اسْتَحَقُّوا الدِّيَةَ. وَإِنْ حَلَفَ
الْمُتَّهَمُونَ لَمْ تَلْزَمْهُمُ الدِّيَةُ. عَلَى خِلاَفٍ
وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي (قَسَامَةٌ) .
د - الْيَمِينُ الْمُغَلَّظَةُ:
16 - هِيَ الْيَمِينُ الَّتِي غُلِّظَتْ بِالزَّمَانِ، وَالْمَكَانِ،
وَزِيَادَةِ الأَْسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَبِحُضُورِ جَمْعٍ،
وَبِالتَّكْرَارِ.
فَالتَّغْلِيظُ بِالزَّمَانِ هُوَ: أَنْ يَكُونَ الْحَلِفُ بَعْدَ
الْعَصْرِ، وَعَصْرُ الْجُمُعَةِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ.
وَالتَّغْلِيظُ بِالْمَكَانِ: أَنْ يَكُونَ الْحَلِفُ عِنْدَ مِنْبَرِ
الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ مِنْ جِهَةِ الْمِحْرَابِ، وَكَوْنُهُ عَلَى
الْمِنْبَرِ أَوْلَى. أَمَّا التَّغْلِيظُ فِي مَكَّةَ، فَهُوَ أَنْ
يَكُونَ بَيْنَ الرُّكْنِ الأَْسْوَدِ وَالْمَقَامِ.
وَالتَّغْلِيظُ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ يَكُونُ فِي اللِّعَانِ
وَالْقَسَامَةِ وَبَعْضِ الدَّعَاوَى.
وَالتَّغْلِيظُ بِزِيَادَةِ الأَْسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ نَحْوَ:
وَاللَّهِ الطَّالِبِ الْغَالِبِ الْمُدْرِكِ الْمُهْلِكِ الَّذِي
يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، وَنَحْوَ: وَاللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ
إِلاَّ هُوَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الَّذِي يَعْلَمُ مِنَ السِّرِّ مَا يَعْلَمُ مِنَ الْعَلاَنِيَةِ.
وَهَذَا التَّغْلِيظُ يَكُونُ فِي بَعْضِ الدَّعَاوَى.
وَالتَّغْلِيظُ بِحُضُورِ جَمْعٍ هُوَ: أَنْ يَحْضُرَ الْحَلِفَ
جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ الْبَلْدَةِ وَصُلَحَائِهَا، أَقَلُّهُمْ
أَرْبَعَةٌ.
وَهَذَا التَّغْلِيظُ يَكُونُ فِي اللِّعَانِ.
وَالتَّغْلِيظُ بِالتَّكْرَارِ هُوَ: تَكْرَارُ الْيَمِينِ خَمْسِينَ
مَرَّةً.
وَهَذَا يَكُونُ فِي الْقَسَامَةِ. وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ كُلِّهِ (ر:
لِعَانٌ وَقَسَامَةٌ وَدَعْوَى) .
هـ - أَيْمَانُ الْبَيْعَةِ:
17 - مِمَّا أَحْدَثَهُ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ الثَّقَفِيُّ، أَنْ
(7/250)
حَلَّفَ النَّاسَ عَلَى بَيْعَتِهِمْ
لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بِالطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ
وَالْيَمِينِ بِاللَّهِ وَصَدَقَةِ الْمَال.
فَكَانَتْ هَذِهِ الأَْيْمَانُ الأَْرْبَعَةُ أَيْمَانَ الْبَيْعَةِ
الْقَدِيمَةِ الْمُبْتَدَعَةِ.
ثُمَّ أَحْدَثَ الْمُسْتَحْلِفُونَ مِنَ الأُْمَرَاءِ عَنِ
الْخُلَفَاءِ وَالْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ أَيْمَانًا كَثِيرَةً،
تَخْتَلِفُ فِيهَا عَادَاتُهُمْ، وَمَنْ أَحْدَثَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ
إِثْمُ مَا تَرَتَّبَ عَلَى هَذِهِ الأَْيْمَانِ مِنَ الشَّرِّ.
فَإِذَا حَلَفَ إِنْسَانٌ بِأَيْمَانِ الْبَيْعَةِ، بِأَنْ قَال:
عَلَيَّ أَيْمَانُ الْبَيْعَةِ، أَوْ أَيْمَانُ الْبَيْعَةِ
تَلْزَمُنِي إِنْ فَعَلْتُ كَذَا أَوْ إِنْ لَمْ أَفْعَل كَذَا
مَثَلاً:
فَالْمَالِكِيَّةُ اخْتَلَفُوا، فَقَال أَبُو بَكْرِ بْنُ
الْعَرَبِيِّ: أَجْمَعَ الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى أَنَّهُ يَحْنَثُ
فِيهَا بِالطَّلاَقِ لِجَمِيعِ نِسَائِهِ، وَالْعِتْقِ لِجَمِيعِ
عَبِيدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَقِيقٌ فَعَلَيْهِ عِتْقُ
رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالْمَشْيُ إِلَى مَكَّةَ، وَالْحَجُّ وَلَوْ
مِنْ أَقْصَى الْمَغْرِبِ، وَالتَّصَدُّقُ بِثُلُثِ جَمِيعِ
أَمْوَالِهِ، وَصِيَامِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. ثُمَّ قَال: جُل
الأَْنْدَلُسِيِّينَ قَالُوا: إِنَّ كُل امْرَأَةٍ لَهُ تَطْلُقُ
ثَلاَثًا ثَلاَثًا، وَقَال الْقَرَوِيُّونَ: إِنَّمَا تَطْلُقُ
وَاحِدَةً وَاحِدَةً. وَأَلْزَمَهُ بَعْضُهُمْ صَوْمَ سَنَةٍ إِذَا
كَانَ مُعْتَادًا لِلْحَلِفِ بِذَلِكَ.
وَقَال الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ: إِنْ لَمْ يَذْكُرْ فِي لَفْظِهِ
طَلاَقَهَا أَوْ عَتَاقَهَا أَوْ حَجَّهَا أَوْ صَدَقَتَهَا لَمْ
يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، سَوَاءٌ أَنَوَاهُ أَمْ لَمْ يَنْوِهِ، إِلاَّ أَنْ
يَنْوِيَ طَلاَقَهَا أَوْ عَتَاقَهَا، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ، فَقَال
الْعِرَاقِيُّونَ: يَلْزَمُهُ الطَّلاَقُ وَالْعَتَاقُ، فَإِنَّ
الْيَمِينَ بِهِمَا تَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ، وَقَال
صَاحِبُ التَّتِمَّةِ: لاَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَإِنْ نَوَاهُ مَا لَمْ
يَتَلَفَّظْ بِهِ؛ لأَِنَّ الصَّرِيحَ لَمْ يُوجَدْ، وَالْكِنَايَةَ
إِنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْحُكْمُ فِيمَا يَتَضَمَّنُ
الإِْيقَاعُ، فَأَمَّا الاِلْتِزَامُ فَلاَ.
(7/250)
وَالْحَنَابِلَةُ اخْتَلَفُوا، فَقَال
أَبُو الْقَاسِمِ الْخِرَقِيُّ: إِنْ نَوَاهَا لَزِمَتْهُ، سَوَاءٌ
أَعَرَفَهَا أَمْ لَمْ يَعْرِفْهَا. وَقَال أَكْثَرُ الأَْصْحَابِ
وَمِنْهُمْ صَاحِبُ الْمُغْنِي: إِنْ لَمْ يَعْرِفْهَا لَمْ تَنْعَقِدْ
يَمِينُهُ بِشَيْءٍ مِمَّا فِيهَا، (1) وَفِي غَايَةِ الْمُنْتَهَى:
يَلْزَمُ بِأَيْمَانِ الْبَيْعَةِ - وَهِيَ يَمِينٌ رَتَّبَهَا
الْحَجَّاجُ تَتَضَمَّنُ الْيَمِينَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَالطَّلاَقَ
وَالْعَتَاقَ وَصَدَقَةَ الْمَال - مَا فِيهَا إِنْ عَرَفَهَا
وَنَوَاهَا، وَإِلاَّ فَلَغْوٌ. (2)
و أَيْمَانُ الْمُسْلِمِينَ:
18 - جَاءَ فِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ
تَشْمَل سِتَّةَ أَشْيَاءَ، وَهِيَ: الْيَمِينُ بِاللَّهِ تَعَالَى،
وَالطَّلاَقُ الْبَاتُّ لِجَمِيعِ الزَّوْجَاتِ، وَعِتْقُ مَنْ
يَمْلِكُ مِنَ الْعَبِيدِ وَالإِْمَاءِ، وَالتَّصَدُّقُ بِثُلُثِ
الْمَال، وَالْمَشْيُ بِحَجٍّ، وَصَوْمِ عَامٍ.
وَهَذَا الشُّمُول لِلسِّتَّةِ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ تَعَارُفِ
الْحَلِفِ بِهَا، فَإِنْ تُعُورِفَ الْحَلِفُ بِبَعْضِهَا لَمْ تَشْمَل
مَا سِوَاهُ. (3)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى تَحْرِيمِ تَحْلِيفِ الْقَاضِي
بِالطَّلاَقِ أَوِ الْعَتَاقِ أَوِ النَّذْرِ. قَال الشَّافِعِيُّ:
وَمَتَى بَلَغَ الإِْمَامَ أَنَّ قَاضِيًا يَسْتَحْلِفُ النَّاسَ
بِطَلاَقٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ نَذْرٍ عَزَلَهُ عَنِ الْحُكْمِ؛ لأَِنَّهُ
جَاهِلٌ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَلْزَمُ بِالْحَلِفِ بِأَيْمَانِ
الْمُسْلِمِينَ ظِهَارٌ وَطَلاَقٌ وَعَتَاقٌ وَنَذْرٌ وَيَمِينٌ
بِاللَّهِ تَعَالَى مَعَ النِّيَّةِ. كَمَا لَوْ حَلَفَ بِكُلٍّ
مِنْهَا عَلَى انْفِرَادٍ. وَلَوْ حَلَفَ بِأَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ
عَلَى نِيَّةِ بَعْضِ مَا ذُكِرَ تَقَيَّدَ حَلِفُهُ
__________
(1) مجموع الفتاوى لابن تيمية 35 / 243، 244، وإعلام الموقعين 3 / 86 -
88.
(2) مطالب أولي النهى 6 / 373.
(3) الشرح الصغير بحاشية الصاوي 1 / 336.
(7/251)
بِهِ، وَلَوْ حَلَفَ بِهَا وَأَطْلَقَ
بِأَنْ لَمْ يَنْوِ كُلَّهَا وَلاَ بَعْضَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛
لأَِنَّهُ لَمْ يَنْوِ بِلَفْظِهِ مَا يَحْتَمِلُهُ فَلَمْ تَكُنْ
يَمِينًا. (1)
ز - أَيْمَانُ الإِْثْبَاتِ وَالإِْنْكَارِ:
19 - يَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ فِي مَبْحَثِ الدَّعْوَى أَيْمَانًا
لِلإِْثْبَاتِ وَالإِْنْكَارِ.
(مِنْهَا) : الْيَمِينُ الْمُنْضَمَّةُ، وَيَصِحُّ تَسْمِيَتُهَا
بِالْيَمِينِ الْمُتَمِّمَةِ، وَهِيَ الَّتِي تُضَمُّ إِلَى شَهَادَةِ
شَاهِدٍ وَاحِدٍ، أَوْ شَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ لإِِثْبَاتِ الْحُقُوقِ
الْمَالِيَّةِ.
(وَمِنْهَا) : يَمِينُ الْمُنْكِرِ بِكَسْرِ الْكَافِ، أَوْ يَمِينُ
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَصُورَتُهَا: أَنْ يَدَّعِيَ إِنْسَانٌ عَلَى
غَيْرِهِ بِشَيْءٍ، وَلاَ يَجِدُ بَيِّنَةً، فَيُبَيِّنُ لَهُ
الْقَاضِي أَنَّ لَهُ الْحَقَّ فِي طَلَبِ الْيَمِينِ مِنَ الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ مَا دَامَ مُنْكِرًا، فَيَأْمُرُهُ الْقَاضِي أَنْ يَحْلِفَ،
فَإِذَا حَلَفَ سَقَطَتِ الدَّعْوَى.
(وَمِنْهَا) : يَمِينُ الرَّدِّ، وَصُورَتُهَا: أَنْ يَمْتَنِعَ
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْحَالَةِ السَّابِقِ ذِكْرُهَا عَنِ
الْيَمِينِ، فَيَرُدُّهَا الْقَاضِي عَلَى الْمُدَّعِي، فَيَحْلِفُ
عَلَى دَعْوَاهُ، وَيَسْتَحِقُّ مَا ادَّعَاهُ.
(وَمِنْهَا) : يَمِينُ الاِسْتِظْهَارِ، وَصُورَتُهَا: أَنْ يَتْرُكَ
الْمَيِّتُ أَمْوَالاً فِي أَيْدِي الْوَرَثَةِ، فَيَدَّعِي إِنْسَانٌ
حَقًّا عَلَى هَذَا الْمَيِّتِ، فَعِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ لاَ
تَثْبُتُ الدَّعْوَى فِي مُوَاجَهَةِ الْوَرَثَةِ بِالْبَيِّنَةِ
فَقَطْ، بَل لاَ بُدَّ مِنْ ضَمِّ الْيَمِينِ مِنَ الْمُدَّعِي، وَقَدْ
تَجِبُ يَمِينُ الاِسْتِظْهَارِ فِي مَسَائِل أُخْرَى.
وَلِبَيَانِ كُل مَا سَبَقَ تَفْصِيلاً (ر: إِثْبَاتٌ وَدَعْوَى) .
__________
(1) مطالب أولي النهى 6 / 373، ومغني المحتاج 4 / 473.
(7/251)
إِنْشَاءُ الْيَمِينِ وَشَرَائِطُهَا
20 - تَقَدَّمَ أَنَّ الْيَمِينَ تَنْقَسِمُ مِنْ حَيْثُ صِيغَتُهَا
إِلَى قَسَمٍ وَتَعْلِيقٍ، وَمِنْ هُنَا حَسُنَ تَقْسِيمُ الْكَلاَمِ
إِلَى قِسْمَيْنِ.
إِنْشَاءُ الْقَسَمِ وَشَرَائِطُهُ
21 - مَعْلُومٌ أَنَّ الإِْنْسَانَ إِذَا قَال: أُقْسِمُ بِاللَّهِ
لأََفْعَلَنَّ كَذَا، فَهَذِهِ الصِّيغَةُ تَحْتَوِي عَلَى
جُمْلَتَيْنِ، أُولاَهُمَا: الْجُمْلَةُ الْمُكَوَّنَةُ مِنْ فِعْل
الْقَسَمِ وَفَاعِلِهِ الضَّمِيرِ، وَحَرْفِ الْقَسَمِ وَهُوَ
الْبَاءُ، وَالْمُقْسَمُ بِهِ وَهُوَ مَدْخُول الْبَاءِ.
وَثَانِيَتُهُمَا: الْجُمْلَةُ الْمُقْسَمُ عَلَيْهَا.
وَتَفْصِيل الْكَلاَمِ عَلَى الْوَجْهِ الآْتِي.
أ - فِعْل الْقَسَمِ:
22 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ فِعْل الْقَسَمِ إِذَا ذُكِرَ
بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ أَوِ الْمَاضِي، كَأَقْسَمْتُ أَوْ حَلَفْتُ،
أَوْ حُذِفَ وَذُكِرَ مَكَانَهُ الْمَصْدَرُ نَحْوَ: قَسَمًا أَوْ
حَلِفًا بِاللَّهِ، أَوْ لَمْ يَذْكُرْ نَحْوَ: اللَّهِ أَوْ بِاللَّهِ
كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ يَمِينًا عِنْدَ الإِْطْلاَقِ. (1)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا قَال: أَحْلِفُ أَوْ أُقْسِمُ أَوْ
أَشْهَدُ أَوْ أَعْزِمُ، وَقَال بَعْدَ كُل وَاحِدٍ مِنْهَا:
بِاللَّهِ، فَهِيَ يَمِينٌ. وَقَوْل الْقَائِل: عَزَمْتُ عَلَيْكَ
بِاللَّهِ لَيْسَ بِيَمِينٍ، بِخِلاَفِ: عَزَمْتُ بِاللَّهِ، أَوْ:
أَعْزِمُ بِاللَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَالْفَرْقُ هُوَ أَنَّ التَّصْرِيحَ بِكَلِمَةِ (عَلَيْكَ) جَعْلُهُ
غَيْرَ يَمِينٍ بِخِلاَفِ (أُقْسِمُ) فَإِنَّهَا إِذَا زِيدَ بَعْدَهَا
كَلِمَةُ عَلَيْكَ لَمْ تُخْرِجْهَا عَنْ كَوْنِهَا يَمِينًا؛ لأَِنَّ
(أُقْسِمُ) صَرِيحٌ فِي الْيَمِينِ.
__________
(1) البدائع 3 / 5.
(7/252)
وَقَوْل الشَّخْصِ: يَعْلَمُ اللَّهُ،
لَيْسَ بِيَمِينٍ، فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ إِثْمُ الْكَذِبِ،
وَلاَ يَكُونُ كَافِرًا بِذَلِكَ، وَلاَ بِقَوْلِهِ: أُشْهِدُ اللَّهَ،
إِلاَّ إِنْ قَصَدَ أَنَّهُ عَزَّ وَجَل يَخْفَى عَلَيْهِ الْوَاقِعُ،
وَلاَ يَكُونُ الْقَسَمُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: اللَّهُ رَاعٍ، أَوْ
حَفِيظٌ، أَوْ حَاشَا لِلَّهِ، (1) أَوْ مَعَاذَ اللَّهِ. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ قَال لِغَيْرِهِ: آلَيْتُ، أَوْ
أَقْسَمْتُ، أَوْ أُقْسِمُ عَلَيْكَ بِاللَّهِ، أَوْ أَسْأَلُكَ
بِاللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ كَذَا، أَوْ لاَ تَفْعَل كَذَا، أَوْ قَال:
بِاللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ كَذَا، أَوْ لاَ تَفْعَل كَذَا، فَإِمَّا أَنْ
يُرِيدَ يَمِينَ نَفْسِهِ أَوْ لاَ:
فَإِنْ أَرَادَ يَمِينَ نَفْسِهِ فَيَمِينٌ؛ لِصَلاَحِيَّةِ اللَّفْظِ
لَهَا مَعَ اشْتِهَارِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ حَمَلَةِ الشَّرْعِ.
وَإِنْ لَمْ يُرِدْ يَمِينَ نَفْسِهِ، بَل أَرَادَ الشَّفَاعَةَ، أَوْ
يَمِينَ الْمُخَاطَبِ، أَوْ أَطْلَقَ لَمْ تَكُنْ يَمِينًا.
فَإِنْ قَال: وَاللَّهِ، أَوْ حَلَفْتُ عَلَيْكَ بِاللَّهِ كَانَ
يَمِينًا عِنْدَ الإِْطْلاَقِ؛ لِعَدَمِ اشْتِهَارِهِ فِي الشَّفَاعَةِ
أَوْ يَمِينِ الْمُخَاطَبِ.
وَإِنْ قَال: آلَيْتُ، أَوْ أَقْسَمْتُ، أَوْ أُقْسِمُ بِاللَّهِ،
وَلَمْ يَقُل: عَلَيْكَ كَانَ يَمِينًا عِنْدَ الإِْطْلاَقِ أَيْضًا.
(3)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا قَال أَقْسَمْتُ، أَوْ أُقْسِمُ، أَوْ
شَهِدْتُ، أَوْ أَشْهَدُ، أَوْ حَلَفْتُ، أَوْ أَحْلِفُ، أَوْ
عَزَمْتُ، أَوْ أَعْزِمُ، أَوْ آلَيْتُ، أَوْ أُولِي، أَوْ قَسَمًا،
أَوْ حَلِفًا، أَوْ أَلْيَةً، أَوْ شَهَادَةً، أَوْ يَمِينًا، أَوْ
عَزِيمَةً، وَأَتْبَعَ كُلًّا مِنْ هَذِهِ الأَْلْفَاظِ بِقَوْلِهِ
(بِاللَّهِ) مَثَلاً كَانَتْ
__________
(1) في القاموس " حاشا لله: معاذ الله ".
(2) الشرح الصغير بحاشية الصاوي 1 / 329، 230.
(3) نهاية المحتاج 8 / 169، والتحفة بحاشية الشرواني 8 / 216،
والبجيرمي على منهج الطلاب 4 / 316.
(7/252)
يَمِينًا، سَوَاءٌ أَنَوَى بِهَا إِنْشَاءَ
الْيَمِينِ أَمْ أَطْلَقَ، فَإِنْ نَوَى بِالْفِعْل الْمَاضِي
إِخْبَارًا عَنْ يَمِينٍ مَضَتْ، أَوْ بِالْمُضَارِعِ وَعْدًا
بِيَمِينٍ مُسْتَقْبَلَةٍ، أَوْ نَوَى بِقَوْلِهِ: عَزَمْتُ وَأَعْزِمُ
وَعَزِيمَةً: قَصَدْتُ أَوْ أَقْصِدُ أَوْ قَصْدًا، لَمْ يَكُنْ
يَمِينًا يُقْبَل مِنْهُ ذَلِكَ.
23 - وَلَيْسَ مِنَ الْيَمِينِ قَوْلُهُ: أَسْتَعِينُ بِاللَّهِ،
وَأَعْتَصِمُ بِاللَّهِ، وَأَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ، وَعِلْمُ
اللَّهِ، وَعِزُّ اللَّهِ، وَتَبَارَكَ اللَّهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ،
وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ وَلَوْ نَوَى الْيَمِينَ؛
لأَِنَّهَا لاَ تَحْتَمِل الْيَمِينَ شَرْعًا وَلاَ لُغَةً وَلاَ
عُرْفًا.
وَلَوْ قَال: أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ لَمْ تَكُنِ
الصِّيغَةُ يَمِينًا إِنْ أَطْلَقَ أَوْ قَصَدَ السُّؤَال أَوِ
الإِْكْرَامَ أَوِ التَّوَدُّدَ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ قَصَدَ الْيَمِينَ
فَإِنَّهَا تَكُونُ يَمِينًا. (1)
ب - حُرُوفُ الْقَسَمِ:
24 - هِيَ: الْبَاءُ وَالْوَاوُ وَالتَّاءُ. أَمَّا الْبَاءُ فَهِيَ
الأَْصْل، وَلِهَذَا يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ قَبْلَهَا فِعْل الْقَسَمِ،
وَأَنْ يُحْذَفَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَدْخُل عَلَى الظَّاهِرِ
وَالْمُضْمَرِ، نَحْوَ: أُقْسِمُ بِك يَا رَبِّ لأََفْعَلَنَّ كَذَا.
وَتَلِيهَا الْوَاوُ، وَهِيَ تَدْخُل عَلَى الظَّاهِرِ فَقَطْ،
وَيُحْذَفُ مَعَهَا فِعْل الْقَسَمِ وُجُوبًا. وَتَلِيهَا التَّاءُ،
وَلاَ تَدْخُل إِلاَّ عَلَى لَفْظِ الْجَلاَلَةِ، كَمَا فِي قَوْله
تَعَالَى حِكَايَةٍ عَنْ نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
{وَتَاللَّهِ لأََكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} (2) وَرُبَّمَا دَخَلَتْ
عَلَى (رَبِّ) نَحْوَ: تَرَبِّي، وَتَرَبِّ الْكَعْبَةِ، وَيَجِبُ
مَعَهَا حَذْفُ فِعْل الْقَسَمِ أَيْضًا.
__________
(1) مطالب أولي النهى 6 / 360 - 361.
(2) سورة الأنبياء / 57.
(7/253)
وَإِذَا وَجَبَ حَذْفُ الْفِعْل وَجَبَ
حَذْفُ الْمَصَادِرِ أَيْضًا، نَحْوَ قَسَمًا.
وَيَقُومُ مَقَامَ بَاءِ الْقَسَمِ حُرُوفٌ أُخْرَى، وَهِيَ الْهَاءُ
وَالْهَمْزَةُ وَاللاَّمُ.
أَمَّا الْهَاءُ فَمِثَالُهَا: هَا اللَّهِ، بِفَتْحِ الْهَاءِ
مَمْدُودَةً وَمَقْصُورَةً مَعَ قَطْعِ هَمْزَةِ لَفْظِ الْجَلاَلَةِ
وَوَصْلِهَا، وَإِذَا وُصِلَتْ حُذِفَتْ.
وَأَمَّا الْهَمْزَةُ فَمِثَالُهَا: آللَّهُ، مَمْدُودَةً
وَمَقْصُورَةً مَعَ وَصْل هَمْزَةِ لَفْظِ الْجَلاَلَةِ، وَذَلِكَ
بِأَنْ تُحْذَفَ.
وَأَمَّا اللاَّمُ، فَقَدْ أَفَادَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ: أَنَّ مَنْ
قَال (لِلَّهِ) بِلاَمِ الْجَرِّ بَدَل الْبَاءِ كَانَتْ صِيغَتُهُ
يَمِينًا.
وَلاَ تُسْتَعْمَل اللاَّمُ إِلاَّ فِي قَسَمٍ مُتَضَمِّنٍ مَعْنَى
التَّعَجُّبِ، كَقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: "
دَخَل آدَمُ الْجَنَّةَ فَلِلَّهِ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ حَتَّى
خَرَجَ " (1) .
وَفِي مُغْنِي اللَّبِيبِ وَالْقَامُوسِ وَشَرْحِهِ مَا يُفِيدُ أَنَّ
اللاَّمَ تُسْتَعْمَل لِلْقَسَمِ وَالتَّعَجُّبِ مَعًا، وَتَخْتَصُّ
بِلَفْظِ الْجَلاَلَةِ.
هَذَا مَا قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَنَحْوُهُ بَقِيَّةُ الْمَذَاهِبِ.
(2)
حَذْفُ حَرْفِ الْقَسَمِ:
25 - إِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْحَالِفُ شَيْئًا مِنْ أَحْرُفِ الْقَسَمِ،
بَل قَال: اللَّهِ لأََفْعَلَنَّ كَذَا مَثَلاً، كَانَ يَمِينًا
بِغَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى النِّيَّةِ سَوَاءٌ أَكَسَرَ الْهَاءَ عَلَى
سَبِيل الْجَرِّ بِالْحَرْفِ الْمَحْذُوفِ، أَمْ فَتَحَهَا عَلَى
سَبِيل نَزْعِ
__________
(1) فتح القدير بأسفل الهداية 4 / 11.
(2) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 3 / 58، والبدائع 3 / 5، والشرح
الصغير 1 / 328، ونهاية المحتاج بشرح الشبراملسي 8 / 168، ومطالب أولي
النهى 6 / 360 - 362.
(7/253)
الْخَافِضِ، أَمْ ضَمَّهَا عَلَى سَبِيل
الرَّفْعِ بِالاِبْتِدَاءِ، وَيَكُونُ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا
وَتَقْدِيرُهُ: قَسَمِي أَوْ أُقْسِمُ بِهِ، أَمْ سَكَّنَهَا إِجْرَاءً
لِلْوَصْل مَجْرَى الْوَقْفِ.
وَبَقَاءُ الْجَرِّ عِنْدَ حَذْفِ الْحَرْفِ خَاصٌّ بِلَفْظِ
الْجَلاَلَةِ، فَلاَ يَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يُقَال:
الرَّحْمَنِ لأََفْعَلَنَّ كَذَا بِكَسْرِ النُّونِ. كَذَا قِيل.
لَكِنِ الرَّاجِحُ أَنَّهُ يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ قَلِيلاً، وَأَيًّا
مَا كَانَ فَاللَّحْنُ لاَ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْيَمِينِ.
هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَال: اللَّهِ، بِحَذْفِ حَرْفِ
الْقَسَمِ. لَمْ يَكُنْ يَمِينًا إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، سَوَاءٌ جَرَّ
الاِسْمَ أَمْ نَصَبَهُ أَمْ رَفَعَهُ أَمْ سَكَنَّهُ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَصِحُّ قَسَمٌ بِغَيْرِ حُرُوفِهِ، نَحْوَ:
اللَّهِ لأََفْعَلَنَّ، جَرًّا وَنَصْبًا. فَإِنْ رُفِعَ فَيَمِينٌ
أَيْضًا إِلاَّ إِذَا كَانَ الرَّافِعُ يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ وَلَمْ
يَنْوِ الْيَمِينَ، فَلاَ يَكُونُ يَمِينًا لأَِنَّهُ إِمَّا
مُبْتَدَأٌ أَوْ مَعْطُوفٌ (1) بِخِلاَفِ مَنْ لاَ يَعْرِفُ
الْعَرَبِيَّةَ، فَلَوْ رَفَعَ كَانَ يَمِينًا لأَِنَّ اللَّحْنَ لاَ
يَضُرُّ. (2)
ج - اللَّفْظُ الدَّال عَلَى الْمُقْسَمِ بِهِ:
26 - اللَّفْظُ الدَّال عَلَى الْمُقْسَمِ بِهِ: هُوَ مَا دَخَل
عَلَيْهِ حَرْفُ الْقَسَمِ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِلَّهِ
تَعَالَى أَوْ صِفَةً لَهُ.
وَالْمَقْصُودُ بِالاِسْمِ: مَا دَل عَلَى الذَّاتِ الْمُتَّصِفَةِ
بِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَال، وَهُوَ لَفْظُ الْجَلاَلَةِ (اللَّهُ)
__________
(1) لعله يريد أنه خبر والمبتدأ محذوف.
(2) البدائع 3 / 5، وحاشية ابن عابدين على الدر المختار 3 / 59، والشرح
الصغير بحاشية الصاوي 1 / 328، ونهاية المحتاج 8 / 168، ومطالب أولي
النهى 6 / 362.
(7/254)
وَكَذَلِكَ تَرْجَمَتُهُ بِجَمِيعِ
اللُّغَاتِ، أَوْ عَلَى الذَّاتِ الْمُتَّصِفَةِ بِصِفَةٍ مِنْ
صِفَاتِهِ تَعَالَى، سَوَاءٌ أَكَانَ مُخْتَصًّا بِهِ كَالرَّحْمَنِ،
وَرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَخَالِقِ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضِ،
وَالأَْوَّل بِلاَ بِدَايَةٍ، وَالآْخِرِ بِلاَ نِهَايَةٍ، وَالَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ، وَالَّذِي بَعَثَ الأَْنْبِيَاءَ بِالْحَقِّ،
وَمَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. أَمْ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
غَيْرِهِ كَالرَّحِيمِ وَالْعَظِيمِ وَالْقَادِرِ وَالرَّبِّ
وَالْمَوْلَى وَالرَّازِقِ وَالْخَالِقِ وَالْقَوِيِّ وَالسَّيِّدِ،
فَهَذِهِ الأَْسْمَاءُ قَدْ تُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ تَعَالَى، قَال
تَعَالَى فِي وَصْفِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
{بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (1) وَقَال عَزَّ وَجَل فِي
حِكَايَةِ مَا قَالَهُ الْهُدْهُدُ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَصْفًا لِمَلَكَةِ سَبَأٍ {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} (2) . وَقَال
سُبْحَانَهُ فِي وَصْفِ أَهْل الْحَدِيقَةِ الَّذِينَ عَزَمُوا عَلَى
الْبُخْل بِثَمَرِهَا {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} (3)
وَمَعْنَى الْحَرْدِ: الْمَنْعُ، وَالْمُرَادُ مَنْعُ الْمَسَاكِينِ،
وَقَال تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْل يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
لأَِحَدِ صَاحِبَيْهِ فِي السِّجْنِ: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} (4)
وَقَال عَزَّ وَجَل مُخَاطِبًا لِزَوْجَيْنِ مِنْ أَزْوَاجِ الرَّسُول
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ
فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيل وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ}
(5) وَقَال جَل شَأْنُهُ مُخَاطِبًا لِمَنْ يَقْسِمُونَ الْمِيرَاثَ
{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} (6)
وَقَال سُبْحَانَهُ مُخَاطِبًا لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ {وَإِذْ
__________
(1) سورة التوبة / 128.
(2) سورة النمل / 23.
(3) سورة القلم / 25.
(4) سورة يوسف / 43.
(5) سورة التحريم / 4.
(6) سورة النساء / 8
(7/254)
تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ
الطَّيْرِ بِإِذْنِي} (1) ، وَقَال تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْل
إِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ لأَِبِيهَا عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
{إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَْمِينُ} (2) وَقَال
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} (3)
27 - (وَالْمَقْصُودُ بِالصِّفَةِ) : اللَّفْظُ الدَّال عَلَى مَعْنًى
تَصِحُّ نِسْبَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، سَوَاءٌ كَانَ صِفَةَ
ذَاتٍ أَمْ صِفَةَ فِعْلٍ.
وَصِفَةُ الذَّاتِ هِيَ: الَّتِي يَتَّصِفُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
بِهَا لاَ بِضِدِّهَا كَوُجُودِهِ.
وَصِفَةُ الْفِعْل هِيَ: الَّتِي يَتَّصِفُ اللَّهُ عَزَّ وَجَل بِهَا
وَبِضِدِّهَا بِاعْتِبَارِ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ، كَرَحْمَتِهِ
وَعَذَابِهِ.
28 - وَلاَ تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِكُل اسْمٍ لَهُ تَعَالَى أَوْ
صِفَةٍ لَهُ عَلَى الإِْطْلاَقِ، بَل ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِشَرَائِطَ
مُفَصَّلَةٍ تَخْتَلِفُ فِيهَا الْمَذَاهِبُ.
فَالْحَنَفِيَّةُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ، أَرْجَحُهَا: أَنَّ
الاِسْمَ يَجُوزُ الإِْقْسَامُ بِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُخْتَصًّا أَمْ
مُشْتَرَكًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْحَلِفُ بِهِ مُتَعَارَفًا أَمْ لاَ،
وَسَوَاءٌ أَنَوَى بِهِ اللَّهَ تَعَالَى أَمْ لاَ. لَكِنْ لَوْ نَوَى
بِالاِسْمِ الْمُشْتَرَكِ غَيْرَ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا،
وَإِذَا كَانَ الاِسْمُ غَيْرَ وَارِدٍ فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ
لَمْ يَكُنْ يَمِينًا إِلاَّ إِذَا تُعُورِفَ الْحَلِفُ بِهِ، أَوْ
نَوَى بِهِ اللَّهَ تَعَالَى. وَأَمَّا الصِّفَةُ فَلاَ يَصِحُّ
الإِْقْسَامُ بِهَا إِلاَّ إِذَا كَانَتْ مُخْتَصَّةً بِصِفَتِهِ
تَعَالَى، سَوَاءٌ أَكَانَ
__________
(1) سورة المائدة / 110.
(2) سورة القصص / 26.
(3) سورة يوسف / 25.
(7/255)
الْحَلِفُ بِهَا مُتَعَارَفًا أَمْ لاَ،
أَوْ كَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ صِفَتِهِ تَعَالَى وَغَيْرِهَا
وَتُعُورِفَ الْحَلِفُ بِهَا، وَسَوَاءٌ فِي الصِّفَةِ كَوْنُهَا
صِفَةَ ذَاتٍ وَكَوْنُهَا صِفَةَ فِعْلٍ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِاسْمِ اللَّهِ
تَعَالَى وَصِفَتِهِ الذَّاتِيَّةِ الْمُخْتَصَّةِ. وَأَمَّا
الْمُشْتَرَكَةُ فَإِنَّ الْيَمِينَ تَنْعَقِدُ بِهَا مَا لَمْ يُرِدْ
بِهَا غَيْرَ صِفَتِهِ تَعَالَى. وَأَمَّا صِفَةُ الْفِعْل فَفِي
الاِنْعِقَادِ بِهَا خِلاَفٌ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ
بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُخْتَصِّ بِهِ إِنْ أَرَادَ اللَّهَ
تَعَالَى أَوْ أَطْلَقَ، فَإِنْ أَرَادَ غَيْرَهُ لَمْ يُقْبَل
ظَاهِرًا وَلاَ بَاطِنًا عِنْدَهُمْ.
وَتَنْعَقِدُ أَيْضًا بِاسْمِهِ الَّذِي يَغْلِبُ إِطْلاَقُهُ
عَلَيْهِ، وَلاَ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ إِلاَّ مُقَيَّدًا
كَالرَّبِّ، وَهَذَا إِنْ أَرَادَ اللَّهَ تَعَالَى أَوْ أَطْلَقَ،
فَإِنْ أَرَادَ غَيْرَهُ قُبِل ظَاهِرًا وَبَاطِنًا عِنْدَهُمْ
جَمِيعًا. وَتَنْعَقِدُ أَيْضًا بِالاِسْمِ الْمُشْتَرَكِ الَّذِي لاَ
يَغْلِبُ إِطْلاَقُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى كَالْحَيِّ وَالسَّمِيعِ،
وَكَذَا بِاللَّفْظِ الَّذِي يَشْمَلُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ اسْمًا
لَهُ تَعَالَى كَالشَّيْءِ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي انْعِقَادِهَا
بِهَذَا النَّوْعِ أَنْ يُرِيدَ الْحَالِفُ اللَّهَ تَعَالَى، فَإِنْ
أَرَادَ غَيْرَهُ أَوْ أَطْلَقَ لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ.
وَلَمْ يُفَصِّل الْحَنَابِلَةُ فِي ذَلِكَ، بَل قَالُوا: إِنَّ
الصِّفَةَ الْمُضَافَةَ تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهَا، أَمَّا غَيْرُ
الْمُضَافَةِ - كَأَنْ يُقَال: وَالْعِزَّةُ - فَلاَ تَنْعَقِدُ بِهَا
إِلاَّ بِإِرَادَةِ صِفَتِهِ تَعَالَى.
29 - وَأَمَّا الاِسْمُ الَّذِي لاَ يُعَدُّ مِنْ أَسْمَائِهِ، وَلاَ
يَصِحُّ إِطْلاَقُهُ عَلَيْهِ فَلاَ تَنْعَقِدُ بِهِ الْيَمِينُ،
وَلَوْ أُرِيدَ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَثَّل لَهُ الشَّافِعِيَّةُ
بِقَوْل بَعْضِ الْعَوَّامِ (وَالْجَنَابِ الرَّفِيعِ) فَالْجَنَابُ
لِلإِْنْسَانِ فِنَاءُ دَارِهِ، وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّ اللَّهِ
تَعَالَى، وَالنِّيَّةُ لاَ تُؤَثِّرُ مَعَ الاِسْتِحَالَةِ.
أَمَّا صِفَةُ الْفِعْل، فَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِعَدَمِ
(7/255)
انْعِقَادِ الْيَمِينِ بِهَا، وَسَكَتَ
الْحَنَابِلَةُ عَنْهَا، وَأَطْلَقُوا انْعِقَادَ الْيَمِينِ
بِصِفَتِهِ تَعَالَى الْمُضَافَةِ إِلَيْهِ، وَظَاهِرُ ذَلِكَ أَنَّهَا
تَنْعَقِدُ عِنْدَهُمْ بِصِفَتِهِ الْفِعْلِيَّةِ. (1)
الْحَلِفُ بِالْقُرْآنِ وَالْحَقِّ
أ - الْحَلِفُ بِالْقُرْآنِ أَوِ الْمُصْحَفِ:
30 - الْمُعْتَمَدُ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْحَلِفَ
بِالْقُرْآنِ يَمِينٌ؛ لأَِنَّ الْقُرْآنَ كَلاَمُ اللَّهِ تَعَالَى
الَّذِي هُوَ صِفَتُهُ الذَّاتِيَّةُ، وَقَدْ تَعَارَفَ النَّاسُ
الْحَلِفَ بِهِ، وَالأَْيْمَانُ تُبْنَى عَلَى الْعُرْفِ.
أَمَّا الْحَلِفُ بِالْمُصْحَفِ، فَإِنْ قَال الْحَالِفُ: أُقْسِمُ
بِمَا فِي هَذَا الْمُصْحَفِ فَإِنَّهُ يَكُونُ يَمِينًا. أَمَّا لَوْ
قَال: أُقْسِمُ بِالْمُصْحَفِ، فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ يَمِينًا؛
لأَِنَّ الْمُصْحَفَ لَيْسَ صِفَةً لِلَّهِ تَعَالَى، إِذْ هُوَ
الْوَرَقُ وَالْجِلْدُ، فَإِنْ أَرَادَ مَا فِيهِ كَانَ يَمِينًا
لِلْعُرْفِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَنْعَقِدُ الْقَسَمُ بِالْقُرْآنِ
وَبِالْمُصْحَفِ، وَبِسُورَةِ الْبَقَرَةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَبِآيَةِ
الْكُرْسِيِّ أَوْ غَيْرِهَا، وَبِالتَّوْرَاةِ وَبِالإِْنْجِيل
وَبِالزَّبُورِ؛ لأَِنَّ كُل ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى كَلاَمِهِ تَعَالَى
الَّذِي هُوَ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ، لَكِنْ لَوْ أَرَادَ بِالْمُصْحَفِ
النُّقُوشَ وَالْوَرَقَ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا. (3)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِكِتَابِ اللَّهِ
وَالتَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيل مَا لَمْ يُرِدِ الأَْلْفَاظَ،
وَبِالْقُرْآنِ
__________
(1) البدائع 3 / 6، وابن عابدين 3 / 52، وحاشية الصاوي على الشرح
الصغير 1 / 329، 330، ونهاية المحتاج 8 / 164، 165، ومطالب أولي النهى
6 / 358 - 361.
(2) فتح القدير 3 / 10، وحاشية ابن عابدين 3 / 52، والبدائع 3 / 8، 9.
(3) الشرح الصغير بحاشية الصاوي 1 / 329 - 330.
(7/256)
وَبِالْمُصْحَفِ مَا لَمْ يُرِدْ بِهِ
وَرَقَهُ وَجِلْدَهُ؛ لأَِنَّهُ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ لاَ يَنْصَرِفُ
عُرْفًا إِلاَّ لِمَا فِيهِ مِنَ الْقُرْآنِ. (1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الْحَلِفُ بِكَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى
وَالْمُصْحَفِ وَالْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيل وَالزَّبُورِ
يَمِينٌ، وَكَذَا الْحَلِفُ بِسُورَةٍ أَوْ آيَةٍ. (2)
ب - الْحَلِفُ بِالْحَقِّ، أَوْ حَقِّ اللَّهِ:
31 - لاَ شَكَّ أَنَّ الْحَقَّ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْوَارِدَةِ
فِي الْكِتَابِ الْكَرِيمِ وَالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، غَيْرَ
أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الأَْسْمَاءِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ، وَقَدْ مَثَّل
بِهِ الشَّافِعِيَّةُ لِلأَْسْمَاءِ الَّتِي تَنْصَرِفُ عِنْدَ
الإِْطْلاَقِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلاَ تَنْصَرِفُ إِلَى غَيْرِهِ
إِلاَّ بِالتَّقْيِيدِ، فَعَلَى هَذَا مَنْ قَال: وَالْحَقِّ
لأََفْعَلَنَّ كَذَا، إِنْ أَرَادَ اللَّهَ تَعَالَى أَوْ أَطْلَقَ
كَانَ يَمِينًا بِلاَ خِلاَفٍ، وَإِنْ أَرَادَ الْعَدْل أَوْ أَرَادَ
شَيْئًا مَا مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي تَكُونُ لِلإِْنْسَانِ عَلَى
الإِْنْسَانِ قُبِل مِنْهُ ذَلِكَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.
32 - وَأَمَّا (حَقٌّ) الْمُضَافُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ إِلَى
اسْمٍ أَوْ صِفَةٍ مِنَ الأَْسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ الَّتِي تَنْعَقِدُ
الْيَمِينُ بِهَا فَفِيهِ خِلاَفٌ.
فَالْحَنَفِيَّةُ نَقَلُوا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَإِحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَنْ قَال: (وَحَقِّ
اللَّهِ) يَكُنْ يَمِينًا. وَوَجَّهَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ بِأَنَّ
حَقَّهُ تَعَالَى هُوَ الطَّاعَاتُ وَالْعِبَادَاتُ، فَلَيْسَ اسْمًا
وَلاَ صِفَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَل.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ يَمِينٌ؛ لأَِنَّ
الْحَقَّ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى، وَهُوَ حَقِيقَةٌ، فَكَأَنَّ
الْحَالِفَ قَال: وَاللَّهِ الْحَقِّ، وَالْحَلِفُ بِهِ مُتَعَارَفٌ.
وَاخْتَارَ
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 167.
(2) مطالب أولي النهى 6 / 361.
(7/256)
صَاحِبُ الاِخْتِيَارِ هَذِهِ
الرِّوَايَةَ، وَتَبِعَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ:
يَنْعَقِدُ الْقَسَمُ بِحَقِّ اللَّهِ، وَمَرْجِعُهُ إِلَى الْعَظَمَةِ
وَالأُْلُوهِيَّةِ، فَإِنْ قَصَدَ الْحَالِفُ بِهِ الْحَقَّ الَّذِي
عَلَى الْعِبَادِ مِنَ التَّكَالِيفِ وَالْعِبَادَةِ فَلَيْسَ
بِيَمِينٍ. (1)
حَذْفُ الْمُقْسَمِ بِهِ
33 - إِذَا لَمْ يَذْكُرِ الْحَالِفُ الْمُقْسَمَ بِهِ بَل قَال:
أُقْسِمُ، أَوْ أَحْلِفُ، أَوْ أَشْهَدُ، أَوْ أَعْزِمُ لأََفْعَلَنَّ
كَذَا، أَوْ آلَيْتُ لاَ أَفْعَل كَذَا كَانَ يَمِينًا عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ حَذَفَ الْحَالِفُ قَوْلَهُ (بِاللَّهِ)
بَعْدَ قَوْلِهِ أَحْلِفُ أَوْ أُقْسِمُ أَوْ أَشْهَدُ كَانَ يَمِينًا
إِنْ نَوَاهُ - أَيْ نَوَى الْحَلِفَ بِاللَّهِ - بِخِلاَفِ مَا لَوْ
حَذَفَهُ بَعْدَ قَوْلِهِ أَعْزِمُ فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ يَمِينًا
وَإِنْ نَوَاهُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْفِعْل وَالأَْفْعَال الثَّلاَثَةِ
السَّابِقَةِ، أَنَّ الْعَزْمَ مَعْنَاهُ الأَْصْلِيُّ الْقَصْدُ
وَالاِهْتِمَامُ، فَلاَ يَكُونُ بِمَعْنَى الْقَسَمِ إِلاَّ إِذَا
ذُكِرَ بَعْدَهُ الْمُقْسَمُ بِهِ، بِأَنْ يَقُول (بِاللَّهِ) ،
مَثَلاً، بِخِلاَفِ الأَْفْعَال الثَّلاَثَةِ السَّابِقَةِ، فَإِنَّهَا
مَوْضُوعَةٌ لِلْقَسَمِ فَيَكْفِي فِيهَا أَنْ يَنْوِيَ الْمُقْسِمَ
بِهِ عِنْدَ حَذْفِهِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ حَذَفَ الْمُتَكَلِّمُ الْمَحْلُوفَ بِهِ
لَمْ تَكُنِ الصِّيغَةُ يَمِينًا وَلَوْ نَوَى الْيَمِينَ بِاللَّهِ،
سَوَاءٌ ذَكَرَ فِعْل الْقَسَمِ أَمْ حَذَفَهُ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ حَذَفَ الْحَالِفُ قَوْلَهُ (بِاللَّهِ)
مَثَلاً بَعْدَ نُطْقِهِ بِالْفِعْل أَوِ الاِسْمِ الدَّال عَلَى
الْقَسَمِ، نَحْوَ: قَسَمًا، لَمْ تَكُنِ الصِّيغَةُ يَمِينًا، إِلاَّ
إِذَا نَوَى الْحَلِفَ بِاللَّهِ. (2)
__________
(1) المراجع السابقة في جميع المذاهب.
(2) البدائع 3 / 7، والشرح الصغير 1 / 329، 330، ونهاية المحتاج 8 /
169، والتحفة بحاشية الشرواني 8 / 214، ومطالب أولي النهى 6 / 360.
(7/257)
اللَّفْظُ الدَّال عَلَى الْمُقْسَمِ
عَلَيْهِ
34 - اللَّفْظُ الدَّال عَلَى الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ هُوَ الْجُمْلَةُ
الَّتِي يُرِيدُ الْحَالِفُ تَحْقِيقَ مَضْمُونِهَا مِنْ إِثْبَاتٍ
أَوْ نَفْيٍ، وَتُسَمَّى جَوَابَ الْقَسَمِ.
وَيَجِبُ فِي الْعَرَبِيَّةِ تَأْكِيدُ الإِْثْبَاتِ بِاللاَّمِ مَعَ
نُونِ التَّوْكِيدِ إِنْ كَانَ الْفِعْل مُضَارِعًا، (1) وَبِاللاَّمِ
مَعَ قَدْ إِنْ كَانَ مَاضِيًا. (2) يُقَال: وَاللَّهِ لأََفْعَلَنَّ
كَذَا، أَوْ لَقَدْ فَعَلْتُ كَذَا. وَأَمَّا النَّفْيُ فَلاَ
يُؤَكَّدُ فِيهِ الْفِعْل، بَل يُقَال: وَاللَّهِ لاَ أَفْعَل كَذَا،
أَوْ مَا فَعَلْتُ كَذَا. (3)
فَإِذَا وَرَدَ فِعْلٌ مُضَارِعٌ مُثْبَتٌ لَيْسَ فِيهِ لاَمٌ وَلاَ
نُونُ تَوْكِيدٍ اعْتُبِرَ مَنْفِيًّا بِحَرْفٍ مَحْذُوفٍ، كَمَا فِي
قَوْله تَعَالَى: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} (4) أَيْ: لاَ
تَفْتَأُ.
وَعَلَى هَذَا لَوْ قَال إِنْسَانٌ: وَاللَّهِ أُكَلِّمُ فُلاَنًا
الْيَوْمَ، كَانَ حَالِفًا عَلَى نَفْيِ تَكْلِيمِهِ، فَيَحْنَثُ إِذَا
كَلَّمَهُ؛ لأَِنَّ الْفِعْل لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ لاَمٌ وَلاَ
نُونُ تَوْكِيدٍ قُدِّرَتْ قَبْلَهُ (لاَ) النَّافِيَةُ.
هَذَا إِذَا لَمْ يَتَعَارَفِ النَّاسُ خِلاَفَهُ، فَإِنْ تَعَارَفُوا
أَنَّ مِثْل ذَلِكَ يَكُونُ إِثْبَاتًا، كَانَ حَالِفًا عَلَى
الإِْثْبَاتِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ.
هَكَذَا يُؤْخَذُ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ،
__________
(1) هذا إذا كان مستقبلا، فإن كان حاضرا أتى باللام من غير نون التوكيد
نحو: أقسم بالله لأبغض كل منافق.
(2) وقد يؤتى باللام وحدها نحو: أقسم بالله لفعلت كذا.
(3) فإن قيل: لا فعلت كان الماضي بمعنى المضارع، أي للنفي في المستقبل.
(4) سورة يوسف / 85.
(7/257)
وَلاَ نَظُنُّ أَنَّهُ مَحَل خِلاَفٍ،
فَإِنَّهُ مِنَ الْوُضُوحِ بِمَكَانٍ. (1)
الصِّيَغُ الْخَالِيَةُ مِنْ أَدَاةِ الْقَسَمِ وَالْمُقْسَمِ بِهِ
35 - قَدْ يَأْتِي الْحَالِفُ بِصِيَغٍ خَالِيَةٍ مِنْ أَدَاةِ
الْقَسَمِ وَمِنِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَتِهِ، أَوْ خَالِيَةٍ
مِنَ الأَْدَاةِ وَحْدَهَا، وَتُعْتَبَرُ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ
أَيْمَانًا كَالْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى.
أ - لَعَمْرُ اللَّهِ:
36 - إِذَا قِيل: لَعَمْرُ اللَّهِ لأََفْعَلَنَّ كَذَا، كَانَ هَذَا
قَسَمًا مُكَوَّنًا مِنْ مُبْتَدَأٍ مَذْكُورٍ وَخَبَرٍ مُقَدَّرٍ،
وَالتَّقْدِيرُ: لَعَمْرُ اللَّهِ قَسَمِي، أَوْ يَمِينِي، أَوْ
أَحْلِفُ بِهِ. وَهِيَ فِي قُوَّةِ قَوْلِكَ: وَعَمْرُ اللَّهِ، أَيْ
بَقَائِهِ، هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ كِنَايَةٌ؛ لأَِنَّ
الْعُمْرَ يُطْلَقُ عَلَى الْحَيَاةِ وَالْبَقَاءِ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا
عَلَى الدِّينِ وَهُوَ الْعِبَادَاتُ، فَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ
مَعْنَاهُ: وَحَيَاةِ اللَّهِ وَبَقَائِهِ، أَوْ دِينِهِ، فَيَكُونُ
يَمِينًا عَلَى الاِحْتِمَالَيْنِ الأَْوَّلَيْنِ دُونَ الثَّالِثِ،
فَلاَ بُدَّ مِنَ النِّيَّةِ. (3)
ب - وَأَيْمَنُ اللَّهِ:
37 - جَاءَ هَذَا الاِسْمُ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ (4) وَغَيْرِهِمْ مَسْبُوقًا بِالْوَاوِ،
وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْوَاوَ لِلْقَسَمِ، وَيَكُونُ إِقْسَامًا
بِبَرَكَتِهِ تَعَالَى أَوْ قُوَّتِهِ، وَجَاءَ فِي كُتُبِ
__________
(1) ابن عابدين على الدر المختار 3 / 59، والتوضيح للزهري 2 / 203.
(2) البدائع 3 / 9، وابن عابدين 3 / 55، ومطالب أولي النهى 6 / 360،
374، والحطاب 3 / 261.
(3) نهاية المحتاج 8 / 169.
(4) البدائع 3 / 9، وابن عابدين 3 / 55، والشرح الصغير 1 / 230، 329.
(7/258)
الْحَنَابِلَةِ (1) مَسْبُوقًا بِالْوَاوِ
أَيْضًا مَعَ تَصْرِيحِ بَعْضِهِمْ بِأَنَّ نُونَهُ مَضْمُومَةٌ
وَأَنَّهُ مُبْتَدَأٌ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجُمْلَةَ قَسَمٌ فَقَطْ، فَلاَ يَتَرَتَّبُ
عَلَيْهَا حُكْمٌ إِلاَّ إِذَا جِيءَ بَعْدَهَا بِجُمْلَةِ الْجَوَابِ،
مِثْل لأََفْعَلَنَّ كَذَا.
ج - عَلَيَّ نَذْرٌ، أَوْ نَذْرٌ لِلَّهِ:
38 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا قَال قَائِلٌ: عَلَيَّ نَذْرٌ، أَوْ
نَذْرُ اللَّهِ لأََفْعَلَنَّ كَذَا، أَوْ لاَ أَفْعَل كَذَا، كَانَ
ذَلِكَ يَمِينًا، فَإِذَا لَمْ يُوَفِّ بِمَا ذَكَرَهُ كَانَ عَلَيْهِ
كَفَّارَةُ يَمِينٍ.
وَلَوْ قَال: عَلَيَّ نَذْرٌ، أَوْ نَذْرٌ لِلَّهِ، وَلَمْ يَزِدْ
عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ نَوَى بِالنَّذْرِ قُرْبَةً مِنْ حَجٍّ أَوْ
عُمْرَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا لَزِمَتْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا
كَانَ نَذْرًا لِكَفَّارَةِ الْيَمِينِ، كَأَنَّهُ قَال: عَلَيَّ
نَذْرٌ لِلَّهِ أَنْ أُؤَدِّيَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ
حُكْمَ الْيَمِينِ الَّتِي حَنِثَ فِيهَا صَاحِبُهَا؛ لِقَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: النَّذْرُ يَمِينٌ، وَكَفَّارَتُهُ
كَفَّارَةُ الْيَمِينِ (2) هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ. (3)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: تَلْزَمُ كَفَّارَةٌ فِي النَّذْرِ
الْمُبْهَمِ. وَلَهُ أَرْبَعُ صُوَرٍ (الأُْولَى) عَلَيَّ نَذْرٌ
(الثَّانِيَةُ) لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ (الثَّالِثَةُ) إِنْ فَعَلْتُ
كَذَا أَوْ إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَعَلَيَّ نَذْرٌ
(الرَّابِعَةُ) إِنْ فَعَلْتُ كَذَا أَوْ إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي
فَلِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ، فَفِي الصُّورَتَيْنِ الأُْولَيَيْنِ
__________
(1) مطالب أولي النهى 6 / 359.
(2) حديث: " النذر يمين. . . " رواه أحمد في مسنده (4 / 149) والطبراني
في الكبير عن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الحافظ العراقي: إنه حديث حسن (فيض القدير شرح الجامع الصغير 6 /
298) .
(3) البدائع 3 / 7، وحاشية ابن عابدين على الدر المختار 3 / 55.
(7/258)
تَلْزَمُ الْكَفَّارَةُ بِمُجَرَّدِ
النُّطْقِ، وَفِي الصُّورَتَيْنِ الأُْخْرَيَيْنِ تَلْزَمُ
الْكَفَّارَةَ بِحُصُول الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَكَانَ
الْقَصْدُ الاِمْتِنَاعَ أَمِ الشُّكْرَ. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ قَال: عَلَيَّ نَذْرٌ، أَوْ إِنْ شَفَى
اللَّهُ مَرِيضِي فَعَلَيَّ نَذْرٌ، لَزِمَتْهُ قُرْبَةٌ غَيْرُ
مُعَيَّنَةٍ، وَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ مَا شَاءَ مِنَ الْقُرَبِ،
كَتَسْبِيحٍ وَتَكْبِيرٍ وَصَلاَةٍ وَصَوْمٍ. وَمَنْ قَال: إِنْ
كَلَّمْتُ زَيْدًا فَعَلَيَّ نَذْرٌ أَوْ فَلِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ،
يُخَيَّرُ بَيْنَ الْقُرْبَةِ وَبَيْنَ كَفَّارَةِ يَمِينٍ، فَإِنِ
اخْتَارَ الْقُرْبَةَ فَلَهُ اخْتِيَارُ مَا شَاءَ مِنَ الْقُرَبِ،
وَإِنِ اخْتَارَ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ كَفَّرَ بِمَا يَجِبُ فِي
الْيَمِينِ الَّتِي حَنِثَ صَاحِبُهَا فِيهَا.
وَمَنْ قَال: إِنْ كَلَّمْتُ زَيْدًا فَعَلَيَّ كَفَّارَةُ نَذْرٍ،
كَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحِنْثِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَالصِّيغَةُ فِي
جَمِيعِ هَذِهِ الأَْمْثِلَةِ صِيغَةُ نَذْرٍ وَلَيْسَتْ صِيغَةَ
يَمِينٍ، إِلاَّ الصِّيغَةَ الَّتِي فِيهَا (إِنْ كَلَّمْتُ زَيْدًا. .
