الموسوعة الفقهية الكويتية

تَأَبُّدٌ
انْظُرْ: آبِدٌ.

تَأْبِيدٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّأْبِيدُ: مَصْدَرُ أَبَّدَ بِتَشْدِيدِ الْبَاءِ، وَمَعْنَاهُ لُغَةً: التَّخْلِيدُ. (1) وَأَصْلُهُ مِنْ أَبَدَ الْحَيَوَانُ يَأْبُدُ، وَيَأْبِدُ أُبُودًا، أَيِ: انْفَرَدَ وَتَوَحَّشَ. (2)
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: تَقْيِيدُ التَّصَرُّفِ بِالأَْبَدِ، وَهُوَ: الزَّمَانُ الدَّائِمُ بِالشَّرْعِ أَوِ الْعَقْدِ.
وَيُقَابِلُهُ التَّوْقِيتُ وَالتَّأْجِيل، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَكُونُ إِلَى زَمَنٍ يَنْتَهِي (3) .
__________
(1) الصحاح مادة: " أبد ".
(2) المصباح المنير، وانظر معنى مادة: " أبد " في القاموس المحيط وأساس البلاغة.
(3) حاشية قليوبي مع شرح المحلي على المنهاج 2 / 315 ط الحلبي. وانظر ما جاء في الكليات للكفوي في معنى الأبد 1 / 26 ط دمشق.

(10/5)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
تَخْلِيدٌ:
2 - التَّخْلِيدُ لُغَةً: إِدَامَةُ الْبَقَاءِ. قَال فِي الصِّحَاحِ: الْخُلْدُ دَوَامُ الْبَقَاءِ، تَقُول: خَلَدَ الرَّجُل يَخْلُدُ خُلُودًا، وَأَخْلَدَهُ اللَّهُ وَخَلَّدَهُ تَخْلِيدًا. (1)
وَالْفُقَهَاءُ اسْتَعْمَلُوا التَّخْلِيدَ فِي الْمَعْنَى الْوَارِدِ فِي اللُّغَةِ، كَمَا فِي تَخْلِيدِ حَبْسِ الْمُتَمَرِّدِ. (2) وَكَمَا فِي دَوَامِ حَبْسِ الْكَفِيل إِلَى حُضُورِ الْمَكْفُول. (3)
وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّأْبِيدِ وَالتَّخْلِيدِ، أَنَّ التَّأْبِيدَ لِمَا لاَ يَنْتَهِي، وَالتَّخْلِيدُ قَدْ يَكُونُ لِمَا لاَ يَنْتَهِي، وَقَدْ يَكُونُ لِمَا يَنْتَهِي، كَمَا فِي تَخْلِيدِ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ فِي النَّارِ لاَ يَقْتَضِي دَوَامَهُمْ فِيهَا، بَل يَخْرُجُونَ مِنْهَا. فَإِذَا قُيِّدَ التَّخْلِيدُ بِالأَْبَدِ كَانَ لِمَا لاَ يَنْتَهِي، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْكُفَّارِ {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} (4) .

التَّصَرُّفَاتُ مِنْ حَيْثُ التَّأْبِيدُ أَوْ عَدَمُهُ:
3 - التَّصَرُّفَاتُ مِنْ حَيْثُ التَّأْبِيدُ أَوْ عَدَمُهُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَنْوَاعٍ:
الأَْوَّل: مَا هُوَ مُؤَبَّدٌ لاَ يَقْبَل التَّأْقِيتَ:
__________
(1) الصحاح، والمصباح المنير مادة: " خلد ".
(2) جواهر الإكليل 2 / 276 نشر دار المعرفة، والخرشي 4 / 455.
(3) حاشية قليوبي 2 / 328 نشر الحلبي.
(4) سورة النساء / 169.

(10/5)


كَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ، وَكَالْوَقْفِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
الثَّانِي: مَا هُوَ مُؤَقَّتٌ لاَ يَقْبَل التَّأْبِيدَ كَالإِْجَارَةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ.
وَالثَّالِثُ: مَا هُوَ قَابِلٌ لِلتَّوْقِيتِ وَالتَّأْبِيدِ كَالْكَفَالَةِ. (1)
وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيل مُصْطَلَحَ (تَأْقِيتٍ) وَانْظُرْ أَيْضًا (بَيْعٌ. هِبَةٌ. إِجَارَةٌ. إِلَخْ) .

تَأْبِينٌ

اُنْظُرْ: رِثَاءٌ.

تَأْجِيلٌ

اُنْظُرْ: أَجَلٌ.

تَأَخُّرٌ

اُنْظُرْ: تَأْخِيرٌ.
__________
(1) الفتاوى الهندية 4 / 363، والزيلعي 3 / 326، والخرشي 6 / 126، والقرطبي 12 / 194، والروضة 4 / 436، 437، ومغني المحتاج 2 / 207، وكشاف القناع 4 / 62، والمغني مع الشرح الكبير 6 / 221.

(10/6)


تَأْخِيرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّأْخِيرُ لُغَةً: ضِدُّ التَّقْدِيمِ، وَمُؤَخَّرُ كُل شَيْءٍ: خِلاَفُ مُقَدَّمِهِ. (1)
وَاصْطِلاَحًا: هُوَ فِعْل الشَّيْءِ فِي آخِرِ وَقْتِهِ الْمُحَدَّدِ لَهُ شَرْعًا، كَتَأْخِيرِ السُّحُورِ وَالصَّلاَةِ، أَوْ خَارِجَ الْوَقْتِ (سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَقْتُ مُحَدَّدًا شَرْعًا أَوْ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ) كَتَأْخِيرِ الزَّكَاةِ وَالدَّيْنِ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّرَاخِي:
2 - التَّرَاخِي فِي اللُّغَةِ: الاِمْتِدَادُ فِي الزَّمَانِ. يُقَال: تَرَاخَى الأَْمْرُ تَرَاخِيًا: امْتَدَّ زَمَانُهُ، وَفِي الأَْمْرِ تَرَاخٍ أَيْ فُسْحَةٌ (2) . وَمَعْنَى التَّرَاخِي عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: هُوَ مَشْرُوعِيَّةُ فِعْل الْعِبَادَةِ فِي وَقْتِهَا الْمُمْتَدِّ، وَهُوَ ضِدُّ الْفَوْرِ كَالصَّلاَةِ وَالْحَجِّ، وَعَلَى هَذَا فَيَتَّفِقُ التَّأْخِيرُ مَعَ التَّرَاخِي فِي فِعْل الْعِبَادَةِ فِي آخِرِ وَقْتِهَا، وَيَخْتَلِفَانِ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير. مادة " أبد ".
(2) المصباح المنير.

(10/6)


فِي حَال إِيقَاعِ الْعِبَادَةِ خَارِجَ الْوَقْتِ، فَيُسَمَّى ذَلِكَ تَأْخِيرًا لاَ تَرَاخِيًا (1) .

ب - الْفَوْرُ:
3 - الْفَوْرُ فِي اللُّغَةِ: كَوْنُ الشَّيْءِ عَلَى الْوَقْتِ الْحَاضِرِ الَّذِي لاَ تَأْخِيرَ فِيهِ. (2)
يُقَال: فَارَتِ الْقِدْرُ فَوْرًا وَفَوَرَانًا: غَلَتْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمُ: الشُّفْعَةُ عَلَى الْفَوْرِ. وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ مَشْرُوعِيَّةُ الأَْدَاءِ فِي أَوَّل أَوْقَاتِ الإِْمْكَانِ بِحَيْثُ يَلْحَقُهُ الذَّمُّ بِالتَّأْخِيرِ عَنْهُ. (3)
وَيَتَبَيَّنُ مِنْ هَذَا أَنَّ بَيْنَ الْفَوْرِ وَالتَّأْخِيرِ تَبَايُنًا.

ج - التَّأْجِيل:
4 - التَّأْجِيل فِي اللُّغَةِ: أَنْ تَضْرِبَ لِلشَّيْءِ أَجَلاً. يُقَال: أَجَّلْتُهُ تَأْجِيلاً أَيْ جَعَلْتَ لَهُ أَجَلاً. (4)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ. (5)
وَعَلَى هَذَا فَالتَّأْخِيرُ أَعَمُّ مِنَ التَّأْجِيل، إِذْ يَكُونُ التَّأْخِيرُ بِأَجَلٍ وَبِغَيْرِ أَجَلٍ.
__________
(1) مسلم الثبوت 1 / 386، والتعريفات للجرجاني.
(2) المصباح ولسان العرب مادة: " فور ".
(3) ابن عابدين 2 / 140، والتعريفات ص 148 ط الحلبي.
(4) المصباح المنير مادة: " أجل ".
(5) الفواكه الدواني 2 / 144، ومغني المحتاج 2 / 105، وابن عابدين 4 / 203.

(10/7)


هـ - التَّعْجِيل:
5 - التَّعْجِيل: الإِْسْرَاعُ بِالشَّيْءِ. يُقَال: عَجَّلْتُ إِلَيْهِ الْمَال: أَسْرَعْتَ إِلَيْهِ بِحُضُورِهِ فَتَعَجَّلَهُ أَيْ أَخَذَهُ بِسُرْعَةٍ.
وَهُوَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: الإِْتْيَانُ بِالْفِعْل قَبْل الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ لَهُ كَتَعْجِيل الزَّكَاةِ، أَوْ فِي أَوَّل الْوَقْتِ كَتَعْجِيل الْفِطْرِ (1) ، قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لاَ تَزَال أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ، وَأَخَّرُوا السُّحُورَ (2) . فَتَبَيَّنَ مِنْ هَذَا أَنَّ بَيْنَ التَّأْخِيرِ وَالتَّعْجِيل تَبَايُنًا.

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ (لِلتَّأْخِيرِ) :
6 - الأَْصْل فِي الشَّرْعِ عَدَمُ تَأْخِيرِ الْفِعْل إِلَى آخِرِ وَقْتِهِ أَوْ خَارِجَ الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ لَهُ شَرْعًا، كَتَأْخِيرِ الْعِبَادَةِ الْوَاجِبَةِ مِثْل الصَّلاَةِ، أَوْ عَنِ الْوَقْتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ كَأَدَاءِ مَا فِي الذِّمَّةِ، إِلاَّ
__________
(1) المصباح المنير مادة: " عجل " وابن عابدين 2 / 397، ومغني المحتاج 1 / 434.
(2) حديث: " لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 198 - ط السلفية) ومسلم (2 / 771 - ط الحلبي) من حديث سهل بن سعد بلفظ " لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر " واللفظ المذكور في البحث أخرجه أحمد (5 / 172 - ط الميمنية) من حديث أبي ذر، وأورده الهيثمي في المجمع (3 / 154 - ط القدسي) وقال: " فيه سليمان بن عثمان وهو مجهول. . . ".

(10/7)


إِذَا وُجِدَ نَصٌّ يُجِيزُ التَّأْخِيرَ، أَوْ قَاعِدَةٌ عَامَّةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ أَوْ عُذْرٌ شَرْعِيٌّ خَارِجٌ عَنْ مَقْدُورِ الْعَبْدِ.
وَقَدْ يَعْرِضُ مَا يُخْرِجُ التَّأْخِيرَ عَنْ هَذَا الأَْصْل إِلَى الْوُجُوبِ أَوِ النَّدْبِ أَوِ الْكَرَاهَةِ أَوِ الإِْبَاحَةِ.
فَيَجِبُ التَّأْخِيرُ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الْحَامِل حَتَّى تَلِدَ، وَيَسْتَغْنِيَ عَنْهَا وَلِيدُهَا. (1)
أَمَّا الْمَرِيضُ، فَإِنْ كَانَ يُرْجَى بُرْؤُهُ يُؤَخَّرُ عَنْهُ الْحَدُّ حَتَّى يَبْرَأَ، وَإِنْ كَانَ لاَ يُرْجَى بُرْؤُهُ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَلاَ يُؤَخَّرُ. (2) وَذَلِكَ فِي غَيْرِ الْقِصَاصِ بِالنَّفْسِ.
وَيُنْدَبُ: كَتَأْخِيرِ السُّحُورِ إِلَى آخِرِ اللَّيْل، وَتَأْخِيرِ الْوِتْرِ إِلَى وَقْتِ السَّحَرِ لِمَنْ وَثِقَ بِصَلاَتِهِ فِيهِ، وَكَتَأْخِيرِ أَدَاءِ الدَّيْنِ عَنْ وَقْتِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُعْسِرِ لِوُجُودِ عُذْرِ الإِْعْسَارِ (3) . قَال تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (4) وَيُكْرَهُ: كَتَأْخِيرِ الإِْفْطَارِ لِلصَّائِمِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، إِذِ السُّنَّةُ فِي الإِْفْطَارِ التَّعْجِيل.
وَيُبَاحُ: كَتَأْخِيرِ الصَّلاَةِ عَنْ أَوَّل الْوَقْتِ مَا لَمْ يَدْخُل فِي وَقْتِ الْكَرَاهَةِ.
__________
(1) المغني 7 / 731 ط القاهرة.
(2) المغني 8 / 173 نشر مكتبة الرياض.
(3) أحكام القرآن للجصاص 1 / 568
(4) سورة البقرة / 180

(10/8)


تَأْخِيرُ الصَّلاَةِ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَأْخِيرِ صَلاَةِ الْمَغْرِبِ لِتُصَلَّى جَمْعًا مَعَ الْعِشَاءِ، وَذَلِكَ لِلْحَاجِّ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ. وَأَمَّا فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ جَمْعِ صَلاَتَيِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي وَقْتِ إِحْدَاهُمَا، وَكَذَا فِي جَمْعِ صَلاَةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي وَقْتِ إِحْدَاهُمَا: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِهِ فِي أَعْذَارٍ مُعَيَّنَةٍ، وَمَنَعَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَيُنْظَرُ الْخِلاَفُ وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (جَمْعُ الصَّلاَةِ) .

تَأْخِيرُ الصَّلاَةِ لِفَاقِدِ الْمَاءِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى سُنِّيَّةِ تَأْخِيرِ الصَّلاَةِ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ الْمُخْتَارِ إِذَا تُيُقِّنَ وُجُودُ الْمَاءِ فِي آخِرِهِ، وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ بِأَلاَّ يَدْخُل وَقْتُ الْكَرَاهَةِ.
أَمَّا إِذَا ظَنَّ وُجُودَ الْمَاءِ، أَوْ رَجَاهُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلاَةِ أَفْضَل بِشَرْطِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُتَرَدِّدَ يَتَيَمَّمُ فِي وَسَطِ الْوَقْتِ نَدْبًا، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّعْجِيل فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَفْضَل. (1)

تَأْخِيرُ الصَّلاَةِ بِلاَ عُذْرٍ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ تَأْخِيرِ الصَّلاَةِ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا بِلاَ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ (2) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 166، والدسوقي 1 / 157، ومغني المحتاج 1 / 89، وكشاف القناع 1 / 178.
(2) الدسوقي 1 / 189 - 263، والمجموع 3 / 13.

(10/8)


أَمَّا مَنْ تَرَكَ الصَّلاَةَ كَسَلاً وَهُوَ مُوقِنٌ بِوُجُوبِهَا، وَكَانَ تَرْكُهُ لَهَا بِلاَ عُذْرٍ وَلاَ تَأَوُّلٍ وَلاَ جَهْلٍ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُحْبَسُ حَتَّى يُصَلِّيَ. قَال الْحَصْكَفِيُّ: لأَِنَّهُ يُحْبَسُ لِحَقِّ الْعَبْدِ، فَحَقُّ (الْحَقِّ) أَحَقُّ.
وَقِيل: يُضْرَبُ حَتَّى يَسِيل مِنْهُ الدَّمُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ: إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَخَّرَ الصَّلاَةَ عَنْ وَقْتِهَا دُعِيَ إِلَى فِعْلِهَا، فَإِنْ تَضَيَّقَ وَقْتُ الَّتِي تَلِيهَا وَأَبَى الصَّلاَةَ يُقْتَل حَدًّا. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُقْتَل لِكُفْرِهِ.
قَال فِي الإِْنْصَافِ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الأَْصْحَابِ.
أَمَّا تَأْخِيرُ الصَّلاَةِ إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا فَهُوَ خِلاَفُ الأَْوْلَى لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوَّل الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ، وَوَسَطُهُ رَحْمَةُ اللَّهِ، وَآخِرُهُ عَفْوُ اللَّهِ (1) وَيُكْرَهُ التَّأْخِيرُ إِلَى أَحَدِ أَوْقَاتِ الْكَرَاهَةِ. (2) وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (أَوْقَاتُ الصَّلاَةِ) .
__________
(1) حديث: " أول الوقت رضوان الله ووسطه رحمة الله وآخره عفو الله " أخرجه الدارقطني (1 / 249 - ط شركة الطباعة الفنية) وفي إسناده يعقوب بن الوليد المدني، كذبه أحمد بن حنبل وابن معين. (التلخيص لابن حجر 1 / 180 - ط دار المحاسن) .
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 235.

(10/9)


تَأْخِيرُ دَفْعِ الزَّكَاةِ:
10 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَمِنْهُمُ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَهُمْ، إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَأْخِيرُ دَفْعِ الزَّكَاةِ عَنْ وَقْتِ اسْتِحْقَاقِهَا وَأَنَّهَا يَجِبُ إِخْرَاجُهَا عَلَى الْفَوْرِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (1) وَهَذَا فِي زَكَاةِ الزُّرُوعِ وَيُلْحَقُ بِهَا غَيْرُهَا.
وَالَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ، وَصَحَّحَهُ الْبَاقِلاَّنِيُّ وَالْجَصَّاصُ: أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى التَّرَاخِي، فَفِي أَيِّ وَقْتٍ أَدَّى يَكُونُ مُؤَدِّيًا لِلْوَاجِبِ، وَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ إِلَى آخِرِ عُمْرِهِ يَتَضَيَّقُ عَلَيْهِ الْوُجُوبُ، حَتَّى لَوْ لَمْ يُؤَدِّ إِلَى أَنْ مَاتَ يَأْثَمُ. (2)
وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَخَّرَ الزَّكَاةَ بَعْدَ الْحَوْل مَعَ التَّمَكُّنِ مِنَ الإِْخْرَاجِ فَتَلِفَ بَعْضُ الْمَال أَوْ كُلُّهُ فَإِنَّهُ ضَامِنٌ لَهَا، وَلاَ تَسْقُطُ عَنْهُ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا أَخَّرَهَا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، إِلاَّ أَنْ يُقَصِّرَ فِي حِفْظِهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى سُقُوطِ الزَّكَاةِ بِهَلاَكِ الْمَال بَعْدَ الْحَوْل، سَوَاءٌ تَمَكَّنَ مِنَ الأَْدَاءِ أَمْ لَمْ يَتَمَكَّنْ. (3)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاةٌ) .
__________
(1) سورة الأنعام / 141.
(2) ابن عابدين 2 / 12 - 13، والدسوقي 1 / 500، ومغني المحتاج 1 / 413، وكشاف القناع 2 / 55.
(3) ابن عابدين 2 / 73، والدسوقي 1 / 503، ومغني المحتاج 1 / 418، وكشاف القناع 2 / 55.

(10/9)


تَأْخِيرُ قَضَاءِ الصَّوْمِ:
11 - الأَْصْل الْمُبَادَرَةُ إِلَى قَضَاءِ مَا فَاتَ مِنْ صِيَامِ رَمَضَانَ، وَيَجُوزُ تَأْخِيرُ الْقَضَاءِ مَا لَمْ يَتَضَيَّقِ الْوَقْتُ، بِأَلاَّ يَبْقَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَمَضَانَ الْقَادِمِ إِلاَّ مَا يَسَعُ أَدَاءَ مَا عَلَيْهِ. فَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ الْوَقْتُ لِلْقَضَاءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
فَإِنْ لَمْ يَقْضِ فِيهِ فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى تَأْثِيمِهِ بِالتَّأْخِيرِ إِذَا فَاتَ وَقْتُ الْقَضَاءِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، لِقَوْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلاَّ فِي شَعْبَانَ لِمَكَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) قَالُوا: وَلَوْ أَمْكَنَهَا لأََخَّرَتْهُ، وَلأَِنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ مُتَكَرِّرَةٌ، فَلَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُ الأُْولَى عَنِ الثَّانِيَةِ كَالصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ. (2)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْقَضَاءِ مُطْلَقًا وَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ هَل عَلَيْهِ رَمَضَانُ آخَرُ. لَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ عِنْدَهُمُ الْمُتَابَعَةُ مُسَارَعَةً إِلَى إِسْقَاطِ الْوَاجِبِ. (3)
12 - هَذَا، وَإِذَا أَخَّرَ الْقَضَاءَ حَتَّى دَخَل رَمَضَانُ
__________
(1) قول عائشة: " كان يكون علي الصوم من رمضان. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 189 - ط السلفية) .
(2) فتح القدير 2 / 274، والحطاب 2 / 450، ومغني المحتاج 1 / 441، وكشاف القناع 2 / 333، والمغني 3 / 144.
(3) فتح القدير 2 / 274.

(10/10)


آخَرُ فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ مُفَرِّطًا فَإِنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ مَعَ الْفِدْيَةِ، وَهِيَ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ عَنْ كُل يَوْمٍ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال فِي رَجُلٍ مَرِضَ فِي رَمَضَانَ فَأَفْطَرَ، ثُمَّ صَحَّ فَلَمْ يَصُمْ حَتَّى أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ آخَرُ: يَصُومُ الَّذِي أَدْرَكَهُ، ثُمَّ يَصُومُ الَّذِي أَفْطَرَ فِيهِ وَيُطْعِمُ عَنْ كُل يَوْمٍ مِسْكِينًا (1) وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُمْ قَالُوا: أَطْعِمْ عَنْ كُل يَوْمٍ مِسْكِينًا، وَلَمْ يَرِدْ خِلاَفٌ فِي ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ.
ثُمَّ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْفِدْيَةَ تَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ السِّنِينَ؛ لأَِنَّ الْحُقُوقَ الْمَالِيَّةَ لاَ تَتَدَاخَل، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ: لاَ تَتَكَرَّرُ كَالْحُدُودِ. وَمَحَل الْخِلاَفِ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَخْرَجَ الْفِدْيَةَ، فَإِنْ أَخْرَجَهَا ثُمَّ لَمْ يَقْضِ حَتَّى دَخَل رَمَضَانُ آخَرُ وَجَبَتْ ثَانِيًا. (2)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ حَتَّى هَل عَلَيْهِ رَمَضَانُ آخَرُ، فَإِنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ وَلاَ فِدْيَةَ، وَاسْتَدَلُّوا بِإِطْلاَقِ قَوْله تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (3) مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ. وَقَالُوا: إِنَّ
__________
(1) حديث: " يصوم الذي أدركه. . . " أخرجه الدارقطني (2 / 197 - ط شركة الطباعة الفنية) وأعله براويين ضعيفين في إسناده.
(2) الحطاب 2 / 450، والدسوقي 1 / 537، ومغني المحتاج 1 / 441، وكشاف القناع 2 / 334، والمغني 3 / 145.
(3) سورة البقرة / 184.

(10/10)


إِطْلاَقَ الآْيَةِ يَدُل عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى التَّرَاخِي، فَلاَ يَلْزَمُهُ بِالتَّأْخِيرِ شَيْءٌ، غَيْرَ أَنَّهُ تَارِكٌ لِلأَْوْلَى مِنَ الْمُسَارَعَةِ. (1)

تَأْخِيرُ الْحَجِّ:
13 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْحَجَّ يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ، أَيِ الإِْتْيَانُ بِهِ فِي أَوَّل أَوْقَاتِ الاِسْتِطَاعَةِ. (2) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (3) وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (4) وَالأَْمْرُ لِلْفَوْرِ، وَلِخَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَرْفُوعًا قَال: تَعَجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لاَ يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ (5) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْحَجَّ يَجِبُ عَلَى التَّرَاخِي، لَكِنَّ جَوَازَ التَّأْخِيرِ عِنْدَهُمْ مَشْرُوطٌ بِأَمْرَيْنِ: الْعَزْمُ عَلَى الْفِعْل فِي
__________
(1) فتح القدير 2 / 275.
(2) ابن عابدين 2 / 140، والدسوقي 2 / 2، والحطاب 2 / 471، وكشاف القناع 2 / 377، والمغني 3 / 242.
(3) سورة آل عمران / 97.
(4) سورة البقرة / 196.
(5) حديث: " تعجلوا إلى الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له " أخرجه أحمد (1 / 314 - ط الميمنية) والحاكم (1 / 448 - ط دائرة المعارف العثمانية) بلفظ مقارب من حديث ابن عباس، وصححه ووافقه الذهبي.

