خِلاَفَهُ
__________
(1) حديث: " ففيهما فجاهد. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 403 ـ ط
السلفية) .
(2) حديث: " أرجع إليهما فأضحكهما. . . " أخرجه أبو داود (3 / 38 ـ ط عزت
عبيد دعاس) والحاكم (4 / 152 ـ ط دائرة المعارف العثمانية) ، وصححه، ووافقه
الذهبي.
(3) حديث: " هل لك أحد باليمن. . . " أخرجه أبو داود (3 / 39 ـ ط عزت عبيد
دعاس) والحاكم (2 / 103ـ 104 ـ ط دائرة المعارف العثمانية) وقال الذهبي:
ودراج واه. يعني الذي في إسناده، وتقدم شاهد.
(4) فتح القدير على الهداية 5 / 149، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 10 /
240.
(8/65)
يَكُونُ حَرَامًا، مَا لَمْ يَكُنْ عَنْ
أَمْرٍ بِشِرْكٍ أَوِ ارْتِكَابِ مَعْصِيَةٍ، حَيْثُ لاَ طَاعَةَ
لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ. (1)
الْبِرُّ بِالْوَالِدَيْنِ مَعَ اخْتِلاَفِ الدِّينِ:
3 - الْبِرُّ بِالْوَالِدَيْنِ فَرْضُ عَيْنٍ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ،
وَلاَ يَخْتَصُّ بِكَوْنِهِمَا مُسْلِمَيْنِ، بَل حَتَّى لَوْ كَانَا
كَافِرَيْنِ يَجِبُ بِرُّهُمَا وَالإِْحْسَانُ إِلَيْهِمَا مَا لَمْ
يَأْمُرَا ابْنَهُمَا بِشِرْكٍ أَوِ ارْتِكَابِ مَعْصِيَةٍ. قَال تَعَالَى:
{لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ
وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا
إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} . (2)
فَعَلَيْهِ أَنْ يَقُول لَهُمَا قَوْلاً لَيِّنًا لَطِيفًا دَالًّا عَلَى
الرِّفْقِ بِهِمَا وَالْمَحَبَّةِ لَهُمَا، وَيَجْتَنِبَ غَلِيظَ الْقَوْل
الْمُوجِبَ لِنُفْرَتِهِمَا، وَيُنَادِيَهُمَا بِأَحَبِّ الأَْلْفَاظِ
إِلَيْهِمَا، وَلْيَقُل لَهُمَا مَا يَنْفَعُهُمَا فِي أَمْرِ دِينِهِمَا
وَدُنْيَاهُمَا، وَلاَ يَتَبَرَّمُ بِهِمَا بِالضَّجَرِ وَالْمَلَل
وَالتَّأَفُّفِ، وَلاَ يَنْهَرُهُمَا، وَلْيَقُل لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ: قَدِمَتْ أُمِّي
وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ وَمُدَّتِهِمْ إِذْ عَاهَدُوا
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَبِيهَا،
فَاسْتَفْتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ:
إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ وَهِيَ رَاغِبَةٌ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 220، والشرح الصغير 4 / 739 ـ 741، والفروق للقرافي 1 /
145.
(2) سورة الممتحنة / 8.
(8/65)
أَفَأَصِلُهَا؟ قَال: نَعَمْ، صِلِي
أُمَّكِ (1) ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهَا قَالَتْ: أَتَتْنِي أُمِّي
رَاغِبَةً فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَأَصِلُهَا؟
قَال: نَعَمْ قَال ابْنُ عُيَيْنَةَ: فَأَنْزَل اللَّهُ عَزَّ وَجَل فِيهَا
{لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ
وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ} . (2)
وَفِي هَذَا الْمَقَامِ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الإِْنْسَانَ
بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ
بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (3) . قِيل: نَزَلَتْ فِي سَعْدِ بْنِ أَبِي
وَقَّاصٍ. فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَال: كُنْتَ بَارًّا بِأُمِّي
فَأَسْلَمْتُ فَقَالَتْ: لَتَدَعَنَّ دِينَكَ أَوْ لاَ آكُل وَلاَ أُشْرِبُ
شَرَابًا حَتَّى أَمُوتَ فَتُعَيَّرَ بِي، وَيُقَال: يَا قَاتِل أُمِّهِ. .
وَبَقِيتُ يَوْمًا وَيَوْمًا. فَقُلْتُ: يَا أُمَّاهُ: لَوْ كَانَتْ لَكِ
مِائَةُ نَفْسٍ، فَخَرَجَتْ نَفْسًا نَفْسًا مَا تَرَكْتُ دِينِي هَذَا،
فَإِنْ شِئْتِ فَكُلِي، وَإِنْ شِئْتِ فَلاَ تَأْكُلِي. فَلَمَّا رَأَتْ
ذَلِكَ أَكَلَتْ (4) .
__________
(1) حديث أسماء قال: " قدمت أمي وهي مشركة. . . . " أخرجه البخاري (الفتح
10 / 413 ـ ط السلفية) .
(2) سورة الممتحنة / 8، وانظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 10 / 239، 14 /
63 - 65، وفتح الباري شرح صحيح البخاري 9 / 40، والفروق للقرافي 1 / 145،
الفواكه الدواني 2 / 382، والشرح الصغير 4 / 740، والزواجر عن اقتراف
الكبائر للهيثمي 2 / 75 ط دار المعرفة.
(3) سورة العنكبوت / 8.
(4) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 13 / 328، وحديث سعد بن أبي وقاص قال: "
كنت بارا بأمي فأسلمت. . . " أخرجه مسلم (4 / 1877 ـ ط الحلبي) .
(8/66)
هَذَا وَفِي الدُّعَاءِ بِالرَّحْمَةِ
الدُّنْيَوِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ حَال حَيَاتِهِمَا
خِلاَفٌ ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ.
أَمَّا الاِسْتِغْفَارُ لَهُمَا فَمَمْنُوعٌ، اسْتِنَادًا إِلَى قَوْله
تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا
لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} (1) فَإِنَّهَا نَزَلَتْ
فِي اسْتِغْفَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمِّهِ أَبِي
طَالِبٍ وَاسْتِغْفَارِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ لأَِبَوَيْهِ الْمُشْرِكَيْنِ.
وَانْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ الاِسْتِغْفَارِ لَهُمَا بَعْدَ
وَفَاتِهِمَا وَحُرْمَتِهِ، وَعَلَى عَدَمِ التَّصَدُّقِ عَلَى رُوحِهِمَا.
(2)
أَمَّا الاِسْتِغْفَارُ لِلأَْبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ حَال الْحَيَاةِ
فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ؛ إِذْ قَدْ يُسْلِمَانِ.
وَلَوْ مَنَعَهُ أَبَوَاهُ الْكَافِرَانِ عَنِ الْخُرُوجِ لِلْجِهَادِ
الْكِفَائِيِّ، مَخَافَةً عَلَيْهِ، وَمَشَقَّةً لَهُمَا بِخُرُوجِهِ
وَتَرْكِهِمَا، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لَهُمَا ذَلِكَ، وَلاَ يَخْرُجُ
إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا بِرًّا بِهِمَا وَطَاعَةً لَهُمَا، إِلاَّ إِذَا
كَانَ مَنْعُهُمَا لَهُ لِكَرَاهَةِ قِتَال أَهْل دِينِهِمَا، فَإِنَّهُ
لاَ يُطِيعُهُمَا وَيَخْرُجُ لَهُ. (3)
__________
(1) سورة التوبة / 113.
(2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 10 / 245، والفواكه الدواني 2 / 384،
والشرح الصغير وحاشية الصاوي عليه 4 / 741، وشرح إحياء علوم الدين 6 / 316.
(3) ابن عابدين 3 / 220.
(8/66)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ لِلْجِهَادِ
بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا؛ لأَِنَّهُمَا مُتَّهَمَانِ فِي الدِّينِ، إِلاَّ
بِقَرِينَةٍ تُفِيدُ الشَّفَقَةَ وَنَحْوَهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَقَال الثَّوْرِيُّ: لاَ يَغْزُو إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا إِذَا كَانَ
الْجِهَادُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ. أَمَّا إِذَا تَعَيَّنَ الْجِهَادُ
لِحُضُورِ الصَّفِّ، أَوْ حَصْرِ الْعَدُوِّ، أَوِ اسْتِنْفَارِ الإِْمَامِ
لَهُ بِإِعْلاَنِ النَّفِيرِ الْعَامِّ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ الإِْذْنُ،
وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا؛ إِذْ أَصْبَحَ
وَاجِبًا عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهِ؛ لِصَيْرُورَتِهِ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى
الْجَمِيعِ. (1)
التَّعَارُضُ بَيْنَ بِرِّ الأَْبِ وَبِرِّ الأُْمِّ:
4 - لَمَّا كَانَ حَقُّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الأَْوْلاَدِ عَظِيمًا،
فَقَدْ نَزَل بِهِ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ،
وَوَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ، وَيَقْضِي ذَلِكَ بِلُزُومِ
بِرِّهِمَا وَطَاعَتِهِمَا وَرِعَايَةِ شُئُونِهِمَا وَالاِمْتِثَال
لأَِمْرِهِمَا، فِيمَا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ، عَلَى نَحْوِ مَا سَبَقَ
بَيَانُهُ.
وَنَظَرًا لِقِيَامِ الأُْمِّ بِالْعِبْءِ الأَْكْبَرِ فِي تَرْبِيَةِ
الْوَلَدِ اخْتَصَّهَا الشَّارِعُ بِمَزِيدٍ مِنَ الْبِرِّ، بَعْدَ أَنْ
أَوْصَى بِبِرِّهِمَا، فَقَال تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الإِْنْسَانَ
بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي
عَامَيْنِ} . (2)
__________
(1) المهذب 2 / 230، وتحفة المحتاج بشرح المنهاج 9 / 232، ومطالب أولي
النهى 2 / 513، والمغني 8 / 359 ط الرياض الحديثة، والشرح الكبير وحاشية
الدسوقي عليه 2 / 175، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 10 / 240.