. إِلَخْ) فَيَجُوزُ تَسْمِيَتُهَا يَمِينًا؛ لأَِنَّهَا مِنْ نَذْرِ
اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ. (2)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَنْ قَال: عَلَيَّ نَذْرٌ إِنْ فَعَلْتُ
كَذَا، وَفَعَلَهُ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فِي الأَْرْجَحِ،
وَقِيل: لاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَقِيل: إِنْ نَوَى الْيَمِينَ
فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَإِلاَّ فَلاَ، وَلَوْ قَال: لِلَّهِ
عَلَيَّ نَذْرٌ وَلَمْ يُعَلِّقْهُ بِشَيْءٍ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ
يَمِينٍ أَيْضًا فِي الأَْرْجَحِ. (3)
د - عَلَيَّ يَمِينٌ، أَوْ يَمِينُ اللَّهِ:
39 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا قَال: عَلَيَّ يَمِينٌ، أَوْ يَمِينُ
اللَّهِ لأََفْعَلَنَّ كَذَا، أَوْ لاَ أَفْعَل كَذَا، فَهَاتَانِ
الصِّيغَتَانِ مِنَ
__________
(1) أقرب المسالك 1 / 332.
(2) نهاية المحتاج 8 / 208، 209.
(3) مطالب أولي النهى 6 / 374، والإنصاف 11 / 38 - 39، 119.
(7/259)
الأَْيْمَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
وَالصَّاحِبَيْنِ، وَقَال زُفَرُ: لَوْ قَال: عَلَيَّ يَمِينٌ وَلَمْ
يُضِفْهُ لِلَّهِ تَعَالَى، لَمْ يَكُنْ يَمِينًا عِنْدَ الإِْطْلاَقِ.
وَوَجْهُهُ: أَنَّ الْيَمِينَ يُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ
اللَّهِ، فَلاَ تُعْتَبَرُ الصِّيغَةُ يَمِينًا بِاللَّهِ إِلاَّ
بِالنِّيَّةِ.
وَيُسْتَدَل لأَِبِي حَنِيفَةَ وَالصَّاحِبَيْنِ بِأَنَّ إِطْلاَقَ
الْيَمِينِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى، إِذْ هِيَ
الْجَائِزَةُ شَرْعًا، هَذَا إِذَا ذَكَرَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ.
فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ، بَل قَال الْحَالِفُ: عَلَيَّ يَمِينٌ، أَوْ
يَمِينُ اللَّهِ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَرَادَ إِنْشَاءَ
الاِلْتِزَامِ لاَ الإِْخْبَارَ بِالْتِزَامٍ سَابِقٍ، فَعَلَيْهِ
كَفَّارَةُ يَمِينٍ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ تُعْتَبَرُ مِنْ صِيَغِ
النَّذْرِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ النَّذْرَ الْمُطْلَقَ الَّذِي لَمْ
يُذْكَرْ فِيهِ الْمَنْذُورُ يُعْتَبَرُ نَذْرًا لِلْكَفَّارَةِ،
فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْيَمِينِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْتِزَامَ الْيَمِينِ لَهُ أَرْبَعُ
صِيَغٍ كَالنَّذْرِ الْمُبْهَمِ، وَأَمْثِلَتُهَا: عَلَيَّ يَمِينٌ،
وَلِلَّهِ عَلَيَّ يَمِينٌ، وَإِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي أَوْ
كَلَّمْتُ زَيْدًا فَعَلَيَّ يَمِينٌ، إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي
أَوْ إِنْ كَلَّمْتُ زَيْدًا فَلِلَّهِ عَلَيَّ يَمِينٌ.
وَلاَ يَخْفَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مُوجِبُ الْيَمِينِ، فَالْكَلاَمُ
عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ كَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ قَوْل الْقَائِل: عَلَيَّ يَمِينٌ، لاَ
يُعْتَبَرُ يَمِينًا سَوَاءٌ أَكَانَ مُطْلَقًا أَوْ مُعَلَّقًا؛
لأَِنَّهُ الْتِزَامٌ لِلْيَمِينِ أَيِ الْحَلِفِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ
قُرْبَةً كَالصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ فَهُوَ لَغْوٌ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَنْ قَال: عَلَيَّ يَمِينٌ إِنْ فَعَلْتُ
كَذَا، فَفِيهِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ لَغْوٌ، كَمَا
يَقُول الشَّافِعِيَّةُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كِنَايَةٌ فَلاَ يَكُونُ
يَمِينًا إِلاَّ
(7/259)
بِالنِّيَّةِ، وَالثَّالِثُ وَهُوَ
الأَْرْجَحُ: أَنَّهُ يَمِينٌ بِغَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى النِّيَّةِ. (1)
هـ - عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ، أَوْ مِيثَاقُهُ، أَوْ ذِمَّتُهُ:
40 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا قِيل: عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ أَوْ
ذِمَّةُ اللَّهِ أَوْ مِيثَاقُ اللَّهِ لاَ أَفْعَل كَذَا مَثَلاً،
فَهَذِهِ الصِّيَغُ مِنَ الأَْيْمَانِ؛ لأَِنَّ الْيَمِينَ بِاللَّهِ
تَعَالَى هِيَ عَهْدُ اللَّهِ عَلَى تَحْقِيقِ الشَّيْءِ أَوْ
نَفْيِهِ، قَال تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا
عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَْيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} (2)
فَجَعَل الْعَهْدَ يَمِينًا، وَالذِّمَّةُ هِيَ الْعَهْدُ، وَمِنْ
ذَلِكَ تَسْمِيَةُ الَّذِينَ تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ مِنَ
الْكُفَّارِ: بِأَهْل الذِّمَّةِ، أَيْ أَهْل الْعَهْدِ، وَالْعَهْدُ
وَالْمِيثَاقُ مِنَ الأَْسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ، وَإِذَنْ
فَالْكَلاَمُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَالتَّقْدِيرُ: عَلَيَّ مُوجِبُ
عَهْدِ اللَّهِ وَمِيثَاقِهِ وَذِمَّتِهِ.
فَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ لَمْ يَذْكُرِ
الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فَالْحُكْمُ كَمَا سَبَقَ فِي " عَلَيَّ يَمِينٌ
" (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: مِنْ صِيَغِ الْيَمِينِ
الصَّرِيحَةِ: عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ لاَ أَفْعَل، أَوْ لأََفْعَلَنَّ
كَذَا مَثَلاً فَتَجِبُ بِالْحِنْثِ كَفَّارَةٌ إِذَا نَوَى
الْيَمِينَ، أَوْ أَطْلَقَ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْيَمِينَ بَل أُرِيدَ
بِالْعَهْدِ التَّكَالِيفُ الَّتِي عَهِدَ بِهَا اللَّهُ تَعَالَى
إِلَى الْعِبَادِ لَمْ تَكُنْ يَمِينًا.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ: أَنَّ قَوْل الْقَائِل: أُعَاهِدُ اللَّهَ،
لَيْسَ بِيَمِينٍ عَلَى الأَْصَحِّ؛ لأَِنَّ الْمُعَاهَدَةَ مِنْ
صِفَاتِ
__________
(1) البدائع 3 / 9، وحاشية ابن عابدين على الدر المختار 3 / 55، وأقرب
المسالك 1 / 332 - 333، ونهاية المحتاج 8 / 209، والإنصاف 11 / 38،
ومطالب أولي النهى 6 / 374.
(2) سورة النحل / 91.
(3) البدائع 3 / 9، وحاشية ابن عابدين على الدر المختار 3 / 55.
(7/260)
الإِْنْسَانِ لاَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ،
وَكَذَا قَوْلُهُ: لَكَ عَلَيَّ عَهْدٌ، أَوْ أُعْطِيكَ عَهْدًا.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مِنْ كِنَايَاتِ الْيَمِينِ: عَلَيَّ عَهْدُ
اللَّهِ أَوْ مِيثَاقُهُ أَوْ ذِمَّتُهُ أَوْ أَمَانَتُهُ أَوْ
كَفَالَتُهُ لأََفْعَلَنَّ كَذَا أَوْ لاَ أَفْعَل كَذَا، فَلاَ
تَكُونُ يَمِينًا إِلاَّ بِالنِّيَّةِ؛ لأَِنَّهَا تَحْتَمِل غَيْرَ
الْيَمِينِ احْتِمَالاً ظَاهِرًا. (1)
و عَلَيَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ:
41 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْقَائِل: عَلَيَّ يَمِينٌ،
مَقْصُودُهُ: عَلَيَّ مُوجِبُ يَمِينٍ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ.
فَلَوْ قَال: عَلَيَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ
مَنْ قَال: عَلَيَّ يَمِينٌ، وَقَدْ سَبَقَ (ر: ف 39) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: قَوْل الْقَائِل: عَلَيَّ كَفَّارَةٌ،
كَقَوْلِهِ: عَلَيَّ نَذْرٌ، وَلَهُ صِيَغٌ أَرْبَعٌ كَصِيَغِ
النَّذْرِ.
وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ قَال: عَلَيَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ،
حُكْمُهُ هُوَ هَذَا الْحُكْمُ بِعَيْنِهِ (ر: ف 39) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ قَال: عَلَيَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ
فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ مِنْ حِينِ النُّطْقِ عِنْدَ عَدَمِ
التَّعْلِيقِ، فَإِنْ عَلَّقَ بِالشِّفَاءِ وَنَحْوِهِ مِمَّا
يُحِبُّهُ، أَوْ بِتَكْلِيمِ زَيْدٍ وَنَحْوِهِ مِمَّا يَكْرَهُهُ،
فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ بِحُصُول الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ. (2)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَنْ قَال: عَلَيَّ يَمِينٌ إِنْ فَعَلْتُ
كَذَا، ثُمَّ فَعَلَهُ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عَلَى الرَّاجِحِ
كَمَا سَبَقَ.
وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ قَال: عَلَيَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ
__________
(1) الشرح الصغير بحاشية الصاوي 1 / 329، 330، ومطالب أولي النهى 6 /
374، ونهاية المحتاج 8 / 169.
(2) المراجع السابقة، ونهاية المحتاج 8 / 208.
(7/260)
إِنْ فَعَلْتُ كَذَا، ثُمَّ فَعَلَهُ،
وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ عَلَى الأَْرْجَحِ
عِنْدَهُمْ.
ز - عَلَيَّ كَفَّارَةُ نَذْرٍ:
42 - سَبَقَ حُكْمُ الْقَائِل: عَلَيَّ نَذْرٌ.
وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ قَال: عَلَيَّ كَفَّارَةُ نَذْرٍ تَجِبُ
عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ
بِمُقْتَضَى ذَلِكَ، فَقَالُوا: مَنْ قَال: عَلَيَّ كَفَّارَةُ نَذْرٍ،
وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ مُنَجَّزَةٌ فِي الصِّيغَةِ
الْمُنَجَّزَةِ، وَمُعَلَّقَةٌ فِي الصِّيغَةِ الْمُعَلَّقَةِ. (1)
ح - عَلَيَّ كَفَّارَةٌ:
43 - سَبَقَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يُوجِبُونَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ
عَلَى مَنْ قَال: عَلَيَّ كَفَّارَةٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُضِيفَ
الْكَفَّارَةَ إِلَى الْيَمِينِ أَوِ النَّذْرِ أَوْ غَيْرِهِمَا.
وَلَمْ نَجِدْ فِي الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى حُكْمَ هَذِهِ الصِّيغَةِ
عِنْدَ الإِْطْلاَقِ، وَلاَ شَكَّ أَنَّ حُكْمَهَا عِنْدَ النِّيَّةِ
هُوَ وُجُوبُ مَا نَوَى مِمَّا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْكَفَّارَةِ.
ط - تَحْرِيمُ الْعَيْنِ أَوِ الْفِعْل:
44 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الإِْنْسَانِ
الْعَيْنَ أَوِ الْفِعْل عَلَى نَفْسِهِ يَقُومُ مَقَامَ الْحَلِفِ
بِاللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ كَأَنْ يَقُول: هَذَا الثَّوْبُ عَلَيَّ
حَرَامٌ، أَوْ لُبْسِي لِهَذَا الثَّوْبِ عَلَيَّ حَرَامٌ، سَوَاءٌ
أَكَانَتِ الْعَيْنُ الَّتِي نُسِبَ التَّحْرِيمُ إِلَيْهَا أَوْ إِلَى
الْفِعْل الْمُضَافِ لَهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُ أَمْ لاَ، كَأَنْ قَال
مُتَحَدِّثًا عَنْ طَعَامِ غَيْرِهِ: هَذَا الطَّعَامُ عَلَيَّ
حَرَامٌ، أَوْ أَكْل هَذَا الطَّعَامِ عَلَيَّ حَرَامٌ،
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 208.
(7/261)
وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْعَيْنُ
الْمَذْكُورَةُ مِنَ الْمُبَاحَاتِ أَمْ لاَ، كَأَنْ قَال: هَذِهِ
الْخَمْرُ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ شُرْبُ هَذِهِ الْخَمْرِ عَلَيَّ
حَرَامٌ.
فَكُل صِيغَةٍ مِنْ هَذِهِ الصِّيَغِ تُعْتَبَرُ يَمِينًا، لَكِنْ
إِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ مُحَرَّمَةً مِنْ قَبْل، أَوْ مَمْلُوكَةً
لِغَيْرِهِ لَمْ تَكُنِ الصِّيغَةُ يَمِينًا إِلاَّ بِالنِّيَّةِ،
بِأَنْ يَنْوِيَ إِنْشَاءَ التَّحْرِيمِ. فَإِنْ نَوَى الإِْخْبَارَ
بِأَنَّ الْخَمْرَ حَرَامٌ عَلَيْهِ شَرْعًا، أَوْ بِأَنَّ ثَوْبَ
فُلاَنٍ حَرُمَ عَلَيْهِ شَرْعًا، لَمْ تَكُنِ الصِّيغَةُ يَمِينًا،
وَكَذَا إِنْ أَطْلَقَ؛ لأَِنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنَ الْعِبَارَةِ هُوَ
الإِْخْبَارُ.
ثُمَّ إِنَّ تَحْرِيمَ الْعَيْنِ لاَ مَعْنَى لَهُ إِلاَّ تَحْرِيمَ
الْفِعْل الْمَقْصُودِ مِنْهَا، كَمَا فِي تَحْرِيمِ الشَّرْعِ لَهَا
فِي نَحْوِ قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}
(1) وَقَوْلِهِ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ
الْخِنْزِيرِ} (2) .
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُل مُسْكِرٍ حَرَامٌ
(3) فَتَحْرِيمُ الأُْمَّهَاتِ وَنَحْوِهِنَّ يَنْصَرِفُ إِلَى
الزَّوَاجِ. وَتَحْرِيمُ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا وَالْمُسْكِرِ
يَنْصَرِفُ كُلُّهُ إِلَى التَّنَاوُل بِأَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ.
45 - وَفِيمَا يَلِي أَمْثِلَةٌ لِصِيَغِ التَّحْرِيمِ الَّتِي
تُعْتَبَرُ أَيْمَانًا، مَعَ بَيَانِ مَا يَقَعُ بِهِ حِنْثٌ فِي كُلٍّ
مِنْهَا:
(1) لَوْ قَال: هَذَا الطَّعَامُ أَوِ الْمَال أَوِ الثَّوْبُ أَوِ
الدَّارُ عَلَيَّ حَرَامٌ، حَنِثَ بِأَكْل الطَّعَامِ، وَإِنْفَاقِ
الْمَال، وَلُبْسِ الثَّوْبِ، وَسُكْنَى الدَّارِ، وَعَلَيْهِ
__________
(1) سورة النساء / 23.
(2) سورة المائدة / 3.
(3) حديث: " كل مسكر حرام " أخرجه مسلم (3 / 1588 - ط الحلبي) ، من
حديث ابن عمر، وأخرجه البخاري (10 / 41 - الفتح - ط السلفية) بلفظ: "
كل شراب أسكر فهو حرام " من حديث عائشة.
(7/261)
الْكَفَّارَةُ، وَلاَ يَحْنَثُ بِهِبَةِ
شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلاَ بِالتَّصَدُّقِ بِهِ.
(2) لَوْ قَالَتِ امْرَأَةٌ لِزَوْجِهَا: أَنْتَ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ
حَرَّمْتُكَ عَلَى نَفْسِي، حَنِثَتْ بِمُطَاوَعَتِهِ فِي الْجِمَاعِ،
وَحَنِثَتْ أَيْضًا بِإِكْرَاهِهِ إِيَّاهَا عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى
أَنَّ الْحِنْثَ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الاِخْتِيَارُ.
(3) لَوْ قَال لِقَوْمٍ: كَلاَمُكُمْ عَلَيَّ حَرَامٌ، حَنِثَ
بِتَكْلِيمِهِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَلاَ يَتَوَقَّفُ الْحِنْثُ عَلَى
تَكْلِيمِ جَمِيعِهِمْ، وَمِثْل ذَلِكَ مَا لَوْ قَال: كَلاَمُ،
الْفُقَرَاءِ، أَوْ كَلاَمُ أَهْل هَذِهِ الْقَرْيَةِ، أَوْ أَكْل
هَذَا الرَّغِيفِ عَلَيَّ حَرَامٌ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِكَلاَمِ
وَاحِدٍ، وَأَكْل لُقْمَةٍ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ قَال: وَاللَّهِ لاَ
أُكَلِّمُكُمْ، أَوْ لاَ أُكَلِّمُ الْفُقَرَاءَ، أَوْ أَهْل هَذِهِ
الْقَرْيَةِ، أَوْ لاَ آكُل هَذَا الرَّغِيفَ، فَإِنَّهُ لاَ يَحْنَثُ
إِلاَّ بِتَكْلِيمِ الْجَمِيعِ وَأَكْل جَمِيعِ الرَّغِيفِ.
(4) لَوْ قَال: هَذِهِ الدَّنَانِيرُ عَلَيَّ حَرَامٌ حَنِثَ إِنِ
اشْتَرَى بِهَا شَيْئًا؛ لأَِنَّ الْعُرْفَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ
الاِسْتِمْتَاعِ بِهَا لِنَفْسِهِ، بِأَنْ يَشْتَرِيَ مَا يَأْكُلُهُ
أَوْ يَلْبَسُهُ مَثَلاً، وَلاَ يَحْنَثُ بِهِبَتِهَا وَلاَ
بِالتَّصَدُّقِ بِهَا.
وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَابِدِينَ: أَنَّهُ لاَ يَحْنَثُ لَوْ قَضَى
بِهَا دَيْنَهُ، ثُمَّ قَال: فَتَأَمَّل.
(5) لَوْ قَال: كُل حِلٍّ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ حَلاَل اللَّهِ أَوْ
حَلاَل الْمُسْلِمِينَ عَلَيَّ حَرَامٌ، كَانَ يَمِينًا عَلَى تَرْكِ
الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَ ذَلِكَ، وَهَذَا
اسْتِحْسَانٌ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: تَحْرِيمُ الْحَلاَل فِي غَيْرِ الزَّوْجَةِ
لَغْوٌ لاَ يَقْتَضِي شَيْئًا، إِلاَّ إِذَا حَرَّمَ الأَْمَةَ
نَاوِيًا عِتْقَهَا، فَإِنَّهَا تُعْتَقُ، فَمَنْ قَال: الْخَادِمُ
أَوِ اللَّحْمُ أَوِ الْقَمْحُ عَلَيَّ حَرَامٌ إِنْ فَعَلْتُ كَذَا،
فَفَعَلَهُ، فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ،
(7/262)
وَمَنْ قَال: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا
فَزَوْجَتِي عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ فَعَلَيَّ الْحَرَامُ، يَلْزَمُهُ
بَتُّ طَلاَقِ الْمَدْخُول بِهَا - ثَلاَثًا - مَا لَمْ يَنْوِ أَقَل
مِنَ الثَّلاَثِ فَيَلْزَمُهُ مَا نَوَى، أَمَّا غَيْرُ الْمَدْخُول
بِهَا فَيَلْزَمُهُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ مَا لَمْ يَنْوِ أَكْثَرَ.
هَذَا هُوَ مَشْهُورُ الْمَذْهَبِ، وَقِيل: يَلْزَمُهُ فِي الْمَدْخُول
بِهَا وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ كَغَيْرِ الْمَدْخُول بِهَا مَا لَمْ يَنْوِ
أَكْثَرَ، وَقِيل: يَلْزَمُهُ فِي غَيْرِ الْمَدْخُول بِهَا ثَلاَثٌ
كَالْمَدْخُول بِهَا مَا لَمْ يَنْوِ أَقَل. وَلَوْ قَال: كُل حَلاَلٍ
عَلَيَّ حَرَامٌ، فَإِنِ اسْتَثْنَى الزِّوَجَةَ لَمْ يَلْزَمْهُ
شَيْءٌ، وَإِلاَّ لَزِمَهُ فِيهَا مَا ذُكِرَ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَال إِنْسَانٌ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ
عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ حَرَّمْتُكِ، وَنَوَى طَلاَقًا وَاحِدًا أَوْ
مُتَعَدِّدًا أَوْ ظِهَارًا وَقَعَ، وَلَوْ نَوَى تَحْرِيمَ عَيْنِهَا
أَوْ وَطْئِهَا أَوْ فَرْجِهَا أَوْ رَأْسِهَا أَوْ لَمْ يَنْوِ
شَيْئًا أَصْلاً - وَأَطْلَقَ ذَلِكَ، أَوْ أَقَّتَهُ كُرِهَ، وَلَمْ
تَحْرُمِ الزَّوْجَةُ عَلَيْهِ، وَلَزِمَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ،
وَلَيْسَ ذَلِكَ يَمِينًا؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ إِقْسَامًا بِاللَّهِ
تَعَالَى وَلاَ تَعْلِيقًا لِلطَّلاَقِ أَوْ نَحْوِهِ.
وَيُشْتَرَطُ فِي لُزُومِ الْكَفَّارَةِ أَلاَّ تَكُونَ زَوْجَتُهُ
مُحْرِمَةً بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، وَأَلاَّ تَكُونَ مُعْتَدَّةً مِنْ
وَطْءِ شُبْهَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَمْ تَجِبِ الْكَفَّارَةُ
عَلَى الْمُعْتَمَدِ.
وَلَوْ حَرُمَ غَيْرُ الزَّوْجَةِ كَالثَّوْبِ وَالطَّعَامِ
وَالصَّدِيقِ وَالأَْخِ لَمْ تَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ. (1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَنْ حَرَّمَ حَلاَلاً سِوَى الزَّوْجَةِ لَمْ
يَحْرُمْ عَلَيْهِ شَرْعًا، ثُمَّ إِذَا فَعَلَهُ فَفِي وُجُوبِ
الْكَفَّارَةِ قَوْلاَنِ، أَرْجَحُهُمَا: الْوُجُوبُ، وَيَسْتَوِي فِي
التَّحْرِيمِ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 63، والشرح الصغير بحاشية الصاوي عليه 1 / 336،
والشرح الكبير 2 / 135، وأسنى المطالب مع حاشية الشهاب الرملي عليه 3 /
272، 273.
(7/262)
تَنْجِيزُهُ وَتَعْلِيقُهُ بِشَرْطٍ،
وَمِثَال الْمُنَجَّزِ: مَا أَحَل اللَّهُ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَلاَ
زَوْجَةَ لِي، وَكَسْبِي عَلَيَّ حَرَامٌ، وَهَذَا الطَّعَامُ عَلَيَّ
كَالْمَيْتَةِ أَوْ كَالدَّمِ أَوْ كَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ.
وَمِثَال الْمُعَلَّقِ: إِنْ أَكَلْتُ مِنْ هَذَا الطَّعَامِ فَهُوَ
عَلَيَّ حَرَامٌ. وَإِنَّمَا لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ مَا حَرَّمَهُ
عَلَى نَفْسِهِ لأَِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل سَمَّى التَّحْرِيمَ
يَمِينًا حَيْثُ قَال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا
أَحَل اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ (1) أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}
(2) .
وَالْيَمِينُ لاَ تُحَرِّمُ الْحَلاَل، وَإِنَّمَا تُوجِبُ
الْكَفَّارَةَ بِالْحِنْثِ، وَهَذِهِ الآْيَةُ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى
وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ.
وَأَمَّا تَحْرِيمُ الزَّوْجَةِ فَهُوَ ظِهَارٌ، سَوَاءٌ أَنَوَى بِهِ
الظِّهَارَ أَوِ الطَّلاَقَ أَوِ الْيَمِينَ أَمْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا
عَلَى الرَّاجِحِ.
وَلَوْ قَال: مَا أَحَل اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ أَهْلٍ وَمَالٍ فَهُوَ
حَرَامٌ - وَكَانَ لَهُ زَوْجَةٌ - كَانَ ذَلِكَ ظِهَارًا وَتَحْرِيمًا
لِلْمَال، وَتُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ عَنْهُمَا. (3)
قِيَامُ التَّصْدِيقِ بِكَلِمَةِ نَعَمْ مَقَامَ الْيَمِينِ
46 - الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ مَنْ عُرِضَ
عَلَيْهِ الْيَمِينُ فَقَال: نَعَمْ كَانَ حَالِفًا، وَلَوْ قَال
رَجُلٌ لآِخَرَ عَلَيْكَ: عَهْدُ اللَّهِ إِنْ فَعَلْتَ كَذَا فَقَال:
نَعَمْ.
__________
(1) المرضات: مصدر ميمي وتاؤه تكتب مربوطة على لغة من يقف على المفرد
المؤنث بالهاء، وتكتب مفتوحة على لغة من يقف بالتاء، واللغتان فصيحتان،
وإن كانت الأولى أكثر استعمالا، وقد كتبت هنا مفتوحة لأنه يوقف عليها
بالتاء.
(2) سورة التحريم / 1، 2.
(3) مطالب أولي النهى 6 / 371، 5 / 510.
(7/263)
فَالْحَالِفُ الْمُجِيبُ، وَلاَ يَمِينَ
عَلَى الْمُبْتَدِئِ وَلَوْ نَوَاهُ؛ لأَِنَّ قَوْلَهُ: عَلَيْكَ
صَرِيحٌ فِي الْتِزَامِ الْيَمِينِ عَلَى الْمُخَاطَبِ، فَلاَ يُمْكِنُ
أَنْ يَكُونَ يَمِينًا عَلَى الْمُبْتَدِئِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا قَال:
وَاللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ، وَقَال الآْخَرُ: نَعَمْ، فَإِنَّهُ إِذَا
نَوَى الْمُبْتَدِئُ التَّحْلِيفَ وَالْمُجِيبُ الْحَلِفَ، كَانَ
الْحَالِفُ هُوَ الْمُجِيبَ وَحْدَهُ، وَإِذَا نَوَى كُلٌّ مِنْهُمَا
الْحَلِفَ يَصِيرُ كُلٌّ مِنْهَا حَالِفًا. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قِيل لِرَجُلٍ: طَلَّقْتَ زَوْجَتَكَ،
أَوْ أَطَلَّقْتَ زَوْجَتَكَ؟ اسْتِخْبَارًا - فَقَال: نَعَمْ، كَانَ
إِقْرَارًا، وَإِنْ كَانَ الاِلْتِمَاسُ الإِْنْشَاءَ كَانَ تَطْلِيقًا
صَرِيحًا، وَإِنْ جُهِل الْحَال حُمِل عَلَى الاِسْتِخْبَارِ. (2)
هَذَا مَا قَالُوهُ فِي الطَّلاَقِ، وَيُقَاسُ عَلَيْهِ مَا لَوْ قَال
إِنْسَانٌ لآِخَرَ: حَلَفْتَ، أَوْ أَحَلَفْتَ بِاللَّهِ لاَ تُكَلِّمُ
زَيْدًا؟ فَقَال: نَعَمْ. فَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ: فَإِنْ كَانَ
لِلاِسْتِخْبَارِ كَانَ إِقْرَارًا مُحْتَمِلاً لِلصِّدْقِ
وَالْكَذِبِ، فَيَحْنَثُ بِالتَّكْلِيمِ إِنْ كَانَ صَادِقًا، وَلاَ
يَحْنَثُ بِهِ إِنْ كَانَ كَاذِبًا.
وَإِنْ كَانَ الاِلْتِمَاسُ الإِْنْشَاءَ كَانَ حَلِفًا صَرِيحًا.
وَإِنْ جُهِل حَال السُّؤَال حُمِل عَلَى الاِسْتِخْبَارِ، فَيَكُونُ
الْجَوَابُ إِقْرَارًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَمْ يُعْثَرْ
لِلْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى عَلَى نَصٍّ فِي هَذَا.
الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِحَرْفِ الْقَسَمِ وَمَا يَقُومُ
مَقَامَهُ:
47 - عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ صِيغَةَ الْيَمِينِ بِحَرْفِ
الْقَسَمِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 3 / 95، 96، وتقرير الرافعي 2 /
21.
(2) الوجيز للغزالي 2 / 69، وأسنى المطالب 3 / 324، 325.
(7/263)
وَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ تَنْحَصِرُ
شَرْعًا فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى. فَالْحَلِفُ بِغَيْرِهِ
بِحَرْفِ الْقَسَمِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ لاَ يُعْتَبَرُ يَمِينًا
شَرْعِيَّةً، وَلاَ يَجِبُ بِالْحِنْثِ فِيهِ كَفَّارَةٌ.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: أَنْ يَحْلِفَ الإِْنْسَانُ بِأَبِيهِ أَوْ
بِابْنِهِ أَوْ بِالأَْنْبِيَاءِ أَوْ بِالْمَلاَئِكَةِ عَلَيْهِمْ
السَّلَامُ أَوْ بِالْعِبَادَاتِ: كَالصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ، أَوْ
بِالْكَعْبَةِ أَوْ بِالْحَرَمِ أَوْ بِزَمْزَمَ أَوْ بِالْقَبْرِ
وَالْمِنْبَرِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ. سَوَاءٌ أَتَى
الْحَالِفُ بِهَذِهِ الأَْلْفَاظِ عَقِبَ حَرْفِ الْقَسَمِ أَمْ
أَضَافَ إِلَيْهَا كَلِمَةَ: " حَقٍّ " أَوْ " حُرْمَةٍ " أَوْ "
حَيَاةٍ " أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْحَلِفُ بِحَرْفٍ
مِنْ حُرُوفِ الْقَسَمِ أَمْ بِصِيغَةٍ مُلْحَقَةٍ بِمَا فِيهِ هَذِهِ
الْحُرُوفُ، مِثْل لَعَمْرُكَ وَلِعَمْرِي وَعَمْرُكَ اللَّهُ (1)
وَعَلَيَّ عَهْدُ رَسُول اللَّهِ لأََفْعَلَنَّ كَذَا.
48 - وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ (مِنْهَا)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ حَالِفًا
فَلاَ يَحْلِفْ إِلاَّ بِاللَّهِ (2) . (وَمِنْهَا) قَوْلُهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ
أَشْرَكَ. وَفِي رِوَايَةٍ " فَقَدْ كَفَرَ " (3) (وَمِنْهَا) قَوْلُهُ
صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ مَنْ حَلَفَ بِالأَْمَانَةِ
فَلَيْسَ مِنَّا (4) .
__________
(1) العمر في هذا المثال معناه اعتقاد بقاء الله، فقول القائل: عمرك
الله، معناه أحلف باعتقادك أن الله عز وجل باق، ولا شك أن الاعتقاد صفة
للمخاطب وليس صفة لله تعالى.
(2) حديث: " من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله " أخرجه النسائي (7 / 4 -
ط المكتبة التجارية) وأصله في صحيح البخاري (11 / 570 - الفتح - ط
السلفية) .
(3) حديث: " من حلف بغير الله فقد أشرك " وفي رواية " فقد كفر " أخرجه
أحمد (2 / 34 - ط الميمنية) والحاكم وصححه (4 / 297 - ط دائرة المعارف
العثمانية) ووافقه الذهبي.
(4) حديث: " من حلف بالأمانة فليس منا " أخرجه أبو داود (3 / 571 - ط
عزت عبيد دعاس) وصححه النووي في رياض الصالحين (ص 601 - ط المكتب
الإسلامي) . قال المناوي في فيض القدير (6 / 121) الأمانة: الفرائض
كصلاة وصوم وحج. وقوله: " فليس منا " معناه ليس من جملة المتقين
معدودا، ولا من جملة أكابر المسلمين محسوبا، أو ليس من ذوي أسوتنا،
فإنه
(7/264)
(وَمِنْهَا) مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ
عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: حَلَفْتُ
بِاللاَّتِ وَالْعُزَّى، فَأَتَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَال: قُل لاَ إِلَهَ
إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ
الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَانْفُثْ عَنْ شِمَالِك
ثَلاَثًا، وَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، ثُمَّ
لاَ تُعَدْ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى رَوَاهَا النَّسَائِيُّ عَنْهُ أَيْضًا قَال:
حَلَفْتُ بِاللاَّتِ وَالْعُزَّى، فَقَال لِي أَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِئْسَمَا قُلْتَ، ائْتِ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبِرْهُ، فَإِنَّا لاَ
نَرَاكَ إِلاَّ قَدْ كَفَرْتَ، فَلَقِيتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَال لِي:
قُل لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ثَلاَثَ
مَرَّاتٍ، وَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ثَلاَثَ
مَرَّاتٍ، وَانْفُثْ عَنْ شِمَالِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وَلاَ تَعُدْ
لَهُ (1) .
__________
(1) حديث: " قل لا إله إلا الله " أخرجه النسائي (7 / 7 - 8 - ط
المكتبة التجارية) ، وإسناده ضعيف، (التهذيب لابن حجر 8 / 67 - ط دائرة
المعارف النظامية بالهند) .
(7/264)
(وَمِنْهَا) مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي
صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال:
قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ حَلَفَ
مِنْكُمْ فَقَال فِي حَلِفِهِ: بِاللاَّتِ، فَلْيَقُل: لاَ إِلَهَ
إِلاَّ اللَّهُ، وَمَنْ قَال لِصَاحِبِهِ: تَعَال أُقَامِرُكَ
فَلْيَتَصَدَّقْ (1) .
49 - وَوَرَدَ عَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ اسْتِنْكَارُ
الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَال بِسَنَدِهِ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ
قَال: لأََنْ أَحْلِفَ بِاللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ
أَحْلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ صَادِقًا وَمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ
بِسَنَدِهِ عَنْ وَبَرَةَ قَال: قَال ابْنُ مَسْعُودٍ أَوِ ابْنُ
عُمَرَ: لأََنْ أَحْلِفَ بِاللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ
أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ صَادِقًا، وَمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ
بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ
عُمَرَ قَال لَهُ - وَقَدْ سَمِعَهُ يَحْلِفُ بِالْكَعْبَةِ -: لَوْ
أَعْلَمُ أَنَّكَ فَكَّرْتَ فِيهَا قَبْل أَنْ تَحْلِفَ لَعَاقَبْتُكَ،
احْلِفْ بِاللَّهِ فَأْثَمْ أَوِ ابْرِرْ (2) .
أَثَرُ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ:
50 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ
اللَّهِ تَعَالَى لاَ تَجِبُ بِالْحِنْثِ فِيهِ كَفَّارَةٌ، إِلاَّ مَا
رُوِيَ عَنْ أَكْثَرِ الْحَنَابِلَةِ مِنْ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى
مَنْ حَنِثَ فِي الْحَلِفِ بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ؛ لأَِنَّهُ أَحَدُ شَطْرَيِ الشَّهَادَتَيْنِ اللَّتَيْنِ
يَصِيرُ بِهِمَا الْكَافِرُ مُسْلِمًا، وَعَنْ
__________
(1) حديث: " من حلف منكم فقال في حلفه. . . " أخرجه مسلم (3 / 1267 -
1268 - ط الحلبي) .
(2) ذكر هذه الآثار الثلاثة ابن حزم في المحلى مستدلا بها على تحريم
الحلف بغير الله في ضمن ما استدل من الأحاديث. ر: (المحلى 8 / 39.) .
(7/265)
بَعْضِهِمْ: أَنَّ الْحَلِفَ بِسَائِرِ
الأَْنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَجِبُ بِالْحِنْثِ
فِيهِ الْكَفَّارَةُ أَيْضًا، لَكِنِ الأَْشْهَرُ فِي مَذْهَبِهِمْ
أَنَّهُ لاَ كَفَّارَةَ بِالْحِنْثِ فِي الْحَلِفِ بِنَبِيِّنَا
وَسَائِرِ الأَْنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا فِي أَنَّ الْحَلِفَ
بِغَيْرِ اللَّهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، لَكِنْ فِي مَرْتَبَةِ هَذَا
النَّهْيِ اخْتِلاَفٌ، وَالْحَنَابِلَةُ قَالُوا: إِنَّهُ حَرَامٌ
إِلاَّ الْحَلِفَ بِالأَْمَانَةِ، فَإِنَّ بَعْضَهُمْ قَال
بِالْكَرَاهَةِ، وَالْحَنَفِيَّةُ قَالُوا مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا،
وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ
تَنْزِيهًا. (1)
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ بِسَبْقِ اللِّسَانِ
مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَلاَ كَرَاهَةَ، وَعَلَيْهِ يُحْمَل حَدِيثُ
الصَّحِيحَيْنِ فِي قِصَّةِ الأَْعْرَابِيِّ - الَّذِي قَال لاَ
أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلاَ أُنْقِصُ - أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ (2)
.
شَرَائِطُ الْقَسَمِ
يُشْتَرَطُ فِي انْعِقَادِ الْقَسَمِ وَبَقَائِهِ شَرَائِطُ، وَهِيَ
ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ:
(أَوَّلاً)
الشَّرَائِطُ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى الْحَالِفِ
يُشْتَرَطُ فِي انْعِقَادِ الْيَمِينِ وَبَقَائِهَا شَرَائِطُ فِي
الْحَالِفِ.
51 - (الأُْولَى) الْبُلُوغُ. (وَالثَّانِيَةُ) الْعَقْل. وَهَاتَانِ
شَرِيطَتَانِ فِي أَصْل الاِنْعِقَادِ، فَلاَ تَنْعَقِدُ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 46، والبدائع 3 / 8، وفتح القدير 4 / 8، والشرح
الصغير 1 / 330، وأسنى المطالب 4 / 242، ومطالب أولي النهى 6 / 364.
(2) أسنى المطالب 4 / 242.
(7/265)
يَمِينُ الصَّبِيِّ - وَلَوْ مُمَيِّزًا -
وَلاَ الْمَجْنُونِ وَالْمَعْتُوهِ وَالسَّكْرَانِ - غَيْرِ
الْمُتَعَدِّي بِسُكْرِهِ - وَالنَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ؛
لأَِنَّهَا تَصَرُّفُ إِيجَابٍ، وَهَؤُلاَءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْل
الإِْيجَابِ.
وَلاَ خِلاَفَ فِي هَاتَيْنِ الشَّرِيطَتَيْنِ إِجْمَالاً. (1)
وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ فِي السَّكْرَانِ الْمُتَعَدِّي بِسُكْرِهِ
وَالصَّبِيُّ إِذَا حَنِثَ بَعْدَ بُلُوغِهِ. أَمَّا السَّكْرَانُ
الْمُتَعَدِّي، فَالْجُمْهُورُ يَرَوْنَ صِحَّةَ يَمِينِهِ إِنْ
كَانَتْ صَرِيحَةً تَغْلِيظًا عَلَيْهِ. وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْمُزَنِيُّ
وَزُفَرُ وَالطَّحَاوِيُّ وَالْكَرْخِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ
وَغَيْرُهُمْ يَرَوْنَ عَدَمَ انْعِقَادِ يَمِينِهِ كَالسَّكْرَانِ
غَيْرِ الْمُتَعَدِّي، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (الْحَجْرِ) .
وَأَمَّا الصَّبِيُّ فَالْجُمْهُورُ يَرَوْنَ أَنَّ يَمِينَهُ لاَ
تَنْعَقِدُ، وَأَنَّهُ لَوْ حَنِثَ - وَلَوْ بَعْدَ الْبُلُوغِ - لَمْ
تَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ، وَعَنْ طَاوُسٍ أَنَّ يَمِينَهُ مُعَلَّقَةٌ،
فَإِنْ حَنِثَ بَعْدَ بُلُوغِهِ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ. (2)
وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى
يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ
حَتَّى يَبْلُغَ (3) .
52 - (الشَّرِيطَةُ الثَّالِثَةُ) الإِْسْلاَمُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ. فَلاَ تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ
بِاللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْكَافِرِ وَلَوْ ذِمِّيًّا، وَإِذَا
انْعَقَدَتْ يَمِينُ الْمُسْلِمِ بَطَلَتْ بِالْكُفْرِ، سَوَاءٌ
أَكَانَ الْكُفْرُ قَبْل الْحِنْثِ أَمْ بَعْدَهُ، وَلاَ
__________
(1) البدائع 3 / 10، والشرح الصغير بحاشية الصاوي 1 / 325، ونهاية
المحتاج 8 / 164، ومطالب أولي النهى 6 / 367.
(2) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 2 / 424.
(3) حديث: " رفع القلم عن ثلاثة. . . " أخرجه أبو داود (4 / 560 - ط
عزت عبيد دعاس) والحاكم (2 / 59 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه
ووافقه الذهبي.
(7/266)
تَرْجِعُ بِالإِْسْلاَمِ بَعْدَ ذَلِكَ.
(1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: (2) لاَ يُشْتَرَطُ
الإِْسْلاَمُ فِي انْعِقَادِ الْيَمِينِ وَلاَ بَقَائِهَا،
فَالْكَافِرُ الْمُلْتَزِمُ لِلأَْحْكَامِ - وَهُوَ الذِّمِّيُّ
وَالْمُرْتَدُّ - لَوْ حَلَفَ بِاللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَمْرٍ، ثُمَّ
حَنِثَ وَهُوَ كَافِرٌ، تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لَكِنْ إِذَا عَجَزَ عَنِ
الْكَفَّارَةِ الْمَالِيَّةِ لَمْ يَكْفُرْ بِالصَّوْمِ إِلاَّ إِنْ
أَسْلَمَ. وَهَذَا الْحُكْمُ إِنَّمَا هُوَ فِي الذِّمِّيِّ، وَأَمَّا
الْمُرْتَدُّ فَلاَ يَكْفُرُ فِي حَال رِدَّتِهِ، لاَ بِالْمَال وَلاَ
بِالصَّوْمِ، بَل يَنْتَظِرُ، فَإِذَا أَسْلَمَ كَفَّرَ؛ لأَِنَّ
مَالَهُ فِي حَال الرِّدَّةِ مَوْقُوفٌ، فَلاَ يُمْكِنُ مِنَ
التَّصَرُّفِ فِيهِ.
وَمَنْ حَلَفَ حَال كُفْرِهِ ثُمَّ أَسْلَمَ وَحَنِثَ، فَلاَ
كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
إِنْ كَانَ حِينَ الْحَلِفِ مُلْتَزِمًا لِلأَْحْكَامِ.
53 - (الشَّرِيطَةُ الرَّابِعَةُ) التَّلَفُّظُ بِالْيَمِينِ، فَلاَ
يَكْفِي كَلاَمُ النَّفْسِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلاَفًا لِبَعْضِ
الْمَالِكِيَّةِ.
وَلاَ بُدَّ مِنْ إِظْهَارِ الصَّوْتِ بِحَيْثُ يُسْمِعُ نَفْسَهُ إِنْ
كَانَ صَحِيحَ السَّمْعِ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَانِعٌ مِنَ
السَّمَاعِ كَلَغَطٍ وَسَدِّ أُذُنٍ.
وَاشْتِرَاطُ الإِْسْمَاعِ وَلَوْ تَقْدِيرًا هُوَ رَأْيُ
الْجُمْهُورِ، الَّذِي يَرَوْنَ أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ فِي
الصَّلاَةِ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهَا ذَلِكَ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْكَرْخِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ
يُشْتَرَطُ الإِْسْمَاعُ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَأْتِيَ
بِالْحُرُوفِ مَعَ تَحْرِيكِ اللِّسَانِ وَلَوْ لَمْ يَسْمَعْهَا هُوَ
وَلاَ مَنْ يَضَعُ أُذُنَهُ بِقُرْبِ
__________
(1) البدائع 3 / 10، والشرح الكبير بحاشية الدسوقي 4 / 307.
(2) نهاية المحتاج 8 / 164، والمغني بأعلى الشرح الكبير 11 / 161.
(7/266)
فَمِهِ مَعَ اعْتِدَال السَّمْعِ وَعَدَمِ
الْمَوَانِعِ.
هَذَا وَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ قَدْ
صَرَّحُوا بِأَنَّ إِشَارَةَ الأَْخْرَسِ بِالْيَمِينِ تَقُومُ مَقَامَ
النُّطْقِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْكِتَابَةَ لَوْ كَانَتْ بِالصَّرِيحِ
تُعْتَبَرُ كِنَايَةً؛ لأَِنَّهَا تَحْتَمِل النَّسْخَ، وَتَجْرِبَةُ
الْقَلَمِ وَالْمِدَادِ وَغَيْرِهَا، وَبِأَنَّ إِشَارَةَ الأَْخْرَسِ
إِنِ اخْتَصَّ بِفَهْمِهَا الْفَطِنُ فَهِيَ كِنَايَةٌ تَحْتَاجُ إِلَى
النِّيَّةِ، وَإِنْ فَهِمَهَا كُل إِنْسَانٍ فَهِيَ صَرِيحَةٌ. (1)
الطَّوَاعِيَةُ وَالْعَمْدُ فِي الْحَالِفِ:
54 - لاَ تُشْتَرَطُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الطَّوَاعِيَةُ - أَيِ
الاِخْتِيَارُ - فِي الْحَالِفِ، وَلاَ الْعَمْدُ - أَيِ الْقَصْدُ -
فَتَصِحُّ عِنْدَهُمْ يَمِينُ الْمُكْرَهِ وَالْمُخْطِئِ، وَهُوَ مَنْ
أَرَادَ غَيْرَ الْحَلِفِ فَسَبَقَ لِسَانُهُ إِلَى الْحَلِفِ، كَأَنْ
أَرَادَ أَنْ يَقُول: اسْقِنِي الْمَاءَ، فَقَال: وَاللَّهِ لاَ
أَشْرَبُ الْمَاءَ؛ لأَِنَّهَا مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي لاَ
تَحْتَمِل الْفَسْخَ فَلاَ يُؤَثِّرُ فِيهَا الإِْكْرَاهُ وَالْخَطَأُ،
كَالطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ وَالنَّذْرِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ
الَّتِي لاَ تَحْتَمِل الْفَسْخَ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ:
تُشْتَرَطُ الطَّوَاعِيَةُ وَالْعَمْدُ، فَلاَ تَنْعَقِدُ يَمِينُ
الْمُكْرَهِ وَلاَ الْمُخْطِئُ (2) ، غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ
يَقُولُونَ فِي الْمُكْرَهِ
__________
(1) البدائع 3 / 100، والدر المختار بحاشية ابن عابدين عليه 2 / 509،
510، والشرح الصغير 1 / 331، ومواهب الجليل للحطاب 3 / 261، وأسنى
المطالب 3 / 277، ومطالب أولي النهى 6 / 357.
(2) مما ينبغي التنبه إليه أن سبق اللسان نوعان: أحدهما: غلبة جريانه
باليمين، كمن يغلب في حديثه أن يقول: لا والله، وبلى والله من غير قصد.
ثانيهما: تحول اللسان والتفاته من لفظ غير اليمين يراد النطق به إلى
لفظ اليمين، والنوع الأول لا يسمى خطأ، وهو صحيح،
(7/267)
عَلَى الْيَمِينِ: إِذَا نَوَى الْحَلِفَ
صَحَّتْ يَمِينُهُ. (1) لأَِنَّ الإِْكْرَاهَ لاَ يُلْغِي اللَّفْظَ،
وَإِنَّمَا يَصِيرُ بِهِ الصَّرِيحُ كِنَايَةً، وَهَذَا الَّذِي
قَالُوهُ لاَ يُسْتَبْعَدُ أَنْ يَكُونَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، فَإِنَّ
إِلْغَاءَ كَلاَمِ الْمُكْرَهِ لاَ وَجْهَ لَهُ، إِلاَّ أَنَّهُ
إِنَّمَا قَصَدَ دَفْعَ الأَْذَى عَنْ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَقْصِدِ
اسْتِعْمَال اللَّفْظِ فِي مَعْنَاهُ، فَإِذَا قَصَدَ اسْتِعْمَالَهُ
فِي مَعْنَاهُ كَانَ هَذَا أَمْرًا زَائِدًا لاَ تَدْعُو إِلَيْهِ
الضَّرُورَةُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا: لاَ يَلْزَمُ الْمُكْرَهَ
التَّوْرِيَةُ وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهَا.
وَالتَّوْرِيَةُ هِيَ: أَنْ يُطْلِقَ الإِْنْسَانُ لَفْظًا هُوَ
ظَاهِرٌ فِي مَعْنًى وَيُرِيدُ بِهِ مَعْنًى آخَرَ يَتَنَاوَلُهُ
ذَلِكَ اللَّفْظُ، وَلَكِنَّهُ خِلاَفُ ظَاهِرِهِ. (2)
عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْجِدُّ فِي الْحَالِفِ:
55 - الْجِدُّ - بِكَسْرِ الْجِيمِ - فِي التَّصَرُّفَاتِ
الْقَوْلِيَّةِ مَعْنَاهُ: أَنْ يَنْطِقَ الإِْنْسَانُ بِاللَّفْظِ
رَاضِيًا بِأَثَرِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُسْتَحْضِرًا لِهَذَا الرِّضَى
أَمْ غَافِلاً عَنْهُ، فَمَنْ نَطَقَ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ نَاوِيًا
مَعْنَاهُ، أَوْ غَافِلاً عَنْ هَذِهِ النِّيَّةِ، مُرِيدًا أَثَرَهُ
أَوْ غَافِلاً عَنْ هَذِهِ الإِْرَادَةِ يُقَال لَهُ جَادٌّ، فَإِنْ
أَرَادَ تَجْرِيدَ اللَّفْظِ عَنْ أَثَرِهِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ
وَلاَ إِكْرَاهٍ، فَنَطَقَ بِهِ لَعِبًا أَوْ مِزَاحًا كَانَ هَازِلاً،
__________
(1) البدائع 3 / 11، والدر المختار بحاشية ابن عابدين 3 / 46، 47،
والشرح الصغير بحاشية الصاوي 1 / 325، 452، والشرح الكبير بحاشية
الدسوقي 4 / 127، ونهاية المحتاج 8 / 164، ومطالب أولي النهى 6 / 319،
367.
(2) أسنى المطالب شرح روض الطالب 3 / 280، 283.
(7/267)
وَالْهَزْل لاَ أَثَرَ لَهُ فِي
التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ الصَّرِيحَةِ الَّتِي لاَ تَحْتَمِل
الْفَسْخَ، فَمَنْ حَلَفَ بِصِيغَةٍ صَرِيحَةٍ لاَعِبًا أَوْ مَازِحًا
انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
ثَلاَثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ
وَالطَّلاَقُ وَالرَّجْعَةُ (1)
وَيُقَاسُ عَلَى مَا فِي الْحَدِيثِ سَائِرُ التَّصَرُّفَاتِ
الصَّرِيحَةِ الَّتِي لاَ تَحْتَمِل الْفَسْخَ، وَمِنْهَا صِيغَةُ
الْيَمِينِ الصَّرِيحَةِ، وَأَمَّا الْكِنَايَةُ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ
يُشْتَرَطُ فِيهَا النِّيَّةُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْهَازِل لاَ
نِيَّةَ لَهُ.
قَصْدُ الْمَعْنَى وَالْعِلْمِ بِهِ:
56 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الأَْلْفَاظَ الصَّرِيحَةَ
يُشْتَرَطُ فِيهَا: الْعِلْمُ بِالْمَعْنَى، وَالْكِنَايَةُ يُشْتَرَطُ
فِيهَا: قَصْدُ الْمَعْنَى، ذَكَرُوا هَذَا فِي الطَّلاَقِ (2)
وَلَيْسَ خَاصًّا بِهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ
يُشْتَرَطُ فِي الْيَمِينِ إِذَا كَانَتْ بِلَفْظٍ صَرِيحٍ: أَنْ
يَعْلَمَ الْمُتَكَلِّمُ بِمَعْنَاهَا، فَلَوْ حَلَفَ أَعْجَمِيٌّ
بِلَفْظٍ عَرَبِيٍّ صَرِيحٍ كَوَاللَّهِ لأََصُومَنَّ غَدًا، بِنَاءً
عَلَى تَلْقِينِ إِنْسَانٍ لَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ مَعْنَاهُ
لَمْ يَنْعَقِدْ. وَلَوْ قَال إِنْسَانٌ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ
لأََفْعَلَنَّ كَذَا لَمْ يَنْعَقِدْ إِلاَّ إِذَا قَصَدَ مَعْنَى
الْيَمِينِ؛ لأَِنَّهُ كِنَايَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَمَا سَبَقَ.
وَاشْتِرَاطُ النِّيَّةِ فِي الْكِنَايَةِ لاَ يَخْتَلِفُ فِيهِ
أَحَدٌ. وَأَمَّا الْعِلْمُ بِالْمَعْنَى فَقَدْ صَرَّحَ
الْحَنَفِيَّةُ بِعَدَمِ اشْتِرَاطِهِ فِي الطَّلاَقِ بِالنِّسْبَةِ
لِلْقَضَاءِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَهُ فِي الْيَمِينِ
الصَّرِيحَةِ دِيَانَةً، لأَِنَّهُ مُصَدَّقٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
اللَّهِ تَعَالَى.
__________
(1) حديث: " ثلاث جدهن جد. . . . " أخرجه أبو داود (2 / 644 - ط عزت
عبيد دعاس) والترمذي (3 / 481 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، وحسنه
ابن حجر في التلخيص (3 / 210 - ط دار المحاسن) .
(2) أسنى المطالب شرح روض الطالب 3 / 280.
(7/268)
أَثَرُ التَّأْوِيل فِي الْيَمِينِ:
57 - صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ التَّأْوِيل
الَّذِي تَنْقَطِعُ بِهِ جُمْلَةُ الْيَمِينِ عَنْ جُمْلَةِ
الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ يُقْبَل، وَعِبَارَةُ الْمَالِكِيَّةِ: لَوْ
قَال أَرَدْتُ بِقَوْلِي: (بِاللَّهِ) وَثِقْتُ أَوِ اعْتَصَمْتُ
بِاللَّهِ، ثُمَّ ابْتَدَأْتُ قَوْلِي: لأََفْعَلَنَّ، وَلَمْ أَقْصِدِ
الْيَمِينَ صُدِّقَ دِيَانَةً بِلاَ يَمِينٍ. (1)
وَعِبَارَةُ الشَّافِعِيَّةِ: إِذَا قَال: وَاللَّهِ لأََفْعَلَنَّ
كَذَا، ثُمَّ قَال: أَرَدْتُ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، أَوْ قَال:
بِاللَّهِ وَقَال: أَرَدْتُ وَثِقْتُ أَوِ اسْتَعَنْتُ بِاللَّهِ،
ثُمَّ اسْتَأْنَفْتُ فَقُلْتُ: لأََفْعَلَنَّ كَذَا مِنْ غَيْرِ قَسَمٍ
يُقْبَل ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. وَإِذَا تَأَوَّل نَحْوَ هَذَا
التَّأْوِيل فِي الطَّلاَقِ وَالإِْيلاَءِ لاَ يُقْبَل ظَاهِرًا
لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ. (2)
وَمِمَّا يَنْبَغِي التَّنَبُّهُ لَهُ أَنَّ التَّأْوِيل لاَ يَخْتَصُّ
بِهَذِهِ الْمَذَاهِبِ، فَالْمُتَصَفِّحُ لِكُتُبِ الْمَذَاهِبِ
الأُْخْرَى يَجِدُ تَأْوِيلاَتٍ مَقْبُولَةً عِنْدَهُمْ، وَلاَ شَكَّ
أَنَّ التَّأْوِيل إِنَّمَا يُقْبَل إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ
مُسْتَحْلِفٌ ذُو حَقٍّ، وَكَانَ التَّأْوِيل غَيْرَ خَارِجٍ عَمَّا
يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ.
(ثَانِيًا) الشَّرَائِطُ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ
يُشْتَرَطُ فِي انْعِقَادِ الْيَمِينِ بِاللَّهِ وَبَقَائِهَا
مُنْعَقِدَةً أَرْبَعُ شَرَائِطَ تَرْجِعُ إِلَى الْمَحْلُوفِ
عَلَيْهِ، وَهُوَ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي تُسَمَّى
جَوَابَ الْقَسَمِ.
58 - (الشَّرِيطَةُ الأُْولَى) : أَنْ يَكُونَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ
أَمْرًا مُسْتَقْبَلاً.
__________
(1) الشرح الكبير بحاشية الدسوقي 2 / 127.
(2) نهاية المحتاج 8 / 166.
(7/268)
وَهَذِهِ شَرِيطَةٌ لاِنْعِقَادِ
الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ، خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ
بِانْعِقَادِ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ عَلَى مَاضٍ وَحَاضِرٍ،
كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لاَ أَمُوتُ، وَمُسْتَقْبَلٍ كَقَوْلِهِ:
وَاللَّهِ لأََصْعَدَنَّ السَّمَاءَ. وَلِلْمَالِكِيَّةِ الَّذِينَ
يَقُولُونَ بِانْعِقَادِ الْغَمُوسِ عَلَى حَاضِرٍ وَمُسْتَقْبَلٍ.
وَمِمَّا يَنْبَغِي التَّنَبُّهُ لَهُ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ
يَشْتَرِطُونَ الاِسْتِقْبَال فِي كُل مَا فِيهِ كَفَّارَةٌ،
كَالْحَلِفِ بِتَعْلِيقِ الْكُفْرِ أَوِ الْقُرْبَةِ أَوِ الظِّهَارِ
بِخِلاَفِ الطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ. (1)
59 - (الشَّرِيطَةُ الثَّانِيَةُ) : أَنْ يَكُونَ الْمَحْلُوفُ
عَلَيْهِ مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ حَقِيقَةً عِنْدَ الْحَلِفِ - أَيْ
لَيْسَ مُسْتَحِيلاً عَقْلاً - وَهَذِهِ شَرِيطَةٌ لاِنْعِقَادِ
الْيَمِينِ بِاللَّهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ.
وَوَجْهُ اشْتِرَاطِهَا: أَنَّ الْيَمِينَ إِنَّمَا تَنْعَقِدُ
لِتَحْقِيقِ الْبِرِّ، فَإِنَّ مَنْ أَخْبَرَ بِخَبَرٍ أَوْ وَعَدَ
بِوَعْدٍ يُؤَكِّدُهُ بِالْيَمِينِ لِتَحْقِيقِ الصِّدْقِ، فَكَانَ
الْمَقْصُودُ هُوَ الْبِرَّ، ثُمَّ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ وَنَحْوُهَا
خَلَفًا عَنْهُ، فَإِذَا لَمْ يُتَصَوَّرِ الأَْصْل - وَهُوَ الْبِرُّ
- لَمْ يُوجَدِ الْخَلَفُ - وَهُوَ الْكَفَّارَةُ - فَلاَ تَنْعَقِدُ
الْيَمِينُ.
وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَبُو يُوسُفَ هَذِهِ الشَّرِيطَةَ لأَِنَّهُ لاَ
يَلْزَمُ مِنِ اسْتِحَالَةِ الأَْصْل عَقْلاً عَدَمُ الْخَلَفِ.
وَمَفْهُومُ هَذِهِ الشَّرِيطَةِ: أَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ إِذَا
كَانَ يَسْتَحِيل وُجُودُهُ عَقْلاً عِنْدَ الْحَلِفِ، لَمْ تَنْعَقِدِ
الْيَمِينُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ.
لَكِنَّ هَذَا الْمَفْهُومَ لَيْسَ عَلَى إِطْلاَقِهِ، بَل فِيهِ
تَفْصِيلٌ يُعْلَمُ مِنَ الْكَلاَمِ عَلَى الْمِثَال الآْتِي:
__________
(1) البدائع 3 / 11، والشرح الصغير بحاشية الصاوي 1 / 331، ونهاية
المحتاج 8 / 164، ومطالب أولي النهى 6 / 368.
(7/269)
إِذَا قَال إِنْسَانٌ: وَاللَّهِ
لأََشْرَبَنَّ مَاءَ هَذَا الْكُوزِ، أَوْ قَال: وَاللَّهِ
لأََشْرَبَنَّ مَاءَ هَذَا الْكُوزِ الْيَوْمَ، وَكَانَ الْكُوزُ
خَالِيًا مِنَ الْمَاءِ عِنْدَ الْحَلِفِ، فَالشُّرْبُ الَّذِي هُوَ
الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ مُسْتَحِيلٌ وُجُودُهُ عِنْدَ الْحَلِفِ
عَقْلاً، فَلاَ تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ إِنْ كَانَ الْحَالِفُ عِنْدَ حَلِفِهِ لاَ
يَعْلَمُ خُلُوَّ الْكُوزِ مِنَ الْمَاءِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ
يَعْلَمُ ذَلِكَ فَالْيَمِينُ مُنْعَقِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ وَغَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ عِنْدَ زُفَرَ،
وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
هَذَا مَا أَفَادَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: تَنْعَقِدُ
وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فِي الْحَال. (1)
60 - (الشَّرِيطَةُ الثَّالِثَةُ) : أَنْ يَكُونَ الْمَحْلُوفُ
عَلَيْهِ مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ حَقِيقَةً بَعْدَ الْحَلِفِ، إِنْ
كَانَتِ الْيَمِينُ مُقَيَّدَةً بِوَقْتٍ مَخْصُوصٍ. وَهَذِهِ
الشَّرِيطَةُ إِنَّمَا تُشْتَرَطُ لِبَقَاءِ الْيَمِينِ بِاللَّهِ
مُنْعَقِدَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ، فَلَوْ
لَمْ تُوجَدْ هَذِهِ الشَّرِيطَةُ بَطَلَتِ الْيَمِينُ بَعْدَ
انْعِقَادِهَا، وَخَالَفَ أَبُو يُوسُفَ فِي هَذِهِ الشَّرِيطَةِ
أَيْضًا.
وَتَوْجِيهُ الاِشْتِرَاطِ وَعَدَمِهِ كَمَا فِي الشَّرِيطَةِ
الثَّانِيَةِ، وَمَفْهُومُ هَذِهِ الشَّرِيطَةِ يَتَّضِحُ بِالْمِثَال
الآْتِي: إِذَا قَال إِنْسَانٌ وَاللَّهِ لأََشْرَبَنَّ مَاءَ هَذَا
الْكُوزِ الْيَوْمَ أَوْ قَال وَاللَّهِ لأََشْرَبَنَّ مَاءَ هَذَا
الْكُوزِ، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِوَقْتٍ، وَكَانَ فِي الْكُوزِ مَاءٌ
وَقْتَ الْحَلِفِ، فَصَبَّهُ الْحَالِفُ أَوْ صَبَّهُ غَيْرُهُ أَوِ
انْصَبَّ بِنَفْسِهِ فِي النَّهَارِ. فَفِي صُورَةِ التَّقْيِيدِ
بِالْيَوْمِ تَبْطُل بَعْدَ انْعِقَادِهَا؛ لأَِنَّ الشُّرْبَ
الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ صَارَ مُسْتَحِيلاً بَعْدَ الْحَلِفِ فِي
__________
(1) البدائع 3 / 11، وحاشية ابن عابدين على الدر المختار 3 / 100،
وكشاف القناع 6 / 236.
(7/269)
الْوَقْتِ الَّذِي قُيِّدَ بِهِ، وَفِي
صُورَةِ الإِْطْلاَقِ تَبْقَى مُنْعَقِدَةً، فَيَحْنَثُ بِالصَّبِّ
أَوِ الاِنْصِبَابِ، وَتَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. (1)
61 - (الشَّرِيطَةُ الرَّابِعَةُ) : أَنْ يَكُونَ الْمَحْلُوفُ
عَلَيْهِ مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ عَادَةً عِنْدَ الْحَلِفِ - أَيْ
لَيْسَ مُسْتَحِيلاً عَادَةً - وَهَذِهِ شَرِيطَةٌ لاِنْعِقَادِ
الْيَمِينِ بِاللَّهِ عِنْدَ زُفَرَ، خِلاَفًا لأَِبِي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ.
فَلَوْ قَال وَاللَّهِ لأََصْعَدَنَّ السَّمَاءَ، أَوْ: وَاللَّهِ
لأََمَسَّنَّ السَّمَاءَ، أَوْ: وَاللَّهِ لأَُحَوِّلَنَّ هَذَا
الْحَجَرَ ذَهَبًا، لَمْ تَنْعَقِدِ الْيَمِينُ عِنْدَ زُفَرَ، سَوَاءٌ
أَقَيَّدَهَا بِوَقْتٍ مَخْصُوصٍ كَأَنْ قَال: الْيَوْمَ أَوْ غَدًا،
أَوْ لَمْ يُقَيِّدْهَا، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: إِنَّهَا
تَنْعَقِدُ؛ لأَِنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ جَائِزٌ عَقْلاً، وَقَال
أَبُو يُوسُفَ: إِنَّهَا تَنْعَقِدُ أَيْضًا؛ لأَِنَّ الْمَحْلُوفَ
عَلَيْهِ أَمْرٌ مُسْتَقْبَلٌ.
وَتَوْجِيهُ قَوْل زُفَرَ: أَنَّ الْمُسْتَحِيل عَادَةً يُلْحَقُ
بِالْمُسْتَحِيل حَقِيقَةً، فَإِذَا لَمْ تَنْعَقِدِ الْيَمِينُ فِي
الثَّانِي لَمْ تَنْعَقِدْ فِي الأَْوَّل.
وَتَوْجِيهُ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ: أَنَّ الْحُكْمَ
بِالاِنْعِقَادِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فِيهِ اعْتِبَارُ الْحَقِيقَةِ،
وَالْحُكْمَ بِعَدَمِ الاِنْعِقَادِ فِيهِ اعْتِبَارُ الْعَادَةِ،
وَلاَ شَكَّ أَنَّ اعْتِبَارَ الْحَقِيقَةِ أَوْلَى.
وَتَوْجِيهُ قَوْل أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ الْحَالِفَ جَعَل الْفِعْل
شَرْطًا لِلْبِرِّ، فَيَكُونُ عَدَمُهُ مُوجِبًا لِلْحِنْثِ، سَوَاءٌ
أَكَانَ ذَلِكَ الْفِعْل مُمْكِنًا عَقْلاً وَعَادَةً، كَقَوْلِهِ:
وَاللَّهِ لأََقْرَأَنَّ هَذَا الْكِتَابَ، أَمْ مُسْتَحِيلاً عَقْلاً
وَعَادَةً كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لأََشْرَبَنَّ مَاءَ هَذَا الْكُوزِ،
وَلاَ مَاءَ فِيهِ أَمْ مُسْتَحِيلاً عَادَةً لاَ عَقْلاً كَقَوْلِهِ:
وَاللَّهِ لأَُحَوِّلَنَّ هَذَا الْحَجَرَ ذَهَبًا. (2)
__________
(1) ابن عابدين 3 / 100 - 101، والبدائع 3 / 12.
(2) البدائع 3 / 11 - 15.
(7/270)
الْحَلِفُ عَلَى فِعْل غَيْرِ الْحَالِفِ:
62 - الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى
غَيْرِهِ وَهُوَ غَائِبٌ: وَاللَّهِ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا، أَوْ عَلَى
حَاضِرٍ: وَاللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ كَذَا، فَلَمْ يُطِعْهُ، حَنِثَ
الْحَالِفُ وَالْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ، لاَ عَلَى مَنْ أَحْنَثَهُ. (1)
وَقَدْ فَصَّل شَيْخُ الإِْسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ بَيْنَ الْحَلِفِ
عَلَى مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ يُطِيعُهُ، وَالْحَلِفِ عَلَى مَنْ لاَ
يَظُنُّهُ كَذَلِكَ. فَقَال: مَنْ حَلَفَ عَلَى غَيْرِهِ يَظُنُّ
أَنَّهُ يُطِيعُهُ فَلَمْ يَفْعَل، فَلاَ كَفَّارَةَ لأَِنَّهُ لَغْوٌ،
بِخِلاَفِ مَنْ حَلَفَ عَلَى غَيْرِهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ،
فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يُطِعْهُ حَنِثَ الْحَالِفُ وَوَجَبَتِ
الْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ.
(ثَالِثًا) شَرَائِطُ تَرْجِعُ إِلَى الصِّيغَةِ
63 - يُشْتَرَطُ لاِنْعِقَادِ الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى
شَرِيطَتَانِ تَرْجِعَانِ إِلَى صِيغَتِهَا.
(الأُْولَى) : عَدَمُ الْفَصْل بَيْنَ الْمَحْلُوفِ بِهِ
وَالْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ بِسُكُوتٍ وَنَحْوِهِ، فَلَوْ أَخَذَهُ
الْوَالِي وَقَال: قُل: بِاللَّهِ، فَقَال مِثْلَهُ، ثُمَّ قَال:
لآَتِيَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَال الرَّجُل مِثْلَهُ، لاَ يَحْنَثُ
بِعَدَمِ إِتْيَانِهِ؛ لِلْفَصْل بِانْتِظَارِ مَا يَقُول، وَلَوْ
قَال: عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لاَ أَفْعَل كَذَا، لاَ
يَصِحُّ؛ لِلْفَصْل بِمَا لَيْسَ يَمِينًا، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَعَهْدُ
رَسُولِهِ. (2)
(الثَّانِيَةُ) : خُلُوُّهَا عَنِ الاِسْتِثْنَاءِ، وَالْمَقْصُودُ
بِهِ التَّعْلِيقُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ أَوِ اسْتِثْنَاؤُهَا، أَوْ
نَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يُتَصَوَّرُ مَعَهُ الْحِنْثُ، نَحْوَ أَنْ
يَقُول الْحَالِفُ: إِنْ
__________
(1) مطالب أولي النهى 6 / 368.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 46.
(7/270)
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، أَوْ إِلاَّ أَنْ
يَشَاءَ اللَّهُ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ، أَوْ إِلاَّ أَنْ يَبْدُوَ
لِي غَيْرُ هَذَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَْمْثِلَةِ الَّتِي
سَيَأْتِي بَيَانُهَا، فَإِنْ أَتَى بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ
بِشَرَائِطِهِ لَمْ تَنْعَقِدِ الْيَمِينُ. (1)
صِيغَةُ الْيَمِينِ التَّعْلِيقِيَّةُ:
64 - التَّعْلِيقُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ عَلَّقَ الشَّيْءَ
بِالشَّيْءِ وَعَلَيْهِ: أَنْشَبَهُ فِيهِ وَوَضَعَهُ عَلَيْهِ
وَجَعَلَهُ مُسْتَمْسِكًا.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: رَبْطُ حُصُول مَضْمُونِ جُمْلَةٍ بِحُصُول
مَضْمُونِ جُمْلَةٍ أُخْرَى، وَالْجُمْلَةُ الَّتِي رُبِطَ
مَضْمُونُهَا هِيَ جُمْلَةُ الْجَزَاءِ، وَالَّتِي رُبِطَ هَذَا
الْمَضْمُونُ بِمَضْمُونِهَا هِيَ جُمْلَةُ الشَّرْطِ.
فَفِي مِثْل: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، رَبَطَ
الْمُتَكَلِّمُ حُصُول مَضْمُونِ الْجَزَاءِ - وَهُوَ الطَّلاَقُ -
بِحُصُول مَضْمُونِ الشَّرْطِ - وَهُوَ دُخُولُهَا الدَّارَ -
وَوَقَفَهُ عَلَيْهِ، فَلاَ يَقَعُ إِلاَّ بِوُقُوعِهِ.
وَلَيْسَ كُل تَعْلِيقٍ يَمِينًا، وَإِنَّمَا الْيَمِينُ حَقِيقَةً
أَوْ مَجَازًا تَعْلِيقَاتٌ مَخْصُوصَةٌ تُذْكَرُ فِيمَا يَأْتِي.
أ - أَجْزَاءُ الصِّيغَةِ:
65 - مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ قَال إِنْسَانٌ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا
فَامْرَأَتِي طَالِقٌ مَثَلاً، فَهَذِهِ صِيغَةُ تَعْلِيقٍ تَحْتَوِي
عَلَى: أَدَاةِ شَرْطٍ، فَجُمْلَةٍ شَرْطِيَّةٍ، فَجُمْلَةٍ
جَزَائِيَّةٍ.
وَالْحَدِيثُ عَنْ هَذِهِ الثَّلاَثَةِ كَمَا يَلِي:
أَدَاةُ الشَّرْطِ:
66 - ذَكَرَ أَهْل النَّحْوِ وَاللُّغَةِ أَدَوَاتٍ كَثِيرَةً
لِلشَّرْطِ
__________
(1) البدائع 3 / 15، حاشية ابن عابدين 3 / 100.
(7/271)
مِنْهَا " إِنْ " - بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ -
وَقَدْ تُزَادُ بَعْدَهَا: مَا، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِمَّا
نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ
فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} (1)
وَمِنْهَا " إِذَا " وَقَدْ تُزَادُ بَعْدَهَا: مَا، وَمِنْهَا " مَنْ
" " وَمَا " " وَمَهْمَا " " وَحَيْثُمَا " " وَكَيْفَمَا ". " وَمَتَى
" وَقَدْ تُزَادُ بَعْدَهَا: مَا، وَأَيْنَ وَقَدْ تُزَادُ بَعْدَهَا:
مَا أَيْضًا.
67 - وَقَدْ يَقُومُ مَقَامَ هَذِهِ الأَْدَوَاتِ أَدَوَاتٌ أُخْرَى
وَإِنْ لَمْ تُعَدَّ فِي اللُّغَةِ مِنْ أَدَوَاتِ التَّعْلِيقِ،
وَمِنْهَا: كُلٌّ وَكُلَّمَا وَبَاءُ الْجَرِّ.
جُمْلَةُ الشَّرْطِ:
68 - جُمْلَةُ الشَّرْطِ هِيَ الَّتِي تَدْخُل عَلَيْهَا أَدَاةُ
الشَّرْطِ، وَهِيَ جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ مَاضَوِيَّةٌ أَوْ
مُضَارِعِيَّةٌ، وَهِيَ لِلاِسْتِقْبَال فِي الْحَالَتَيْنِ، فَإِنْ
أَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ التَّعْلِيقَ عَلَى أَمْرٍ مَضَى أَدْخَل عَلَى
الْفِعْل جُمْلَةَ الْكَوْنِ.
وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْل الْقَائِل: إِنْ خَرَجْتِ، أَوْ: إِنْ
تَخْرُجِي يُفِيدُ التَّعْلِيقَ عَلَى خُرُوجٍ فِي الْمُسْتَقْبَل.
فَإِذَا اخْتَلَفَ الرَّجُل مَعَ امْرَأَتِهِ، فَادَّعَى أَنَّهَا
خَرَجَتْ بِالأَْمْسِ، فَقَالَتْ: لَمْ أَخْرُجْ، فَأَرَادَ تَعْلِيقَ
طَلاَقِهَا عَلَى هَذَا الْخُرُوجِ الْمَاضِي، فَإِنَّهُ يَأْتِي
بِفِعْل الْكَوْنِ فَيَقُول: إِنْ كُنْتِ خَرَجْتِ بِالأَْمْسِ
فَأَنْتِ طَالِقٌ.
جُمْلَةُ الْجَزَاءِ:
69 - هِيَ الْجُمْلَةُ الَّتِي يَأْتِي بِهَا الْمُتَكَلِّمُ عَقِبَ
جُمْلَةِ الشَّرْطِ، جَاعِلاً مَضْمُونَهَا مُتَوَقِّفًا عَلَى
مَضْمُونِ جُمْلَةِ الشَّرْطِ، وَقَدْ يَأْتِي الْجَزَاءُ قَبْل
جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَالأَْدَاةِ،
__________
(1) سورة غافر / 77.
(7/271)
وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَكُونُ جَزَاءً
مُقَدَّمًا عِنْدَ بَعْضِ النُّحَاةِ، وَدَلِيل الْجَزَاءِ عِنْدَ
بَعْضِهِمْ، وَالْجَزَاءُ عِنْدَ هَؤُلاَءِ يَكُونُ مُقَدَّرًا بَعْدَ
الشَّرْطِ.
2 - أَقْسَامُ الْيَمِينِ التَّعْلِيقِيَّةِ:
70 - قَسَّمَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ الْيَمِينَ إِلَى يَمِينٍ بِاللَّهِ
وَيَمِينٍ بِغَيْرِهِ. وَفِي أَثْنَاءِ كَلاَمِهِ عَلَى الْيَمِينِ
بِاللَّهِ أَلْحَقَ بِهَا تَعْلِيقَ الْكُفْرِ، ثُمَّ قَسَّمَ
الْيَمِينَ بِغَيْرِ اللَّهِ إِلَى مَا كَانَتْ بِحَرْفِ الْقَسَمِ
كَالْحَلِفِ بِالأَْنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَمَا كَانَ
بِالتَّعْلِيقِ، وَحَصْرُ التَّعْلِيقِ فِي الطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ
وَالْتِزَامِ الْقُرْبَةِ. (1)
وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ التَّعْلِيقَاتِ الَّتِي تُعْتَبَرُ
أَيْمَانًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَحْصُورَةٌ فِي أَرْبَعَةٍ، وَهِيَ:
تَعْلِيقُ الطَّلاَقِ، وَتَعْلِيقُ الْعَتَاقِ، وَتَعْلِيقُ الْتِزَامِ
الْقُرْبَةِ، وَتَعْلِيقُ الْكُفْرِ، وَإِنَّمَا أَفْرَدَ تَعْلِيقَ
الْكُفْرِ. عَنِ التَّعْلِيقَاتِ الثَّلاَثَةِ لِمُخَالَفَتِهِ
إِيَّاهَا فِي الْحُكْمِ، فَإِنَّ حُكْمَهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
تَحَقُّقُ الْجَزَاءِ، إِنْ كَانَتْ طَلاَقًا أَوْ عِتْقًا،
وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ الْجَزَاءِ وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ إِنْ كَانَ
الْجَزَاءُ الْتِزَامَ قُرْبَةٍ، بِخِلاَفِ تَعْلِيقِ الْكُفْرِ،
فَلَيْسَ حُكْمُهُ تَحَقُّقَ الْجَزَاءِ وَهُوَ الْكُفْرُ عِنْدَ
تَحَقُّقِ الشَّرْطِ، بَل حُكْمُهُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْكَفَّارَةُ
كَالْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى.
وَفِي مَجْمُوعِ فَتَاوَى شَيْخِ الإِْسْلاَمِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ
وَإِعْلاَمِ الْمُوَقِّعِينَ لاِبْنِ الْقَيِّمِ مَا يُفِيدُ: أَنَّ
تَعْلِيقَ الظِّهَارِ وَتَعْلِيقَ الْحَرَامِ كِلاَهُمَا يَمِينٌ. (2)
وَبِهَذَا تَكُونُ التَّعْلِيقَاتُ الَّتِي تُسَمَّى عِنْدَ بَعْضِ
الْفُقَهَاءِ أَيْمَانًا مُنْحَصِرَةٌ فِي هَذِهِ السِّتَّةِ.
__________
(1) البدائع 3 / 2، 8، 21، قد يتسامح بعض الناس فيسمي مضمون جملة الشرط
محلوفا عليه وهذا التسامح قد يؤدي إلى أخطاء فليحذر.
(2) إعلام الموقعين 3 / 83، 84، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 35
/ 242. هذا، وإن تعليق الحرام كتنجيزه، ولا شك أن تنجيزه يعتبر يمينا
كاليمين بالله عند الحنفية، فتعليقه ليس زائدا على ما قرروه، وأما
تعليق الظهار فقد سمي يمينا في بعض كتب الفقه، ومن ذلك قول خليل
المالكي في مختصره وأدخل الحنابلة الظهار في أيمان المسلمين كما سبق
وكما في مطالب أولي النهى 6 / 373. ".
(7/272)
تَعْلِيقُ الطَّلاَقِ:
71 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: تَعْلِيقُ الطَّلاَقِ يُعْتَبَرُ يَمِينًا،
سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ الْحَثَّ، نَحْوُ: إِنْ لَمْ
تَدْخُلِي الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوِ الْمَنْعَ نَحْوُ: إِنْ
دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ تَحْقِيقَ الْخَبَرِ نَحْوُ:
إِنْ لَمْ يَكُنِ الأَْمْرُ كَمَا قُلْتِهِ فَفُلاَنَةُ طَالِقٌ: أَوْ
غَيْرُ ذَلِكَ نَحْوُ: إِذَا جَاءَ الْغَدُ فَأَنْتِ طَالِقٌ. (1)
وَهَذِهِ الصُّورَةُ الأَْخِيرَةُ مَحَل نِزَاعٍ بَيْنَ هَؤُلاَءِ
وَبَيْنَ مَنْ يُوَافِقُهُمْ فِي تَسْمِيَةِ تَعْلِيقِ الطَّلاَقِ
يَمِينًا كَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ،
فَهُمْ لاَ يُسَمُّونَهُ يَمِينًا؛ لأَِنَّهُ لاَ يَقْصِدُ بِهِ مَا
يَقْصِدُ بِالْيَمِينِ مِنْ تَأْكِيدِ الْحَثِّ وَالْمَنْعِ
وَالْخَبَرِ، فَإِنَّ مَجِيءَ الْغَدِ لَيْسَ دَاخِلاً فِي
مَقْدُورِهِ، وَلاَ مَقْدُورِهَا فَهُمَا لاَ يَسْتَطِيعَانِ مَنْعَهُ.
72 - وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْلِيقِ الطَّلاَقِ عِنْدَ
تَحَقُّقِ شَرَائِطِ الطَّلاَقِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ نَاحِيَتَيْنِ.
(أُولاَهُمَا) أَنَّهُ يَقَعُ عِنْدَ وُقُوعِ مَا عُلِّقَ عَلَيْهِ
أَوْ لاَ يَقَعُ.
(ثَانِيَتُهُمَا) أَنَّهُ يُسَمَّى يَمِينًا أَوْ لاَ يُسَمَّى.
أَمَّا النَّاحِيَةُ الأُْولَى فَخُلاَصَتُهَا أَنَّ لِلْفُقَهَاءِ فِي
وُقُوعِ الطَّلاَقِ الْمُعَلَّقِ وَعَدَمِ وُقُوعِهِ قَوْلَيْنِ:
__________
(1) البدائع 3 / 22.
(7/272)
(الْقَوْل الأَْوَّل) أَنَّهُ يَقَعُ إِذَا
تَحَقَّقَ مَا عُلِّقَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ جَارِيًا مَجْرَى
الْيَمِينِ أَمْ لاَ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
(الْقَوْل الثَّانِي) التَّفْرِقَةُ بَيْنَ مَا جَرَى مَجْرَى
الْيَمِينِ وَمَا لَمْ يَجْرِ مَجْرَاهُ.
فَالأَْوَّل لاَ يَقَعُ وَإِنْ وَقَعَ مَا عُلِّقَ عَلَيْهِ،
وَالثَّانِي يَقَعُ عِنْدَ وُقُوعِ مَا عُلِّقَ عَلَيْهِ، وَهَذَا
رَأْيُ ابْنِ تَيْمِيَّةَ وَابْنِ الْقَيِّمِ جَمْعًا بَيْنَ مَا
رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ مِنَ الْوُقُوعِ وَعَدَمِهِ. وَهَل تَجِبُ
كَفَّارَةُ الْيَمِينِ فِيمَا جَرَى مَجْرَى الْيَمِينِ أَوْ لاَ
تَجِبُ؟
اخْتَارَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ الْقَيِّمِ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ؛
لأَِنَّهَا يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ يَشْمَلُهَا قَوْله تَعَالَى:
{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَْيْمَانَ} (1)
وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ (ر: طَلاَقٌ) .
وَأَمَّا النَّاحِيَةُ الثَّانِيَةُ فَخُلاَصَتُهَا: أَنَّ مَنْ قَال
بِالْوُقُوعِ - وَهُمُ الْجُمْهُورُ - اخْتَلَفُوا فِي تَسْمِيَتِهِ
يَمِينًا، فَالْحَنَفِيَّةُ يَجْعَلُونَهُ يَمِينًا مَتَى كَانَ
تَعْلِيقًا مَحْضًا، وَإِنْ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ مَا يُقْصَدُ
بِالْيَمِينِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَذَا يَقُولُونَ فِي تَعْلِيقِ
الْعِتْقِ وَالْتِزَامِ الْقُرْبَةِ.
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يَقُولُونَ
جَمِيعًا: إِنَّ تَعْلِيقَ الطَّلاَقِ يُسَمَّى يَمِينًا عَلَى
الرَّاجِحِ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ، وَمَنْ لَمْ يُسَمِّهِ يَمِينًا
مِنْهُمْ لاَ يُخَالِفُ مَنْ يُسَمِّيهِ يَمِينًا إِلاَّ فِي
التَّسْمِيَةِ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ إِنْسَانٌ
__________
(1) سورة المائدة / 89. وارجع أيضا إلى إعلام الموقعين 3 / 62 - 92 وهو
المثال الثامن.
(7/273)
أَلاَّ يَحْلِفَ، ثُمَّ عَلَّقَ طَلاَقًا
عَلَى وَجْهِ الْيَمِينِ، حَنِثَ عِنْدَ مَنْ يُسَمِّي هَذَا
التَّعْلِيقَ يَمِينًا، وَلَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ مَنْ لاَ يُسَمِّيهِ
يَمِينًا.
تَعْلِيقُ الْتِزَامِ الْقُرْبَةِ:
73 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: تَعْلِيقُ الْتِزَامِ الْقُرْبَةِ يُسَمَّى
يَمِينًا، سَوَاءٌ أَقُصِدَ بِهِ مَا يُقْصَدُ بِالأَْيْمَانِ أَمْ
لاَ. (1)
فَلَوْ قَال: إِنْ كَلَّمْتُ فُلاَنًا، أَوْ: إِنْ لَمْ أُكَلِّمْ
فُلاَنًا، أَوْ: إِنْ لَمْ يَكُنِ الأَْمْرُ كَمَا قُلْتُهُ فَعَلَيَّ
حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ أَوْ صِيَامٌ أَوْ صَلاَةٌ، فَهَذَا كُلُّهُ
يُسَمَّى نَذْرًا، وَيُسَمَّى أَيْضًا يَمِينًا، وَهُوَ جَارٍ مَجْرَى
الْيَمِينِ، فَإِنَّهُ فِي
الْمِثَال الأَْوَّل: يُؤَكِّدُ مَنْعَ نَفْسِهِ مِنْ تَكْلِيمِ
فُلاَنٍ. وَفِي
الْمِثَال الثَّانِي: يُؤَكِّدُ حَثَّ نَفْسِهِ عَلَى تَكْلِيمِهِ.
وَفِي
الْمِثَال الثَّالِثِ: يُؤَكِّدُ الْخَبَرَ الَّذِي يُنَاقِضُ
مَضْمُونَ الشَّرْطِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ.
وَلَوْ قَال: إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فَعَلَيَّ عُمْرَةٌ فَهُوَ نَذْرٌ
أَيْضًا، وَيُسَمَّى يَمِينًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
74 - وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْلِيقِ الْتِزَامِ
الْقُرْبَةِ مِنْ نَاحِيَتَيْنِ:
أَمَّا النَّاحِيَةُ الأُْولَى: فَخُلاَصَتُهَا أَنَّ النَّذْرَ إِمَّا
أَنْ يَكُونَ جَارِيًا مَجْرَى الْيَمِينِ أَوْ لاَ.
فَإِنْ كَانَ جَارِيًا مَجْرَى الْيَمِينِ - وَيُسَمَّى نَذْرَ
اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ - فَفِيهِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ لِلْفُقَهَاءِ:
(الأَْوَّل) أَنَّ الْقَائِل يُخَيَّرُ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ
بَيْنَ الإِْتْيَانِ بِمَا الْتَزَمَهُ وَبَيْنَ كَفَّارَةِ
الْيَمِينِ، وَهَذَا الْقَوْل هُوَ آخِرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ
الإِْمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
__________
(1) البدائع 3 / 22، وفتح القدير 4 / 3.
(7/273)
وَهُوَ أَيْضًا أَرْجَحُ الأَْقْوَال
عِنْدَ الشَّافِعِيِّ.
وَبِهِ قَال أَحْمَدُ.
وَهُوَ قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ مِنْ أَهْل مَكَّةَ
وَالْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ.
(الثَّانِي) أَنَّ الْقَائِل يَلْزَمُهُ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ مَا
الْتَزَمَهُ، وَهُوَ قَوْل مَالِكٍ وَأَحَدُ أَقْوَال الشَّافِعِيِّ.
(الثَّالِثُ) أَنَّ الْقَائِل يَلْزَمُهُ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ
كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَيُلْغِي مَا الْتَزَمَهُ، وَهَذَا أَحَدُ
الأَْقْوَال لِلشَّافِعِيِّ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَارِيًا مَجْرَى الْيَمِينِ لَزِمَ الْوَفَاءُ
بِهِ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ فِيهَا خِلاَفَ الْفُقَهَاءِ. (1)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (نَذْرٌ) .
75 - أَمَّا النَّاحِيَةُ الثَّانِيَةُ: فَخُلاَصَتُهَا أَنَّ
النَّذْرَ الْمُعَلَّقَ الَّذِي لاَ يَجْرِي مَجْرَى الْيَمِينِ
يُسَمِّيهِ الْحَنَفِيَّةُ يَمِينًا، كَمَا سَمَّوُا الطَّلاَقَ
الْمُعَلَّقَ يَمِينًا وَإِنْ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ مَا قُصِدَ
بِالأَْيْمَانِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ فَلَمْ نَعْثُرْ عَلَى
أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ سَمَّى مَا لَمْ يَجْرِ مَجْرَى الأَْيْمَانِ
يَمِينًا، وَمَا جَرَى مَجْرَى الأَْيْمَانِ - وَهُوَ اللَّجَاجُ
يُسَمَّى - يَمِينًا عِنْدَ مَنْ قَال بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ أَوْ
بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ مَا الْتَزَمَهُ وَبَيْنَ، الْكَفَّارَةِ.
وَالْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ مَا الْتَزَمَهُ مُخْتَلِفُونَ: فَمِنْهُمْ
مَنْ يُسَمِّيهِ يَمِينًا كَابْنِ عَرَفَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ،
وَمِنْهُمْ مَنْ لاَ يُسَمِّيهِ يَمِينًا.
تَعْلِيقُ الْكُفْرِ:
76 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ تَعْلِيقَ الْكُفْرِ عَلَى مَا لاَ
يُرِيدُهُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 69، حاشية الصاوي على بلغة السالك 1 / 336،
348، وتحفة المحتاج بحاشية الشرواني 8 / 273، والمغني بأعلى الشرح
الكبير 11 / 194، 332، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 35 / 253.
(7/274)
الإِْنْسَانُ بِقَصْدِ تَأْكِيدِ الْمَنْعِ
مِنْهُ أَوِ الْحَثِّ عَلَى نَقِيضِهِ أَوِ الإِْخْبَارِ بِنَقِيضِهِ
يُعْتَبَرُ يَمِينًا شَرْعِيَّةً مُلْحَقَةً بِالْيَمِينِ بِاللَّهِ
تَعَالَى.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ يُرْوَى عَنْ عَطَاءٍ
وَطَاوُسٍ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَالثَّوْرِيِّ
وَالأَْوْزَاعِيِّ وَإِسْحَاقَ، وَيُرْوَى أَيْضًا عَنْ زَيْدِ بْنِ
ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
حَكَى ذَلِكَ كُلَّهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي، وَحَكَاهُ ابْنُ
تَيْمِيَّةَ فِي فَتَاوِيهِ عَنْ أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ، وَهُوَ
إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ
الرَّاجِحَةُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْحَنَابِلَةِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ.
وَوَافَقَهُمْ أَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَهُوَ أَيْضًا
قَوْل اللَّيْثِ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَحَكَاهُ ابْنُ
الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَطَاءٍ وَقَتَادَةَ وَجُمْهُورِ
فُقَهَاءِ الأَْمْصَارِ. (1) وَهَذِهِ الْحِكَايَةُ تُخَالِفُ
حِكَايَةَ صَاحِبِ الْمُغْنِي عَنْ عَطَاءٍ فَلَعَل لَهُ قَوْلَيْنِ،
وَكَذَا حِكَايَتُهُ عَنْ جُمْهُورِ فُقَهَاءِ الأَْمْصَارِ تَخْتَلِفُ
عَنْ حِكَايَةِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ الْقَوْل الأَْوَّل عَنْ أَكْثَرِ
أَهْل الْعِلْمِ.
أَمْثِلَةُ الْكُفْرِ الْمُعَلَّقِ عَلَى الشَّرْطِ:
77 - مِنْهَا: أَنْ يُخْبِرَ الإِْنْسَانُ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ إِنْ
فَعَل كَذَا، أَوْ إِنْ لَمْ يَفْعَل كَذَا أَوْ إِنْ حَصَل كَذَا،
أَوْ إِنْ لَمْ يَحْصُل كَذَا، أَوْ إِنْ لَمْ يَكُنِ الأَْمْرُ كَذَا،
فَهُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ
__________
(1) البدائع 3 / 8، 21، وابن عابدين على الدر المختار 3 / 55، 56،
والشرح الصغير للدردير بحاشية الصاوي 1 / 330، وتحفة المحتاج بحاشية
الشرواني 8 / 214، 217، ونهاية المحتاج 8 / 169، والمغني بأعلى الشرح
الكبير 11 / 198، 201، ومجموع فتاوى ابن تيمية 35 / 274، ونيل الأوطار
8 / 242، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف من كتب الحنابلة 11 / 31،
33.
(7/274)
نَصْرَانِيٌّ أَوْ مَجُوسِيٌّ، أَوْ
كَافِرٌ أَوْ شَرِيكُ الْكُفَّارِ أَوْ مُرْتَدٌّ، أَوْ بَرِيءٌ مِنَ
اللَّهِ أَوْ مِنْ رَسُول اللَّهِ أَوْ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ كَلاَمِ
اللَّهِ أَوِ الْكَعْبَةِ أَوِ الْقِبْلَةِ، أَوْ بَرِيءٌ مِمَّا فِي
الْمُصْحَفِ، أَوْ بَرِيءٌ مِمَّا فِي هَذَا الدَّفْتَرِ إِذَا كَانَ
فِي الدَّفْتَرِ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَوِ الْبَسْمَلَةَ، أَوْ
بَرِيءٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ مِنَ الصَّلاَةِ أَوِ الصِّيَامِ
أَوِ الْحَجِّ.
وَمِنْهَا: أَنْ يُخْبِرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يَعْبُدُ الصَّلِيبَ،
أَوْ يَسْتَحِل الْخَمْرَ أَوِ الزِّنَى إِنْ لَمْ يَفْعَل كَذَا (1) .
وَيُسْتَدَل لِمَنْ قَال: إِنَّهُ لَيْسَ يَمِينًا بِأَنَّهُ لَيْسَ
حَلِفًا بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَلاَ صِفَتِهِ، فَلاَ يَكُونُ
يَمِينًا، كَمَا لَوْ قَال: عَصَيْتُ اللَّهَ تَعَالَى فِيمَا
أَمَرَنِي إِنْ فَعَلْتُ كَذَا أَوْ إِنْ لَمْ أَفْعَل كَذَا، وَكَمَا
لَوْ حَلَفَ بِالْكَعْبَةِ أَوْ بِأَبِيهِ.
78 - وَيُسْتَدَل لِمَنْ قَال إِنَّهُ يَمِينٌ بِمَا يَأْتِي:
أ - رُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِل عَنِ
الرَّجُل يَقُول: هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ مَجُوسِيٌّ
أَوْ بَرِيءٌ مِنَ الإِْسْلاَمِ فِي الْيَمِينِ يَحْلِفُ بِهَا
فَيَحْنَثُ فِي هَذِهِ الأَْشْيَاءِ؟ فَقَال: عَلَيْهِ كَفَّارَةُ
يَمِينٍ (2) .
ب - إِنَّ الْحَالِفَ بِذَلِكَ لَمَّا رَبَطَ مَالاً يُرِيدُهُ
بِالْكُفْرِ كَانَ رَابِطًا لِنَقِيضِهِ بِالإِْيمَانِ بِاللَّهِ،
فَكَانَ مِثْل الْحَالِفِ بِاللَّهِ؛ لأَِنَّهُ يَرْبِطُ الشَّيْءَ
الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بِإِيمَانِهِ بِاللَّهِ تَعَالَى. (3)
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) المغني 11 / 199، ومعلوم أن خارجة بن زيد بن ثابت هو أحد الفقهاء
السبعة وهو ثقة، والزهري الذي روي عنه ثقة أيضا لكن الظاهر أن السند
بين أبي بكر والزهري ضعيف فإن صاحب المغني نفى أن يكون في هذه اليمين
نص ولو كان هذا الحديث صحيح الإسناد أو حسنه لكان نصا رافعا للخلاف.
(3) فتاوى ابن تيمية 35 / 275، وقد أطال في بيان ذلك وتوضيحه، فليراجع.
(7/275)
تَعْلِيقُ الظِّهَارِ:
79 - الظِّهَارُ - كَقَوْل الرَّجُل لاِمْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ
كَظَهْرِ أُمِّي - يُشْبِهُ الْقَسَمَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ قَوْلٌ
يَسْتَوْجِبُ الاِمْتِنَاعَ عَنْ شَيْءٍ، وَيَقْتَضِي الْكَفَّارَةَ
غَيْرَ أَنَّهَا أَعْظَمُ مِنْ كَفَّارَةِ الْقَسَمِ. وَمِنْ هُنَا
سَمَّى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الظِّهَارَ يَمِينًا، وَقَدْ نَقَل ابْنُ
تَيْمِيَّةَ عَنْ أَصْحَابِ الْحَنَابِلَةِ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى
وَغَيْرِهِ أَنَّ مَنْ قَال: أَيْمَانُ الْمُسْلِمِينَ تَلْزَمُنِي
إِنْ فَعَلْتُ كَذَا لَزِمَهُ مَا يَفْعَلُهُ فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ
وَالنَّذْرِ وَالطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ وَالظِّهَارِ. (1)
تَعْلِيقُ الْحَرَامِ:
80 - سَبَقَ الْكَلاَمُ عَلَى تَحْرِيمِ الْعَيْنِ أَوِ الْفِعْل،
وَأَنَّهُ يُعَدُّ يَمِينًا عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ وَإِنْ كَانَ
مُنَجَّزًا. كَمَا سَبَقَ أَنَّ قَوْل الرَّجُل: الْحَرَامُ
يَلْزَمُنِي لأََفْعَلَنَّ كَذَا، يُعَدُّ طَلاَقًا أَوْ ظِهَارًا أَوْ
عَتَاقًا أَوْ يَمِينًا.
وَأَيًّا مَا كَانَ، فَتَعْلِيقُ الْحَرَامِ يُقَال فِيهِ مَا قِيل فِي
تَعْلِيقِ الطَّلاَقِ وَالظِّهَارِ، فَلاَ حَاجَةَ لِلإِْطَالَةِ بِهِ.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ أَنْ يَقُول: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا أَوْ إِنْ لَمْ
أَفْعَل كَذَا أَوْ إِنْ كَانَ الأَْمْرُ كَذَا أَوْ إِنْ لَمْ يَكُنِ
الأَْمْرُ كَذَا فَزَوْجَتِي عَلَيَّ حَرَامٌ.
هَذِهِ أَمْثِلَةٌ لِلتَّعْلِيقِ الصَّرِيحِ.
وَأَمَّا التَّعْلِيقُ الْمُقَدَّرُ فَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: عَلَيَّ
الْحَرَامُ، أَوِ الْحَرَامُ يَلْزَمُنِي، أَوْ زَوْجَتِي عَلَيَّ
حَرَامٌ لأََفْعَلَنَّ كَذَا أَوْ لاَ أَفْعَل كَذَا، أَوْ لَقَدْ
كَانَ كَذَا أَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَا.
وَقَدْ نَقَل ابْنُ الْقَيِّمِ فِي قَوْل الْقَائِل أَنْتِ عَلَيَّ
حَرَامٌ وَقَوْلِهِ: مَا أَحَل اللَّهُ عَلَيَّ حَرَامٌ. وَقَوْلِهِ:
أَنْتِ عَلَيَّ
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 35 / 243.
(7/275)
كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ
الْخِنْزِيرِ خَمْسَةَ عَشَرَ مَذْهَبًا، وَيَكْفِي هُنَا الإِْشَارَةُ
إِلَيْهَا. وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الْمَذَاهِبِ فِيهَا.
ثُمَّ نُقِل عَنْ شَيْخِ الإِْسْلاَمِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ اخْتِيَارُ
مَذْهَبٍ فَوْقَ الْخَمْسَةَ عَشْرَةَ، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ أَوْقَعَ
التَّحْرِيمَ كَانَ ظِهَارًا وَلَوْ نَوَى بِهِ الطَّلاَقَ، وَإِنْ
حَلَفَ بِهِ كَانَ يَمِينًا مُكَفَّرَةً، فَإِنَّهُ إِذَا أَوْقَعَهُ
كَانَ قَدْ أَتَى مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْل وَزُورًا، وَكَانَ أَوْلَى
بِكَفَّارَةِ الظِّهَارِ مِمَّنْ شَبَّهَ امْرَأَتَهُ
بِالْمُحَرَّمَةِ، وَإِذَا حَلَفَ كَانَ يَمِينًا مِنَ الأَْيْمَانِ،
كَمَا لَوْ حَلَفَ بِالْتِزَامِ الْعِتْقِ وَالْحَجِّ وَالصَّدَقَةِ
(1) وَأَسْهَبَ فِي الاِسْتِدْلاَل عَلَى ذَلِكَ.
شَرَائِطُ الْيَمِينِ التَّعْلِيقِيَّةِ:
81 - يُشْتَرَطُ فِي الْيَمِينِ التَّعْلِيقِيَّةِ شَرَائِطُ بَعْضُهَا
يَرْجِعُ إِلَى مُنْشِئِ التَّعْلِيقِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إِلَى
جُمْلَةِ الشَّرْطِ، وَبَعْضُهَا إِلَى جُمْلَةِ الْجَزَاءِ.
شَرَائِطُ مُنْشِئِ التَّعْلِيقِ (وَهُوَ الْحَالِفُ) :
82 - يُشْتَرَطُ فِيهِ شَرَائِطُ مُفَصَّلَةٌ فِي الْحَالِفِ بِاللَّهِ
تَعَالَى.
مَا يُشْتَرَطُ فِي جُمْلَةِ الشَّرْطِ:
83 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ التَّعْلِيقِ شَرَائِطُ تَتَعَلَّقُ
بِالْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ، وَهِيَ مُفَصَّلَةٌ فِي الْمَوَاضِعِ
الَّتِي يُعْتَبَرُ تَعْلِيقُهَا يَمِينًا، وَنُشِيرُ هُنَا إِلَيْهَا
إِجْمَالاً وَهِيَ:
(الشَّرِيطَةُ الأُْولَى) : أَنْ يَكُونَ مَدْلُول فِعْلِهَا
مَعْدُومًا مُمْكِنَ الْوُجُودِ. فَالْمُحَقَّقُ نَحْوُ: إِنْ كَانَتِ
السَّمَاءُ فَوْقَنَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ، يُعْتَبَرُ تَنْجِيزًا لاَ
تَعْلِيقًا، وَالْمُسْتَحِيل نَحْوُ: إِنْ دَخَل الْجَمَل فِي سَمِّ
الْخِيَاطِ
__________
(1) إعلام الموقعين 3 / 83 - 84.
(7/276)
فَزَوْجَتِي كَذَا، يُعْتَبَرُ لَغْوًا
لِعَدَمِ تَصَوُّرِ الْحِنْثِ. (1)
84 - (الشَّرِيطَةُ الثَّانِيَةُ) : الإِْتْيَانُ بِجُمْلَةِ
الشَّرْطِ، فَلَوْ أَتَى بِأَدَاةِ الشَّرْطِ وَلَمْ يَأْتِ
بِالْجُمْلَةِ - وَلاَ دَلِيل عَلَيْهَا - كَانَ الْكَلاَمُ لَغْوًا،
وَمِثَالُهُ أَنْ يَقُول: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ، أَوْ يَقُول بَعْدَ
جُمْلَةِ الطَّلاَقِ " إِنْ كَانَ " أَوْ " إِنْ لَمْ يَكُنْ " أَوْ "
إِلاَّ " أَوْ " لَوْلاَ " فَفِي كُل هَذِهِ الأَْمْثِلَةِ يَكُونُ
الْكَلاَمُ لَغْوًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ، وَقَال
مُحَمَّدٌ: تَطْلُقُ لِلْحَال.
85 - (الشَّرِيطَةُ الثَّالِثَةُ) : وَصْلُهَا بِجُمْلَةِ الْجَزَاءِ،
فَلَوْ قَال: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، ثُمَّ سَكَتَ، وَلَوْ بِقَدْرِ
التَّنَفُّسِ بِلاَ تَنَفُّسٍ وَبِلاَ ضَرُورَةٍ، أَوْ تَكَلَّمَ
كَلاَمًا أَجْنَبِيًّا ثُمَّ قَال: فَأَنْتِ طَالِقٌ، لَمْ يَصِحَّ
التَّعْلِيقُ، بَل يَكُونُ طَلاَقًا مُنَجَّزًا.
86 - (الشَّرِيطَةُ الرَّابِعَةُ) : أَلاَّ يَقْصِدَ الْمُتَكَلِّمُ
بِالإِْتْيَانِ بِهَا الْمُجَازَاةَ، فَإِنْ قَصَدَهَا كَانَتْ
جُمْلَةُ الْجَزَاءِ تَنْجِيزًا لاَ تَعْلِيقًا.
مِثَال ذَلِكَ أَنْ تَنْسُبَ امْرَأَةٌ إِلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ
فَاسِقٌ، فَيَقُول لَهَا: إِنْ كُنْتُ كَمَا قُلْتِ فَأَنْتِ كَذَا،
فَيُتَنَجَّزُ الطَّلاَقُ، سَوَاءٌ أَكَانَ كَمَا قَالَتْ أَمْ لاَ؛
لأَِنَّهُ فِي الْغَالِبِ لاَ يُرِيدُ إِلاَّ إِيذَاءَهَا بِالطَّلاَقِ
الْمُنَجَّزِ عُقُوبَةً لَهَا عَلَى شَتْمِهِ.
فَإِنْ قَال: قَصَدْتُ التَّعْلِيقَ، لَمْ يُقْبَل قَضَاءً، بَل
يَدِينُ عَلَى مَا أَفْتَى بِهِ أَهْل بُخَارَى مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
87 - (الشَّرِيطَةُ الْخَامِسَةُ) : أَنْ يَكُونَ مُسْتَقْبَلاً
إِثْبَاتًا أَوْ نَفْيًا، وَهَذِهِ الشَّرِيطَةُ إِنَّمَا تُشْتَرَطُ
فِي تَعْلِيقِ الْكُفْرِ لاَ فِي تَعْلِيقِ الطَّلاَقِ وَنَحْوِهِ.
ثُمَّ إِنَّ الَّذِينَ
__________
(1) أفاد هذه الشريطة صاحب الدر المختار حـ 2 ص 493 ط بولاق.
(7/276)
يَشْتَرِطُونَهَا فِي تَعْلِيقِ الْكُفْرِ
إِنَّمَا هُمُ الَّذِينَ يَشْتَرِطُونَهَا فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ
تَعَالَى.
وَالْخُلاَصَةُ أَنَّ تَعْلِيقَ الطَّلاَقِ وَنَحْوِهِ يَصِحُّ فِي
الْمَاضِي كَمَا يَصِحُّ فِي الْمُسْتَقْبَل؛ لأَِنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ
غَمُوسًا عِنْدَ مُخَالَفَةِ الْوَاقِعِ، بِخِلاَفِ تَعْلِيقِ
الْكُفْرِ، فَمَنْ قَال: إِنْ كَانَ الأَْمْرُ عَلَى خِلاَفِ مَا
قُلْتُهُ، أَوْ: إِنْ لَمْ يَكُنِ الأَْمْرُ كَمَا قُلْتُهُ، أَوْ:
إِنْ كَانَ الأَْمْرُ عَلَى مَا قَال فُلاَنٌ فَامْرَأَتِي كَذَا،
أَوْ: فَعَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ، أَوْ: فَهُوَ يَهُودِيٌّ، فَإِنْ كَانَ
مَا أَثْبَتَهُ مَنْفِيًّا فِي الْوَاقِعِ، أَوْ مَا نَفَاهُ ثَابِتًا
فِي الْوَاقِعِ طَلُقَتِ امْرَأَتُهُ فِي الصُّورَةِ الأُْولَى،
وَتُخَيَّرُ بَيْنَ مَا الْتَزَمَهُ مِنَ الصِّيَامِ وَبَيْنَ
كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ
فِي الصُّورَةِ الأَْخِيرَةِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدَ مَنْ يَقُول
بِعَدَمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ وَسَيَأْتِي ذَلِكَ.
مَا يُشْتَرَطُ فِي جُمْلَةِ الْجَزَاءِ:
88 - لَيْسَ كُل تَعْلِيقٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ يَمِينًا شَرْعًا،
وَإِنَّمَا الَّذِي يَصْلُحُ مَا كَانَ جَزَاؤُهُ وَاحِدًا مِنْ
سِتَّةٍ، وَهِيَ: الطَّلاَقُ وَالْعَتَاقُ وَالْتِزَامُ الْقُرْبَةِ
وَالْكُفْرُ وَالظِّهَارُ وَالْحَرَامُ.
فَيُشْتَرَطُ فِي جُمْلَةِ الْجَزَاءِ: أَنْ يَكُونَ مَضْمُونُهَا
وَاحِدًا فِي هَذِهِ السِّتَّةِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ
بِالأَْرْبَعَةِ الأُْوَل فَقَطْ، وَلَمْ يَذْكُرُوا تَعْلِيقَ
الظِّهَارِ، وَلاَ تَعْلِيقَ الْحَرَامِ، لَكِنَّهُمْ جَعَلُوا
تَحْرِيمَ الْحَلاَل فِي حُكْمِ الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ
يَشْمَل الْمُنَجَّزَ وَالْمُعَلَّقَ، فَلَمْ يَبْقَ خَارِجًا عَنْ
كَلاَمِهِمْ سِوَى تَعْلِيقِ الظِّهَارِ. (1)
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 35 / 242، 272، والشرح الكبير للدردير على
مختصر خليل 1 / 32، 33.
(7/277)
وَيُشْتَرَطُ فِي جُمْلَةِ الْجَزَاءِ
شَرِيطَةٌ ثَانِيَةٌ وَهِيَ: أَلاَّ يَذْكُرَ فِيهَا اسْتِثْنَاءً
بِنَحْوِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ،
فَمَنْ قَال: إِنْ فَعَلْتِ كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ، أَوْ قَال أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِنْ فَعَلْتِ
كَذَا، أَوْ قَال أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ فَعَلْتِ كَذَا إِنْ شَاءَ
اللَّهُ بَطَل تَعْلِيقُهُ.
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ.
وَخَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، فَقَالُوا: لاَ يَصِحُّ
التَّعْلِيقُ بِالْمَشِيئَةِ فِيمَا لاَ كَفَّارَةَ فِيهِ، وَمَثَّل
لَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِالطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ وَالْتِزَامِ
الْقُرْبَةِ، وَمَثَّل لَهُ الْحَنَابِلَةُ بِالطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ
فَقَطْ؛ لأَِنَّ الْتِزَامَ الْقُرْبَةِ بِقَصْدِ الْيَمِينِ يَلْزَمُ
فِيهِ مَا الْتَزَمَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَيُخَيَّرُ فِيهِ
عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بَيْنَ مَا الْتَزَمَهُ وَبَيْنَ كَفَّارَةِ
الْيَمِينِ، فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ الاِسْتِثْنَاءُ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ فِي: الْحَلِفِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَبِالظِّهَارِ،
وَقَوْل الْقَائِل: عَلَيَّ نَذْرٌ أَوْ عَلَيَّ يَمِينٌ أَوْ عَلَيَّ
كَفَّارَةٌ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي: الْحَلِفِ بِاللَّهِ،
وَالظِّهَارِ، وَفِي تَعْلِيقِ النَّذْرِ بِقَصْدِ الْحَلِفِ،
وَتَعْلِيقِ الْكُفْرِ.
وَهَذَا الْمَنْقُول عَنِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ هُوَ
أَشْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عَنْ مَالِكٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ
أَحْمَدَ.
وَقَدْ رَجَّحَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ الرِّوَايَةَ الأُْخْرَى
الْمُوَافِقَةَ لِقَوْل الْجُمْهُورِ، فَقَال: هَذَا الْقَوْل هُوَ
الصَّوَابُ الْمَأْثُورُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجُمْهُورِ التَّابِعِينَ كَسَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ (1) .
لَكِنْ جَرَى صَاحِبُ الْمُنْتَهَى وَغَيْرُهُ عَلَى اخْتِصَاصِ
الْمَشِيئَةِ بِمَا يُكَفِّرُ عَنْهُ (2) فَتَكُونُ الرِّوَايَةُ
__________
(1) مجموع الفتاوى لابن تيمية 35 / 284.
(2) مطالب أولي النهى 6 / 369.
(7/277)
الأُْولَى هِيَ الرَّاجِحَةَ عِنْدَ
مُتَأَخِّرِي الْحَنَابِلَةِ.
التَّعْلِيقُ الَّذِي لاَ يُعَدُّ يَمِينًا شَرْعًا:
89 - لَمَّا كَانَتِ التَّعْلِيقَاتُ السِّتَّةُ السَّابِقَةُ إِنَّمَا
تُعَدُّ أَيْمَانًا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، وَمَا عَدَاهَا مِنَ
التَّعْلِيقَاتِ لاَ يُعَدُّ يَمِينًا أَصْلاً كَانَ التَّعْلِيقُ
الَّذِي لاَ يُعَدُّ يَمِينًا نَوْعَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: مَا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْحَثَّ وَلاَ الْمَنْعَ وَلاَ
تَحْقِيقَ الْخَبَرِ، وَقَدْ خَالَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ذَلِكَ
فَعَدُّوهُ يَمِينًا، وَاشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ تَعْلِيقُهُ
تَعْلِيقًا مَحْضًا.
وَثَانِيهِمَا: كُل تَعْلِيقٍ مِنَ السِّتَّةِ اخْتَلَّتْ فِيهِ
شَرِيطَةٌ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ التَّعْلِيقِ.
تَعْلِيقُ غَيْرِ السِّتَّةِ:
90 - كُل تَعْلِيقٍ لِغَيْرِ السِّتَّةِ لاَ يُعَدُّ يَمِينًا شَرْعًا
وَإِنْ كَانَ الْقَائِل يَقْصِدُ بِهِ تَأْكِيدَ الْحَمْل عَلَى شَيْءٍ
أَوِ الْمَنْعَ عَنْهُ أَوِ الْخَبَرَ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ أَنْ يَقُول: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَأَنَا
بَرِيءٌ مِنَ الشَّفَاعَةِ؛ لأَِنَّ إِنْكَارَ الشَّفَاعَةِ بِدْعَةٌ،
وَلَيْسَ كُفْرًا، أَوْ يَقُول: فَصَلاَتِي وَصِيَامِي لِهَذَا
الْكَافِرِ قَاصِدًا أَنَّ ثَوَابَهُمَا يَنْتَقِل إِلَى هَذَا
الْكَافِرِ، فَهَذَا الْقَوْل لَيْسَ كُفْرًا، فَإِنْ قَصَدَ بِهِ
أَنَّ صَلاَتَهُ وَصِيَامَهُ عِبَادَةٌ لِهَذَا الْكَافِرِ، أَيْ:
أَنَّهُ يَعْبُدُهُ كَانَتْ يَمِينًا لأَِنَّ هَذَا كُفْرٌ.
وَمِنَ الأَْمْثِلَةِ: إِنْ فَعَل كَذَا فَعَلَيْهِ غَضَبُ اللَّهِ
أَوْ سَخَطُهُ أَوْ لَعْنَتُهُ، أَوْ فَهُوَ زَانٍ أَوْ سَارِقٌ أَوْ
شَارِبُ خَمْرٍ أَوْ آكِل رِبًا، فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ يَمِينًا
شَرْعًا.
هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. (1)
__________
(1) الدر المختار بحاشية ابن عابدين 3 / 56 - 57، وحاشية الصاوي على
الشرح الصغير للدردير 1 / 33، والمغني بأعلى الشرح الكبير 11 / 200.
(7/278)
مَعْنَى الاِسْتِثْنَاءِ:
91 - الْمُرَادُ بِالاِسْتِثْنَاءِ هُنَا هُوَ التَّعْلِيقُ
بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ نَحْوِهِ مِمَّا يُبْطِل الْحُكْمَ،
كَمَا لَوْ قَال قَائِلٌ: سَأَفْعَل كَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا التَّعْلِيقُ اسْتِثْنَاءً لِشَبَهِهِ
بِالاِسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِل فِي صَرْفِ اللَّفْظِ السَّابِقِ عَنْ
ظَاهِرِهِ.
وَبَعْضُهُمْ يُسَمِّي هَذَا التَّعْلِيقَ (اسْتِثْنَاءَ تَعْطِيلٍ)
لأَِنَّهُ يُعَطِّل الْعَقْدَ أَوِ الْوَعْدَ أَوْ غَيْرَهُمَا.