(10/11)


الْمُسْتَقْبَل، وَأَنْ يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ السَّلاَمَةُ إِلَى وَقْتِ فِعْلِهِ. (1)
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ نَزَلَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ سَنَةَ سِتٍّ، وَفَتَحَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَانْصَرَفَ عَنْهَا فِي شَوَّالٍ مِنْ سَنَتِهِ.
وَحَجَّ النَّاسُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقِيمٌ بِالْمَدِينَةِ هُوَ وَأَزْوَاجُهُ وَعَامَّةُ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ فِي سَنَةِ تِسْعٍ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ لِلْحَجِّ، وَالنَّبِيُّ مَعَ عَامَّةِ أَصْحَابِهِ فِي الْمَدِينَةِ، وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى الْحَجِّ غَيْرُ مُشْتَغِلِينَ بِقِتَالٍ وَلاَ غَيْرِهِ.
ثُمَّ فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ حَجَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَدَل عَلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ. (2)

تَأْخِيرُ رَمْيِ الْجِمَارِ:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَخَّرَ الرَّمْيَ حَتَّى غُرُوبِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، عَلَيْهِ دَمٌ. (3)
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ أَخَّرَهُ حَتَّى غُرُوبِ الشَّمْسِ فِي غَيْرِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْهَا.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ الرَّمْيَ فِيمَا قَبْل الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَرْمِي فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي تَلِي ذَلِكَ الْيَوْمَ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 140، والحطاب 2 / 471، 472، ومغني المحتاج1 / 461.
(2) المجموع 7 / 103 - 104.
(3) ابن عابدين 2 / 185، والدسوقي 2 / 45، ومغني المحتاج 1 / 508، وكشاف القناع 2 / 508 وما بعدها.

(10/11)


الَّذِي أَخَّرَ رَمْيَهُ وَيَقَعُ أَدَاءً؛ لأَِنَّهَا تَابِعَةٌ لَهُ وَكُرِهَ لِتَرْكِهِ السُّنَّةَ، وَإِنْ أَخَّرَهُ إِلَى الْيَوْمِ التَّالِي كَانَ قَضَاءً، وَلَزِمَهُ الْجَزَاءُ.
وَكَذَا لَوْ أَخَّرَ الْكُل إِلَى الثَّالِثِ مَا لَمْ تَغْرُبْ شَمْسُهُ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ الرَّمْيَ إِلَى اللَّيْل وَقَعَ قَضَاءً وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ. (2)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ رَمْيَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ تَدَارَكَهُ فِي بَاقِي الأَْيَّامِ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، فَإِنْ رَمَى لَيْلاً لَمْ يُجْزِئْهُ الرَّمْيُ وَيُعِيدُ. (3)

تَأْخِيرُ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ عَنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ:
15 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ آخِرَ لِلْوَقْتِ الَّذِي يَصِحُّ فِيهِ طَوَافُ الإِْفَاضَةِ، خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ الَّذِينَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ آخِرَ وَقْتِ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ آخِرُ ذِي الْحِجَّةِ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ أَخَّرَ طَوَافَ الإِْفَاضَةِ عَنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ تَحْرِيمًا تَأْخِيرُهُ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ وَلَيَالِيِهَا (وَهِيَ يَوْمُ الْعِيدِ وَيَوْمَانِ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 185.
(2) الدسوقي 2 / 45.
(3) مغني المحتاج 1 / 508، وكشاف القناع 2 / 508 وما بعدها

(10/12)


بَعْدَهُ) وَيَلْزَمُهُ دَمٌ لِتَرْكِ الْوَاجِبِ، وَهُوَ إيقَاعُ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ فِي وَقْتِهِ. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ أَخَّرَ طَوَافَ الإِْفَاضَةِ حَتَّى خَرَجَتْ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ - وَهِيَ الأَْيَّامُ الثَّلاَثَةُ التَّالِيَةُ لِيَوْمِ الْعِيدِ - فَإِنَّ عَلَيْهِ دَمًا. (2)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ تَأْخِيرُهُ عَنْ يَوْمِ النَّحْرِ، وَتَأْخِيرُهُ عَنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَشَدُّ كَرَاهَةً، وَعَنْ خُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ أَشَدُّ. (3)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ أَخَّرَ طَوَافَ الإِْفَاضَةِ عَنْ أَيَّامِ مِنًى (أَيَّامِ التَّشْرِيقِ) جَازَ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ لأَِنَّ وَقْتَهُ غَيْرُ مَحْدُودٍ. وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ أَوَّل وَقْتِهِ بَعْدَ نِصْفِ لَيْلَةِ النَّحْرِ، وَالأَْفْضَل فِعْلُهُ يَوْمَ النَّحْرِ، (4) لِقَوْل ابْنِ عُمَرَ: أَفَاضَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ النَّحْرِ (5) .

تَأْخِيرُ الْحَلْقِ أَوِ التَّقْصِيرِ:
16 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْحَلْقِ أَوِ التَّقْصِيرِ إِلَى آخِرِ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 183 - 208.
(2) جواهر الإكليل 1 / 182، والتاج والإكليل بهامش الحطاب 3 / 130.
(3) مغني المحتاج 1 / 504.
(4) كشاف القناع 2 / 506.
(5) حديث: " أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر. . .) أخرجه مسلم (2 / 892 - ط الحلبي) .

(10/12)


أَيَّامِ النَّحْرِ؛ لأَِنَّهُ إِذَا جَازَ تَأْخِيرُ النَّحْرِ - وَهُوَ فِي التَّرْتِيبِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْحَلْقِ - فَتَأْخِيرُ الْحَلْقِ أَوْلَى، فَإِنْ أَخَّرَ الْحَلْقَ حَتَّى خَرَجَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ لَزِمَهُ دَمٌ بِالتَّأْخِيرِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَخَّرَ الْحَلْقَ حَتَّى خَرَجَتْ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ التَّأْقِيتِ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ أَوَّل وَقْتِهِ بِقَوْلِهِ: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (1) . وَلَمْ يُبَيِّنْ آخِرَهُ، فَمَتَى أَتَى بِهِ أَجْزَأَهُ، كَطَوَافِ الزِّيَارَةِ وَالسَّعْيِ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى كَرَاهِيَةِ تَأْخِيرِهِ. (2)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ كُلِّهِ فِي (الْحَجِّ) .

تَأْخِيرُ دَفْنِ الْمَيِّتِ:
17 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى كَرَاهَةِ تَأْخِيرِ دَفْنِ الْمَيِّتِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَنْ مَاتَ فَجْأَةً أَوْ بِهَدْمٍ أَوْ غَرَقٍ، فَيَجِبُ التَّأْخِيرُ حَتَّى يَتَحَقَّقَ الْمَوْتُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَحْرُمُ تَأْخِيرُ الدَّفْنِ، وَقِيل: يُكْرَهُ، وَاسْتَثْنَوْا تَأْخِيرَ الدَّفْنِ إِذَا كَانَ الْمَيِّتُ بِقُرْبِ مَكَّةَ أَوِ الْمَدِينَةِ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، نَصَّ عَلَيْهِ
__________
(1) سورة البقرة / 196.
(2) ابن عابدين 2 / 208، والشرح الكبير 2 / 47، والمدونة 1 / 429 ط السعادة، ومغني المحتاج 1 / 504، والمغني 3 / 436، 437.

(10/13)


الشَّافِعِيُّ، فَيَجُوزُ التَّأْخِيرُ هُنَا لِدَفْنِهِ فِي تِلْكَ الأَْمْكِنَةِ.
قَال الإِْسْنَوِيُّ: وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْقُرْبِ مَسَافَةٌ لاَ يَتَغَيَّرُ فِيهَا الْمَيِّتُ قَبْل وُصُولِهِ. (1)
تَأْخِيرُ الْكَفَّارَاتِ:
مِنْ تَأْخِيرِ الْكَفَّارَاتِ مَا يَلِي:

أ - تَأْخِيرُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ:
18 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَأْخِيرُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَأَنَّهَا تَجِبُ بِالْحِنْثِ عَلَى الْفَوْرِ؛ لأَِنَّهُ الأَْصْل فِي الأَْمْرِ الْمُطْلَقِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ تَجِبُ عَلَى التَّرَاخِي (2) . (وَانْظُرْ: أَيْمَانٌ ف 138) .

ب - تَأْخِيرُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ:
19 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ وَاجِبَةٌ عَلَى التَّرَاخِي، فَلاَ يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ أَوَّل أَوْقَاتِ الإِْمْكَانِ.
وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهَا تَتَضَيَّقُ عِنْدَ آخِرِ عُمْرِهِ، فَيَأْثَمُ بِمَوْتِهِ قَبْل أَدَائِهَا، وَلاَ تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ بِلاَ وَصِيَّةٍ مِنَ الثُّلُثِ، وَلَوْ تَبَرَّعَ الْوَرَثَةُ بِهَا جَازَ،
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 1 / 597، وجواهر الإكليل 1 / 109، والشرح الكبير1 / 415، وكشاف القناع 2 / 120، ومغني المحتاج 1 / 346، 366.
(2) ابن عابدين 3 / 62، والدسوقي 2 / 133، ومغني المحتاج 4 / 329، وكشاف القناع 6 / 243.

(10/13)


وَقِيل: يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ، وَيُجْبَرُ عَنِ التَّكْفِيرِ لِلظِّهَارِ. (1) وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (ظِهَارٌ) .
وَيُنْظَرُ أَحْكَامُ تَأْخِيرِ كَفَّارَةِ الْقَتْل فِي مُصْطَلَحِ (جِنَايَةٌ) ، وَأَحْكَامُ تَأْخِيرِ كَفَّارَةِ الْوِقَاعِ فِي رَمَضَانَ فِي مُصْطَلَحِ (صَوْمٌ) .

تَأْخِيرُ زَكَاةِ الْفِطْرِ:
20 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ لِلْمَالِكِيَّةِ إِلَى: أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ تَجِبُ عِنْدَ غُرُوبِ شَمْسِ آخِرِ أَيَّامِ رَمَضَانَ. وَالْقَوْل الآْخَرُ لِلْمَالِكِيَّةِ: تَجِبُ بِطُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ الْعِيدِ.
وَيَجُوزُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِخْرَاجُهَا إِلَى غُرُوبِ شَمْسِ يَوْمِ الْعِيدِ، وَيُسَنُّ عِنْدَهُمْ أَلاَّ تَتَأَخَّرَ عَنْ صَلاَةِ الْعِيدِ.
وَيَحْرُمُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا تَأْخِيرُهَا عَنْ يَوْمِ الْعِيدِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَلاَ تَسْقُطُ بِهَذَا التَّأْخِيرِ بَل يَجِبُ قَضَاؤُهَا، وَقَدْ رَجَّحَ ابْنُ الْهُمَامِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَتَبِعَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ هَذَا الْقَوْل؛ (2) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْفُقَرَاءِ: أَغْنُوهُمْ عَنْ طَوَافِ هَذَا الْيَوْمِ. (3)
__________
(1) ابن عابدين 2 / 578، والشرح الكبير 2 / 446، والجمل على شرح المنهج 4 / 413.
(2) ابن عابدين 2 / 72، وحاشية العدوي على شرح أبي الحسن 1 / 452، ومغني المحتاج 1 / 401 وما بعدها، وكشاف القناع 2 / 251، 252.
(3) حديث: " أغنوهم عن طواف هذا اليوم " أخرجه البيهقي (44 / 175 - ط دائرة المعارف العثمانية) وقال ابن حجر: إسناده ضعيف (بلوغ المرام ص 142 - ط عبد الحميد حنفي) .

(10/14)


وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ وُجُوبَ زَكَاةِ الْفِطْرِ هُوَ وُجُوبٌ مُوَسَّعٌ فِي الْعُمْرِ كُلِّهِ، فَفِي أَيِّ وَقْتٍ أَدَّى كَانَ مُؤَدِّيًا لاَ قَاضِيًا، غَيْرَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ إِخْرَاجُهَا قَبْل الْخُرُوجِ إِلَى الْمُصَلَّى، وَلَوْ مَاتَ فَأَدَّاهَا وَارِثُهُ جَازَ.
لَكِنْ ذَهَبَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ تَسْقُطُ بِتَأْخِيرِهَا عَنْ يَوْمِ الْفِطْرِ كَالأُْضْحِيَّةِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا قَوْلٌ ثَالِثٌ خَارِجٌ عَنِ الْمَذْهَبِ. (1)

تَأْخِيرُ نِيَّةِ الصَّوْمِ:
21 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ نِيَّةِ الصَّوْمِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ وَالنَّذْرِ الْمُعَيَّنِ وَالنَّفَل إِلَى الضَّحْوَةِ الْكُبْرَى، أَمَّا فِي غَيْرِ هَذِهِ الثَّلاَثَةِ فَمَنَعُوا تَأْخِيرَ النِّيَّةِ فِيهَا. وَقَالُوا بِوُجُوبِ تَبْيِيتِهَا أَوْ قِرَانِهَا مَعَ الْفَجْرِ، كَقَضَاءِ رَمَضَانَ، وَالنَّذْرِ الْمُطْلَقِ، وَقَضَاءِ النَّذْرِ الْمُعَيَّنِ، وَالنَّفَل بَعْدَ إِفْسَادِهِ، وَالْكَفَّارَاتِ وَغَيْرِهَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الصَّوْمَ لاَ يُجْزِئُ إِلاَّ إِذَا تَقَدَّمَتِ النِّيَّةُ عَلَى سَائِرِ أَجْزَائِهِ، فَإِنْ طَلَعَ الْفَجْرُ وَلَمْ يَنْوِهِ لَمْ يُجْزِهِ فِي سَائِرِ أَنْوَاعِ الصِّيَامِ، إِلاَّ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 72.

(10/14)


يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَفِيهِ قَوْلاَنِ: الْمَشْهُورُ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ كَغَيْرِهِ.
وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَل، فَاشْتَرَطُوا لِلْفَرْضِ التَّبْيِيتَ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لَمْ يُجَمِّعِ الصِّيَامَ قَبْل الْفَجْرِ فَلاَ صِيَامَ لَهُ (1) وَأَمَّا النَّفَل فَاتَّفَقُوا عَلَى صِحَّةِ صَوْمِهِ بِنِيَّةٍ قَبْل الزَّوَال، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِعَائِشَةَ يَوْمًا: هَل عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ قَالَتْ: لاَ. قَال: فَإِنِّي إِذَنْ أَصُومُ (2) وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ النَّفَل يَصِحُّ بِنِيَّةٍ بَعْدَ الزَّوَال أَيْضًا لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَلأَِنَّ النِّيَّةَ وُجِدَتْ فِي جُزْءِ النَّهَارِ فَأَشْبَهَ وُجُودَهَا قَبْل الزَّوَال بِلَحْظَةٍ. (3)

تَأْخِيرُ قَضَاءِ الصَّلاَةِ:
22 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ نَامَ عَنْ صَلاَةٍ أَوْ نَسِيَهَا قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلاَةِ عَلَى الْفَوْرِ وَيَحْرُمُ تَأْخِيرُهَا. (4) لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ
__________
(1) حديث: " من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له " أخرجه أبو داود (2 / 823 ط عزت عبيد دعاس) وصححه ابن حجر كما في فيض القدير (6 / 222 - ط المكتبة التجارية) .
(2) حديث: " أهل عندكم شيء. . . " أخرجه مسلم (2 / 809 - ط الحلبي) .
(3) ابن عابدين 2 / 85 - 87، والشرح الصغير 1 / 696، ومغني المحتاج 1 / 423 - 424، وكشاف القناع 2 / 317.
(4) اللباب في شرح الكتاب 1 / 88، والشرح الصغير 1 / 365، ومغني المحتاج 1 / 127، والمجموع 3 / 68، وكشاف القناع 1 / 260.

(10/15)


نَسِيَ صَلاَةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا (1) فَأَمَرَ بِالصَّلاَةِ عِنْدَ الذِّكْرِ وَالأَْمْرُ لِلْوُجُوبِ، وَقَدْ أَلْحَقَ الْجُمْهُورُ مُطْلَقَ التَّرْكِ بِالنَّوْمِ وَالنِّسْيَانِ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ تَأْخِيرُ الْفَائِتَةِ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ كَالأَْكْل وَالشُّرْبِ وَالنَّوْمِ الَّذِي لاَ بُدَّ مِنْهُ، وَقَضَاءِ حَاجَةِ الإِْنْسَانِ، وَتَحْصِيل مَا يَحْتَاجُ لَهُ فِي مَعَاشِهِ.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مَنْ تَرَكَ الصَّلاَةَ لِعُذْرٍ، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَقْضِيَهَا عَلَى الْفَوْرِ، فَإِنْ أَخَّرَهَا جَازَ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتَتْهُ صَلاَةُ الصُّبْحِ فَلَمْ يُصَلِّهَا حَتَّى خَرَجَ مِنَ الْوَادِي (2) . قَالُوا: وَلَوْ كَانَتْ عَلَى الْفَوْرِ لَمَا أَخَّرَهَا. (3)

تَأْخِيرُ الْوِتْرِ:
23 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَأْخِيرِ الْوِتْرِ إِلَى وَقْتِ السَّحَرِ، وَهَذَا الاِسْتِحْبَابُ لِمَنْ وَثِقَ بِأَنَّهُ يُصَلِّيهِ آخِرَ اللَّيْل، فَإِنْ لَمْ يَثِقْ بِذَلِكَ أَوْتَرَ قَبْل أَنْ يَرْقُدَ، (4) لِحَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
__________
(1) حديث: " من نسي صلاة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 70 - ط السلفية) ومسلم (1 / 477 - الحلبي) من حديث أنس، واللفظ لمسلم.
(2) حديث: " فاتته صلاة الصبح فلم يصلها حتى خرج من الوادي " أخرجه مسلم (1 / 472 - ط الحلبي) .
(3) مغني المحتاج 1 / 127، والمجموع 3 / 68.
(4) فتح القدير 1 / 372، والشرح الصغير 1 / 412 وما بعدها، والقوانين الفقهية ص 94، ومغني المحتاج 1 / 222، وكشاف القناع 1 / 416، وتبيين الحقائق 1 / 168.

(10/15)


أَيُّكُمْ خَافَ أَلاَّ يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْل فَلْيُوتِرْ ثُمَّ لْيَرْقُدْ، وَمَنْ وَثِقَ بِقِيَامِهِ مِنَ اللَّيْل فَلْيُوتِرْ مِنْ آخِرِهِ، فَإِنَّ قِرَاءَةَ آخِرِ اللَّيْل مَحْضُورَةٌ، وَذَلِكَ أَفْضَل (1) . .

تَأْخِيرُ السُّحُورِ:
24 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَأْخِيرَ السُّحُورِ وَتَقْدِيمَ الْفِطْرِ مِنَ السُّنَّةِ، لِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَال: تَسَحَّرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ. قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَ الأَْذَانِ وَالسُّحُورِ؟ قَال: قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً (2) .
وَلِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تَزَال أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ وَأَخَّرُوا السُّحُورَ (3) .
وَمَوْطِنُ السُّنِّيَّةِ فِيمَا إِذَا تَحَقَّقَ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُ الشَّكُّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَإِنْ شَكَّ فِي ذَلِكَ، كَأَنْ تَرَدَّدَ فِي بَقَاءِ اللَّيْل لَمْ يُسَنَّ التَّأْخِيرُ بَل الأَْفْضَل تَرْكُهُ. (4)

تَأْخِيرُ أَدَاءِ الدَّيْنِ:
25 - إِذَا حَل أَجَل الدَّيْنِ وَلَمْ يُؤَدِّهِ الْمَدِينُ، فَإِنْ
__________
(1) حديث: " أيكم خاف. . . " أخرجه مسلم (1 / 520 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " تسحرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 138 - ط الحلبي) .
(3) حديث: " لا تزال أمتي. . . " سبق تخريجه (ف / 5) .
(4) ابن عابدين 2 / 114، ومغني المحتاج 1 / 434، ومواهب الجليل 2 / 397، وكشاف القناع 2 / 331.

(10/16)


كَانَ قَادِرًا عَلَى الْوَفَاءِ وَأَخَّرَهُ بِلاَ عُذْرٍ مَنَعَهُ الْقَاضِي مِنَ السَّفَرِ وَحَبَسَهُ إِلَى أَنْ يُوفِيَ دَيْنَهُ، قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِل عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ (1) .
فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ، وَكَانَ لَهُ مَالٌ ظَاهِرٌ، بَاعَهُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، وَإِذَا كَانَ تَأْخِيرُ سَدَادِ الدَّيْنِ لِعُذْرٍ كَالإِْعْسَارِ أُمْهِل إِلَى أَنْ يُوسِرَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (2) .
أَمَّا إِذَا كَانَ لِلْمَدِينِ مَالٌ، وَلَكِنَّهُ لاَ يَفِي بِالدُّيُونِ، وَطَلَبَ الْغُرَمَاءُ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لَزِمَ الْقَاضِيَ إِجَابَتُهُمْ (3) .، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ فِي الْمَذَاهِبِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (أَدَاءٌ) وَبَابَيِ (الْحَجْرُ وَالتَّفْلِيسُ) .

تَأْخِيرُ الْمَهْرِ:
26 - يَجِبُ الْمَهْرُ بِنَفْسِ عَقْدِ الزَّوَاجِ، وَيَجُوزُ تَأْخِيرُ
__________
(1) حديث: " لي الواجد يحل عرضه وعقوبته. . . " أخرجه أبو داود (3 / 45 - ط عزت عبيد دعاس) والحاكم (4 / 102 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه، ووافقه الذهبي.
(2) سورة البقرة / 180
(3) ابن عابدين 4 / 318 وما بعدها، والدسوقي 3 / 262، والقليوبي على شرح المحلي 2 / 262، والمغني 4 / 501، 503 وانظر الموسوعة الفقهية بالكويت 2 / 343.

(10/16)


الصَّدَاقِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ عَنِ الدُّخُول (1) ، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي (النِّكَاحُ) .

تَأْخِيرُ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ:
27 - يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الإِْنْفَاقُ عَلَى زَوْجَتِهِ وَمَنْ يَعُول، وَيَجُوزُ لَهُ وَلِزَوْجَتِهِ الاِتِّفَاقُ عَلَى تَعْجِيل أَوْ تَأْخِيرِ النَّفَقَةِ، وَيُعْتَبَرُ كُل زَوْجٍ بِحَسَبِ حَال مَوْرِدِهِ، فَإِنْ أَخَّرَ النَّفَقَةَ عَنْ زَوْجَتِهِ بِعُذْرِ الإِْعْسَارِ جَازَ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ طَلَبُ التَّطْلِيقِ مِنْ قِبَل الزَّوْجَةِ أَوِ الإِْنْفَاقِ عَلَيْهَا.
ثُمَّ إِنْ أَخَّرَ النَّفَقَةَ وَتَرَاكَمَتْ عَلَيْهِ هَل تَسْقُطُ بِالتَّقَادُمِ أَمْ تَبْقَى دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ؟ فِي كُل ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ (2) يُنْظَرُ فِي بَابِ (النَّفَقَةُ) .

تَأْخِيرُ تَسْلِيمِ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ:
28 - يُشْتَرَطُ لِبَيْعِ الرِّبَوِيِّ بِالرِّبَوِيِّ الْحُلُول - لاَ التَّأْخِيرُ - وَالتَّقَابُضُ قَبْل التَّفَرُّقِ، سَوَاءٌ أَكَانَ جِنْسًا وَاحِدًا أَمْ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَيُزَادُ شَرْطُ التَّمَاثُل إِذَا كَانَ جِنْسًا وَاحِدًا؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {
__________
(1) ابن عابدين 2 / 330، واللباب 3 / 196، وبدائع الصنائع 3 / 451 وما بعدها، والدسوقي 2 / 297، ومغني المحتاج 3 / 229 - 230، وكشاف القناع 5 / 134.
(2) ابن عابدين 2 / 649 - 650، ومجمع الأنهر 1 / 493 - 494، ومغني المحتاج 3 / 426، 434، 435، 442، والدسوقي 2 / 513، 520، وكشاف القناع 5 / 468 - 469.

(10/17)


الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتِ الأَْجْنَاسُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ (1) فَيَحْرُمُ التَّأْخِيرُ فِي تَسْلِيمِ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ. (2) وَلِلتَّفْصِيل ر: (الرِّبَا، وَالْبَيْعُ) .