(2) سورة لقمان / 14.
(8/67)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ: مَنْ أَحَقُّ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟
قَال: أُمُّكَ قَال: ثُمَّ مَنْ؟ قَال: أُمُّكَ قَال: ثُمَّ مَنْ؟ قَال:
أُمُّكَ قَال: ثُمَّ مَنْ؟ قَال: أَبُوكَ. (1)
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ
بِأُمَّهَاتِكُمْ، ثُمَّ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ، ثُمَّ يُوصِيكُمْ
بِأُمَّهَاتِكُمْ، ثُمَّ يُوصِيكُمْ بِآبَائِكُمْ، ثُمَّ يُوصِيكُمْ
بِالأَْقْرَبِ فَالأَْقْرَبِ. (2)
وَمِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: سَأَلْتُ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْظَمُ حَقًّا عَلَى
الْمَرْأَةِ؟ قَال: زَوْجُهَا. قُلْتُ: فَعَلَى الرَّجُل؟ قَال أُمُّهُ.
(3)
فَفِيمَا ذُكِرَ - وَغَيْرُهُ كَثِيرٌ - مِمَّا سَبَقَ بَيَانُهُ دَلِيلٌ
عَلَى مَنْزِلَةِ الأَْبَوَيْنِ، وَتَقْدِيمِ الأُْمِّ فِي الْبِرِّ عَلَى
الأَْبِ فِي ذَلِكَ؛ لِصُعُوبَةِ الْحَمْل، ثُمَّ الْوَضْعِ وَآلاَمِهِ،
ثُمَّ الرَّضَاعِ وَمَتَاعِبِهِ، وَهَذِهِ أُمُورٌ تَنْفَرِدُ بِهَا
الأُْمُّ وَتَشْقَى بِهَا، ثُمَّ تُشَارِكُ الأَْبَ فِي التَّرْبِيَةِ،
__________
(1) حديث: " من أحق بحسن صحابتي. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 401ـ ط
السلفية) .
(2) حديث: " إن الله يوصيكم بأمهاتكم. . . " أخرجه البخاري في الأدب المفرد
(ص 26 ـ ط السلفية) والحاكم (4 / 251 ـ ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه
ووافقه الذهبي.
(3) حديث عائشة: " أي الناس أعظم حقا على المرأة؟ . . . " أخرجه الحاكم (4
/ 150 ـ ط دائرة المعارف العثمانية) وفي إسناده جهالة، ميزان الاعتدال
الذهبي (4 / 549 ـ ط الحلبي) .
(8/67)
فَضْلاً عَنْ أَنَّ الأُْمَّ أَحْوَجُ
إِلَى الرِّعَايَةِ مِنَ الأَْبِ، وَلاَ سِيَّمَا حَال الْكِبَرِ. (1)
وَفِي تَقْدِيمِ هَذَا الْحَقِّ أَيْضًا: أَنَّهُ لَوْ وَجَبَتِ
النَّفَقَةُ عَلَى الْوَلَدِ لأَِبَوَيْهِ، وَلَمْ يَقْدِرْ إِلاَّ عَلَى
نَفَقَةِ أَحَدِهِمَا، فَتُقَدَّمُ الأُْمُّ عَلَى الأَْبِ فِي أَصَحِّ
الرِّوَايَاتِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ،
وَهُوَ رَأْيٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، (2) وَذَلِكَ لِمَا لَهَا مِنْ
مَشَقَّةِ الْحَمْل وَالرَّضَاعِ وَالتَّرْبِيَةِ وَزِيَادَةِ الشَّفَقَةِ،
وَأَنَّهَا أَضْعَفُ وَأَعْجَزُ. هَذَا مَا لَمْ يَتَعَارَضَا فِي
بِرِّهِمَا.
5 - فَإِنْ تَعَارَضَا فِيهِ، بِأَنْ كَانَ فِي طَاعَةِ أَحَدِهِمَا
مَعْصِيَةُ الآْخَرِ، فَإِنَّهُ يُنْظَرُ: إِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَأْمُرُ
بِطَاعَةٍ وَالآْخَرُ يَأْمُرُ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ
يُطِيعَ الآْمِرَ بِالطَّاعَةِ مِنْهُمَا دُونَ الآْمِرِ بِالْمَعْصِيَةِ،
فِيمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ مَعْصِيَةٍ. لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ (3)
وَعَلَيْهِ أَنْ يُصَاحِبَهُ بِالْمَعْرُوفِ لِلأَْمْرِ بِذَلِكَ فِي
قَوْله تَعَالَى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي
__________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 10 / 401 - 402، وشرح إحياء علوم الدين
للغزالي 6 / 315، والزواجر عن اقتراف الكبائر للهيثمي 2 / 71 ط دائرة
المعارف، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 14 / 63ـ 65.
(2) رد المحتار على الدر المختار 2 / 673، والفواكه الدواني 2 / 384، وروضة
الطالبين 9 / 95، والمكتب الإسلامي والمغني لابن قدامة 7 / 594 ط الرياض
الحديثة.
(3) حديث: " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " أورده بهذا اللفظ اللهيثمي
في المجمع وقال: رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح مجمع الزوائد
(5 / 226 ـ ط القدسي) .
(8/68)
الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (1) وَهِيَ وَإِنْ
كَانَتْ نَزَلَتْ فِي الأَْبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ، إِلاَّ أَنَّ
الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لاَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ.
أَمَّا إِنْ تَعَارَضَ بِرُّهُمَا فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، وَحَيْثُ لاَ
يُمْكِنُ إِيصَال الْبِرِّ إِلَيْهِمَا دَفْعَةً وَاحِدَةً، فَقَدْ قَال
الْجُمْهُورُ: طَاعَةُ الأُْمِّ مُقَدَّمَةٌ؛ لأَِنَّهَا تَفْضُل الأَْبَ
فِي الْبِرِّ. (2) وَقِيل: هُمَا فِي الْبِرِّ سَوَاءٌ، فَقَدْ رُوِيَ
أَنَّ رَجُلاً قَال لِمَالِكٍ: وَالِدِي فِي السُّودَانِ، كَتَبَ إِلَيَّ
أَنْ أَقْدُمَ عَلَيْهِ، وَأُمِّي تَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ، فَقَال لَهُ
مَالِكٌ: أَطِعْ أَبَاكَ وَلاَ تَعْصِ أُمَّكَ. يَعْنِي أَنَّهُ يُبَالِغُ
فِي رِضَى أُمِّهِ بِسَفَرِهِ لِوَالِدِهِ، وَلَوْ بِأَخْذِهَا مَعَهُ،
لِيَتَمَكَّنَ مِنْ طَاعَةِ أَبِيهِ وَعَدَمِ عِصْيَانِ أُمِّهِ.
وَرُوِيَ أَنَّ اللَّيْثَ حِينَ سُئِل عَنِ الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا
قَال: أَطِعْ أُمَّكَ، فَإِنَّ لَهَا ثُلُثَيِ الْبِرِّ. كَمَا حَكَى
الْبَاجِيُّ أَنَّ امْرَأَةً كَانَ لَهَا حَقٌّ عَلَى زَوْجِهَا، فَأَفْتَى
بَعْضُ الْفُقَهَاءِ ابْنَهَا: بِأَنْ يَتَوَكَّل لَهَا عَلَى أَبِيهِ،
فَكَانَ يُحَاكِمُهُ، وَيُخَاصِمُهُ فِي الْمَجَالِسِ تَغْلِيبًا لِجَانِبِ
الأُْمِّ. وَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ، قَال: لأَِنَّهُ عُقُوقٌ
لِلأَْبِ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّمَا دَل عَلَى أَنَّ بِرَّهُ
أَقَل مِنْ بِرِّ الأُْمِّ، لاَ أَنَّ الأَْبَ يُعَقُّ. وَنَقَل
الْمُحَاسِبِيُّ الإِْجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الأُْمَّ مُقَدَّمَةٌ فِي
الْبِرِّ عَلَى الأَْبِ. (3)
__________
(1) سورة لقمان / 15.
(2) الفواكه الدواني 2 / 384.
(3) الفروق للقرافي 1 / 143، وتهذيب الفروق بهامشه ص 161، وفتح الباري بشرح
صحيح البخاري 10 / 402 - 403.
(8/68)
بِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَالأَْقَارِبِ
الْمُقِيمِينَ بِدَارِ الْحَرْبِ:
6 - قَال ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّ بِرَّ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ،
مِمَّنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَرَابَةُ نَسَبٍ، أَوْ مَنْ لاَ قَرَابَةَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَلاَ نَسَبَ، غَيْرُ مُحَرَّمٍ وَلاَ مَنْهِيٍّ
عَنْهُ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَقْوِيَةٌ لِلْكُفَّارِ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ، أَوْ دَلاَلَةٌ عَلَى عَوْرَةٍ لأَِهْل الإِْسْلاَمِ، أَوْ
تَقْوِيَةٌ لَهُمْ بِكُرَاعٍ أَوْ سِلاَحٍ (1) .
وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا نُقِل عَنِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ الْحَنْبَلِيِّ فِي
الآْدَابِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلاَ يَخْتَلِفُ عَمَّا ذُكِرَ، وَاسْتَدَل
لَهُ بِإِهْدَاءِ عُمَرَ الْحُلَّةَ الْحَرِيرِيَّةَ إِلَى أَخِيهِ
الْمُشْرِكِ. وَبِحَدِيثِ أَسْمَاءَ (2) وَفِيهِمَا صِلَةُ أَهْل الْحَرْبِ
وَبِرُّهُمْ وَصِلَةُ الْقَرِيبِ الْمُشْرِكِ. (3) وَمِنَ الْبِرِّ
لِلْوَالِدَيْنِ الْكَافِرَيْنِ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا؛ لأَِنَّهُمَا لاَ
يَرِثَانِ ابْنَهُمَا الْمُسْلِمَ.