وَالْفُقَهَاءُ يَذْكُرُونَ هَذَا الاِسْتِثْنَاءَ فِي الأَْيْمَانِ
حِينَمَا يَقُولُونَ: إِنَّ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ الْيَمِينِ عَدَمُ
الاِسْتِثْنَاءِ فَإِنَّهُمْ لاَ يُرِيدُونَ إِلاَّ الاِسْتِثْنَاءَ،
بِمَعْنَى التَّعْلِيقِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَحْوِهِ،
فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي لَوْ وُجِدَ لَبَطَل حُكْمُ الْيَمِينِ.
وَالضَّابِطُ الَّذِي يَجْمَعُ صُوَرَ الاِسْتِثْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ:
كُل لَفْظٍ لاَ يُتَصَوَّرُ مَعَهُ الْحِنْثُ فِي الْيَمِينِ، كَمَا
لَوْ قَال الْحَالِفُ عَقِبَ حَلِفِهِ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ
إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ، أَوْ إِلاَّ
أَنْ يَبْدُوَ لِي غَيْرُ هَذَا، أَوْ إِنْ أَعَانَنِي اللَّهُ، أَوْ
يَسَّرَ اللَّهُ، أَوْ قَال: بِعَوْنِ اللَّهِ أَوْ بِمَعُونَةِ
اللَّهِ أَوْ بِتَيْسِيرِهِ.
التَّعْلِيقُ بِالاِسْتِطَاعَةِ:
92 - لَوْ قَال الْحَالِفُ: وَاللَّهِ لأََفْعَلَنَّ كَذَا إِنِ
اسْتَطَعْتُ أَوْ: لأََفْعَلَنَّ كَذَا إِلاَّ أَلاَّ أَسْتَطِيعَ،
فَإِنْ أَرَادَ بِهَا الاِسْتِطَاعَةَ الْخَاصَّةَ بِالْفِعْل
الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ أَبَدًا لأَِنَّهَا مُقَارِنَةٌ
لِلْفِعْل، فَلاَ تُوجَدُ مَا لَمْ يُوجَدِ الْفِعْل.
وَإِنْ أَرَادَ الاِسْتِطَاعَةَ الْعَامَّةَ، وَهِيَ سَلاَمَةُ
(7/278)
الآْلاَتِ وَالأَْسْبَابِ وَالْجَوَارِحِ
وَالأَْعْضَاءِ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ هَذِهِ الاِسْتِطَاعَةُ فَلَمْ
يَفْعَل حَنِثَ، وَإِلاَّ لَمْ يَحْنَثْ.
وَهَذَا لأَِنَّ لَفْظَ الاِسْتِطَاعَةِ يَحْتَمِل كُلًّا مِنَ
الْمَعْنَيَيْنِ.
قَال اللَّهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْمُشْرِكِينَ: {أُولَئِكَ لَمْ
يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَْرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ
اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا
يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} (1) وَقَال عَزَّ
وَجَل حَاكِيًا خِطَابَ الْخِضْرِ لِمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ
{قَال إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} (2) وَالْمُرَادُ فِي
الآْيَتَيْنِ الاِسْتِطَاعَةُ الْمُقَارِنَةُ لِلْفِعْل، وَقَال
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ
مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (3) وَقَال جَل شَأْنُهُ
{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا
قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ
تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ
يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْل أَنْ
يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا
ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ
وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (4) وَالْمُرَادُ بِالاِسْتِطَاعَةِ
فِي الْمَوْضِعَيْنِ سَلاَمَةُ الأَْسْبَابِ وَالآْلاَتِ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ وَجَبَ أَنْ يُحْمَل عَلَى الْمَعْنَى
الثَّانِي - وَهُوَ سَلاَمَةُ الأَْسْبَابِ - لأَِنَّ هَذَا هُوَ
الَّذِي يُرَادُ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، فَيَنْصَرِفُ إِلَيْهِ
اللَّفْظُ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ. (5)
__________
(1) سورة هود / 20.
(2) سورة الكهف / 67.
(3) سورة آل عمران / 97.
(4) سورة المجادلة / 3، 4.
(5) البدائع 3 / 15، وحاشية ابن عابدين 3 / 100.
(7/279)
أَثَرُ الاِسْتِثْنَاءِ وَمَا يُؤَثِّرُ
فِيهِ:
93 - وَالاِسْتِثْنَاءُ الْمُتَّصِل " بِإِلاَّ " وَنَحْوِهَا مَتَى
وُجِدَتْ شَرَائِطُهُ أَفَادَ التَّخْصِيصَ فِي الْيَمِينِ
الْقَسَمِيَّةِ والتَّعْلِيقِيَّةِ، وَفِي غَيْرِ الْيَمِينِ أَيْضًا،
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: وَاللَّهِ لاَ آكُل سَمْنًا إِلاَّ فِي
الشِّتَاءِ، وَإِنْ أَكَلْتُهُ فِي غَيْرِ الشِّتَاءِ فَنِسَائِي
طَوَالِقُ إِلاَّ فُلاَنَةَ، أَوْ فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ إِلاَّ
فُلاَنًا، وَإِنْ كَلَّمْتُ زَيْدًا فَعَلَيَّ الْمَشْيُ إِلَى مَكَّةَ
إِلاَّ أَنْ يُكَلِّمَنِي ابْتِدَاءً.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا أَيْضًا قَوْل الْقَائِل: لِفُلاَنٍ عَلَيَّ
عَشْرَةُ دَنَانِيرَ إِلاَّ ثَلاَثَةً، وَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا
إِلاَّ اثْنَتَيْنِ كَمَا سَبَقَ.
وَالاِسْتِثْنَاءُ بِمَعْنَى تَعْلِيقِ الْمَشِيئَةِ وَنَحْوِهِ
يُفِيدُ إِبْطَال الْكَلاَمِ الَّذِي قَبْلَهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ
يَمِينًا قَسَمِيَّةً أَمْ يَمِينًا تَعْلِيقِيَّةً أَمْ غَيْرَهُمَا،
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ.
وَذَهَبَ مَالِكٌ فِي أَشْهَرِ الْقَوْلَيْنِ، وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ - وَهِيَ أَرْجَحُهُمَا - إِلَى أَنَّهُ لاَ يُفِيدُ
الإِْبْطَال، إِلاَّ فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَمَا فِي
مَعْنَاهَا مِمَّا فِيهِ كَفَّارَةٌ، فَالطَّلاَقُ وَالْعَتَاقُ لاَ
يَبْطُلاَنِ بِتَعْلِيقِ الْمَشِيئَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَا مُنَجَّزَيْنِ
أَمْ مُعَلَّقَيْنِ، فَمَنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ،
أَوْ إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَأَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ،
أَوْ إِنْ خَرَجْتِ مِنَ الدَّارِ فَأَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ، يَقَعُ طَلاَقُهُ مُنَجَّزًا فِي الْمِثَال الأَْوَّل،
وَيَقَعُ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فِي الْمِثَال الثَّانِي، وَعِنْدَ
خُرُوجِهَا مِنَ الدَّارِ فِي الْمِثَال الثَّالِثِ، وَأَمَّا
تَعْلِيقُ الْتِزَامِ الْقُرْبَةِ بِقَصْدِ الْيَمِينِ فَعِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ: يَلْزَمُهُ فِيهِ مَا الْتَزَمَهُ، فَلاَ يَصِحُّ
تَعْلِيقُهُ بِالْمَشِيئَةِ فَلاَ تَبْطُل الْيَمِينُ بِهِ، وَعِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ تَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ فَيَصِحُّ عِنْدَهُمْ
تَعْلِيقُهُ بِالْمَشِيئَةِ. وَهُنَاكَ قَوْلٌ
(7/279)
ثَالِثٌ ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ
فِي فَتَاوَاهُ، وَهُوَ: أَنَّ الْمَشِيئَةَ تُفِيدُ الإِْبْطَال فِي
كُل مَا كَانَ حَلِفًا سَوَاءٌ أَكَانَ قَسَمًا بِاللَّهِ أَمْ
تَعْلِيقًا لِلطَّلاَقِ وَغَيْرِهِ، وَلاَ تُفِيدُ الإِْبْطَال فِيمَا
لَيْسَ حَلِفًا كَتَنْجِيزِ الطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ وَالْتِزَامِ
الْقُرْبَةِ وَتَعْلِيقِهَا بِغَيْرِ قَصْدِ الْحَلِفِ كَتَعْلِيقِهَا
عَلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ.
94 - هَذَا وَيُمْكِنُ الاِسْتِدْلاَل عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ
الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ
حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَال: إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلاَ حِنْثَ
عَلَيْهِ (1) فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ
حَلَفَ " يَشْمَل الْحَالِفَ بِالصِّيغَةِ الْقَسَمِيَّةِ
وَبِالصِّيغَةِ التَّعْلِيقِيَّةِ، (2) وَيُقَاسُ عَلَيْهِ كُل عَقْدٍ
وَكُل حِلٍّ.
شَرَائِطُ صِحَّةِ الاِسْتِثْنَاءِ:
95 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الاِسْتِثْنَاءِ شَرَائِطُ:
(الشَّرِيطَةُ الأُْولَى) : الدَّلاَلَةُ عَلَيْهِ بِاللَّفْظِ أَوْ
مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ كِتَابَةٍ أَوْ إِشَارَةِ أَخْرَسَ - كَمَا
تَقَدَّمَ فِي شَرَائِطِ الْحَالِفِ - ثُمَّ إِنْ كَانَتْ بِاللَّفْظِ
وَجَبَ الإِْسْمَاعُ وَلَوْ بِالْقُوَّةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ،
خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْكَرْخِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
ثُمَّ اشْتِرَاطُ الدَّلاَلَةِ بِاللَّفْظِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ
يَخْرُجُ بِهِ مَا لَوْ نَوَى الاِسْتِثْنَاءَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدُل
عَلَيْهِ، فَلاَ تَكْفِي النِّيَّةُ فِي الاِسْتِثْنَاءِ، لَكِنْ قَال
الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ
__________
(1) حديث: " من حلف على يمين فقال: إن شاء الله. . . . " أخرجه الترمذي
(4 / 108 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، ونقل عن البخاري أنه مختصر من
حديث أخرجه البخاري (6 / 458 - الفتح - ط السلفية) .
(2) لا نعلم خلافا بين العلماء أن من قال: إن شاء أو بمشيئة الله.
تبركا لا يبطل يمينه. ولا يبطل تعليقه الطلاق والعتاق وما في معناهما.
(7/280)
النِّيَّةَ تَكْفِي فِي الاِسْتِثْنَاءِ
بِإِلاَّ وَأَخَوَاتِهَا قَبْل انْتِهَاءِ النُّطْقِ بِالْيَمِينِ،
وَكَالاِسْتِثْنَاءِ بِإِلاَّ سَائِرُ التَّخْصِيصَاتِ كَالشَّرْطِ،
وَالصِّفَةِ، وَالْغَايَةِ، وَمِثَال الشَّرْطِ: وَاللَّهِ لاَ
أُكَلِّمُ زَيْدًا إِنْ لَمْ يَأْتِنِي، وَمِثَال الصِّفَةِ: لاَ
أُكَلِّمُهُ وَهُوَ رَاكِبٌ؛ لأَِنَّ الْمُرَادَ بِالصِّفَةِ مَا
يَشْمَل الْحَال، وَمِثَال الْغَايَةِ: لاَ أُكَلِّمُهُ حَتَّى
تَغْرُبَ الشَّمْسُ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي (اسْتِثْنَاءٍ وَطَلاَقٍ) .
96 - وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ نُطْقُ غَيْرِ الْمَظْلُومِ
الْخَائِفِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
مَرْفُوعًا مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَال: إِنْ شَاءَ اللَّهُ
فَلاَ حِنْثَ عَلَيْهِ (1) وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال. . . " يَدُل عَلَى اشْتِرَاطِ النُّطْقِ
بِاللِّسَانِ؛ لأَِنَّ الْقَوْل هُوَ اللَّفْظُ، وَأَمَّا الْمَظْلُومُ
الْخَائِفُ فَتَكْفِيهِ نِيَّتُهُ؛ لأَِنَّ يَمِينَهُ غَيْرُ
مُنْعَقِدَةٍ، أَوْ لأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَأَوِّل. (2)
97 - (الشَّرِيطَةُ الثَّانِيَةُ) : أَنْ يَصِل الْمُتَكَلِّمُ
الاِسْتِثْنَاءَ بِالْكَلاَمِ السَّابِقِ، فَلَوْ فَصَل عَنْهُ
بِسُكُوتٍ كَثِيرٍ بِغَيْرِ عُذْرٍ، أَوْ بِكَلاَمٍ أَجْنَبِيٍّ لَمْ
يَصِحَّ الاِسْتِثْنَاءُ، فَلاَ يُخَصَّصُ مَا قَبْلَهُ إِنْ كَانَ
اسْتِثْنَاءً بِنَحْوِ إِلاَّ، وَلاَ يُلْغِيهِ إِنْ كَانَ بِنَحْوِ
الْمَشِيئَةِ.
وَمِنَ الأَْعْذَارِ: التَّنَفُّسُ وَالسُّعَال وَالْجُشَاءُ
وَالْعُطَاسُ وَثِقَل اللِّسَانِ وَإِمْسَاكُ إِنْسَانٍ فَمَ
الْمُتَكَلِّمِ، فَالْفَصْل بِالسُّكُوتِ لِهَذِهِ الأَْعْذَارِ
كُلِّهَا لاَ يَضُرُّ.
__________
(1) الحديث سبق تخريجه ف / 94.
(2) مطالب أولي النهى 1 / 370، والمغني بأعلى الشرح الكبير 11 / 307 -
310، وحاشية الدسوقي 2 / 130.
(7/280)
وَالْمُرَادُ بِالسُّكُوتِ الْكَثِيرِ مَا
كَانَ بِقَدْرِ التَّنَفُّسِ بِغَيْرِ تَنَفُّسٍ، عَلَى مَا أَفَادَهُ
الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ.
وَالْمُرَادُ بِالْكَلاَمِ الأَْجْنَبِيِّ مَا لَمْ يُفِدْ مَعْنًى
جَدِيدًا، كَمَا لَوْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا وَثَلاَثًا إِلاَّ
وَاحِدَةً إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَهَذَا الْعَطْفُ لَغْوٌ؛ لأَِنَّ
الثَّلاَثَ هِيَ أَكْثَرُ الطَّلاَقِ فَلاَ يَصِحُّ الاِسْتِثْنَاءُ.
(1)
98 - وَهَذِهِ الشَّرِيطَةُ إِجْمَالاً (وَهِيَ عَدَمُ الْفَصْل بِلاَ
عُذْرٍ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ عَامَّةِ أَهْل الْعِلْمِ،
وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ فِي الْفَاصِل مِنْ سُكُوتٍ أَوْ كَلاَمٍ، مَتَى
يُعَدُّ مَانِعًا مِنَ الاِسْتِثْنَاءِ وَمَتَى لاَ يُعَدُّ؟
وَالتَّفَاصِيل الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا هِيَ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا
الْحَنَفِيَّةُ، وَفِي كُتُبِ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى تَفَاصِيل
يَطُول الْكَلاَمُ عَلَيْهَا، فَلْتُرَاجَعْ فِي مَوَاضِعِهَا مِنْ
كُتُبِ الْفِقْهِ. (2)
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَدَمُ
اشْتِرَاطِ هَذِهِ الشَّرِيطَةِ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ
وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُمْ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَرَى
الاِسْتِثْنَاءَ وَلَوْ بَعْدَ سَنَةٍ وَيَقْرَأُ قَوْله تَعَالَى:
{وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلاَّ أَنْ
يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} (3) وَهُوَ
رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي رَجُلٍ حَلَفَ وَنَسِيَ أَنْ
يَسْتَثْنِيَ، قَال: لَهُ ثَنِيَّاهُ إِلَى شَهْرٍ، وَأَخْرَجَ ابْنُ
أَبِي حَاتِمٍ مِنْ
__________
(1) البدائع 3 / 15، والدر المختار مع حاشية ابن عابدين 2 / 509 - 510،
3 / 100.
(2) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 3 / 100، والشرح الكبير للدردير
2 / 129 - 130، والشرح الصغير للدردير 1 / 331، وأسنى المطالب 3 / 292،
4 / 241، ومطالب أولي النهى 6 / 369.
(3) سورة الكهف / 23 - 24.
(7/281)
طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ
عَطَاءٍ أَنَّهُ قَال: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَلَهُ الثَّنِيَّا
حَلْبُ نَاقَةٍ (1) قَال: وَكَانَ طَاوُسُ يَقُول: مَا دَامَ فِي
مَجْلِسِهِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ
النَّخَعِيُّ قَال: يَسْتَثْنِي مَا دَامَ فِي كَلاَمِهِ.
وَمِمَّا يُؤَيِّدُ اشْتِرَاطَ عَدَمِ الْفَصْل أَنَّهُ لَوْ صَحَّ
جَوَازُ الْفَصْل وَعَدَمُ تَأْثِيرِهِ فِي الأَْحْكَامِ، وَلاَ
سِيَّمَا إِلَى الْغَايَةِ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لَمَا
تَقَرَّرَ إِقْرَارٌ وَلاَ طَلاَقٌ وَلاَ عَتَاقٌ، وَلَمْ يُعْلَمْ
صِدْقٌ وَلاَ كَذِبٌ. وَأَيْضًا لَوْ صَحَّ هَذَا لأََقَرَّ اللَّهُ
نَبِيَّهُ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالاِسْتِثْنَاءِ رَفْعًا
لِلْحِنْثِ، فَإِنَّهُ أَقَل مُؤْنَةً مِمَّا أَرْشَدَهُ سُبْحَانَهُ
إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ
بِهِ وَلاَ تَحْنَثْ} (2) .
99 - (الشَّرِيطَةُ الثَّالِثَةُ) الْقَصْدُ: وَهَذِهِ الشَّرِيطَةُ
ذَكَرَهَا الْمَالِكِيَّةُ وَعُنُوا بِهَا: قَصْدُ اللَّفْظِ مَعَ
قَصْدِ مَعْنَاهُ، وَخَرَجَ بِذَلِكَ أَمْرَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ
يَجْرِيَ اللَّفْظُ عَلَى لِسَانِ الْحَالِفِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ،
فَلاَ يُعْتَبَرُ الاِسْتِثْنَاءُ بِإِلاَّ مُخَصَّصًا، وَلاَ
الاِسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ مُبْطِلاً.
ثَانِيهِمَا: مَا لَوْ قَصَدَ التَّبَرُّكَ بِذِكْرِ الْمَشِيئَةِ،
أَوْ قَصَدَ الإِْخْبَارَ بِأَنَّ هَذَا الأَْمْرَ يَحْصُل بِمَشِيئَةِ
اللَّهِ تَعَالَى، فَفِي هَذِهِ الْحَال لاَ تَبْطُل الْيَمِينُ، بَل
تَبْقَى مُنْعَقِدَةً، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا، بِأَنْ
قَصَدَ مُجَرَّدَ النُّطْقِ بِلَفْظِ الاِسْتِثْنَاءِ بِنَوْعَيْهِ
مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْوِيَ تَخْصِيصَ الْيَمِينِ وَحِلَّهَا.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ قَصْدَ الاِسْتِثْنَاءِ
إِنْ
__________
(1) أي في زمن مقدار الزمن الذي تحلب فيه الناقة.
(2) سورة ص / 44. وانظر روح المعاني 15 / 249 - 250.
(7/281)
كَانَ مَعَ الْيَمِينِ مِنْ أَوَّلِهَا
أَوْ فِي أَثْنَائِهَا صَحَّ الاِسْتِثْنَاءُ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ
الْفَرَاغِ مِنَ النُّطْقِ بِالْيَمِينِ صَحَّ عَلَى الْمَشْهُورِ،
فَعَلَيْهِ لَوْ حَلَفَ، فَذَكَّرَهُ إِنْسَانٌ قَائِلاً: قُل إِنْ
شَاءَ اللَّهُ أَوْ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ،
فَقَالَهُ بِغَيْرِ فَصْلٍ، وَلَمْ يَكُنْ فِي نِيَّتِهِ مِنْ قَبْل
فَإِنَّهُ يَصِحُّ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْحَنَفِيَّةُ هَذِهِ
الشَّرِيطَةَ.
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ شَرَطُوا الْقَصْدَ مَعَ الْعِلْمِ
بِالْمَعْنَى، وَشَرَطُوا كَوْنَ الْقَصْدِ قَبْل الْفَرَاغِ مِنَ
الْيَمِينِ، وَقَالُوا: لَوْ لَمْ يَقْصِدِ الاِسْتِثْنَاءَ إِلاَّ
بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْيَمِينِ لَمْ يَصِحَّ؛ لأَِنَّهُ يَلْزَمُ
عَلَيْهِ رَفْعُ الْيَمِينِ بَعْدَ انْعِقَادِهَا، وَقَالُوا أَيْضًا:
يَصِحُّ تَقْدِيمُ الاِسْتِثْنَاءِ وَتَوْسِيطُهُ. (1)
100 - (الشَّرِيطَةُ الرَّابِعَةُ) : أَنْ يَكُونَ حَلِفُهُ فِي غَيْرِ
تَوَثُّقٍ بِحَقٍّ.
وَهَذِهِ الشَّرِيطَةُ نَصَّ عَلَيْهَا الْمَالِكِيَّةُ.
وَإِيضَاحُهَا: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الاِسْتِثْنَاءِ أَنْ
يَكُونَ الْحَلِفُ الَّذِي ذُكِرَ مَعَهُ الاِسْتِثْنَاءُ فِي غَيْرِ
تَوَثُّقٍ بِحَقٍّ، كَمَا لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ فِي عَقْدِ نِكَاحٍ
أَلاَّ يَضُرَّ زَوْجَتَهُ فِي عِشْرَةٍ، أَوْ لاَ يُخْرِجَهَا مِنْ
بَلَدِهَا، وَكَأَنْ يَشْرِطَ عَلَيْهِ فِي بَيْعٍ أَنْ يَأْتِيَ
بِالثَّمَنِ فِي وَقْتِ كَذَا، وَطُلِبَ مِنْهُ يَمِينٌ عَلَى ذَلِكَ،
فَحَلَفَ وَاسْتَثْنَى سِرًّا لَمْ يُفِدْهُ الاِسْتِثْنَاءُ عِنْدَ
سَحْنُونٍ وَأَصْبَغَ وَابْنِ الْمَوَّازِ؛ لأَِنَّ الْيَمِينَ عَلَى
نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ عِنْدَ هَؤُلاَءِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ
عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، خِلاَفًا لِمَا قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي
الْعُتْبِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ يَنْفَعُ الاِسْتِثْنَاءُ فِيمَا ذُكِرَ،
فَلاَ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ، لَكِنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ بِمَنْعِهِ
حَقَّ الْغَيْرِ. (2)
__________
(1) المغني والشرح الكبير 11 / 228 - 229.
(2) أقرب المسالك مع بلغة السالك وحاشيته 1 / 331، والشرح الكبير
بحاشية الدسوقي 2 / 129 - 130.
(7/282)
وَالَّذِي يَتَصَفَّحُ كُتُبَ الْمَذَاهِبِ
الأُْخْرَى يَجِدُ أَنَّهُ مَا مِنْ مَذْهَبٍ إِلاَّ يَرَى أَصْحَابُهُ
أَنَّ الْيَمِينَ تَكُونُ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ فِي بَعْضِ
الصُّوَرِ - وَسَيَأْتِي ذَلِكَ - فَيُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْ هَذِهِ
الشَّرِيطَةِ بِأَنْ يُقَال: يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الاِسْتِثْنَاءِ
أَلاَّ يَكُونَ عَلَى خِلاَفِ نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ، فِي الصُّوَرِ
الَّتِي يَجِبُ فِيهَا مُرَاعَاةُ نِيَّتِهِ.
أَحْكَامُ الْيَمِينِ
101 - تَقَدَّمَ أَنَّ الْيَمِينَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ قَسَمِيَّةً،
وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ تَعْلِيقِيَّةً. وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا أَحْكَامٌ.
أَحْكَامُ الْيَمِينِ الْقَسَمِيَّةِ:
أَحْكَامُ الْيَمِينِ الْقَسَمِيَّةِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ
أَنْوَاعِهَا، وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ هَذِهِ الأَْنْوَاعِ ثُمَّ
بَيَانُ أَحْكَامِهَا.
أَنْوَاعُ الْيَمِينِ الْقَسَمِيَّةِ:
قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الْيَمِينَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَمَا أُلْحِقَ
بِهَا كَتَعْلِيقِ الْكُفْرِ - مِنْ حَيْثُ الْكَذِبُ وَعَدَمُهُ -
إِلَى ثَلاَثَةِ أَنْوَاعٍ، وَهِيَ: الْيَمِينُ الْغَمُوسُ،
وَالْيَمِينُ اللَّغْوُ، وَالْيَمِينُ الْمَعْقُودَةُ.
102 - فَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ: هِيَ الْكَاذِبَةُ عَمْدًا فِي
الْمَاضِي أَوِ الْحَال أَوِ الاِسْتِقْبَال، سَوَاءٌ أَكَانَتْ عَلَى
النَّفْيِ أَمْ عَلَى الإِْثْبَاتِ كَأَنْ يَقُول: وَاللَّهِ مَا
فَعَلْتُ كَذَا، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ فَعَلَهُ، أَوْ وَاللَّهِ
لَقَدْ فَعَلْتُ كَذَا، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ،
أَوْ: وَاللَّهِ مَا لَكَ عَلَيَّ دَيْنٌ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ
لِلْمُخَاطَبِ دَيْنًا عَلَيْهِ، أَوْ: وَاللَّهِ لاَ أَمُوتُ أَبَدًا.
(7/282)
وَكَأَنْ يَقُول: إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ
كَذَا، أَوْ إِنْ لَمْ أَكُنْ فَعَلْتُهُ، أَوْ إِنْ كَانَ لَكَ
عَلَيَّ دَيْنٌ، أَوْ إِنْ مِتُّ فَأَنَا يَهُودِيٌّ أَوْ
نَصْرَانِيٌّ. هَذَا تَعْرِيفُهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْغَمُوسَ هِيَ الْحَلِفُ
بِاللَّهِ مَعَ شَكٍّ مِنَ الْحَالِفِ فِي الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، أَوْ
مَعَ ظَنٍّ غَيْرِ قَوِيٍّ، أَوْ مَعَ تَعَمُّدِ الْكَذِبِ، سَوَاءٌ
أَكَانَ عَلَى مَاضٍ نَحْوُ: وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُ كَذَا، أَوْ لَمْ
يَفْعَل زَيْدٌ كَذَا، مَعَ شَكِّهِ فِي عَدَمِ الْفِعْل، أَوْ ظَنِّهِ
عَدَمَهُ ظَنًّا غَيْرَ قَوِيٍّ، أَوْ جَزْمِهِ بِأَنَّهُ قَدْ فَعَل،
أَمْ كَانَ عَلَى حَاضِرٍ نَحْوُ: وَاللَّهِ إِنَّ زَيْدًا
لَمُنْطَلِقٌ أَوْ مَرِيضٌ، وَهُوَ جَازِمٌ بِعَدَمِ ذَلِكَ، أَوْ
مُتَرَدِّدٌ فِي وُجُودِهِ عَلَى سَبِيل الشَّكِّ أَوِ الظَّنِّ غَيْرِ
الْقَوِيِّ، أَمْ كَانَ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ نَحْوُ: وَاللَّهِ
لآَتِيَنَّكَ غَدًا، أَوْ لأََقْضِيَنَّكَ حَقَّكَ غَدًا وَهُوَ
جَازِمٌ بِعَدَمِ ذَلِكَ، أَوْ مُتَرَدِّدٌ فِي حُصُولِهِ عَلَى سَبِيل
الشَّكِّ أَوِ الظَّنِّ غَيْرِ الْقَوِيِّ. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْغَمُوسَ هِيَ
الْمَحْلُوفَةُ عَلَى مَاضٍ مَعَ كَذِبِ صَاحِبِهَا وَعِلْمِهِ
بِالْحَال. (2)
وَالْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لاَ يُوَافِقُونَ
الْمَالِكِيَّةَ عَلَى التَّوَسُّعِ فِي تَفْسِيرِ الْغَمُوسِ.
103 - وَالْيَمِينُ اللَّغْوُ: اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهَا أَيْضًا،
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: هِيَ الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ خَطَأً أَوْ
غَلَطًا فِي الْمَاضِي أَوْ فِي الْحَال، وَهِيَ: أَنْ يُخْبِرَ
إِنْسَانٌ عَنِ الْمَاضِي أَوْ عَنِ الْحَال عَلَى الظَّنِّ أَنَّ
الْمُخْبَرَ بِهِ كَمَا أَخْبَرَ، وَهُوَ بِخِلاَفِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ
ذَلِكَ فِي النَّفْيِ أَمْ
__________
(1) الشرح الصغير بحاشية الصاوي 1 / 330.
(2) أسنى المطالب 4 / 240، ومطالب أولي النهى 6 / 368.
(7/283)
فِي الإِْثْبَاتِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ
إِقْسَامًا بِاللَّهِ تَعَالَى أَمْ تَعْلِيقًا لِلْكُفْرِ،
كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ مَا كَلَّمْتُ زَيْدًا، وَفِي ظَنِّهِ أَنَّهُ
لَمْ يُكَلِّمْهُ، وَالْوَاقِعُ أَنَّهُ كَلَّمَهُ.
هَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ
أَصْحَابُ الْمُتُونِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ اللَّغْوَ: مَا يَجْرِي
بَيْنَ النَّاسِ مِنْ قَوْلِهِمْ لاَ وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ،
أَيْ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ الْيَمِينِ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ نَوْعًا
آخَرَ مِنَ اللَّغْوِ، فَيَكُونُ اللَّغْوُ عِنْدَهُمْ نَوْعَيْنِ
وَكِلاَهُمَا فِي الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ دُونَ الْمُسْتَقْبَل.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ اللَّغْوَ هُوَ الْحَلِفُ بِاللَّهِ
عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ عَلَى سَبِيل الْجَزْمِ أَوِ الظَّنِّ
الْقَوِيِّ فَيَظْهَرُ خِلاَفُهُ سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَحْلُوفُ
عَلَيْهِ إِثْبَاتًا أَمْ نَفْيًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَاضِيًا أَمْ
حَاضِرًا أَمْ مُسْتَقْبَلاً. (1)
وَيُلاَحَظُ أَنَّهُمْ مَثَّلُوا بِالْمُسْتَقْبَل بِمَا لَوْ قَال "
وَاللَّهِ لأََفْعَلَنَّ كَذَا " مَعَ الْجَزْمِ أَوِ الظَّنِّ
الْقَوِيِّ بِفِعْلِهِ ثُمَّ لَمْ يَفْعَلْهُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الْيَمِينُ اللَّغْوُ هِيَ الَّتِي يُسْبَقُ
اللِّسَانُ إِلَى لَفْظِهَا بِلاَ قَصْدٍ لِمَعْنَاهَا، كَقَوْلِهِمْ "
لاَ وَاللَّهِ " " وَبَلَى وَاللَّهِ " فِي نَحْوِ صِلَةِ كَلاَمٍ أَوْ
غَضَبٍ سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي الْمَاضِي أَمِ الْحَال أَمِ
الْمُسْتَقْبَل.
وَهُمْ يُخَالِفُونَ الْحَنَفِيَّةَ فِي هَذَا الأَْخِيرِ، وَهُوَ مَا
كَانَ فِي الْمُسْتَقْبَل. (2)
__________
(1) الشرح الصغير بحاشية الصاوي 1 / 331.
(2) أسنى المطالب 4 / 241، وتحفة المحتاج 8 / 216، ونهاية المحتاج 8 /
169 - 170، والبجيرمي على المنهاج 4 / 316، والباجوري على ابن قاسم 2 /
324.
(7/283)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ
لَغْوَ الْيَمِينِ كَمَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ، وَوَافَقُوهُمْ
أَيْضًا فِي أَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى مَاضٍ كَاذِبًا جَاهِلاً صَدَّقَ
نَفْسَهُ، أَوْ ظَانًّا صِدْقَ نَفْسِهِ، فَتَبَيَّنَ خِلاَفُهُ لاَ
تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ، وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّ مَا يُسَمِّيهِ
الْحَنَفِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ لَغْوًا يُوَافِقُهُمُ الشَّافِعِيَّةُ
عَلَى حُكْمِهِ، وَإِنْ لَمْ يُسَمُّوهُ لَغْوًا. وَنَقَل صَاحِبُ
غَايَةِ الْمُنْتَهَى عَنِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ أَنَّ مَنْ
حَلَفَ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ ظَانًّا صِدْقَ نَفْسِهِ فَتَبَيَّنَ
بِخِلاَفِهِ لاَ تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ، وَكَذَا مَنْ حَلَفَ عَلَى
غَيْرِهِ ظَانًّا أَنَّهُ يُطِيعُهُ فَلَمْ يَفْعَل فَلاَ كَفَّارَةَ
فِيهِ أَيْضًا؛ لأَِنَّهُ لَغْوٌ، ثُمَّ قَال: وَالْمَذْهَبُ
خِلاَفُهُ. (1)
ثُمَّ مِنْ هَؤُلاَءِ مَنْ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى
فِي هَذِهِ الآْيَةِ {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ
مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ
تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ
ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} (2) أَيْ
حَلَفْتُمْ وَحَنِثْتُمْ.
وَمِنْهُمْ مَنْ لاَ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ لِمَا يَأْتِي فِي بَيَانِ
حُكْمِ الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى.
104 - وَوَجْهُ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: مَا ثَبَتَ
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: أُنْزِلَتْ
هَذِهِ الآْيَةُ - {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي
أَيْمَانِكُمْ} - فِي قَوْل الرَّجُل: لاَ وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ
(3) وَمَعْلُومٌ أَنَّ السَّيِّدَةَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
شَهِدَتِ التَّنْزِيل وَقَدْ جَزَمَتْ بِأَنَّ الآْيَةَ نَزَلَتْ فِي
هَذَا الْمَعْنَى، قَال الشَّوْكَانِيُّ فِي نَيْل
__________
(1) مطالب أولي النهى 6 / 367 - 368.
(2) سورة المائدة / 89.
(3) حديث عائشة أخرجه البخاري (8 / 275 - الفتح - ط السلفية) .
(7/284)
الأَْوْطَارِ: إِنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ
قَدْ دَل عَلَى عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ فِي يَمِينِ اللَّغْوِ، وَذَلِكَ
يَعُمُّ الإِْثْمَ وَالْكَفَّارَةَ، فَلاَ يَجِبَانِ، وَالْمُتَوَجَّهُ
الرُّجُوعُ فِي مَعْرِفَةِ مَعْنَى اللَّغْوِ إِلَى اللُّغَةِ
الْعَرَبِيَّةِ، وَأَهْل عَصْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَعْرَفُ النَّاسِ بِمَعَانِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لأَِنَّهُمْ
مَعَ كَوْنِهِمْ مِنْ أَهْل اللُّغَةِ قَدْ كَانُوا مِنْ أَهْل
الشَّرْعِ وَمِنَ الْمُشَاهِدِينَ لِلرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالْحَاضِرِينَ فِي أَيَّامِ النُّزُول، فَإِذَا صَحَّ عَنْ
أَحَدِهِمْ تَفْسِيرٌ لَمْ يُعَارِضْهُ مَا يُرَجَّحُ عَلَيْهِ أَوْ
يُسَاوِيهِ وَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُوَافِقْ مَا
نَقَلَهُ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ اللَّفْظِ؛ لأَِنَّهُ
يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الَّذِي نَقَلَهُ إِلَيْهِ
شَرْعِيًّا لاَ لُغَوِيًّا، وَالشَّرْعِيُّ مُقَدَّمٌ عَلَى
اللُّغَوِيِّ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الأُْصُول، فَكَانَ الْحَقُّ فِيمَا
نَحْنُ بِصَدَدِهِ، هُوَ أَنَّ اللَّغْوَ مَا قَالَتْهُ عَائِشَةُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. (1)
فَثَبَتَ أَنَّ الْيَمِينَ اللَّغْوَ هِيَ الَّتِي لاَ يَقْصِدُهَا
الْحَالِفُ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ.
وَأَيْضًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَابَل الْيَمِينَ اللَّغْوَ
بِالْيَمِينِ الْمَكْسُوبَةِ بِالْقَلْبِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {لاَ
يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ
يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} . (2)
وَالْمَكْسُوبَةُ هِيَ الْمَقْصُودَةُ، فَكَانَتْ غَيْرُ
الْمَقْصُودَةِ دَاخِلَةً فِي قِسْمِ اللَّغْوِ بِلاَ فَصْلٍ بَيْنَ
مَاضِيهِ وَحَالِهِ وَمُسْتَقْبَلِهِ تَحْقِيقًا لِلْمُقَابَلَةِ.
وَوَجْهُ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: أَنَّ اللَّهَ
عَزَّ وَجَل قَابَل اللَّغْوَ بِالْمَعْقُودَةِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا
بِالْمُؤَاخَذَةِ وَنَفْيِهَا، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ اللَّغْوُ غَيْرَ
الْمَعْقُودَةِ تَحْقِيقًا
__________
(1) نيل الأوطار 8 / 236.
(2) سورة البقرة / 225.
(7/284)
لِلْمُقَابَلَةِ، وَالْيَمِينُ عَلَى
الْمُسْتَقْبَل مَعْقُودَةٌ سَوَاءٌ أَكَانَتْ مَقْصُودَةً أَمْ لاَ،
فَلاَ تَكُونُ لَغْوًا. (1)
105 - وَأَيْضًا اللَّغْوُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِلشَّيْءِ الَّذِي
لاَ حَقِيقَةَ لَهُ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا
لَغْوًا} (2) أَيْ بَاطِلاً، وَقَال عَزَّ وَجَل خَبَرًا عَنِ
الْكَفَرَةِ {وَقَال الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا
الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} (3) وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي الْحَلِفِ
عَلَى ظَنٍّ مِنَ الْحَالِفِ أَنَّ الأَْمْرَ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ،
وَالْحَقِيقَةُ بِخِلاَفِهِ، وَكَذَا مَا يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ
مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لَكِنْ فِي الْمَاضِي أَوِ الْحَال. (4) فَهُوَ مَا
لاَ حَقِيقَةَ لَهُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ
قَال: اللَّغْوُ أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُل عَلَى الشَّيْءِ يَرَاهُ
حَقًّا وَلَيْسَ بِحَقٍّ (5)
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْل عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ اللَّغْوَ فِي الأَْيْمَانِ قَوْل الرَّجُل لاَ
وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ، إِنَّمَا أَرَدْتُ بِهِ التَّمْثِيل لاَ
الْحَصْرَ،
__________
(1) هكذا في البدائع 33 / 4، وقد يقال: لا دليل على كون اليمين
المعقودة تشمل غير المقصودة، وقد يجاب بأن المعقودة هي التي علقت على
أمر، فيتمكن الحالف من البر والحنث فيها، فإذا كانت غير مقصودة لم ينسد
على الحالف باب البر فيها، بخلاف الماضية والحاضرة فليتأمل
(2) سورة الواقعة / 25.
(3) سورة فصلت / 26.
(4) قوله لكن في الماضي والحال. كذا في البدائع. وتجري فيه المناقشة
والجواب السابقان.
(5) لأثر رواه ابن جرير الطبري في تفسيره 22 / 242، وروى ابن جرير أيضا
آثارا تشبهه عن أبي هريرة وسليمان ابن يسار والحسن البصري ومجاهد وابن
أبي نجيح وإبراهيم النخعي وأبي مالك وقتادة وزرارة بن أوفى والسدي
ويحيى بن أبي سعيد وابن أبي طلحة ومكحول رحمهم الله.
(7/285)
وَأَيْضًا إِنَّهُ خَاصٌّ بِالْمَاضِي
وَالْحَاضِرِ لِيَكُونَ النَّوْعَانِ مُتَمَاثِلَيْنِ.
106 - وَالْيَمِينُ الْمَعْقُودَةُ: وَهِيَ الْيَمِينُ عَلَى أَمْرٍ
فِي الْمُسْتَقْبَل غَيْرَ مُسْتَحِيلٍ عَقْلاً، سَوَاءٌ أَكَانَ
نَفْيًا أَمْ إِثْبَاتًا، نَحْوُ: وَاللَّهِ لاَ أَفْعَل كَذَا أَوْ
وَاللَّهِ لأََفْعَلَنَّ كَذَا. هَذَا قَوْل الْحَنَفِيَّةِ. (1)
وَأَفَادَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْيَمِينَ الْمُنْعَقِدَةَ هِيَ: مَا
لَمْ تَكُنْ غَمُوسًا وَلاَ لَغْوًا. (2)
وَمَنْ تَأَمَّل فِي مَعْنَى الْغَمُوسِ وَاللَّغْوِ عِنْدَهُمْ لَمْ
يَجِدْ مَا يُسَمَّى مُنْعَقِدَةً سِوَى الْحَلِفِ بِاللَّهِ عَلَى مَا
طَابَق الْوَاقِعَ مِنْ مَاضٍ أَوْ حَاضِرٍ، أَوْ مَا يُطَابِقُهُ مِنْ
مُسْتَقْبَلٍ؛ لأَِنَّ مَا عَدَا ذَلِكَ إِمَّا غَمُوسٌ وَإِمَّا
لَغْوٌ، لَكِنْ يُلْحَقُ بِالْمُنْعَقِدَةِ الْغَمُوسُ وَاللَّغْوُ فِي
الْمُسْتَقْبَل، وَكَذَا الْغَمُوسُ فِي الْحَاضِرِ كَمَا سَيَأْتِي
فِي الأَْحْكَامِ.
وَأَفَادَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ كُل يَمِينٍ لاَ تُعَدُّ لَغْوًا
عِنْدَهُمْ فَهِيَ مُنْعَقِدَةٌ، فَيَدْخُل فِيهَا الْغَمُوسُ، كَمَا
يَدْخُل فِيهَا الْحَلِفُ عَلَى الْمُسْتَقْبَل الْمُمْكِنِ. وَبَيَانُ
ذَلِكَ أَنَّ الْيَمِينَ إِنْ كَانَ التَّلَفُّظُ بِهَا غَيْرَ
مَقْصُودٍ كَانَتْ لَغْوًا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ فِي الْمَاضِي أَمْ فِي
الْحَال أَمْ فِي الْمُسْتَقْبَل، وَإِنْ كَانَ التَّلَفُّظُ بِهَا
مَقْصُودًا، وَكَانَتْ إِخْبَارًا مَبْنِيًّا عَلَى الْيَقِينِ أَوِ
الظَّنِّ أَوِ الْجَهْل، وَتَبَيَّنَ خِلاَفُهَا كَانَتْ لَغْوًا
أَيْضًا، مَا لَمْ يَجْزِمِ الْحَالِفُ بِأَنَّ الَّذِي حَلَفَ
عَلَيْهِ هُوَ الْوَاقِعُ، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ مُنْعَقِدَةً
وَيَحْنَثُ فِيهَا.
وَإِنْ كَانَتْ إِخْبَارًا مَبْنِيًّا عَلَى اعْتِقَادِ مُخَالَفَةِ
الْوَاقِعِ يَقِينًا أَوْ ظَنًّا فَهِيَ غَمُوسٌ، وَهِيَ مُنْعَقِدَةٌ
أَيْضًا. وَإِنْ كَانَتْ لِلْحَثِّ أَوِ الْمَنْعِ وَكَانَ
الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ مُمْكِنًا فَإِنَّهَا
__________
(1) البدائع 2 / 423، والدر المختار 3 / 47 - 49.
(2) أقرب المسالك مع شرحه وحاشية الصاوي 1 / 33.
(7/285)
تَكُونُ مُنْعَقِدَةً أَيْضًا. وَأَمَّا
إِذَا كَانَ وَاجِبًا فَإِنَّهَا صَادِقَةٌ قَطْعًا وَلاَ تُعَدُّ
يَمِينًا. وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِيلاً فَهِيَ كَاذِبَةٌ قَطْعًا
وَتَكُونُ مُنْعَقِدَةً وَحَانِثَةً. (1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُسْتَقْبَل إِذَا
كَانَ التَّلَفُّظُ بِهَا مَقْصُودًا، وَكَانَ الْحَالِفُ مُخْتَارًا،
وَكَانَتْ عَلَى مُمْكِنٍ أَوْ عَلَى إِثْبَاتِ مُسْتَحِيلٍ أَوْ
نَفْيِ وَاجِبٍ، لَكِنَّ الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّينِ أَخْرَجَ مِنْهَا
مَنْ حَلَفَ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ ظَانًّا صِدْقَ نَفْيِهِ فَتَبَيَّنَ
بِخِلاَفِهِ، وَمَنْ حَلَفَ عَلَى غَيْرِهِ ظَانًّا أَنَّهُ يُطِيعُهُ
فَلَمْ يُطِعْهُ. (2)
107 - وَتَنَوُّعُ الْيَمِينِ إِلَى الأَْنْوَاعِ الثَّلاَثَةِ الَّتِي
أَسَاسُهَا الْكَذِبُ وَعَدَمُهُ هُوَ اصْطِلاَحُ الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَمُوَافِقُوهُمْ لاَ يُقَسِّمُونَ الْيَمِينَ إِلَى
الأَْنْوَاعِ الثَّلاَثَةِ، وَإِنَّمَا يُقَسِّمُونَهَا - مِنْ حَيْثُ
الْقَصْدُ وَعَدَمُهُ - إِلَى قِسْمَيْنِ فَقَطْ، وَهُمَا: اللَّغْوُ
وَالْمَعْقُودَةُ. فَاللَّغْوُ هِيَ الَّتِي لَمْ تُقْصَدْ، وَكَذَا
الَّتِي قُصِدَتْ وَكَانَتْ إِخْبَارًا عَنِ الظَّنِّ،
وَالْمَعْقُودَةُ هِيَ الَّتِي قُصِدَتْ وَكَانَتْ لِلْحَمْل أَوِ
الْمَنْعِ، أَوْ كَانَتْ لِلإِْخْبَارِ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا عَمْدًا.
أَحْكَامُ الأَْيْمَانِ الْقَسَمِيَّةِ:
حُكْمُ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ:
الْيَمِينُ الْغَمُوسُ لَهَا حُكْمَانِ: حُكْمُ الإِْتْيَانِ بِهَا،
وَالْحُكْمُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى تَمَامِهَا.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
حُكْمُ الإِْتْيَانِ بِهَا:
108 - الإِْتْيَانُ بِالْيَمِينِ الْغَمُوسِ حَرَامٌ، وَمِنَ
الْكَبَائِرِ بِلاَ خِلاَفٍ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْجُرْأَةِ
الْعَظِيمَةِ عَلَى اللَّهِ
__________
(1) أسنى المطالب 4 / 241.
(2) مطالب أولي النهى 6 / 368.
(7/286)
تَعَالَى، حَتَّى قَال الشَّيْخُ أَبُو
مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ؛ كَانَ الْقِيَاسُ عِنْدِي أَنَّ
مُتَعَمِّدَ الْحَلِفِ بِاللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْكَذِبِ يَكْفُرُ؛
لأَِنَّ الْيَمِينَ بِهِ عَزَّ وَجَل جُعِلَتْ لِتَعْظِيمِهِ،
وَالْمُتَعَمِّدُ لِلْيَمِينِ بِهِ عَلَى الْكَذِبِ مُسْتَخِفٌّ بِهِ،
لَكِنَّهُ لاَ يَكْفُرُ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ غَرَضُهُ الْجُرْأَةَ عَلَى
اللَّهِ وَالاِسْتِخْفَافَ بِهِ، وَإِنَّمَا غَرَضُهُ الْوُصُول إِلَى
مَا يُرِيدُهُ مِنْ تَصْدِيقِ السَّامِعِ لَهُ.
وَنَظِيرُ هَذَا مَا يُرْوَى أَنَّ رَجُلاً سَأَل أَبَا حَنِيفَةَ
قَائِلاً: إِنَّ الْعَاصِيَ يُطِيعُ الشَّيْطَانَ، وَمَنْ أَطَاعَ
الشَّيْطَانَ فَقَدْ كَفَرَ، فَكَيْفَ لاَ يَكْفُرُ الْعَاصِي؟ فَقَال:
إِنَّ مَا يَفْعَلُهُ الْعَاصِي هُوَ فِي ظَاهِرِهِ طَاعَةٌ
لِلشَّيْطَانِ، وَلَكِنَّهُ لاَ يَقْصِدُ هَذِهِ الطَّاعَةَ فَلاَ
يَكْفُرُ؛ لأَِنَّ الْكُفْرَ عَمَل الْقَلْبِ، وَإِنَّمَا يُعَدُّ
مُؤْمِنًا عَاصِيًا فَقَطْ.
ثُمَّ إِنَّهُ لاَ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهَا مِنَ الْكَبَائِرِ أَنْ
تَكُونَ جَمِيعُهَا مُسْتَوِيَةً فِي الإِْثْمِ، فَالْكَبَائِرُ
تَتَفَاوَتُ دَرَجَاتُهَا حَسَبَ تَفَاوُتِ آثَارِهَا السَّيِّئَةِ،
فَالْحَلِفُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ سَفْكُ دَمِ الْبَرِيءِ،
أَوْ أَكْل الْمَال بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْ نَحْوِهِمَا، أَشَدُّ حُرْمَةً
مِنَ الْحَلِفِ الَّذِي لاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.
109 - وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي ذَمِّ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ
وَبَيَانِ أَنَّهَا مِنَ الْكَبَائِرِ وَالتَّرْهِيبِ مِنَ
الإِْقْدَامِ عَلَيْهَا.
مِنْهَا: مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال: مَنْ حَلَفَ عَلَى مَال امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقِّهِ
لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ (1) قَال عَبْدُ اللَّهِ:
ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا رَسُول اللَّهِ
__________
(1) حديث: " من حلف. . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 239) ط السلفية،
ومسلم (1 / 85) نشر دار الآفاق.
(7/286)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِصْدَاقَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {إِنَّ الَّذِينَ
يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً} إِلَى
آخِرِ الآْيَةِ (1) .
وَعَنْ وَائِل بْنِ حُجْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: جَاءَ رَجُلٌ
مِنْ حَضْرَمَوْتَ وَرَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال الْحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُول اللَّهِ
إِنَّ هَذَا قَدْ غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ كَانَتْ لأَِبِي، فَقَال
الْكِنْدِيُّ: هِيَ أَرْضِي فِي يَدِي أَزْرَعُهَا لَيْسَ لَهُ فِيهَا
حَقٌّ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِلْحَضْرَمِيِّ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قَال: لاَ، قَال: فَلَكَ
يَمِينُهُ. قَال: يَا رَسُول اللَّهِ: إِنَّ الرَّجُل فَاجِرٌ، لاَ
يُبَالِي عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ يَتَوَرَّعُ عَنْ
شَيْءٍ. فَقَال: لَيْسَ لَهُ مِنْهُ إِلاَّ يَمِينُهُ. فَانْطَلَقَ
لِيَحْلِفَ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَمَّا أَدْبَرَ: (2) لَئِنْ حَلَفَ عَلَى مَالٍ لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا،
لَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ (3)
وَقَال الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ
عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مِنْ
أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ: الإِْشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ
الْوَالِدَيْنِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ
لاَ يَحْلِفُ رَجُلٌ عَلَى مِثْل جَنَاحِ بَعُوضَةٍ إِلاَّ كَانَتْ
كَيًّا فِي قَلْبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (4) .
__________
(1) سورة آل عمران / 77.
(2) الظاهر أن الرجل في أثناء الدعوى كان مستقبلا للنبي صلى الله عليه
وسلم مستدبرا للقبلة، فلما توجهت عليه اليمين أدبر، ليكون عند المنبر
تعظيما لليمين. وتسمى " اليمين المعظمة " كما سبق.
(3) حديث: " ليس لك منه. . . " أخرجه مسلم (1 / 86) نشر دار الآفاق.
(4) حديث: " من أكبر الكبائر: الإشراك بالله. . . " أخرجه الترمذي (4 /
548) نشر مصطفى البابي الحلبي، والحاكم (4 / 296) ط دار الكتاب العربي
واللفظ له، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(7/287)
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُول: مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ
فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ،
فَقَال رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُول اللَّهِ؟
قَال: وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ (1) .
التَّرْخِيصُ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ لِلضَّرُورَةِ:
110 - إِنَّ حُرْمَةَ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ هِيَ الأَْصْل، فَإِذَا
عَرَضَ مَا يُخْرِجُهَا عَنِ الْحُرْمَةِ لَمْ تَكُنْ حَرَامًا،
وَيَدُل عَلَى هَذَا.
(أَوَّلاً) قَوْله تَعَالَى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ
إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ
وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ
اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (2) .
فَإِذَا كَانَ الإِْكْرَاهُ يُبِيحُ كَلِمَةَ الْكُفْرِ فَإِبَاحَتُهُ
لِلْيَمِينِ الْغَمُوسِ أَوْلَى.
(ثَانِيًا) آيَاتُ الاِضْطِرَارِ إِلَى أَكْل الْمَيْتَةِ وَمَا
شَاكَلَهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ
عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) .
فَإِذَا أَبَاحَتِ الضَّرُورَةُ تَنَاوُل الْمُحَرَّمَاتِ أَبَاحَتِ
النُّطْقَ بِمَا هُوَ مُحَرَّمٌ.
111 - وَإِلَيْكَ نُصُوصُ بَعْضِ الْمَذَاهِبِ فِي بَيَانِ مَا
تَخْرُجُ بِهِ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ عَنِ الْحُرْمَةِ.
(أ) قَال الدَّرْدِيرُ فِي أَقْرَبِ الْمَسَالِكِ وَشَرْحِهِ،
وَالصَّاوِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ مَا خُلاَصَتُهُ: لاَ يَقَعُ الطَّلاَقُ
عَلَى مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الطَّلاَقِ وَلَوْ تَرَكَ التَّوْرِيَةَ
مَعَ
__________
(1) حديث: " من اقتطع حق امرئ مسلم. . . " أخرجه مسلم (1 / 85) نشر دار
الآفاق.
(2) سورة النحل / 106.
(3) سورة البقرة / 173.
(7/287)
مَعْرِفَتِهِ بِهَا، وَلاَ عَلَى مَنْ
أُكْرِهَ عَلَى فِعْل مَا عَلَّقَ عَلَيْهِ الطَّلاَقَ. وَنُدِبَ أَوْ
وَجَبَ الْحَلِفُ لِيَسْلَمَ الْغَيْرُ مِنَ الْقَتْل بِحَلِفِهِ
وَإِنْ حَنِثَ هُوَ، وَذَلِكَ فِيمَا إِذَا قَال ظَالِمٌ: إِنْ لَمْ
تُطَلِّقْ زَوْجَتَكَ، أَوْ إِنْ لَمْ تَحْلِفْ بِالطَّلاَقِ قَتَلْتُ
فُلاَنًا، قَال ابْنُ رُشْدٍ: إِنْ لَمْ يَحْلِفْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ
حَرَجٌ، أَيْ لاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَلاَ ضَمَانَ، وَمِثْل الطَّلاَقِ:
النِّكَاحُ وَالإِْقْرَارُ وَالْيَمِينُ. (1)
(ب) قَال النَّوَوِيُّ: الْكَذِبُ وَاجِبٌ إِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ
وَاجِبًا، فَإِذَا اخْتَفَى مُسْلِمٌ مِنْ ظَالِمٍ، وَسَأَل عَنْهُ
وَجَبَ الْكَذِبُ بِإِخْفَائِهِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ عِنْدَهُ أَوْ
عِنْدَ غَيْرِهِ وَدِيعَةٌ، وَسَأَل عَنْهَا ظَالِمٌ يُرِيدُ أَخْذَهَا
وَجَبَ عَلَيْهِ الْكَذِبُ بِإِخْفَائِهَا، حَتَّى لَوْ أَخْبَرَهُ
بِوَدِيعَةٍ عِنْدَهُ فَأَخَذَهَا الظَّالِمُ قَهْرًا وَجَبَ
ضَمَانُهَا عَلَى الْمُودِعِ الْمُخْبِرِ، وَلَوِ اسْتَحْلَفَهُ
عَلَيْهَا لَزِمَهُ أَنْ يَحْلِفَ، وَيُوَرِّيَ فِي يَمِينِهِ، فَإِنْ
حَلَفَ وَلَمْ يُوَرِّ حَنِثَ عَلَى الأَْصْل وَقِيل: لاَ يَحْنَثُ.
(2)
(ج) وَقَال مُوَفَّقُ الدِّينِ بْنُ قُدَامَةَ: مِنَ الأَْيْمَانِ مَا
هِيَ وَاجِبَةٌ، وَهِيَ الَّتِي يُنَجِّي بِهَا إِنْسَانًا مَعْصُومًا
مِنْ هَلَكَةٍ، كَمَا رُوِيَ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ حَنْظَلَةَ قَال:
خَرَجْنَا نُرِيدُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَمَعَنَا وَائِل بْنُ حُجْرٍ، فَأَخَذَهُ عَدُوٌّ لَهُ، فَتَحَرَّجَ
الْقَوْمُ أَنْ يَحْلِفُوا، فَحَلَفْتُ أَنَا: أَنَّهُ أَخِي،
فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقْتَ،
الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ (3) فَهَذَا وَمِثْلُهُ
__________
(1) الشرح الصغير بحاشية الصاوي 1 / 450 - 451.
(2) الأذكار للنووي ص 336 - 337.
(3) حديث: " صدقت، المسلم أخو المسلم " أخرجه أبو داود (3 / 73) ط عزت
عبيد دعاس، وأخرجه الحاكم (4 / 300) ط دار الكتاب العربي وقال: صحيح
الإسناد ولم يخرجاه.
(7/288)
وَاجِبٌ؛ لأَِنَّ إِنْجَاءَ الْمَعْصُومِ
وَاجِبٌ، وَقَدْ تَعَيَّنَ فِي الْيَمِينِ فَيَجِبُ، وَكَذَلِكَ
إِنْجَاءُ نَفْسِهِ، مِثْل: أَنْ تَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ أَيْمَانُ
الْقَسَامَةِ فِي دَعْوَى الْقَتْل عَلَيْهِ وَهُوَ بَرِيءٌ (1)
الْحُكْمُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى تَمَامِهَا:
112 - فِي الْحُكْمِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى تَمَامِ الْغَمُوسِ
ثَلاَثَةُ آرَاءٍ.