التَّأْخِيرُ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ:
29 - الْحَدُّ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ شَرْعًا تُقَامُ عَلَى مُرْتَكِبِ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ زَجْرًا لَهُ وَتَأْدِيبًا لِغَيْرِهِ؛ وَالأَْصْل أَنَّ الْجَانِيَ يُحَدُّ فَوْرًا بَعْدَ ثُبُوتِ الْحُكْمِ دُونَ تَأْخِيرٍ، لَكِنْ قَدْ يَطْرَأُ مَا يُوجِبُ التَّأْخِيرَ أَوْ يُسْتَحَبُّ مَعَهُ التَّأْخِيرُ:
أ - فَيَجِبُ تَأْخِيرُ الْحَدِّ بِالْجَلْدِ فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ وَالْبَرْدِ الشَّدِيدِ؛ لِمَا فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ فِيهِمَا مِنْ خَوْفِ الْهَلاَكِ خِلاَفًا لِلْحَنَابِلَةِ. وَلاَ يُقَامُ عَلَى مَرِيضٍ يُرْجَى بُرْؤُهُ حَتَّى يَبْرَأَ؛ لأَِنَّهُ يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ وَجَعُ الْمَرَضِ وَأَلَمُ الضَّرْبِ فَيُخَافُ الْهَلاَكُ، خِلاَفًا لِلْحَنَابِلَةِ. وَلاَ يُقَامُ عَلَى النُّفَسَاءِ حَتَّى يَنْقَضِيَ
__________
(1) حديث. " الذهب بالذهب، والفضة بالفضة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 379 - ط السلفية) ومسلم (2 / 1211 - ط الحلبي) من حديث عبادة بن الصامت، واللفظ لمسلم.
(2) ابن عابدين 4 / 234 - 235، والدسوقي 3 / 29 - 30، ومغني المحتاج 2 / 22، 24، وكشاف القناع 3 / 264، 266 وما بعدها.

(10/17)


النِّفَاسُ؛ لأَِنَّ النِّفَاسَ نَوْعُ مَرَضٍ، وَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْحَائِضِ؛ لأَِنَّ الْحَيْضَ لَيْسَ بِمَرَضٍ. وَلاَ يُقَامُ عَلَى الْحَامِل حَتَّى تَضَعَ وَتَطْهُرَ مِنَ النِّفَاسِ - لأَِنَّ فِيهِ هَلاَكَ الْوَلَدِ وَالْوَالِدَةِ - وَحَتَّى يَسْتَغْنِيَ وَلَدُهَا عَنْهَا بِمَنْ تُرْضِعُهُ؛ حِفَاظًا عَلَى حَيَاةِ وَلَدِهَا. (1)
وَلِلتَّفْصِيل اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ (حَدٌّ) .
ب - أَمَّا فِي الْقِصَاصِ وَحَدِّ الرَّجْمِ فَلاَ تَأْخِيرَ إلاَّ لِلْحَامِل بِالْقَيْدِ السَّابِقِ، هَذَا إِذَا كَانَ الأَْوْلِيَاءُ فِي الْقِصَاصِ مَوْجُودِينَ، أَمَّا إِذَا كَانُوا صِغَارًا أَوْ غَائِبِينَ فَيُؤَخَّرُ الْقِصَاصُ حَتَّى يَكْبُرَ الصِّغَارُ وَيَقْدَمَ الْغَائِبُ. (2) عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي (قِصَاصٌ) .
ج - وَكَذَلِكَ الْمُرْتَدُّ يُؤَخَّرُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وُجُوبًا عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَنَدْبًا عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَيُحْبَسُ فِي هَذِهِ الْفَتْرَةِ وَلاَ يُخَلَّى سَبِيلُهُ بِقَصْدِ اسْتِتَابَتِهِ وَإِزَالَةِ الشُّبَهِ الَّتِي عَلِقَتْ بِهِ، فَإِنْ تَابَ خُلِّيَ سَبِيلُهُ، وَإِلاَّ قُتِل حَدًّا لِكُفْرِهِ بَعْدَ الإِْسْلاَمِ. (3)
د - وَيُؤَخَّرُ حَدُّ السَّكْرَانِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ حَتَّى يَزُول عَنْهُ السُّكْرُ تَحْصِيلاً لِلْمَقْصُودِ - وَهُوَ
__________
(1) بدائع الصنائع 9 / 4209، والدسوقي 4 / 322، ومغني المحتاج 4 / 42 - 43، وكشاف القناع 6 / 82.
(2) المغني 7 / 739، وكشاف القناع 5 / 535، ومغني المحتاج 4 / 42 - 43، والشرح الصغير 4 / 359، والدسوقي 4 / 257، وفتح القدير 9 / 162.
(3) اللباب 3 / 275، والشرح الصغير 4 / 436، ومغني المحتاج 4 / 140، ونيل المآرب 2 / 390.

(10/18)


الاِنْزِجَارُ - بِوِجْدَانِ الأَْلَمِ، وَالسَّكْرَانُ زَائِل الْعَقْل كَالْمَجْنُونِ. فَلَوْ حُدَّ قَبْل الإِْفَاقَةِ فَإِنَّ الْحَدَّ يُعَادُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَيَسْقُطُ الْحَدُّ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْنِ مُصَحَّحَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، نَسَبَهُ الْمِرْدَاوِيُّ إِلَى ابْنِ نَصْرِ اللَّهِ فِي حَوَاشِي الْفُرُوعِ، وَقَال: الصَّوَابُ إِنْ حَصَل بِهِ أَلَمٌ يُوجِبُ الزَّجْرَ سَقَطَ، وَإِلاَّ فَلاَ، وَمِثْلُهُ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ. (1)

تَأْخِيرُ إِقَامَةِ الدَّعْوَى:
30 - إِذَا تَأَخَّرَ الْمُدَّعِي فِي إِقَامَةِ دَعْوَاهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً سَقَطَتْ دَعْوَاهُ بِالتَّقَادُمِ، وَمِنْ ثَمَّ فَلاَ تُسْمَعُ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لِنَهْيِ السُّلْطَانِ عَنْ سَمَاعِهَا بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ إِلاَّ فِي الْوَقْفِ وَالإِْرْثِ وَعِنْدَ وُجُودِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ، وَسَبَبُ هَذَا النَّهْيِ قَطْعُ الْحِيَل وَالتَّزْوِيرِ فِي الدَّعَاوَى. ثُمَّ قَال: وَنُقِل فِي الْحَامِدِيَّةِ فَتَاوَى مِنَ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ بِعَدَمِ سَمَاعِ الدَّعْوَى بَعْدَ نَهْيِ السُّلْطَانِ.
وَأَفْتَى فِي الْخَيْرِيَّةِ بِأَنَّهُ إِذَا مَاتَ السُّلْطَانُ لاَ بُدَّ مِنْ تَجْدِيدِ النَّهْيِ، وَلاَ يَسْتَمِرُّ النَّهْيُ بَعْدَهُ. (2)

تَأْخِيرُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ:
31 - تَأْخِيرُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ بِلاَ عُذْرٍ - كَمَرَضٍ أَوْ
__________
(1) اللباب 3 / 86، وابن عابدين 3 / 164، وشرح الزرقاني 8 / 113، والدسوقي 4 / 353، ومغني المحتاج 4 / 190، والإنصاف 10 / 159، وكشاف القناع 6 / 83.
(2) ابن عابدين 4 / 342.

(10/18)


بُعْدِ مَسَافَةٍ أَوْ خَوْفٍ - يُؤَدِّي إِلَى عَدَمِ قَبُولِهَا لِتُهْمَةِ الشَّاهِدِ إِلاَّ فِي حَدِّ الْقَذْفِ، فَإِنَّ التَّقَادُمَ فِيهِ لاَ يُؤَثِّرُ عَلَى قَبُولِهَا لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ، وَكَذَلِكَ يَضْمَنُ السَّارِقُ الْمَال الْمَسْرُوقَ؛ لأَِنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ فَلاَ يَسْقُطُ بِالتَّأْخِيرِ.
وَيَسْقُطُ حَدُّ الْخَمْرِ لِتَأْخِيرِ الشَّهَادَةِ شَهْرًا عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَتَأْخِيرُ الشَّهَادَةِ فِي الْقِصَاصِ لاَ يَمْنَعُ مِنْ قَبُول الشَّهَادَةِ، وَالضَّابِطُ فِي قَبُول الشَّهَادَةِ كَمَا قَال ابْنُ عَابِدِينَ: أَنَّ التَّقَادُمَ مَانِعٌ فِي حُقُوقِ اللَّهِ، غَيْرُ مَانِعٍ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ (1) ، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ يُنْظَرُ فِي بَابِ (الشَّهَادَةُ) وَمُصْطَلَحِ (تَقَادُمٌ) .

تَأْخِيرُ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فِي صُفُوفِ الصَّلاَةِ:
32 - مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَقِفَ الرِّجَال خَلْفَ الإِْمَامِ، وَيَقِفَ بَعْدَ الرِّجَال الصِّبْيَانُ، وَيُنْدَبُ تَأَخُّرُ النِّسَاءِ خَلْفَ الْجَمِيعِ.؛ (2) لِقَوْل أَبِي مَالِكٍ الأَْشْعَرِيِّ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى وَأَقَامَ الرِّجَال يَلُونَهُ، وَأَقَامَ الصِّبْيَانَ خَلْفَ ذَلِكَ، وَأَقَامَ النِّسَاءَ خَلْفَ ذَلِكَ (3) .
__________
(1) ابن عابدين 3 / 158، 5 / 353، والدسوقي 4 / 174، والشرح الصغير 4 / 247، وشرح الزرقاني 7 / 166، ومغني المحتاج 4 / 151، والإنصاف 12 / 8.
(2) ابن عابدين 1 / 384، والدسوقي 1 / 344، ومغني المحتاج 1 / 246، وكشاف القناع 1 / 488.
(3) حديث أبي مالك الأشعري. أخرجه أبو داود (1 / 438 - ط عزت عبيد دعاس) وأحمد (5 / 341 - 342 - ط الميمنية) .

(10/19)


تَأْدِيبٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّأْدِيبُ لُغَةً: مَصْدَرُ أَدَّبَهُ تَأْدِيبًا، أَيْ عَلَّمَهُ الأَْدَبَ، وَعَاقَبَهُ عَلَى إِسَاءَتِهِ، وَهُوَ رِيَاضَةُ النَّفْسِ وَمَحَاسِنُ الأَْخْلاَقِ.
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّعْزِيرُ:
2 - التَّعْزِيرُ لُغَةً: التَّأْدِيبُ وَالْمَنْعُ وَالنُّصْرَةُ. (1) وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى: قَوْل الْحَقِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَاَلَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ} (2) .
وَشَرْعًا: تَأْدِيبٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ لاَ حَدَّ فِيهَا وَلاَ كَفَّارَةَ. قَال الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: وَتَسْمِيَةُ ضَرْبِ الْوَلِيِّ وَالزَّوْجِ وَالْمُعَلِّمِ تَعْزِيرًا هُوَ أَشْهَرُ الاِصْطِلاَحَيْنِ، كَمَا ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ. قَال: وَمِنْهُمْ مَنْ يَخُصُّ لَفْظَ التَّعْزِيرِ بِالإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، وَضَرْبَ الْبَاقِي بِتَسْمِيَتِهِ تَأْدِيبًا لاَ تَعْزِيرًا.
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " أدب، وعزر ".
(2) سورة الأعراف / 157.

(10/19)


أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَقَدْ جَرَوْا عَلَى أَنَّ التَّعْزِيرَ يَصْدُقُ عَلَى الْعُقُوبَةِ الصَّادِرَةِ مِنَ الزَّوْجِ أَوِ الأَْبِ أَوْ غَيْرِهِمَا -، كَمَا يَصْدُقُ عَلَى فِعْل الإِْمَامِ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: التَّعْزِيرُ يَفْعَلُهُ الزَّوْجُ وَالسَّيِّدُ، وَكُل مَنْ رَأَى أَحَدًا يُبَاشِرُ الْمَعْصِيَةَ (1) .
هَذَا، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل مَا يَتَّصِل بِالْعُقُوبَةِ الصَّادِرَةِ مِنَ الإِْمَامِ فِي غَيْرِ الْحُدُودِ فِي مُصْطَلَحِ (تَعْزِيرٌ)
فَالتَّأْدِيبُ أَعَمُّ مِنَ التَّعْزِيرِ فِي أَحَدِ إِطْلاَقَيْهِ.

حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ خِلاَفًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ تَأْدِيبِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِهِ الزَّوْجِيَّةِ، وَفِي أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ. (2)
وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ تَأْدِيبِهِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَتَرْكِ الصَّلاَةِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْمَنْعِ، وَجَوَّزَهُ آخَرُونَ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. (3)
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ تَأْدِيبُ
__________
(1) المبسوط للسرخسي 9 / 36، وفتح القدير 7 / 119، ومغني المحتاج 4 / 191، 199، وتبصرة الحكام 2 / 293، وكشاف القناع 4 / 72، وحاشية ابن عابدين 3 / 177.
(2) المغني لابن قدامة 7 / 47، والأم للشافعي 5 / 194، والرهوني 8 / 165، ومواهب الجليل 4 / 16، وابن عابدين 3 / 190.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 235، 5 / 363، ومغني المحتاج 1 / 131، والمغني لابن قدامة 1 / 615 - 616.

(10/20)


الصَّبِيِّ لِتَرْكِ الصَّلاَةِ وَالطَّهَارَةِ، وَلِتَعْلِيمِ الْفَرَائِضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ بِالْقَوْل إِذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ، وَبِالضَّرْبِ إِنْ لَزِمَ لإِِصْلاَحِهِ إِذَا بَلَغَ عَشْرًا؛ لِحَدِيثِ: عَلِّمُوا الصَّبِيَّ الصَّلاَةَ لِسَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُ عَلَيْهَا ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ تَأْدِيبِ الإِْمَامِ وَنُوَّابِهِ لِمَنْ رُفِعَ إِلَيْهِمْ:
فَذَهَبَ الأَْئِمَّةُ: أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ، إِلَى وُجُوبِ إِقَامَةِ التَّأْدِيبِ عَلَيْهِمْ فِيمَا شُرِعَ التَّأْدِيبُ فِيهِ، إِلاَّ إِذَا رَأَى الإِْمَامُ أَنَّ فِي تَرْكِ التَّأْدِيبِ مَصْلَحَةً، وَقَالُوا: إِنَّهُ إِنْ كَانَ التَّأْدِيبُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ، كَوَطْءِ جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ وَجَارِيَةٍ مُشْتَرَكَةٍ، يَجِبُ امْتِثَال الأَْمْرِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ وَرَأَى الإِْمَامُ مَصْلَحَةً فِي إِقَامَةِ التَّأْدِيبِ، أَوْ عَلِمَ أَنَّ الْمُذْنِبَ لاَ يَنْزَجِرُ إِلاَّ بِالضَّرْبِ وَجَبَ؛ لأَِنَّهُ زَاجِرٌ مَشْرُوعٌ لِوَجْهِ اللَّهِ فَوَجَبَ كَالْحَدِّ (2) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ إِقَامَةُ التَّأْدِيبِ، وَلَهُ تَرْكُهُ.
وَحُجَّتُهُمْ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَضَ عَنْ جَمَاعَةٍ
__________
(1) حديث: " علموا الصبي الصلاة. . . " أخرجه أبو داود (1 / 332 - ط عزت عبيد دعاس) والترمذي (2 / 259 - ط الحلبي) وحسنه، واللفظ للترمذي.
(2) ابن عابدين 3 / 187، ومواهب الجليل 6 / 320، والمغني لابن قدامة 8 / 326.

(10/20)


اسْتَحَقُّوهُ، وَلَمْ يُقِمْ عَلَيْهِمُ التَّأْدِيبَ (1) كَالْغَال فِي الْغَنِيمَةِ، فَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا أَعْرَضَ عَنْهُمْ، وَلأََقَامَهُ عَلَيْهِمْ. (2)
هَذَا إِذَا كَانَ التَّأْدِيبُ حَقًّا لِلَّهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ حَقًّا لآِدَمِيٍّ، وَطَالَبَ بِهِ مُسْتَحِقُّهُ، وَجَبَ عَلَى الإِْمَامِ إِقَامَتُهُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَلَكِنْ إِذَا عَفَا عَنْهُ صَاحِبُ الْحَقِّ فَهَل لِلإِْمَامِ إِقَامَةُ التَّأْدِيبِ؟
ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - فِي الأَْصَحِّ مِنْ قَوْلَيْنِ عِنْدَهُمْ - إِلَى: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلإِْمَامِ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْل الْمُطَالَبَةِ إِقَامَةُ التَّأْدِيبِ.؛ لأَِنَّهُ لاَ يَخْلُو عَنْ حَقِّ اللَّهِ، وَلأَِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِنَظَرِ الإِْمَامِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ إِسْقَاطُ غَيْرِهِ. (3) وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَعْزِيرٌ) .

وِلاَيَةُ التَّأْدِيبِ:

4 - تَثْبُتُ وِلاَيَةُ التَّأْدِيبِ:
أ - لِلإِْمَامِ وَنُوَّابِهِ كَالْقَاضِي بِالْوِلاَيَةِ الْعَامَّةِ، فَلَهُمُ الْحَقُّ فِي تَأْدِيبِ مَنِ ارْتَكَبَ مَحْظُورًا لَيْسَ فِيهِ حَدٌّ (4) ، مَعَ الاِخْتِلاَفِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي
__________
(1) حديث: " إعراض النبي صلى الله عليه وسلم عن جماعة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 592 - ط السلفية) . ومسلم (1 / 108 - ط عيسى البابي الحلبي) .
(2) مغني المحتاج 4 / 193، والأم للإمام الشافعي 6 / 176.
(3) المصادر السابقة.
(4) حاشية ابن عابدين 3 / 189، 5 / 363، مغني المحتاج 4 / 194، وحاشية الدسوقي 6 / 319.

(10/21)


الْوُجُوبِ عَلَيْهِمْ وَعَدَمِهِ كَمَا مَرَّتِ الإِْشَارَةُ إِلَيْهِ. (ر: تَعْزِيرٌ) .
ب - لِلْوَلِيِّ بِالْوِلاَيَةِ الْخَاصَّةِ، أَبًا كَانَ أَوْ جَدًّا أَوْ وَصِيًّا، أَوْ قَيِّمًا مِنْ قِبَل الْقَاضِي (1) لِحَدِيثِ: مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ. . . إِلَخْ (2)
ج - لِلْمُعَلِّمِ عَلَى التِّلْمِيذِ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ (3) .
د - لِلزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ فِيمَا يَتَّصِل بِالْحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} (4) ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. (5)
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ تَأْدِيبِ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، كَتَرْكِ الصَّلاَةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْفَرَائِضِ. فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْدِيبُهَا عَلَى ذَلِكَ (6) . وَقَيَّدَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِمَا قَبْل الرَّفْعِ لِلإِْمَامِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ لَيْسَ لَهُ التَّأْدِيبُ لِحَقِّ اللَّهِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ
__________
(1) المغني لابن قدامة 1 / 615، ومغني المحتاج 1 / 131، وابن عابدين 1 / 235
(2) حديث: " مروا أولادكم بالصلاة. . . " أخرجه أبو داود (1 / 334) ط عزت عبيد الدعاس. وحسنه النووي في رياض الصالحين ص 171 - ط الرسالة) .
(3) المصادر السابقة.
(4) سورة النساء / 34.
(5) مواهب الجليل 4 / 15 - 16، وحاشية ابن عابدين 3 / 188، والمغني 7 / 46.
(6) المغني لابن قدامة 7 / 47، وحاشية الدسوقي 4 / 154

(10/21)


وَلاَ تَرْجِعُ الْمَنْفَعَةُ إِلَيْهِ. (1) هَذَا وَلَمْ نَقِفْ عَلَى قَوْلٍ لِلْفُقَهَاءِ بِوُجُوبِ التَّأْدِيبِ عَلَى الزَّوْجِ، بَل يُفْهَمُ مِنْ عِبَارَاتِهِمْ أَنَّ التَّرْكَ أَوْلَى.
جَاءَ فِي الأُْمِّ لِلإِْمَامِ الشَّافِعِيِّ: فِي نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ضَرْبِ النِّسَاءِ، ثُمَّ إِذْنِهِ فِي ضَرْبِهِنَّ، وَقَوْلُهُ: لَنْ يَضْرِبَ خِيَارُكُمْ (2) يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْهُ عَلَى اخْتِيَارِ النَّهْيِ، وَأَذِنَ فِيهِ بِأَنْ أَبَاحَ لَهُمُ الضَّرْبَ فِي الْحَقِّ، وَاخْتَارَ لَهُمْ أَلاَّ يَضْرِبُوا؛ لِقَوْلِهِ: لَنْ يَضْرِبَ خِيَارُكُمْ (3) .، وَلَيْسَ لِغَيْرِ هَؤُلاَءِ وِلاَيَةُ التَّأْدِيبِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. (4)
غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا: يُقِيمُ التَّأْدِيبَ - إِذَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ - كُل مُسْلِمٍ فِي حَال مُبَاشَرَةِ الْمَعْصِيَةِ؛ لأَِنَّهُ مِنْ بَابِ إِزَالَةِ الْمُنْكَرِ، وَالشَّارِعُ وَلَّى كُل مُسْلِمٍ ذَلِكَ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ. . . (5)
أَمَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ فَلَيْسَ بِنَهْيٍ؛ لأَِنَّ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 193، وحاشية ابن عابدين 3 / 189.
(2) حديث: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ضرب النساء. . . " أخرجه أبو داود (2 / 608) ط عزت عبيد الدعاس. وابن ماجه (1 / 638) ط عيسى البابي الحلبي. والحاكم (2 / 188) ط دار الكتاب العربي. وقال: حديث صحيح الإسناد.
(3) الأم للشافعي 5 / 194.
(4) حاشية الدسوقي 4 / 354، ومغني المحتاج 4 / 199.
(5) حديث: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده. . . " أخرجه مسلم في صحيحه (1 / 69) ط عيسى البابي الحلبي.

(10/22)


النَّهْيَ عَمَّا مَضَى لاَ يُتَصَوَّرُ، فَيَتَمَحَّضُ تَعْزِيرًا، وَذَلِكَ إِلَى الإِْمَامِ. (1)

مَا يَجُوزُ فِيهِ التَّأْدِيبُ لِغَيْرِ الْحَاكِمِ.
5 - أ - نُشُوزُ الزَّوْجَةِ وَمَا يَتَّصِل بِهِ مِنَ الْحُقُوقِ، كَتَرْكِهَا الزِّينَةَ لَهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، وَتَرْكِ الْغُسْل عِنْدَ الْجَنَابَةِ، وَالْخُرُوجِ مِنَ الْمَنْزِل بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَتَرْكِ الإِْجَابَةِ إِلَى الْفِرَاشِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَهُ صِلَةٌ بِالْعَلاَقَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (2)
وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ تَأْدِيبِهِ إِيَّاهَا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَتَرْكِ الصَّلاَةِ وَنَحْوِهَا، فَجَوَّزَهُ الْبَعْضُ، وَمَنَعَهُ آخَرُونَ. (3) : مُصْطَلَحُ (نُشُوزٌ) .
ب - وَتَثْبُتُ عَلَى الصَّبِيِّ لِوَلِيِّهِ، أَبًا كَانَ، أَوْ جَدًّا، أَوْ وَصِيًّا، أَوْ قَيِّمًا مِنْ قِبَل الْقَاضِي لِخَبَرِ: مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ. . . (4) وَيُؤَدَّبُ عَلَى تَرْكِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلاَةِ وَكَذَا الصَّوْمُ، وَيُنْهَى عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ لِيَأْلَفَ الْخَيْرَ وَيَتْرُكَ الشَّرَّ، وَيُؤْمَرُ بِالْغُسْل إِذَا جَامَعَ، وَيُؤْمَرُ بِجَمِيعِ الْمَأْمُورَاتِ، وَيُنْهَى عَنْ جَمِيعِ الْمَنْهِيَّاتِ، وَيَكُونُ التَّأْدِيبُ بِالضَّرْبِ وَالْوَعِيدِ، وَالتَّعْنِيفِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 181.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 189، ومغني المحتاج 4 / 193، والمغني لابن قدامة 7 / 46، ومواهب الجليل 6 / 319.
(3) المصادر السابقة.
(4) حديث: " علموا الصبي. . . . " سبق تخريجه (ف / 3) .

(10/22)


بِالْقَوْل.، وَهَذَا التَّأْدِيبُ وَاجِبٌ عَلَى الْوَلِيِّ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ. وَهُوَ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ لِتَمْرِينِهِ عَلَى الصَّلاَةِ وَنَحْوِهَا لِيَأْلَفَهَا وَيَعْتَادَهَا وَلاَ يَتْرُكَهَا عِنْدَ الْبُلُوغِ، وَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لِخَبَرِ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ. . . (1) ذَكَرَ مِنْهُمُ الصَّبِيَّ حَتَّى يَبْلُغَ.
ج - عَلَى التِّلْمِيذِ: وَيُؤَدِّبُ الْمُعَلِّمُ مَنْ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ، وَلَيْسَ لَهُ التَّأْدِيبُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْوَلِيِّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.، (2) وَنُقِل عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلُهُمُ: الإِْجْمَاعُ الْفِعْلِيُّ مُطَّرِدٌ بِجَوَازِ ذَلِكَ بِدُونِ إِذْنِ الْوَلِيِّ. (3)

نَفَقَةُ التَّأْدِيبِ:
6 - تَجِبُ أُجْرَةُ التَّعْلِيمِ فِي مَال الطِّفْل إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَعَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، وَالإِْنْفَاقُ مِنْ مَال الصَّبِيِّ لِتَعْلِيمِهِ الْفَرَائِضَ وَاجِبٌ بِالاِتِّفَاقِ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُصْرَفَ مِنْ مَالِهِ أُجْرَةُ تَعْلِيمِ مَا سِوَى الْفَرَائِضِ مِنَ: الْقُرْآنِ، وَالصَّلاَةِ، وَالطَّهَارَةِ، كَالأَْدَبِ،
__________
(1) حديث: " رفع القلم عن ثلاثة. . . " أخرجه أبو داود (4 / 558) ط عزت عبيد الدعاس. والحاكم (2 / 59) ط وزارة المعارف العثمانية. وعنده " الصبي حتى يحتلم " وصححه الحاكم ووافقه الذهبي
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 189، 5 / 363، ومغني المحتاج 4 / 193
(3) ابن عابدين 5 / 363، ومغني المحتاج 4 / 193.