وَلِلتَّفْصِيل ر: (وَصِيَّة) .
بِمَ يَكُونُ الْبِرُّ
7 - يَكُونُ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ بِالإِْحْسَانِ إِلَيْهِمَا بِالْقَوْل
اللَّيِّنِ الدَّال عَلَى الرِّفْقِ بِهِمَا وَالْمَحَبَّةِ لَهُمَا،
وَتَجَنُّبِ غَلِيظِ الْقَوْل الْمُوجِبِ لِنُفْرَتِهِمَا،
وَبِمُنَادَاتِهِمَا بِأَحَبِّ الأَْلْفَاظِ إِلَيْهِمَا، كَيَا أُمِّي
وَيَا أَبِي، وَلْيَقُل لَهُمَا مَا يَنْفَعُهُمَا فِي أَمْرِ دِينِهِمَا
وَدُنْيَاهُمَا، وَيُعَلِّمْهُمَا مَا
__________
(1) جامع البيان للطبري 28 / 66 ط مصطفى الحلبي.
(2) حديث أسماء سبق تخريجه (ف / 3) .
(3) الآداب الشرعية 1 / 492 - 493.
(8/69)
يَحْتَاجَانِ إِلَيْهِ مِنْ أُمُورِ
دِينِهِمَا، وَلْيُعَاشِرْهُمَا بِالْمَعْرُوفِ. أَيْ بِكُل مَا عُرِفَ
مِنَ الشَّرْعِ جَوَازُهُ، فَيُطِيعُهُمَا فِي فِعْل جَمِيعِ مَا
يَأْمُرَانِهِ بِهِ، مِنْ وَاجِبٍ أَوْ مَنْدُوبٍ، وَفِي تَرْكِ مَا لاَ
ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي تَرْكِهِ، وَلاَ يُحَاذِيهِمَا فِي الْمَشْيِ، فَضْلاً
عَنِ التَّقَدُّمِ عَلَيْهِمَا، إِلاَّ لِضَرُورَةٍ نَحْوِ ظَلاَمٍ،
وَإِذَا دَخَل عَلَيْهِمَا لاَ يَجْلِسُ إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا، وَإِذَا
قَعَدَ لاَ يَقُومُ إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا، وَلاَ يَسْتَقْبِحُ مِنْهُمَا
نَحْوَ الْبَوْل عِنْدَ كِبَرِهِمَا أَوْ مَرَضِهِمَا لِمَا فِي ذَلِكَ
مِنْ أَذِيَّتِهِمَا، قَال تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ
تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} . (1)
قَال ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الْبِرَّ بِهِمَا مَعَ اللُّطْفِ وَلِينِ
الْجَانِبِ، فَلاَ يُغْلِظُ لَهُمَا فِي الْجَوَابِ، وَلاَ يُحِدُّ
النَّظَرَ إِلَيْهِمَا، وَلاَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ عَلَيْهِمَا (2) .
وَمِنَ الْبِرِّ بِهِمَا وَالإِْحْسَانِ إِلَيْهَا: أَلاَّ يُسِيءَ
إِلَيْهِمَا بِسَبٍّ أَوْ شَتْمٍ أَوْ إِيذَاءٍ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ
أَنْوَاعِهِ، فَإِنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ بِلاَ خِلاَفٍ. فَفِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمَ الرَّجُل
وَالِدَيْهِ، قَالُوا. يَا رَسُول اللَّهِ: وَهَل يَشْتُمُ الرَّجُل
وَالِدَيْهِ؟ قَال: نَعَمْ، يَسُبُّ الرَّجُل أَبَا الرَّجُل فَيَسُبُّ
أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى:
إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ
__________
(1) سورة النساء / 36.
(2) الفواكه الدواني 2 / 382 - 383، الزواجر عن اقترف الكبائر 2 / 66.
(8/69)
الرَّجُل وَالِدَيْهِ. قِيل: يَا رَسُول
اللَّهِ وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُل وَالِدَيْهِ؟ . قَال: يَسُبُّ أَبَا
الرَّجُل فَيَسُبُّ الرَّجُل أَبَاهُ. (1)
8 - وَمِنْ بِرِّهِمَا صِلَةُ أَهْل وُدِّهِمَا، فَفِي الصَّحِيحِ عَنِ
ابْنِ عُمَرَ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُول: إِنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ صِلَةَ الرَّجُل أَهْل
وُدِّ أَبِيهِ بَعْدَ أَنْ يُوَلِّيَ (2) فَإِنْ غَابَ أَوْ مَاتَ يَحْفَظُ
أَهْل وُدِّهِ وَيُحْسِنُ إِلَيْهِمْ، فَإِنَّهُ مِنْ تَمَامِ الإِْحْسَانِ
إِلَيْهِ.
وَرَوَى أَبُو أُسَيْدٍ وَكَانَ بَدْرِيًّا قَال: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا، فَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ
الأَْنْصَارِ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ. هَل بَقِيَ مِنْ بِرِّ
وَالِدَيَّ بَعْدَ مَوْتِهِمَا شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ؟ قَال: نَعَمْ،
الصَّلاَةُ عَلَيْهِمَا، وَالاِسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَإِنْفَاذُ
عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا، وَصِلَةُ
الرَّحِمِ الَّتِي لاَ رَحِمَ لَكَ إِلاَّ مِنْ قِبَلِهِمَا، فَهَذَا
الَّذِي بَقِيَ عَلَيْكَ. (3)
__________
(1) الزواجر عن اقتراف الكبائر 2 / 66، والفواكه الدواني 2 / 383، والجامع
لأحكام القرآن للقرطبي 10 / 238، حديث: " إن من أكبر الكبائر أن يلعن. . .
" أخرجه البخاري (الفتح 10 / 403 ـ ط السلفية) ومسلم (1 / 92 ـ ط الحلبي) .
(2) حديث: " إن من أبر البر صلة الرجل. . . " أخرجه مسلم (4 / 1979 ـ ط
الحلبي) .
(3) حديث: " هل بقي من بر والدي. . . " رواه أبو داود (5 / 352، ط عزت عبيد
دعاس) والحاكم (4 / 155 ـ ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(8/70)
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُهْدِي لِصَدَائِقِ خَدِيجَةَ بِرًّا بِهَا وَوَفَاءً لَهَا (1) ، وَهِيَ
زَوْجَتُهُ، فَمَا ظَنُّكَ بِالْوَالِدَيْنِ.
اسْتِئْذَانُهُمَا لِلسَّفَرِ لِلتِّجَارَةِ أَوْ لِطَلَبِ الْعِلْمِ:
9 - وَضَعَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ لِذَلِكَ قَاعِدَةً حَاصِلُهَا: أَنَّ
كُل سَفَرٍ لاَ يُؤْمَنُ فِيهِ الْهَلاَكُ، وَيَشْتَدُّ فِيهِ الْخَطَرُ،
فَلَيْسَ لِلْوَلَدِ أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنِ وَالِدَيْهِ؛
لأَِنَّهُمَا يُشْفِقَانِ عَلَى وَلَدِهِمَا، فَيَتَضَرَّرَانِ بِذَلِكَ.
وَكُل سَفَرٍ لاَ يَشْتَدُّ فِيهِ الْخَطَرُ يَحِل لَهُ أَنْ يَخْرُجَ
إِلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا، إِذَا لَمْ يُضَيِّعْهُمَا؛ لاِنْعِدَامِ
الضَّرَرِ.
وَبِذَا لاَ يَلْزَمُهُ إِذْنُهُمَا لِلسَّفَرِ لِلتَّعَلُّمِ، إِذَا لَمْ
يَتَيَسَّرْ لَهُ ذَلِكَ فِي بَلَدِهِ، وَكَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا، وَلَمْ
يَخَفْ عَلَيْهِمَا الضَّيَاعَ؛ لأَِنَّهُمَا لاَ يَتَضَرَّرَانِ بِذَلِكَ،
بَل يَنْتَفِعَانِ بِهِ، فَلاَ تَلْحَقُهُ سِمَةُ الْعُقُوقِ. أَمَّا إِذَا
كَانَ السَّفَرُ لِلتِّجَارَةِ، وَكَانَا مُسْتَغْنِيَيْنِ عَنْ خِدْمَةِ
ابْنِهِمَا، وَيُؤْمَنُ عَلَيْهِمَا الضَّيَاعُ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ
إِلَيْهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا. أَمَّا إِذَا كَانَا مُحْتَاجَيْنِ
إِلَيْهِ وَإِلَى خِدْمَتِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يُسَافِرُ بِغَيْرِ
إِذْنِهِمَا. (2)
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 10 / 241 (المسألة العاشرة) ، إحياء علوم
الدين 6 / 316، والفواكه الدواني 2 / 383، وحديث: " كان يهدي لصدائق خديجة.
. . " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 133 ـ ط السلفية) .
(2) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 7 / 98، وتبيين الحقائق شرح كنز
الدقائق 3 / 242، وابن عابدين 3 / 220.
(8/70)
وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ فِي السَّفَرِ
لِطَلَبِ الْعِلْمِ، بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لِتَحْصِيل دَرَجَةٍ مِنَ
الْعِلْمِ لاَ تَتَوَفَّرُ فِي بَلَدِهِ، كَالتَّفَقُّهِ فِي الْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ وَمَعْرِفَةِ الإِْجْمَاعِ وَمَوَاضِعِ الْخِلاَفِ
وَمَرَاتِبِ الْقِيَاسِ، كَانَ لَهُ ذَلِكَ بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا إِنْ
كَانَ فِيهِ أَهْلِيَّةُ النَّظَرِ، وَلاَ طَاعَةَ لَهُمَا فِي مَنْعِهِ؛
لأَِنَّ تَحْصِيل دَرَجَةِ الْمُجْتَهِدِينَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ.