الرَّأْيُ الأَْوَّل: أَنَّهَا لاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهَا سَوَاءٌ
أَكَانَتْ عَلَى مَاضٍ أَمْ حَاضِرٍ، وَكُل مَا يَجِبُ إِنَّمَا هُوَ
التَّوْبَةُ، وَرَدُّ الْحُقُوقِ إِلَى أَهْلِهَا إِنْ كَانَ هُنَاكَ
حُقُوقٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ. (2)
الرَّأْيُ الثَّانِي: أَنَّ فِيهَا الْكَفَّارَةَ، وَهَذَا مَذْهَبُ
الشَّافِعِيَّةِ، (3) وَيُلاَحَظُ أَنَّهُمْ فِي تَعْرِيفِ الْغَمُوسِ
خَصُّوهَا بِالْمَاضِي، لَكِنْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ إِيجَابَ
الْكَفَّارَةِ فِي الْحَلِفِ عَلَى الْمَاضِي يَسْتَلْزِمُ إِيجَابَهَا
فِي الْحَلِفِ عَلَى الْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَل؛ لأَِنَّهُمْ
قَالُوا: إِنَّ كُل مَا عَدَا اللَّغْوَ مَعْقُودٌ.
الرَّأْيُ الثَّالِثُ: التَّفْصِيل، وَقَدْ أَوْضَحَهُ الْمَالِكِيَّةُ
بِنَاءً عَلَى تَوَسُّعِهِمْ فِي مَعْنَاهَا، فَقَالُوا: مَنْ حَلَفَ
عَلَى مَا هُوَ مُتَرَدِّدٌ فِيهِ أَوْ مُعْتَقِدٌ خِلاَفَهُ فَلاَ
كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مَاضِيًا، سَوَاءٌ أَكَانَ مُوَافِقًا
لِلْوَاقِعِ أَمْ مُخَالِفًا، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إِنْ كَانَ
حَاضِرًا أَوْ مُسْتَقْبَلاً وَكَانَ فِي الْحَالَيْنِ مُخَالِفًا
لِلْوَاقِعِ. (4)
وَإِلَى التَّفْصِيل ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا، حَيْثُ
__________
(1) المغني على الشرح الكبير 11 / 166 - 167.
(2) فتح القدير 4 / 3.
(3) أسنى المطالب 4 / 240 - 241.
(4) الشرح الصغير بحاشية الصاوي 1 / 330 - 331.
(7/288)
اقْتَصَرُوا فِي تَعْرِيفِ الْغَمُوسِ
عَلَى مَا كَانَتْ عَلَى الْمَاضِي، وَشَرَطُوا فِي كَفَّارَةِ
الْيَمِينِ أَنْ تَكُونَ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ فَيُؤْخَذُ مِنْ مَجْمُوعِ
كَلاَمِهِمْ أَنَّ الْحَلِفَ عَلَى الْكَذِبِ عَمْدًا لاَ كَفَّارَةَ
فِيهِ إِنْ كَانَ عَلَى مَاضٍ أَوْ حَاضِرٍ، وَفِيهِ الْكَفَّارَةُ
إِنْ كَانَ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ. (1)
113 - احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْغَمُوسِ
بِأَنَّهَا مَكْسُوبَةٌ مَعْقُودَةٌ، إِذِ الْكَسْبُ فِعْل الْقَلْبِ،
وَالْعَقْدُ: الْعَزْمُ، وَلاَ شَكَّ أَنَّ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى
الْحَلِفِ بِاللَّهِ تَعَالَى كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا فَهُوَ فَاعِلٌ
بِقَلْبِهِ وَعَازِمٌ وَمُصَمِّمٌ، فَهُوَ مُؤَاخَذٌ. وَقَدْ أَجْمَل
اللَّهُ عَزَّ وَجَل الْمُؤَاخَذَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَقَال:
{لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ
يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} (2) وَفَصَّلَهَا فِي
سُورَةِ الْمَائِدَةِ، فَقَال: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ
فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ
الأَْيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ. . .} (3)
عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ أَحَقُّ بِالتَّكْفِيرِ مِنْ
سَائِرِ الأَْيْمَانِ الْمَعْقُودَةِ؛ لأَِنَّ ظَاهِرَ الآْيَتَيْنِ،
يَنْطَبِقُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ
وَجَل جَعَل الْمُؤَاخَذَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَلَى الْكَسْبِ
بِالْقَلْبِ، وَفِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ عَلَى تَعْقِيدِ الأَْيْمَانِ
وَإِرَادَتِهَا، وَهَذَا مُنْطَبِقٌ أَعْظَمَ انْطِبَاقٍ عَلَى
الْيَمِينِ الْغَمُوسِ؛ لأَِنَّهَا حَانِثَةٌ مِنْ حِينِ إِرَادَتِهَا
وَالنُّطْقِ بِهَا، فَالْمُؤَاخَذَةُ مُقَارِنَةٌ لَهَا، بِخِلاَفِ
سَائِرِ الأَْيْمَانِ الْمَعْقُودَةِ، فَإِنَّهُ لاَ مُؤَاخَذَةَ
__________
(1) مطالب أولي النهى 6 / 368.
(2) سورة البقرة / 225.
(3) سورة المائدة / 89.
(7/289)
عَلَيْهَا إِلاَّ عِنْدَ الْحِنْثِ فِيهَا،
فَهِيَ مُحْتَاجَةٌ فِي تَطْبِيقِ الآْيَتَيْنِ عَلَيْهَا إِلَى
تَقْدِيرٍ، بِأَنْ يُقَال: إِنَّ الْمَعْنَى: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ
بِالْحِنْثِ فِيمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ، وَبِالْحِنْثِ فِي
أَيْمَانِكُمُ الْمَعْقُودَةِ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ
كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} (1) مَعْنَاهُ: إِذَا
حَلَفْتُمْ وَحَنِثْتُمْ.
114 - وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى عَدَمِ
وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ بِمَا يَأْتِي:
أَوَّلاً: قَال اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ
بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ لاَ
خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآْخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ
يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2) .
ثَانِيًا: مَا رَوَاهُ الأَْشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ حَلَفَ
عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَال امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ
فِيهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ (3) .
وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل بِالآْيَةِ وَالْحَدِيثَيْنِ وَمَا
مَعْنَاهُمَا: أَنَّ هَذِهِ النُّصُوصَ أَثْبَتَتْ أَنَّ حُكْمَ
الْغَمُوسِ الْعَذَابُ فِي الآْخِرَةِ، فَمَنْ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ
فَقَدْ زَادَ عَلَى النُّصُوصِ.
ثَالِثًا: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
خَمْسٌ لَيْسَ لَهُنَّ
__________
(1) سورة المائدة / 89.
(2) سورة آل عمران / 77.
(3) حديث: " من حلف على يمين صبر. . . " أخرجه البخاري (8 / 212) ط
السلفية، ومسلم (1 / 86) ط دار الآفاق. وقوله (صبر) بفتح الصاد وسكون
الباء معناه: اليمين التي تلزم ويجبر حالفها عليها، وتسمى مصبورة أيضا:
لأن القاضي يصبر صاحبها أي يحبسه حتى يؤديها. (ر: فيض القدير 6 / 120)
.
(7/289)
كَفَّارَةٌ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ عَزَّ
وَجَل، وَقَتْل النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَبَهْتُ مُؤْمِنٍ،
وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ، وَيَمِينٌ صَابِرَةٌ يَقْتَطِعُ بِهَا
مَالاً بِغَيْرِ حَقٍّ (1) .
حُكْمُ الْيَمِينِ اللَّغْوِ:
115 - سَبَقَ بَيَانُ اخْتِلاَفِ الْمَذَاهِبِ فِي تَفْسِيرِ يَمِينِ
اللَّغْوِ، فَمَنْ فَسَّرُوهَا بِالْيَمِينِ عَلَى الاِعْتِقَادِ أَوْ
بِالْيَمِينِ غَيْرِ الْمَقْصُودَةِ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهَا لاَ
إِثْمَ فِيهَا مِنْ حَيْثُ ذَاتُهَا وَلاَ كَفَّارَةَ لَهَا.
لَكِنْ لَمَّا فَسَّرَهَا الْمَالِكِيَّةُ بِمَعْنًى شَامِلٍ
لِلْمُسْتَقْبَل قَالُوا: إِنَّهَا تُكَفَّرُ إِذَا كَانَتْ عَلَى
مُسْتَقْبَلٍ وَحَنِثَ فِيهَا، كَمَا لَوْ حَلَفَ: أَنْ يَفْعَل كَذَا،
أَوْ أَلاَّ يَفْعَل كَذَا غَدًا، وَهُوَ مُعْتَقِدٌ أَنَّ مَا حَلَفَ
عَلَى فِعْلِهِ سَيَحْصُل، وَمَا حَلَفَ عَلَى عَدَمِ فِعْلِهِ لَنْ
يَحْصُل، فَوَقَعَ خِلاَفُ مَا اعْتَقَدَهُ (2) وَهُمْ لاَ
يُخَالِفُونَ الْحَنَفِيَّةَ فِي ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ
لاَ يُسَمُّونَ الْحَلِفَ عَلَى الْمُسْتَقْبَل لَغْوًا كَمَا
تَقَدَّمَ.
وَمَنْ فَسَّرُوهَا بِالْيَمِينِ عَلَى الْمَعَاصِي اخْتَلَفُوا، هَل
تُكَفَّرُ بِالْحِنْثِ أَوْ لاَ تُكَفَّرُ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَال: لاَ
كَفَّارَةَ لَهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ
بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} لأَِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ اللَّهَ
عَزَّ وَجَل لاَ يُؤَاخِذُ مَنْ حَلَفَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ إِذَا لَمْ
يُنَفِّذْ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّ التَّنْفِيذَ حَرَامٌ،
وَاجْتِنَابَهُ وَاجِبٌ، فَإِذَا اجْتَنَبَهُ فَقَدْ أَدَّى مَا
عَلَيْهِ، فَلاَ يُطَالَبُ بِكَفَّارَةٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَال: يَجِبُ عَلَى الْحَالِفِ الْحِنْثُ،
__________
(1) حديث: " خمس ليس لهن كفارة. . . " أخرجه أحمد (2 / 361، 362 ط
المكتب الإسلامي) وقال السيوطي: إسناده حسن (فيض القدير 4 / 458) .
(2) الشرح الصغير بحاشية الصاوي 1 / 331.
(7/290)
وَإِذَا حَنِثَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ
الْكَفَّارَةُ؛ لأَِنَّ قَوْله تَعَالَى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ
بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} يُرَادُ بِهِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ
وَجَل لاَ يُؤَاخِذُ مَنْ حَلَفَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ إِذَا حَنِثَ
وَلَمْ يُنَفِّذْ، فَلاَ يُعَاقِبُهُ عَلَى هَذَا الْحِنْثِ، بَل
يُوجِبُهُ عَلَيْهِ، وَيَأْمُرُهُ بِهِ، فَإِذَا حَنِثَ وَجَبَ
عَلَيْهِ التَّكْفِيرُ، عَمَلاً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ
كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ:
أَنَّ مَا ذُكِرَ هُوَ كَفَّارَةُ الأَْيْمَانِ مُطْلَقًا لَغْوًا
وَمَعْقُودَةً.
وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا
الْيَمِينُ بِغَيْرِهِ فَسَيَأْتِي الْكَلاَمُ عَلَى اللَّغْوِ فِيهَا.
أَحْكَامُ الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ:
الْيَمِينُ الْمَعْقُودَةُ لَهَا ثَلاَثَةُ أَحْكَامٍ: حُكْمُ
الإِْتْيَانِ بِهَا، وَحُكْمُ الْبِرِّ وَالْحِنْثِ فِيهَا،
وَالْحُكْمُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى الْبِرِّ وَالْحِنْثِ.
وَبَيَانُهَا كَمَا يَلِي:
أ - حُكْمُ الإِْتْيَانِ بِهَا:
116 - قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الأَْصْل فِي
الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى الإِْبَاحَةُ، وَالإِْكْثَارُ مِنْهَا
مَذْمُومٌ.
وَهَذَا هُوَ الْحُكْمُ الأَْصْلِيُّ لِلْيَمِينِ، فَلاَ يُنَافِي
أَنَّهُ قَدْ تَعْرِضُ لِلْيَمِينِ أُمُورٌ تُخْرِجُهَا عَنْ هَذَا
الْحُكْمِ، كَمَا فِي الْمَذَاهِبِ الآْتِيَةِ الَّتِي ذَكَرَتِ
الأَْحْكَامَ تَفْصِيلاً.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الأَْصْل فِي الْيَمِينِ الْكَرَاهَةُ إِلاَّ
فِي طَاعَةٍ، أَوْ لِحَاجَةٍ دِينِيَّةٍ، أَوْ فِي دَعْوَى عِنْدَ
حَاكِمٍ، أَوْ فِي تَرْكِ وَاجِبٍ عَلَى التَّعْيِينِ أَوْ فِعْل
حَرَامٍ (1) وَهَذَا
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 3 / 46، وبداية المجتهد 1 /
396، وتفسير القرطبي 3 / 97، والتحفة بحاشية الشرواني 8 / 216، ونهاية
المحتاج 8 / 170، والبجيرمي على منهج الطلاب 4 / 320.
(7/290)
إِجْمَالٌ تَوْضِيحُهُ فِيمَا يَلِي:
الأَْصْل فِي الْيَمِينِ الْكَرَاهَةُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ
تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَِيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا
وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} (1) وَقَوْلِهِ عَزَّ
وَجَل: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} (2) وَلِحَدِيثِ: إِنَّمَا
الْحَلِفُ حِنْثٌ أَوْ نَدَمٌ (3) .
وَقَدْ يُقَال: إِنَّ الآْيَةَ الأُْولَى يُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ
مَعْنَاهَا: لاَ تَجْعَلُوا الْحَلِفَ بِاللَّهِ حَاجِزًا لِمَا
حَلَفْتُمْ عَلَى تَرْكِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ، بِنَاءً عَلَى
أَنَّ الْعُرْضَةَ مَعْنَاهَا: الْحَاجِزُ وَالْمَانِعُ،
وَالأَْيْمَانُ مَعْنَاهَا: الأُْمُورُ الَّتِي حَلَفْتُمْ عَلَى
تَرْكِهَا. وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا: لاَ تَجْعَلُوا
اللَّهَ نَصْبًا لأَِيْمَانِكُمْ، فَتَبْذُلُوهُ بِكَثْرَةِ الْحَلِفِ
بِهِ فِي كُل حَقٍّ وَبَاطِلٍ؛ لأَِنَّ فِي ذَلِكَ نَوْعَ جُرْأَةٍ
عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.
فَالآْيَةُ الأُْولَى لاَ تَدُل عَلَى حُكْمِ الْحَلِفِ، وَعَلَى
الاِحْتِمَال الثَّانِي تَدُل عَلَى كَرَاهَةِ الإِْكْثَارِ، لاَ
كَرَاهَةِ أَصْل الْحَلِفِ.
وَالآْيَةُ الثَّانِيَةُ: يُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا طَلَبُ
حِفْظِ الأَْيْمَانِ الْمَحْلُوفَةِ عَنِ الْحِنْثِ، إِذَا كَانَ
الْوَفَاءُ بِهَا لاَ مَانِعَ مِنْهُ، فَتَدُل عَلَى كَرَاهَةِ
الْحِنْثِ أَوْ حُرْمَتِهِ، وَلاَ شَأْنَ لَهَا بِالإِْقْدَامِ عَلَى
الْحَلِفِ، وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا طَلَبَ حِفْظِ
الأَْيْمَانِ الَّتِي فِي الْقُلُوبِ
__________
(1) سورة البقرة / 224.
(2) سورة المائدة / 89.
(3) حديث: " إنما الحلف حنث أو ندم " قال المناوي: أخرجه ابن ماجه (1 /
680) وأبو يعلى كلاهما من حديث بشار بن كدام عن محمد بن زيد عن ابن عمر
رضي الله عنهما مرفوعا. قال الذهبي: وبشار ضعفه أبو زرعة وغيره (ر: فيض
القدير 2 / 560) .
(7/291)
عَنِ الإِْظْهَارِ، فَيَكُونُ الْمَطْلُوبُ
تَرْكَ الأَْيْمَانِ حَذَرًا مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ
الْحِنْثِ وَالْكَفَّارَةِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الإِْقْدَامُ عَلَى
الْيَمِينِ مَكْرُوهًا إِلاَّ لِعَارِضٍ يُخْرِجُهُ عَنِ الْكَرَاهَةِ
إِلَى حُكْمٍ آخَرَ.
وَالْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ بَعْدَ الآْيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ
ضَعِيفُ الإِْسْنَادِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ فَيْضِ الْقَدِيرِ، وَعَلَى
فَرْضِ صِحَّتِهِ فَالْحَصْرُ فِيهِ إِنَّمَا يَصِحُّ فِيمَنْ يُكْثِرُ
الْحَلِفَ مِنْ غَيْرِ مُبَالاَةٍ، فَيَقَعُ فِي بَعْضِ الأَْحْيَانِ
فِي الْحِنْثِ، وَفِي بَعْضِهَا يَأْتِي بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ
كَارِهًا لَهُ مُسْتَثْقِلاً إِيَّاهُ، نَادِمًا عَلَى مَا كَانَ
مِنْهُ مِنَ الْحَلِفِ.
117 - وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ شَبِيهٌ بِمَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ،
إِذِ الأَْصْل عِنْدَهُمُ الإِْبَاحَةُ، إِلاَّ أَنَّهُمْ فَصَّلُوا،
فَقَالُوا: تَنْقَسِمُ الْيَمِينُ إِلَى وَاجِبَةٍ، وَمَنْدُوبَةٍ،
وَمُبَاحَةٍ، وَمَكْرُوهَةٍ، وَحَرَامٍ.
فَتَجِبُ لإِِنْجَاءِ مَعْصُومٍ مِنْ مَهْلَكَةٍ، وَلَوْ نَفْسَهُ،
كَأَيْمَانِ قَسَامَةٍ تَوَجَّهَتْ عَلَى بَرِيءٍ مِنْ دَعْوَى قَتْلٍ.
وَتُنْدَبُ لِمَصْلَحَةٍ، كَإِزَالَةِ حِقْدٍ وَإِصْلاَحٍ بَيْنَ
مُتَخَاصِمَيْنِ وَدَفْعِ شَرٍّ وَهُوَ صَادِقٌ فِيهَا.
وَتُبَاحُ عَلَى فِعْلٍ مُبَاحٍ أَوْ تَرْكِهِ، كَمَنْ حَلَفَ لاَ
يَأْكُل سَمَكًا مَثَلاً أَوْ لَيَأْكُلَنَّهُ، وَكَالْحَلِفِ عَلَى
الْخَبَرِ بِشَيْءٍ هُوَ صَادِقٌ فِيهِ، أَوْ يَظُنُّ أَنَّهُ صَادِقٌ.
وَتُكْرَهُ عَلَى فِعْل مَكْرُوهٍ، كَمَنْ حَلَفَ لَيُصَلِيَنَّ وَهُوَ
حَاقِنٌ (1) أَوْ لَيَأْكُلَنَّ بَصَلاً نِيئًا (2) وَمِنْهُ الْحَلِفُ
فِي
__________
(1) الحاقن: هو الذي يحبس البول. وإنما كرهت صلاته لمنعه الخشوع.
(2) النيء بكسر النون بوزن الفيل. هو الذي لم ينضج بطبخ أو شي. وقد
تبدل الهمزة ياء وتدغم في الياء التي قبلها فيقال: ني بكسر النون
وتشديد الياء.
(7/291)
الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَلِفُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ
مَمْحَقَةٌ لِلْبَرَكَةِ (1) أَوْ عَلَى تَرْكِ مَنْدُوبٍ كَحَلِفِهِ
لاَ يُصَلِّي الضُّحَى.
وَتَحْرُمُ عَلَى فِعْل مُحَرَّمٍ، كَشُرْبِ خَمْرٍ، أَوْ عَلَى تَرْكِ
وَاجِبٍ، كَمَنْ حَلَفَ لاَ يَصُومُ رَمَضَانَ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ.
ثُمَّ إِنَّ إِبَاحَتَهَا عَلَى فِعْل مُبَاحٍ أَوْ تَرْكِهِ مَا لَمْ
تَتَكَرَّرْ، فَالتَّكْرَارُ خِلاَفُ السُّنَّةِ، فَإِنْ أَفْرَطَ
فِيهِ كُرِهَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُطِعْ كُل حَلاَّفٍ
مَهِينٍ} (2) وَهُوَ ذَمٌّ لَهُ يَقْتَضِي كَرَاهَةَ الإِْكْثَارِ. (3)
وَهَذَا التَّقْسِيمُ لاَ تَأْبَاهُ الْمَذَاهِبُ الأُْخْرَى.
ب - حُكْمُ الْبِرِّ وَالْحِنْثِ فِيهَا:
118 - الْيَمِينُ الْمَعْقُودَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَلَى فِعْلٍ
وَاجِبٍ أَوْ تَرْكِ مَعْصِيَةٍ أَوْ عَكْسِهِمَا، أَوْ فِعْل مَا هُوَ
أَوْلَى أَوْ تَرْكِ مَا تَرْكُهُ أَوْلَى أَوْ عَكْسِهِمَا، أَوْ
فِعْل مَا اسْتَوَى طَرَفَاهُ أَوْ تَرْكِهِ.
فَالْيَمِينُ عَلَى فِعْل وَاجِبٍ أَوْ تَرْكِ مَعْصِيَةٍ، كَوَاللَّهِ
لأَُصَلِيَنَّ الظُّهْرَ الْيَوْمَ، أَوْ لاَ أَسْرِقُ اللَّيْلَةَ،
يَجِبُ الْبِرُّ فِيهَا وَيَحْرُمُ الْحِنْثُ، وَلاَ خِلاَفَ فِي
ذَلِكَ كَمَا لاَ يَخْفَى.
وَالْيَمِينُ عَلَى فِعْل مَعْصِيَةٍ أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ، كَوَاللَّهِ
لأََسْرِقَنَّ اللَّيْلَةَ أَوْ لاَ أُصَلِّي الظُّهْرَ الْيَوْمَ
يَحْرُمُ الْبِرُّ فِيهَا وَيَجِبُ الْحِنْثُ، وَظَاهِرٌ أَنَّهُ لاَ
خِلاَفَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا.
__________
(1) حديث: " الحلف منفقة للسلعة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 315)
ومسلم (3 / 1228) ط عيسى البابي الحلبي (ر: فيض القدير 3 / 417) .
(2) سورة القلم / 10.
(3) مطالب أولي النهى 6 / 365، 367.
(7/292)
لَكِنْ يَنْبَغِي التَّنَبُّهُ إِلَى أَنَّ
الْحَلِفَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ الْمُطْلَقَةِ عَنِ التَّوْقِيتِ
يَلْزَمُهُ فِيهَا الْعَزْمُ عَلَى الْحِنْثِ؛ لأَِنَّ الْحِنْثَ
فِيهَا إِنَّمَا يَكُونُ بِالْمَوْتِ وَنَحْوِهِ.
وَالْيَمِينُ عَلَى فِعْل مَا فِعْلُهُ أَوْلَى أَوْ عَلَى تَرْكِ مَا
تَرْكُهُ أَوْلَى - كَوَاللَّهِ لأَُصَلِيَنَّ سُنَّةَ الصُّبْحِ أَوْ
لاَ أَلْتَفِتُ فِي الصَّلاَةِ - يُطْلَبُ الْبِرُّ فِيهَا وَهُوَ
أَوْلَى مِنَ الْحِنْثِ.
هَكَذَا عَبَّرَ الْحَنَفِيَّةُ الْقُدَامَى بِالأَْوْلَوِيَّةِ،
وَبَحَثَ الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ قَوْله
تَعَالَى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} (1) يَدُل عَلَى وُجُوبِ
الْبِرِّ وَعَدَمِ جَوَازِ الْحِنْثِ، وَرَجَّحَ ذَلِكَ ابْنُ
عَابِدِينَ وَغَيْرُهُ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ:
يُسَنُّ الْبِرُّ وَيُكْرَهُ الْحِنْثُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
وَالْيَمِينُ عَلَى تَرْكِ مَا فِعْلُهُ أَوْلَى، أَوْ فِعْل مَا
تَرْكُهُ أَوْلَى - كَوَاللَّهِ لاَ أُصَلِّي سُنَّةَ الصُّبْحِ أَوْ
لأََلْتَفِتَنَّ فِي الصَّلاَةِ - يُطْلَبُ الْحِنْثُ فِيهَا وَهُوَ
أَوْلَى مِنَ الْبِرِّ. هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُسَنُّ الْحِنْثُ فِي
هَذِهِ الْحَالَةِ وَيُكْرَهُ الْبِرُّ.
وَالْيَمِينُ عَلَى فِعْل مَا اسْتَوَى طَرَفَاهُ أَوْ عَلَى تَرْكِهِ
- كَوَاللَّهِ لأََتَغَدَّيَنَّ هَذَا الْيَوْمَ أَوْ لاَ أَتَغَدَّى
هَذَا الْيَوْمَ - يُطْلَبُ الْبِرُّ فِيهَا، وَهُوَ أَوْلَى مِنَ
الْحِنْثِ. هَكَذَا قَال الْحَنَفِيَّةُ الْقُدَامَى، وَمُقْتَضَى
بَحْثِ الْكَمَال وُجُوبُ الْبِرِّ وَعَدَمُ جَوَازِ الْحِنْثِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الْبِرُّ أَفْضَل، مَا لَمْ يَتَأَذَّ
بِذَلِكَ صَدِيقُهُ، كَمَنْ حَلَفَ لاَ يَأْكُل كَذَا، وَكَانَ
صَدِيقُهُ يَتَأَذَّى مِنْ تَرْكِ أَكْلِهِ إِيَّاهُ، فَيَنْعَكِسُ
الْحُكْمُ وَيَكُونُ الْحِنْثُ أَفْضَل.
__________
(1) سورة المائدة / 79.
(7/292)
وَمَقْصُودُ الشَّافِعِيَّةِ
بِالأَْفْضَلِيَّةِ الأَْوْلَوِيَّةُ، وَهِيَ الاِسْتِحْبَابُ غَيْرُ
الْمُؤَكَّدِ، وَيُقَال لِمُقَابِلِهَا خِلاَفُ الأَْوْلَى أَوْ
خِلاَفُ الأَْفْضَل، وَهُوَ أَقَل مِنَ الْمَكْرُوهِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُخَيَّرُ بَيْنَ الْبِرِّ وَالْحِنْثِ،
وَالْبِرُّ أَوْلَى، فَمَذْهَبُهُمْ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ. (1)
الْحَلِفُ عَلَى الْغَيْرِ وَاسْتِحْبَابِ إِبْرَارِ الْقَسَمِ:
119 - قَدْ يَحْلِفُ الإِْنْسَانُ عَلَى فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ
مَنْسُوبَيْنِ إِلَيْهِ، نَحْوُ: وَاللَّهِ لأََفْعَلَنَّ أَوْ لاَ
أَفْعَل، وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ. وَقَدْ يَحْلِفُ عَلَى فِعْلٍ أَوْ
تَرْكٍ مَنْسُوبَيْنِ إِلَى غَيْرِهِ، كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ
لَتَفْعَلَنَّ أَوْ لاَ تَفْعَل، وَقَوْلُهُ: وَاللَّهِ لَيَفْعَلَنَّ
فُلاَنٌ كَذَا أَوْ لاَ يَفْعَلُهُ.
وَأَحْكَامُ الْبِرِّ وَالْحِنْثِ السَّابِقُ ذِكْرُهَا إِنَّمَا هِيَ
فِيمَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْل نَفْسِهِ أَوْ تَرْكِهَا.
وَأَمَّا مَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْل غَيْرِهِ أَوْ تَرْكِهِ، مُخَاطَبًا
كَانَ أَوْ غَائِبًا، فَإِنَّهُ يَتَّفِقُ حُكْمُ التَّحْنِيثِ
وَالإِْبْرَارِ فِيهِ مَعَ حُكْمِ الْحِنْثِ وَالْبِرِّ السَّابِقَيْنِ
فِي بَعْضِ الصُّوَرِ وَيَخْتَلِفُ فِي بَعْضِهَا.
أ - فَمَنْ حَلَفَ عَلَى غَيْرِهِ أَنْ يَفْعَل وَاجِبًا أَوْ يَتْرُكَ
مَعْصِيَةً وَجَبَ إِبْرَارُهُ؛ لأَِنَّ الإِْبْرَارَ فِي هَذِهِ
الْحَالَةِ إِنَّمَا هُوَ قِيَامٌ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ أَوِ
انْتِهَاءٌ عَمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ.
ب - وَمَنْ حَلَفَ عَلَى غَيْرِهِ أَنْ يَفْعَل مَعْصِيَةً أَوْ
يَتْرُكَ وَاجِبًا لَمْ يَجُزْ إِبْرَارُهُ، بَل يَجِبُ تَحْنِيثُهُ؛
لِحَدِيثِ: لاَ طَاعَةَ لأَِحَدٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى (2)
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 3 / 62، ونهاية المحتاج 8 /
170، 171، وحاشية البجيرمي على منهج الطلاب 4 / 320، ومطالب أولي النهى
6 / 365، 366.
(2) حديث: " لا طاعة لأحد. . . " أخرجه أحمد (5 / 66) ، قال الهيثمي في
مجمع الزوائد (5 / 226) رواه أحمد في مسنده والحاكم في المستدرك من
حديث ابن الحصين. ورجال أحمد رجال الصحيح (ر: فيض القدير 6 / 432)
ورواه البخاري في صحيحه بلفظ: " لا طاعة في المعصية، إنما الطاعة في
المعروف " (الفتح 13 / 233) ط السلفية.
(7/293)
ج - وَمَنْ حَلَفَ عَلَى غَيْرِهِ أَنْ
يَفْعَل مَكْرُوهًا أَوْ يَتْرُكَ مَنْدُوبًا فَلاَ يَبَرُّهُ، بَل
يُحَنِّثُهُ نَدْبًا؛ لأَِنَّ طَاعَةَ اللَّهِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى
طَاعَةِ الْمَخْلُوقِ.
د - وَمَنْ حَلَفَ عَلَى غَيْرِهِ أَنْ يَفْعَل مَنْدُوبًا أَوْ
مُبَاحًا، أَوْ يَتْرُكَ مَكْرُوهًا أَوْ مُبَاحًا فَهَذَا يُطْلَبُ
إِبْرَارُهُ عَلَى سَبِيل الاِسْتِحْبَابِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ
بِحَدِيثِ الأَْمْرِ بِإِبْرَارِ الْقَسَمِ الَّذِي رَوَاهُ
الشَّيْخَانِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَال: أَمَرَنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِسَبْعٍ: أَمَرَنَا بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ
الْجَنَائِزِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ، أَوِ
الْمُقْسِمِ، (1) وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي،
وَإِفْشَاءِ السَّلاَمِ (2)
وَظَاهِرُ الأَْمْرِ الْوُجُوبُ، لَكِنِ اقْتِرَانُهُ بِمَا هُوَ
مُتَّفَقٌ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ - كَإِفْشَاءِ السَّلاَمِ -
قَرِينَةٌ صَارِفَةٌ عَنِ الْوُجُوبِ.
وَمِمَّا يَدُل عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَبَرَّ قَسَمَ أَبِي بَكْرٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَدْ رَوَى الشَّيْخَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حَدِيثًا طَوِيلاً يَشْتَمِل عَلَى رُؤْيَا
قَصَّهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) المقسم بضم الميم وكسر السين هو الحالف، ويروى بضم الميم وفتح
السين على أنه مصدر ميمي كالمدخل والمخرج والمقام، بمعنى الإدخال
والإخراج والإقامة، فالمقسم على هذا معناه الإقسام بكسر الهمزة (ر:
منتقى الأخبار مع شرحه نيل الأوطار 8 / 241) .
(2) حديث: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه البخاري
(الفتح 3 / 112، ط السلفية) ومسلم (3 / 1635) ط عيسى البابي الحلبي،
واللفظ له.
(7/293)
وَجَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَال
لِرَسُول اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي: أَصَبْتُ أَمْ أَخْطَأْتُ؟
فَقَال: أَصَبْتَ بَعْضًا وَأَخْطَأْتَ بَعْضًا. قَال: فَوَاللَّهِ
لَتُحَدِّثُنِي بِالَّذِي أَخْطَأْتُ، قَال: لاَ تُقْسِمْ (1)
فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لاَ تُقْسِمْ "
مَعْنَاهُ لاَ تُكَرِّرِ الْقَسَمَ الَّذِي أَتَيْتَ بِهِ؛ لأَِنِّي
لَنْ أُجِيبَكَ، وَلَعَل هَذَا الصَّنِيعَ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لاَ يَفْعَل خِلاَفَ الْمُسْتَحْسَنِ إِلاَّ
بِقَصْدِ بَيَانِ الْجَوَازِ، وَهُوَ يَدُل عَلَى أَنَّ الأَْمْرَ فِي
الْحَدِيثِ السَّابِقِ لَيْسَ لِلْوُجُوبِ، بَل لِلاِسْتِحْبَابِ. (2)
ج - الْحُكْمُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى الْبِرِّ وَالْحِنْثِ:
120 - الْيَمِينُ الْمَعْقُودَةُ إِذَا بَرَّ فِيهَا الْحَالِفُ لَمْ
تَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ كَمَا لاَ يَخْفَى، وَإِذَا حَنِثَ - بِأَنِ
انْتَفَى مَا أَثْبَتَهُ أَوْ ثَبَتَ مَا نَفَاهُ - لَزِمَتْهُ
الْكَفَّارَةُ، سَوَاءٌ أَكَانَ حَالِفًا عَلَى فِعْل مَعْصِيَةٍ أَوْ
تَرْكِ وَاجِبٍ أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ كَاذِبًا عَمْدًا أَوْ
خَطَأً أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ قَاصِدًا لِلْحَلِفِ أَمْ لاَ.
هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ، فَهُمْ يُوجِبُونَ
الْكَفَّارَةُ عَلَى مَنْ حَنِثَ فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى
عَلَى أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ لَيْسَ مُسْتَحِيلاً عَقْلاً عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَلَيْسَ مُسْتَحِيلاً عَادَةً أَيْضًا عِنْدَ
زُفَرَ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْحَالِفُ قَاصِدًا أَمْ غَيْرَ قَاصِدٍ،
وَكَذَا مَنْ حَلَفَ بِتَعْلِيقِ الْكُفْرِ.
__________
(1) حديث: " أصبت بعضا. . . " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 431) ط
السلفية، ومسلم (4 / 1777، 1778) ط عيسى الحلبي.
(2) نهاية المحتاج 8 / 169، وتحفة المحتاج بحاشية الشرواني 8 / 214،
والمغني بأعلى الشرح الكبير 11 / 247، ومطالب أولي النهى 6 / 367 -
368.
(7/294)
121 - وَالْمَالِكِيَّةُ يُخَالِفُونَ
الْحَنَفِيَّةَ فِي أُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ يُوجِبُونَ
الْكَفَّارَةَ فِي الْغَمُوسِ إِذَا كَانَتْ عَلَى أَمْرٍ حَاضِرٍ أَوْ
مُسْتَقْبَلٍ، وَالْحَنَفِيَّةُ لاَ يُوجِبُونَ الْكَفَّارَةَ فِيهَا
إِلاَّ إِذَا كَانَتْ عَلَى أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ مُمْكِنٍ عَقْلاً.
ثَانِيهَا: أَنَّهُمْ يُوجِبُونَ الْكَفَّارَةَ فِي الْحَلِفِ عَلَى
الْمُسْتَقْبَل الْمُسْتَحِيل عَقْلاً إِنْ كَانَ عَالِمًا
بِاسْتِحَالَتِهِ أَوْ مُتَرَدِّدًا فِيهَا، وَالْحَنَفِيَّةُ لاَ
يُوجِبُونَهَا مُطْلَقًا.
ثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ يُفَصِّلُونَ فِي الْيَمِينِ غَيْرِ
الْمَقْصُودَةِ، فَيَقُولُونَ: مَنْ أَرَادَ النُّطْقَ بِكَلِمَةٍ
فَنَطَقَ بِالْيَمِينِ بَدَلَهَا لِخَطَأِ لِسَانِهِ لَمْ تَنْعَقِدْ،
وَمَنْ أَرَادَ النُّطْقَ بِشَيْءٍ فَنَطَقَ مَعَهُ بِالْيَمِينِ
زِيَادَةً بِغَيْرِ قَصْدٍ كَانَتْ كَالْيَمِينِ الْمَقْصُودَةِ،
فَيُكَفِّرُهَا إِنْ كَانَتْ مُسْتَقْبَلِيَّةً مُطْلَقًا، وَكَذَا
إِنْ كَانَتْ غَمُوسًا حَاضِرَةً، وَالْحَنَفِيَّةُ لَمْ نَرَ لَهُمْ
تَفْصِيلاً فِي غَيْرِ الْمَقْصُودَةِ، فَقَدْ أَطْلَقُوا الْقَوْل
بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ الْقَصْدِ.
رَابِعُهَا: أَنَّهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِالْكَفَّارَةِ فِي تَعْلِيقِ
الْكُفْرِ، وَالْحَنَفِيَّةُ يَجْعَلُونَهُ كِنَايَةً عَنِ الْيَمِينِ
بِاللَّهِ تَعَالَى، فَيُوجِبُونَ الْكَفَّارَةَ فِيهِ إِنْ كَانَ
عَلَى أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ غَيْرِ مُسْتَحِيلٍ عَقْلاً.
وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِالْكِنَايَةِ أَنَّهَا تَحْتَاجُ إِلَى
النِّيَّةِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنَّهَا لَفْظٌ أُطْلِقَ
وَأُرِيدَ لاَزِمُ مَعْنَاهُ، كَمَا يَقُول عُلَمَاءُ الْبَلاَغَةِ.
122 - وَالشَّافِعِيَّةُ يُخَالِفُونَ فِي أُمُورٍ: أَحَدِهَا:
أَنَّهُمْ يُوجِبُونَ الْكَفَّارَةَ فِي الْغَمُوسِ عَلَى مَاضٍ،
وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ إِيجَابُهَا فِي الْغَمُوسِ عَلَى حَاضِرٍ
وَمُسْتَقْبَلٍ، فَإِنَّ الْغَمُوسَ عِنْدَهُمْ مُنْعَقِدَةٌ
مُطْلَقًا.
ثَانِيهَا: أَنَّهُمْ يُوجِبُونَ الْكَفَّارَةَ فِي الْحَلِفِ عَلَى
(7/294)
الْمُسْتَحِيل عَقْلاً، مَاضِيًا كَانَ
أَوْ حَاضِرًا أَوْ مُسْتَقْبَلاً، إِلاَّ إِنْ كَانَتِ الْيَمِينُ
غَيْرَ مَقْصُودَةٍ، أَوْ كَانَ جَاهِلاً بِالاِسْتِحَالَةِ.
ثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْيَمِينَ غَيْرَ
الْمَقْصُودَةِ تُعَدُّ لَغْوًا مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ مَعْنَى
عَدَمِ الْقَصْدِ خَطَأَ اللِّسَانِ، أَمْ كَانَ مَعْنَاهُ سَبْقَ
اللِّسَانِ إِلَى النُّطْقِ بِهَا، فَلاَ كَفَّارَةَ فِيهَا وَلَوْ
عَلَى مُسْتَقْبَلٍ.
وَيَقُولُونَ فِيمَنْ حَلَفَ عَلَى غَيْرِ الْوَاقِعِ، جَاهِلاً
بِمُخَالَفَتِهِ لِلْوَاقِعِ: لاَ تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ. سَوَاءٌ
أَكَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ مَاضِيًا أَمْ حَاضِرًا أَمْ
مُسْتَقْبَلاً، إِلاَّ إِذَا قَصَدَ أَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ هُوَ
كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الأَْمْرِ، فَتَجِبُ
فِيهِ الْكَفَّارَةُ حِينَئِذٍ.
رَابِعُهَا: أَنَّهُمْ لاَ يُوجِبُونَ الْكَفَّارَةَ فِي تَعْلِيقِ
الْكُفْرِ مُطْلَقًا.
وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ قَوْمٍ مِنْ فُقَهَاءِ السَّلَفِ أَنَّ
مَنْ حَلَفَ عَلَى مَعْصِيَةٍ فَالْكَفَّارَةُ تَرْكُ الْمَعْصِيَةِ،
وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ تَنْعَقِدُ
وَيَجِبُ الْحِنْثُ، وَلَيْسَ فِيهَا الْكَفَّارَةُ الْمَعْهُودَةُ.
(1)
الْحِنْثُ فِي الْيَمِينِ
مَعْنَاهُ وَمَا يَتَحَقَّقُ بِهِ:
123 - أَمَّا مَعْنَاهُ فَهُوَ: مُخَالَفَةُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ،
وَذَلِكَ بِثُبُوتِ مَا حَلَفَ عَلَى عَدَمِهِ، أَوْ عَدَمِ مَا حَلَفَ
عَلَى ثُبُوتِهِ.
وَأَمَّا مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْمَحْلُوفِ
عَلَيْهِ، وَإِلَيْكَ الْبَيَانُ. الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ إِمَّا مَاضٍ
أَوْ حَاضِرٍ أَوْ مُسْتَقْبَلٍ.
__________
(1) المغني على الشرح الكبير 11 / 173.
(7/295)
124 - أَمَّا الْمَاضِي: فَالْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ لاَ
يَعْتَبِرُونَ الْيَمِينَ عَلَيْهِ مَعْقُودَةً أَصْلاً، فَلاَ حِنْثَ
فِيهَا بِالْكَذِبِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً.
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ فَيَعْتَبِرُونَ
الْيَمِينَ عَلَيْهِ مَعْقُودَةً إِذَا كَانَ الْحَالِفُ كَاذِبًا
عَمْدًا، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْحِنْثُ مُقَارِنًا لِلاِنْعِقَادِ،
وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ مِنْ حِينِ تَمَامِ الإِْتْيَانِ بِهَا.
125 - وَأَمَّا الْحَاضِرُ: فَهُوَ كَالْمَاضِي، إِلاَّ أَنَّ
الْمَالِكِيَّةَ مُتَّفِقُونَ مَعَ الْفَرِيقِ الثَّانِي الْقَائِل
بِانْعِقَادِ الْيَمِينِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ الْحَالِفُ كَاذِبًا
عَمْدًا، ثُمَّ إِنَّهُمْ تَوَسَّعُوا فَضَمُّوا إِلَى الْكَذِبِ
الْعَمْدِ مَا تَرَدَّدَ فِيهِ الْمُتَكَلِّمُ، بِأَنْ حَلَفَ عَلَى
مَا يَظُنُّهُ ظَنًّا ضَعِيفًا، أَوْ يَشُكُّ فِيهِ، أَوْ يَظُنُّ
نَقِيضَهُ ظَنًّا ضَعِيفًا، وَسَبَقَ ذَلِكَ فِي تَعْرِيفِ الْغَمُوسِ
وَحُكْمِهَا.
126 - وَأَمَّا الْمُسْتَقْبَل: فَالْيَمِينُ عَلَيْهِ إِنْ وُجِدَتْ
فِيهَا شَرَائِطُ الاِنْعِقَادِ، فَأَمَّا أَنْ تَكُونَ عَلَى نَفْيٍ
أَوْ إِثْبَاتٍ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا إِمَّا مُطْلَقٌ وَإِمَّا مُقَيَّدٌ
بِوَقْتٍ.
أَمَّا الْيَمِينُ عَلَى النَّفْيِ الْمُطْلَقِ: فَالْحِنْثُ فِيهَا
يَتَحَقَّقُ بِثُبُوتِ مَا حَلَفَ عَلَى نَفْيِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ
ذَلِكَ عَقِبَ الْيَمِينِ أَمْ بَعْدَهُ بِزَمَانٍ قَصِيرٍ أَوْ
طَوِيلٍ، وَهَل يَمْنَعُ الْحِنْثَ نِسْيَانٌ أَوْ خَطَأٌ فِي
الاِعْتِقَادِ، أَوْ خَطَأٌ لِسَانِيٌّ أَوْ جُنُونٌ أَوْ إِغْمَاءٌ
أَوْ إِكْرَاهٌ؟ وَهَل يَحْنَثُ بِالْبَعْضِ إِذَا كَانَ الْمَحْلُوفُ
عَلَيْهِ ذَا أَجْزَاءٍ أَوْ لاَ يَحْنَثُ إِلاَّ بِالْجَمِيعِ؟ كُل
ذَلِكَ مَحَل خِلاَفٍ يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي فِي شَرَائِطِ
الْحِنْثِ.
127 - وَأَمَّا الْيَمِينُ عَلَى النَّفْيِ الْمُؤَقَّتِ: فَالْحِنْثُ
فِيهَا يَتَحَقَّقُ بِحُصُول الضِّدِّ فِي الْوَقْتِ، لاَ بِحُصُولِهِ
قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَ تَمَامِهِ. وَفِي النِّسْيَانِ وَنَحْوِهِ
الْخِلاَفُ الَّذِي سَبَقَتِ الإِْشَارَةُ إِلَيْهِ.
(7/295)
128 - وَأَمَّا الْيَمِينُ عَلَى
الإِْثْبَاتِ الْمُطْلَقِ: فَالْحِنْثُ فِيهَا يَتَحَقَّقُ بِالْيَأْسِ
مِنَ الْبِرِّ، إِمَّا بِمَوْتِ الْحَالِفِ قَبْل أَنْ يَفْعَل مَا
حَلَفَ عَلَى فِعْلِهِ، وَإِمَّا بِفَوْتِ مَحَل الْمَحْلُوفِ
عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ قَال: وَاللَّهِ لأََلْبَسَنَّ هَذَا الثَّوْبَ،
فَأَحْرَقَهُ هُوَ أَوْ غَيْرَهُ. (1)
هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَفَصَّل غَيْرُهُمْ فِي فَوْتِ
الْمَحَل بَيْنَ مَا كَانَ بِاخْتِيَارِ الْحَالِفِ وَمَا كَانَ
بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، فَمَا كَانَ بِاخْتِيَارِهِ يَحْنَثُ بِهِ،
وَمَا كَانَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ يُعْلَمُ مِنْ
شَرَائِطِ الْحِنْثِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحِنْثَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ
- وَهِيَ الْحَلِفُ عَلَى الإِْثْبَاتِ الْمُطْلَقِ - يَحْصُل أَيْضًا
بِالْعَزْمِ عَلَى الضِّدِّ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَنْوِيَ عَدَمَ
الإِْتْيَانِ بِالْمَحْلُوفِ مَا دَامَ حَيًّا، وَهَذَا الْحِنْثُ
مُحَتَّمٌ لاَ يَزُول بِالرُّجُوعِ عَنِ الْعَزْمِ عَلَى قَوْل ابْنِ
الْمَوَّازِ وَابْنِ شَاسٍ وَابْنِ الْحَاجِبِ وَالْقَرَافِيِّ، وَهُوَ
ظَاهِرُ كَلاَمِ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ وَالدَّرْدِيرِ فِي أَقْرَبِ
الْمَسَالِكِ وَاعْتَمَدَهُ الْبُنَانِيُّ، خِلاَفًا لِلْقَائِلِينَ
بِالتَّفْصِيل بَيْنَ الطَّلاَقِ وَغَيْرِهِ، حَيْثُ ذَهَبُوا إِلَى
أَنَّ الْحَلِفَ بِالطَّلاَقِ عَلَى الإِْثْبَاتِ الْمُطْلَقِ يَحْنَثُ
فِيهِ بِالْعَزْمِ عَلَى الْفَوَاتِ، وَالْحَلِفَ بِالْعِتْقِ
وَبِالْقُرْبَةِ وَبِاللَّهِ تَعَالَى لاَ يَحْنَثُ الْحَالِفُ بِهَا
بِالْعَزْمِ الْمَذْكُورِ إِلاَّ إِذَا اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ، فَإِنْ
رَجَعَ عَنْ عَزْمِهِ رَجَعَتِ الْيَمِينُ كَمَا كَانَتْ، وَلَمْ
يَحْنَثْ إِلاَّ بِالْفَوَاتِ.
وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ لَمْ يُوَافِقْهُمْ
عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْل الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى.
129 - وَأَمَّا الْيَمِينُ عَلَى الإِْثْبَاتِ الْمُؤَقَّتِ:
فَالْحِنْثُ
__________
(1) ومن أمثلة فوت المحل: ما لو أعتق عبدا مسلما حلف ليبيعنه لاستحالة
بيعه بعد ذلك. ومن الأمثلة أيضا، ما لو حلف ليطلقن، ثم لاعنها، لأنها
صارت بائنا باللعان، فلا يمكن وقوع الطلاق عليها.
(7/296)
فِيهَا يَتَحَقَّقُ بِالْيَأْسِ مِنَ
الْبِرِّ فِي الْوَقْتِ، إِنْ كَانَ الْحَالِفُ وَالْمَحْلُوفُ
عَلَيْهِ قَائِمَيْنِ، كَأَنْ قَال: وَاللَّهِ لآَكُلَنَّ هَذَا
الرَّغِيفَ الْيَوْمَ، فَغَرَبَتِ الشَّمْسُ وَهُوَ حَيٌّ وَالرَّغِيفُ
مَوْجُودٌ وَلَمْ يَأْكُلْهُ. وَإِنْ مَاتَ الْحَالِفُ فِي الْوَقْتِ
وَلَمْ يَفُتْ مَحَل الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ لَمْ يُعْتَبَرْ حَانِثًا
بِالْمَوْتِ وَلاَ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ بَعْدَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
جَمِيعًا؛ لأَِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ الْحِنْثَ إِنَّمَا يَقَعُ فِي
آخِرِ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ فِي الْيَمِينِ الْمُؤَقَّتَةِ،
وَالْحَالِفُ مَيِّتٌ فِي هَذَا الْجُزْءِ الأَْخِيرِ، وَلاَ يُوصَفُ
الْمَيِّتُ بِالْحِنْثِ، وَيَحْنَثُ عِنْدَ غَيْرِهِمْ عَلَى تَفْصِيلٍ
يُعْلَمُ مِنْ شَرَائِطِ الْحِنْثِ.
وَإِنْ فَاتَ مَحَل الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فِي الْوَقْتِ، كَأَنْ أَكَل
الرَّغِيفَ إِنْسَانٌ آخَرُ، وَلَمْ يَمُتِ الْحَالِفُ، لَمْ يَحْنَثْ
فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لأَِنَّهُمْ
يَشْتَرِطُونَ إِمْكَانَ الْبِرِّ، خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ، حَيْثُ
قَال بِالْحِنْثِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَشْتَرِطُ
هَذِهِ الشَّرِيطَةَ. وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ فِي وَقْتِ
الْحِنْثِ: فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لاَ يَحْنَثُ إِلاَّ آخِرَ
الْوَقْتِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَحْنَثُ فِي الْحَال - أَيْ حَال
فَوْتِ مَحَل الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ - وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ
الثَّانِيَةُ هِيَ الصَّحِيحَةُ عَنْهُ.
وَفِي الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى تَفْصِيلٌ بَيْنَ فَوْتِ الْمَحَل
بِاخْتِيَارِ الْحَالِفِ، وَفَوْتِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَبَيْنَ
حُصُول الْفَوْتِ أَوَّل الْوَقْتِ، أَوْ بَعْدَ أَوَّلِهِ، مَعَ
التَّفْرِيطِ أَوْ عَدَمِهِ، وَكُل ذَا يُعْلَمُ مِنَ الشَّرَائِطِ
الآْتِيَةِ.
130 - وَمِمَّا يَنْبَغِي التَّنَبُّهُ إِلَيْهِ أَنَّ الْمُؤَقَّتَةَ
إِذَا لَمْ يَبْدَأْ وَقْتُهَا مِنْ حِينِ الْحَلِفِ فَمَاتَ
الْحَالِفُ، أَوْ فَاتَ الْمَحَل قَبْل بَدْءِ الْوَقْتِ فَلاَ حِنْثَ
فِي الصُّورَتَيْنِ، وَخَالَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي الثَّانِيَةِ،
فَقَالُوا بِالْحِنْثِ فِيهَا، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَال: وَاللَّهِ
لأََشْرَبَنَّ مَاءَ هَذَا الْكُوبِ غَدًا، فَمَاتَ هُوَ أَوْ شَرِبَ
الْمَاءَ إِنْسَانٌ آخَرُ قَبْل فَجْرِ الْغَدِ، فَإِنَّهُ لاَ يُعَدُّ
(7/296)
حَانِثًا فِي الْحَالَيْنِ عِنْدَ
الأَْكْثَرِينَ.
وَمِمَّا يَنْبَغِي التَّنَبُّهُ لَهُ أَيْضًا: أَنَّ التَّوْقِيتَ فِي
الْيَمِينِ الْمُؤَقَّتَةِ يَشْمَل التَّوْقِيتَ نَصًّا،
وَالتَّوْقِيتَ دَلاَلَةً، كَمَا لَوْ قِيل لإِِنْسَانٍ: أَتَدْخُل
دَارَ فُلاَنٍ الْيَوْمَ؟ فَقَال: وَاللَّهِ لأََدْخُلَنَّهَا، أَوْ
وَاللَّهِ لاَ أَدْخُلُهَا، فَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ مُؤَقَّتٌ
بِالْيَوْمِ دَلاَلَةً؛ لِوُقُوعِهِ جَوَابًا عَنِ السُّؤَال
الْمُحْتَوِي عَلَى قَيْدِ التَّوْقِيتِ بِالْيَوْمِ، وَهَذَا مِنْ
يَمِينِ الْفَوْرِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهَا وَالْخِلاَفُ فِيهَا.
شَرَائِطُ الْحِنْثِ:
131 - الْجُمْهُورُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْحِنْثَ هُوَ السَّبَبُ
الْوَحِيدُ، أَوْ ثَانِي السَّبَبَيْنِ لِلْكَفَّارَةِ، أَوْ شَرِيطَةٌ
لَهَا، لَمْ يُصَرِّحُوا بِشَرَائِطَ لِلْحِنْثِ، وَإِنَّمَا ذَكَرُوا
أُمُورًا يَخْتَلِفُ الرَّأْيُ فِيهَا، إِذَا كَانَ الْحِنْثُ فِعْلاً
أَوْ تَرْكًا، وَمِنْ هَذِهِ الأُْمُورِ: الْعَمْدُ وَالطَّوَاعِيَةُ
وَالتَّذَكُّرُ وَالْعَقْل.
وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ لاَ يَشْتَرِطُونَ فِي الْحَلِفِ
الطَّوَاعِيَةَ وَلاَ الْعَمْدَ، وَهُمْ لاَ يَشْتَرِطُونَهُمَا فِي
الْحِنْثِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ لاَ يَشْتَرِطُونَ فِيهِ التَّذَكُّرَ
وَلاَ الْعَقْل، فَمَنْ حَلَفَ أَوْ حَنِثَ مُخْطِئًا (1) أَوْ
مُكْرَهًا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. وَكَذَا مَنْ حَلَفَ
أَلاَّ يَفْعَل شَيْئًا فَفَعَلَهُ وَهُوَ ذَاهِلٌ أَوْ سَاهٍ أَوْ
نَاسٍ (2) أَوْ مَجْنُونٌ أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ
الْكَفَّارَةُ.
فَإِنْ لَمْ يَفْعَل الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ، بَل فَعَلَهُ بِهِ
غَيْرُهُ قَهْرًا عَنْهُ لَمْ يَحْنَثْ، كَمَا لَوْ حَلَفَ أَلاَّ
يَشْرَبَ هَذَا
__________
(1) المراد بالمخطئ من أراد شيئا فسبق لسانه إلى غيره، كما لو أراد أن
يقول: أسقني الماء، فقال: والله لا أشرب الماء كما تقدم.
(2) المراد بالساهي: من زال الشيء عن ذهنه. وكذلك الناسي، والذاهل
والغافل، لكن فرق بعضهم بين الناسي والساهي: أن الناسي إذا ذكرته تذكر،
والساهي بخلافه.
(7/297)
الْمَاءَ، فَصَبَّهُ إِنْسَانٌ فِي
حَلْقِهِ قَهْرًا؛ لأَِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَيْسَ شَارِبًا،
فَلَمْ يَفْعَل مَا حَلَفَ عَلَى الاِمْتِنَاعِ مِنْهُ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ النِّسْيَانِ فِي الْحِنْثِ: مَا لَوْ قَال
إِنْسَانٌ: وَاللَّهِ لاَ أَحْلِفُ، ثُمَّ حَلَفَ نَاسِيًا لِهَذِهِ
الْيَمِينِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ بِهَذَا الْحَلِفِ
الثَّانِي مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ حِنْثًا فِي الْيَمِينِ الأُْولَى،
ثُمَّ إِذَا حَنِثَ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ وَجَبَتْ
عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى عَلَى الْقَوْل بِعَدَمِ تَدَاخُل
الْكَفَّارَاتِ (1) وَسَيَأْتِي الْخِلاَفُ فِي ذَلِكَ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْيَمِينَ إِمَّا يَمِينُ بِرٍّ،
نَحْوُ وَاللَّهِ لاَ أَفْعَل كَذَا، وَإِمَّا يَمِينُ حِنْثٍ، نَحْوُ
وَاللَّهِ لأََفْعَلَنَّ كَذَا.
132 - أَمَّا يَمِينُ الْبِرِّ: فَيَحْنَثُ فِيهَا بِفِعْل مَا حَلَفَ
عَلَى تَرْكِهِ - وَكَذَا بِفِعْل بَعْضِهِ إِنْ كَانَ ذَا أَجْزَاءٍ -
عَمْدًا أَوْ نِسْيَانًا أَوْ خَطَأً قَلْبِيًّا، بِمَعْنَى اعْتِقَادِ
أَنَّهُ غَيْرُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَحْنَثُ بِهَا
إِذَا لَمْ يُقَيِّدْ يَمِينَهُ بِالْعَمْدِ أَوِ الْعِلْمِ، فَإِنْ
قَيَّدَهَا بِالْعَمْدِ، بِأَنْ قَال: لاَ أَفْعَلُهُ عَمْدًا، لَمْ
يَحْنَثْ بِالْخَطَأِ، وَإِنْ قَيَّدَ بِالْعِلْمِ، بِأَنْ قَال: لاَ
أَفْعَلُهُ عَالِمًا، أَوْ لاَ أَفْعَلُهُ مَا لَمْ أَنْسَ لَمْ
يَحْنَثْ بِالنِّسْيَانِ.
وَلاَ يَحْنَثُ فِي يَمِينِ الْبِرِّ بِالْخَطَأِ اللِّسَانِيِّ، كَمَا
لَوْ حَلَفَ: لاَ يَذْكُرُ فُلاَنًا، ثُمَّ سَبَقَ لِسَانُهُ بِذِكْرِ
اسْمِهِ، وَكَذَا لاَ يَحْنَثُ فِيهَا بِالإِْكْرَاهِ عَلَى فِعْل مَا
حَلَفَ عَلَى الاِمْتِنَاعِ مِنْهُ، وَذَلِكَ بِقُيُودٍ سِتَّةٍ:
أ - أَلاَّ يَعْلَمَ أَنَّهُ يُكْرَهُ عَلَى الْفِعْل.