(10/23)


وَالْخَطِّ، إِنْ تَأَهَّل لَدَيْهِ لأَِنَّهُ مُسْتَمِرٌّ مَعَهُ وَيَنْتَفِعُ بِهِ، وَنَقَل الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ عَنِ النَّوَوِيِّ قَوْلَهُ فِي الرَّوْضَةِ: يَجِبُ عَلَى الآْبَاءِ وَالأُْمَّهَاتِ تَعْلِيمُ أَوْلاَدِهِمُ الطَّهَارَةَ وَالصَّلاَةَ وَالشَّرَائِعَ، وَأُجْرَةُ تَعْلِيمِ الْفَرَائِضِ فِي مَال الطِّفْل، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ. (1)
طُرُقُ التَّأْدِيبِ:
7 - تَخْتَلِفُ طُرُقُ التَّأْدِيبِ بِاخْتِلاَفِ مَنْ لَهُ التَّأْدِيبُ وَمَنْ عَلَيْهِ التَّأْدِيبُ:
فَطُرُقُ تَأْدِيبِ الإِْمَامِ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ مِنَ الرَّعِيَّةِ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ وَلاَ مُقَدَّرَةٍ شَرْعًا، فَيُتْرَكُ لاِجْتِهَادِهِ فِي سُلُوكِ الأَْصْلَحِ لِتَحْصِيل الْغَرَضِ مِنَ التَّأْدِيبِ، لاِخْتِلاَفِ ذَلِكَ بِاخْتِلاَفِ الْجَانِي وَالْجِنَايَةِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُرَاعِيَ التَّدَرُّجَ اللاَّئِقَ بِالْحَال وَالْقَدْرِ كَمَا يُرَاعِي دَفْعَ الصَّائِل، فَلاَ يَرْقَى إِلَى مَرْتَبَةٍ وَهُوَ يَرَى مَا دُونَهَا كَافِيًا وَمُوَثِّرًا. (2) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَعْزِيرٌ) .

طُرُقُ تَأْدِيبِ الزَّوْجَةِ:
8 - أ - الْوَعْظُ
ب - الْهَجْرُ فِي الْمَضْجَعِ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 131، وابن عابدين 5 / 463.
(2) مغني المحتاج 4 / 192، وابن عابدين 3 / 178 - 179، ومواهب الجليل 4 / 319.

(10/23)


ج - الضَّرْبُ غَيْرُ الْمُبَرِّحِ.
وَهَذَا التَّرْتِيبُ وَاجِبٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، فَلاَ يَنْتَقِل إِلَى الْهَجْرِ إِلاَّ إِذَا لَمْ يُجْدِ الْوَعْظُ، هَذَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} (1) .
جَاءَ فِي الْمُغْنِي لاِبْنِ قُدَامَةَ: فِي الآْيَةِ إِضْمَارٌ تَقْدِيرُهُ: وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ فَإِنْ نَشَزْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ، فَإِنْ أَصْرَرْنَ فَاضْرِبُوهُنَّ. (2)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - فِي الأَْظْهَرِ مِنْ قَوْلَيْنِ عِنْدَهُمْ - إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يُؤَدِّبَهَا بِالضَّرْبِ بَعْدَ ظُهُورِ النُّشُوزِ مِنْهَا بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَلاَ تَرْتِيبَ عَلَى هَذَا الْقَوْل بَيْنَ الْهَجْرِ وَالضَّرْبِ بَعْدَ ظُهُورِ النُّشُوزِ، وَالْقَوْل الآْخَرُ يُوَافِقُ رَأْيَ الْجُمْهُورِ. (3)
وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الضَّرْبُ غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَغَيْرَ مُدْمٍ، وَأَنْ يُتَوَقَّى فِيهِ الْوَجْهُ وَالأَْمَاكِنُ الْمَخُوفَةُ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّأْدِيبُ لاَ الإِْتْلاَفُ. (4) لِخَبَرِ: إِنَّ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَلاَّ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا
__________
(1) سورة النساء / 34.
(2) المغني لابن قدامة 7 / 47، ومواهب الجليل 4 / 15.
(3) الأم للشافعي 5 / 194، ومغني المحتاج 3 / 259.
(4) المغني لابن قدامة 7 / 47، ومواهب الجليل 4 / 15، ومغني المحتاج 3 / 259، والأم للشافعي 5 / 194.

(10/24)


تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ (1) .
وَيَشْتَرِطُ الْحَنَابِلَةُ أَلاَّ يُجَاوِزَ بِهِ عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ لِحَدِيثِ: لاَ يُجْلَدُ أَحَدٌ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إِلاَّ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ (2) ر: مُصْطَلَحَ (نُشُوزٌ) .

طُرُقُ تَأْدِيبِ الصَّبِيِّ:
9 - يُؤَدَّبُ الصَّبِيُّ بِالأَْمْرِ بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرَاتِ بِالْقَوْل، ثُمَّ الْوَعِيدِ، ثُمَّ التَّعْنِيفِ، ثُمَّ الضَّرْبِ، إِنْ لَمْ تُجْدِ الطُّرُقُ الْمَذْكُورَةُ قَبْلَهُ، وَلاَ يُضْرَبُ الصَّبِيُّ لِتَرْكِ الصَّلاَةِ إِلاَّ إِذَا بَلَغَ عَشْرَ سِنِينَ. (3) لِحَدِيثِ: مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ (4) .
وَلاَ يُجَاوِزُ ثَلاَثًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. (5)
__________
(1) حديث: " إن لكم عليهن إلا يوطئن فرشكم. . . " أخرجه مسلم في صحيحه (2 / 889 - 890 ط عيسى البابي الحلبي) .
(2) حديث: " لا يجلد أحد فوق. . . " أخرجه البخاري (12 / 176 ط السلفية) ومسلم (3 / 1333 ط عيسى البابي الحلبي) واللفظ له.
(3) المغني لابن قدامة 1 / 615، ومغني المحتاج 1 / 131، وابن عابدين 1 / 135.
(4) حديث: " مروا أولادكم. . . " سبق تخريجه (ف / 4) .
(5) الرهوني 8 / 164، ومواهب الجليل 6 / 319، والمغني لابن قدامة 8 / 327، وابن عابدين 1 / 235.

(10/24)


وَهِيَ أَيْضًا عَلَى التَّرْتِيبِ، فَلاَ يَرْقَى إِلَى مَرْتَبَةٍ إِذَا كَانَ مَا قَبْلَهَا يَفِي بِالْغَرَضِ وَهُوَ الإِْصْلاَحُ.

تَجَاوُزُ الْقَدْرِ الْمُعْتَادِ فِي التَّأْدِيبِ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَنْعِ التَّأْدِيبِ بِقَصْدِ الإِْتْلاَفِ، وَعَلَى تَرَتُّبِ الْمَسْئُولِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْبُلُوغِ بِالتَّأْدِيبِ أَوِ التَّعْزِيرِ مَبْلَغَ الْحَدِّ. (1) وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (تَعْزِيرٌ) .

الْهَلاَكُ مِنَ التَّأْدِيبِ الْمُعْتَادِ:
11 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا فِي حُكْمِ الْهَلاَكِ مِنَ التَّأْدِيبِ الْمُعْتَادِ:
فَاتَّفَقَ الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ عَلَى أَنَّ الإِْمَامَ لاَ يَضْمَنُ الْهَلاَكَ مِنَ التَّأْدِيبِ الْمُعْتَادِ؛ لأَِنَّ الإِْمَامَ مَأْمُورٌ بِالْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ، وَفِعْل الْمَأْمُورِ لاَ يَتَقَيَّدُ بِسَلاَمَةِ الْعَاقِبَةِ. (2)
وَاخْتَلَفُوا فِي تَضْمِينِ الزَّوْجِ وَالْوَلِيِّ، إِذَا حَصَل التَّلَفُ مِنْ تَأْدِيبِهِمَا وَلَمْ يَتَجَاوَزَا الْقَدْرَ الْمَشْرُوعَ.
فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَى
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 193، وابن عابدين 3 / 178، والمغني لابن قدامة 8 / 324، وحاشية الدسوقي 4 / 355، ومواهب الجليل 6 / 319.
(2) مواهب الجليل 6 / 319، والمغني لابن قدامة 8 / 326، وابن عابدين 3 / 189.

(10/25)


الزَّوْجِ وَالْوَلِيِّ مِنَ التَّلَفِ الَّذِي يَنْشَأُ مِنَ التَّأْدِيبِ الْمُعْتَادِ. (1)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَضْمَنُ الزَّوْجُ إِذَا أَفْضَى تَأْدِيبُهُ الْمُعْتَادُ إِلَى الْمَوْتِ؛ لأَِنَّ تَأْدِيبَ الزَّوْجَةِ إِذَا تَعَيَّنَ سَبِيلاً لِمَنْعِ نُشُوزِهَا مَشْرُوطٌ بِأَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُبَرِّحٍ، فَإِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ قَدْ جَاوَزَ الْفِعْل الْمَأْذُونَ فِيهِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ.، وَلأَِنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، فَشُرِطَ فِيهِ سَلاَمَةُ الْعَاقِبَةِ. (2)
وَاخْتَلَفَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ فِي تَضْمِينِ الأَْبِ وَالْجَدِّ وَالْوَصِيِّ وَنَحْوِهِمْ: فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ يَضْمَنُ الْجَمِيعُ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى تَأْدِيبِهِمُ التَّلَفُ؛ لأَِنَّ الْوَلِيَّ مَأْذُونٌ لَهُ بِالتَّأْدِيبِ لاَ بِالإِْتْلاَفِ، فَإِذَا أَدَّى إِلَى التَّلَفِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ جَاوَزَ الْحَدَّ، وَلأَِنَّ التَّأْدِيبَ قَدْ يَحْصُل بِغَيْرِ الضَّرْبِ كَالزَّجْرِ وَفَرْكِ الأُْذُنِ، وَخُلاَصَةُ رَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ:
أَنَّ الْوَاجِبَ لاَ يَتَقَيَّدُ بِسَلاَمَةِ الْعَاقِبَةِ، وَالْمُبَاحُ يَتَقَيَّدُ بِهَا، وَمِنَ الْمُبَاحِ ضَرْبُ الأَْبِ أَوِ الأُْمِّ وَلَدَهُمَا تَأْدِيبًا، وَمِثْلُهُمَا الْوَصِيُّ، فَإِذَا أَفْضَى إِلَى الْمَوْتِ وَجَبَ الضَّمَانُ، وَإِنْ كَانَ الضَّرْبُ لِلتَّعْلِيمِ فَلاَ ضَمَانَ؛ لأَِنَّهُ وَاجِبٌ، وَالْوَاجِبُ لاَ يَتَقَيَّدُ بِسَلاَمَةِ الْعَاقِبَةِ (3) .
وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ إِلَى أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِمْ؛
__________
(1) المغني لابن قدامة 8 / 327، ومواهب الجليل 6 / 319.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 190.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 24، 363.

(10/25)


لأَِنَّ التَّأْدِيبَ مِنْهُمْ فِعْلٌ مَأْذُونٌ فِيهِ لإِِصْلاَحِ الصَّغِيرِ، كَضَرْبِ الْمُعَلِّمِ، بَل أَوْلَى مِنْهُ؛ لأَِنَّ الْمُعَلِّمَ يَسْتَمِدُّ وِلاَيَةَ التَّأْدِيبِ مِنَ الْوَلِيِّ، وَالْمَوْتُ نَتَجَ مِنْ فِعْلٍ مَأْذُونٍ فِيهِ، وَالْمُتَوَلِّدُ مِنْ فِعْلٍ مَأْذُونٍ لاَ يُعَدُّ اعْتِدَاءً، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِمْ.
وَنُقِل عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الإِْمَامَ رَجَعَ إِلَى قَوْل الصَّاحِبَيْنِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الضَّمَانِ فِي التَّأْدِيبِ وَإِنْ لَمْ يَتَجَاوَزِ الْقَدْرَ الْمُعْتَادَ فِي مِثْلِهِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَقْتُل غَالِبًا فَفِيهِ الْقِصَاصُ عَلَى غَيْرِ الأَْصْل (الأَْبِ وَالْجَدِّ) وَإِلاَّ فَدِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ عَلَى الْعَاقِلَةِ؛ لأَِنَّهُ فِعْلٌ مَشْرُوطٌ بِسَلاَمَةِ الْعَاقِبَةِ، إِذِ الْمَقْصُودُ التَّأْدِيبُ لاَ الْهَلاَكُ، فَإِذَا حَصَل بِهِ هَلاَكٌ تَبَيَّنَ أَنَّهُ جَاوَزَ الْقَدْرَ الْمَشْرُوعَ فِيهِ، وَلاَ فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ الإِْمَامِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ أُوتُوا سُلْطَةَ التَّأْدِيبِ، كَالزَّوْجِ وَالْوَلِيِّ. (2)

تَأْدِيبُ الدَّابَّةِ:
12 - لِلْمُسْتَأْجِرِ وَرَائِضِ الدَّابَّةِ تَأْدِيبُهَا بِالضَّرْبِ وَالْكَبْحِ بِقَدْرِ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، وَلاَ يَضْمَنُ إِنْ تَلِفَتْ بِذَلِكَ عِنْدَ الأَْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ (مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ) وَصَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لأَِنَّهُ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَخَسَ
__________
(1) المصدر السابق.
(2) مغني المحتاج 4 / 199.

(10/26)


بَعِيرَ جَابِرٍ وَضَرَبَهُ (1) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ يَضْمَنُ لأَِنَّهُ تَلَفٌ حَصَل بِجِنَايَتِهِ فَضَمِنَهُ كَغَيْرِهِ، وَلأَِنَّ الْمُعْتَادَ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلاَمَةِ، وَلأَِنَّ السَّوْقَ يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الضَّرْبِ، وَإِنَّمَا يُضْرَبُ لِلْمُبَالَغَةِ فَيَضْمَنُ. (2)

مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
13 - يَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ التَّأْدِيبَ أَسَاسًا فِي أَبْوَابٍ كَثِيرَةٍ مِثْل: الصَّلاَةِ، النُّشُوزِ، التَّعْزِيرِ، دَفْعِ الصَّائِل، ضَمَانِ الْوُلاَةِ، وَالْحِسْبَةِ.
__________
(1) حديث: " نخس النبي صلى الله عليه وسلم لبعير جابر وضربه. . " أخرجه البخاري (4 / 320 ط السلفية) ومسلم (2 / 1088 ط عيسى البابي الحلبي) .
(2) البحر الرائق 8 / 16، وابن عابدين 5 / 24 - 25، والمغني. 5 / 537، ومغني المحتاج 4 / 199، 353.

(10/26)


تَأْرِيخٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّأْرِيخُ: مَصْدَرُ أَرَّخَ، وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: تَعْرِيفُ الْوَقْتِ، يُقَال: أَرَّخْتُ الْكِتَابَ لِيَوْمِ كَذَا: إِذَا وَقَّتَّهُ وَجَعَلْتَ لَهُ تَارِيخًا. (1)
وَأَمَّا مَعْنَاهُ فِي الاِصْطِلاَحِ: فَيُؤْخَذُ مِنْ كَلاَمِ السَّخَاوِيِّ: أَنَّهُ تَحْدِيدُ وَقَائِعِ الزَّمَنِ مِنْ حَيْثُ التَّعْيِينُ وَالتَّوْقِيتُ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الأَْجَل:
2 - أَجَل الشَّيْءِ فِي اللُّغَةِ - كَمَا جَاءَ فِي الْمِصْبَاحِ - مُدَّتُهُ وَوَقْتُهُ الَّذِي يَحِل فِيهِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ، وَيُجْمَعُ عَلَى آجَالٍ، كَسَبَبٍ وَأَسْبَابٍ، وَالآْجِل عَلَى فَاعِلٍ خِلاَفُ الْعَاجِل.
وَأَمَّا الأَْجَل فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: فَهُوَ الْمُدَّةُ الْمُسْتَقْبَلَةُ الَّتِي يُضَافُ إِلَيْهَا أَمْرٌ مِنَ الأُْمُورِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ هَذِهِ الإِْضَافَةُ أَجَلاً لِلْوَفَاءِ بِالْتِزَامٍ، أَمْ
__________
(1) لسان العرب، والصحاح، والمصباح المنير: مادة: " أرخ ".
(2) الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ للسخاوي ص 17 ط العلمية.

(10/27)


أَجَلاً لإِِنْهَاءِ الْتِزَامٍ. وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ مُقَرَّرَةً بِالشَّرْعِ، أَمْ بِالْقَضَاءِ، أَمْ بِإِرَادَةِ الْمُلْتَزِمِ: فَرْدًا أَوْ أَكْثَرَ. (1)
وَالنِّسْبَةُ بَيْنَهُمَا هِيَ أَنَّ التَّارِيخَ أَعَمُّ مِنَ الأَْجَل:؛ لأَِنَّهُ يَتَنَاوَل الْمُدَّةَ الْمَاضِيَةَ وَالْحَاضِرَةَ، وَالْمُسْتَقْبَلَةَ، وَالأَْجَل لاَ يَتَنَاوَل إِلاَّ الْمُسْتَقْبَلَةَ.

ب - الْمِيقَاتُ:
3 - الْمِيقَاتُ فِي اللُّغَةِ، كَمَا جَاءَ فِي الصِّحَاحِ: الْوَقْتُ الْمَضْرُوبُ لِلْفِعْل وَالْمَوْضِعِ، وَجَاءَ فِي الْمِصْبَاحِ أَنَّهُ الْوَقْتُ، وَالْجَمْعُ مَوَاقِيتُ، وَقَدِ اُسْتُعِيرَ الْوَقْتُ لِلْمَكَانِ، وَمِنْهُ مَوَاقِيتُ الْحَجِّ لِمَوَاضِعِ الإِْحْرَامِ. (2)
وَاصْطِلاَحًا: مَا قُدِّرَ فِيهِ عَمَلٌ مِنَ الأَْعْمَال. (3) سَوَاءٌ أَكَانَ زَمَنًا أَمْ مَكَانًا، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّارِيخِ.

حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - قَدْ يَكُونُ التَّأْرِيخُ وَاجِبًا، إِذَا تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِلْوُصُول إِلَى مَعْرِفَةِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، كَتَوْرِيثٍ، وَقِصَاصٍ، وَقَبُول رِوَايَةٍ، وَتَنْفِيذِ عَهْدٍ، وَقَضَاءِ دَيْنٍ، وَمَا إِلَى ذَلِكَ.
__________
(1) المصباح مادة: " أجل "، وانظر مصطلح (أجل) .
(2) الصحاح، والمصباح مادة: " وقت ".
(3) الكليات 4 / 306 ط دمشق.

(10/27)


التَّأْرِيخُ قَبْل الإِْسْلاَمِ:
5 - لَمْ يَكُنْ لِلْعَرَبِ قَبْل الإِْسْلاَمِ تَأْرِيخٌ يَجْمَعُهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَتْ كُل طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تُؤَرِّخُ بِالْحَادِثَةِ الْمَشْهُورَةِ فِيهَا.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ بَنِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانُوا يُؤَرِّخُونَ مِنْ نَارِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى بُنْيَانِ الْبَيْتِ، حِينَ بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيل عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، ثُمَّ أَرَّخَ بَنُو إِسْمَاعِيل مِنْ بُنْيَانِ الْبَيْتِ حَتَّى تَفَرَّقُوا، فَكَانَ كُلَّمَا خَرَجَ قَوْمٌ مِنْ تِهَامَةَ أَرَّخُوا بِمَخْرَجِهِمْ، وَمَنْ بَقِيَ بِتِهَامَةَ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيل يُؤَرِّخُونَ مِنْ خُرُوجِ سَعْدٍ وَنَهْدٍ وَجُهَيْنَةَ بَنِي زَيْدٍ، مِنْ تِهَامَةَ حَتَّى مَاتَ كَعْبُ بْنُ لُؤَيٍّ، وَأَرَّخُوا مِنْ مَوْتِهِ إِلَى الْفِيل، ثُمَّ كَانَ التَّارِيخُ مِنَ الْفِيل حَتَّى أَرَّخَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الْهِجْرَةِ. (1)
وَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِنَ الْعَرَبِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُؤَرِّخُونَ بِالأَْيَّامِ وَالْحَوَادِثِ الْمَشْهُورَةِ، كَحَرْبِ الْبَسُوسِ وَدَاحِسٍ وَالْغَبْرَاءِ، وَبِيَوْمِ ذِي قَارٍ، وَالْفُجَّارِ وَنَحْوِهِ.
أَمَّا قَبْل ذَلِكَ، وَفِي الْبِدَايَةِ عِنْدَمَا كَثُرَ بَنُو آدَمَ فِي الأَْرْضِ، فَإِنَّهُمْ أَرَّخُوا مِنْ هُبُوطِ آدَمَ إِلَى الطُّوفَانِ، ثُمَّ إِلَى نَارِ الْخَلِيل عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، ثُمَّ إِلَى زَمَانِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ
__________
(1) الكامل لابن الأثير 1 / 10 ط المنيرية، والإعلان بالتوبيخ للسخاوي ص 146 ط العلمية، وتهذيب ابن عساكر 1 / 22 ط دمشق.

(10/28)


إِلَى خُرُوجِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ مِصْرَ بِبَنِي إِسْرَائِيل، ثُمَّ إِلَى زَمَانِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ إِلَى زَمَانِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ إِلَى زَمَانِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَأَرَّخَتْ حِمْيَرُ بِالتَّبَابِعَةِ، وَغَسَّانُ بِالسَّدِّ، وَأَهْل صَنْعَاءَ بِظُهُورِ الْحَبَشَةِ عَلَى الْيَمَنِ، ثُمَّ بِغَلَبَةِ الْفُرْسِ (1) . وَأَرَّخَتِ الْفُرْسُ بِأَرْبَعِ طَبَقَاتٍ مِنْ مُلُوكِهَا، وَالرُّومُ بِقَتْل دَارَا بْنِ دَارَا إِلَى ظُهُورِ الْفُرْسِ عَلَيْهِمْ. وَأَرَّخَ الْقِبْطُ بِبُخْتَ نَصَّرَ إِلَى قِلاَبَطْرَةَ (كِلْيُوبَتْرَا) صَاحِبَةِ مِصْرَ. وَالْيَهُودُ أَرَّخُوا بِخَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَالنَّصَارَى بِرَفْعِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. (2)

سَبَبُ وَضْعِ التَّارِيخِ الْهِجْرِيِّ:
6 - يُرْوَى أَنَّ أَبَا مُوسَى الأَْشْعَرِيَّ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ: أَنْ يَأْتِيَنَا مِنْكَ كُتُبٌ لَيْسَ لَهَا تَارِيخٌ، فَجَمَعَ عُمَرُ النَّاسَ، فَقَال بَعْضُهُمْ: أَرِّخْ بِالْمَبْعَثِ، وَبَعْضُهُمْ: أَرِّخْ بِالْهِجْرَةِ، فَقَال عُمَرُ: الْهِجْرَةُ فَرَّقَتْ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِل فَأَرِّخُوا بِهَا، وَذَلِكَ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ، فَلَمَّا اتَّفَقُوا قَالُوا: ابْدَءُوا
__________
(1) الإعلان للسخاوي / 146 و147 ط. العلمية.
(2) الإعلان للسخاوي / 147 - 148 ط. العلمية، وانظر ما ذكره ابن عساكر في تاريخه 1 / 19 - 22 ط. دمشق.