قَال تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ
وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (1) ، أَمَّا
إِنْ كَانَ لِلتَّفَقُّهِ عَلَى طَرِيقِ التَّقْلِيدِ، وَفِي بَلَدِهِ
ذَلِكَ، لَمْ يَجُزْ لَهُ السَّفَرُ إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا. وَإِذَا أَرَادَ
سَفَرًا لِلتِّجَارَةِ يَرْجُو بِهِ مَا يَحْصُل لَهُ فِي الإِْقَامَةِ
فَلاَ يَخْرُجُ إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا. (2)
حُكْمُ طَاعَتِهِمَا فِي تَرْكِ النَّوَافِل أَوْ قَطْعِهَا:
10 - قَال الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ فِي كِتَابِ بِرِّ
الْوَالِدَيْنِ: لاَ طَاعَةَ لَهُمَا فِي تَرْكِ سُنَّةٍ رَاتِبَةٍ،
كَحُضُورِ الْجَمَاعَاتِ، وَتَرْكِ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ وَالْوِتْرِ
وَنَحْوِ ذَلِكَ، إِذَا سَأَلاَهُ تَرْكَ ذَلِكَ عَلَى الدَّوَامِ،
بِخِلاَفِ مَا لَوْ دَعَوَاهُ لأَِوَّل وَقْتِ الصَّلاَةِ وَجَبَتْ
طَاعَتُهُمَا، وَإِنْ فَاتَتْهُ فَضِيلَةُ أَوَّل الْوَقْتِ. (3)
__________
(1) سورة آل عمران / 104.
(2) الفروق للقرافي 1 / 145، 146، والدسوقي 2 / 172ـ 176، وجواهر الإكليل 1
/ 252.
(3) مطالب أولي النهى 2 / 513، والمغني لابن قدامة 8 / 359، وكشاف القناع
عن متن الإقناع 3 / 45، والفروق للقرافي 1 / 143، 144، والشرح الصغير 4 /
739، والفواكه الدواني 2 / 383، والزواجر 2 / 67، 73.
(8/71)
حُكْمُ طَاعَتِهِمَا فِي تَرْكِ فُرُوضِ
الْكِفَايَةِ:
11 - سَبَقَ حَدِيثُ صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِيمَنْ أَرَادَ الْبَيْعَةَ
وَأَحَدُ وَالِدَيْهِ حَيٌّ، وَفِيهِ دَلاَلَةٌ عَلَى تَقْدِيمِ
صُحْبَتِهِمَا عَلَى صُحْبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. وَتَقْدِيمِ خِدْمَتِهِمَا - الَّتِي هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ
وُجُوبًا عَيْنِيًّا - عَلَى فُرُوضِ الْكِفَايَةِ؛ وَذَلِكَ لأَِنَّ
طَاعَتَهُمَا وَبِرَّهُمَا فَرْضُ عَيْنٍ، وَالْجِهَادُ فَرْضُ كِفَايَةٍ،
وَفَرْضُ الْعَيْنِ أَقْوَى. (1)
حُكْمُ طَاعَتِهِمَا فِي طَلَبِهِمَا تَطْلِيقَ زَوْجَتِهِ:
12 - رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَال: كَانَتْ تَحْتِي
امْرَأَةٌ أُحِبُّهَا، وَكَانَ أَبِي يَكْرَهُهَا، فَأَمَرَنِي أَنْ
أُطَلِّقَهَا، فَأَبَيْتُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ طَلِّقِ
امْرَأَتَكَ. (2)
وَسَأَل رَجُلٌ الإِْمَامَ أَحْمَدَ فَقَال: إِنَّ أَبِي يَأْمُرُنِي أَنْ
أُطَلِّقَ امْرَأَتِي. قَال: لاَ تُطَلِّقْهَا. قَال: أَلَيْسَ عُمَرُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَرَ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ أَنْ يُطَلِّقَ
امْرَأَتَهُ؟ قَال: حَتَّى يَكُونَ أَبُوكَ مِثْل عُمَرَ
__________
(1) الفروق للقرافي 1 / 144ـ 145، 150، والزواجر 2 / 67، 73.
(2) حديث: " ابن عمر: كانت تحتي امرأة. . . . " أخرجه الترمذي (3 / 486ـ ط
الحلبي) وقال: حسن صحيح. وانظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 10 / 239،
والزواجر 2 / 75.
(8/71)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. يَعْنِي لاَ
تُطَلِّقْهَا بِأَمْرِهِ حَتَّى يَصِيرَ مِثْل عُمَرَ فِي تَحَرِّيهِ
الْحَقَّ وَالْعَدْل، وَعَدَمِ اتِّبَاعِ هَوَاهُ فِي مِثْل هَذَا
الأَْمْرِ.
وَاخْتَارَ أَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَجِبُ؛ لأَِمْرِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاِبْنِ عُمَرَ. وَقَال
الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَةَ فِيمَنْ تَأْمُرُهُ أُمُّهُ
بِطَلاَقِ امْرَأَتِهِ. قَال: لاَ يَحِل لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا. بَل
عَلَيْهِ أَنْ يَبَرَّهَا. وَلَيْسَ تَطْلِيقُ امْرَأَتِهِ مِنْ بِرِّهَا.
(1)
حُكْمُ طَاعَتِهِمَا فِيمَا لَوْ أَمَرَاهُ بِمَعْصِيَةٍ أَوْ بِتَرْكِ
وَاجِبٍ:
13 - قَال تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الإِْنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا
وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ
تُطِعْهُمَا} (2) وَقَال: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا
مَعْرُوفًا} (3) فَفِيهِمَا وُجُوبُ بِرِّهِمَا وَطَاعَتِهِمَا
وَالإِْحْسَانِ إِلَيْهِمَا، وَحُرْمَةُ عُقُوقِهِمَا وَمُخَالَفَتِهِمَا،
إِلاَّ فِيمَا يَأْمُرَانِهِ بِهِ مِنْ شِرْكٍ أَوِ ارْتِكَابِ مَعْصِيَةٍ،
فَإِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ يُطِيعُهُمَا وَلاَ يَمْتَثِل
لأَِوَامِرِهِمَا؛ لِوُجُوبِ مُخَالَفَتِهِمَا وَحُرْمَةِ طَاعَتِهِمَا فِي
ذَلِكَ، يُؤَكِّدُ هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ
طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي
__________
(1) الآداب الشرعية والمنح المرعية لابن مفلح المقدسي الحنبلي 1 / 503،
والزواجر 2 / 72.
(2) سورة العنكبوت / 8.
(3) سورة لقمان / 15.
(8/72)
مَعْصِيَةٍ الْخَالِقِ (1) وَلِلْحَدِيثِ
الْمُتَقَدِّمِ (2) فِي سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ مَعَ أُمِّهِ فَقَدْ
عَصَى أَمْرَهَا، حِينَ طَلَبَتْ إِلَيْهِ تَرْكَ دِينِهِ، وَبَقِيَ عَلَى
مُصَاحَبَتِهَا بِالْمَعْرُوفِ بِرًّا بِهَا. وَعِصْيَانُهُ لَهَا فِيمَا
أَمَرَتْهُ بِهِ وَاجِبٌ، فَلاَ تُطَاعُ فِي أَمْرِهَا لَهُ بِتَرْكِ
الْوَاجِبَاتِ. (3)
عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَجَزَاؤُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ:
14 - بِالإِْضَافَةِ إِلَى الْعُقُوقِ السَّلْبِيِّ بِتَرْكِ بِرِّهِمَا،
فَإِنَّ هُنَاكَ صُوَرًا مُخْتَلِفَةً لِلْعُقُوقِ بَعْضُهَا فِعْلِيٌّ
وَبَعْضُهَا قَوْلِيٌّ.
وَمِنَ الْعُقُوقِ مَا يُبْدِيهِ الْوَلَدُ لأَِبَوَيْهِ مِنْ مَلَلٍ
وَضَجَرٍ وَغَضَبٍ وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ، وَاسْتِطَالَتِهِ عَلَيْهِمَا
بِدَالَّةِ الْبُنُوَّةِ وَقِلَّةِ الدِّيَانَةِ خَاصَّةً فِي حَال
كِبَرِهِمَا. وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يُقَابِلَهُمَا بِالْحُسْنَى وَاللِّينِ
وَالْمَوَدَّةِ، وَالْقَوْل الْمَوْصُوفِ بِالْكَرَامَةِ، السَّالِمِ مِنْ
كُل عَيْبٍ، فَقَال تَعَالَى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ
أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَهُمَا أُفٍّ} (4) فَنُهِيَ عَنْ
أَنْ يَقُول لَهُمَا مَا يَكُونُ فِيهِ أَدْنَى تَبَرُّمٍ.
وَضَابِطُ عُقُوقِهِمَا - أَوْ أَحَدِهِمَا - هُوَ أَنْ يُؤْذِيَ
__________
(1) حديث: " لا طاعة لمخلوق. . . . " سبق تخريجه ف / 5.
(2) ر: (ف / 3) .
(3) الشرح الصغير 4 / 739، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 10 / 238
(المسألة الرابعة) ، و 13 / 8 من سورة العنكبوت، و 14 / 63 - 65، والفروق
للقرافي 1 / 145.
(4) سورة الإسراء / 23.