ب - أَلاَّ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِإِكْرَاهِهِ لَهُ
ج - أَلاَّ يَكُونَ الإِْكْرَاهُ شَرْعِيًّا.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 49.
(7/297)
د - أَلاَّ يَفْعَل ثَانِيًا طَوْعًا
بَعْدَ زَوَال الإِْكْرَاهِ.
هـ - أَلاَّ يَكُونَ الْحَلِفُ عَلَى شَخْصٍ بِأَنَّهُ لاَ يَفْعَل
كَذَا، وَالْحَالِفُ هُوَ الْمُكْرَهُ لَهُ عَلَى فِعْلِهِ.
و أَلاَّ يَقُول فِي يَمِينِهِ: لاَ أَفْعَلُهُ طَائِعًا وَلاَ
مُكْرَهًا. فَإِنْ وُجِدَ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ السِّتَّةِ حَنِثَ
بِالإِْكْرَاهِ وَوَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ.
133 - وَأَمَّا يَمِينُ الْحِنْثِ: فَيَحْنَثُ فِيهَا بِالإِْكْرَاهِ
عَلَى تَرْكِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ حَتَّى يَفُوتَ، كَمَا لَوْ قَال:
وَاللَّهِ لأََدْخُلَنَّ دَارَ زَيْدٍ غَدًا، فَمُنِعَ مِنْ دُخُولِهَا
بِالإِْكْرَاهِ حَتَّى غَرَبَتْ شَمْسُ الْغَدِ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ.
وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا: أَنَّهُ يَحْنَثُ أَيْضًا بِالتَّرْكِ نَاسِيًا
وَمُخْطِئًا، بِأَنْ لَمْ يَتَذَكَّرِ الْحَلِفَ مِنَ الْغَدِ، أَوْ
تَذَكَّرَهُ وَدَخَل دَارًا أُخْرَى يَعْتَقِدُ أَنَّهَا الدَّارُ
الْمَحْلُوفُ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ الْحَال حَتَّى مَضَى
الْغَدُ.
وَإِذَا فَاتَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فِي يَمِينِ الْحِنْثِ بِمَانِعٍ،
فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَانِعُ شَرْعِيًّا أَوْ عَادِيًّا أَوْ
عَقْلِيًّا.
134 - فَإِنْ كَانَ الْمَانِعُ شَرْعِيًّا حَنِثَ بِالْفَوَاتِ
مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَتَقَدَّمَ الْمَانِعُ عَلَى الْحَلِفِ وَلَمْ
يَعْلَمْ بِهِ أَمْ تَأَخَّرَ، وَسَوَاءٌ أَفَرَّطَ فِيهِ حَتَّى فَاتَ
أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْيَمِينُ مُؤَقَّتَةً أَمْ لاَ.
مِثَال ذَلِكَ: مَا لَوْ حَلَفَ أَنْ يُبَاشِرَ زَوْجَتَهُ غَدًا
فَطَرَأَ الْحَيْضُ، أَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا قَبْل
الْحَلِفِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ، فَيَحْنَثُ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْبَغَ
خِلاَفًا لاِبْنِ الْقَاسِمِ، فَإِنْ لَمْ يُقَيِّدْ بِالْغَدِ لَمْ
يَحْنَثْ، بَل يَنْتَظِرُ حَتَّى تَطْهُرَ فَيُبَاشِرَهَا.
135 - وَإِنْ كَانَ الْمَانِعُ عَادِيًّا، فَإِنْ تَقَدَّمَ عَلَى
الْيَمِينِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَحَلَفَ لَمْ يَحْنَثْ مُطْلَقًا،
أَقَّتَ أَمْ لاَ، فَرَّطَ أَمْ لاَ، وَإِنْ تَأَخَّرَ حَنِثَ
مُطْلَقًا، خِلاَفًا
(7/298)
لأَِشْهَبَ حَيْثُ قَال بِعَدَمِ
الْحِنْثِ.
مِثَال ذَلِكَ: أَنْ يَحْلِفَ لَيَذْبَحَنَّ هَذَا الْكَبْشَ، أَوْ
لَيَلْبَسَنَّ هَذَا الثَّوْبَ، أَوْ لَيَأْكُلَنَّ هَذَا الطَّعَامَ،
فَسُرِقَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ أَوْ غُصِبَ، أَوْ مُنِعَ الْحَالِفُ
مِنَ الْفِعْل بِالإِْكْرَاهِ، أَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ سُرِقَ قَبْل
الْيَمِينِ أَوْ غُصِبَ وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ بِذَلِكَ عِنْدَ
الْحَلِفِ.
وَمَحَل الْحِنْثِ مِنَ الْمَانِعِ الشَّرْعِيِّ وَالْمَانِعِ
الْعَادِيِّ، إِذَا أَطْلَقَ الْحَالِفُ الْيَمِينَ فَلَمْ يُقَيَّدْ
بِإِمْكَانِ الْفِعْل وَلاَ بِعَدَمِهِ، أَوْ قَيَّدَ بِالإِْطْلاَقِ،
كَأَنْ قَال: لأََفْعَلَنَّ كَذَا وَسَكَتَ، أَوْ لأََفْعَلَنَّ كَذَا
قَدَرْتُ عَلَيْهِ أَمْ لاَ، فَإِنْ قَيَّدَ بِالإِْمْكَانِ فَلاَ
حِنْثَ، بِأَنْ قَال: لأََفْعَلَنَّهُ إِنْ أَمْكَنَ، أَوْ مَا لَمْ
يَمْنَعْ مَانِعٌ.
136 - وَإِنْ كَانَ الْمَانِعُ عَقْلِيًّا، فَإِنْ تَقَدَّمَ وَلَمْ
يَكُنْ قَدْ عَلِمَ بِهِ لَمْ يَحْنَثْ مُطْلَقًا كَمَا فِي الْمَانِعِ
الْعَادِيِّ، وَإِنْ تَأَخَّرَ فَإِمَّا إِنْ تَكُونَ الْيَمِينُ
مُؤَقَّتَةً أَوْ غَيْرَ مُؤَقَّتَةٍ.
فَإِنْ كَانَتْ مُؤَقَّتَةً، وَفَاتَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ قَبْل
ضِيقِ الْوَقْتِ، لَمْ يَحْنَثْ إِنْ حَصَل الْمَانِعُ عَقِبَ
الْيَمِينِ، وَكَذَا إِنْ تَأَخَّرَ وَلَمْ يَكُنْ قَدْ فَرَّطَ،
فَإِنْ تَأَخَّرَ مَعَ التَّفْرِيطِ حَنِثَ.
مِثَال ذَلِكَ: مَا لَوْ حَلَفَ لَيَذْبَحَنَّ هَذَا الْحَمَامَ أَوْ
لَيَلْبَسَنَّ هَذَا الثَّوْبَ، فَمَاتَ الْحَمَامُ أَوْ أُحْرِقَ
الثَّوْبُ وَكَانَ قَدْ أَطْلَقَ الْيَمِينَ، أَوْ أَقَّتَ بِقَوْلِهِ:
هَذَا الْيَوْمَ، أَوْ هَذَا الشَّهْرَ مَثَلاً.
وَصُورَةُ تَقَدُّمِ الْمَانِعِ: أَنْ يَكُونَ غَائِبًا عَنِ
الْمَنْزِل مَثَلاً، فَيَقُول: وَاللَّهِ لأََذْبَحَنَّ الْحَمَامَ
الَّذِي بِالْمَنْزِل، أَوْ لأََلْبَسَنَّ الثَّوْبَ الَّذِي فِي
الْخِزَانَةِ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ بَعْدَ الْحَلِفِ مَوْتُ
الْحَمَامِ أَوِ احْتِرَاقُ الثَّوْبِ قَبْل أَنْ يَحْلِفَ. (1)
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 334، 335، الشرح الكبير بحاشية الدسوقي 2 / 134،
141.
(7/298)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَحْنَثُ مَنْ
خَالَفَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ جَاهِلاً أَوْ نَاسِيًا أَوْ مُكْرَهًا
أَوْ مَقْهُورًا، وَلاَ تَنْحَل الْيَمِينُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ
الصُّوَرِ، وَلاَ يَحْنَثُ أَيْضًا إِنْ تَعَذَّرَ الْبِرُّ بِغَيْرِ
اخْتِيَارِهِ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْجَهْل: مَا لَوْ حَلَفَ لاَ يُسَلِّمُ عَلَى
زَيْدٍ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فِي ظُلْمَةٍ وَهُوَ لاَ يَعْرِفُ أَنَّهُ
زَيْدٌ، وَمَا لَوْ حَلَفَ لاَ يَدْخُل عَلَى بَكْرٍ، فَدَخَل دَارًا
هُوَ فِيهَا وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ فِيهَا.
وَأَمْثِلَةُ النِّسْيَانِ وَالإِْكْرَاهِ ظَاهِرَةٌ.
وَمِثَال الْقَهْرِ: مَا لَوْ حَلَفَ: لاَ يَدْخُل دَارَ خَالِدٍ،
فَحُمِل وَأُدْخِل قَهْرًا، وَيُلْحَقُ بِهِ مَنْ حُمِل بِغَيْرِ
أَمْرِهِ وَلَمْ يَمْتَنِعْ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُسَمَّى دَاخِلاً،
بِخِلاَفِ مَنْ حُمِل بِأَمْرِهِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ لأَِنَّهُ
يُسَمَّى دَاخِلاً، كَمَا لَوْ رَكِبَ دَابَّةً وَدَخَل بِهَا.
وَمِنْ صُوَرِ تَعَذُّرِ الْبِرِّ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، مَا لَوْ
قَال: وَاللَّهِ لآَكُلَنَّ هَذَا الطَّعَامَ غَدًا، فَتَلِفَ
الطَّعَامُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الْحَالِفِ، أَوْ مَاتَ الْحَالِفُ
قَبْل فَجْرِ الْغَدِ، فَإِنَّهُ لاَ يَحْنَثُ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ
تَلِفَ بِاخْتِيَارِهِ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ، وَفِي وَقْتِ حِنْثِهِ
خِلاَفٌ، فَقِيل: هُوَ وَقْتُ التَّلَفِ، وَقِيل: هُوَ غُرُوبُ شَمْسِ
الْغَدِ، وَالرَّاجِحُ أَنَّ الْحِنْثَ يَتَحَقَّقُ بِمُضِيِّ زَمَنِ
إِمْكَانِ الأَْكْل مِنْ فَجْرِ الْغَدِ.
وَمِنْ صُوَرِ الْفَوْتِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ: مَا لَوْ تَلِفَ فِي
الْغَدِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، أَوْ مَاتَ فِي الْغَدِ قَبْل
التَّمَكُّنِ مِنْ أَكْلِهِ. (1)
وَقَالُوا أَيْضًا: لَوْ حَلَفَ لاَ يَأْكُل هَذَيْنِ الرَّغِيفَيْنِ،
أَوْ لاَ يَلْبَسُ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ، أَوْ لَيَفْعَلَنَّ ذَلِكَ،
تَعَلَّقَ الْحِنْثُ وَالْبِرُّ بِالْمَجْمُوعِ وَلَوْ مُتَفَرِّقًا،
وَكَذَا لَوْ عَطَفَ
__________
(1) الوجيز للغزالي 2 / 229 - 232، وشرح الروض 4 / 268، 269.
(7/299)
بِالْوَاوِ نَحْوَ: لاَ أُكَلِّمُ زَيْدًا
وَعَمْرًا، أَوْ لاَ آكُل اللَّحْمَ وَالْعِنَبَ، أَوْ لأَُكَلِّمَنَّ
زَيْدًا وَعَمْرًا، أَوْ لآَكُلَنَّ اللَّحْمَ وَالْعِنَبَ، فَإِنَّ
الْحِنْثَ وَالْبِرَّ يَتَعَلَّقُ بِهِمَا، فَلاَ يَحْنَثُ فِي
الْمِثَالَيْنِ الأَْوَّلَيْنِ، وَلاَ يَبَرُّ فِي الْمِثَالَيْنِ
الأَْخِيرَيْنِ إِلاَّ بِفِعْل الْمَجْمُوعِ وَلَوْ مُتَفَرِّقًا.
137 - وَيُسْتَثْنَى فِي حَالَةِ النَّفْيِ مَا لَوْ كَرَّرَ حَرْفَ
النَّفْيِ، كَأَنْ قَال: وَاللَّهِ لاَ أُكَلِّمُ زَيْدًا وَلاَ
عَمْرًا. فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِتَكْلِيمِ أَحَدِهِمَا، وَتَبْقَى
الْيَمِينُ، فَيَحْنَثُ حِنْثًا ثَانِيًا بِتَكْلِيمِ الثَّانِي.
وَإِنْ قَال: لاَ أُكَلِّمُ أَحَدَهُمَا أَوْ وَاحِدًا مِنْهُمَا
وَأَطْلَقَ، حَنِثَ بِكَلاَمِ وَاحِدٍ وَانْحَلَّتِ الْيَمِينُ.
وَإِنْ قَال: لاَ آكُل هَذِهِ الرُّمَّانَةَ فَأَكَلَهَا إِلاَّ
حَبَّةً لَمْ يَحْنَثْ، أَوْ قَال: لآَكُلَنَّ هَذِهِ الرُّمَّانَةَ،
فَأَكَلَهَا إِلاَّ حَبَّةً لَمْ يَبَرَّ. وَخَرَجَ بِالْحَبَّةِ:
الْقِشْرُ وَنَحْوُهُ مِمَّا لاَ يُؤْكَل مِنَ الرُّمَّانَةِ عَادَةً
(1) .
وَالْحَنَابِلَةُ يُوَافِقُونَ الشَّافِعِيَّةَ فِي كُل مَا سَبَقَ،
مَا عَدَا تَفْوِيتَ الْبِرِّ، فَقَدْ قَالُوا: لَوْ حَلَفَ إِنْسَانٌ
لَيَشْرَبَنَّ هَذَا الْمَاءَ غَدًا، فَتَلِفَ قَبْل الْغَدِ أَوْ
فِيهِ حَنِثَ، وَلاَ يَحْنَثُ بِجُنُونِهِ أَوْ إِكْرَاهِهِ قَبْل
الْغَدِ مَعَ اسْتِمْرَارِ ذَلِكَ إِلَى خُرُوجِ الْغَدِ، وَلاَ
يَحْنَثُ أَيْضًا بِمَوْتِهِ قَبْل الْغَدِ.
وَلَوْ حَلَفَ لَيَشْرَبَنَّ هَذَا الْمَاءَ الْيَوْمَ أَوْ أَطْلَقَ،
فَتَلِفَ قَبْل مُضِيِّ وَقْتٍ يَسَعُ الشُّرْبَ لَمْ يَحْنَثْ،
بِخِلاَفِ مَا لَوْ تَلِفَ بَعْدَ مُضِيِّ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَإِنَّهُ
يَحْنَثُ، وَقِيل: يَحْنَثُ فِي الْحَالَيْنِ. (2)
__________
(1) الوجيز 2 / 229 - 232، وشرح الروض 4 / 254، 255، 268، 269، 272.
(2) مطالب أولي النهى 6 / 369، 414.
(7/299)
بَيَانُ الْكَفَّارَةِ:
138 - كَفَّارَةُ الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى إِذَا حَنِثَ فِيهَا
وَهِيَ مُنْعَقِدَةٌ قَدْ ذَكَرَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَل فِي كِتَابِهِ
الْعَزِيزِ حَيْثُ قَال: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي
أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَْيْمَانَ
فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِين مِنْ أَوْسَطِ مَا
تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ
أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (1)
فَقَدْ بَيَّنَتِ الآْيَةُ الْكَرِيمَةُ أَنَّ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ
الْمَعْقُودَةِ وَاجِبَةٌ عَلَى التَّخْيِيرِ ابْتِدَاءً،
وَالتَّرْتِيبِ انْتِهَاءً، فَالْحَالِفُ إِذَا حَنِثَ وَجَبَ عَلَيْهِ
إِحْدَى خِصَالٍ ثَلاَثٍ: إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، أَوْ
كِسْوَتُهُمْ، أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، فَإِذَا عَجَزَ عَنِ
الثَّلاَثِ وَجَبَ عَلَيْهِ صِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ.
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ نَصٌّ
قُرْآنِيٌّ قَاطِعٌ، غَيْرَ أَنَّ فِي التَّفَاصِيل اخْتِلاَفَاتٍ
مَنْشَؤُهَا الاِجْتِهَادُ، وَمَوْضِعُ بَسْطِهَا (الْكَفَّارَاتُ) .
هَل تَتَعَدَّدُ الْكَفَّارَةُ بِتَعَدُّدِ الْيَمِينِ؟
139 - لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ مَنْ حَلَفَ يَمِينًا فَحَنِثَ فِيهَا
وَأَدَّى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الْكَفَّارَةِ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ
يَمِينًا أُخْرَى وَحَنِثَ فِيهَا تَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى،
وَلاَ تُغْنِي الْكَفَّارَةُ الأُْولَى عَنْ كَفَّارَةِ الْحِنْثِ فِي
هَذِهِ الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ.
وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ فِيمَنْ حَلَفَ أَيْمَانًا وَحَنِثَ فِيهَا،
ثُمَّ أَرَادَ التَّكْفِيرَ، هَل تَتَدَاخَل الْكَفَّارَاتُ
فَتُجْزِئُهُ كَفَّارَةٌ
__________
(1) سورة المائدة / 89.
(7/300)
وَاحِدَةٌ؟ أَوْ لاَ تَتَدَاخَل فَيَجِبُ
عَلَيْهِ لِكُل يَمِينٍ كَفَّارَةٌ؟
فَإِنَّ الْكَفَّارَاتِ تَتَدَاخَل عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَأَحَدِ الأَْقْوَال عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَلاَ
تَتَدَاخَل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَلاَ الشَّافِعِيَّةِ. وَتَفْصِيل
ذَلِكَ فِي (الْكَفَّارَاتِ) .
وَمِثْل الْحَلِفِ بِاللَّهِ الْحَلِفُ بِالنُّذُورِ، وَمِثْلُهُ
أَيْضًا الْحَلِفُ بِالطَّلاَقِ عِنْدَ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، كَمَا لَوْ
قَال: إِنْ فَعَلْتِ كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ، قَاصِدًا الْمَنْعَ، أَوْ
يَلْزَمُنِي الطَّلاَقُ إِنْ فَعَلْتِ كَذَا. (1)
أَحْكَامُ الْيَمِينِ التَّعْلِيقِيَّةِ
حُكْمُ تَعْلِيقِ الْكُفْرِ:
140 - سَبَقَ بَيَانُ الْخِلاَفِ فِي أَنَّ تَعْلِيقَ الْكُفْرِ عَلَى
مَا لاَ يُرِيدُهُ الإِْنْسَانُ يُعْتَبَرُ يَمِينًا أَوْ لاَ
يُعْتَبَرُ.
فَالْقَائِلُونَ بِعَدَمِ اعْتِبَارِهِ يَمِينًا لاَ يُرَتِّبُونَ
عَلَى الْحِنْثِ فِيهِ كَفَّارَةً، فَيَسْتَوِي عِنْدَهُمْ أَنْ
يَبَرَّ فِيهِ وَأَنْ يَحْنَثَ، لَكِنَّهُمْ يَذْكُرُونَ حُكْمَ
الإِْقْدَامِ عَلَيْهِ. وَالْقَائِلُونَ بِاعْتِبَارِهِ يَمِينًا
يَجْعَلُونَهُ فِي مَعْنَى الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى. وَفِي
الْبَدَائِعِ مَا خُلاَصَتُهُ: أَنَّ الْحَلِفَ بِأَلْفَاظِ الْكُفْرِ
يَمِينٌ اسْتِحْسَانًا؛ لأَِنَّهُ مُتَعَارَفٌ بَيْنَ النَّاسِ،
فَإِنَّهُمْ يَحْلِفُونَ بِهَذِهِ الأَْلْفَاظِ مِنْ عَهْدِ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ
غَيْرِ نَكِيرٍ. (2) وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حَلِفًا شَرْعِيًّا
لَمَا تَعَارَفُوهُ؛ لأَِنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى
مَعْصِيَةٌ، فَدَل تَعَارُفُهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ جَعَلُوا ذَلِكَ
كِنَايَةً عَنِ الْحَلِفِ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَل وَإِنْ لَمْ يَعْقِل
__________
(1) الإنصاف 11 / 44 - 45.
(2) في هذا الكلام نظر ظاهر فليتأمل.
(7/300)
وَجْهَ الْكِنَايَةِ.
وَقَال إِبْرَاهِيمُ الْحَلَبِيُّ مَا خُلاَصَتُهُ: يُمْكِنُ تَقْرِيرُ
وَجْهِ الْكِنَايَةِ، بِأَنْ يُقَال مَقْصُودُ الْحَالِفِ بِهَذِهِ
الصِّيغَةِ الاِمْتِنَاعُ عَنِ الشَّرْطِ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ
النَّفْرَةَ عَنِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ تَسْتَلْزِمُ
تَعْظِيمَ اللَّهِ، كَأَنْ قَال: وَاللَّهِ الْعَظِيمِ لاَ أَفْعَل
كَذَا. (1)
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ يَكُونُ كَالْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى فِي
شَرَائِطِ انْعِقَادِهِ وَبَقَائِهِ، وَفِي تَقْسِيمِهِ إِلَى غَمُوسٍ
وَلَغْوٍ وَمُنْعَقِدٍ، وَفِي أَحْكَامِ الإِْقْدَامِ عَلَيْهِ
وَالْبِرِّ وَالْحِنْثِ فِيهِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحِنْثِ.
غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِيهِ نِسْبَةُ الْكُفْرِ إِلَى
الْمُتَكَلِّمِ مُعَلَّقَةً عَلَى شَرْطٍ أَمْكَنَ الْقَوْل بِأَنَّهُ
تَارَةً يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ، وَتَارَةً لاَ، وَإِذَا حَكَمَ
عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ عِنْدَ النُّطْقِ لَمْ يَكُنْ مُنْعَقِدًا عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ الإِْسْلاَمَ فِي
انْعِقَادِ الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى فَكَذَلِكَ يَشْتَرِطُونَهُ
فِي انْعِقَادِ تَعْلِيقِ الْكُفْرِ، وَإِذَا حَكَمَ عَلَيْهِ
بِالْكُفْرِ بِمُبَاشَرَةِ الشَّرْطِ بَعْدَ الْحَلِفِ بَطَل
عِنْدَهُمْ بَعْدَ انْعِقَادِهِ، كَمَا تَبْطُل الْيَمِينُ بِاللَّهِ
بَعْدَ انْعِقَادِهَا إِذَا كَفَّرَ قَائِلُهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ
ذَلِكَ.
حُكْمُ الإِْقْدَامِ عَلَيْهِ:
141 - مَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ نَطَقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ مُنَجَّزَةً
يَكُونُ كَافِرًا حَالاً مَتَى تَوَفَّرَتْ شَرَائِطُ الرِّدَّةِ،
وَمَنْ عَلَّقَهَا عَلَى أَمْرٍ بِغَيْرِ قَصْدِ الْيَمِينِ يَكُونُ
كَافِرًا فِي الْحَال أَيْضًا وَإِنْ كَانَ مَا عَلَّقَهَا عَلَيْهِ
مُسْتَقْبَلاً؛ لأَِنَّ الرِّضَى بِالْكُفْرِ وَلَوْ فِي
الْمُسْتَقْبَل ارْتِدَادٌ عَنِ الإِْسْلاَمِ فِي الْحَال، وَذَلِكَ
كَأَنْ يَقُول إِنْسَانٌ: إِذَا كَانَ الْغَدُ فَهُوَ يَهُودِيٌّ، أَوْ
إِذَا شَفَاهُ اللَّهُ عَلَى يَدِ هَذَا النَّصْرَانِيِّ فَهُوَ
نَصْرَانِيٌّ.
__________
(1) البدائع 3 / 8، وحاشية ابن عابدين 3 / 47.
(7/301)
وَأَمَّا مَنْ عَلَّقَ الْكُفْرَ بِقَصْدِ
الْيَمِينِ فَالأَْصْل فِيهِ أَنَّهُ لاَ يَكْفُرُ، سَوَاءٌ
أَعَلَّقَهُ عَلَى مَاضٍ أَمْ حَاضِرٍ أَمْ مُسْتَقْبَلٍ، وَسَوَاءٌ
أَكَانَ كَاذِبًا أَمْ لَمْ يَكُنْ؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا يَقْصِدُ
الْمَنْعَ مِنَ الشَّرْطِ أَوِ الْحَثَّ عَلَى نَقِيضِهِ أَوِ
الإِْخْبَارَ بِنَقِيضِهِ - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَقًّا - تَرْوِيجًا
لِكَذِبِهِ.
فَمَنْ قَال: إِنْ كَلَّمْتُ فُلاَنَةَ، أَوْ إِنْ لَمْ أُكَلِّمْهَا
فَهُوَ بَرِيءٌ مِنَ الإِْسْلاَمِ، فَمَقْصُودُهُ مَنْعُ نَفْسِهِ مِنَ
التَّكْلِيمِ فِي الصُّورَةِ الأُْولَى أَوْ حَثُّ نَفْسِهِ عَلَيْهِ
فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ حَذَرًا مِنَ الْكُفْرِ، فَلاَ يَكُونُ
رَاضِيًا بِالْكُفْرِ، وَمَنْ قَال: إِنْ لَمْ أَكُنِ اشْتَرَيْتُ
هَذَا بِدِينَارٍ فَهُوَ يَهُودِيٌّ، وَأَرَادَ بِهَذَا حَمْل
الْمُخَاطَبِ عَلَى تَصْدِيقِ مَا ادَّعَاهُ وَكَانَ كَاذِبًا عَمْدًا
لاَ يَكُونُ رَاضِيًا بِالْكُفْرِ؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ
تَرْوِيجَ كَذِبِهِ بِتَعْلِيقِ الْكُفْرِ عَلَى نَقِيضِهِ.
هَذَا هُوَ الأَْصْل، وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ الْمُتَكَلِّمُ جَاهِلاً،
فَيَعْتَقِدُ أَنَّ الْحَلِفَ بِصِيغَةِ الْكُفْرِ كُفْرٌ، أَوْ
يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَكْفُرُ بِإِقْدَامِهِ عَلَى مَا حَلَفَ عَلَى
تَرْكِهِ أَوْ إِحْجَامِهِ عَمَّا حَلَفَ عَلَى فِعْلِهِ.
فَفِي الصُّورَةِ الأُْولَى يُعْتَبَرُ كَافِرًا بِمُجَرَّدِ الْحَلِفِ
لأَِنَّهُ تَكَلَّمَ بِمَا يَعْتَقِدُهُ كُفْرًا، فَكَانَ رَاضِيًا
بِالْكُفْرِ حَالاً.
وَفِي الصُّورَتَيْنِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ يَكْفُرُ
بِالإِْقْدَامِ عَلَى مَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِهِ وَالإِْحْجَامِ عَمَّا
حَلَفَ عَلَى فِعْلِهِ؛ لأَِنَّهُ عَمِل عَمَلاً يَعْتَقِدُهُ كُفْرًا،
فَكَانَ رَاضِيًا بِالْكُفْرِ، وَلاَ يَكْفُرُ بِمُجَرَّدِ النُّطْقِ
بِالْيَمِينِ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ إِلاَّ إِذَا كَانَ حِينَ
النُّطْقِ عَازِمًا عَلَى الْحِنْثِ؛ لأَِنَّ الْعَزْمَ عَلَى
الْكُفْرِ كُفْرٌ. (1)
142 - وَصَفْوَةُ الْقَوْل أَنَّ الْحَلِفَ بِالْكُفْرِ لاَ يُعَدُّ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 55.
(7/301)
كُفْرًا، إِلاَّ إِذَا كَانَ قَائِلُهُ
رَاضِيًا بِالْكُفْرِ، وَهَذَا هُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
فِي الْغَمُوسِ وَغَيْرِهَا، وَيُقَابِلُهُ رَأْيَانِ فِي الْغَمُوسِ -
أَيِ الْحَلِفِ عَلَى الْكَذِبِ الْعَمْدِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لاَ يَكْفُرُ وَإِنِ اعْتَقَدَ الْكُفْرَ.
ثَانِيهِمَا: أَنَّهُ يَكْفُرُ وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدِ الْكُفْرَ.
وَوَجْهُ الأَْوَّل: أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ مِنِ اعْتِقَادِ الْكُفْرِ
الرِّضَى بِهِ، فَكَمْ مِنْ إِنْسَانٍ يُقْدِمُ عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ
كُفْرًا لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ، وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ.
وَالْحَالِفُ غَرَضُهُ تَرْوِيجُ كَذِبِهِ أَوْ إِظْهَارُ
امْتِنَاعِهِ، فَهُوَ حِينَمَا يَنْطِقُ بِمَا يَعْتَقِدُهُ كُفْرًا
إِنَّمَا يَأْتِي بِهِ صُورَةً مَحْضَةً خَالِيَةً مِنَ الرِّضَى
بِالْكُفْرِ.
وَوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْحَالِفَ لَمَّا عَلَّقَ الْكُفْرَ
بِأَمْرٍ مُحَقَّقٍ كَانَ تَنْجِيزًا فِي الْمَعْنَى، كَأَنَّهُ قَال
ابْتِدَاءً: هُوَ كَافِرٌ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي
الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ
حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإِْسْلاَمِ كَاذِبًا
مُتَعَمِّدًا فَهُوَ كَمَا قَال (1) .
حُكْمُ الإِْقْدَامِ عَلَى تَعْلِيقِ الْكُفْرِ فِي بَقِيَّةِ
الْمَذَاهِبِ:
143 - قَال الْمَالِكِيَّةُ: يَحْرُمُ تَعْلِيقُ الْكُفْرِ بِقَصْدِ
الْحَلِفِ، وَلاَ يَرْتَدُّ إِنْ فَعَل الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ،
وَلْيَتُبْ إِلَى اللَّهِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَفَعَلَهُ أَمْ لَمْ
يَفْعَلْهُ، لأَِنَّهُ ارْتَكَبَ ذَنْبًا.
فَإِنْ قَصَدَ الإِْخْبَارَ عَنْ نَفْسِهِ بِالْكُفْرِ كَانَ رِدَّةً،
وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ هَزْلاً (2) وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَحْرُمُ
تَعْلِيقُ الْكُفْرِ
__________
(1) حديث: " من حلف على يمين بملة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 11 /
537) ومسلم (1 / 104) ط عيسى الحلبي، واللفظ له.
(2) الشرح الصغير وحاشية الصاوي عليه 1 / 320، والشرح الكبير بحاشية
الدسوقي 2 / 128.
(7/302)
الَّذِي يَقْصِدُ بِهِ الْيَمِينَ عَادَةً،
وَلاَ يَكْفُرُ بِهِ إِذَا قَصَدَ تَبْعِيدَ نَفْسِهِ عَنِ
الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ أَوْ أَطْلَقَ، فَإِنْ قَصَدَ حَقِيقَةَ
التَّعْلِيقِ، أَوْ قَصَدَ الرِّضَى بِالْكُفْرِ كَفَرَ مِنْ فَوْرِهِ،
دُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى حُصُول الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ، إِذِ الرِّضَى
بِالْكُفْرِ كُفْرٌ، ثُمَّ إِنْ كَفَرَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ
وَالْعَوْدَةُ إِلَى الإِْسْلاَمِ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ،
وَإِنْ لَمْ يَكْفُرْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ أَيْضًا، وَنُدِبَ
لَهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَل كَأَنْ يَقُول:
أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ
الْحَيَّ الْقَيُّومَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ. وَنُدِبَ لَهُ أَنْ يَنْطِقَ
بِالشَّهَادَتَيْنِ.
وَمَنْ مَاتَ أَوْ غَابَ وَتَعَذَّرَتْ مُخَاطَبَتُهُ، وَكَانَ قَدْ
عَلَّقَ الْكُفْرَ وَلَمْ يُعْرَفْ قَصْدُهُ، فَمُقْتَضَى كَلاَمِ
الأَْذْكَارِ لِلنَّوَوِيِّ أَنَّهُ لاَ يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ، وَهَذَا
هُوَ الرَّاجِحُ، خِلاَفًا لِمَا اعْتَمَدَهُ الإِْسْنَوِيُّ مِنَ
الْحُكْمِ بِكُفْرِهِ إِذَا لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تَصْرِفُهُ
عَنِ الْكُفْرِ. (1)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَحْرُمُ الإِْقْدَامُ عَلَى الْيَمِينِ
بِالْكُفْرِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِصُورَةِ التَّعْلِيقِ نَحْوَ: إِنْ
فَعَل كَذَا فَهُوَ يَهُودِيٌّ، أَمْ بِصُورَةِ الْقَسَمِ نَحْوَ: هُوَ
يَهُودِيٌّ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا. وَإِنْ قَصَدَ أَنَّهُ يَكْفُرُ
عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَفَرَ مُنَجَّزًا. (2)
حُكْمُ الْبِرِّ وَالْحِنْثِ فِيهِ:
144 - إِذَا قَصَدَ بِتَعْلِيقِ الْكُفْرِ تَأْكِيدَ خَبَرٍ، فَإِنْ
كَانَ صَادِقًا كَانَ الْحَالِفُ بَارًّا، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا كَانَ
__________
(1) تحفة المحتاج بشرح المنهاج 8 / 215، ونهاية المحتاج 8 / 169.
(2) مطالب أولي النهى 6 / 371 - 372، والمغني بأعلى الشرح الكبير 11 /
198 - 201.
(7/302)
الْحَالِفُ حَانِثًا، وَالْبِرُّ فِي
الصُّورَةِ الأُْولَى، وَالْحِنْثُ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ
مُقَارِنَانِ لِتَمَامِ الْيَمِينِ، فَلاَ حُكْمَ لَهُمَا سِوَى حُكْمِ
الإِْقْدَامِ.
وَإِنَّمَا يَكُونُ لِلْبِرِّ وَالْحِنْثِ حُكْمٌ مُسْتَقِلٌّ إِذَا
كَانَ الْمَقْصُودُ تَأْكِيدَ الْحَثِّ أَوِ الْمَنْعِ، فَإِنَّهُمَا
حِينَئِذٍ يَكُونَانِ مُتَأَخِّرَيْنِ.
وَالْخُلاَصَةُ: أَنَّ تَعْلِيقَ الْكُفْرِ بِقَصْدِ الْيَمِينِ إِنْ
كَانَ صَادِقًا أَوْ غَمُوسًا أَوْ لَغْوًا فَلَيْسَ لِلْبِرِّ فِي
الأَْوَّل وَالْحِنْثِ فِي الأَْخِيرَيْنِ حُكْمٌ سِوَى حُكْمِ
الإِْقْدَامِ عَلَى التَّعْلِيقِ.
وَإِنْ كَانَ مُنْعَقِدًا، فَحُكْمُ الْبِرِّ وَالْحِنْثِ فِيهِ هُوَ
حُكْمُ الْبِرِّ وَالْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى
الْمُنْعَقِدَةِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ وَاخْتِلاَفُ الْفُقَهَاءِ
فِيهِ تَفْصِيلاً.
مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحِنْثِ فِيهِ:
145 - سَبَقَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي تَعْلِيقِ الْكُفْرِ
بِقَصْدِ الْيَمِينِ، أَهُوَ يَمِينٌ شَرْعِيَّةٌ أَمْ لاَ؟ فَمَنْ
قَال: إِنَّهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ قَال: لاَ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ
بِالْحِنْثِ فِيهِ، وَمَنْ قَال: إِنَّهُ يَمِينٌ قَال: إِنَّمَا
تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْحِنْثِ فِيهِ إِنْ كَانَ مُنْعَقِدًا،
فَإِنْ كَانَ لَغْوًا لَمْ تَجِبْ فِيهِ كَفَّارَةٌ، وَإِنْ كَانَ
غَمُوسًا فَفِيهِ الْخِلاَفُ الَّذِي فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ
بِاللَّهِ تَعَالَى.
أَحْكَامُ تَعْلِيقِ الطَّلاَقِ وَالظِّهَارِ وَالْحَرَامِ
وَالْتِزَامِ الْقُرْبَةِ:
مُقَارَنَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى:
146 - سَبَقَ أَنَّ تَعْلِيقَ الْكُفْرِ فِي مَعْنَى الْيَمِينِ
بِاللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ يُعْتَبَرُ فِيهِ
مَا يُعْتَبَرُ فِيهَا مِنْ شَرَائِطَ وَأَقْسَامٍ وَأَحْكَامٍ.
(7/303)
وَلَيْسَ لِبَقِيَّةِ التَّعْلِيقَاتِ
هَذِهِ الصِّفَةُ، فَهِيَ تُخَالِفُ الْيَمِينَ بِاللَّهِ تَعَالَى فِي
أُمُورٍ:
الأَْمْرُ الأَْوَّل: أَنَّهَا تُعْتَبَرُ مِنْ قَبِيل الْحَلِفِ
بِغَيْرِ اللَّهِ، فَيَنْطَبِقُ عَلَيْهِ حَدِيثُ النَّهْيِ عَنِ
الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ، بِخِلاَفِ تَعْلِيقِ الْكُفْرِ فَقَدْ
قَرَّرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْيَمِينِ بِاللَّهِ
تَعَالَى، فَلاَ يَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهُ لِذَاتِهِ، لَكِنَّهُمْ
قَرَّرُوا أَيْضًا أَنَّ يَمِينَ الطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ إِذَا
كَانَتْ لِلاِسْتِيثَاقِ جَازَتْ عَلَى الأَْصَحِّ كَمَا تَقَدَّمَ.
الأَْمْرُ الثَّانِي: أَنَّهَا لاَ تَنْقَسِمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ إِلَى غَمُوسٍ وَلَغْوٍ وَمُنْعَقِدَةٍ، بَل
تُعْتَبَرُ كُلُّهَا مُنْعَقِدَةً، سَوَاءٌ أَقَصَدَ بِهَا تَأْكِيدَ
خَبَرٍ أَمْ تَأْكِيدَ حَثٍّ أَوْ مَنْعٍ، فَمَنْ حَلَفَ بِالطَّلاَقِ
وَنَحْوِهِ كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا وَقَعَ طَلاَقُهُ، وَكَذَا مَنْ
كَانَ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ صَادِقٌ وَكَانَ مُخْطِئًا فِي اعْتِقَادِهِ
(1) لأَِنَّ الطَّلاَقَ وَالْعِتْقَ وَالْتِزَامَ الْقُرْبَةِ
يَسْتَوِي فِيهَا الْهَزْل وَالْجِدُّ؛ لِحَدِيثِ: ثَلاَثٌ جِدُّهُنَّ
جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ وَالطَّلاَقُ وَالرَّجْعَةُ (2)
.
وَيُقَاسُ بِالطَّلاَقِ الْعَتَاقُ وَالْتِزَامُ الْقُرْبَةِ، فَإِذَا
كَانَ هَزْل هَذِهِ الثَّلاَثَةِ جِدًّا، فَالْكَذِبُ فِي الْحَلِفِ
بِهَا يَكُونُ جِدًّا أَيْضًا، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ تَكُونَ
الْيَمِينُ بِاللَّهِ تَعَالَى كَذَلِكَ؛ لأَِنَّ هَزْلَهَا جِدٌّ
أَيْضًا كَمَا سَبَقَ، لَكِنْ لَمْ يُلْحَقْ فِيهَا الْغَمُوسُ
وَاللَّغْوُ بِالْهَزْل لأَِدِلَّةٍ أَخْرَجَتْهُمَا.
الأَْمْرُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ التَّعْلِيقَاتِ يَقَعُ جَزَاؤُهَا
عِنْدَ الْجُمْهُورِ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ، فَتَعْلِيقُ الطَّلاَقِ
يَقَعُ بِهِ الطَّلاَقُ عِنْدَ تَحَقُّقِ مَا عُلِّقَ عَلَيْهِ،
وَكَذَا تَعْلِيقُ الْعَتَاقِ، وَأَمَّا تَعْلِيقُ الْتِزَامِ
الْقُرْبَةِ فَيُخَيَّرُ الْحَالِفُ بِهِ
__________
(1) البدائع 3 / 8، وبلغة السالك 1 / 330 - 331.
(2) حديث: " ثلاث جدهن جد. . . " سبق تخريجه. (ف 55) .
(7/303)
بَيْنَ مَا الْتَزَمَهُ وَبَيْنَ
كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَهُنَاكَ أَقْوَالٌ غَيْرُ ذَلِكَ سَبَقَ
بَيَانُهَا.
حُكْمُ الإِْقْدَامِ عَلَيْهِ:
147 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى
لاَ يَجُوزُ (1) وَيَدْخُل فِي ذَلِكَ عِنْدَهُمُ الإِْقْسَامُ
بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، نَحْوَ " وَأَبِي "، كَمَا يَدْخُل
الْحَلِفُ بِالطَّلاَقِ وَنَحْوِهِ مِنَ التَّعْلِيقَاتِ، لَكِنَّهُمُ
اسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ تَعْلِيقَ الْكُفْرِ، فَقَدْ جَعَلُوهُ
كِنَايَةً عَنِ الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى كَمَا تَقَدَّمَ،
وَاسْتَثْنَوْا أَيْضًا تَعْلِيقَ الطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ بِقَصْدِ
الاِسْتِيثَاقِ، فَأَجَازُوهُ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ خُصُوصًا
فِي زَمَانِنَا هَذَا، (2) كَمَا تَقَدَّمَ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِكَرَاهَةِ الْحَلِفِ بِالطَّلاَقِ
وَالْعَتَاقِ (3) ، وَلِمَعْرِفَةِ بَاقِي الْمَذَاهِبِ فِي ذَلِكَ
يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مَوَاضِعِ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مِنْ كُتُبِ
الْفِقْهِ.
حُكْمُ الْبِرِّ وَالْحِنْثِ فِيهِ:
148 - إِذَا قَصَدَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ التَّعْلِيقَاتِ تَأْكِيدَ
خَبَرٍ، وَكَانَ صَادِقًا فِي الْوَاقِعِ، لَمْ يُتَصَوَّرْ فِيهَا
حِنْثٌ؛ لأَِنَّهَا مَبْرُورَةٌ حِينَ النُّطْقِ بِهَا، وَلَيْسَ
لِلْبِرِّ فِيهَا حُكْمٌ سِوَى حُكْمِ الإِْقْدَامِ عَلَيْهَا.
وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فِي الْوَاقِعِ لَمْ يُتَصَوَّرْ فِيهَا بِرٌّ؛
لأَِنَّ
__________
(1) عبر صاحب البدائع بكلمة " معصية " وعبر ابن عابدين بكلمة " محظور "
(البدائع 3 / 8، وابن عابدين 3 / 45) والظاهر أن المقصود الكراهة
التحريمية.
(2) المقصود: زمان المؤلفين، ولعل هذه الحاجة قد زالت في زمان كتابة
هذا الموضوع بالموسوعة، فقد شاع رأي ابن تيمية بعدم وقوع الطلاق الذي
يقصد به اليمين.
(3) مطالب أولي النهى 6 / 364.
(7/304)
الْحِنْثَ مُقَارِنٌ لِتَمَامِ
الإِْتْيَانِ بِهَا، وَلَيْسَ لَهُ حُكْمٌ سِوَى حُكْمِ الإِْقْدَامِ
عَلَيْهَا.
وَإِنْ قَصَدَ بِشَيْءٍ مِنْهَا تَأْكِيدَ الْحَثِّ أَوِ الْمَنْعِ،
فَحُكْمُ الْبِرِّ وَالْحِنْثِ فِيهَا هُوَ حُكْمُ الْحِنْثِ
وَالْبِرِّ فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى الْمُنْعَقِدَةِ،
فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَمَا يُؤَدِّي
إِلَيْهِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ وَبَيَانُ الاِخْتِلاَفِ فِيهِ،
كَمَا سَبَقَ حُكْمُ الإِْبْرَارِ إِنْ كَانَ حَلِفًا عَلَى الْغَيْرِ.
مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحِنْثِ فِيهِ:
149 - يَرَى الْجُمْهُورُ أَنَّ الْحِنْثَ فِي هَذِهِ التَّعْلِيقَاتِ
يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُصُول الْجَزَاءِ، إِلاَّ تَعْلِيقَ الْتِزَامِ
الْقُرْبَةِ، فَإِنَّهُ عِنْدَ الْحِنْثِ بِتَحَقُّقِ الشَّرْطِ
يَتَخَيَّرُ الْحَالِفُ بَيْنَ مَا الْتَزَمَهُ وَبَيْنَ كَفَّارَةِ
الْيَمِينِ.
انْحِلاَل الْيَمِينِ:
الْيَمِينُ إِمَّا مُؤَكِّدَةٌ لِلْخَبَرِ الْمَاضِي أَوِ الْحَاضِرِ
أَوِ الْمُسْتَقْبَل، وَإِمَّا مُؤَكِّدَةٌ لِلْحَثِّ أَوِ الْمَنْعِ.
150 - فَالْمُؤَكِّدَةُ لِلْخَبَرِ: إِنْ كَانَ مَاضِيًا أَوْ حَاضِرًا
فَهِيَ مُنْحَلَّةٌ مِنْ حِينِ النُّطْقِ بِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ
صَادِقَةً أَمْ غَمُوسًا أَمْ لَغْوًا؛ لأَِنَّ الْبِرَّ وَالْحِنْثَ
وَالإِْلْغَاءَ يَقْتَضِي كُلٌّ مِنْهَا انْحِلاَل الْيَمِينِ.
وَإِنْ كَانَ مُسْتَقْبَلاً صُدِّقَا يَقِينًا فَهِيَ مُنْحَلَّةٌ
أَيْضًا مِنْ حِينِ النُّطْقِ بِهَا، نَحْوَ: وَاللَّهِ لأََمُوتَنَّ،
أَوْ لَيَبْعَثَنَّ اللَّهُ الْخَلاَئِقَ؛ لأَِنَّهَا بَارَّةٌ مِنْ
حِينِ النُّطْقِ بِهَا، وَلاَ يَتَوَقَّفُ بِرُّهَا عَلَى حُصُول
الْمَوْتِ وَالْبَعْثِ.
وَإِنْ كَانَ مُسْتَقْبَلاً كَذِبًا عَمْدًا، كَقَوْل الْقَائِل:
وَاللَّهِ لأََشْرَبَنَّ مَاءَ هَذَا الْكُوزِ، وَهُوَ يَعْلَمُ
أَنَّهُ لاَ مَاءَ
(7/304)
فِيهِ، فَهِيَ غَمُوسٌ، وَقَدْ سَبَقَ
الْخِلاَفُ فِي انْعِقَادِهَا: فَمَنْ قَال بِانْعِقَادِهَا يَقُول:
إِنَّ الْحِنْثَ قَارَنَ الاِنْعِقَادَ فَوَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ
وَانْحَلَّتْ، وَمَنْ قَال بِعَدَمِ انْعِقَادِهَا قَال: إِنَّهَا لاَ
حَاجَةَ بِهَا إِلَى الاِنْحِلاَل كَمَا لاَ يَخْفَى.
وَإِنْ كَانَ مُسْتَقْبَلاً كَذِبًا خَطَأً، بِأَنْ كَانَ الْحَالِفُ
يَعْتَقِدُهُ صِدْقًا، فَحُكْمُهَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنِ
تَيْمِيَّةَ حُكْمُ اللَّغْوِ، فَهِيَ مُنْحَلَّةٌ مِنْ حِينِ
انْعِقَادِهَا، أَوْ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ أَصْلاً، وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ
حُكْمُهَا حُكْمُ الْيَمِينِ عَلَى الْحَثِّ وَالْمَنْعِ وَسَيَأْتِي
قَرِيبًا.
151 - وَالْمُؤَكِّدَةُ لِلْحَثِّ أَوِ الْمَنْعِ تَنْحَل بِأُمُورٍ:
الأَْوَّل: الرِّدَّةُ - وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى - وَهِيَ
تَحُل الْيَمِينَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ
تَحْرِيمِ الْحَلاَل وَتَعْلِيقِ الْكُفْرِ بِقَصْدِ الْيَمِينِ،
وَإِنَّمَا ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ،
فَإِنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ فِي بَقَاءِ انْعِقَادِ الْيَمِينِ
الإِْسْلاَمَ، كَمَا يَشْتَرِطُونَهُ فِي أَصْل الاِنْعِقَادِ،
فَالرِّدَّةُ عِنْدَهُمْ تُبْطِل الاِنْعِقَادَ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ
قَبْل الْحِنْثِ أَمْ بَعْدَهُ، وَلاَ يَرْجِعُ الاِنْعِقَادُ
بِالرُّجُوعِ إِلَى الإِْسْلاَمِ.
الثَّانِي: ذِكْرُ الاِسْتِثْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ بِشَرَائِطِهِ
الْمُتَقَدِّمَةِ. فَمَنْ حَلَفَ وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ
الاِسْتِثْنَاءُ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ، فَإِذَا وَصَل بِهَا
الاِسْتِثْنَاءَ انْحَلَّتْ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ، وَخَالَفَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
فَقَالُوا: لاَ بُدَّ مِنْ قَصْدِ الاِسْتِثْنَاءِ قَبْل فَرَاغِ
الْيَمِينِ، ثُمَّ وَصَل الاِسْتِثْنَاءَ بِهِ، فَفِي هَذِهِ
الْحَالَةِ يَكُونُ الاِسْتِثْنَاءُ مَانِعًا مِنَ انْعِقَادِ
الْيَمِينِ.
الثَّالِثُ: فَوَاتُ الْمَحَل فِي الْيَمِينِ عَلَى الإِْثْبَاتِ
الْمُؤَقَّتِ، نَحْوَ: وَاللَّهِ لأََشْرَبَنَّ مَاءَ هَذَا الْكُوزِ
الْيَوْمَ، فَإِذَا صَبَّهُ الْحَالِفُ أَوْ غَيْرُهُ انْحَلَّتِ
الْيَمِينُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْبِرَّ لاَ يَجِبُ إِلاَّ
آخِرَ الْيَوْمِ - أَيِ الْوَقْتِ الْمُتَّصِل بِغُرُوبِ الشَّمْسِ -
وَفِي هَذَا الْوَقْتِ لاَ يُمْكِنُهُ
(7/305)
الْبِرُّ؛ لِحُصُول الْفَرَاغِ مِنَ
الْمَاءِ قَبْلَهُ، فَلاَ يَحْنَثُ، وَبِهَذَا يَعْلَمُ انْحِلاَل
يَمِينِهِ مِنْ حِينِ فَرَاغِ الْكُوزِ.
وَغَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ يَرَوْنَ أَنَّ فَوَاتَ الْمَحَل إِذَا كَانَ
بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الْحَالِفِ وَقَبْل تَمَكُّنِهِ مِنَ الْبِرِّ
يُحَل يَمِينُهُ، كَمَا لَوِ انْصَبَّ الْكُوزُ عَقِبَ الْيَمِينِ مِنْ
غَيْرِ اخْتِيَارِهِ، أَوْ أَخَذَهُ إِنْسَانٌ فَشَرِبَهُ وَلَمْ
يَتَمَكَّنْ مِنْ أَخْذِهِ مِنْهُ.
الرَّابِعُ: الْبِرُّ فِي الْيَمِينِ، بِأَنْ يَفْعَل كُل مَا حَلَفَ
عَلَى فِعْلِهِ، أَوْ يَسْتَمِرَّ عَلَى تَرْكِ كُل مَا حَلَفَ عَلَى
تَرْكِهِ.
الْخَامِسُ: الْحِنْثُ، فَإِنَّ الْيَمِينَ إِذَا انْعَقَدَتْ، ثُمَّ
حَصَل الْحِنْثُ بِوُقُوعِ مَا حَلَفَ عَلَى نَفْيِهِ، أَوْ
بِالْيَأْسِ مِنْ وُقُوعِ مَا حَلَفَ عَلَى ثُبُوتِهِ، فَهَذَا
الْحِنْثُ تَنْحَل بِهِ الْيَمِينُ.
السَّادِسُ: الْعَزْمُ عَلَى الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ عَلَى
الإِْثْبَاتِ الْمُطْلَقِ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، فَلَوْ
قَال: وَاللَّهِ لأََتَزَوَّجَنَّ، ثُمَّ عَزَمَ عَلَى عَدَمِ
الزَّوَاجِ طُول حَيَاتِهِ، فَمِنْ حِينِ الْعَزْمِ تَنْحَل
الْيَمِينُ، وَيُعْتَبَرُ حَانِثًا، وَتَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ،
وَلَوْ رَجَعَ عَنْ عَزْمِهِ لَمْ تَرْجِعِ الْيَمِينُ.
السَّابِعُ: الْبَيْنُونَةُ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلاَقِ، فَمَنْ قَال
لاِمْرَأَتِهِ: إِنْ فَعَلْتِ كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ بَانَتْ
مِنْهُ بِخُلْعٍ أَوْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي طَلاَقٍ رَجْعِيٍّ،
أَوْ بِإِكْمَال الطَّلاَقِ ثَلاَثًا، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ
عَادَتْ إِلَيْهِ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ لَمْ يَعُدِ التَّعْلِيقُ
لاِنْحِلاَلِهِ بِالْبَيْنُونَةِ.
جَامِعُ الأَْيْمَانِ
الأُْمُورُ الَّتِي تُرَاعَى فِي أَلْفَاظِ الأَْيْمَانِ:
152 - مَعْلُومٌ أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي يَأْتِي بِهِ الْحَالِفُ
يَشْتَمِل عَلَى أَفْعَالٍ وَأَسْمَاءٍ وَحُرُوفٍ لَهَا مَعَانٍ
لُغَوِيَّةٌ
(7/305)
أَوْ عُرْفِيَّةٌ، وَأَنَّهَا تَارَةً
تَكُونُ مُقَيَّدَةً بِقُيُودٍ لَفْظِيَّةٍ، وَتَارَةً تَقُومُ
الْقَرَائِنُ عَلَى تَقْيِيدِهَا، وَقَدْ يَقْصِدُ الْحَالِفُ مَعْنًى
يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ أَوْ لاَ يَحْتَمِلُهُ، وَكُل هَذَا يَخْتَلِفُ
الْبِرُّ وَالْحِنْثُ تَبَعًا لاِخْتِلاَفِهِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا تَجِبُ مُرَاعَاتُهُ عِنْدَ
اخْتِلاَفِ اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ وَالنِّيَّةِ وَالسِّيَاقِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ.
وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ الْقَوَاعِدِ الَّتِي تُتْبَعُ مُرَتَّبَةً
مَعَ بَيَانِ اخْتِلاَفِ الْمَذَاهِبِ فِيهَا.
الْقَاعِدَةُ الأُْولَى: مُرَاعَاةُ نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ:
153 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: يَمِينُكَ عَلَى مَا
يُصَدِّقُكَ عَلَيْهِ صَاحِبُكَ (1) وَالْمَعْنَى: يَمِينُكَ الَّتِي
تَحْلِفُهَا، مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي لَوْ نَوَيْتَهُ،
وَكُنْتَ صَادِقًا، لاَعْتَقَدَ خَصْمُكَ أَنَّكَ صَادِقٌ فِيهَا،
وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يَخْطِرُ بِبَالِهِ حِينَ اسْتِحْلاَفِهِ
إِيَّاكَ، وَهُوَ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ مُتَّفِقًا مَعَ ظَاهِرِ
اللَّفْظِ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّ التَّوْرِيَةَ بَيْنَ يَدَيِ
الْمُسْتَحْلِفِ لاَ تَنْفَعُ الْحَالِفَ، بَل تَكُونُ يَمِينُهُ
غَمُوسًا تَغْمِسُهُ فِي الإِْثْمِ.
وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، غَيْرَ
أَنَّ لَهُمْ تَفْصِيلاَتٍ وَشَرَائِطَ بَيَانُهَا فِيمَا يَلِي:
154 - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: حَكَى الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْمَذْهَبَ
كَوْنُ الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ إِنْ
كَانَ مَظْلُومًا، فَإِنْ كَانَ ظَالِمًا فَعَلَى نِيَّةِ
الْمُسْتَحْلِفِ، لَكِنْ فَرَّقَ الْقُدُورِيُّ بَيْنَ الْيَمِينِ
عَلَى الْمَاضِي وَعَلَى
__________
(1) حديث: " يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك. . . " أخرجه مسلم (3 /
1274) ط عيسى الحلبي، والترمذي (3 / 636) ط مصطفى الحلبي، وابن ماجه (1
/ 686) ط عيسى الحلبي (ر: فيض القدير 6 / 464) .
(7/306)
الْمُسْتَقْبَل، فَقَال: إِذَا كَانَتِ
الْيَمِينُ عَلَى مَاضٍ فَفِيهَا التَّفْصِيل السَّابِقُ؛ لأَِنَّ
الْمُؤَاخَذَةَ عَلَيْهَا إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً إِنَّمَا هِيَ
بِالإِْثْمِ، كَالْمَظْلُومِ إِذَا نَوَى بِهَا مَا يُخْرِجُهَا عَنِ
الْكَذِبِ، صَحَّتْ نِيَّتُهُ فَلَمْ يَأْثَمْ، لأَِنَّهُ لَمْ
يَظْلِمْ بِهَا أَحَدًا، بِخِلاَفِ الظَّالِمِ إِذَا نَوَى بِيَمِينِهِ
مَا يُخْرِجُهَا عَنِ الْكَذِبِ فَإِنَّ نِيَّتَهُ بَاطِلَةٌ،
وَتَكُونُ يَمِينُهُ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ فَتَكُونُ
كَاذِبَةً ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَيَأْثَمُ لأَِنَّهُ ظَلَمَ بِهَا
غَيْرَهُ.
وَإِذَا كَانَتْ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ فَهِيَ عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ
مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ؛ لأَِنَّهَا حِينَئِذٍ عَقْدٌ، وَالْعَقْدُ
عَلَى نِيَّةِ الْعَاقِدِ. (1)
وَالْيَمِينُ بِالطَّلاَقِ وَنَحْوِهِ تُعْتَبَرُ فِيهَا نِيَّةُ
الْحَالِفِ، ظَالِمًا كَانَ أَوْ مَظْلُومًا، إِذَا لَمْ يَنْوِ
خِلاَفَ الظَّاهِرِ، فَلاَ تَطْلُقُ زَوْجَتُهُ لاَ قَضَاءً وَلاَ
دِيَانَةً، لَكِنَّهُ يَأْثَمُ - إِنْ كَانَ ظَالِمًا - إِثْمَ
الْغَمُوسِ، فَلَوْ نَوَى خِلاَفَ الظَّاهِرِ - كَمَا لَوْ نَوَى
الطَّلاَقَ عَنْ وَثَاقٍ - اعْتُبِرَتْ نِيَّتُهُ دِيَانَةً لاَ
قَضَاءً، فَيَحْكُمُ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِوُقُوعِ الطَّلاَقِ سَوَاءٌ
أَكَانَ ظَالِمًا أَمْ مَظْلُومًا.