(10/28)


بِرَمَضَانَ، فَقَال عُمَرُ: بَل بِالْمُحَرَّمِ، فَإِنَّهُ مُنْصَرَفُ النَّاسِ مِنْ حَجِّهِمْ، فَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ (1) .
هَذَا وَلاَ يَخْفَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ احْتَاجُوا إِلَى التَّأْرِيخِ لِضَبْطِ أُمُورِهِمُ الدِّينِيَّةِ كَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَعِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَالنُّذُورِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالأَْوْقَاتِ، وَلِضَبْطِ أُمُورِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ كَالْمُدَايَنَاتِ وَالإِْجَارَاتِ وَالْمَوَاعِيدِ وَمُدَّةِ الْحَمْل وَالرَّضَاعِ. (2)

التَّأْرِيخُ بِالسَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ، وَهُوَ التَّأْرِيخُ غَيْرُ الْهِجْرِيِّ:
7 - السَّنَةُ الشَّمْسِيَّةُ تَتَّفِقُ مَعَ السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ فِي عَدَدِ الشُّهُورِ، وَتَخْتَلِفُ مَعَهَا فِي عَدَدِ الأَْيَّامِ، إِذْ تَزِيدُ أَيَّامُهَا عَلَى أَيَّامِ السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ بِأَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا تَقْرِيبًا. (3)
وَقَدِ اعْتَمَدَ عَلَيْهَا الرُّومُ وَالسُّرْيَانُ وَالْفُرْسُ وَالْقِبْطُ فِي تَأْرِيخِهِمْ. فَهُنَاكَ السَّنَةُ الرُّومِيَّةُ، وَالسَّنَةُ السُّرْيَانِيَّةُ، وَالسَّنَةُ الْفَارِسِيَّةُ، وَالسَّنَةُ الْقِبْطِيَّةُ، وَهَذِهِ السُّنُونَ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَّفِقَةً فِي عَدَدِ
__________
(1) فتح الباري 7 / 268 ط الرياض. والكامل لابن الأثير1 / 9 ط المنيرية. والإعلان للسخاوي ص 140 - 141 ط العلمية.
(2) تفسير فخر الرازي 5 / 135 ط البهية.
(3) التعريفات للجرجاني / 122 ط العلمية.

(10/29)


شُهُورِ كُل سَنَةٍ مِنْهَا، إِلاَّ أَنَّهَا تَخْتَلِفُ فِي أَسْمَاءِ تِلْكَ الشُّهُورِ وَعَدَدِ أَيَّامِهَا وَأَسْمَاءِ الأَْيَّامِ، وَفِي مَوْعِدِ بَدْءِ كُل سَنَةٍ مِنْهَا. (1)

حُكْمُ اسْتِعْمَال التَّأْرِيخِ غَيْرِ الْهِجْرِيِّ فِي الْمُعَامَلاَتِ:
8 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ إِذَا اسْتَعْمَلاَ التَّأْرِيخَ غَيْرَ الْهِجْرِيِّ فِي الْمُعَامَلاَتِ تَنْتَفِي الْجَهَالَةُ وَيَصِحُّ الْعَقْدُ، إِذَا كَانَ ذَلِكَ التَّأْرِيخُ مَعْلُومًا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، كَأَنْ يُؤَرَّخَ بِشَهْرٍ مِنْ أَشْهُرِ الرُّومِ، كَكَانُونَ، وَشُبَاطَ؛ لأَِنَّ تِلْكَ الشُّهُورَ مَعْلُومَةٌ مَضْبُوطَةٌ، أَوْ يُؤَرَّخَ بِفِطْرِ النَّصَارَى بَعْدَمَا شَرَعُوا فِي صَوْمِهِمْ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ مَعْلُومًا، أَمَّا إِذَا أُرِّخَ بِتَأْرِيخٍ قَدْ لاَ يَعْرِفُهُ الْمُسْلِمُونَ، مِثْل أَنْ يُؤَرَّخَ بَعِيدٍ مِنْ أَعْيَادِ الْكُفَّارِ، كَالنَّيْرُوزِ وَالْمِهْرَجَانِ، وَفِصْحِ النَّصَارَى، وَصَوْمِهِمُ الْمِيلاَدَ، وَفِطْرِ الْيَهُودِ، وَالشَّعَانِينِ، فَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْبَيْعِ إِلَى تِلْكَ الأَْوْقَاتِ: أَنَّهُ يَصِحُّ إِذَا عَلِمَ الْمُتَعَاقِدَانِ ذَلِكَ، وَلاَ يَصِحُّ مَعَ جَهْلِهِمَا وَمَعْرِفَةِ غَيْرِهِمَا بِهِ؛ لأَِنَّهُ يُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ. (2) وَصَحَّحَ
__________
(1) انظر التفصيل في مروج الذهب للمسعودي 1 / 349 - 354 ط البهية.
(2) تبيين الحقائق مع حاشية الشلبي 4 / 59 ط دار المعرفة، وابن عابدين 4 / 119 ط المصرية، وفتح القدير مع العناية 5 / 222 ط الأميرية، والبحر الرائق 6 / 95 - 96 ط الأولى العلمية.

(10/29)


الْمَالِكِيَّةُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ تِلْكَ الأَْيَّامَ إِنْ كَانَتْ مَعْلُومَةً فَإِنَّهَا تَكُونُ كَالْمَنْصُوصَةِ (1) . وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ كَمَا جَاءَ فِي الرَّوْضَةِ أَنَّ التَّأْقِيتَ بِالنَّيْرُوزِ وَالْمِهْرَجَانِ مُجْزِئٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِي وَجْهٍ: لاَ يَصِحُّ لِعَدَمِ انْضِبَاطِ وَقْتِهِمَا.، أَمَّا التَّأْرِيخُ بِفِصْحِ النَّصَارَى فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ، وَتَمَسَّكَ بِظَاهِرِهِ بَعْضُ الأَْصْحَابِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ اجْتِنَابًا لِمَوَاقِيتِ الْكُفَّارِ، وَقَال جُمْهُورُ الأَْصْحَابِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنِ اخْتَصَّ بِمَعْرِفَتِهِ الْكُفَّارُ لَمْ يَصِحَّ؛ لأَِنَّهُ لاَ اعْتِمَادَ عَلَى قَوْلِهِمْ، وَإِنْ عَرَفَهُ الْمُسْلِمُونَ جَازَ كَالنَّيْرُوزِ، ثُمَّ اعْتَبَرَ جَمَاعَةٌ فِيهِمَا مَعْرِفَةَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَقَال أَكْثَرُ الأَْصْحَابِ: يَكْفِي مَعْرِفَةُ النَّاسِ، وَسَوَاءٌ اعْتَبَرْنَا مَعْرِفَتَهُمَا أَمْ لاَ، فَلَوْ عَرَفَا كَفَى عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِي وَجْهٍ يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ عَدْلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سِوَاهُمَا؛ لأَِنَّهُمَا قَدْ يَخْتَلِفَانِ فَلاَ بُدَّ مِنْ مُرَجِّحٍ، وَفِي مَعْنَى الْفِصْحِ سَائِرُ أَعْيَادِ أَهْل الْمِلَل كَفِطْرِ الْيَهُودِ وَنَحْوِهِ. (2)
__________
(1) مواهب الجليل 4 / 529 ط النجاح، والخرشي 5 / 210 ط دار صادر، والزرقاني 5 / 212 ط دار الفكر، وحاشية الدسوقي 3 / 205 ط الفكر، وجواهر الإكليل 2 / 69 ط دار المعرفة.
(2) الروضة 4 / 8 ط المكتب الإسلامي، وحاشية قليوبي 2 / 247 ط الحلبي، ونهاية المحتاج 4 / 187 ط المكتبة الإسلامية وتحفة المحتاج 5 / 12 ط دار صادر والمهذب 1 / 306 ط دار المعرفة، وأسنى المطالب 2 / 125 ط المكتبة الإسلامية.

(10/30)


وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ التَّأْرِيخِ بِغَيْرِ الشُّهُورِ الْهِلاَلِيَّةِ، كَالشُّهُورِ الرُّومِيَّةِ، وَأَعْيَادِ الْكُفَّارِ، فَإِنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ يَصِحُّ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِذَا عَرَفَ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ، وَقَدِ اخْتَارَ هَذَا الْقَوْل جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْقَاضِي، وَقَدَّمَهُ صَاحِبُ الْكَافِي وَالرِّعَايَتَيْنِ وَالْحَاوِيَيْنِ وَالْفُرُوعِ وَغَيْرِهِمْ. وَقِيل: لاَ يَصِحُّ كَالشَّعَانِينِ وَعِيدِ الْفَطِيرِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا يَجْهَلُهُ الْمُسْلِمُونَ غَالِبًا، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ وَابْنِ أَبِي مُوسَى وَابْنِ عَبْدُوسٍ فِي تَذْكِرَتِهِ، حَيْثُ قَالُوا بِالأَْهِلَّةِ. (1)

مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
9 - يُبْحَثُ عَنِ الأَْحْكَامِ الْخَاصَّةِ بِمُصْطَلَحِ التَّأْرِيخِ فِي مُصْطَلَحِ (أَجَلٌ) وَمُصْطَلَحِ (تَأْقِيتٍ) لأَِنَّ الْفُقَهَاءَ فِي الْغَالِبِ لاَ يَذْكُرُونَ فِي كُتُبِهِمْ لَفْظَ التَّأْرِيخِ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُونَ لَفْظَ الأَْجَل، وَلَفْظَ التَّأْقِيتِ، فَكُل مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّصَرُّفَاتِ مِنَ التَّأْقِيتِ أَوِ التَّأْجِيل يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى هَذَيْنِ الْمُصْطَلَحَيْنِ (الأَْجَل وَالتَّأْقِيتِ) .
__________
(1) الإنصاف 5 / 100 - 101 ط التراث، والمغني 4 / 324 - 325 ط الرياض، وكشاف القناع 3 / 301 ط النصر.

(10/30)


تَأْقِيتٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - التَّأْقِيتُ أَوِ التَّوْقِيتُ: مَصْدَرُ أَقَّتَ أَوْ وَقَّتَ بِتَشْدِيدِ الْقَافِ، فَالْهَمْزَةُ فِي الْمَصْدَرِ وَالْفِعْل مُبْدَلَةٌ مِنَ الْوَاوِ، وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: تَحْدِيدُ الأَْوْقَاتِ، وَهُوَ يَتَنَاوَل الشَّيْءَ الَّذِي قَدَّرْتَ لَهُ حِينًا أَوْ غَايَةً. وَتَقُول: وَقَّتُّهُ لِيَوْمِ كَذَا مِثْل أَجَّلْتُهُ. (1)
وَقَال فِي الْقَامُوسِ فِي بَيَانِ مَعْنَى الْوَقْتِ: وَأَنَّهُ يُسْتَعْمَل بِمَعْنَى تَحْدِيدِ الأَْوْقَاتِ كَالتَّوْقِيتِ، وَالْوَقْتُ الْمِقْدَارُ مِنَ الدَّهْرِ. (2) وَقَال فِي الصِّحَاحِ: وَقَّتُّهُ فَهُوَ مَوْقُوتٌ، إِذَا بَيَّنَ لِلْفِعْل وَقْتًا يُفْعَل فِيهِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (3) . أَيْ مَفْرُوضًا فِي الأَْوْقَاتِ. (4) وَقَدِ اُسْتُعِيرَ الْوَقْتُ لِلْمَكَانِ، وَمِنْهُ مَوَاقِيتُ الْحَجِّ لِمَوَاضِعِ الإِْحْرَامِ. (5)
__________
(1) لسان العرب والقاموس والصحاح مادة: " وقت ".
(2) القاموس المحيط.
(3) سورة النساء / 103.
(4) الصحاح.
(5) المصباح المنير.

(10/31)


وَالتَّأْقِيتُ فِي الاِصْطِلاَحِ: تَحْدِيدُ وَقْتِ الْفِعْل ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً، وَالتَّأْقِيتُ قَدْ يَكُونُ مِنَ الشَّارِعِ فِي الْعِبَادَاتِ مَثَلاً، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الأَْجَل:
2 - أَجَل الشَّيْءِ فِي اللُّغَةِ، كَمَا جَاءَ فِي الْمِصْبَاحِ: مُدَّتُهُ وَوَقْتُهُ الَّذِي يَحِل فِيهِ. (2) وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ: الْمُدَّةُ الْمُسْتَقْبَلَةُ الَّتِي يُضَافُ إِلَيْهَا أَمْرٌ مِنَ الأُْمُورِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ هَذِهِ الإِْضَافَةُ أَجَلاً لِلْوَفَاءِ بِالْتِزَامٍ، أَوْ أَجَلاً لإِِنْهَاءِ الْتِزَامٍ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ مُقَرَّرَةً بِالشَّرْعِ، أَوْ بِالْقَضَاءِ، أَوْ بِإِرَادَةِ الْمُلْتَزِمِ فَرْدًا أَوْ أَكْثَرَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّأْقِيتِ وَاضِحٌ، فَإِنَّ التَّصَرُّفَاتِ فِي التَّأْقِيتِ تَثْبُتُ فِي الْحَال غَالِبًا وَتَنْتَهِي فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ (3) .

ب - الإِْضَافَةُ:
3 - الإِْضَافَةُ فِي اللُّغَةِ تَأْتِي لِمَعَانٍ مِنْهَا: الإِْسْنَادُ، وَالتَّخْصِيصُ. (4)
__________
(1) الكليات لأبي البقاء الكفوي 2 / 103 ط دمشق، وانظر جامع الفصولين 2 / 7 ط العامرة.
(2) المصباح المنير مادة: " أجل ".
(3) انظر الموسوعة الفقهية مصطلح: " أجل ".
(4) الصحاح للجوهري، والقاموس المحيط والمصباح المنير مادة " ضيف ".

(10/31)


وَيَسْتَعْمِلُهَا الْفُقَهَاءُ بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ، كَمَا يَسْتَعْمِلُونَهَا أَيْضًا بِمَعْنَى إِضَافَةِ الْحُكْمِ إِلَى الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَل، أَيْ إِرْجَاءِ نَفَاذِ حُكْمِ التَّصَرُّفِ إِلَى الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَل الَّذِي حَدَّدَهُ الْمُتَصَرِّفُ بِغَيْرِ كَلِمَةِ شَرْطٍ. (1)
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ التَّأْقِيتِ: أَنَّ التَّصَرُّفَاتِ فِي التَّأْقِيتِ تَثْبُتُ فِي الْحَال، وَتَنْتَهِي فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، بِخِلاَفِ الإِْضَافَةِ، فَإِنَّهَا تُؤَخِّرُ تَرَتُّبَ الْحُكْمِ عَلَى السَّبَبِ إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ السَّبَبُ (2) .

ج - التَّأْبِيدُ:
4 - التَّأْبِيدُ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهُ: التَّخْلِيدُ أَوِ التَّوَحُّشُ كَمَا جَاءَ فِي الصِّحَاحِ. (3) وَقَال فِي الْمِصْبَاحِ: فَإِذَا قُلْتَ: لاَ أُكَلِّمُهُ أَبَدًا، فَالأَْبَدُ مِنْ لَدُنْ تَكَلَّمْتَ إِلَى آخِرِ عُمْرِكَ. (4) وَأَمَّا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَيُعْرَفُ مِنَ اسْتِعْمَالاَتِهِمْ: أَنَّهُ تَقْيِيدُ صِيغَةِ التَّصَرُّفَاتِ بِالأَْبَدِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّأْبِيدِ وَالتَّأْقِيتِ وَاضِحٌ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ التَّصَرُّفُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا ثَابِتًا فِي الْحَال، إِلاَّ
__________
(1) العناية على الهداية صدر هامش فتح القدير 3 / 61 ط دار صادر.
(2) تيسير التحرير 1 / 129 ط الحلبي، وانظر مصطلح (إضافة) .
(3) الصحاح مادة " أبد ".
(4) المصباح المنير مادة: " أبد ".

(10/32)


أَنَّ التَّصَرُّفَاتِ فِي التَّأْقِيتِ مُقَيَّدَةٌ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ يَنْتَهِي أَثَرُهَا عِنْدَهُ، بِخِلاَفِ التَّأْبِيدِ. وَلِلتَّوَسُّعِ ر: (تَأْبِيدٌ) .

د - التَّأْجِيل:
5 - التَّأْجِيل فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ أَجَّل - بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ - وَمَعْنَاهُ: أَنْ تَجْعَل لِلشَّيْءِ أَجَلاً، وَأَجَل الشَّيْءِ: مُدَّتُهُ وَوَقْتُهُ الَّذِي يَحِل فِيهِ. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ مَعْنَاهُ: تَأْخِيرُ الثَّابِتِ فِي الْحَال إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، كَتَأْجِيل الْمُطَالَبَةِ بِالثَّمَنِ إِلَى مُضِيِّ شَهْرٍ مَثَلاً، وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّأْجِيل وَالتَّأْقِيتِ: أَنَّ التَّأْقِيتَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ثُبُوتُ التَّصَرُّفِ فِي الْحَال، بِخِلاَفِ التَّأْجِيل فَإِنَّهُ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ (2) .

هـ - التَّعْلِيقُ:
6 - التَّعْلِيقُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ - كَمَا قَال ابْنُ نُجَيْمٍ -: رَبْطُ حُصُول مَضْمُونِ جُمْلَةٍ بِحُصُول مَضْمُونِ جُمْلَةٍ أُخْرَى. (3)
وَفَسَّرَهُ الْحَمَوِيُّ بِأَنَّهُ تَرْتِيبُ أَمْرٍ لَمْ يُوجَدْ عَلَى
__________
(1) المصباح المنير مادة: " أجل ".
(2) الكليات لأبي البقاء الكفوي 2 / 103 ط دمشق.
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 367 ط دار مكتبة الهلال بيروت.

(10/32)


أَمْرٍ سَيُوجَدُ، بِإِنْ أَوْ إِحْدَى أَدَوَاتِ الشَّرْطِ الأُْخْرَى. (1) وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّعْلِيقِ وَالتَّأْقِيتِ: أَنَّ التَّأْقِيتَ تَثْبُتُ فِيهِ التَّصَرُّفَاتُ فِي الْحَال، فَلاَ يَمْنَعُ تَرَتُّبَ الْحُكْمِ عَلَى السَّبَبِ، بِخِلاَفِ التَّعْلِيقِ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ الْمُعَلَّقَ عَنْ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلْحُكْمِ فِي الْحَال. ر: (تَعْلِيقٌ) .

أَثَرُ التَّأْقِيتِ فِي التَّصَرُّفَاتِ:
7 - التَّصَرُّفَاتُ مِنْ حَيْثُ قَبُولُهَا التَّأْقِيتَ أَوْ عَدَمُ قَبُولِهَا لَهُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ هِيَ: تَصَرُّفَاتٌ لاَ تَقَعُ إِلاَّ مُؤَقَّتَةً كَالإِْجَارَةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُكَاتَبَةِ، وَتَصَرُّفَاتٌ لاَ تَصِحُّ مُؤَقَّتَةً كَالْبَيْعِ وَالرَّهْنِ وَالْهِبَةِ وَالنِّكَاحِ، وَتَصَرُّفَاتٌ تَكُونُ مُؤَقَّتَةً وَغَيْرَ مُؤَقَّتَةٍ كَالْعَارِيَّةِ وَالْكَفَالَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْوَقْفِ وَغَيْرِهَا، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أَوَّلاً: التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي لاَ تَقَعُ إِلاَّ مُؤَقَّتَةً
أ - الإِْجَارَةُ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الإِْجَارَةَ لاَ تَصِحُّ إِلاَّ مُؤَقَّتَةً بِمُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَوْ بِوُقُوعِهَا عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ.
فَمِنَ الأَْوَّل: إِجَارَةُ الأَْرْضِ أَوِ الدُّورِ أَوِ الدَّوَابِّ، وَالأَْجِيرُ الْخَاصُّ.
__________
(1) الحموي على ابن نجيم 2 / 225 ط العامرة.

(10/33)


وَمِنَ الثَّانِي: الاِسْتِئْجَارُ عَلَى عَمَلٍ كَخِيَاطَةِ ثَوْبٍ مَثَلاً، وَهُوَ الأَْجِيرُ الْمُشْتَرَكُ. (1)

ب - الْمُزَارَعَةُ وَالْمُسَاقَاةُ:
9 - ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الْمُزَارَعَةِ، خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، فَقَدْ قَالاَ بِجَوَازِهَا، وَأَنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهَا بَيَانَ الْمُدَّةِ، فَهِيَ مِنَ الْعُقُودِ الْمُؤَقَّتَةِ عِنْدَهُمَا. (2) وَأَمَّا الْمُسَاقَاةُ فَلاَ يُشْتَرَطُ تَوْقِيتُهَا عِنْدَهُمَا، فَإِنْ تُرِكَ تَأْقِيتُهَا جَازَتِ اسْتِحْسَانًا؛ لأَِنَّ وَقْتَ إِدْرَاكِ الثَّمَرِ مَعْلُومٌ. (3) وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِذِكْرِ التَّأْقِيتِ فِي الْمُزَارَعَةِ، فَتَصِحُّ عِنْدَهُمْ بِلاَ تَقْدِيرِ مُدَّةٍ. (4) وَأَمَّا الْمُسَاقَاةُ عِنْدَهُمْ فَإِنَّهَا تُؤَقَّتُ بِالْجُذَاذِ، أَيْ: جَنْيِ الثَّمَرِ، حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُمْ يَرَى فَسَادَهَا
__________
(1) الفتاوى الهندية 4 / 411 ط المكتبة الإسلامية، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 4 / 12 ط دار الفكر، ومواهب الجليل 5 / 410 ط مكتبة النجاح، وجواهر الإكليل 2 / 187 ط دار المعرفة، وحاشية قليوبي 3 / 67 ط الحلبي، والروضة 5 / 173 و 196 ط المكتب الإسلامي، وكشاف القناع 4 / 5، 11 ط النصر. وانظر مصطلح (إجارة) .
(2) تبيين الحقائق 5 / 278 ط دار المعرفة.
(3) تبيين الحقائق 5 / 284.
(4) حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 3 / 372، 377 ط دار الفكر، وجواهر الإكليل 2 / 123، 125 ط دار المعرفة.

(10/33)


إِنْ أُطْلِقَتْ وَلَمْ تُؤَقَّتْ، أَوْ أُقِّتَتْ بِوَقْتٍ يَزِيدُ عَلَى الْجُذَاذِ، وَيَرَى ابْنُ الْحَاجِبِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهَا إِنْ أُطْلِقَتْ صَحَّتْ وَحُمِلَتْ عَلَى الْجُذَاذِ، وَذَكَرَ صَاحِبُ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ: أَنَّ التَّأْقِيتَ لَيْسَ شَرْطًا فِي صِحَّتِهَا، وَغَايَةُ مَا فِي الأَْمْرِ أَنَّهَا إِنْ أُقِّتَتْ فَإِنَّهَا تُؤَقَّتُ بِالْجُذَاذِ. (1)
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ إِذَا أُفْرِدَتْ بِالْعَقْدِ فَلاَ بُدَّ فِيهَا مِنْ تَقْرِيرِ الْمُدَّةِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ تَابِعَةً لِلْمُسَاقَاةِ فَإِنَّ مَا يَجْرِي عَلَى الْمُسَاقَاةِ يَجْرِي عَلَيْهَا. (2)
وَأَمَّا الْمُسَاقَاةُ فَإِنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهَا عِنْدَهُمْ أَنْ تَكُونَ مُؤَقَّتَةً، إِذْ يُشْتَرَطُ فِيهَا مَعْرِفَةُ الْعَمَل بِتَقْدِيرِ الْمُدَّةِ كَسَنَةٍ. (3)
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلاَ يَشْتَرِطُونَ لِصِحَّةِ الْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ التَّأْقِيتَ، بَل تَصِحُّ مُؤَقَّتَةً وَغَيْرَ مُؤَقَّتَةٍ، فَلَوْ زَارَعَهُ أَوْ سَاقَاهُ دُونَ أَنْ يَذْكُرَ مُدَّةً جَازَ؛ لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَضْرِبْ لأَِهْل خَيْبَرَ مُدَّةً. (4) وَكَذَا خُلَفَاؤُهُ مِنْ بَعْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلِكُلٍّ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ فَسْخُهَا مَتَى
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 542.
(2) روضة الطالبين 5 / 170.
(3) روضة الطالبين 5 / 156، وحاشية قليوبي 3 / 64 ط الحلبي.
(4) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضرب لأهل خيبر مدة. . . " أخرجه البخاري في صحيحه (الفتح 5 / 10) ط السلفية. ومسلم (3 / 1186) ط عيسى البابي الحلبي.

(10/34)


شَاءَ، فَإِنْ كَانَ الْفَسْخُ مِنْ رَبِّ الْمَال قَبْل ظُهُورِ الثَّمَرِ وَبَعْدَ شُرُوعِ الْعَامِل بِالْعَمَل فَعَلَيْهِ لِلْعَامِل أُجْرَةُ مِثْل عَمَلِهِ. وَإِنْ فَسَخَ الْعَامِل قَبْل ظُهُورِ الثَّمَرِ فَلاَ شَيْءَ لَهُ. (1)
ثَانِيًا: التَّصَرُّفَاتُ غَيْرُ الْمُؤَقَّتَةِ
وَهِيَ تِلْكَ التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي لاَ تَقْبَل التَّأْقِيتَ، أَيْ: أَنَّ التَّأْقِيتَ يُفْسِدُهَا، (2) وَهِيَ الْبَيْعُ وَالرَّهْنُ وَالْهِبَةُ وَالنِّكَاحُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مَا يَلِي:

أ - الْبَيْعُ:
10 - الْبَيْعُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مُقَابَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ لاَ يَقْبَل التَّأْقِيتَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ الْعَامَّةِ أَلاَّ يَكُونَ مُؤَقَّتًا (3) . ر: (بَيْعٌ) . وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي أَشْبَاهِهِ أَنَّ الْبَيْعَ لاَ يَقْبَل التَّأْقِيتَ بِحَالٍ، وَمَتَى أُقِّتَ بَطَل.
__________
(1) كشاف القناع 3 / 537 ط النصر، وانظر مصطلح (مزارعة) و (مساقاة) .
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص282 ط الحلبي.
(3) الفتاوى الهندية 33 / 3 ط المكتبة الإسلامية، ومغني المحتاج 2 / 3، والمغني مع الشرح الكبير 6 / 256 ط المنار، وانظر حاشية الدسوقي 3 / 76 - 78، وجواهر الإكليل 2 / 28، 29، ومواهب الجليل 4 / 388 - 404.