(8/72)
الْوَلَدُ أَحَدَ وَالِدَيْهِ بِمَا لَوْ
فَعَلَهُ مَعَ غَيْرِهِمَا كَانَ مُحَرَّمًا مِنْ جُمْلَةِ الصَّغَائِرِ،
فَيَنْتَقِل بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَحَدِ الْوَالِدَيْنِ إِلَى
الْكَبَائِرِ. (1) وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَال: يُرَاحُ رِيحُ الْجَنَّةِ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ
عَامٍ، وَلاَ يَجِدُ رِيحَهَا مَنَّانٌ بِعَمَلِهِ، وَلاَ عَاقٌّ، وَلاَ
مُدْمِنُ خَمْرٍ (2) وَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي
بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ
الْكَبَائِرِ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُول اللَّهِ. قَال: ثَلاَثًا.
الإِْشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَكَانَ مُتَّكِئًا
فَجَلَسَ، فَقَال: أَلاَ وَقَوْل الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ. أَلاَ
وَقَوْل الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ. فَمَا زَال يَقُولُهَا حَتَّى
قُلْتُ: لاَ يَسْكُتُ. (3)
وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رِضَى اللَّهِ فِي رِضَى
الْوَالِدَيْنِ، وَسَخَطُ اللَّهِ فِي سَخَطِ الْوَالِدَيْنِ. (4)
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُل الذُّنُوبِ يُؤَخِّرُ
اللَّهُ مِنْهَا مَا شَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلاَّ عُقُوقَ
الْوَالِدَيْنِ،
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 10 / 238، 241ـ 245.
(2) حديث: " يراح ريح الجنة من مسيرة خمسمائة. . . . " أخرجه الطبراني في
الصغير، وقال الهيثمي: فيه الربيع بن بدر وهو متروك. مجمع الزوائد (8 /
148ـ ط القدسي) .
(3) حديث: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 /
405ـ ط السلفية) ومسلم (1 / 91 ـ ط الحلبي) .
(4) حديث: " رضى الله في رضى الوالدين. . . " أخرجه الترمذي (4 / 311 ـ ط
الحلبي) وفي إسناده جهالة، ميزان الاعتدال للذهبي (3 / 78ـ ط الحلبي) .
(8/73)
فَإِنَّ اللَّهَ يُعَجِّلُهُ لِصَاحِبِهِ
فِي الْحَيَاةِ قَبْل الْمَمَاتِ. (1)
جَزَاءُ الْعُقُوقِ:
15 - جَزَاءُ عُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ أُخْرَوِيًّا سَبَقَ الْكَلاَمُ
عَنْهُ، وَأَمَّا جَزَاؤُهُ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ مِنْ بَابِ
التَّعْزِيرِ، وَيَخْتَلِفُ قَدْرُهُ بِاخْتِلاَفِ حَالِهِ وَحَال
فَاعِلِهِ.
فَإِنْ تَعَدَّى عَلَى أَبَوَيْهِ، أَوْ أَحَدِهِمَا، بِالشَّتْمِ أَوِ
الضَّرْبِ مَثَلاً عَزَّرَاهُ، أَوْ عَزَّرَهُ الإِْمَامُ - بِطَلَبِهِمَا
- إِنْ كَانَا مَشْتُومَيْنِ أَوْ مَضْرُوبَيْنِ مَعًا، أَوْ بِطَلَبِ مَنْ
كَانَ مِنْهُمَا مُعْتَدًى عَلَيْهِ بِذَلِكَ. فَإِنْ عَفَا الْمَشْتُومُ
أَوِ الْمَضْرُوبُ كَانَ وَلِيُّ الأَْمْرِ بَعْدَ عَفْوِهِ عَلَى
خِيَارِهِ فِي فِعْل الأَْصْلَحِ مِنَ التَّعْزِيرِ تَقْوِيمًا،
وَالصَّفْحِ عَنْهُ عَفْوًا، فَإِنْ تَعَافَوْا عَنِ الشَّتْمِ وَالضَّرْبِ
قَبْل التَّرَافُعِ إِلَى الإِْمَامِ سَقَطَ التَّعْزِيرُ. وَيَكُونُ
تَعْزِيرُهُ بِالْحَبْسِ عَلَى حَسَبِ الذَّنْبِ وَالْهَفْوَةِ، أَوْ
بِالضَّرْبِ أَوِ التَّأْنِيبِ بِالْكَلاَمِ الْعَنِيفِ، أَوْ بِغَيْرِ
ذَلِكَ مِمَّا بِهِ يَنْزَجِرُ وَيَرْتَدِعُ. (2)
__________
(1) حديث: " كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى. . . " أخرجه الحاكم (4 /
156ـ ط دائرة المعارف العثمانية) وقال الذهبي: بكار ضعيف.
(2) ابن عابدين 3 / 177ـ 178، 181ـ 182، 186، 189، وكشاف القناع 6 / 121ـ
122، 124ـ 125، والأحكام السلطانية للماوردي 236ـ 238 والشرح الكبير 4 /
354ـ355.
(8/73)
بَرْزَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبَرْزَةُ هِيَ: الْمَرْأَةُ الْبَارِزَةُ الْمَحَاسِنِ، أَوِ
الْمُتَجَاهِرَةُ الْكَهْلَةُ الْوَقُورَةُ، الَّتِي تَبْرُزُ لِلْقَوْمِ
يَجْلِسُونَ إِلَيْهَا وَيَتَحَدَّثُونَ، وَهِيَ عَفِيفَةٌ.
وَيُقَال: امْرَأَةٌ بَرْزَةٌ إِذَا كَانَتْ كَهْلَةً لاَ تَحْتَجِبُ
احْتِجَابَ الشَّوَابِّ، وَهِيَ مَعَ هَذَا عَفِيفَةٌ عَاقِلَةٌ، تَجْلِسُ
لِلنَّاسِ وَتُحَدِّثُهُمْ، مِنَ الْبُرُوزِ وَالْخُرُوجِ. (1) وَلاَ
يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأُْلَفَاءُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمُخَدَّرَةُ:
2 - الْمُخَدَّرَةُ لُغَةً: مَنْ لَزِمَتِ الْخِدْرَ، (2) وَالْخِدْرُ:
السِّتْرُ. وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْمُلاَزِمَةُ لِلْخِدْرِ، بِكْرًا
__________
(1) المصباح المنير، والقاموس المحيط، ولسان العرب. وترتيب القاموس المحيط.
مادة: " برز " وكشاف القناع عن متن الإقناع 6 / 439 ط الرياض، وحاشية ابن
عابدين 4 / 393 ط بيروت.
(2) لسان العرب مادة: " خدر ".
(8/74)
كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا، وَلاَ يَرَاهَا
غَيْرُ الْمَحَارِمِ مِنَ الرِّجَال، وَإِنْ خَرَجَتْ لِحَاجَةٍ. (1)
وَعَلَى هَذَا: فَالْمُخَدَّرَةُ ضِدُّ الْبَرْزَةِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وُجُوبَ
حُضُورِ الْمَرْأَةِ الْبَرْزَةِ لأَِدَاءِ الشَّهَادَةِ، إِذَا
تَحَمَّلَتْ شَهَادَةً مِمَّا يَجُوزُ شَهَادَتُهَا بِهِ، وَتَوَقَّفَتِ
الدَّعْوَى عَلَى حُضُورِهَا، وَلاَ يُقْبَل فِي هَذِهِ الْحَالَةِ
الشَّهَادَةُ عَلَى شَهَادَتِهَا، إِلاَّ إِذَا وُجِدَ مَانِعٌ مِنَ
الْحُضُورِ، كَمَرَضٍ وَسَفَرٍ، فَيُرْسِل لَهَا الْقَاضِي مَنْ يَسْمَعُ
شَهَادَتَهَا، وَتَفْصِيلُهُ فِي أَبْحَاثِ الشَّهَادَةِ. أَمَّا
الْمُخَدَّرَةُ فَلاَ يَجِبُ إِحْضَارُهَا إِلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ.
وَالْمَالِكِيَّةُ لاَ يُفَرِّقُونَ فِي أَدَاءِ شَهَادَةِ الْمَرْأَةِ
بَيْنَ الْبَرْزَةِ وَغَيْرِهَا، وَالْحُكْمُ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا تُنْقَل
الشَّهَادَةُ عَنْهَا؛ لِمَا يَنَالُهَا مِنَ الْكَشْفِ وَالْمَشَقَّةِ.
(2)
هَذَا فِي الشَّهَادَةِ، أَمَّا فِي التَّقَاضِي فَقَدْ صَرَّحَ
الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ إِنِ ادُّعِيَ عَلَى الْمَرْأَةِ الْبَرْزَةِ
أَحْضَرَهَا الْقَاضِي، لِعَدَمِ الْعُذْرِ، وَلاَ يُعْتَبَرُ
لإِِحْضَارِهَا فِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 346، 393 ط بيروت، وكشاف القناع عن متن الإقناع 6
/ 439 ط الرياض، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 229 ط الحلبي.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 346، 393 ط الحلبي، وكشاف القناع على متن الإقناع
6 / 439 ط الرياض، وحواشي الشرواني 10 / 272، ونهاية المحتاج إلى شرح
المنهاج 8 / 306، وقليوبي وعميرة 4 / 329، 330، 331 ط الحلبي، وتبصرة
الحكام 1 / 354 ط الحلبي.
(8/74)
سَفَرِهَا هَذَا مَحْرَمٌ، لِتَعَيُّنِ
السَّفَرِ عَلَيْهَا؛ وَلأَِنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى
الشُّحِّ وَالضِّيقِ، أَمَّا إِنْ كَانَتِ الْمُدَّعَى عَلَيْهَا
مُخَدَّرَةً فَإِنَّهَا تُؤْمَرُ بِالتَّوْكِيل، وَلاَ يَجِبُ
إِحْضَارُهَا، لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَالضَّرَرِ، فَإِنْ
تَوَجَّهَتْ عَلَيْهَا الْيَمِينُ بَعَثَ الْقَاضِي أَمِينًا - مَعَهُ
شَاهِدَانِ - يَسْتَحْلِفُهَا بِحَضْرَتِهِمَا. (1)
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
4 - تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ عَنْ أَدَاءِ الْمَرْأَةِ الْبَرْزَةِ
لِلشَّهَادَةِ، فِيمَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَشْهَدَ بِهِ عَلَى النَّحْوِ
الْمُبَيَّنِ فِي مَوَاطِنِهِ.