وَقَال الْخَصَّافُ: تُعْتَبَرُ نِيَّتُهُ قَضَاءً إِنْ كَانَ
مَظْلُومًا. (2)
155 - مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: اخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ، فَقَال سَحْنُونٌ وَأَصْبَغُ وَابْنُ الْمَوَّازِ:
إِنَّ الْيَمِينَ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ.
وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ إِنَّهَا عَلَى، نِيَّةِ الْحَالِفِ،
فَيَنْفَعُهُ الاِسْتِثْنَاءُ، فَلاَ تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ، وَلَكِنْ
يَحْرُمُ ذَلِكَ عَلَيْهِ
__________
(1) البدائع 3 / 20، 21. وقد يقال: إن اليمين على المستقبل يتصور فيها
أن يكون الحالف ظالما ومظلوما فلم لم يفصل فيها.
(2) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 3 / 99.
(7/306)
مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَنَعَ حَقَّ
غَيْرِهِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ خِلاَفُ
الْمَشْهُورِ. ثُمَّ إِنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهَا عَلَى نِيَّةِ
الْمُسْتَحْلِفِ اخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهَا عَلَى نِيَّةِ الْمَحْلُوفِ
لَهُ عِنْدَ عَدَمِ اسْتِحْلاَفِهِ، فَذَهَبَ خَلِيلٌ إِلَى أَنَّهَا
لاَ تَكُونُ عَلَى نِيَّتِهِ، وَذَهَبَ الصَّاوِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ
عَلَى الشَّرْحِ الصَّغِيرِ إِلَى أَنَّهَا تَكُونُ عَلَى نِيَّتِهِ،
وَسَبَقَ فِي شَرَائِطِ صِحَّةِ الاِسْتِثْنَاءِ بَيَانٌ مُوَضَّحٌ
تَكُونُ فِيهِ الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ أَوِ
الْمَحْلُوفِ لَهُ عِنْدَهُمْ.
156 - مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ: الْيَمِينُ تَكُونُ عَلَى نِيَّةِ
الْمُسْتَحْلِفِ بِشَرَائِطَ:
الشَّرِيطَةُ الأُْولَى: أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَحْلِفُ مِمَّنْ يَصِحُّ
أَدَاءُ الشَّهَادَةِ عِنْدَهُ كَالْقَاضِي وَالْمُحَكِّمِ
وَالإِْمَامِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَتْ عَلَى نِيَّةِ
الْحَالِفِ، وَأَلْحَقَ ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخَصْمَ
بِالْقَاضِي، عَمَلاً بِحَدِيثِ: يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ
عَلَيْهِ صَاحِبُكَ (1) أَيْ خَصْمُكَ.
الشَّرِيطَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ الْقَاضِي وَنَحْوُهُ
بِطَلَبٍ مِنَ الْخَصْمِ، فَإِنِ اسْتَحْلَفَهُ بِلاَ طَلَبٍ مِنْهُ
كَانَتِ الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ.
الشَّرِيطَةُ الثَّالِثَةُ: أَلاَّ يَكُونَ الْحَالِفُ مُحِقًّا فِيمَا
نَوَاهُ عَلَى خِلاَفِ نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ، فَإِنِ ادَّعَى زَيْدٌ
أَنَّ عَمْرًا أَخَذَ مِنْ مَالِهِ كَذَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَسَأَل
رَدَّهُ، وَكَانَ عُمَرُ وَقَدْ أَخَذَهُ مِنْ دَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ،
فَأَجَابَ بِنَفْيِ الاِسْتِحْقَاقِ، فَقَال زَيْدٌ لِلْقَاضِي:
حَلِّفْهُ أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ مَالِي شَيْئًا بِغَيْرِ
إِذْنِي. وَكَانَ الْقَاضِي يَرَى إِجَابَتَهُ لِذَلِكَ، فَيَجُوزُ
لِعَمْرٍو أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا مِنْ
__________
(1) حديث: " يمينك. . . " تقدم تخريجه (ر: ف 153) .
(7/307)
مَالِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَيَنْوِي
أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْهُ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، فَيَمِينُهُ فِي
هَذِهِ الْحَالَةِ تَكُونُ عَلَى نِيَّتِهِ الْمُقَيَّدَةِ، لاَ عَلَى
نِيَّةِ الْقَاضِي الْمُطْلَقَةِ، وَلاَ يَأْثَمُ بِذَلِكَ.
الشَّرِيطَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ الاِسْتِحْلاَفُ بِاللَّهِ
تَعَالَى لاَ بِالطَّلاَقِ وَنَحْوِهِ، لَكِنْ إِذَا كَانَ
الْمُسْتَحْلِفُ يَرَى جَوَازَ التَّحْلِيفِ بِالطَّلاَقِ
كَالْحَنَفِيِّ، كَانَتِ الْيَمِينُ عَلَى نِيَّتِهِ لاَ عَلَى نِيَّةِ
الْحَالِفِ. (1)
157 - مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ: يَرْجِعُ فِي الْيَمِينِ إِلَى نِيَّةِ
الْحَالِفِ فَهِيَ مَبْنَاهَا ابْتِدَاءً، إِلاَّ إِذَا كَانَ
الْحَالِفُ ظَالِمًا، وَيَسْتَحْلِفُهُ لِحَقٍّ عَلَيْهِ، فَهَذَا
يَنْصَرِفُ يَمِينُهُ إِلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ الَّذِي عَنَاهُ
الْمُسْتَحْلِفُ. (2)
الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ: مُرَاعَاةُ نِيَّةِ الْحَالِفِ:
إِذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَحْلِفٌ أَصْلاً، أَوْ كَانَ مُسْتَحْلِفٌ
وَلَكِنْ عُدِمَتْ شَرِيطَةٌ مِنَ الشَّرَائِطِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ
عَلَيْهَا الرُّجُوعُ إِلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ، رُوعِيَتْ
نِيَّةُ الْحَالِفِ الَّتِي يَحْتَمِلُهَا اللَّفْظُ، وَفِيمَا يَلِي
بَيَانُ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ:
158 - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: الأَْصْل عِنْدَهُمْ أَنَّ الْكَلاَمَ
يَنْصَرِفُ إِلَى الْعُرْفِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْحَالِفِ نِيَّةٌ،
فَإِنْ كَانَتْ لَهُ نِيَّةُ شَيْءٍ وَاللَّفْظُ يَحْتَمِلُهُ
انْعَقَدَتِ الْيَمِينُ بِاعْتِبَارِهِ، فَمَنْ حَلَفَ لاَ يَدْخُل
بَيْتًا فَدَخَل الْمَسْجِدَ لاَ يَحْنَثُ إِذَا لَمْ يَنْوِهِ؛
لأَِنَّ الْمَسْجِدَ لاَ يُعْتَبَرُ فِي الْعُرْفِ بَيْتًا، وَإِنْ
كَانَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ قَدْ سَمَّاهُ بَيْتًا. (3)
159 - مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ لَمْ تَجِبْ مُرَاعَاةُ نِيَّةِ
الْمُسْتَحْلِفِ وَجَبَتْ مُرَاعَاةُ نِيَّةِ الْحَالِفِ، فَهِيَ
__________
(1) أسنى المطالب 4 / 401 - 402.
(2) مطالب أولي النهى 6 / 378.
(3) فتح القدير 4 / 30.
(7/307)
تُخَصِّصُ الْعَامَّ وَتُقَيِّدُ
الْمُطْلَقَ وَتُبَيِّنُ الْمُجْمَل ثُمَّ إِنَّ النِّيَّةَ
الْمُخَصَّصَةَ وَالْمُقَيَّدَةَ لَهَا ثَلاَثَةُ أَحْوَالٍ:
الْحَالَةُ الأُْولَى: أَنْ تَكُونَ مُسَاوِيَةً لِظَاهِرِ اللَّفْظِ،
بِأَنْ يَحْتَمِل اللَّفْظُ إِرَادَتَهَا وَعَدَمَ إِرَادَتِهَا عَلَى
السَّوَاءِ بِلاَ تَرْجِيحٍ لأَِحَدِهِمَا عَلَى الآْخَرِ، كَحَلِفِهِ
لِزَوْجَتِهِ: إِنْ تَزَوَّجَ فِي حَيَاتِهَا فَالَّتِي يَتَزَوَّجُهَا
طَالِقٌ أَوْ فَعَلَيْهِ الْمَشْيُ إِلَى مَكَّةَ، فَتَزَوَّجَ بَعْدَ
طَلاَقِهَا، وَقَال: كُنْتُ نَوَيْتُ أَنِّي إِنْ تَزَوَّجْتُ
عَلَيْهَا فِي حَيَاتِهَا وَهِيَ فِي عِصْمَتِي، وَهِيَ الآْنَ
لَيْسَتْ فِي عِصْمَتِي.
فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَصْدُقُ فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى
أَوِ الطَّلاَقِ أَوِ الْتِزَامِ قُرْبَةٍ فِي كُلٍّ مِنَ الْفَتْوَى
وَالْقَضَاءِ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ حَلَفَ: لاَ يَأْكُل لَحْمًا،
فَأَكَل لَحْمَ طَيْرٍ، وَقَال: كُنْتُ أَرَدْتُ لَحْمَ غَيْرِ
الطَّيْرِ، فَإِنَّهُ يَصْدُقُ مُطْلَقًا أَيْضًا.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ مُقَارِبَةً
لِظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَإِنْ كَانَ أَرْجَحَ مِنْهَا، كَحَلِفِهِ لاَ
يَأْكُل لَحْمًا أَوْ سَمْنًا إِذَا ادَّعَى أَنَّهُ نَوَى لَحْمَ
الْبَقَرِ وَسَمْنَ الضَّأْنِ، فَأَكَل لَحْمَ الضَّأْنِ وَسَمْنَ
الْبَقَرِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَصْدُقُ فِي حَلِفِهِ بِاللَّهِ،
وَبِتَعْلِيقِ الْقُرْبَةِ مَا عَدَا الطَّلاَقَ، إِذَا رُفِعَ
أَمْرُهُ لِلْقَاضِي وَأُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، فَإِنَّهُ
يَحْكُمُ بِالطَّلاَقِ، وَمِثْل الْبَيِّنَةِ الإِْقْرَارُ.
وَيُقْبَل مِنْهُ مَا ادَّعَاهُ فِي الْفَتْوَى مُطْلَقًا، فَلاَ
يُعَدُّ حَانِثًا فِي جَمِيعِ أَيْمَانِهِ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ حَلَفَ: لاَ يُكَلِّمُ فُلاَنًا فَكَلَّمَهُ،
وَقَال: إِنِّي كُنْتُ نَوَيْتُ أَلاَّ أُكَلِّمَهُ شَهْرًا أَوْ
أَلاَّ أُكَلِّمَهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَقَدْ كَلَّمْتُهُ بَعْدَ شَهْرٍ
أَوْ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ، فَيُقْبَل فِي الْفَتْوَى مُطْلَقًا،
وَيُقْبَل فِي الْقَضَاءِ فِي غَيْرِ الْحَلِفِ بِالطَّلاَقِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ: أَلاَّ يَبِيعَهُ أَوْ أَلاَّ يَضْرِبَهُ،
ثُمَّ
(7/308)
وَكَّل إِنْسَانًا فِي بَيْعِهِ أَوْ
أَمَرَهُ بِضَرْبِهِ، وَقَال: إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الاِمْتِنَاعَ
عَنْ تَكْلِيمِهِ وَضَرْبِهِ بِنَفْسِي.
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ بَعِيدَةً عَنْ
ظَاهِرِ اللَّفْظِ، كَقَوْلِهِ: إِنْ دَخَلْتُ دَارَ فُلاَنٍ
فَزَوْجَتِي طَالِقٌ، إِذَا ادَّعَى أَنَّهُ أَرَادَ زَوْجَتَهُ
الْمَيِّتَةَ، ثُمَّ دَخَل الدَّارَ اسْتِنَادًا إِلَى هَذِهِ
النِّيَّةِ لَمْ يُقْبَل مِنْهُ مَا ادَّعَاهُ لاَ فِي الْقَضَاءِ
وَلاَ فِي الْفَتْوَى، إِلاَّ إِذَا كَانَتْ هُنَاكَ قَرِينَةٌ
دَالَّةٌ عَلَى هَذِهِ الدَّعْوَى. (1)
160 - مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ: فِي أَسْنَى الْمَطَالِبِ: مَنْ
حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ آدَمِيٍّ، فَقَال:
أَرَدْتُ مُدَّةَ شَهْرٍ فَقَطْ وَنَحْوَهُ مِمَّا يُخَصِّصُ
الْيَمِينَ قُبِل مِنْهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا؛ لأَِنَّهُ أَمِينٌ فِي
حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لاَ فِي حَقِّ آدَمِيٍّ كَطَلاَقٍ
وَإِيلاَءٍ، فَلاَ يُقْبَل قَوْلُهُ ظَاهِرًا وَيَدِينُ فِيمَا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ حَلَفَ: لاَ يُكَلِّمُ
أَحَدًا، وَقَال: أَرَدْتُ زَيْدًا مَثَلاً لَمْ يَحْنَثْ بِغَيْرِهِ
عَمَلاً بِنِيَّتِهِ.
ثُمَّ اللَّفْظُ الْخَاصُّ لاَ يُعَمَّمُ بِالنِّيَّةِ، مِثْل أَنْ
يَمُنَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ بِمَا نَال مِنْهُ، فَحَلَفَ لاَ يَشْرَبُ
لَهُ مَاءً مِنْ عَطَشٍ لَمْ يَحْنَثْ بِغَيْرِهِ، مِنْ طَعَامٍ
وَثِيَابٍ وَمَاءٍ مِنْ غَيْرِ عَطَشٍ وَغَيْرِهَا، وَإِنْ نَوَاهُ
وَكَانَتِ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا تَقْتَضِي مَا نَوَاهُ؛
لاِنْعِقَادِ الْيَمِينِ عَلَى الْمَاءِ مِنْ عَطَشٍ خَاصَّةً،
وَإِنَّمَا تُؤَثِّرُ النِّيَّةُ إِذَا احْتَمَل اللَّفْظُ مَا نَوَى
بِجِهَةٍ يَتَجَوَّزُ بِهَا.
وَقَدْ يُصْرَفُ اللَّفْظُ إِلَى الْمَجَازِ بِالنِّيَّةِ، كَلاَ
أَدْخُل دَارَ زَيْدٍ، وَنَوَى مَسْكَنَهُ دُونَ مِلْكِهِ، فَيُقْبَل
فِي غَيْرِ حَقِّ آدَمِيٍّ - كَأَنْ حَلَفَ بِاللَّهِ - لاَ فِي حَقِّ
آدَمِيٍّ، كَأَنْ حَلَفَ بِطَلاَقٍ. (2)
__________
(1) الدسوقي 2 / 138 - 141.
(2) أسنى المطالب 4 / 253.
(7/308)
161 - مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ لَمْ
يَكُنْ مُسْتَحْلَفٌ، أَوْ كَانَ مُسْتَحْلَفٌ وَلَمْ يَكُنِ
الْحَالِفُ ظَالِمًا رَجَعَ إِلَى نِيَّتِهِ هُوَ - سَوَاءٌ أَكَانَ
مَظْلُومًا أَمْ لاَ - وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى نِيَّتِهِ إِنِ
احْتَمَلَهَا لَفْظُهُ، كَأَنْ يَنْوِيَ السَّقْفَ وَالْبِنَاءَ
السَّمَاءَ، وَبِالْفِرَاشِ وَالْبِسَاطِ الأَْرْضَ، وَبِاللِّبَاسِ
اللَّيْل، وَبِالأُْخُوَّةِ أُخُوَّةَ الإِْسْلاَمِ.
ثُمَّ إِنْ كَانَ الاِحْتِمَال بَعِيدًا لَمْ يُقْبَل قَضَاءً،
وَإِنَّمَا يُقْبَل دِيَانَةً، وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا أَوْ
مُتَوَسِّطًا قُبِل قَضَاءً وَدِيَانَةً.
فَإِنْ لَمْ يَحْتَمِل أَصْلاً لَمْ تَنْصَرِفْ يَمِينُهُ إِلَيْهِ،
بَل تَنْصَرِفُ إِلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَذَلِكَ كَأَنْ يَقُول:
وَاللَّهِ لاَ آكُل، وَيَنْوِيَ عَدَمَ الْقِيَامِ دُونَ عَدَمِ
الأَْكْل.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ النِّيَّةِ الْمُحْتَمَلَةِ احْتِمَالاً قَرِيبًا:
مَا لَوْ نَوَى التَّخْصِيصَ، كَأَنْ يَحْلِفَ: لاَ يَدْخُل دَارَ
زَيْدٍ، وَيَنْوِي تَخْصِيصَ ذَلِكَ بِالْيَوْمِ، فَيُقْبَل مِنْهُ
حُكْمًا، فَلاَ يَحْنَثُ بِالدُّخُول فِي يَوْمٍ آخَرَ، وَلَوْ كَانَ
حَلِفُهُ بِالطَّلاَقِ. (1)
الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ: مُرَاعَاةُ قَرِينَةِ الْفَوْرِ أَوِ
الْبِسَاطِ، أَوِ السَّبَبِ:
إِذَا عُدِمَتْ نِيَّةُ الْمُسْتَحْلِفِ الْمُحِقِّ وَنِيَّةُ
الْحَالِفِ، وَكَانَتِ الْيَمِينُ عَامَّةً أَوْ مُطْلَقَةً فِي
الظَّاهِرِ، لَكِنْ كَانَ سَبَبُهَا الَّذِي أَثَارَهَا خَاصًّا أَوْ
مُقَيَّدًا كَانَ ذَلِكَ مُقْتَضِيًا تَخْصِيصَ الْيَمِينِ أَوْ
تَقْيِيدَهَا.
وَهَذَا السَّبَبُ يُسَمَّى عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِسَاطُ
الْيَمِينِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ السَّبَبُ الْمُهَيِّجُ
لِلْيَمِينِ، وَيُعَبِّرُ الْحَنَفِيَّةُ عَنْ هَذِهِ الْيَمِينِ
بِيَمِينِ الْفَوْرِ. وَفِيمَا يَلِي أَقْوَال الْفُقَهَاءِ فِي
ذَلِكَ:
__________
(1) مطالب أولي النهى 6 / 378 - 380.
(7/309)
162 - فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: إِذَا
لَمْ يَكُنِ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ مُقَيَّدًا نَصًّا، وَلَكِنْ
دَلَّتِ الْحَال عَلَى تَقْيِيدِهِ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْقَيْدَ
يُرَاعَى فِي الْيَمِينِ اسْتِحْسَانًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ
الرَّاجِحُ.
مِثَال ذَلِكَ: أَنْ تَخْرُجَ الْيَمِينُ جَوَابًا لِكَلاَمٍ
مُقَيَّدٍ، أَوْ بِنَاءً عَلَى أَمْرٍ مُقَيَّدٍ، وَلَكِنَّ الْحَالِفَ
لاَ يَذْكُرُ فِي يَمِينِهِ هَذَا الْقَيْدَ نَصًّا، كَمَا لَوْ قَال
إِنْسَانٌ: تَعَال تَغَدَّ مَعِي، فَقَال: وَاللَّهِ لاَ أَتَغَدَّى،
فَلَمْ يَتَغَدَّ مَعَهُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ فَتَغَدَّى،
فَإِنَّهُ لاَ يَحْنَثُ لأَِنَّ كَلاَمَهُ خَرَجَ جَوَابًا لِلطَّلَبِ،
فَيَنْصَرِفُ إِلَى الْمَطْلُوبِ، وَهُوَ الْغَدَاءُ الْمَدْعُوُّ
إِلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ قَال: وَاللَّهِ لاَ أَتَغَدَّى الْغَدَاءَ
الَّذِي دَعَوْتَنِي إِلَيْهِ.
وَقَال زُفَرُ: يَحْنَثُ؛ لأَِنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ عَنِ التَّغَدِّي
عَامًّا، فَلَوْ صَرَفَ لِبَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ كَانَ ذَلِكَ تَخْصِيصًا
بِغَيْرِ مُخَصِّصٍ، وَذَا هُوَ الْقِيَاسُ (1) .
163 - مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ لَمْ يُوجَدْ مُسْتَحْلِفٌ ذُو
حَقٍّ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْحَالِفِ نِيَّةٌ صَرِيحَةٌ، أَوْ كَانَ لَهُ
نِيَّةٌ صَرِيحَةٌ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَضْبِطْهَا، رُوعِيَ بِسَاطُ
يَمِينِهِ فِي التَّعْمِيمِ وَالتَّخْصِيصِ وَالتَّقْيِيدِ،
وَالْبِسَاطُ هُوَ السَّبَبُ الْحَامِل عَلَى الْيَمِينِ، وَمِثْلُهُ
كُل سِيَاقٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا، وَيُعْتَبَرُ الْبِسَاطُ
قَرِينَةً عَلَى النِّيَّةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَرِيحَةً وَلاَ
مُنْضَبِطَةً، وَعَلاَمَتُهُ صِحَّةُ تَقْيِيدِ الْيَمِينِ بِقَوْلِهِ
مَا دَامَ هَذَا الشَّيْءُ مَوْجُودًا.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: مَا لَوْ حَلَفَ لاَ يَشْتَرِي لَحْمًا، أَوْ لاَ
يَبِيعُ فِي السُّوقِ، إِذَا كَانَ الْحَامِل عَلَى الْحَلِفِ زَحْمَةٌ
أَوْ وُجُودُ ظَالِمٍ، فَيَمِينُهُ تُقَيَّدُ بِذَلِكَ، فَلاَ يَحْنَثُ
بِشِرَاءِ اللَّحْمِ وَلاَ بِالْبَيْعِ فِي السُّوقِ إِذَا انْتَفَتِ
الزَّحْمَةُ
__________
(1) البدائع 3 / 13.
(7/309)
وَالظَّالِمُ، سَوَاءٌ أَكَانَ حَلِفُهُ
بِاللَّهِ أَمْ بِتَعْلِيقِ الطَّلاَقِ وَنَحْوِهِ، وَيَسْتَوِي فِي
ذَلِكَ الْقَضَاءُ وَالْفُتْيَا، لَكِنْ لاَ بُدَّ فِي الْقَضَاءِ مِنْ
إِقَامَةِ بَيِّنَةٍ عَلَى وُجُودِ الْبِسَاطِ.
وَمِنَ الأَْمْثِلَةِ أَيْضًا: مَا لَوْ كَانَ خَادِمُ الْمَسْجِدِ
يُؤْذِيهِ، فَحَلَفَ لاَ يَدْخُلُهُ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لاَ
يَدْخُلُهُ مَا دَامَ هَذَا الْخَادِمُ فِيهِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ
فَاسِقٌ بِمَكَانٍ فَقَال إِنْسَانٌ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ دَخَلْتِ هَذَا
الْمَكَانَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَكَانَ وُجُودُ هَذَا الْفَاسِقِ
الْحَامِل عَلَى الْحَلِفِ، فَإِنَّ الْحَلِفَ يُقَيَّدُ بِوُجُودِهِ،
فَإِنْ زَال فَدَخَلَتِ امْرَأَتُهُ الْمَكَانَ لَمْ تَطْلُقْ.
وَمِنْ ذَلِكَ: مَا لَوْ مَنَّ إِنْسَانٌ عَلَى آخَرَ، فَحَلَفَ لاَ
يَأْكُل لَهُ طَعَامًا، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَلاَّ يَنْتَفِعَ مِنْهُ
بِشَيْءٍ فِيهِ الْمِنَّةُ، سَوَاءٌ أَكَانَ طَعَامًا أَمْ كُسْوَةً
أَوْ غَيْرَهُمَا، فَهَذَا تَعْمِيمٌ لِلْيَمِينِ بِالْبِسَاطِ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنِ السَّبَبُ الْحَامِل عَلَى الْيَمِينِ دَاعِيًا
إِلَى مُخَالَفَةِ الظَّاهِرِ لَمْ يَكُنْ بِسَاطًا، كَمَا لَوْ حَلَفَ
إِنْسَانٌ: لاَ يُكَلِّمُ فُلاَنًا أَوْ لاَ يَدْخُل دَارَهُ، وَكَانَ
السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ شَتَمَهُ أَوْ تَشَاجَرَ مَعَهُ، فَهَذَا
السَّبَبُ لاَ يَدْعُو إِلَى مُخَالَفَةِ الظَّاهِرِ، وَهُوَ
الاِمْتِنَاعُ مِنَ التَّكْلِيمِ وَمِنْ دُخُول الدَّارِ أَبَدًا. (1)
164 - مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ: يَتَّضِحُ مِنَ الاِطِّلاَعِ عَلَى
كُتُبِ الْمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ - بَعْدَ
نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ وَنِيَّةِ الْحَالِفِ - هُوَ ظَاهِرُ
اللَّفْظِ، بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ السَّبَبِ الْحَامِل عَلَى
الْيَمِينِ، فَلَوْ كَانَتِ الْيَمِينُ عَامَّةً أَوْ مُطْلَقَةً فِي
الظَّاهِرِ - لَكِنْ كَانَ سَبَبُهَا
__________
(1) الشرح الصغير بحاشية الصاوي 1 / 337 - 341، والشرح الكبير بحاشية
الدسوقي 2 / 138 - 141.
(7/310)
الَّذِي أَثَارَهَا خَاصًّا أَوْ
مُقَيَّدًا - لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُقْتَضِيًا تَخْصِيصَ الْيَمِينِ
أَوْ تَقْيِيدَهَا عِنْدَهُمْ.
165 - مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ لَمْ يُوجَدْ مُسْتَحْلِفٌ ذُو
حَقٍّ، وَلَمْ يَنْوِ الْحَالِفُ مَا يُوَافِقُ ظَاهِرَ اللَّفْظِ أَوْ
يُخَصِّصُهُ، أَوْ يَكُونُ اللَّفْظُ مَجَازًا فِيهِ، رَجَعَ إِلَى
السَّبَبِ الْمُهَيِّجِ لِلْيَمِينِ لأَِنَّهُ يَدُل عَلَى النِّيَّةِ،
وَإِنْ كَانَ الْقَائِل غَافِلاً عَنْهَا، فَمَنْ حَلَفَ:
لَيَقْضِيَنَّ زَيْدًا حَقَّهُ غَدًا فَقَضَاهُ قَبْلَهُ لَمْ
يَحْنَثْ، إِذَا كَانَ سَبَبُ يَمِينِهِ أَمْرًا يَدْعُو إِلَى
التَّعْجِيل وَقَطْعِ الْمَطْل، وَإِنَّمَا يَحْنَثُ بِالتَّأْخِيرِ
عَنْ غَدٍ، فَإِنْ كَانَ السَّبَبُ مَانِعًا مِنَ التَّعْجِيل حَامِلاً
عَلَى التَّأْخِيرِ إِلَى غَدٍ فَقَضَاهُ قَبْل حَنِثَ، وَفِي هَذِهِ
الصُّورَةِ لاَ يَحْنَثُ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ غَدٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
سَبَبٌ يَدْعُو إِلَى التَّعْجِيل أَوِ التَّأْخِيرِ حَنِثَ بِهِمَا
عِنْدَ الإِْطْلاَقِ عَنِ النِّيَّةِ، وَأَمَّا إِذَا نَوَى
التَّعْجِيل أَوِ التَّأْخِيرَ فَإِنَّهُ يَعْمَل بِنِيَّتِهِ كَمَا
تَقَدَّمَ، فَعِنْدَ نِيَّةِ التَّعْجِيل يَحْنَثُ بِالتَّأْخِيرِ
دُونَ التَّقْدِيمِ، وَعِنْدَ التَّأْخِيرِ يَكُونُ الْحُكْمُ عَكْسَ
ذَلِكَ.
وَمَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ لاَ يَبِيعُهُ إِلاَّ بِمِائَةٍ، وَكَانَ
الْحَامِل لَهُ عَلَى الْحَلِفِ عَدَمَ رِضَاهُ بِأَقَل مِنْ مِائَةٍ،
حَنِثَ بِبَيْعِهِ بِأَقَل مِنْهَا، وَلَمْ تَحْنَثْ بِبَيْعِهِ
بِأَكْثَرَ إِلاَّ إِذَا كَانَ قَدْ نَوَى الْمِائَةَ بِعَيْنِهَا لاَ
أَكْثَرَ وَلاَ أَقَل.
وَمَنْ حَلَفَ لاَ يَبِيعُهُ بِمِائَةٍ، وَكَانَ الْحَامِل لَهُ عَلَى
الْحَلِفِ أَنَّهُ يَسْتَقِل الْمِائَةَ، حَنِثَ بِبَيْعِهِ بِهَا،
وَكَذَا يَحْنَثُ بِبَيْعِهِ بِأَقَل مِنْهَا مَا لَمْ يَنْوِ
تَعَيُّنَ الْمِائَةِ، وَلاَ يَحْنَثُ بِبَيْعِهِ بِأَكْثَرَ مِنَ
الْمِائَةِ مَا لَمْ يَنْوِ تَعَيُّنَهَا.
وَمَنْ دُعِيَ لِغَدَاءٍ، فَحَلَفَ لاَ يَتَغَدَّى، لَمْ يَحْنَثْ
بِغَدَاءٍ آخَرَ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ؛ لأَِنَّ السَّبَبَ الْحَامِل
عَلَى الْحَلِفِ هُوَ عَدَمُ إِرَادَتِهِ لِهَذَا الْغَدَاءِ
الْمُعَيَّنِ، وَإِنَّمَا يَحْنَثُ بِالْغَدَاءِ الآْخَرِ إِذَا نَوَى
الْعُمُومَ، فَإِنَّ النِّيَّةَ
(7/310)
الْمُوَافِقَةَ لِلظَّاهِرِ تُقَدَّمُ
عَلَى السَّبَبِ الْمُخَصَّصِ كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ.
وَمَنْ حَلَفَ لاَ يَشْرَبُ لِفُلاَنٍ مَاءً مِنْ عَطَشٍ، وَكَانَ
السَّبَبُ عَدَمَ رِضَاهُ بِمِنَّتِهِ، حَنِثَ بِأَكْل خُبْزِهِ
وَاسْتِعَارَةِ دَابَّتِهِ، وَمَا مَاثَل ذَلِكَ مِنْ كُل مَا فِيهِ
مِنَّةٌ تَزِيدُ عَلَى شُرْبِ الْمَاءِ مِنَ الْعَطَشِ، بِخِلاَفِ مَا
هُوَ أَقَل مِنَّةً مِنْ شُرْبِ الْمَاءِ كَقُعُودِهِ فِي ضَوْءِ
نَارِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ عَنِ النِّيَّةِ، فَإِنْ
نَوَى ظَاهِرَ اللَّفْظِ عَمِل بِهِ.
وَمَنْ حَلَفَ لاَ يَدْخُل بَلَدًا، وَكَانَ السَّبَبُ ظُلْمًا رَآهُ
فِيهَا، أَوْ حَلَفَ لاَ رَأَى مُنْكَرًا إِلاَّ رَفَعَهُ إِلَى
الْوَالِي، وَكَانَ السَّبَبُ طَلَبَ الْوَالِي ذَلِكَ مِنْهُ، ثُمَّ
زَال الظُّلْمُ فِي الْمِثَال الأَْوَّل، وَعُزِل الْوَالِي فِي
الْمِثَال الثَّانِي، لَمْ يَحْنَثْ بِدُخُول الْبَلَدِ بَعْدَ زَوَال
الظُّلْمِ، وَلاَ بِتَرْكِ رَفْعِ الْمُنْكَرِ إِلَى الْوَالِي بَعْدَ
عَزْلِهِ، فَإِنْ عَادَ الظُّلْمُ أَوْ عَادَ الْوَالِي لِلْحُكْمِ
حَنِثَ بِمُخَالَفَةِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَيَسْتَوِي فِي هَذَا
الْحُكْمِ مَا لَوْ أَطْلَقَ الْحَالِفُ لَفْظَهُ عَنِ النِّيَّةِ،
وَمَا لَوْ نَوَى التَّقْيِيدَ بِدَوَامِ الْوَصْفِ الْحَامِل عَلَى
الْيَمِينِ.
166 - هَذَا وَإِذَا تَعَارَضَتِ النِّيَّةُ وَالسَّبَبُ، وَكَانَ
أَحَدُهُمَا مُوَافِقًا لِظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَالثَّانِي أَعَمُّ
مِنْهُ عَمِل بِالْمُوَافِقِ، فَمَنْ حَلَفَ لاَ يَأْوِي مَعَ
امْرَأَتِهِ بِدَارِ فُلاَنٍ نَاوِيًا جَفَاءَهَا، وَكَانَ السَّبَبُ
الْحَامِل عَلَى الْيَمِينِ هُوَ عَدَمُ مُلاَءَمَةِ الدَّارِ عَمِل
بِالسَّبَبِ، فَلاَ يَحْنَثُ بِاجْتِمَاعِهِ مَعَهَا فِي دَارٍ
أُخْرَى، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِنِيَّتِهِ. فَإِنْ كَانَ
نَاوِيًا عَدَمَ الاِجْتِمَاعِ مَعَهَا فِي الدَّارِ بِخُصُوصِهَا،
وَكَانَ السَّبَبُ الْحَامِل عَلَى الْيَمِينِ يَدْعُو إِلَى
الْجَفَاءِ الْعَامِّ فَالْحُكْمُ كَمَا سَبَقَ، عَمَلاً بِالنِّيَّةِ
الْمُوَافِقَةِ لِلظَّاهِرِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُخَالِفًا
(7/311)
لِلسَّبَبِ. فَإِنْ وُجِدَتْ نِيَّةٌ وَلاَ
سَبَبَ، أَوْ كَانَ السَّبَبُ يَدْعُو إِلَى الْجَفَاءِ وَلاَ نِيَّةَ،
أَوِ اتَّفَقَا مَعًا فِي الْجَفَاءِ حَنِثَ بِالاِجْتِمَاعِ مَعَهَا
مُطْلَقًا، وَإِنِ اتَّفَقَا فِي تَخْصِيصِ الدَّارِ لَمْ يَحْنَثْ
بِغَيْرِهَا. (1)
الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ: مُرَاعَاةُ الْعُرْفِ الْفِعْلِيِّ
وَالْقَوْلِيِّ وَالشَّرْعِيِّ وَالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ:
167 - مَنْ تَصَفَّحَ كُتُبَ الْمَذَاهِبِ وَجَدَ عِبَارَاتِهَا فِي
هَذَا الْمَوْضُوعِ تَخْتَلِفُ.
فَالْحَنَفِيَّةُ يَذْكُرُونَ مُرَاعَاةَ الْعُرْفِ فَاللُّغَةَ، وَلاَ
يُقَسِّمُونَ الْعُرْفَ إِلَى فِعْلِيٍّ وَقَوْلِيٍّ وَشَرْعِيٍّ،
وَلَعَلَّهُمُ اكْتَفَوْا بِأَنَّ الْكَلِمَةَ إِذَا أُطْلِقَتْ لَمْ
تَتَنَازَعْهَا أَعْرَافٌ مُخْتَلِفَةٌ؛ لأَِنَّهَا قَدْ يَكُونُ
الْمَشْهُورُ فِيهَا هُوَ الْفِعْلِيُّ فَقَطْ أَوِ الْقَوْلِيُّ
فَقَطْ أَوِ الشَّرْعِيُّ فَقَطْ، فَلاَ حَاجَةَ لِتَرْتِيبِهَا.
وَالْمَالِكِيَّةُ ذَكَرَ بَعْضُهُمُ الْعُرْفَ الْفِعْلِيَّ
وَقَدَّمَهُ عَلَى الْقَوْلِيِّ، وَأَغْفَلَهُ بَعْضُهُمْ، وَمِنْهُمْ
مَنْ قَدَّمَ الشَّرْعِيَّ عَلَى اللُّغَوِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ
عَكَسَ.
وَالشَّافِعِيَّةُ لَمْ يُفَصِّلُوا فِي الْعُرْفِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ
تَارَةً يُقَدِّمُونَ الْعُرْفَ عَلَى اللُّغَةِ، وَتَارَةً
يَعْكِسُونَ.
وَالْحَنَابِلَةُ قَدَّمُوا الْمَعْنَى الشَّرْعِيَّ، وَأَتْبَعُوهُ
بِالْعُرْفِيِّ فَاللُّغَوِيِّ، وَلَمْ يُقَسِّمُوا الْعُرْفِيَّ إِلَى
فِعْلِيٍّ وَقَوْلِيٍّ.
أ - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ:
168 - الأَْصْل فِي الأَْلْفَاظِ الَّتِي يَأْتِي بِهَا الْحَالِفُ
أَنْ يُرَاعِيَ فِيهَا مَعْنَى الْمُفْرَدَاتِ فِي اللُّغَةِ، وَأَنْ
يُرَاعِيَ الْمَعْنَى التَّرْكِيبِيَّ مِنْ عُمُومٍ وَخُصُوصٍ
وَإِطْلاَقٍ وَتَقْيِيدٍ بِالْوَقْتِ أَوْ بِغَيْرِهِ مِنَ الْقُيُودِ،
وَمَعَانِي الْحُرُوفِ الَّتِي فِيهَا كَالْوَاوِ وَالْفَاءِ وَثُمَّ
وَأَوْ.
__________
(1) مطالب أولي النهى 6 / 381 - 389.
(7/311)
وَإِنَّمَا يُرَاعَى الْمَعْنَى
اللُّغَوِيُّ إِذَا لَمْ يَكُنْ كَلاَمُ النَّاسِ بِخِلاَفِهِ، فَإِنْ
كَانَ كَلاَمُ النَّاسِ بِخِلاَفِهِ وَجَبَ حَمْل اللَّفْظِ عَلَى مَا
تَعَارَفَهُ النَّاسُ، فَيَكُونُ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً.
وَمِنْ أَدِلَّةِ تَقْدِيمِ الْمَعْنَى الْعُرْفِيِّ عَلَى
اللُّغَوِيِّ الأَْصْلِيِّ مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقَال: إِنَّ صَاحِبًا لَنَا
مَاتَ وَأَوْصَى بِبَدَنَةٍ، أَفَتُجْزِي عَنْهُ الْبَقَرَةُ؟ فَقَال:
" مِمَّنْ صَاحِبُكُمْ؟ فَقَال مِنْ بَنِي رَبَاحٍ، فَقَال: " مَتَى
اقْتَنَتْ بَنُو رَبَاحٍ الْبَقَرَ؟ إِنَّمَا الْبَقَرُ لِلأَْزْدِ،
وَذَهَبَ وَهْمُ صَاحِبِكُمْ إِلَى الإِْبِل (1)
فَهَذَا الأَْثَرُ أَصْلٌ أَصِيلٌ فِي حَمْل الْكَلاَمِ الْمُطْلَقِ
عَلَى مَا يُرِيدُهُ النَّاسُ، وَلاَ شَكَّ أَنَّ إِرَادَةَ النَّاسِ
تَذْهَبُ إِلَى الْمَعْنَى الْعُرْفِيِّ، فِيمَا لَهُ مَعْنًى
لُغَوِيٌّ وَمَعْنًى عُرْفِيٌّ، فَالظَّاهِرُ عِنْدَ إِطْلاَقِ
اللَّفْظِ إِرَادَةُ الْمَعْنَى الْعُرْفِيِّ، وَلِهَذَا لَوْ قَال
الْغَرِيمُ لِغَرِيمِهِ: وَاللَّهِ لأََجُرَّنَّكَ فِي الشَّوْكِ، لَمْ
يُرِدْ بِهِ حَقِيقَتَهُ اللُّغَوِيَّةَ عَادَةً، وَإِنَّمَا يُرِيدُ
شِدَّةَ الْمَطْل، فَلاَ يَحْنَثُ بِعَدَمِ جَرِّهِ فِي الشَّوْكِ،
وَإِنَّمَا يَحْنَثُ بِإِعْطَائِهِ الدَّيْنَ مِنْ غَيْرِ مُمَاطَلَةٍ.
وَلَوْ حَلَفَ: أَلاَّ يَجْلِسَ فِي سِرَاجٍ، فَجَلَسَ فِي الشَّمْسِ
لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَمَّاهَا
سِرَاجًا فِي قَوْلِهِ: {وَجَعَل الشَّمْسَ سِرَاجًا} (2) وَكَذَا لاَ
يَحْنَثُ مَنْ جَلَسَ عَلَى الأَْرْضِ، وَكَانَ قَدْ حَلَفَ أَلاَّ
يَجْلِسَ عَلَى بِسَاطٍ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَل سَمَّى
الأَْرْضَ بِسَاطًا فِي قَوْلِهِ: {
__________
(1) يعني أنه لم يخطر ببال صاحبكم عند النطق بهذه الوصية إلا الإبل.
(2) سورة نوح / 16.
(7/312)
وَاللَّهُ جَعَل لَكُمُ الأَْرْضَ
بِسَاطًا} (1) وَكَذَا مَنْ حَلَفَ أَلاَّ يَمَسَّ وَتَدًا، فَمَسَّ
جَبَلاً لاَ يَحْنَثُ، وَإِنْ سَمَّاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَدًا
فِي قَوْلِهِ: {وَالْجِبَال أَوْتَادًا} (2) وَكَذَا مَنْ حَلَفَ لاَ
يَرْكَبُ دَابَّةً فَرَكِبَ إِنْسَانًا لاَ يَحْنَثُ؛ لأَِنَّهُ لاَ
يُسَمَّى دَابَّةً فِي الْعُرْفِ، وَإِنْ كَانَ يُسَمَّى دَابَّةً فِي
اللُّغَةِ. (3)
وَهَذَا كُلُّهُ حَيْثُ لَمْ يَجْعَل اللَّفْظَ فِي الْعُرْفِ مَجَازًا
عَنْ مَعْنًى آخَرَ، كَمَا لَوْ حَلَفَ: لاَ يَضَعُ قَدَمَهُ فِي دَارِ
فُلاَنٍ، فَإِنَّهُ صَارَ مَجَازًا عَنِ الدُّخُول مُطْلَقًا، فَفِي
هَذَا لاَ يُعْتَبَرُ اللَّفْظُ أَصْلاً، حَتَّى لَوْ وَضَعَ قَدَمَهُ
وَلَمْ يَدْخُل لاَ يَحْنَثُ؛ لأَِنَّ الْمَعْنَى الأَْصْلِيَّ
وَالْعُرْفِيَّ لِلَّفْظِ قَدْ هُجِرَ، وَصَارَ الْمُرَادُ بِهِ
مَعْنًى آخَرَ، وَمِثْلُهُ: لاَ آكُل مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ - وَهِيَ
مِنَ الأَْشْجَارِ الَّتِي لاَ تُثْمِرُ وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ
بِأَكْل شَيْءٍ مِنْهَا - فَهَذِهِ الْعِبَارَةُ تَنْصَرِفُ إِلَى
الاِنْتِفَاعِ بِثَمَنِهَا، فَلاَ يَحْنَثُ بِتَنَاوُل شَيْءٍ مِنْهَا
وَمَضْغِهِ وَابْتِلاَعِهِ. (4)
ب - مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ:
169 - إِذَا لَمْ يُوجَدْ مُسْتَحْلِفٌ ذُو حَقٍّ، وَلَمْ يَنْوِ
الْحَالِفُ نِيَّةً مُعْتَبَرَةً، وَلَمْ يَكُنْ لِلْيَمِينِ بِسَاطٌ
دَالٌّ عَلَى مُخَالَفَةِ الظَّاهِرِ، فَالْمُعْتَمَدُ اعْتِبَارُ
الْعُرْفِ الْفِعْلِيِّ، كَمَا لَوْ حَلَفَ: لاَ يَأْكُل خُبْزًا،
وَكَانَ أَهْل بَلَدِهِ لاَ يَأْكُلُونَ
__________
(1) سورة نوح / 19.
(2) سورة النبأ / 7.
(3) فتح القدير 3 / 30.
(4) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 3 / 73. وقد ألف في هذا الموضوع
رسالة سماها (رفع الانتقاض ودفع الاعتراض على قولهم الأيمان مبنية على
الألفاظ لا على الأغراض) وحث على مراجعتها لمن أراد الزيادة على
التحقيق المذكور هنا.
(7/312)
إِلاَّ خُبْزَ الْقَمْحِ، فَأَكْل
الْقَمْحِ عِنْدَهُمْ عُرْفٌ فِعْلِيٌّ، فَهُوَ مُخَصِّصٌ لِلْخُبْزِ
الَّذِي حَلَفَ عَلَى عَدَمِ أَكْلِهِ، فَلاَ يَحْنَثُ بِأَكْل خُبْزِ
الذُّرَةِ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عُرْفٌ فِعْلِيٌّ اعْتُبِرَ الْعُرْفُ
الْقَوْلِيُّ، كَمَا لَوْ كَانَ عُرْفُ قَوْمٍ اسْتِعْمَال لَفْظِ
الدَّابَّةِ فِي الْحِمَارِ وَحْدَهُ، وَلَفْظَ الثَّوْبِ فِيمَا
يُلْبَسُ مِنْ جِهَةِ الرَّأْسِ وَيَسْلُكُ فِي الْعُنُقِ، فَحَلَفَ
حَالِفٌ مِنْهُمْ: أَلاَّ يَشْتَرِيَ دَابَّةً أَوْ ثَوْبًا، فَلاَ
يَحْنَثُ بِشِرَاءِ فَرَسٍ وَلاَ عِمَامَةٍ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عُرْفٌ فِعْلِيٌّ وَلاَ قَوْلِيٌّ اعْتُبِرَ
الْعُرْفُ الشَّرْعِيُّ، فَمَنْ حَلَفَ: لاَ يُصَلِّي فِي هَذَا
الْوَقْتِ، أَوْ لاَ يَصُومُ غَدًا، أَوْ لاَ يَتَوَضَّأُ الآْنَ، أَوْ
لاَ يَتَيَمَّمُ حَنِثَ بِالشَّرْعِيِّ مِنْ ذَلِكَ دُونَ
اللُّغَوِيِّ، فَلاَ يَحْنَثُ بِالدُّعَاءِ، وَلاَ بِالصَّلاَةِ عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ أَنَّهُمَا
يُسَمَّيَانِ صَلاَةً فِي اللُّغَةِ، وَلاَ يَحْنَثُ بِالإِْمْسَاكِ
عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، وَإِنْ كَانَ
يُسَمَّى صِيَامًا فِي اللُّغَةِ، وَلاَ بِغُسْل الْيَدَيْنِ إِلَى
الرُّسْغَيْنِ، مَعَ أَنَّهُ يُسَمَّى وُضُوءًا فِي اللُّغَةِ، وَلاَ
بِقَصْدِهِ إِنْسَانًا وَالذَّهَابَ إِلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ يُسَمَّى
تَيَمُّمًا فِي اللُّغَةِ.
فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مَا يَدُل عَلَى مُخَالَفَةِ الظَّاهِرِ
اللُّغَوِيِّ، مِنْ نِيَّةٍ أَوْ بِسَاطٍ أَوْ عُرْفٍ فِعْلِيٍّ أَوْ
قَوْلِيٍّ أَوْ شَرْعِيٍّ، حُمِلَتِ الْيَمِينُ عَلَى الظَّاهِرِ
اللُّغَوِيِّ، فَمَنْ حَلَفَ لاَ يَرْكَبُ دَابَّةً أَوْ لاَ يَلْبَسُ
ثَوْبًا، وَلَيْسَ لَهُ نِيَّةٌ، وَلاَ لأَِهْل بَلَدِهِ عُرْفٌ فِي
دَابَّةٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ ثَوْبٍ مُعَيَّنٍ، حَنِثَ بِرُكُوبِهِ
التِّمْسَاحَ وَلُبْسِهِ الْعِمَامَةَ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ هُوَ
الْمَدْلُول اللُّغَوِيُّ. (1)
__________
(1) الشرح الصغير بحاشية الصاوي 1 / 337 - 340، والشرح الكبير بحاشية
الدسوقي 2 / 136 - 140.
(7/313)
ج - مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ:
170 - الأَْصْل عِنْدَهُمْ أَنْ يُتَّبَعَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ
عِنْدَ ظُهُورِهِ وَشُمُولِهِ، ثُمَّ يُتَّبَعَ الْعُرْفُ إِذَا كَانَ
مُطَّرِدًا وَكَانَتِ الْحَقِيقَةُ بَعِيدَةً، مِثْل لاَ آكُل مِنْ
هَذِهِ الشَّجَرَةِ، فَإِنَّهُ يُحْمَل عَلَى الثَّمَرِ لاَ الْوَرَقِ،
وَلَوْ حَلَفَ: لاَ يَأْكُل الرَّأْسَ، حُمِل عَلَى رُءُوسِ النَّعَمِ،
وَهِيَ الْبَقَرُ وَالإِْبِل وَالْغَنَمُ؛ لأَِنَّهَا هِيَ
الْمُتَعَارَفَةُ، حَتَّى إِنِ اخْتَصَّ بَعْضُهَا بِبَلَدِ
الْحَالِفِ، بِخِلاَفِ رَأْسِ الطَّيْرِ وَالْحُوتِ وَالظَّبْيِ
وَنَحْوِهَا فَلاَ تُحْمَل الْيَمِينُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا إِلاَّ
إِذَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِبَيْعِهَا فِي بَلَدِ الْحَالِفِ؛
لأَِنَّهَا لاَ تُفْهَمُ مِنَ اللَّفْظِ عِنْدَ إِطْلاَقِهِ. (1)
د - مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ:
171 - إِنْ عُدِمَتِ النِّيَّةُ وَالسَّبَبُ رَجَعَ فِي الْيَمِينِ
إِلَى مَا تَنَاوَلَهُ الاِسْمُ شَرْعًا فَعُرْفًا فَلُغَةً،
فَالْيَمِينُ عَلَى الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ
وَالْعُمْرَةِ وَالْوُضُوءِ وَالْبَيْعِ وَنَحْوِهَا مِنْ كُل مَا لَهُ
مَعْنًى شَرْعِيٌّ وَمَعْنًى لُغَوِيٌّ تُحْمَل عَلَى الْمَعْنَى
الشَّرْعِيِّ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ، وَيُحْمَل عَلَى الصَّحِيحِ دُونَ
الْفَاسِدِ، فِيمَا عَدَا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ.
وَلَوْ قَيَّدَ حَالِفٌ يَمِينَهُ بِمَا لاَ يَصِحُّ شَرْعًا، كَأَنْ
حَلَفَ لاَ يَبِيعُ الْخَمْرَ، فَفَعَل، حَنِثَ بِصُورَةِ ذَلِكَ
الْعَقْدِ الْفَاسِدِ لِتَعَذُّرِ الصَّحِيحِ.
وَمَنْ حَلَفَ عَلَى الرَّاوِيَةِ وَالظَّعِينَةِ وَالدَّابَّةِ
وَنَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّا اشْتُهِرَ مَجَازُهُ حَتَّى غَلَبَ عَلَى
حَقِيقَتِهِ، بِحَيْثُ لاَ يَعْرِفُهَا أَكْثَرُ النَّاسِ، فَهَذَا
حَلِفٌ عَلَى أَسْمَاءٍ لَهَا مَعَانٍ عُرْفِيَّةٌ وَهِيَ الَّتِي
اشْتُهِرَتْ، وَمَعَانٍ لُغَوِيَّةٌ وَهِيَ الَّتِي صَارَتْ
كَالْمَجْهُولَةِ. فَالرَّاوِيَةُ فِي
__________
(1) الوجيز 2 / 70.
(7/313)
اللُّغَةِ: اسْمٌ لِمَا يُسْتَقَى عَلَيْهِ
مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، وَاشْتُهِرَتْ فِي الْمَزَادَةِ، وَهِيَ وِعَاءٌ
يُحْمَل فِيهِ الْمَاءُ فِي السَّفَرِ كَالْقِرْبَةِ وَنَحْوِهَا.
وَالظَّعِينَةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِلنَّاقَةِ الَّتِي يُظْعَنُ
عَلَيْهَا، ثُمَّ اشْتُهِرَتْ فِي الْمَرْأَةِ فِي الْهَوْدَجِ.
وَالدَّابَّةُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا دَبَّ وَدَرَجَ،
وَاشْتُهِرَتْ فِي ذَوَاتِ الأَْرْبَعِ مِنْ خَيْلٍ وَبِغَالٍ
وَحَمِيرٍ وَيُرَاعَى فِي الْحَلِفِ عَلَيْهَا الْمَعْنَى الْعُرْفِيُّ
لاَ اللُّغَوِيُّ.
وَمَنْ حَلَفَ: لاَ يَأْكُل لَحْمًا أَوْ شَحْمًا أَوْ رَأْسًا أَوْ
بَيْضًا أَوْ لَبَنًا، أَوْ ذَكَرَ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الأَْسْمَاءِ
اللُّغَوِيَّةِ، وَهِيَ الَّتِي لَمْ يَغْلِبْ مَجَازُهَا عَلَى
حَقِيقَتِهَا، يُرَاعَى فِي يَمِينِهِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ،
فَيَحْنَثُ الْحَالِفُ عَلَى تَرْكِ أَكْل اللَّحْمِ بِأَكْل سَمَكٍ
وَلَحْمِ خِنْزِيرٍ وَنَحْوِهِ، وَلاَ بِمَرَقِ اللَّحْمِ، وَلاَ
بِالْمُخِّ وَالشَّحْمِ وَالْكَبِدِ وَالْكُلْيَةِ وَالْمُصْرَانِ
وَالطِّحَال وَالْقَلْبِ وَالأَْلْيَةِ وَالدِّمَاغِ وَالْقَانِصَةِ
وَالْكَارِعِ وَلَحْمِ الرَّأْسِ وَاللِّسَانِ؛ لأَِنَّ مُطْلَقَ
اللَّحْمِ لاَ يَتَنَاوَل شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ نَوَى
الاِمْتِنَاعَ مِنْ تَنَاوُل الدَّسَمِ حَنِثَ بِذَلِكَ كُلِّهِ.
وَيَحْنَثُ الْحَالِفُ عَلَى تَرْكِ أَكْل الشَّحْمِ بِجَمِيعِ
الشُّحُومِ، حَتَّى شَحْمِ الظَّهْرِ وَالْجَبِّ وَالأَْلْيَةِ
وَالسَّنَامِ؛ لأَِنَّ الشَّحْمَ مَا يَذُوبُ مِنَ الْحَيَوَانِ
بِالنَّارِ، لاَ بِاللَّحْمِ الأَْحْمَرِ وَلاَ الْكَبِدِ وَالطِّحَال
وَالرَّأْسِ وَالْكُلْيَةِ وَالْقَلْبِ وَالْقَانِصَةِ وَنَحْوِهَا.
وَالْحَالِفُ عَلَى الاِمْتِنَاعِ مِنْ أَكْل الرُّءُوسِ يَحْنَثُ
بِجَمِيعِ الرُّءُوسِ: رَأْسِ الطَّيْرِ وَرَأْسِ السَّمَكِ وَرَأْسِ
الْجَرَادِ.
وَالْحَالِفُ عَلَى الاِمْتِنَاعِ مِنْ أَكْل الْبَيْضِ يَحْنَثُ بِكُل
بَيْضٍ، حَتَّى بَيْضِ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ.
وَالْحَالِفُ عَلَى الاِمْتِنَاعِ مِنْ أَكْل اللَّبَنِ يَحْنَثُ بِكُل
مَا يُسَمَّى لَبَنًا، حَتَّى لَبَنَ الظَّبْيَةِ وَالآْدَمِيَّةِ،
(7/314)
وَسَوَاءٌ أَكَانَ حَلِيبًا أَمْ رَائِبًا
أَمْ مُجَمَّدًا، وَيَحْنَثُ بِالْمُحَرَّمِ كَلَبَنِ الْخِنْزِيرَةِ
وَالأَْتَانِ، وَلاَ يَحْنَثُ بِأَكْل الزُّبْدِ أَوِ السَّمْنِ أَوِ
الْكِشْكِ أَوِ الْمَصْل (1) أَوِ الْجُبْنِ أَوِ الأَْقَطِ وَنَحْوِهِ
مِمَّا يُعْمَل مِنَ اللَّبَنِ وَيَخْتَصُّ بِاسْمٍ. (2)
إِيمَانٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْيمَانُ مَصْدَرُ " آمَنَ " " وَآمَنَ " أَصْلُهُ مِنَ
الأَْمْنِ ضِدُّ الْخَوْفِ.
يُقَال: آمَنَ فُلاَنٌ الْعَدُوَّ يُؤْمِنُهُ إِيمَانًا، فَهُوَ
مُؤْمِنٌ، وَمِنْ هُنَا يَأْتِي الإِْيمَانُ بِمَعْنَى: جُعِل
الإِْنْسَانِ فِي مَأْمَنٍ مِمَّا يَخَافُ. جَاءَ فِي اللِّسَانِ:
قُرِئَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ {إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ} (3) مَنْ
قَرَأَهُ بِكَسْرِ الأَْلِفِ مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ إِنْ أَجَارُوا
وَأَمِنُوا الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَفُوا وَغَدَرُوا، وَالإِْيمَانُ
هُنَا: الإِْجَارَةُ.
وَالْغَالِبُ أَنْ يَكُونَ الإِْيمَانُ لُغَةً بِمَعْنَى التَّصْدِيقِ
ضِدَّ التَّكْذِيبِ (4) . يُقَال: آمَنَ بِالشَّيْءِ إِذَا صَدَّقَ
بِهِ، وَآمَنَ لِفُلاَنٍ إِذَا صَدَّقَهُ فِيمَا يَقُول. فَفِي
التَّنْزِيل {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ}
(5) وَفِيهِ {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} (6)
وَالإِْيمَانُ فِي الاِصْطِلاَحِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ:
__________
(1) المصل والمصالة ما سال من الأقط إذا طبخ ثم عصر، والأقط هو اللبن
المجفف.
(2) مطالب أولي النهى 6 / 389، 390.
(3) سورة التوبة / 12.
(4) لسان العرب، وشرح العقائد النسفية ص 151 دار الطباعة العامرة
باستنبول 1302 هـ.
(5) سورة يوسف / 17.
(6) سورة الدخان / 21.
(7/314)
فَقِيل: هُوَ تَصْدِيقُ الرَّسُول صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ،
مَعَ إِظْهَارِ الْخُضُوعِ وَالْقَبُول لِمَا أَتَى بِهِ. فَهُوَ
اعْتِقَادٌ بِالْجَنَانِ، وَقَوْلٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ
بِالأَْرْكَانِ.
وَالْمُرَادُ بِالاِعْتِقَادِ: الإِْيمَانُ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ
وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ وَالْقَدَرِ، عَلَى مَا
وَرَدَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَالْمُرَادُ بِقَوْل اللِّسَانِ: النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ.
وَالْمُرَادُ بِالْعَمَل بِالْجَوَارِحِ: فِعْلُهَا وَكَفُّهَا تَبَعًا
لِلأَْمْرِ وَالنَّهْيِ.
قَال ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ: هَذَا قَوْل السَّلَفِ، وَهُوَ
أَيْضًا قَوْل الْمُعْتَزِلَةِ، إِلاَّ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ جَعَلُوا
الأَْعْمَال شَرْطًا فِي صِحَّةِ الإِْيمَانِ، وَالسَّلَفَ جَعَلُوهَا
شَرْطًا فِي كَمَالِهِ.