(10/34)


ب - الرَّهْنُ:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرَّهْنَ لاَ يَقْبَل التَّأْقِيتَ، وَمَتَى أُقِّتَ فَسَدَ؛ لأَِنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ كَمَا قَال الْحَنَفِيَّةُ: الْحَبْسُ الدَّائِمُ إِلَى انْتِهَاءِ الرَّهْنِ بِالأَْدَاءِ أَوِ الإِْبْرَاءِ. (1)
وَقَدْ ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ مَنْ رَهَنَ رَهْنًا عَلَى أَنَّهُ إِنْ مَضَتْ سَنَةٌ خَرَجَ مِنَ الرَّهْنِ، فَإِنَّ هَذَا لاَ يُعْرَفُ مِنْ رُهُونِ النَّاسِ، وَلاَ يَكُونُ رَهْنًا. (2)
وَالرَّهْنُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِنَّمَا شُرِعَ لِلاِسْتِيثَاقِ، فَتَأْقِيتُهُ بِمُدَّةٍ يُنَافِي ذَلِكَ. (3) وَالرَّهْنُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ يَقْبَل التَّأْقِيتَ أَيْضًا، فَقَدْ جَاءَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ الْمُتَعَاقِدَانِ تَأْقِيتَ الرَّهْنِ، بِأَنْ قَالاَ: هُوَ رَهْنٌ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، فَالشَّرْطُ فَاسِدٌ؛ لِمُنَافَاتِهِ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَالرَّهْنُ صَحِيحٌ. (4) ر: (رَهْنٌ) .

ج - الْهِبَةُ:
12 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْهِبَةَ لاَ تَقْبَل التَّأْقِيتَ؛ لأَِنَّهَا كَمَا قَال الْحَنَفِيَّةُ: تَمْلِيكٌ لِلْعَيْنِ فِي
__________
(1) تبيين الحقائق 6 / 62، وحاشية ابن عابدين 5 / 323، وحاشية الطحطاوي على الدر المختار 4 / 245 ط دار المعرفة.
(2) المدونة 5 / 329 ط دار صادر، وجواهر الإكليل 2 / 80، ومواهب الجليل 5 / 8.
(3) حاشية قليوبي 2 / 261.
(4) كشاف القناع 3 / 350.

(10/35)


الْحَال بِلاَ عِوَضٍ، فَلاَ تَحْتَمِل التَّأْقِيتَ قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ. (1) وَلأَِنَّ تَأْقِيتَهَا أَوْ تَأْجِيلَهَا يُؤَدِّي إِلَى الْغَرَرِ كَمَا قَال الْمَالِكِيَّةُ. (2) وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّ الْهِبَةَ لاَ تَقْبَل التَّعْلِيقَ عَلَى الشَّرْطِ، وَلاَ تَقْبَل التَّأْقِيتَ عَلَى الْمَذْهَبِ. (3) وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ كَمَا جَاءَ فِي الْمُغْنِي أَنَّهُ لَوْ وَقَّتَ لِهِبَةٍ بِأَنْ قَال: وَهَبْتُكَ هَذَا سَنَةً ثُمَّ يَعُودُ إِلَيَّ لَمْ يَصِحَّ؛ لأَِنَّهُ عَقْدُ تَمْلِيكٍ لِعَيْنٍ فَلَمْ يَصِحَّ مُؤَقَّتًا كَالْبَيْعِ (4) .

الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى:
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْعُمْرَى، إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي قَبُولِهَا التَّأْقِيتَ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ، وَأَحْمَدُ إِلَى جَوَازِ الْعُمْرَى لِلْمُعْمَرِ لَهُ حَال حَيَاتِهِ، وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ. وَصُورَةُ الْعُمْرَى: أَنْ يَجْعَل دَارَهُ لِلْغَيْرِ مُدَّةَ عُمُرِهِ، وَإِذَا مَاتَ تُرَدُّ عَلَيْهِ، فَيَصِحُّ التَّمْلِيكُ لَهُ وَلِوَرَثَتِهِ، وَيَبْطُل شَرْطُ الْعُمُرِ الَّذِي يُفِيدُ التَّأْقِيتَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، أَمَّا عِنْدَ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ:
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 118 ط الجمالية.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 110.
(3) روضة الطالبين 5 / 366.
(4) المغني مع الشرح الكبير 6 / 56 ط المنار، وانظر مصطلح (هبة) .

(10/35)


فَالْعُمْرَى تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ لاَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ، وَيَكُونُ لِلْمُعْمَرِ لَهُ السُّكْنَى، فَإِذَا مَاتَ عَادَتِ الدَّارُ إِلَى الْمُعْمِرِ، فَالْعُمْرَى مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْمُؤَقَّتَةِ عِنْدَهُمْ. (1) أَمَّا الرُّقْبَى فَصُورَتُهَا أَنْ يَقُول الرَّجُل لِغَيْرِهِ: دَارِي لَكَ رُقْبَى، وَهِيَ بَاطِلَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، فَلاَ تُفِيدُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ عَارِيَّةً، يَجُوزُ لِلْمُعْمِرِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ وَيَبِيعَهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ؛ لأَِنَّهُ تَضَمَّنَ إِطْلاَقَ الاِنْتِفَاعِ، فَالرُّقْبَى عِنْدَهُمَا مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْمُؤَقَّتَةِ لأَِنَّهَا عَارِيَّةٌ. وَيَرَى الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو يُوسُفَ جَوَازَ الرُّقْبَى؛ لأَِنَّ قَوْلَهُ: " دَارِي لَكَ " تَمْلِيكٌ، وَقَوْلَهُ " رُقْبَى " شَرْطٌ فَاسِدٌ فَيَلْغُو. فَكَأَنَّهُ قَال: رَقَبَةُ دَارِي لَكَ.، فَصَارَتِ الرُّقْبَى عِنْدَهُمْ كَالْعُمْرَى فِي الْجَوَازِ، فَهِيَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي لاَ تَقْبَل التَّأْقِيتَ، وَالرُّقْبَى لَمْ يُجِزْهَا الإِْمَامُ مَالِكٌ (2) . وَلِلتَّفْصِيل ر: (عُمْرَى، رُقْبَى) .
__________
(1) البناية 7 / 760، والحطاب 6 / 61، والإقناع للشربيني2 / 34.
(2) العناية 7 / 514، والبناية 7 / 861، والإقناع للشربيني 2 / 34، والحطاب مع المواق 6 / 61.

(10/36)


د - النِّكَاحُ:
14 - النِّكَاحُ لاَ يَقْبَل التَّأْقِيتَ اتِّفَاقًا، فَالنِّكَاحُ الْمُؤَقَّتُ غَيْرُ جَائِزٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِلَفْظِ الْمُتْعَةِ أَمْ بِلَفْظِ التَّزْوِيجِ، كَمَا صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِمَنْعِ ذِكْرِ الأَْجَل مَهْمَا طَال. (1)
وَالنِّكَاحُ الْمُؤَقَّتُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بَاطِلٌ، سَوَاءٌ قُيِّدَ بِمُدَّةٍ مَجْهُولَةٍ أَوْ مَعْلُومَةٍ؛ لأَِنَّهُ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ، وَهُوَ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ. (2) ر: (نِكَاحٌ) .

الْفَرْقُ بَيْنَ النِّكَاحِ الْمُؤَقَّتِ وَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ:
15 - يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، فَنِكَاحُ الْمُتْعَةِ هُوَ الَّذِي يَكُونُ بِلَفْظِ التَّمَتُّعِ، كَأَنْ يَقُول لَهَا: أُعْطِيكِ كَذَا عَلَى أَنْ أَتَمَتَّعَ بِكِ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. (3)
وَأَمَّا النِّكَاحُ الْمُؤَقَّتُ فَهُوَ الَّذِي يَكُونُ بِلَفْظِ التَّزْوِيجِ وَالنِّكَاحِ، وَمَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا، وَيُقَيَّدُ بِمُدَّةٍ، كَأَنْ يَقُول لَهَا: أَتَزَوَّجُكِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَال زُفَرُ:
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 272، 273، وابن عابدين 2 / 293، ومواهب الجليل 3 / 446، وحاشية الدسوقي 2 / 238، وجواهر الإكليل 1 / 284.
(2) الروضة 7 / 42، وكشاف القناع 5 / 96، 97.
(3) بدائع الصنائع 2 / 272.

(10/36)


يَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَبْطُل التَّأْقِيتُ. هَذَا، وَلِتَأْقِيتِ النِّكَاحِ صُوَرٌ، كَأَنْ يَتَزَوَّجَهَا إِلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، أَوْ مَجْهُولَةٍ، أَوْ إِلَى مُدَّةٍ لاَ يَبْلُغُهَا عُمْرُهُمَا، أَوْ عُمْرُ أَحَدِهِمَا. وَسَيَأْتِي تَفْصِيل ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مُصْطَلَحِ (نِكَاحٌ) . (1)

إِضْمَارُ التَّأْقِيتِ فِي النِّكَاحِ:
16 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ إِضْمَارَ التَّأْقِيتِ فِي النِّكَاحِ لاَ يُؤَثِّرُ فِي صِحَّتِهِ وَلاَ يَجْعَلُهُ مُؤَقَّتًا، فَلَهُ تَزَوُّجُهَا وَفِي نِيَّتِهِ أَنْ يَمْكُثَ مَعَهَا مُدَّةً نَوَاهَا، فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ؛ لأَِنَّ التَّأْقِيتَ إِنَّمَا يَكُونُ بِاللَّفْظِ. (2)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّأْقِيتَ إِذَا لَمْ يَقَعْ فِي الْعَقْدِ، وَلَمْ يُعْلِمْهَا الزَّوْجُ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا قَصَدَهُ فِي نَفْسِهِ، وَفَهِمَتِ الْمَرْأَةُ أَوْ وَلِيُّهَا الْمُفَارَقَةَ بَعْدَ مُدَّةٍ فَإِنَّهُ لاَ يَضُرُّ، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ، وَإِنْ كَانَ بَهْرَامٌ صَدَّرَ فِي شَرْحِهِ وَفِي " شَامِلِهِ " بِالْفَسَادِ، إِذَا فَهِمَتْ مِنْهُ ذَلِكَ الأَْمْرَ الَّذِي قَصَدَهُ فِي نَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ لِلْمَرْأَةِ وَلاَ لِوَلِيِّهَا بِذَلِكَ، وَلَمْ تَفْهَمِ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 273، ومواهب الجليل 3 / 446، وحاشية العدوي على الرسالة 2 / 47، ومغني المحتاج 3 / 142، وكشاف القناع 5 / 96، 97. وانظر: الموسوعة الفقهية مصطلح " أجل " 2 / 31، 32.
(2) البحر الرائق 3 / 116، وابن عابدين 2 / 294، وتبيين الحقائق 2 / 115 - 116.

(10/37)


الْمَرْأَةُ مَا قَصَدَهُ فِي نَفْسِهِ، فَلَيْسَ نِكَاحَ مُتْعَةٍ. (1) وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِكَرَاهَةِ هَذَا النِّكَاحِ الَّذِي أُضْمِرَ فِيهِ التَّأْقِيتُ؛ لأَِنَّ كُل مَا لَوْ صُرِّحَ بِهِ أُبْطِل يَكُونُ إِضْمَارُهُ مَكْرُوهًا عِنْدَهُمْ. (2)
وَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الأَْصْحَابُ: أَنَّ إِضْمَارَ التَّأْقِيتِ فِي النِّكَاحِ كَاشْتِرَاطِهِ، فَيَكُونُ شَبِيهًا بِنِكَاحِ الْمُتْعَةِ فِي عَدَمِ الصِّحَّةِ. (3)
وَحَكَى صَاحِبُ الْفُرُوعِ عَنِ الشَّيْخِ ابْنِ قُدَامَةَ الْقَطْعَ بِصِحَّتِهِ مَعَ النِّيَّةِ. (4)
وَجَاءَ فِي الْمُغْنِي أَيْضًا أَنَّهُ إِنْ تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ شَرْطٍ، إِلاَّ أَنَّ فِي نِيَّتِهِ طَلاَقَهَا بَعْدَ شَهْرٍ، أَوْ إِذَا انْقَضَتْ حَاجَتُهُ فِي هَذَا الْبَلَدِ، فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ فِي قَوْل عَامَّةِ أَهْل الْعِلْمِ إِلاَّ الأَْوْزَاعِيَّ، قَال: هُوَ نِكَاحُ مُتْعَةٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِهِ، وَلاَ تَضُرُّ نِيَّتُهُ، وَلَيْسَ عَلَى الرَّجُل أَنْ يَنْوِيَ حَبْسَ امْرَأَتِهِ، وَحَسْبُهُ إِنْ وَافَقَتْهُ وَإِلاَّ طَلَّقَهَا. (5) .
__________
(1) الدسوقي 2 / 239.
(2) إعانة الطالبين 4 / 25.
(3) الإنصاف 8 / 163، وشرح منتهى الإرادات 3 / 43، وكشاف القناع 5 / 97 ط النصر.
(4) الفروع 5 / 215 ط عالم الكتب.
(5) المغني مع الشرح 7 / 573، وانظر مصطلح (أجل) في الموسوعة الفقهية 2 / 32 ف: 67.

(10/37)


ثَالِثًا: التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي تَكُونُ مُؤَقَّتَةً وَغَيْرَ مُؤَقَّتَةٍ
الْمُرَادُ بِهَا تِلْكَ التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي لاَ يُفْسِدُهَا التَّأْقِيتُ، كَالإِْيلاَءِ وَالظِّهَارِ وَالْعَارِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أ - الإِْيلاَءُ:
17 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الإِْيلاَءَ قَدْ يَقَعُ مُؤَقَّتًا أَوْ مُطْلَقًا (1) . وَتَفْصِيل أَحْكَامِهِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِيلاَءٌ) .

ب - الظِّهَارُ:
18 - الأَْصْل فِي الظِّهَارِ إِنْ أَطْلَقَهُ أَنْ يَقَعَ مُؤَبَّدًا، فَإِنْ أَقَّتَهُ كَأَنْ يُظَاهِرَ مِنْ زَوْجَتِهِ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْل الأَْظْهَرِ إِلَى أَنَّهُ يَقَعُ مُؤَقَّتًا، وَلاَ يَكُونُ الْمُظَاهِرُ عَائِدًا إِلاَّ بِالْوَطْءِ فِي الْمُدَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَقْرَبْهَا حَتَّى مَضَتِ الْمُدَّةُ سَقَطَتْ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ، وَبَطَل الظِّهَارُ عَمَلاً بِالتَّأْقِيتِ؛ لأَِنَّ التَّحْرِيمَ صَادَفَ ذَلِكَ الزَّمَنَ دُونَ غَيْرِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَنْقَضِيَ بِانْقِضَائِهِ،
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 476، وحاشية الدسوقي 2 / 428، وجواهر الإكليل 1 / 366، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 282، وحاشية قليوبي 4 / 12، وكشاف القناع 5 / 354، وانظر: تفسير القرطبي 3 / 107 ط دار الكتب المصرية.

(10/38)


وَلأَِنَّ الظِّهَارَ مُنْكَرٌ مِنَ الْقَوْل وَزُورٌ، فَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ كَالظِّهَارِ الْمُعَلَّقِ. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي غَيْرِ الأَْظْهَرِ إِلَى أَنَّ الظِّهَارَ لاَ يَقْبَل التَّأْقِيتَ، فَإِنْ قَيَّدَهُ بِوَقْتٍ تَأَبَّدَ كَالطَّلاَقِ، فَيُلْغَى تَقْيِيدُهُ، وَيَصِيرُ مُظَاهِرًا أَبَدًا لِوُجُودِ سَبَبِ الْكَفَّارَةِ، وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ ثَالِثٍ عِنْدَهُمْ أَنَّ الظِّهَارَ الْمُؤَقَّتَ لَغْوٌ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُؤَبِّدِ التَّحْرِيمَ فَأَشْبَهَ مَا إِذَا شَبَّهَهَا بِامْرَأَةٍ لاَ تَحْرُمُ عَلَى التَّأْبِيدِ. (2)

ج - الْعَارِيَّةُ:
19 - الْعَارِيَّةُ الَّتِي هِيَ تَمْلِيكٌ لِلْمَنَافِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، إمَّا أَنْ تَكُونَ مُؤَقَّتَةً بِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، وَتُسَمَّى حِينَئِذٍ الْعَارِيَّةَ الْمُقَيَّدَةَ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مُؤَقَّتَةٍ، وَتُسَمَّى الْعَارِيَّةَ الْمُطْلَقَةَ، وَهِيَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ مِنَ الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ، فَلِكُلٍّ مِنَ الْمُعِيرِ وَالْمُسْتَعِيرِ الرُّجُوعُ فِيهَا مَتَى شَاءَ، مُطْلَقَةً كَانَتْ أَوْ مُقَيَّدَةً، إِلاَّ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَالإِْعَارَةِ لِلدَّفْنِ أَوِ الْبِنَاءِ أَوِ الْغِرَاسِ. (3) وَلِلتَّفْصِيل ر: (إِعَارَةٌ) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 507، ومغني المحتاج 3 / 357، وكشاف القناع 5 / 373.
(2) جواهر الإكليل 1 / 371، ومغني المحتاج 3 / 357، وانظر مصطلح (ظهار) .
(3) الفتاوى الهندية 4 / 363، وتبيين الحقائق 5 / 88 والروضة 4 / 436، 437، وحاشية قليوبي 3 / 21، 22، وكشاف القناع 4 / 62.

(10/38)


وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْعَارِيَّةَ إِذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِعَمَلٍ كَزِرَاعَةِ أَرْضٍ بَطْنًا (زَرْعَةً وَاحِدَةً) أَوْ بِوَقْتٍ كَسُكْنَى دَارٍ شَهْرًا مَثَلاً، فَإِنَّهَا تَكُونُ لاَزِمَةً إِلَى انْقِضَاءِ ذَلِكَ الْعَمَل أَوِ الْوَقْتِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُقَيَّدَةً بِعَمَلٍ وَلاَ بِوَقْتٍ فَإِنَّهَا تَلْزَمُ إِلَى انْقِضَاءِ مُدَّةٍ يُنْتَفَعُ فِيهَا بِمِثْلِهَا عَادَةً؛ لأَِنَّ الْعَادَةَ كَالشَّرْطِ، فَإِنِ انْتَفَى الْمُعْتَادُ مَعَ عَدَمِ التَّقْيِيدِ بِالْعَمَل أَوِ الْوَقْتِ فَقَدْ ذَكَرَ اللَّخْمِيُّ أَنَّ لِلْمُعِيرِ الْخِيَارَ فِي تَسْلِيمِ ذَلِكَ أَوْ إِمْسَاكِهِ، وَإِنْ سَلَّمَ فَلَهُ اسْتِرْدَادُهُ. (1)

د - الْكَفَالَةُ:
20 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ تَأْقِيتِ الْكَفَالَةِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي غَيْرِ الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ - إِلَى جَوَازِ تَأْقِيتِهَا إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ كَشَهْرٍ وَسَنَةٍ. وَمَنَعَ ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ. ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُجِيزُونَ لِذَلِكَ فِي التَّوْقِيتِ إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ التَّوْقِيتِ بِوَقْتٍ مَجْهُولٍ جَهَالَةً غَيْرَ فَاحِشَةٍ، جَرَى الْعُرْفُ بَيْنَ
__________
(1) الخرشي مع حاشية العدوي 6 / 126، ومواهب الجليل 5 / 271، وحاشية الدسوقي 3 / 439، وبدائع الصنائع 6 / 3، كشف الحقائق 2 / 52، والبحر الرائق 6 / 240، 241

(10/39)


النَّاسِ عَلَى التَّوْقِيتِ بِهِ، كَوَقْتِ الْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ، فَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ الْمَجْهُول غَيْرَ مُتَعَارَفٍ عَلَيْهِ بَيْنَ النَّاسِ، كَمَجِيءِ الْمَطَرِ وَهُبُوبِ الرِّيحِ، فَلاَ يَصِحُّ تَأْقِيتُ الْكَفَالَةِ بِهِ، وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ تَوْقِيتَ الْكَفَالَةِ إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ، كَمَا نُقِل عَنِ ابْنِ يُونُسَ فِي كِتَابِ الْحَمَالَةِ (الْكَفَالَةِ) أَنَّ الْحَمَالَةَ بِالْمَال الْمَجْهُول جَائِزَةٌ، فَكَذَا الْحَمَالَةُ بِهِ إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ، وَالْحَنَابِلَةُ يُجِيزُونَ تَأْقِيتَ الْكَفَالَةِ وَلَوْ إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ لاَ يَمْنَعُ حُصُول الْمَقْصُودِ مِنْهَا كَوَقْتِ الْحَصَادِ وَالْجُذَاذِ؛ لأَِنَّهَا تَبَرُّعٌ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ فَتَصِحُّ كَالنَّذْرِ (1) . ر: (كَفَالَةٌ) .

هـ - الْمُضَارَبَةُ:
21 - يَجُوزُ تَأْقِيتُ الْمُضَارَبَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَامِل فِيهَا تَجَاوُزُ بَلَدٍ أَوْ سِلْعَةٍ أَوْ وَقْتٍ أَوْ شَخْصٍ عَيَّنَهُ الْمَالِكُ. (2) وَالْحَنَابِلَةُ صَحَّحُوا تَأْقِيتَ الْمُضَارَبَةِ بِأَنْ يَقُول
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 3، وكشف الحقائق 2 / 52، والبحر الرائق 6 / 240، 241، ومواهب الجليل 5 / 101، ومغني المحتاج 2 / 207، وكشاف القناع 3 / 376، منتهى الإرادات 1 / 414.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 486 ط بولاق، وحاشية الطحطاوي على الدر المختار 3 / 365.

(10/39)


رَبُّ الْمَال: ضَارَبْتُكَ عَلَى هَذِهِ الدَّرَاهِمِ أَوِ الدَّنَانِيرِ سَنَةً، فَإِذَا مَضَتِ السَّنَةُ فَلاَ تَبِعْ وَلاَ تَشْتَرِ؛ لأَِنَّهُ تَصَرُّفٌ يَتَعَلَّقُ بِنَوْعٍ مِنَ الْمَتَاعِ فَجَازَ تَوْقِيتُهُ بِالزَّمَانِ كَالْوَكَالَةِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُضَارَبَةَ لاَ تَقْبَل التَّأْقِيتَ؛ لأَِنَّهَا كَمَا قَال الْمَالِكِيَّةُ: لَيْسَتْ بِعَقْدٍ لاَزِمٍ، فَحُكْمُهَا أَنْ تَكُونَ إِلَى غَيْرِ أَجَلٍ، فَلِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَرْكُهَا مَتَى شَاءَ. (2)
وَلأَِنَّ تَأْقِيتَهَا - كَمَا قَال الشَّافِعِيَّةُ - يُؤَدِّي إِلَى التَّضْيِيقِ عَلَى الْعَامِل فِي عَمَلِهِ، فَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ: أَنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ فِي الْقِرَاضِ (الْمُضَارَبَةِ) بَيَانُ الْمُدَّةِ، فَلَوْ وَقَّتَ فَقَال: قَارَضْتُكَ سَنَةً، فَإِنْ مَنَعَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ بَعْدَهَا مُطْلَقًا، أَوْ مِنَ الْبَيْعِ فَسَدَ؛ لأَِنَّهُ يُخِل بِالْمَقْصُودِ، وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَيْضًا أَنَّهُ إِنْ قَال: عَلَى أَلاَّ تَشْتَرِيَ بَعْدَ السَّنَةِ، وَلَكَ الْبَيْعُ، صَحَّ عَلَى الأَْصَحِّ؛ لأَِنَّ الْمَالِكَ يَتَمَكَّنُ مِنْ مَنْعِهِ مِنَ الشِّرَاءِ مَتَى شَاءَ، بِخِلاَفِ الْبَيْعِ، وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: قَارَضْتُكَ سَنَةً فَسَدَ عَلَى الأَْصَحِّ، وَعَلَى الثَّانِي يَجُوزُ، وَيُحْمَل عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الشِّرَاءِ اسْتِدَامَةً لِلْعَقْدِ، وَلَوْ قَال: قَارَضْتُكَ سَنَةً عَلَى أَلاَّ أَمْلِكَ الْفَسْخَ قَبْل انْقِضَائِهَا فَسَدَ. (3)
__________
(1) كشاف القناع 3 / 512.
(2) مواهب الجليل 5 / 360 ط النجاح.
(3) روضة الطالبين 5 / 121، 122، وحاشية قليوبي 3 / 53.