__________
(1) كشاف القناع 6 / 329 ط عالم الكتب.
(8/75)
بِرْسَامٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبِرْسَامُ لُغَةً، وَاصْطِلاَحًا: عِلَّةٌ عَقْلِيَّةٌ يَنْشَأُ
عَنْهَا الْهَذَيَانُ، شَبِيهَةٌ بِالْجُنُونِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعَتَهُ:
2 - الْعَتَهُ لُغَةً: نَقْصٌ فِي الْعَقْل مِنْ غَيْرِ جُنُونٍ أَوْ
وَهَنٍ. وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ: آفَةٌ تُوجِبُ خَلَلاً فِي الْعَقْل،
فَيَصِيرُ صَاحِبُهُ مُخْتَلِطَ الْعَقْل، فَيُشْبِهُ بَعْضُ كَلاَمِهِ
كَلاَمَ الْعُقَلاَءِ، وَبَعْضُهُ كَلاَمَ الْمَجَانِينِ، وَتَجْرِي عَلَى
الْمَعْتُوهِ أَحْكَامٌ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ. وَأَمَّا الْمُبَرْسَمُ
فَإِنَّهُ تَجْرِي عَلَيْهِ فِي حَال نَوْبَاتِهِ أَحْكَامُ الْجُنُونِ (2)
.
__________
(1) تاج العروس، المصباح المنير في المادة، وحاشية ابن عابدين 2 / 426.
(2) فتح القدير 3 / 343، ابن عابدين 2 / 426ـ 427، وتعريفات الجرجاني.
(8/75)
ب - الْجُنُونُ:
3 - الْجُنُونُ كَمَا عَرَّفَهُ الشُّرُنْبُلاَلِيُّ: مَرَضٌ يُزِيل
الْعَقْل وَيَزِيدُ الْقُوَى. (1) وَهُوَ فِي الْجُمْلَةِ مِمَّا يُسْقِطُ
التَّكْلِيفَ وَيُبْطِل أَهْلِيَّةَ الأَْدَاءِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
4 - لِلْمُبَرْسَمِ أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ، فَعُقُودُهُ غَيْرُ
مُعْتَبَرَةٍ فِي حَال إِصَابَتِهِ بِالْبِرْسَامِ، وَإِقْرَارُهُ غَيْرُ
صَحِيحٍ، وَتَصَرُّفَاتُهُ الْقَوْلِيَّةُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ شَرْعًا،
مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ مِثْل الْمَجْنُونِ.
أَمَّا تَصَرُّفَاتُهُ الْفِعْلِيَّةُ فِي وَقْتِ إِصَابَتِهِ فَإِنَّهُ
لاَ إِثْمَ عَلَيْهِ فِيهَا، وَلَكِنْ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى فِعْلِهِ
إِتْلاَفُ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ يَجِبُ الضَّمَانُ فِي مَالِهِ، وَعَلَيْهِ
دِيَتُهُ، أَوْ قِيمَةُ التَّعْوِيضِ مِنْ مَالِهِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ تَنَاوَلَهُ الْفُقَهَاءُ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ
الإِْتْلاَفِ وَنَحْوِهِ، وَالأُْصُولِيُّونَ فِي الأَْهْلِيَّةِ
وَعَوَارِضِهَا. (2)
__________
(1) مراقي الفلاح ص 50، وانظر الصحاح، ولسان العرب مادة: " جنن ".
(2) ابن عابدين 2 / 426ـ 427، وفتح القدير 3 / 343، 7 / 301، والفتاوى
الهندية 4 / 170، والفتاوى البزازية بهامش ذات الصحفة، وجواهر الإكليل2 /
134ـ 135، والشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 404، والخرشي على
مختصر سيدي خليل 4 / 33، والتاج والإكليل للمواق 4 / 43 ط النجاح، وقليوبي
وعميرة 3 / 331، وشرح روض الطالب من أسنى المطالب 2 / 299، 3 / 280،
والمقنع 3 / 724، والمغني لابن قدامة 5 / 149ـ 150، 7 / 113ـ 114 ط الرياض
الحديثة.
(8/76)
بَرَصٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبَرَصُ لُغَةً: دَاءٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ بَيَاضٌ يَقَعُ فِي ظَاهِرِ
الْجِلْدِ، يُبَقِّعُ الْجَلْدَ وَيُذْهِبُ دَمَوِيَّتَهُ. وَبَرِصَ
بَرَصًا فَهُوَ أَبْرَصُ، وَالأُْنْثَى بَرْصَاءُ. (1) وَلاَ يَخْرُجُ
الاِسْتِعْمَال الْفِقْهِيُّ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْجُذَامُ:
2 - الْجُذَامُ: مَأْخُوذٌ مِنَ الْجَذْمِ، وَهُوَ الْقَطْعُ، سُمِّيَ
كَذَلِكَ لأَِنَّهُ دَاءٌ تُجْذَمُ بِهِ الأَْعْضَاءُ أَيْ تَتَقَطَّعُ.
وَالْجُذَامُ عِلَّةٌ يَحْمَرُّ مِنْهَا الْعُضْوُ، ثُمَّ يَسْوَدُّ، ثُمَّ
يُنْتِنُ وَيَتَقَطَّعُ وَيَتَنَاثَرُ، وَيُتَصَوَّرُ فِي كُل عُضْوٍ
غَيْرَ أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْوَجْهِ أَغْلَبَ (2)
__________
(1) لسان العرب، والمغرب للمطرزي، مادة " برص
"، وحاشية ابن عابدين 2 / 597 ط الحلبي، ونهاية المحتاج 6 / 303 ط المكتبة
الإسلامية، وقليوبي وعميرة 3 / 261 ط الحلبي.
(2) لسان العرب مادة " خذم "، ونهاية المحتاج6 / 303ت ط المكتبة الإسلامية.
(8/76)
ب - الْبَهَقُ
الْبَهَقُ لُغَةً: بَيَاضٌ دُونَ الْبَرَصِ يَعْتَرِي الْجَسَدَ بِخِلاَفِ
لَوْنِهِ، وَلَيْسَ مِنَ الْبَرَصِ (1) وَاصْطِلاَحًا: تَغْيِيرٌ فِي
لَوْنِ الْجِلْدِ، وَالشَّعْرُ النَّابِتُ عَلَيْهِ أَسْوَدُ. بِخِلاَفِ
النَّابِتِ عَلَى الْبَرَصِ فَإِنَّهُ أَبْيَضُ. (2)
أَحْكَامٌ يَخْتَصُّ بِهَا الأَْبْرَصُ
ثُبُوتُ الْخِيَارِ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ بِسَبَبِ الْبَرَصِ:
3 - أَثْبَتَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ طَلَبَ
فَسْخِ الزَّوَاجِ بِوُجُودِ الْبَرَصِ الْمُسْتَحْكِمِ فِي الْجُمْلَةِ:
فَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ لِلزَّوْجَةِ فَقَطْ طَلَبَ فَسْخِ الْعَقْدِ
بِبَرَصٍ مُضِرٍّ بَعْدَ الْعَقْدِ، سَوَاءٌ كَانَ قَبْل الدُّخُول أَوْ
بَعْدَهُ، وَذَلِكَ بَعْدَ التَّأْجِيل سَنَةً إِنْ رُجِيَ بُرْؤُهُ.
وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِلزَّوْجِ أَوْ لِلزَّوْجَةِ
طَلَبَ الْفَسْخِ بِالْبَرَصِ قَبْل الدُّخُول وَبَعْدَهُ. وَهَذَا كُلُّهُ
مَعَ مُرَاعَاةِ شُرُوطِ الْخِيَارِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُبَيَّنِ فِي
النِّكَاحِ. (3)
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 277 ط الحلبي.
(2) لسان العرب مادة: " بهق ".
(3) الشرح الصغير 2 / 467ـ 468، وجواهر الإكليل 1 / 299 ط بيروت، وأسهل
المدارك 2 / 94ـ 95 ط الحلبي، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 278ـ
279 ط الحلبي، ونهاية المحتاج 6 / 303ـ 306 ط المكتبة الإسلامية، والمهذب 2
/ 49 ط بيروت، قليوبي وعميرة 3 / 261 ط الحلبي، والمغني 6 / 651 - 654 ط
الرياض وكشاف القناع 5 / 109ـ 112 ط الرياض.
(8/77)
وَمَنَعَ الْحَنَفِيَّةُ - عَدَا مُحَمَّدٍ
- تَخْيِيرَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ بِعَيْبِ الآْخَرِ وَلَوْ فَاحِشًا
كَبَرَصٍ، وَقَال مُحَمَّدٌ: يَثْبُتُ الْخِيَارُ بِالْبَرَصِ لِلزَّوْجَةِ
فَقَطْ، بِخِلاَفِ الزَّوْجِ لأَِنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ
بِالطَّلاَقِ. (1) وَيُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مَوْطِنِهِ. وَاسْتُدِل
لِثُبُوتِ الْخِيَارِ بِسَبَبِ الْبَرَصِ بِمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال:
أَيُّمَا رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، فَدَخَل بِهَا فَوَجَدَ بِهَا
بَرَصًا. أَوْ مَجْنُونَةً أَوْ مَجْذُومَةً فَلَهَا الصَّدَاقُ
بِمَسِيسِهِ إِيَّاهَا، وَهُوَ لَهُ عَلَى مَنْ غَرَّهُ مِنْهَا (2) .