وَقِيل: الإِْيمَانُ هُوَ: التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ
فَقَطْ، وَهُوَ قَوْل بَعْضِ الْفُقَهَاءِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا
هُوَ الْوَضْعُ اللُّغَوِيُّ لِلَفْظِ (الإِْيمَانِ) وَأَنَّ الأَْصْل
عَدَمُ النَّقْل. وَلَيْسَتِ الأَْعْمَال عِنْدَهُمْ دَاخِلَةً فِي
مُسَمَّى الإِْيمَانِ. فَإِذَا وُجِدَ لَدَى الإِْنْسَانِ الإِْيمَانُ
وُجِدَ كَامِلاً، وَإِنْ زَال زَال دَفْعَةً وَاحِدَةً.
أَمَّا عَلَى قَوْل السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِ، فَإِنَّ الإِْيمَانَ
دَرَجَاتٌ بِحَسَبِ قُوَّةِ التَّصْدِيقِ لِوُضُوحِ الأَْدِلَّةِ
وَجَوْدَةِ الْفَهْمِ. وَيَزِيدُ الإِْيمَانُ بِالطَّاعَاتِ،
وَيَنْقُصُ بِالْمَعَاصِي، وَيُفَاضَل النَّاسُ فِيهِ.
وَاسْتَشْهَدَ لَهُمْ بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى {فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} (1) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ يَخْرُجُ مِنَ
النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَال حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ
إِيمَانٍ (2) .
__________
(1) سورة التوبة / 124.
(2) وانظر لما مضى من هذه المسألة: فتح الباري (1 / 46، 47، 73 ط
السلفية) ، وكتاب الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام (ص 54، 72 ط
المطبعة العمومية، بدمشق) مع كتاب الإيمان لابن أبي شيبة، وكتاب
الإيمان لابن تيمية (ص 241 - 260) ، وشرح العقائد النسفية (ص 156 وما
بعدها) . وحديث: " يخرج من النار من كان. . . " أخرجه البخاري ضمن حديث
الشفاعة (الفتح 3 / 473 - 474 ط السلفية) ، ومسلم (4 / 1831 ط الحلبي)
.
(7/315)
الْفَرْقُ بَيْنَ الإِْسْلاَمِ
وَالإِْيمَانِ:
2 - الإِْسْلاَمُ لُغَةً: الاِسْتِسْلاَمُ، وَشَرْعًا: النُّطْقُ
بِالشَّهَادَتَيْنِ وَالْعَمَل بِالْفَرَائِضِ، فَالإِْيمَانُ أَخَصُّ
مِنَ الإِْسْلاَمِ، إِذْ يُؤْخَذُ فِي مَعْنَى الإِْيمَانِ - مَعَ
النُّطْقِ وَالْعَمَل - التَّصْدِيقُ، وَالإِْحْسَانُ أَخَصُّ مِنَ
الإِْيمَانِ. فَكُل مُحْسِنٍ مُؤْمِنٌ، وَكُل مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ، وَلاَ
عَكْسَ.
قَال الأَْزْهَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {قَالَتِ
الأَْعْرَابُ آمَنَّا قُل لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا
أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُل الإِْيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (1) قَال:
الإِْسْلاَمُ إِظْهَارُ الْخُضُوعِ وَالْقَبُول لِمَا أَتَى بِهِ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِهِ يُحْقَنُ
الدَّمُ. فَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ الإِْظْهَارِ اعْتِقَادٌ
وَتَصْدِيقٌ بِالْقَلْبِ فَذَلِكَ هُوَ الإِْيمَانُ، الَّذِي يُقَال
لِلْمَوْصُوفِ بِهِ هُوَ مُؤْمِنٌ مُسْلِمٌ.
فَأَمَّا مَنْ أَظْهَرَ قَبُول الشَّرِيعَةِ وَاسْتَسْلَمَ؛ لِدَفْعِ
الْمَكْرُوهِ، فَهُوَ فِي الظَّاهِرِ مُسْلِمٌ، وَبَاطِنُهُ غَيْرُ
مُصَدِّقٍ، فَذَلِكَ الَّذِي يَقُول: أَسْلَمْتُ. وَحُكْمُهُ فِي
الظَّاهِرِ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ (2) .
وَفِي الْعَقَائِدِ النَّسَفِيَّةِ وَشَرْحِهَا أَنَّ الإِْيمَانَ
وَالإِْسْلاَمَ شَيْءٌ وَاحِدٌ، أَوْ أَنَّ أَحَدَهُمَا لاَ يَنْفَكُّ
عَنِ الآْخَرِ (3) .
__________
(1) سورة الحجرات / 14.
(2) لسان العرب مادة " أمن ".
(3) شرح العقائد النسفية ص 160.
(7/315)
وَيَرَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ
الإِْيمَانَ وَالإِْسْلاَمَ إِذَا أُفْرِدَ أَحَدُهُمَا دَخَل فِيهِ
الآْخَرُ، وَدَل بِانْفِرَادِهِ عَلَى مَا يَدُل عَلَيْهِ الآْخَرُ
بِانْفِرَادِهِ. وَإِنْ قَرَنَ بَيْنَهُمَا تَغَايَرَا، عَلَى وِزَانِ
مَا قَالُوهُ فِي (الْفَقِيرِ) (وَالْمِسْكِينِ) (1)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - الإِْيمَانُ وَاجِبٌ، بَل هُوَ أَعْظَمُ الْفَرَائِضِ. وَلاَ
يُعْتَبَرُ التَّصْدِيقُ إِلاَّ مَعَ التَّلَفُّظِ بِالشَّهَادَتَيْنِ
مِنَ الْقَادِرِ (2) . وَالاِمْتِنَاعُ مِنَ التَّلَفُّظِ - مَعَ
الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ - مُنَافٍ لِلإِْذْعَانِ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ التَّقْلِيدِ فِي الإِْيمَانِ، عَلَى
قَوْلَيْنِ (3) .
4 - وَالإِْيمَانُ شَرْطٌ فِي قَبُول الْعِبَادَاتِ؛ لِقَوْل اللَّهِ
تَعَالَى {مَنْ عَمِل صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ
أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (4) وَقَوْلِهِ
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ
الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} (5)
وَنَحْوِهِمَا مِنَ الآْيَاتِ.
أَمَّا صِحَّةُ الأَْعْمَال ظَاهِرًا وَجَرَيَانُ الأَْحْكَامِ عَلَى
الشَّخْصِ، كَاسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ وَالصَّلاَةِ عَلَيْهِ وَنَحْوِ
ذَلِكَ، فَيُشْتَرَطُ لَهَا الإِْسْلاَمُ فَقَطْ، إِذِ التَّصْدِيقُ
وَالاِعْتِقَادُ أَمْرٌ بَاطِنٌ لاَ تَتَعَلَّقُ بِهِ الأَْحْكَامُ
الظَّاهِرَةُ.
وَقَدْ يَكُونُ الإِْسْلاَمُ شَرْطَ وُجُوبٍ، كَوُجُوبِ
__________
(1) كشاف اصطلاحات الفنون 3 / 697.
(2) شرح جمع الجوامع 2 / 417.
(3) المصدر نفسه 2 / 403.
(4) سورة النحل / 97.
(5) سورة النور / 39.
(7/316)
الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ
وَالْجِهَادِ حَيْثُ وَجَبَتْ، فَإِنَّمَا تَجِبُ ظَاهِرًا عَلَى
الْمُسْلِمِينَ.
مِنْ أَجْل ذَلِكَ، وَأَنَّ مَبَاحِثَ الْفِقْهِ مُنَصَّبَةٌ عَلَى
الأُْمُورِ الظَّاهِرَةِ، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ يَسْتَعْمِلُونَ
غَالِبًا فِي بَيَانِهِمْ لِلأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لَفْظَ
(الإِْسْلاَمِ) ، وَيَجْعَلُونَهُ مُتَعَلِّقُ الأَْحْكَامِ، دُونَ
لَفْظِ (الإِْيمَانِ)
وَلِذَلِكَ يُنْظَرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ (ر:
إِسْلاَمٌ) .
5 - وَإِذَا وُجِدَتِ الرِّدَّةُ - بِارْتِكَابِ أَحَدِ
الْمُكَفِّرَاتِ اخْتِيَارًا - أَبْطَلَتِ الإِْسْلاَمَ وَالإِْيمَانَ
ظَاهِرًا. وَخَرَجَ صَاحِبُهُ مِنْهُ إِلَى الْكُفْرِ اتِّفَاقًا (ر:
رِدَّةٌ) .
6 - أَمَّا الْفِسْقُ وَالْمَعَاصِي فَلاَ يَخْرُجُ بِهِمَا
الْمُؤْمِنُ مِنَ الإِْيمَانِ عَلَى قَوْل أَهْل السُّنَّةِ. وَعِنْدَ
الْخَوَارِجِ يَخْرُجُ بِهِمَا مِنَ الإِْيمَانِ وَيَدْخُل فِي
الْكُفْرِ. وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ يَخْرُجُ مِنَ الإِْيمَانِ، وَلاَ
يَدْخُل الْكُفْرَ، بَل هُوَ فِي مَنْزِلَةٍ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ
(1) .
7 - وَفِي حُكْمِ الاِسْتِثْنَاءِ فِي الإِْيمَانِ، بِأَنْ يَقُول
الإِْنْسَانُ: أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ اخْتِلاَفٌ،
وَالْحَقِيقَةُ أَنَّهُ خِلاَفٌ لَفْظِيٌّ؛ لأَِنَّهُ لَوْ قَصَدَ
حَقِيقَةَ التَّعْلِيقِ لاَ يَكُونُ مُؤْمِنًا بِالإِْجْمَاعِ، وَلَوْ
قَصَدَ التَّبَرُّكَ وَالتَّأَدُّبَ، بِإِسْنَادِ الأَْمْرِ
وَالتَّفْوِيضِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَبَرُّكًا،
فَلاَ يُمْكِنُ الْقَوْل بِأَنَّهُ غَيْرُ مُؤْمِنٍ (2) .
شُعَبُ الإِْيمَانِ:
8 - الإِْيمَانُ أَصْلٌ تَنْشَأُ عَنْهُ الأَْعْمَال الصَّالِحَةُ
وَتَنْبَنِي
__________
(1) كتاب الإيمان لابن تيمية ص 280، وجمع الجوامع وشرحه وحاشية البناني
2 / 418، وشرح العقائد النسفية للتفتازاني ص 141.
(2) الإيمان لأبي عبيد ص 67، وشرح العقائد النسفية ص 162.
(7/316)
عَلَيْهِ، كَمَا تَنْبَنِي فُرُوعُ
الشَّجَرَةِ عَلَى أَصْلِهَا وَتَتَغَذَّى مِنْهُ، وَقَدْ جَاءَ فِي
الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الإِْيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ، أَوْ بِضْعٌ
وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أَعْلاَهَا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ،
وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَْذَى عَنِ الطَّرِيقِ. وَالْحَيَاءُ
شُعْبَةٌ مِنَ الإِْيمَانِ (1) . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى
مِنْهَا جُمْلَةً فِي أَوَّل سُورَةِ (الْمُؤْمِنُونَ) . وَتَتَبَّعَ
بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بَاقِيَ الْعَدَدِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
(2) .
وَإِتْمَامًا لِهَذَا الْمُصْطَلَحِ تُرَاجَعُ كُتُبُ الْعَقَائِدِ
وَالتَّوْحِيدِ.
إِيهَامٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْيهَامُ لُغَةً: إِيقَاعُ الْغَيْرِ فِي الظَّنِّ (3) .
وَاصْطِلاَحًا: الإِْيقَاعُ فِي الْوَهْمِ (4) . إِلاَّ أَنَّ
الْفُقَهَاءَ وَالأُْصُولِيِّينَ يَخْتَلِفُونَ فِي مَعْنَى الْوَهْمِ،
فَهُوَ عِنْدَ أَغْلَبِ الْفُقَهَاءِ مُرَادِفٌ لِلشَّكِّ، فَالشَّكُّ
عِنْدَهُمْ هُوَ التَّرَدُّدُ بَيْنَ وُجُودِ الشَّيْءِ وَعَدَمِهِ،
سَوَاءٌ أَكَانَ الطَّرَفَانِ فِي التَّرَدُّدِ سَوَاءً، أَمْ كَانَ
أَحَدُهُمَا رَاجِحًا (5) .
__________
(1) حديث: " الإيمان بضع وستون شعبة. . . " أخرجه مسلم (1 / 63 ط
الحلبي) .
(2) انظر فتح الباري في شرح كتاب (الإيمان) من صحيح البخاري 1 / 53،
والجامع لشعب الإيمان للبيهقي ط الدار السلفية في بومبي بالهند، ومختصر
شعب الإيمان للبيهقي اختصره أبو جعفر القزويني ط المنيرية 1355 هـ،
والجامع في شعب الإيمان للحليمي. بيروت دار الفكر.
(3) لسان العرب المحيط مادة: " وهم ".
(4) جمع الجوامع 2 / 300 ط مصطفى الحلبي، والمجموع 1 / 168، 169 ط
السلفية، والخرشي 1 / 311 ط دار صادر، والمغني 1 / 64 ط الرياض.
(5) المراجع السابقة.
(7/317)
وَعِنْدَ أَصْحَابِ الأُْصُول وَبَعْضِ
الْفُقَهَاءِ: الْوَهْمُ هُوَ إِدْرَاكُ الطَّرَفِ الْمَرْجُوحِ (1) .
وَالْبَعْضُ يُطْلِقُ الإِْيهَامَ وَيُرِيدُ بِهِ الظَّنَّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْغِشُّ:
2 - الْغِشُّ: أَنْ يَكْتُمَ الْبَائِعُ عَنِ الْمُشْتَرِي عَيْبًا فِي
الْمَبِيعِ لَوِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ لَمَا اشْتَرَاهُ بِذَلِكَ
الثَّمَنِ (3) .
التَّدْلِيسُ:
3 - التَّدْلِيسُ: الْعِلْمُ بِالْعَيْبِ وَكِتْمَانُهُ (4) .
الْغَرَرُ:
4 - الْغَرَرُ: مَا يَكُونُ مَجْهُول الْعَاقِبَةِ، وَلاَ يُدْرَى
أَيَكُونُ أَمْ لاَ (5) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
5 - إِيهَامُ اللُّقِيِّ وَالرِّحْلَةِ مِنْ تَدْلِيسِ الإِْسْنَادِ
عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ، لَكِنْ لاَ يُعْتَبَرُ
سَبَبًا لِتَجْرِيحِ الرَّاوِي.
فَإِيهَامُ اللُّقِيِّ: كَقَوْل مَنْ عَاصَرَ الزُّهْرِيَّ مَثَلاً
وَلَمْ يَلْقَهُ: قَال الزُّهْرِيُّ، مُوهِمًا أَيْ مُوقِعًا فِي
الْوَهْمِ - أَيِ الذِّهْنِ - أَنَّهُ سَمِعَهُ.
وَإِيهَامُ الرِّحْلَةِ نَحْوُ أَنْ يُقَال: حَدَّثَنَا وَرَاءَ
النَّهْرِ، مُوهِمًا جَيْحُونَ، وَالْمُرَادُ نَهْرُ مِصْرَ، كَأَنْ
يَكُونَ
__________
(1) جمع الجوامع 2 / 300، والطحطاوي على مراقي الفلاح ص 249 ط دار
الإيمان.
(2) جواهر الإكليل 2 / 45، والدسوقي 3 / 169 نشر دار الفكر.
(3) نهاية المحتاج 4 / 69 ط الحلبي.
(4) الخرشي 5 / 14، 180، وجواهر الإكليل 2 / 45.
(5) التعريفات للجرجاني 141، والقليوبي 2 / 161، والفروق للقرافي 3 /
265.
(7/317)
بِالْجِيزَةِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مِنَ
الْمَعَارِيضِ لاَ كَذِبَ فِيهِ (1) .
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ: إِيهَامُ الْبَائِعِ الْمُشْتَرِيَ سَلاَمَةَ
الْمَبِيعِ الْمَعِيبِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَمُوجِبُ الْخِيَارِ
لِلْمُشْتَرِي فِي الْجُمْلَةِ (2) عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ
مَوْطِنُهُ خِيَارُ الْعَيْبِ.
إِيوَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْيوَاءُ لُغَةً: مَصْدَرُ آوَى - وَهُوَ مُتَعَدٍّ - ضَمُّ
الإِْنْسَانِ غَيْرَهُ إِلَى مَكَانٍ يُقِيمُ وَيَأْمَنُ فِيهِ،
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ
أَبَوَيْهِ} (3) وَمُجَرَّدُهُ أَوَى، وَهُوَ لاَزِمٌ. وَقَدْ
يُسْتَعْمَل مُتَعَدِّيًا، يُقَال: أَوَى إِلَى فُلاَنٍ إِذَا
الْتَجَأَ وَانْضَمَّ إِلَيْهِ. وَالْمَأْوَى لِكُل حَيَوَانٍ سَكَنُهُ
(4) .
وَهُوَ فِي الشَّرِيعَةِ كَذَلِكَ، فَقَدْ قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ لِلأَْنْصَارِ: أَسْأَلُكُمْ لِرَبِّي عَزَّ وَجَل أَنْ
تَعْبُدُوهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَسْأَلُكُمْ لِنَفْسِي
وَلأَِصْحَابِي أَنْ تُؤْوُونَا. . (5) أَيْ تَضُمُّونَا إِلَيْكُمْ،
__________
(1) جمع الجوامع 2 / 165، فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت 2 / 149 ط
دار صادر.
(2) المحلى على المنهاج بحاشيتي قليوبي وعميرة 2 / 210، وجواهر الإكليل
2 / 42، والمغني 4 / 157.
(3) سورة يوسف / 99.
(4) لسان العرب، والمغرب، مادة " أوى ".
(5) حديث: " أسألكم لربي عز وجل أن تعبدوه. . . " أخرجه أحمد (4 / 119
- 120 - ط الميمنية) وقال الهيثمي: رواه أحمد هكذا مرسلا، ورجاله رجال
الصحيح، وقد ذكر الإمام أحمد بعده سندا إلى الشعبي عن أبي مسعود - عقبة
بن عامر - قال بنحو هذا. . . وفيه مجالد وفيه ضعف، وحديثه حسن إن شاء
الله. (المجمع 6 / 48 - ط القدسي) .
(7/318)
وَقَال صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ
عَلَيْهِ: لاَ يَأْوِي الضَّالَّةَ إِلاَّ ضَالٌّ (1) أَيْ يَأْخُذُهَا
وَيَضُمُّهَا إِلَيْهِ وَهَكَذَا (2) .
الْحُكْمُ الْعَامُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
2 - حَيْثُمَا كَانَ الإِْيوَاءُ لِغَايَةٍ مَشْرُوعَةٍ كَانَ
الإِْيوَاءُ مَشْرُوعًا، مَا لَمْ يَقُمْ عَلَى مَنْعِهِ دَلِيلٌ،
كَإِيوَاءِ الْيَتِيمِ، وَإِيوَاءِ الْمُشَرَّدِ، وَإِيوَاءِ
الضَّيْفِ، وَإِيوَاءِ الْفَارِّ مِنَ الظَّالِمِ، وَإِيوَاءِ
اللُّقَطَةِ الَّتِي لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَمْتَنِعَ بِنَفْسِهَا.
وَحَيْثُمَا كَانَ الإِْيوَاءُ لِغَايَةٍ غَيْرِ مَشْرُوعَةٍ، فَهُوَ
غَيْرُ مَشْرُوعٍ كَإِيوَاءِ الْجَاسُوسِ وَالْجَانِي (3) لِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَدِينَةِ مَنْ
أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ
اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (4) .
3 - وَإِيوَاءُ الْعَيْنِ الْمَسْرُوقَةِ مِنْ قِبَل مَالِكِهَا شَرْطٌ
لِقَطْعِ سَارِقِهَا، وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ
بِالْحِرْزِ.
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُقْطَعُ الْيَدُ
فِي ثَمَرٍ مُعَلَّقٍ، فَإِذَا ضَمَّهُ الْجَرِينُ قُطِعَتْ فِي ثَمَنِ
الْمِجَنِّ، وَلاَ تُقْطَعُ فِي حَرِيسَةِ الْجَبَل، فَإِذَا آوَى
الْمَرَاحُ قُطِعَتْ فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ (5)
__________
(1) حديث: " لا يأوي الضالة إلا ضال. . . ". أخرجه ابن ماجه (2 / 836 -
ط الحلبي) وأصله في صحيح مسلم (3 / 1351 - ط الحلبي) .
(2) مجمع بحار الأنوار للفتني الكجراني، والنهاية في غريب الحديث،
والفائق في غريب الحديث مادة: " أوى "
(3) عمدة القاري 15 / 94.
(4) حديث: " من أحدث فيها حدثا. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 81 - ط
السلفية) . ومسلم (2 / 995 - 996 - ط الحلبي) .
(5) المغني 8 / 258. وحديث: " لا تقطع اليد في ثمر معلق. . . " أخرجه
النسائي (8 / 84 - 85 ط المكتبة التجارية) وإسناده حسن، (التلخيص
الحبير 4 / 64 - ط شركة الطباعة الفنية المتحدة) . والجرين: هو موضع
تجفيف الثمر (سنن النسائي بشرح السيوطي 8 / 85) . والمجن: هو الترس
(لسان العرب) . وحريسة الجبل هي: الشاة مما يحرس بالجبل (الفائق في
غريب الحديث) .
(7/318)
كَمَا فَصَّل ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي
كِتَابِ السَّرِقَةِ. (ر: سَرِقَةٌ) .
4 - وَإِيوَاءُ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي - بِمَعْنَى نَقْلِهِ
وَضَمِّهِ إِلَى الْمُشْتَرِي - فِي الْمَنْقُولاَتِ شَرْطٌ عِنْدَ
الْبَعْضِ؛ لِجَوَازِ بَيْعِ الْمُشْتَرِي لَهُ، لِقَوْل ابْنِ عُمَرَ:
لَقَدْ رَأَيْتُ النَّاسَ فِي عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْتَاعُونَ جُزَافًا - يَعْنِي الطَّعَامَ -
يَضْرِبُونَ أَنْ يَبِيعُوهُ فِي مَكَانِهِمْ حَتَّى يُؤْوُوهُ إِلَى
رِحَالِهِمْ (1) .
الأَْيَّامُ الْبِيضُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْيَّامُ الْبِيضُ هِيَ: الْيَوْمُ الثَّالِثَ عَشَرَ
وَالرَّابِعَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ كُل شَهْرٍ عَرَبِيٍّ.
وَسُمِّيَتْ بِيضًا لاِبْيِضَاضِ لَيَالِيِهَا بِالْقَمَرِ؛ لأَِنَّهُ
يَطْلُعُ فِيهَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا. وَلِذَلِكَ قَال
ابْنُ بَرِّيٍّ: الصَّوَابُ أَنْ يُقَال: أَيَّامُ الْبِيضِ،
بِالإِْضَافَةِ لأَِنَّ الْبِيضَ مِنْ صِفَةِ اللَّيَالِيِ - أَيْ
أَيَّامِ اللَّيَالِيِ الْبَيْضَاءِ.
__________
(1) حديث ابن عمر: " لقد رأيت الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه
وسلم. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 347 - ط السلفية) ومسلم (3 /
1161 - ط الحلبي) واللفظ للبخاري.
(7/319)
وَقَال الْمُطَرِّزِيُّ: مَنْ فَسَّرَهَا
بِالأَْيَّامِ فَقَدْ أَبْعَد (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الأَْيَّامُ السُّودُ:
2 - الأَْيَّامُ السُّودُ أَوْ أَيَّامُ اللَّيَالِيِ السُّودِ: هِيَ
الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ وَتَالِيَاهُ، بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْقَمَرَ
فِي هَذِهِ اللَّيَالِيِ يَكُونُ فِي تَمَامِ الْمِحَاقِ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - يُسْتَحَبُّ صَوْمُ الأَْيَّامِ الْبِيضِ مِنْ كُل شَهْرٍ؛
لِكَثْرَةِ الأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهَا مَا
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَال: مَنْ صَامَ مِنْ كُل شَهْرٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَذَاكَ صِيَامُ
الدَّهْرِ (3)
وَعَنْ مِلْحَانَ الْقَيْسِيِّ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا أَنْ نَصُومَ الْبِيضَ:
ثَلاَثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ، وَقَال: هُوَ
كَهَيْئَةِ الدَّهْرِ (4) وَهَذَا يَنْطَبِقُ عَلَى كُل شُهُورِ
الْعَامِ عَدَا شَهْرَ ذِي الْحِجَّةِ، فَلاَ يُصَامُ فِيهِ الْيَوْمُ
الثَّالِثَ عَشَرَ؛ لأَِنَّهُ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ الَّتِي
وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ صَوْمِهَا.
وَالأَْوْجَهُ كَمَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ أَنْ يُصَامَ السَّادِسَ
عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. وَصَوْمُ هَذِهِ الأَْيَّامِ مُسْتَحَبٌّ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (5) .
__________
(1) لسان العرب، والمغرب، والمصباح المنير مادة: " بيض "
(2) مغني المحتاج 1 / 447 ط مصطفى الحلبي.
(3) حديث: " من صام من كل شهر ثلاثة أيام. . . " أخرجه ابن ماجه (1 /
45 - ط الحلبي) وصححه ابن خزيمة (3 / 301 - ط المكتب الإسلامي) .
(4) حديث ملحان: " كان يأمرنا بأن نصوم البيض. . . " أخرجه أبو داود (2
/ 821 - ط عزت عبيد دعاس) وصححه البخاري كما في مختصر سنن أبي داود (3
/ 330 - نشر دار المعرفة) .
(5) بدائع الصنائع 2 / 79 ط أولى، ونهاية المحتاج 3 / 202 ط المكتبة
الإسلامية، والمغني 3 / 177.
(7/319)
وَكَانَ مَالِكٌ يَصُومُ أَوَّل يَوْمِهِ،
وَحَادِي عَشَرَهُ، وَحَادِي عِشْرِينِهِ. وَكَرِهَ الْمَالِكِيَّةُ
كَوْنَهَا الثَّلاَثَةَ الأَْيَّامِ الْبِيضِ، مَخَافَةَ اعْتِقَادِ
وُجُوبِهَا وَفِرَارًا مِنَ التَّحْدِيدِ.
وَهَذَا إِذَا قَصَدَ صَوْمَهَا بِعَيْنِهَا، وَأَمَّا إِنْ كَانَ
عَلَى سَبِيل الاِتِّفَاقِ فَلاَ كَرَاهَةَ (1)
أَيَّامُ التَّشْرِيقِ
التَّعْرِيفُ:
1 - أَيَّامُ التَّشْرِيقِ - عِنْدَ اللُّغَوِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ -
ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، قِيل: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ
لأَِنَّ لُحُومَ الأَْضَاحِيِّ تُشَرَّقُ فِيهَا، أَيْ تُقَدَّدُ فِي
الشَّمْسِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الأَْيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ:
2 - الأَْيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ هِيَ الْوَارِدَةُ فِي قَوْله
تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} (3) وَهِيَ
أَيَّامُ التَّشْرِيقِ الثَّلاَثَةِ كَمَا ذَكَرَ اللُّغَوِيُّونَ
وَالْفُقَهَاءُ (4) .
__________
(1) الدسوقي 1 / 517 ط دار الفكر، ومنح الجليل 1 / 392 ط النجاح.
(2) لسان العرب والمصباح المنير والمغرب مادة: " شرق "، ومغني المحتاج
1 / 505 ط مصطفى الحلبي، وفتح القدير 3 / 48 ط دار إحياء التراث
العربي، والكافي 2 / 376 ط الرياض، ومنتهى الإرادات 1 / 310.
(3) سورة البقرة / 203.
(4) لسان العرب والمصباح المنير، والمغني 2 / 394 ط الرياض، ومغني
المحتاج 1 / 505، والبدائع 1 / 195 ط أولى شركة المطبوعات العلمية،
والكافي 1 / 376.
(7/320)
ب - الأَْيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ:
3 - الأَْيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ الْوَارِدَةُ فِي قَوْله تَعَالَى:
{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} (1) هِيَ
الْعَشْرُ الأَْوَائِل مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ
الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ.
وَقِيل: هِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَقِيل: هِيَ يَوْمُ النَّحْرِ
وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ، وَهُوَ رَأْيُ الْمَالِكِيَّةِ. وَقَدْ رَوَى
نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ الأَْيَّامَ الْمَعْدُودَاتِ
وَالأَْيَّامَ الْمَعْلُومَاتِ يَجْمَعُهَا أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ:
يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلاَثَةٌ بَعْدَهُ، فَيَوْمُ النَّحْرِ مَعْلُومٌ
غَيْرُ مَعْدُودٍ، وَالْيَوْمَانِ بَعْدَهُ مَعْلُومَانِ مَعْدُودَانِ،
وَالْيَوْمُ الرَّابِعُ مَعْدُودٌ لاَ مَعْلُومٌ.
وَقِيل: هِيَ يَوْمُ عَرَفَةَ وَالنَّحْرِ وَالْحَادِيَ عَشَرَ (2) .
ج - أَيَّامُ النَّحْرِ:
4 - أَيَّامُ النَّحْرِ ثَلاَثَةٌ: الْعَاشِرُ وَالْحَادِيَ عَشَرَ
وَالثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَذَلِكَ هُوَ مَذْهَبُ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ
عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ وَأَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا:
أَيَّامُ النَّحْرِ ثَلاَثَةٌ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ
أَيَّامَ النَّحْرِ أَرْبَعَةٌ: يَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ
التَّشْرِيقِ لِمَا رَوَى جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ قَال: قَال رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُل أَيَّامِ التَّشْرِيقِ
ذَبْحٌ (3) .
__________
(1) سورة الحج / 28.
(2) مغني المحتاج 1 / 505، والمجموع 8 / 381، والمغني 2 / 398،
والبدائع 1 / 195، والقرطبي 3 / 2 ط دار الكتب المصرية، والكافي 1 /
423.
(3) حديث: " كل أيام التشريق ذبح. . . " أخرجه أحمد بن حنبل وابن حبان
في صحيحه والبيهقي من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه، وذكر الاختلاف
في إسناده، ورواه ابن عدي من حديث أبي هريرة وفي إسناده معاوية بن يحيى
الصدفي وهو ضعيف. (مسند أحمد بن حنبل 4 / 82 ط الميمنية، ونيل الأوطار
5 / 216 ط دار الجيل) .
(7/320)
وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، وَبِهِ قَال عَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَالأَْوْزَاعِيُّ
وَابْنُ الْمُنْذِرِ (1) .
د - أَيَّامُ مِنًى:
5 - أَيَّامُ مِنًى هِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ الثَّلاَثَةِ، وَهِيَ
الْحَادِيَ عَشَرَ وَالثَّانِيَ عَشَرَ وَالثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ ذِي
الْحِجَّةِ، وَتُسَمَّى أَيَّامَ مِنًى وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ
وَأَيَّامَ رَمْيِ الْجِمَارِ وَالأَْيَّامَ الْمَعْدُودَاتِ، كُل
هَذِهِ الأَْسْمَاءِ وَاقِعَةٌ عَلَيْهَا (2) .
وَالْفُقَهَاءُ يُعَبِّرُونَ بِأَيَّامِ مِنًى تَارَةً، وَبِأَيَّامِ
التَّشْرِيقِ تَارَةً أُخْرَى.
مَا يَتَعَلَّقُ بِأَيَّامِ التَّشْرِيقِ:
أ - رَمْيُ الْجِمَارِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ:
6 - أَيَّامُ رَمْيِ الْجِمَارِ أَرْبَعَةٌ: يَوْمُ النَّحْرِ،
وَثَلاَثَةُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ هِيَ
وَقْتٌ لِرَمْيِ بَاقِي الْجِمَارِ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، يَرْمِي
الْحَاجُّ كُل يَوْمٍ بَعْدَ الزَّوَال إِحْدَى وَعِشْرِينَ حَصَاةً
لِثَلاَثِ جَمَرَاتٍ، كُل جَمْرَةٍ سَبْعَ حَصَيَاتٍ، وَالأَْصْل فِي
هَذَا مَا رَوَتْهُ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهَا قَالَتْ: أَفَاضَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ آخِرِ يَوْمِهِ حِينَ صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ رَجَعَ
إِلَى مِنًى، فَمَكَثَ بِهَا لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، يَرْمِي
الْجَمْرَةَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ، كُل جَمْرَةٍ بِسَبْعِ
حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُل حَصَاةٍ، وَيَقِفُ عِنْدَ الأُْولَى
__________
(1) منتهى الإرادات 2 / 80، والكافي 1 / 423، والاختيار 5 / 19 ط دار
المعرفة، والمغني 3 / 432، والمهذب 1 / 244.
(2) الكافي 1 / 376، والقرطبي 3 / 1، والمهذب 1 / 237 - 238، ومنتهى
الإرادات 2 / 66 - 68، والبدائع 2 / 159.
(7/321)
وَالثَّانِيَةِ، فَيُطِيل الْقِيَامَ
وَيَتَضَرَّعُ، وَيَرْمِي الثَّالِثَةَ وَلاَ يَقِفُ عِنْدَهَا. (1)
وَرَمْيُ الْجِمَارِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَاجِبٌ، وَيَفُوتُ
وَقْتُ الرَّمْيِ بِغُرُوبِ شَمْسِ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ،
فَمَنْ تَرَكَ الرَّمْيَ فِي هَذِهِ الأَْيَّامِ سَقَطَ عَنْهُ
الرَّمْيُ لِفَوَاتِ وَقْتِهِ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ؛ لِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ تَرَكَ نُسُكًا
فَعَلَيْهِ دَمٌ (2) . وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ (3) .
وَبَاقِي تَفْصِيل أَحْكَامِ الرَّمْيِ فِي مُصْطَلَحِ (رَمْيٍ،
وَحَجٍّ) .
ب - ذَبْحُ الْهَدْيِ وَالأُْضْحِيَّةِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ:
7 - وَقْتُ ذَبْحِ الأُْضْحِيَّةِ وَالْهَدْيِ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ:
يَوْمُ الأَْضْحَى، وَهُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
وَالْحَادِيَ عَشَرَ وَالثَّانِيَ عَشَرَ، فَيَدْخُل الْيَوْمُ
الأَْوَّل وَالثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهَذَا عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ
أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَرَوَاهُ الأَْثْرَمُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَلأَِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) حديث: قالت عائشة رضي الله عنها: " أفاض رسول الله. . . " أخرجه
أحمد (6 / 90 ط الميمنية) وأبو داود (عون المعبود 2 / 147 ط الهند)
وقال شعيب الأرناؤوط محقق شرح السنة (7 / 225) إسناده صحيح لولا عنعنة
ابن إسحاق، لكن يشهد له حديث ابن عمر عند البخاري (فتح الباري 3 / 582،
583 ط السلفية) .
(2) حديث: " من ترك نسكا فعليه دم. . . ". رواه مالك في الموطأ (1 /
419 ط الحلبي) موقوفا من حديث عبد الله بن عباس بلفظ " من نسي من نسكه
شيئا أو تركه فيهرق دما. . . " وأخرجه ابن حزم مرفوعا وأعله بالجهالة
(التلخيص الحبير 2 / 229) .
(3) المغني 3 / 451 - 455، والمنتهى 2 / 67، وبدائع الصنائع 2 / 139،
وحاشية ابن عابدين 2 / 190، ومنح الجليل 1 / 498، والكافي 1 / 410،
والمهذب 1 / 237.
(7/321)
نَهَى عَنِ الأَْكْل مِنَ النُّسُكِ فَوْقَ
ثَلاَثٍ (1) وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الذَّبْحُ مَشْرُوعًا فِي
وَقْتٍ يَحْرُمُ فِيهِ الأَْكْل، ثُمَّ نُسِخَ تَحْرِيمُ الأَْكْل
وَبَقِيَ وَقْتُ الذَّبْحِ بِحَالِهِ.
وَقَدْ وَرَدَ عَنْ بَعْضِ أَهْل الْمَدِينَةِ إِجَازَةُ
الأُْضْحِيَّةِ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَبْقَى وَقْتُ ذَبْحِ الأُْضْحِيَّةِ
وَالْهَدْيِ إِلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ،
كَمَا قَطَعَ بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ
مُطْعِمٍ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: كُل أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ (2) وَرُوِيَ عَنْ
عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَال: النَّحْرُ
يَوْمَ الأَْضْحَى وَثَلاَثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ وَبِهِ قَال
الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ (3) .
ج - الإِْحْرَامُ بِالْعُمْرَةِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ:
8 - يُكْرَهُ الإِْحْرَامُ بِالْعُمْرَةِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؛
لِمَا رَوَتِ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا
قَالَتْ (4) :
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأكل من النسك فوق
ثلاث " أخرجه البخاري من حديث سلمة بن الأكوع مرفوعا بلفظ: " من ضحى
منكم فلا يصبحن بعد ثالثة وبقي في بيته من شيء. فلما كان العام المقبل،
قالوا: يا رسول الله نفعل كما فعلنا العام الماضي؟ قال
(2) حديث: " كل أيام التشريق ذبح. . . ". (سبق تخريجه ف / 4) .
(3) المغني 3 / 432، والبدائع 2 / 174، 5 / 65، والدسوقي 2 / 86، 120،
والكافي 1 / 404، والمجموع 8 / 380، 390 والمهذب 1 / 244.
(4) الأثر عن السيدة عائشة: " وقت العمرة السنة كلها إلا يوم عرفة ويوم
النحر وأيام التشريق ". أخرجه البيهقي موقوفا بلفظ: " حلت العمرة في
السنة كلها إلا في أربعة أيام: يوم عرفة، ويوم النحر، ويومان بعد ذلك.
. ". (السنن الكبرى للبيهقي 4 / 346) .
(7/322)
وَقْتُ الْعُمْرَةِ السَّنَةُ كُلُّهَا،
إِلاَّ يَوْمَ عَرَفَةَ وَيَوْمَ النَّحْرِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ
(1) وَمِثْل هَذَا لاَ يُعْرَفُ إِلاَّ بِالتَّوْقِيفِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ الإِْحْرَامِ
بِالْعُمْرَةِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَلاَ يُكْرَهُ ذَلِكَ
لِعَدَمِ النَّهْيِ عَنْهُ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ بِالْحَجِّ إِذَا
أَهَل بِعُمْرَةٍ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَزِمَتْهُ،
وَيَقْطَعُهَا؛ لأَِنَّهُ قَدْ أَدَّى رُكْنَ الْحَجِّ مِنْ كُل
وَجْهٍ، وَالْعُمْرَةُ مَكْرُوهَةٌ فِي هَذِهِ الأَْيَّامِ، فَلِهَذَا
يَلْزَمُهُ قَطْعُهَا، فَإِنْ رَفَضَهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ لِقَطْعِهَا،
وَعُمْرَةٌ مَكَانَهَا، وَإِنْ مَضَى عَلَيْهَا أَجْزَأَهُ؛ لأَِنَّ
الْكَرَاهَةَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهَا، وَهُوَ كَوْنُهُ مَشْغُولاً فِي
هَذِهِ الأَْيَّامِ بِأَدَاءِ بَقِيَّةِ أَعْمَال الْحَجِّ، فَيَجِبُ
تَخْلِيصُ الْوَقْتِ لَهُ تَعْظِيمًا، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِجَمْعِهِ
بَيْنَهُمَا (3) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ الإِْحْرَامُ بِالْعُمْرَةِ فِي
أَيِّ وَقْتٍ مِنَ السَّنَةِ، إِلاَّ لِمُحْرِمٍ بِحَجٍّ مُفْرِدًا،
فَيُمْنَعُ إِحْرَامُهُ بِالْعُمْرَةِ - وَلاَ يَنْعَقِدُ، وَلاَ
يَجِبُ قَضَاؤُهَا - إِلَى أَنْ يَتَحَلَّل مِنْ جَمِيعِ أَفْعَال
الْحَجِّ، وَذَلِكَ بِرَمْيِ الْيَوْمِ الرَّابِعِ لِغَيْرِ
الْمُتَعَجِّل، وَمُضِيِّ قَدْرِهِ لِمَنْ تَعَجَّل، وَهُوَ قَدْرُ
زَمَنِهِ عَقِبَ زَوَال الرَّابِعِ، فَإِنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ
قَبْل غُرُوبِ الْيَوْمِ الرَّابِعِ صَحَّ إِحْرَامُهُ، لَكِنْ لاَ
يَفْعَل شَيْئًا مِنْ أَفْعَال الْعُمْرَةِ إِلاَّ بَعْدَ غُرُوبِ
الشَّمْسِ، فَإِنْ فَعَل قَبْلَهُ شَيْئًا فَلاَ يُعْتَدُّ بِهِ عَلَى
الْمَذْهَبِ (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 227.
(2) منتهى الإرادات 2 / 72، والمهذب 1 / 207.
(3) الهداية 1 / 179 - 180.
(4) منح الجليل 1 / 456، والدسوقي 2 / 22.
(7/322)
د - صَلاَةُ عِيدِ الأَْضْحَى أَيَّامَ
التَّشْرِيقِ:
9 - صَلاَةُ عِيدِ الأَْضْحَى تَكُونُ فِي الْيَوْمِ الأَْوَّل مِنْ
أَيَّامِ النَّحْرِ، فَإِذَا تُرِكَتْ فِي الْيَوْمِ الأَْوَّل،
فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تُصَلَّى فِي الْيَوْمِ الأَْوَّل وَالثَّانِي
مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهُمَا الثَّانِي وَالثَّالِثُ مِنْ
أَيَّامِ النَّحْرِ، وَسَوَاءٌ أَتُرِكَتْ بِعُذْرٍ أَمْ بِغَيْرِ
عُذْرٍ، إِلاَّ أَنَّهَا إِذَا تُرِكَتْ بِغَيْرِ عُذْرٍ فَإِنَّ
ذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وَتَلْحَقُهُمُ الإِْسَاءَةُ، وَتَكُونُ أَدَاءً فِي
هَذِهِ الأَْيَّامِ، وَإِنَّمَا جَازَ الأَْدَاءُ فِي هَذِهِ
الأَْيَّامِ اسْتِدْلاَلاً بِالأُْضْحِيَّةِ، فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ فِي
الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، فَكَذَا صَلاَةُ الْعِيدِ؛
لأَِنَّهَا مَعْرُوفَةٌ بِوَقْتِ الأُْضْحِيَّةِ فَتَتَقَيَّدُ
بِأَيَّامِهَا.
وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْجَمَاعَةِ، أَمَّا الْمُنْفَرِدُ إِذَا
فَاتَتْهُ صَلاَةُ الْعِيدِ فَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ، هَذَا مَذْهَبُ
الْحَنَفِيَّةِ.
وَمِثْلُهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، إِلاَّ أَنَّهُمْ
يُجِيزُونَ صَلاَتَهَا فِي كُل أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَفِيمَا بَعْدَ
أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَيَعْتَبِرُونَهَا قَضَاءً لاَ أَدَاءً.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَال فِي الْمُدَوَّنَةِ: مَنْ فَاتَتْهُ
صَلاَةُ الْعِيدِ مَعَ الإِْمَامِ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَهَا
مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ، وَقَال ابْنُ حَبِيبٍ: إِنْ فَاتَتْ صَلاَةُ
الْعِيدِ جَمَاعَةً، فَأَرَادُوا أَنْ يُصَلُّوا بِجَمَاعَتِهِمْ فَلاَ
بَأْسَ أَنْ يَجْمَعَهَا مَعَ نَفَرٍ مِنْ أَهْلِهِ، قَال سَحْنُونٌ:
لاَ أَرَى أَنْ يَجْمَعُوا، وَإِنْ أَحَبُّوا صَلَّوْا أَفْذَاذًا (1)
.
هـ - الصَّوْمُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ:
10 - مِنَ الأَْيَّامِ الَّتِي نُهِيَ عَنِ الصِّيَامِ فِيهَا أَيَّامُ
التَّشْرِيقِ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
__________
(1) البدائع 1 / 276، وحاشية الطحطاوي / 293 ط دار الإيمان - دمشق،
ومنتهى الإرادات 1 / 306، والمغني 2 / 390، ومغني المحتاج 1 / 315،
والحطاب 2 / 197.
(7/323)
قَال: أَيَّامُ مِنًى أَيَّامُ أَكْلٍ
وَشُرْبٍ وَذِكْرٌ لِلَّهِ (1) إِلاَّ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُتَمَتِّعِ
أَوِ الْقَارِنِ الَّذِي لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ أَنْ يَصُومَ هَذِهِ
الأَْيَّامَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمَا قَالاَ: لَمْ يُرَخَّصْ فِي
أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ إِلاَّ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ
الْهَدْيَ (2) .
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَفِي الْقَدِيمِ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرُوِيَ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ
لاَ يَجُوزُ صِيَامُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عَنِ الْهَدْيِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي الْجَدِيدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ:
لاَ يَجُوزُ صَوْمُهَا لِلنَّهْيِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ.
وَمَنْ نَذَرَ صَوْمَ سَنَةٍ لَمْ يَدْخُل فِي نَذْرِهِ أَيَّامُ
التَّشْرِيقِ، وَأَفْطَرَ وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ
مُسْتَحِقٌّ لِلْفِطْرِ وَلاَ يَتَنَاوَلُهَا النَّذْرُ.
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ،
وَهُوَ قَوْل زُفَرَ وَرِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ وَابْنِ الْمُبَارَكِ
عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ
يَصِحُّ نَذْرُهُ فِي هَذِهِ الأَْيَّامِ، لَكِنِ الأَْفْضَل أَنْ
يُفْطِرَ فِيهَا وَيَصُومَ فِي أَيَّامٍ أُخَرَ، وَلَوْ صَامَ فِي
هَذِهِ الأَْيَّامِ يَكُونُ مُسِيئًا لَكِنَّهُ يَخْرُجُ عَنِ
النَّذْرِ.
وَرُوِيَ عَنِ الإِْمَامِ مَالِكٍ أَنَّهُ يَجُوزُ صَوْمُ الْيَوْمِ
الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لِمَنْ نَذَرَهُ (3) .
__________
(1) حديث: " أيام منى أيام أكل وشرب وذكر لله " أخرجه مسلم من حديث كعب
رضي الله عنه مرفوعا بلفظ: " أيام منى أيام أكل وشرب " وأما زيادة "
وذكر لله " فهي في رواية أبي المليح. (صحيح مسلم 2 / 800 ط عيسى
الحلبي) .
(2) الأثر عن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهم أنهما قالا: " لم يرخص في
أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي ". أخرجه البخاري من حديث
ابن عمر وعائشة رضي الله عنهم (فتح الباري 4 / 242 ط السلفية) .
(3) منتهى الإرادات 1 / 461، 3 / 452، والمغني 3 / 479، والهداية 1 /
155، وبدائع الصنائع 2 / 80 و 173، والمهذب 1 / 196، 251، ومنح الجليل
1 / 544، وحاشية الدسوقي 1 / 540، والكافي 1 / 346، 349.
(7/323)
و - الْخُطْبَةُ فِي الْحَجِّ فِي أَيَّامِ
التَّشْرِيقِ:
11 - يُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْطُبَ الإِْمَامُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي
مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ خُطْبَةً يُعَلِّمُ النَّاسَ فِيهَا حُكْمَ
التَّعْجِيل وَالتَّأْخِيرِ وَتَوْدِيعَهُمْ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ
رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي بَكْرٍ قَالاَ: رَأَيْنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ بَيْنَ أَوْسَطِ أَيَّامِ
التَّشْرِيقِ وَنَحْنُ عِنْدَ رَاحِلَتِهِ. (1)
وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَعِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ - غَيْرَ زُفَرَ - تَكُونُ
الْخُطْبَةُ فِي الْيَوْمِ الأَْوَّل مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ،
وَهُوَ ثَانِي أَيَّامِ النَّحْرِ (2) .
ز - الْمَبِيتُ بِمِنًى لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ:
12 - الْمَبِيتُ بِمِنًى لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَاجِبٌ
عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَل ذَلِكَ، قَالَتِ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَفَاضَ رَسُول اللَّهِ مِنْ آخِرِ يَوْمِهِ
حِينَ صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِنًى فَمَكَثَ بِهَا
لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، (3) وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: لَمْ يُرَخِّصِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِحَدٍ أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ إِلاَّ
لِلْعَبَّاسِ مِنْ أَجْل سِقَايَتِهِ، وَرَوَى الأَْثْرَمُ عَنِ ابْنِ
عُمَرَ قَال: لاَ يَبِيتَنَّ أَحَدٌ مِنَ الْحَاجِّ إِلاَّ بِمِنًى،
وَكَانَ يَبْعَثُ رِجَالاً لاَ يَدَعُونَ أَحَدًا يَبِيتُ وَرَاءَ
الْعَقَبَةِ (4) .
__________
(1) حديث: " روي عن رجلين. . . " أخرجه أبو داود وسكت عنه هو والمنذري
والحافظ في التلخيص، ورجاله رجال الصحيح (عون المعبود 2 / 142 ط الهند)
.
(2) المغني 3 / 456، والمهذب 1 / 238، والكافي 1 / 416، والهداية 1 /
142.
(3) حديث: عائشة رضي الله عنها (سبق تخريجه ف / 6) .
(4) المغني 3 / 449، ومنتهى الإرادات 2 / 67، والمهذب 1 / 238، ومنح
الجليل 1 / 494، والدسوقي 2 / 48.
(7/324)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ
لِلشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةً عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّ
الْمَبِيتَ بِمِنًى لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ سُنَّةٌ وَلَيْسَ
بِوَاجِبٍ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "
رَخَّصَ لِلْعَبَّاسِ أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ مِنْ أَجْل سِقَايَتِهِ
(1) " وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا لَمْ يَكُنْ لِلْعَبَّاسِ أَنْ
يَتْرُكَ الْوَاجِبَ لأَِجْل السِّقَايَةِ، وَلاَ كَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَخِّصُ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَفِعْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحْمُولٌ عَلَى
السُّنَّةِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ (2) .
وَمَنْ تَرَكَ الْمَبِيتَ بِمِنًى لَيْلَةً أَوْ أَكْثَرَ مِنْ
لَيَالِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ عَلَيْهِ دَمٌ
لِتَرْكِهِ الْوَاجِبَ، وَعِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمَبِيتَ
سُنَّةٌ فَقَدْ أَسَاءَ لِتَرْكِهِ السُّنَّةَ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَالْمَبِيتُ بِمِنًى لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ كُلِّهَا
إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الْمُتَعَجِّل، أَمَّا مَنْ
تَعَجَّل فَلَيْسَ عَلَيْهِ سِوَى مَبِيتِ لَيْلَتَيْنِ فَقَطْ، وَلاَ
إِثْمَ عَلَيْهِ فِي تَرْكِ مَبِيتِ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ
لِلآْيَةِ الْكَرِيمَةِ.
وَيُرَخَّصُ فِي تَرْكِ الْمَبِيتِ بِمِنًى لِلسُّقَاةِ وَالرُّعَاةِ؛
لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الْعَبَّاسَ اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ
مِنًى مِنْ أَجْل سِقَايَتِهِ فَأَذِنَ لَهُ (3) وَلِحَدِيثِ مَالِكٍ:
رَخَّصَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرِعَاءِ
الإِْبِل فِي الْبَيْتُوتَةِ أَنْ يَرْمُوا يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ
يَجْمَعُوا رَمْيَ يَوْمَيْنِ
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص. . . " أخرجه البخاري
بهذا المعنى، ولفظه للإسماعيلي من طريق إبراهيم بن موسى عن عيسى بن
يونس المذكور في إسناد البخاري (فتح الباري 3 / 578 ط السلفية) .
(2) البدائع 2 / 159، وابن عابدين 2 / 189، والمغني 3 / 449، والمهذب 1
/ 238.
(3) حديث ابن عمر أخرجه مسلم (صحيح مسلم 2 / 953 ط الحلبي) .
(7/324)
بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، فَيَرْمُونَهُ
فِي أَحَدِهِمَا (1) قَال مَالِكٌ: ظَنَنْتُ أَنَّهُ قَال: فِي يَوْمٍ
مِنْهُمَا، ثُمَّ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّفَرِ. وَالْمَرِيضُ، وَمَنْ
لَهُ مَالٌ يَخَافُ عَلَيْهِ وَنَحْوُهُ، كَغَيْرِهِ مِنَ السُّقَاةِ
وَالرُّعَاةِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ نَافِعٍ عَنِ الإِْمَامِ مَالِكٍ:
أَنَّ مَنْ تَرَكَ الْمَبِيتَ بِمِنًى لِضَرُورَةٍ، كَخَوْفِهِ عَلَى
مَتَاعِهِ عَلَيْهِ هَدْيٌ، وَإِنْ لَمْ يَأْثَمْ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (حَجٍّ، وَرَمْيٍ) .
ح - التَّكْبِيرُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ:
13 - التَّكْبِيرُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ مَشْرُوعٌ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} (3) ،
وَالْمُرَادُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ
الْفُقَهَاءِ، عَدَا أَبَا حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ لاَ تَكْبِيرَ عِنْدَهُ
فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
وَمَعَ اتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّكْبِيرِ فِي
أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَإِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي حُكْمِهِ،
فَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ
هُوَ سُنَّةٌ لِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ.
وَهُوَ مَنْدُوبٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ وَاجِبٌ؛ لِلأَْمْرِ بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى:
{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} .
كَذَلِكَ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ التَّكْبِيرِ،
فَبِالنِّسْبَةِ لِلْبَدْءِ فَإِنَّهُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ
يَكُونُ قَبْل بِدَايَةِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، مَعَ اخْتِلاَفِهِمْ
فِي كَوْنِهِ مِنْ ظُهْرِ يَوْمِ
__________
(1) حديث مالك: " رخص النبي صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه الترمذي
وقال: هذا حديث حسن صحيح (تحفة الأحوذي 4 / 29 ط السلفية) .
(2) منح الجليل 1 / 495، والكافي 1 / 376، ومنتهى الإرادات 2 / 67،
والمهذب 1 / 238، وبدائع الصنائع 2 / 159.
(3) سورة البقرة / 203.
(7/325)
النَّحْرِ كَمَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ
وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، أَوْ مِنْ فَجْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ كَمَا
يَقُول الْحَنَابِلَةُ وَعُلَمَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ.
وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْخَتْمِ فَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَأَبِي
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ
لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ يَكُونُ إِلَى عَصْرِ آخِرِ
أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَفِي
قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ يَكُونُ إِلَى صُبْحِ آخِرِ أَيَّامِ
التَّشْرِيقِ. وَقَال ابْنُ بَشِيرٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يَكُونُ
إِلَى ظُهْرِ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
وَالتَّكْبِيرُ فِي هَذِهِ الأَْيَّامِ يَكُونُ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ
الْمَفْرُوضَةِ، وَلاَ يَكُونُ بَعْدَ النَّافِلَةِ، إِلاَّ فِي قَوْلٍ
لِلشَّافِعِيَّةِ.
وَمَا فَاتَ مِنَ الصَّلَوَاتِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقُضِيَ
فِيهَا فَإِنَّهُ يُكَبِّرُ خَلْفَهَا، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
وَالْحَنَفِيَّةِ وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
أَمَّا إِنْ قَضَى فِي غَيْرِهَا فَلاَ يُكَبِّرُ خَلْفَهَا
بِاتِّفَاقٍ.
وَمَا فَاتَ مِنَ الصَّلَوَاتِ فِي غَيْرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ
فَقُضِيَ فِيهَا، فَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُكَبِّرُ خَلْفَهَا.
وَلاَ تَكْبِيرَ خَلْفَ مَقْضِيَّةٍ مُطْلَقًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَصِفَةُ التَّكْبِيرِ هُوَ أَنْ يَقُول: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ
أَكْبَرُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ
أَكْبَرُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ يُكَبِّرُ ثَلاَثًا فِي
الأَْوَّل (1) .
وَفِي مَوْضُوعِ التَّكْبِيرِ تَفْصِيلاَتٌ أُخْرَى تُنْظَرُ فِي:
(تَكْبِيرٍ - عِيدٍ) .
__________
(1) منتهى الإرادات 1 / 310، والمغني 2 / 393 - 397، والمهذب 1 / 128،
ومنح الجليل 1 / 280 - 281، والدسوقي 1 / 401، والبدائع 1 / 197، وابن
عابدين 1 / 588 ط ثالثة، والهداية 1 / 87.
(7/325)
أَيَّامُ مِنًى
التَّعْرِيفُ:
1 - أَيَّامُ مِنًى أَرْبَعَةٌ هِيَ: يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلاَثَةُ
أَيَّامٍ بَعْدَهُ، وَهِيَ الْحَادِيَ عَشَرَ، وَالثَّانِيَ عَشَرَ،
وَالثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَيْهَا
هَذَا الاِسْمُ لِعَوْدَةِ الْحُجَّاجِ إِلَى مِنًى بَعْدَ طَوَافِ
الإِْفَاضَةِ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ،
وَالْمَبِيتِ بِهَا لَيَالِيَ هَذَا الأَْيَّامِ الثَّلاَثَةِ.
وَكَمَا أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى هَذِهِ الأَْيَّامِ أَيَّامُ مِنًى،
فَإِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهَا كَذَلِكَ أَيَّامُ الرَّمْيِ، وَأَيَّامُ
التَّشْرِيقِ، وَأَيَّامُ رَمْيِ الْجِمَارِ، وَالأَْيَّامُ
الْمَعْدُودَاتُ. كُل هَذِهِ الأَْسْمَاءُ وَاقِعَةٌ عَلَيْهَا،
وَيُعَبِّرُ بِهَا الْفُقَهَاءُ، إِلاَّ أَنَّهُ
(7/326)
اشْتُهِرَ التَّعْبِيرُ عِنْدَهُمْ
بِأَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - لأَِيَّامِ مِنًى أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِهَا، كَالْمَبِيتِ
بِمِنًى فِي هَذِهِ الأَْيَّامِ، وَرَمْيِ الْجِمَارِ فِيهَا.
وَقَدْ ذُكِرَ تَفْصِيل هَذِهِ الأَْحْكَامِ فِي مُصْطَلَحِ أَيَّامِ
التَّشْرِيقِ، نَظَرًا لِشُهْرَةِ هَذِهِ الأَْيَّامِ بِهَا. (ر:
أَيَّامٌ، التَّشْرِيقُ) .
أَيِّمٌ
انْظُرْ: نِكَاحٌ
__________
(1) الكافي 1 / 376 ط الرياض، ومنتهى الإرادات 2 / 66 - 67 ط دار
الفكر، وبدائع الصنائع 2 / 159 ط أولى، ومغني المحتاج 1 / 506 ط
الحلبي.
(7/326)