(10/40)


و - النَّذْرُ:
22 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ النَّذْرَ يَقْبَل التَّأْقِيتَ، كَمَا لَوْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ الْمُحَرَّمِ لَزِمَهُ ذَلِكَ.، أَمَّا إِنْ لَمْ يُؤَقِّتْ، بَل قَال: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ يَوْمًا لَزِمَهُ، وَتَعْيِينُ وَقْتِ الأَْدَاءِ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَال. (1)

ز - الْوَقْفُ.
23 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْقِيتِ الْوَقْفِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ - وَالْحَنَابِلَةُ - فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ - إِلَى أَنَّ الْوَقْفَ لاَ يَقْبَل التَّأْقِيتَ، وَلاَ يَكُونُ إِلاَّ مُؤَبَّدًا. (2)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي مُقَابِل الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الْوَجْهِ الآْخَرِ - إِلَى جَوَازِ تَأْقِيتِ الْوَقْفِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْوَقْفِ التَّأْبِيدُ، أَيْ كَوْنُهُ مُؤَبَّدًا دَائِمًا بِدَوَامِ الشَّيْءِ الْمَوْقُوفِ، فَيَصِحُّ وَقْفُهُ مُدَّةً مُعَيَّنَةً ثُمَّ تُرْفَعُ وَقْفِيَّتُهُ، وَيَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِكُل مَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ بِهِ فِي غَيْرِ الْمَوْقُوفِ (3)
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 209، ومواهب الجليل 3 / 337، وجواهر الإكليل 1 / 155، وحاشية الدسوقي 2 / 162، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 282، وكشاف القناع 6 / 279، ونيل المآرب 2 / 441.
(2) الفتاوى الهندية 2 / 356، وتبيين الحقائق 3 / 326، وحاشية ابن عابدين 3 / 365، 366، والروضة 5 / 325.
(3) جواهر الإكليل 2 / 208، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 87، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 282، والمغني مع الشرح الكبير 6 / 221.

(10/40)


وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ وَالْخِلاَفُ فِيهِ فِي مُصْطَلَحِ: (وَقْفٌ) .

ح - الْوَكَالَةُ:
24 - يَصِحُّ تَأْقِيتُ الْوَكَالَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ. فَفِي جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ: أَنَّهُ لَوْ وَكَّلَهُ بِالْبَيْعِ أَوِ الشِّرَاءِ الْيَوْمَ فَفَعَل ذَلِكَ فِي الْغَدِ، فَفِي صِحَّتِهِ رِوَايَتَانِ، وَرُجِّحَ عَدَمُ الصِّحَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذِكْرَ الْيَوْمِ لِلتَّوْقِيتِ. (1)
وَذَكَرَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ أَنَّهُ لَوْ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَبِيعَ هَذِهِ الدَّارَ غَدًا، فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ وَكِيلاً قَبْل الْغَدِ. (2)
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْوَكِيل إِذَا خَالَفَ مَا أَمَرَهُ بِهِ الْمُوَكِّل، بِأَنْ بَاعَ أَوِ اشْتَرَى قَبْل أَوْ بَعْدَ الْوَقْتِ الَّذِي عَيَّنَهُ لَهُ الْمُوَكِّل، فَلِلْمُوَكِّل الْخِيَارُ فِي قَبُول ذَلِكَ أَوْ عَدَمِ قَبُولِهِ. (3)
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَلَى الْوَكِيل التَّصَرُّفُ بَعْدَ انْتِهَاءِ وَقْتِ الْوَكَالَةِ (4) ر: (وَكَالَةٌ) .
__________
(1) جامع الفصولين 2 / 4.
(2) بدائع الصنائع 6 / 20.
(3) جواهر الإكليل 2 / 127، وحاشية الدسوقي 3 / 383.
(4) مغني المحتاج 2 / 223، وكشاف القناع 3 / 462.

(10/41)


ط - الْيَمِينُ:
25 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ يَقْبَل التَّأْقِيتَ، وَتَأْقِيتُهَا تَارَةً يَكُونُ بِأَلْفَاظِ التَّأْقِيتِ مِثْل (مَا دَامَ) (وَمَا لَمْ) (وَحَتَّى) (وَأَنَّى) وَنَحْوِهَا، وَتَارَةً يَكُونُ بِالتَّقْيِيدِ بِوَقْتٍ كَشَهْرٍ وَيَوْمٍ، فَمَنْ حَلَفَ أَلاَّ يَفْعَل شَيْئًا، وَحَدَّدَ وَقْتًا مُعَيَّنًا لِذَلِكَ، اُخْتُصَّتْ يَمِينُهُ بِمَا حَدَّدَهُ. (1) وَيُرْجَعُ لِلتَّفْصِيل إِلَى بَحْثِ (الأَْيْمَانِ) .
__________
(1) جامع الفصولين 2 / 7، وجواهر الإكليل 1 / 240، 241، والأشباه والنظائر للسيوطي 282، وكشاف القناع 6 / 245.

(10/41)


تَأْكِيدٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّأْكِيدُ لُغَةً: التَّوْثِيقُ وَالإِْحْكَامُ وَالتَّقْوِيَةُ، يُقَال: أَكَّدَ الْعَهْدَ إِذَا وَثَّقَهُ وَأَحْكَمَهُ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ: جَعْل الشَّيْءِ مُقَرَّرًا ثَابِتًا فِي ذِهْنِ الْمُخَاطَبِ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّأْسِيسُ:
2 - التَّأْسِيسُ عِبَارَةٌ عَنْ إِفَادَةِ مَعْنًى جَدِيدٍ لَمْ يَكُنْ حَاصِلاً قَبْلَهُ، فَالتَّأْسِيسُ عَلَى هَذَا فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ خَيْرٌ مِنَ التَّأْكِيدِ؛ لأَِنَّ حَمْل الْكَلاَمِ عَلَى الإِْفَادَةِ خَيْرٌ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الإِْعَادَةِ، وَإِذَا دَارَ اللَّفْظُ بَيْنَهُمَا تَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى التَّأْسِيسِ، وَلِذَا لَوْ قَال شَخْصٌ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا، فَالأَْصَحُّ الْحَمْل عَلَى الاِسْتِئْنَافِ (أَيِ التَّأْسِيسِ) لاَ التَّأْكِيدِ. فَإِنْ قَال: أَرَدْتُ التَّأْكِيدَ بِذَلِكَ صُدِّقَ.
__________
(1) التهانوي 6 / 1547، والتعريفات بتصرف، والمصباح المنير، وتاج العروس في مادة " أكد ".

(10/42)


وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ عَنِ الزَّيْلَعِيِّ - صُدِّقَ دِيَانَةً لاَ قَضَاءً (1) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - التَّأْكِيدُ جَائِزٌ فِي الأَْحْكَامِ لِتَقْوِيَتِهَا وَتَرْجِيحِهَا عَلَى غَيْرِهَا، حَيْثُ يُرَجَّحُ الْمُؤَكَّدُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الأَْحْكَامِ غَيْرِ الْمُؤَكَّدَةِ؛ لاِحْتِمَال تَأْوِيل غَيْرِ الْمُؤَكَّدِ، بِخِلاَفِ الْمُؤَكَّدِ، فَإِنَّهُ لاَ يَحْتَمِلُهُ، كَمَا يَمْنَعُ نَقْضَهَا إِلاَّ بِشَرْطِهِ. (2) مِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَنْقُضُوا الأَْيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} (3) .

تَأْكِيدُ الأَْقْوَال:
4 - تُؤَكَّدُ الأَْقْوَال فَتُرَجَّحُ عَلَى غَيْرِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ تَأْكِيدُ الشَّهَادَاتِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (4) . وَقَدْ يَأْخُذُ التَّأْكِيدُ أَحْكَامًا مُعَيَّنَةً، كَتَأْكِيدِ الطَّلاَقِ، فَإِنَّهُ يُضَمُّ الْمُتَفَرِّقُ مِنْهُ لِيُجْعَل حُكْمُهُ وَاحِدًا، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي الطَّلاَقِ، وَفِي مُصْطَلَحِ (أَيْمَانٌ) .

التَّأْكِيدُ بِالأَْفْعَال:
5 - مِنْ ذَلِكَ تَأْكِيدُ الثَّمَنِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ بِقَبْضِ
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي 135 ط البابي الحلبي، والأشباه والنظائر لابن نجيم 149 ط دار ومكتبة الهلال.
(2) مسلم الثبوت 2 / 205 في باب الترجيح.
(3) سورة النحل / 91.
(4) سورة النور / 6.

(10/42)


الْمَبِيعِ؛ لأَِنَّ الْمَبِيعَ رُبَّمَا هَلَكَ فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْل التَّسْلِيمِ فَيَسْقُطُ الثَّمَنُ، وَتَأْكِيدُ الْمَهْرِ بِالدُّخُول، وَتَأْكِيدُ الأَْحْكَامِ بِالتَّنْفِيذِ (1) . وَتَفْصِيل مَا أُجْمِل فِي هَذَا الْبَحْثِ يُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.

تَأْمِيمٌ

اُنْظُرْ: مُصَادَرَةٌ.

تَأْمِينٌ

اُنْظُرْ: أَمِينٌ، مُسْتَأْمَنٌ.

تَأْمِينُ الدُّعَاءِ

اُنْظُرْ: آمِينَ.
__________
(1) مسلم الثبوت 2 / 205، وجمع الجوامع 1 / 83، والقليوبي 3 / 337، وفتح القدير 6 / 321، وكشاف القناع 5 / 266، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 149.

(10/43)


تَأْوِيلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّأْوِيل: مَصْدَرُ أَوَّل، وَأَصْل الْفِعْل: آل الشَّيْءُ يَئُول أَوْلاً: إِذَا رَجَعَ، تَقُول: آل الأَْمْرُ إِلَى كَذَا، أَيْ رَجَعَ إِلَيْهِ. وَمَعْنَاهُ: تَفْسِيرُ مَا يَئُول إِلَيْهِ الشَّيْءُ، وَمَصِيرُهُ. (1) وَفِي اصْطِلاَحِ الأُْصُولِيِّينَ، التَّأْوِيل: صَرْفُ اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى الظَّاهِرِ إِلَى مَعْنًى مَرْجُوحٍ، لاِعْتِضَادِهِ بِدَلِيلٍ يَصِيرُ بِهِ أَغْلَبَ عَلَى الظَّنِّ مِنَ الْمَعْنَى الظَّاهِرِ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّفْسِيرُ:
2 - التَّفْسِيرُ لُغَةً: الْبَيَانُ، وَكَشْفُ الْمُرَادِ مِنَ اللَّفْظِ الْمُشْكِل.
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير ومختار الصحاح مادة: " أول " وإرشاد الفحول ص 176.
(2) المستصفى 1 / 387، وروضة الناظر / 92، والأحكام للآمدي 2 / 135، التعريفات للجرجاني.

(10/43)


وَفِي الشَّرْعِ: تَوْضِيحُ مَعْنَى الآْيَةِ، وَشَأْنِهَا، وَقِصَّتِهَا، وَالسَّبَبِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ بِلَفْظٍ يَدُل عَلَيْهِ دَلاَلَةً ظَاهِرَةً، وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ التَّأْوِيل: بَيَانُ أَحَدِ مُحْتَمَلاَتِ اللَّفْظِ، وَالتَّفْسِيرَ: بَيَانُ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ. (1)
وَقَال ابْنُ الأَْعْرَابِيِّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَطَائِفَةٌ: التَّفْسِيرُ وَالتَّأْوِيل بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَال الرَّاغِبُ: التَّفْسِيرُ أَعَمُّ مِنَ التَّأْوِيل، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ فِي الأَْلْفَاظِ وَمُفْرَدَاتِهَا، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَال التَّأْوِيل فِي الْمَعَانِي وَالْجُمَل. وَكَثِيرًا مَا يُسْتَعْمَل فِي الْكُتُبِ الإِْلَهِيَّةِ، وَالتَّفْسِيرُ يُسْتَعْمَل فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا. وَقَال غَيْرُهُ: التَّفْسِيرُ: بَيَانُ لَفْظٍ لاَ يَحْتَمِل إِلاَّ وَجْهًا وَاحِدًا. وَالتَّأْوِيل: تَوْجِيهُ لَفْظٍ مُتَوَجِّهٍ إِلَى مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهَا بِمَا ظَهَرَ مِنَ الأَْدِلَّةِ. وَقَال أَبُو طَالِبٍ الثَّعْلَبِيُّ: التَّفْسِيرُ: بَيَانُ وَضْعِ اللَّفْظِ إِمَّا حَقِيقَةً، أَوْ مَجَازًا، كَتَفْسِيرِ (الصِّرَاطِ) بِالطَّرِيقِ، وَ (الصَّيِّبِ) بِالْمَطَرِ. وَالتَّأْوِيل: تَفْسِيرُ بَاطِنِ اللَّفْظِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الأَْوْل وَهُوَ الرُّجُوعُ لِعَاقِبَةِ الأَْمْرِ. فَالتَّأْوِيل: إِخْبَارٌ عَنْ حَقِيقَةِ الْمُرَادِ، وَالتَّفْسِيرُ إِخْبَارٌ عَنْ
__________
(1) دستور العلماء 1 / 330.

(10/44)


دَلِيل الْمُرَادِ؛ لأَِنَّ اللَّفْظَ يَكْشِفُ عَنِ الْمُرَادِ، وَالْكَاشِفُ دَلِيلٌ (1) .

ب - الْبَيَانُ:
3 - الْبَيَانُ لُغَةً: الإِْظْهَارُ وَالإِْيضَاحُ وَالاِنْكِشَافُ، وَمَا يَتَبَيَّنُ بِهِ الشَّيْءُ مِنَ الدَّلاَلَةِ وَغَيْرِهَا. (2) وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ: فَهُوَ إِظْهَارُ الْمَعْنَى وَإِيضَاحُهُ لِلْمُخَاطَبِ. (3) وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّأْوِيل وَالْبَيَانِ: أَنَّ التَّأْوِيل مَا يُذْكَرُ فِي كَلاَمٍ لاَ يُفْهَمُ مِنْهُ مَعْنًى مُحَصَّلٌ فِي أَوَّل وَهْلَةٍ لِيُفْهَمَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ. وَالْبَيَانُ مَا يُذْكَرُ فِيمَا يُفْهِمُ ذَلِكَ بِنَوْعِ خَفَاءٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَعْضِ (4) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ بِاخْتِلاَفِ مَا يَدْخُلُهُ التَّأْوِيل، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
4 - أَوَّلاً: بِالنِّسْبَةِ لِلنُّصُوصِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعَقَائِدِ،
__________
(1) كشاف اصطلاحات الفنون 5 / 1116، ولسان العرب، والمفردات للراغب مادة: " فسر " و " أول ".
(2) لسان العرب، والمصباح المنير، ومختار الصحاح مادة: " بين " وإرشاد الفحول ص 167، 168.
(3) إرشاد الفحول نقلا عن شمس الأئمة السرخسي ص 168، والتعريفات للجرجاني
(4) دستور العلماء 1 / 257 نقلا عن التعريفات للجرجاني ص 41.

(10/44)


وَأُصُول الدِّيَانَاتِ، وَصِفَاتِ الْبَارِي عَزَّ وَجَل، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْقِسْمِ عَلَى ثَلاَثَةِ مَذَاهِبَ:
الأَْوَّل: أَنَّهُ لاَ مَدْخَل لِلتَّأْوِيل فِيهَا، بَل تَجْرِي عَلَى ظَاهِرِهَا، وَلاَ يُؤَوَّل شَيْءٌ مِنْهَا. وَهَذَا قَوْل الْمُشَبِّهَةِ.
الثَّانِي: أَنَّ لَهَا تَأْوِيلاً، وَلَكِنَّا نُمْسِكُ عَنْهُ، مَعَ تَنْزِيهِ اعْتِقَادِنَا عَنِ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} (1) ، قَال ابْنُ بُرْهَانٍ: وَهَذَا قَوْل السَّلَفِ.
وَقَال الشَّوْكَانِيُّ: وَهَذَا هُوَ الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ وَالْمَنْهَجُ الْمَصْحُوبُ بِالسَّلاَمَةِ عَنِ الْوُقُوعِ فِي مَهَاوِي التَّأْوِيل، وَكَفَى بِالسَّلَفِ الصَّالِحِ قُدْوَةً لِمَنْ أَرَادَ الاِقْتِدَاءَ، وَأُسْوَةً لِمَنْ أَحَبَّ التَّأَسِّيَ، عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ وُرُودِ الدَّلِيل الْقَاضِي بِالْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ، فَكَيْفَ وَهُوَ قَائِمٌ مَوْجُودٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؟
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا مُؤَوَّلَةٌ. قَال ابْنُ بُرْهَانٍ: وَالأَْوَّل مِنْ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ بَاطِلٌ، وَالآْخَرَانِ مَنْقُولاَنِ عَنِ الصَّحَابَةِ، وَنُقِل هَذَا الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأُمِّ سَلَمَةَ. وَقَال ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي الأَْلْفَاظِ الْمُشْكِلَةِ: إِنَّهَا حَقٌّ وَصِدْقٌ، وَعَلَى
__________
(1) سورة آل عمران / 7.

(10/45)


الْوَجْهِ الَّذِي أَرَادَهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَوَّل شَيْئًا مِنْهَا، فَإِنْ كَانَ تَأْوِيلُهُ قَرِيبًا عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ لِسَانُ الْعَرَبِ وَيَفْهَمُونَهُ فِي مُخَاطَبَاتِهِمْ لَمْ نُنْكِرْ عَلَيْهِ وَلَمْ نُبَدِّعْهُ، وَإِنْ كَانَ تَأْوِيلُهُ بَعِيدًا تَوَقَّفْنَا عَلَيْهِ وَاسْتَبْعَدْنَاهُ وَرَجَعْنَا إِلَى الْقَاعِدَةِ فِي الإِْيمَانِ بِمَعْنَاهُ مَعَ التَّنْزِيهِ. (1) وَفِي إِعْلاَمِ الْمُوَقِّعِينَ، قَال الْجُوَيْنِيُّ: ذَهَبَ أَئِمَّةُ السَّلَفِ إِلَى الاِنْكِفَافِ عَنِ التَّأْوِيل، وَإِجْرَاءِ الظَّوَاهِرِ عَلَى مَوَارِدِهَا، وَتَفْوِيضِ مَعَانِيهَا إِلَى الرَّبِّ تَعَالَى، وَالَّذِي نَرْتَضِيهِ رَأْيًا وَنَدِينُ اللَّهَ بِهِ عَقْدُ اتِّبَاعِ سَلَفِ الأُْمَّةِ، فَحُقَّ عَلَى ذِي الدِّينِ أَنْ يَعْتَقِدَ تَنْزِيهَ الْبَارِي عَنْ صِفَاتِ الْمُحْدَثِينَ، وَلاَ يَخُوضَ فِي تَأْوِيل الْمُشْكِلاَتِ، وَيَكِل مَعْنَاهَا إِلَى الرَّبِّ تَعَالَى. (2)

5 - ثَانِيًا: النُّصُوصُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْفُرُوعِ، وَهَذِهِ لاَ خِلاَفَ فِي دُخُول التَّأْوِيل فِيهَا. وَالتَّأْوِيل فِي النُّصُوصِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الاِسْتِنْبَاطِ، وَهُوَ قَدْ يَكُونُ تَأْوِيلاً صَحِيحًا، وَقَدْ يَكُونُ تَأْوِيلاً فَاسِدًا. فَيَكُونُ صَحِيحًا إِذَا كَانَ مُسْتَوْفِيًا لِشُرُوطِهِ، مِنَ الْمُوَافَقَةِ لِوَضْعِ اللُّغَةِ، أَوْ عُرْفِ الاِسْتِعْمَال، وَمِنْ قِيَامِ الدَّلِيل عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ اللَّفْظِ هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي حُمِل عَلَيْهِ، وَمِنْ كَوْنِ الْمُتَأَوِّل أَهْلاً لِذَلِكَ.
__________
(1) إرشاد الفحول / 176، 177.
(2) أعلام الموقعين 4 / 246.

(10/45)


وَيَتَّفِقُ الْعُلَمَاءُ عَلَى قَبُول الْعَمَل بِالتَّأْوِيل الصَّحِيحِ مَعَ اخْتِلاَفِهِمْ فِي طُرُقِهِ وَمَوَاضِعِهِ، وَمَا يُعْتَبَرُ قَرِيبًا، وَمَا يُعْتَبَرُ بَعِيدًا. يَقُول الآْمِدِيُّ: التَّأْوِيل مَقْبُولٌ مَعْمُولٌ بِهِ إِذَا تَحَقَّقَ بِشُرُوطِهِ، وَلَمْ يَزَل عُلَمَاءُ الأَْمْصَارِ فِي كُل عَصْرٍ مِنْ عَهْدِ الصَّحَابَةِ إِلَى زَمَنِنَا عَامِلِينَ بِهِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ (1) . وَفِي الْبُرْهَانِ: تَأْوِيل الظَّاهِرِ عَلَى الْجُمْلَةِ مُسَوِّغٌ إِذَا اُسْتُجْمِعَتِ الشَّرَائِطُ، وَلَمْ يُنْكِرْ أَصْل التَّأْوِيل ذُو مَذْهَبٍ، وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ فِي التَّفَاصِيل. (2)
وَعَلَى أَيِّ حَالٍ فَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ فِي كُل مَسْأَلَةٍ، وَعَلَيْهِ اتِّبَاعُ مَا أَوْجَبَهُ ظَنُّهُ كَمَا يَقُول الآْمِدِيُّ (3) .
وَيَقُول الْغَزَالِيُّ: مَهْمَا كَانَ الاِحْتِمَال قَرِيبًا، وَكَانَ الدَّلِيل أَيْضًا قَرِيبًا، وَجَبَ عَلَى الْمُجْتَهِدِ التَّرْجِيحُ، وَالْمَصِيرُ إِلَى مَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ، فَلَيْسَ كُل تَأْوِيلٍ مَقْبُولاً بِوَسِيلَةِ كُل دَلِيلٍ، بَل ذَلِكَ يَخْتَلِفُ وَلاَ يَدْخُل تَحْتَ ضَبْطٍ. (4)
وَيَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: لِكُل مَسْأَلَةٍ ذَوْقٌ يَجِبُ أَنْ تُفْرَدَ بِنَظَرٍ خَاصٍّ. (5)
__________
(1) إرشاد الفحول ص 177، والأحكام للآمدي 2 / 136.
(2) البرهان للجويني 1 / 515.
(3) الأحكام للآمدي 2 / 141.
(4) المستصفى 1 / 389.
(5) روضة الناظر ص 93.

(10/46)


هَذَا، وَقَدْ ذُكِرَتْ فِي كُتُبِ الأُْصُول أَمْثِلَةٌ لِلْمَسَائِل الْفَرْعِيَّةِ الَّتِي اُسْتُنْبِطَتْ أَحْكَامُهَا عَنْ طَرِيقِ تَأْوِيل النُّصُوصِ، مَعَ بَيَانِ وُجْهَةِ نَظَرِ الَّذِينَ نَحَوْا هَذَا الْمَنْحَى وَالَّذِينَ عَارَضُوهُمْ.