وَحَدِيثُ زَيْدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَال: تَزَوَّجَ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي غِفَارٍ
فَرَأَى بِكَشْحِهَا بَيَاضًا، فَقَال لَهَا النَّبِيُّ: خُذِي عَلَيْكِ
ثِيَابَكِ وَلَمْ يَأْخُذْ مِمَّا آتَاهَا شَيْئًا. (3)
حُكْمُ شُهُودِ الأَْبْرَصِ الْمَسَاجِدَ:
4 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى إِبَاحَةِ تَرْكِ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 597 ط بيروت، والاختيار 3 / 115، وشرح فتح القدير
4 / 132 ط بيروت.
(2) حديث: " أيما رجل تزوج امرأة فدخل بها فوجدها. . . " أخرجه سعيد بن
منصور (1 / 203ـ ط علمي برس ـ الهند) . وفي إسناده انقطاع بين سعيد بن
المسيب وبين عمر بن الخطاب. (جامع التحصيل ص 244ـ ط وزارة الأوقاف
العراقية) .
(3) حديث: " زيد بن كعب بن عجرة. . . " أخرجه أحمد (3 / 493ـ ط الميمنية)
وأورده الهيثمي في المجمع (4 / 300 ـ ط القدسي) وقال: رواه - أحمد - وجميل
ضعيف.
(8/77)
وَالْجَمَاعَةِ لِلأَْبْرَصِ، إِذَا كَانَ
بَرَصُهُ شَدِيدًا، إِذَا لَمْ يُوجَدْ لِلْبُرْصِ مَوْضِعٌ يَتَمَيَّزُونَ
فِيهِ، بِحَيْثُ لاَ يَلْحَقُ ضَرَرُهُمْ بِالنَّاسِ عَلَى الْوَجْهِ
الْمُبَيَّنِ فِي مَوْطِنِهِ. (1)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُكْرَهُ حُضُورُ الْمَسْجِدِ لِصَلاَةِ
الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ لِمَنْ بِهِ بَرَصٌ يُتَأَذَّى بِهِ. وَرَخَّصَ
الشَّافِعِيَّةُ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ لِمَرِيضٍ بِبَرَصٍ لِلتَّأَذِّي.
(2)
مُصَافَحَتُهُ وَمُلاَمَسَتُهُ:
5 - يُكْرَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مُصَافَحَةُ أَوْ مُلاَمَسَةُ ذِي
عَاهَةٍ كَالْبَرَصِ؛ لأَِنَّ فِي ذَلِكَ إِيذَاءً، وَيُخْشَى أَنْ
يَنْتَقِل ذَلِكَ إِلَى السَّلِيمِ. (3)
حُكْمُ إِمَامَةِ الأَْبْرَصِ:
6 - أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ الاِقْتِدَاءَ بِإِمَامٍ بِهِ بَرَصٌ، إِلاَّ
إِنْ كَانَ شَدِيدًا، فَيُؤْمَرُ بِالْبُعْدِ عَنِ النَّاسِ
بِالْكُلِّيَّةِ وُجُوبًا، فَإِنِ امْتَنَعَ أُجْبِرَ عَلَى ذَلِكَ.
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 389 ط الحلبي، ومنح الجليل على
مختصر خليل 1 / 272 ط مكتبة النجاح بليبيا.
(2) نهاية المحتاج 2 / 155 ط المكتبة الإسلامية ببيروت، الجمل على شرح
المنهج 1 / 519 ط دار إحياء التراث الإسلامي ببيروت، وكشاف القناع1 / 498 ط
مكتبة النصر الحديثة.
(3) قليوبي وعميرة 3 / 213، وفتح الباري 10 / 130 - 131.
(8/78)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تُكْرَهُ
إِمَامَةُ أَبْرَصٍ شَاعَ بَرَصُهُ، وَكَذَا الصَّلاَةُ خَلْفَهُ
لِلنُّفْرَةِ، وَالاِقْتِدَاءُ بِغَيْرِهِ أَوْلَى. (1)
بَرَكَةٌ
انْظُرْ: تَشَهُّد، تَحِيَّة.
بِرْكَةٌ
انْظُرْ: مِيَاه.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 378 ط بيروت، وجواهر الإكليل 1 / 80 ط بيروت.
(8/78)
بَرْنَامَجٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبَرْنَامَجُ: الْوَرَقَةُ الْجَامِعَةُ لِلْحِسَابِ، وَهُوَ
مُعَرَّبُ بَرْنَامَهْ، وَقَال فِي الْمُغْرِبِ: هِيَ النُّسْخَةُ
الْمَكْتُوبُ فِيهَا عَدَدُ الثِّيَابِ وَالأَْمْتِعَةِ وَأَنْوَاعُهَا
الْمَبْعُوثِ بِهَا مِنْ إِنْسَانٍ لآِخَرَ، فَتِلْكَ النُّسْخَةُ هِيَ
الْبَرْنَامَجُ الَّتِي فِيهَا مِقْدَارُ الْمَبْعُوثِ، وَمِنْهُ قَوْل
السِّمْسَارِ: إِنَّ وَزْنَ الْحُمُولَةِ فِي الْبَرْنَامَجِ كَذَا. (1)
وَنَصَّ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْبَرْنَامَجَ: هُوَ
الدَّفْتَرُ الْمَكْتُوبُ فِيهِ صِفَةُ مَا فِي الْوِعَاءِ مِنَ الثِّيَابِ
الْمَبِيعَةِ. (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الرَّقْمُ:
2 - الرَّقْمُ لُغَةً: مِنْ رَقَمْتُ الشَّيْءَ: أَعْلَمْتُهُ بِعَلاَمَةٍ
تُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ كَالْكِتَابَةِ وَنَحْوِهَا. (3)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عَلاَمَةٌ يُعْرَفُ بِهَا مِقْدَارُ
__________
(1) تاج العروس، 4 / 32، وفيه أنها بفتح الباء والميم، وقيل بكسر الميم،
وقيل بكسرهما، والمغرب مادة: " برنامج
"، وابن عابدين 4 / 32.
(2) الشرح الصغير 3 / 41.
(3) المصباح المنير مادة: " رقم ".
(8/79)
مَا يَقَعُ بِهِ الْبَيْعُ، كَمَا
عَرَّفَهُ بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ. (1)
وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ: الثَّمَنُ الْمَكْتُوبُ عَلَى
الثَّوْبِ. (2)
ب - الأُْنْمُوذَجُ:
3 - وَيُقَال فِيهِ أَيْضًا: نُمُوذَجٌ، وَهُوَ مُعَرَّبٌ، وَقَال
الصَّغَانِيُّ: النَّمُوذَجُ: مِثَال الشَّيْءِ الَّذِي يُعْمَل عَلَيْهِ.
(3)
وَمِنْ مَعَانِيهِ لُغَةً: أَنَّهُ مَا يَدُل عَلَى صِفَةِ الشَّيْءِ.
كَأَنْ يُرِيَهُ صَاعًا مِنْ صُبْرَةِ قَمْحٍ، وَيَبِيعَهُ الصُّبْرَةَ
عَلَى أَنَّهَا مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ الصَّاعِ. وَتَفْصِيل أَحْكَامِهِ فِي
مُصْطَلَحِ: (أُنْمُوذَجٌ) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ الْبَيْعَ عَلَى رُؤْيَةِ الْبَرْنَامَجِ،
فَيَجُوزُ شِرَاءُ ثِيَابٍ مَرْبُوطَةٍ فِي الْعَدْل، مُعْتَمِدًا فِيهِ
عَلَى الأَْوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ فِي الدَّفْتَرِ. فَإِنْ وُجِدَتْ عَلَى
الصِّفَةِ لَزِمَ، وَإِلاَّ خُيِّرَ الْمُشْتَرِي إِنْ كَانَتْ أَدْنَى
صِفَةً. فَإِنْ وَجَدَهَا أَقَل عَدَدًا وَضَعَ عَنْهُ مِنَ الثَّمَنِ
بِقَدْرِهِ. فَإِنْ كَثُرَ النَّقْصُ أَكْثَرَ مِنَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 29.
(2) المغني لابن قدامة 4 / 207 ط الرياض الحديثة ومطالب أولي النهى 3 / 40.
(3) المصباح المنير 2 / 297، وحاشية ابن عابدين 4 / 66، وقليوبي وعميرة 2 /
165، وكشاف القناع عن متن الإقناع 3 / 163.
(8/79)
النِّصْفِ لَمْ يَلْزَمْهُ، وَكَانَ لَهُ
أَنْ يَرُدَّ الْبَيْعَ. وَإِنْ وَجَدَهَا أَكْثَرَ عَدَدًا كَانَ
الْبَائِعُ شَرِيكًا مَعَهُ بِنِسْبَةِ الزَّائِدِ. وَقِيل: يَرُدُّ مَا
زَادَ. قَال ابْنُ الْقَاسِمِ: وَالأَْوَّل أَحَبُّ إِلَيَّ.
وَلَوْ قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي وَغَابَ عَلَيْهِ، وَادَّعَى أَنَّهُ أَدْنَى
أَوْ أَنْقَصُ مِمَّا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي الْبَرْنَامَجِ. فَالْقَوْل
لِلْبَائِعِ بِيَمِينِهِ: أَنَّ مَا فِي الْعِدْل مُوَافِقٌ لِلْمَكْتُوبِ.
حَيْثُ أَنْكَرَ مَا ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي. فَإِنْ نَكَل وَلَمْ يَحْلِفْ
حَلَفَ الْمُشْتَرِي، وَرَدَّ الْمَبِيعَ، وَحَلَفَ: أَنَّهُ مَا بَدَّل
فِيهِ، وَإِنَّ هَذَا هُوَ الْمُبْتَاعُ بِعَيْنِهِ. فَإِنْ نَكَل
كَالْبَائِعِ لَزِمَهُ. (1)
__________
(1) الشرح الصغير وحاشية الصاوي عليه 3 / 41ـ 42 والشرح الكبير وحاشية
الدسوقي عليه 3 / 24ـ 25 وجواهر الإكليل 2 / 9.
(8/80)
بَرِيدٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْبَرِيدِ فِي اللُّغَةِ: الرَّسُول، وَمِنْهُ قَوْل
بَعْضِ الْعَرَبِ: الْحُمَّى بَرِيدُ الْمَوْتِ. وَأَبْرَدَ بَرِيدًا:
أَرْسَلَهُ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال: إِذَا أَبْرَدْتُمْ إِلَيَّ بَرِيدًا فَاجْعَلُوهُ حَسَنَ الْوَجْهِ،
حَسَنَ الاِسْمِ (1) وَإِبْرَادُهُ: إِرْسَالُهُ.
وَقَال الزَّمَخْشَرِيُّ: الْبَرِيدُ: كَلِمَةٌ فَارِسِيَّةٌ مُعَرَّبَةٌ،
كَانَتْ تُطْلَقُ عَلَى بِغَال الْبَرِيدِ، ثُمَّ سُمِّيَ الرَّسُول
الَّذِي يَرْكَبُهَا بَرِيدًا، وَسُمِّيَتِ الْمَسَافَةُ الَّتِي بَيْنَ
السِّكَّتَيْنِ بَرِيدًا، وَالسِّكَّةُ: مَوْضِعٌ كَانَ يَسْكُنُهُ
الأَْشْخَاصُ الْمُعَيَّنُونَ لِهَذَا الْغَرَضِ مِنْ بَيْتٍ أَوْ قُبَّةٍ
أَوْ رِبَاطٍ. وَكَانَ يُرَتَّبُ فِي كُل سِكَّةٍ بِغَالٌ، وَبُعْدُ مَا
بَيْنَ السِّكَّتَيْنِ فَرْسَخَانِ أَوْ أَرْبَعَةٌ. أ. هـ. وَالْفَرْسَخُ
ثَلاَثَةُ أَمْيَالٍ، وَالْمِيل
__________
(1) حديث: " إذا أبردتم إلي بريدا،
فابعثوه حسن الوجه حسن الاسم " أخرجه البزار في الزوائد (2 / 412 ط مؤسسة
الرسالة) عن بريدة، وأخرجه البغوي في شرح السنة (12 / 327) ط دار المكتب
الإسلامي. عنه وعن أبي هريرة. قال السخاوي في المقاصد الحسنة (ص 82) ط دار
الكتب العلمية: وأحدها يقوي الآخر. أي طريق بريدة وطريق أبي هريرة.
(8/80)
أَرْبَعَةُ آلاَفِ ذِرَاعٍ. وَفِي كُتُبِ
الْفِقْهِ: السَّفَرُ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ الْقَصْرُ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ،
وَهِيَ 48 مِيلاً بِالأَْمْيَال الْهَاشِمِيَّةِ. (1)
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
2 - الْبَرِيدُ مُصْطَلَحٌ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي تَقْدِيرِ
مَسَافَةِ الْقَصْرِ الَّتِي يُرَخَّصُ فِيهَا الْقَصْرُ وَالْفِطْرُ فِي
رَمَضَانَ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ السَّفَرِ (ر: قَصْر، فِطْر،
سَفَر، صَلاَةُ الْمُسَافِرِ) وَانْظُرْ أَيْضًا (مَقَادِير) .
بَرِّيَّةٌ
انْظُرْ: طَلاَق.
بُزَاقٌ
انْظُرْ: بُصَاق.
__________
(1) تاج العروس ولسان العرب والمصباح المنير مادة " برد " والميل مقياس
للطول قدر قديما بأربعة آلاف ذراع، وحد بستين وسبعمائة وألف ياردة (المعجم
الوسيط 2 / 901) .
(8/81)
بِسَاطُ الْيَمِينِ
التَّعْرِيفُ:
1 - رُكِّبَ هَذَا الْمُصْطَلَحُ مِنْ لَفْظَيْنِ. أَوَّلُهُمَا: لَفْظُ
بِسَاطٍ. وَثَانِيهِمَا: لَفْظُ الْيَمِينِ. وَأَوَّلُهُمَا مُضَافٌ إِلَى
ثَانِيهِمَا. وَهُمَا يُسْتَعْمَلاَنِ فِي الْحَلِفِ. وَلَمْ
يَسْتَعْمِلْهُمَا بِهَذِهِ الصُّورَةِ سِوَى فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ،
وَلاَ بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِ الْمُتَضَايِفَيْنِ لِلْوُصُول إِلَى تَعْرِيفِ
الْمُرَكَّبِ الإِْضَافِيِّ.
مِنْ مَعَانِي الْيَمِينِ فِي اللُّغَةِ: الْقَسَمُ وَالْحَلِفُ، وَهُوَ
الْمُرَادُ هُنَا. (1)
وَفِي اصْطِلاَحِ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ: تَحْقِيقُ مَا لَمْ يَجِبْ
بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ. (2) وَهَذَا أَدَقُّ
تَعْرِيفٍ وَأَوْجَزُهُ، وَهُنَاكَ تَعَارِيفُ أُخْرَى لِلْيَمِينِ لاَ
تَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.
2 - أَمَّا الْبِسَاطُ فَهُوَ: السَّبَبُ الْحَامِل عَلَى الْيَمِينِ إِذْ
هُوَ مَظِنَّتُهَا فَلَيْسَ فِيهِ انْتِفَاعُ النِّيَّةِ، بَل هُوَ
مُتَضَمِّنٌ لَهَا. وَضَابِطُهُ: صِحَّةُ تَقْيِيدِ يَمِينِهِ بِقَوْلِهِ:
مَا دَامَ
__________
(1) الصحاح، ولسان العرب.
(2) جواهر الإكليل 1 / 224.
(8/81)
هَذَا الشَّيْءُ أَيِ الْحَامِل عَلَى
الْيَمِينِ مَوْجُودًا. (1)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - بِسَاطُ الْيَمِينِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الَّذِينَ انْفَرَدُوا
بِهَذَا التَّعْبِيرِ: هُوَ الْبَاعِثُ عَلَى الْيَمِينِ، وَالْحَامِل
عَلَيْهَا.
وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُقَيِّدًا لِمُطْلَقِ الْيَمِينِ، أَوْ
مُخَصِّصًا لِعُمُومِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ هُنَاكَ ظَالِمٌ فِي السُّوقِ
فَقَال: وَاللَّهِ لاَ أَشْتَرِي لَحْمًا مِنْ هَذَا السُّوقِ، فَيُمْكِنُ
أَنْ يُقَيِّدَ يَمِينَهُ بِوُجُودِ هَذَا الظَّالِمِ، فَإِذَا زَال هَذَا
الظَّالِمُ جَازَ لَهُ شِرَاءُ اللَّحْمِ مِنْ هَذَا السُّوقِ، وَلاَ
يَكُونُ حَانِثًا.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ خَادِمُ الْمَسْجِدِ سَيِّئَ الْخُلُقِ، فَقَال:
وَاللَّهِ لاَ أَدْخُل هَذَا الْمَسْجِدَ، ثُمَّ زَال هَذَا الْخَادِمُ،
فَلَوْ دَخَل هَذَا الْمَسْجِدَ لاَ يَحْنَثُ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ
يُقَيِّدَ الْيَمِينَ بِقَوْلِهِ: مَا دَامَ هَذَا الْخَادِمُ مَوْجُودًا.
وَيُشْتَرَطُ فِي هَذَا الْبِسَاطِ أَلاَّ تَكُونَ لِلْحَالِفِ نِيَّةٌ،
وَأَلاَّ يَكُونَ لَهُ مَدْخَلٌ فِي هَذَا الْبَاعِثِ، وَالتَّقْيِيدُ بِهِ
أَوِ التَّخْصِيصُ بِهِ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ زَوَال هَذَا الْبَاعِثِ.
وَيُقَابِل بِسَاطَ الْيَمِينِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، مَا يُسَمَّى
يَمِينَ الْعُذْرِ، كَمَنْ قَال لِزَوْجَتِهِ عِنْدَمَا تَهَيَّأَتْ
لِلْخُرُوجِ: وَاللَّهِ لاَ تَخْرُجِي، فَإِذَا جَلَسَتْ سَاعَةً
__________
(1) الشرح الكبير 2 / 139، 140.
(8/82)
ثُمَّ خَرَجَتْ لاَ يَحْنَثُ اسْتِحْسَانًا
عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ، خِلاَفًا لِزُفَرَ الَّذِي أَخَذَ
بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ الْحِنْثُ.
وَلَيْسَ هُنَاكَ دَخْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِلْبَاعِثِ عَلَى
الْيَمِينِ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ، وَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُمْ
ظَاهِرُ اللَّفْظِ، إِنْ عَامًّا فَعَامٌّ، أَوْ مُطْلَقًا فَمُطْلَقٌ،
أَوْ خَاصًّا فَخَاصٌّ.
وَسَمَّى الْحَنَابِلَةُ بِسَاطَ الْيَمِينِ: سَبَبَ الْيَمِينِ وَمَا
هَيَّجَهَا، وَاعْتَبَرُوا مُطْلَقَ الْيَمِينِ، إِذَا لَمْ يَنْوِ
الْحَالِفُ شَيْئًا. (1) وَمَنْ أَرَادَ تَفْصِيل ذَلِكَ فَلْيَرْجِعْ
إِلَى مُصْطَلَحِ (أَيْمَان) .
__________
(1) فتح القدير 4 / 293، وبدائع الصنائع 3 / 13، والشرح الكبير للدردير 2 /
126ـ 140، والشرح الصغير 2 / 189ـ 228، وأسنى المطالب 4 / 250 - 252 ومطالب
أولي النهى 6 / 381ـ390.
(8/82)
|