أَثَرُ التَّأْوِيل:
6 - لِلتَّأْوِيل أَثَرٌ ظَاهِرٌ فِي الْمَسَائِل الْفَرْعِيَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنَ النُّصُوصِ، إِذْ هُوَ سَبَبُ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي أَحْكَامِ هَذِهِ الْمَسَائِل. وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، أَنَّ الْعَمَل بِالْمُخْتَلَفِ فِيهِ لاَ يُنْكَرُ عَلَى صَاحِبِهِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْخِلاَفُ شَاذًّا، لَكِنَّ الأَْفْضَل مُرَاعَاةُ الْخِلاَفِ، وَذَلِكَ بِتَرْكِ مَا هُوَ جَائِزٌ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ كَذَلِكَ إِذَا كَانَ غَيْرُهُ يَرَاهُ حَرَامًا، وَبِفِعْل مَا هُوَ مُبَاحٌ إِذَا كَانَ غَيْرُهُ يَرَاهُ وَاجِبًا. وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (اخْتِلاَفٌ) . وَنَذْكُرُ هُنَا بَعْضَ الآْثَارِ الْعَمَلِيَّةِ لِلتَّأْوِيل مِنْ خِلاَل بَعْضِ الْمَسَائِل:

7 - أَوَّلاً: أَمْثِلَةٌ لِلتَّأْوِيل الْمُتَّفَقِ عَلَى فَسَادِهِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ:
أ - مِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ كُل مَنْ ثَبَتَتْ إِمَامَتُهُ وَجَبَتْ طَاعَتُهُ، وَحَرُمَ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ لِلنُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ خُرُوجَ طَائِفَةٍ عَلَى

(10/46)


الإِْمَامِ بِتَأْوِيلٍ يُبِيحُ لَهُمْ ذَلِكَ فِي نَظَرِهِمْ يُعْتَبَرُ بَغْيًا لِفَسَادِ تَأْوِيلِهِمْ. وَيَجِبُ دَعْوَتُهُمْ إِلَى الطَّاعَةِ وَالدُّخُول فِي الْجَمَاعَةِ وَكَشْفِ شُبَهِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا وَجَبَ قِتَالُهُمْ كَمَا فَعَل عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَعَ الْخَوَارِجِ. وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (بُغَاةٌ) .
ب - وُجُوبُ الزَّكَاةِ أَمْرٌ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ، وَالتَّأْوِيل فِي مَنْعِ أَدَائِهَا تَأْوِيلٌ فَاسِدٌ.، وَيَجِبُ حَمْل الْمَانِعِينَ عَلَى أَدَائِهَا بِالْقُوَّةِ، وَقَدْ فَعَل ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَعَ مَانِعِي الزَّكَاةِ الَّذِينَ تَأَوَّلُوا قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَل عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (1) فَقَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ لاَ يَتَأَتَّى لِغَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى قِيَامِ غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ مَقَامَهُ (2) . وَالتَّفْصِيل يُنْظَرُ فِي (الزَّكَاةُ) .
ج - حُرْمَةُ شُرْبِ الْخَمْرِ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ، وَالتَّأْوِيل لاِسْتِحْلاَل شُرْبِهَا تَأْوِيلٌ فَاسِدٌ، وَيَجِبُ تَوْقِيعُ الْحَدِّ عَلَى شَارِبِهَا الْمُتَأَوِّل. وَقَدْ حَدَثَ أَنَّ قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ شَرِبَ
__________
(1) سورة التوبة / 103.
(2) التبصرة لابن فرحون بهامش فتح العلي المالك 2 / 280، والاختيار 1 / 104، وأسنى المطالب 4 / 111، وشرح منتهى الإرادات 1 / 417.

(10/47)


الْخَمْرَ (1) ، فَقَال لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟ فَقَال: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل يَقُول: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (2) وَإِنِّي مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَهْل بَدْرٍ وَأُحُدٍ، فَطَلَبَ عُمَرُ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنْ يُجِيبُوهُ، فَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: " إِنَّمَا أَنْزَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى عُذْرًا لِلْمَاضِينَ لِمَنْ شَرِبَهَا قَبْل أَنْ تَحْرُمَ، وَأَنْزَل: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَْنْصَابُ وَالأَْزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَل الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} (3) حُجَّةٌ عَلَى النَّاسِ. وَقَال لَهُ عُمَرُ: إِنَّكَ أَخْطَأْتَ التَّأْوِيل يَا قُدَامَةُ، إِذَا اتَّقَيْتَ اجْتَنَبْتَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ (4) .

8 - ثَانِيًا: تَأْوِيلٌ مُتَّفَقٌ عَلَى قَبُولِهِ:
وَذَلِكَ مِثْل التَّأَوُّل فِي الْيَمِينِ إِذَا كَانَ الْحَالِفُ مَظْلُومًا، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: مَنْ حَلَفَ فَتَأَوَّل فِي يَمِينِهِ فَلَهُ تَأْوِيلُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا لَمْ يَنْفَعْهُ تَأْوِيلُهُ. وَلاَ يَخْلُو حَال الْحَالِفِ الْمُتَأَوِّل مِنْ ثَلاَثَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَظْلُومًا، مِثْل مَنْ
__________
(1) أثر " قدامة بن مظعون. . . " أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (9 / 242 - ط المجلس العلمي بالهند) .
(2) سورة المائدة / 93.
(3) سورة المائدة / 90.
(4) المغني 8 / 304، وهامش الفروق 1 / 182، ومغني المحتاج 4 / 193.

(10/47)


يَسْتَحْلِفُهُ ظَالِمٌ عَلَى شَيْءٍ لَوْ صَدَّقَهُ لَظَلَمَهُ، أَوْ ظَلَمَ غَيْرَهُ، أَوْ نَال مُسْلِمًا مِنْهُ ضَرَرٌ، فَهَذَا لَهُ تَأْوِيلُهُ.
ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْحَالِفُ ظَالِمًا كَاَلَّذِي يَسْتَحْلِفُهُ الْحَاكِمُ عَلَى حَقٍّ عِنْدَهُ، فَهَذَا تَنْصَرِفُ يَمِينُهُ إِلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ الَّذِي عَنَاهُ الْمُسْتَحْلِفُ وَلاَ يَنْفَعُ الْحَالِفَ تَأْوِيلُهُ، وَلاَ نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا، فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ بِهِ صَاحِبُكَ (1) وَلأَِنَّهُ لَوْ سَاغَ التَّأْوِيل لَبَطَل الْمَعْنَى الْمُبْتَغَى بِالْيَمِينِ.
ثَالِثُهَا: أَلاَّ يَكُونَ ظَالِمًا وَلاَ مَظْلُومًا، فَظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ أَنَّ لَهُ تَأْوِيلَهُ. هَذَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ قُدَامَةَ. وَالْمَذَاهِبُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَظْلُومَ إِذَا تَأَوَّل فِي يَمِينِهِ فَلَهُ تَأْوِيلُهُ. (2) (ر: أَيْمَانٌ) .

9 - ثَالِثًا: هُنَاكَ مِنَ التَّأْوِيلاَتِ مَا اعْتَبَرَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ قَرِيبًا، فَأَصْبَحَ دَلِيلاً فِي اسْتِنْبَاطِ الْحُكْمِ، فِي حِينِ اعْتَبَرَهُ الْبَعْضُ الآْخَرُ بَعِيدًا، فَلاَ يَصْلُحُ دَلِيلاً.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ، وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بِالأَْكْل أَوِ الْجِمَاعِ عَمْدًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
__________
(1) حديث: " يمينك على ما يصدقك به صاحبك " أخرجه مسلم (3 / 1274 - ط الحلبي) .
(2) البدائع 3 / 20، وحاشية الصاوي على الشرح الصغير 2 / 377، ومغني المحتاج 4 / 475، والمغني 8 / 727.

(10/48)


وَالْمَالِكِيَّةِ، وَبِالْجِمَاعِ فَقَطْ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَمَنْ رَأَى هِلاَل رَمَضَانَ وَحْدَهُ، وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ، وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ، فَإِنْ ظَنَّ إِبَاحَةَ الْفِطْرِ لِرَدِّ شَهَادَتِهِ فَأَفْطَرَ بِمَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَفِي الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لاِنْتِهَاكِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ، أَمَّا ظَنُّ الإِْبَاحَةِ لِرَدِّ الشَّهَادَةِ فَهُوَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ لِمُخَالَفَتِهِ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (1) ، وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ (2) - وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ، إِذْ رَدُّ الشَّهَادَةِ يُعْتَبَرُ تَأْوِيلاً قَرِيبًا فِي ظَنِّ الإِْبَاحَةِ. (3) وَمِثْل هَذِهِ الاِخْتِلاَفَاتِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، بَل بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذْهَبِ الْوَاحِدِ كَثِيرَةٌ فِي الْمَسَائِل الْفَرْعِيَّةِ. فَالْحَنَفِيَّةُ مَثَلاً لاَ يُوجِبُونَ الزَّكَاةَ فِي مَال الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَيُنْتَقَضُ عِنْدَهُمُ الْوُضُوءُ بِالْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلاَةِ، خِلاَفًا لِبَقِيَّةِ الْمَذَاهِبِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ.
__________
(1) سورة البقرة / 185.
(2) حديث: " صوموا لرؤيته. . . " أخرجه البخاري (الفتح4 / 119 - ط السلفية) ومسلم (2 / 759 - ط الحلبي) .
(3) البدائع 2 / 80، والاختيار 1 / 129، والشرح الصغير1 / 250، والدسوقي 1 / 532، والمجموع 6 / 235، وكشاف القناع 2 / 326.

(10/48)


وَالْمَعْرُوفُ كَمَا سَبَقَ أَنَّهُ لاَ يُنْكَرُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ. وَتَفْصِيل مَا أُجْمِل هُنَا مَوْطِنُهُ الْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ.

تَابِعٌ

اُنْظُرْ: تَبَعِيَّةٌ.

تَابُوتٌ

اُنْظُرْ: جَنَائِزُ.

تَارِيخٌ

اُنْظُرْ: تَأْرِيخٌ.

(10/49)


تَاسُوعَاءُ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّاسُوعَاءُ: هُوَ الْيَوْمُ التَّاسِعُ مِنْ شَهْرِ الْمُحَرَّمِ (1) اسْتِدْلاَلاً بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامَ عَاشُورَاءَ، فَقِيل لَهُ: إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى تُعَظِّمُهُ، فَقَال: فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِل إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - عَاشُورَاءُ: وَهُوَ الْعَاشِرُ مِنْ شَهْرِ الْمُحَرَّمِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَمَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ: الْعَاشِرِ
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب مادة " تسع "، وروضة الطالبين 2 / 387، وكشاف القناع عن متن الإقناع 2 / 338 ط النصر الحديثة، والشرح الكبير 1 / 516، وجواهر الإكليل 1 / 146.
(2) حديث: " فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع. . . " أخرجه مسلم (2 / 798 ط عيس البابي الحلبي) .

(10/49)


مِنَ الْمُحَرَّمِ (1) وَأَنَّ صَوْمَهُ مُسْتَحَبٌّ أَوْ مَسْنُونٌ. (2) فَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عَنْ صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَقَال: يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ (3)

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - صَوْمُ يَوْمِ تَاسُوعَاءَ مَسْنُونٌ، أَوْ مُسْتَحَبٌّ، كَصَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصُومُ عَاشُورَاءَ، فَذَكَرُوا أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى تَصُومُهُ. فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ فِي الْعَامِ الْمُقْبِل يَصُومُ التَّاسِعَ (4) إِلاَّ أَنَّ صَوْمَ يَوْمِ عَاشُورَاءَ آكَدُ فِي الاِسْتِحْبَابِ؛ لأَِنَّهُ يُكَفِّرُ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ.
فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ " أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ. وَصِيَامُ يَوْمِ
__________
(1) حديث " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوم يوم عاشوراء. . . " أخرجه الترمذي (3 / 128 ط مصطفى البابي الحلبي) وقال: حسن صحيح.
(2) المصباح المنير، ولسان العرب مادة (عشر) ، والدر المختار 2 / 83، ونزهة المتقين شرح رياض الصالحين 2 / 885 - 886، وكشاف القناع 2 / 338، والمجموع شرح المهذب 6 / 382، وحاشية قليوبي 2 / 73، وجواهر الإكليل 1 / 146، والمغني لابن قدامة 3 / 174 ط الرياض الحديثة.
(3) حديث " يكفر السنة الماضية والباقية. . . ". أخرجه مسلم (2 / 819 ط عيسى البابي الحلبي) .
(4) حديث " أنه في العام المقبل يصوم التاسع. . . ". سبق تخريجه (ف 1) .

(10/50)


عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ (1) وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ " أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِل إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ. قَال ابْنُ عَبَّاسٍ: " فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِل حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) وَتَكْفِيرُ سَنَةٍ: أَيْ ذُنُوبِ سَنَةٍ مِنَ الصَّغَائِرِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَغَائِرُ خُفِّفَ مِنْ كَبَائِرِ السَّنَةِ، وَذَلِكَ التَّخْفِيفُ مَوْكُولٌ لِفَضْل اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَبَائِرُ رُفِعَ لَهُ دَرَجَاتٍ. وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُول فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ: خَالِفُوا الْيَهُودَ وَصُومُوا التَّاسِعَ وَالْعَاشِرَ (3)
4 - وَذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِي حِكْمَةِ اسْتِحْبَابِ صَوْمِ يَوْمِ تَاسُوعَاءَ أَوْجُهًا:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مُخَالَفَةُ الْيَهُودِ فِي اقْتِصَارِهِمْ عَلَى الْعَاشِرِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الإِْمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ بِسَنَدِهِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: قَال
__________
(1) حديث " صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة. . . " أخرجه مسلم (2 / 818 - 819 ط عيسى البابي الحلبي) .
(2) حديث " فإذا كان العام المقبل. . . " سبق تخريجه ف / 1.
(3) الأثر عن ابن عباس " خالفوا اليهود وصوموا التاسع والعاشر. . . " أخرجه عبد الرزاق والبيهقي موقوفا (مصنف عبد الرزاق 4 / 287، والسنن الكبرى للبيهقي 4 / 287) .

(10/50)


رَسُول اللَّهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُومُوا يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَخَالِفُوا الْيَهُودَ، وَصُومُوا قَبْلَهُ يَوْمًا وَبَعْدَهُ يَوْمًا (1)
الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ وَصْل يَوْمِ عَاشُورَاءَ بِصَوْمٍ.
الثَّالِثُ: الاِحْتِيَاطُ فِي صَوْمِ الْعَاشِرِ خَشْيَةَ نَقْصِ الْهِلاَل وَوُقُوعِ غَلَطٍ، فَيَكُونُ التَّاسِعُ فِي الْعَدَدِ هُوَ الْعَاشِرَ فِي نَفْسِ الأَْمْرِ (2) وَلِلْمَزِيدِ مِنَ التَّفْصِيل فِي ذَلِكَ ر: (صَوْمُ التَّطَوُّعِ) .

تَبَخْتُرٌ

اُنْظُرِ: اخْتِيَالٌ.
__________
(1) حديث " صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا اليهود وصوموا. . . " أخرجه أحمد (مسند أحمد بن حنبل1 / 241) والبزار وقال الهيثمي: فيه محمد بن أبي ليلى وفيه كلام (مجمع الزوائد 3 / 188، 189) .
(2) ابن عابدين 2 / 83، والمجموع شرح المهذب 6 / 382، 383، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 195، وروضة الطالبين 2 / 387، وحاشية قليوبي 2 / 73، وحاشية الدسوقي 1 / 516، ومواهب الجليل للحطاب 2 / 406، وجواهر الإكليل 1 / 146، وشرح الزرقاني على مختصر خليل 2 / 197، والمغني لابن قدامة 3 / 74 ط الرياض الحديثة، وكشاف القناع عن متن الإقناع 2 / 338 - 339 ونزهة المتقين شرح رياض الصالحين 2 / 885 - 886.

(10/51)


تَبْدِيلٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - تَبْدِيل الشَّيْءِ لُغَةً: تَغْيِيرُهُ وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِبَدَلِهِ. يُقَال: بَدَّلْتُ الشَّيْءَ تَبْدِيلاً بِمَعْنَى غَيَّرْتُهُ تَغْيِيرًا. وَالأَْصْل فِي التَّبْدِيل: تَغْيِيرُ الشَّيْءِ عَنْ حَالِهِ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَل: {يَوْمَ تُبَدَّل الأَْرْضُ غَيْرَ الأَْرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} (1) قَال الزَّجَّاجُ: تَبْدِيلُهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: تَسْيِيرُ جِبَالِهَا، وَتَفْجِيرُ بِحَارِهَا، وَجَعْلُهَا مُسْتَوِيَةً لاَ تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلاَ أَمْتًا. وَتَبْدِيل السَّمَاوَاتِ: انْتِشَارُ كَوَاكِبِهَا وَانْفِطَارُهَا وَانْشِقَاقُهَا وَتَكْوِيرُ شَمْسِهَا وَخُسُوفُ قَمَرِهَا. (2)
وَمَعْنَاهُ فِي الاِصْطِلاَحِ، كَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ، وَمِنْهُ النَّسْخُ: وَهُوَ رَفْعُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَأَخِّرٍ. (3)
وَيُطْلَقُ التَّبْدِيل عَلَى الاِسْتِبْدَال فِي الْوَقْفِ بِمَعْنَى: بَيْعِ الْمَوْقُوفِ عَقَارًا كَانَ أَوْ مَنْقُولاً، وَشِرَاءِ عَيْنٍ بِمَال الْبَدَل لِتَكُونَ مَوْقُوفَةً مَكَانَ الْعَيْنِ
__________
(1) سورة إبراهيم / 48.
(2) مختار الصحاح، والمصباح المنير، ولسان العرب مادة " بدل ".
(3) التعريفات للجرجاني.

(10/51)


الَّتِي بِيعَتْ، أَوْ مُقَايَضَةِ عَيْنِ الْوَقْفِ بِعَيْنٍ أُخْرَى. وَيَدُل كَلاَمُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ بَيَانَ التَّغْيِيرِ مِثْل تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ وَتَخْصِيصُ الْعَامِّ، وَبَيَانُ التَّبْدِيل مِثْل النَّسْخِ أَيْ رَفْعِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ أَوَّلاً بِنَصٍّ مُتَأَخِّرٍ. (1)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
لِلتَّبْدِيل أَحْكَامٌ تَعْتَرِيهِ، وَهِيَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ مَوَاطِنِهِ:

2 - التَّبْدِيل فِي الْوَقْفِ:
أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ لِلْوَاقِفِ اشْتِرَاطَ الإِْدْخَال وَالإِْخْرَاجِ فِي وَقْفِهِ، كَمَا أَجَازَ لَهُ مُتَأَخِّرُوهُمْ مَا عُرِفَ بِالشُّرُوطِ الْعَشَرَةِ، وَهِيَ الإِْعْطَاءُ، وَالْحِرْمَانُ، وَالإِْدْخَال، وَالإِْخْرَاجُ، وَالزِّيَادَةُ، وَالنُّقْصَانُ، وَالتَّغْيِيرُ، وَالإِْبْدَال، وَالاِسْتِبْدَال، وَالْبَدَل أَوِ التَّبَادُل. (2) وَخَالَفَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي ذَلِكَ. فَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ اشْتِرَاطَ الْوَاقِفِ الرُّجُوعَ مَتَى شَاءَ، أَوِ الْحِرْمَانَ، أَوْ تَحْوِيل الْحَقِّ إِلَى غَيْرِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مَتَى شَاءَ اشْتِرَاطًا فَاسِدًا، وَأَجَازُوا لَهُ التَّغْيِيرَ إِنْ كَانَ قَدْرَ الْمَصْلَحَةِ (3) وَلَمْ يُجِزْهُ الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ؛ لأَِنَّهُ شَرْطٌ يُنَافِي مُقْتَضَى الْوَقْفِ. (4)
__________
(1) المغني لابن قدامة 5 / 606 ط الرياض الحديثة، والشرح الكبير للدردير 4 / 88.
(2) التلويح على التوضيح 2 / 18، 19 ط صبيح، والتعريفات للجرجاني.
(3) ابن عابدين 3 / 388.
(4) روضة الطالبين 5 / 329.

(10/52)


وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ (وَقْفٌ) شَرْطُ الْوَاقِفِ.

التَّبْدِيل فِي الْبَيْعِ:
وَمِنَ التَّبْدِيل الْبَيْعُ؛ لأَِنَّهُ تَبْدِيل مُتَقَوِّمٍ بِمُتَقَوِّمٍ. وَلاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ مُرَاعَاةِ الشُّرُوطِ الشَّرْعِيَّةِ وَمِنْ ذَلِكَ:

أ - التَّبْدِيل فِي الصَّرْفِ:
3 - وَهُوَ بَيْعُ جِنْسِ الأَْثْمَانِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ مَضْرُوبُهَا وَمَصُوغُهَا وَتِبْرُهَا. فَإِنْ بَاعَ فِضَّةً بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبًا بِذَهَبٍ، جَازَ مَتَى كَانَ وَزْنًا بِوَزْنٍ وَيَدًا بِيَدٍ، (1) وَالأَْصْل فِيهِ مَا رَوَاهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلاً بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَْصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ (2) وَلأَِنَّهُمَا جِنْسَانِ فَجَازَ التَّفَاضُل فِيهِمَا، كَمَا لَوْ تَبَاعَدَتْ مَنَافِعُهُمَا.

ب - تَبْدِيل أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ بَعْدَ تَعَيُّنِهِ فِي الْعَقْدِ:
4 - إِذَا تَعَيَّنَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ فِي الْعَقْدِ فَلاَ يَجُوزُ
__________
(1) الاختيار شرح المختار 1 / 211 - 212 ط مصطفى الحلبي، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 277، 279، والمغني لابن قدامة 4 / 4، 11، 12، وجواهر الإكليل 2 / 7 وما بعدها.
(2) حديث عبادة بن الصامت: أخرجه مسلم (3 / 1211 - ط الحلبي) .

(10/52)


تَبْدِيلُهُ، وَمِنْ ذَلِكَ الْمَبِيعُ، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ، أَمَّا الثَّمَنُ فَلاَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، إِلاَّ فِي مَوَاطِنَ مِنْهَا: الصَّرْفُ وَالسَّلَمُ.، كَمَا تَتَعَيَّنُ الأَْثْمَانُ فِي الإِْيدَاعِ، فَلاَ يَجُوزُ تَبْدِيلُهَا. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَعْيِينٌ) وَفِي (الصَّرْفِ، وَالسَّلَمِ) .

تَبْدِيل الدِّينِ:
5 - إِنْ كَانَ التَّبْدِيل مِنْ دِينِ الإِْسْلاَمِ إِلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِالرِّدَّةِ، فَإِنَّهُ لاَ يُقَرُّ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا، وَتَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (رِدَّةٌ) .
أَمَّا إِنْ كَانَ تَبْدِيل الدِّينِ مِنْ دِينٍ غَيْرِ الإِْسْلاَمِ إِلَى دِينٍ آخَرَ غَيْرِ الإِْسْلاَمِ أَيْضًا، كَمَا لَوْ تَهَوَّدَ نَصْرَانِيٌّ، أَوْ تَنَصَّرَ يَهُودِيٌّ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِقْرَارِهِ عَلَى ذَلِكَ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ غَيْرُ الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ يُقَرُّ عَلَى مَا انْتَقَل إِلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ.
وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لاَ يُقَرُّ عَلَى ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ أَحْدَثَ دِينًا بَاطِلاً بَعْدَ اعْتِرَافِهِ بِبُطْلاَنِهِ، فَلاَ يُقَرُّ عَلَيْهِ، كَمَا لَوِ ارْتَدَّ الْمُسْلِمُ. فَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً لَمْ تَحِل لِمُسْلِمٍ تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّهُ لاَ يُقَرُّ، فَإِنْ كَانَتْ زَوْجَةً لِمُسْلِمٍ فَتَهَوَّدَتْ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ نَصْرَانِيَّةً فَهِيَ كَالْمُرْتَدَّةِ، فَإِنْ كَانَ التَّهَوُّدُ أَوِ التَّنَصُّرُ قَبْل الدُّخُول تَنَجَّزَتِ الْفُرْقَةُ، أَوْ بَعْدَهُ تَوَقَّفَتْ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ،

(10/53)


وَلاَ يُقْبَل مِنْهَا إِلاَّ الإِْسْلاَمُ؛ لأَِنَّهَا أَقَرَّتْ بِبُطْلاَنِ مَا انْتَقَلَتْ عَنْهُ وَكَانَتْ مُقِرَّةً بِبُطْلاَنِ الْمُنْتَقَل إِلَيْهِ، وَلَوِ انْتَقَل يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ إِلَى دِينٍ غَيْرِ كِتَابِيٍّ لَمْ يُقَرَّ، وَفِيمَا يُطْلَبُ مِنْهُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ عِنْدَ الاِسْتِتَابَةِ قَوْلاَنِ، أَحَدُهُمَا: الإِْسْلاَمُ فَقَطْ، وَالثَّانِي: هُوَ أَوْ دِينُهُ الأَْوَّل، وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ: هُمَا أَوِ الدِّينُ الْمُسَاوِي لِدِينِهِ السَّابِقِ، فَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً تَحْتَ مُسْلِمٍ تَنَجَّزَتِ الْفُرْقَةُ قَبْل الدُّخُول، وَتَوَقَّفَتْ بَعْدَهُ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. وَلَوْ تَهَوَّدَ وَثَنِيٌّ أَوْ تَنَصَّرَ لَمْ يُقَرَّ لاِنْتِقَالِهِ عَمَّا لاَ يُقَرُّ عَلَيْهِ إِلَى بَاطِلٍ، وَالْبَاطِل لاَ يُفِيدُ فَضِيلَةَ الإِْقْرَارِ، وَيَتَعَيَّنُ الإِْسْلاَمُ، كَمُسْلِمٍ ارْتَدَّ، فَإِنْ أَبَى قُتِل. (1)

تَبْدِيل الشَّهَادَةِ فِي اللِّعَانِ:
6 - لَوْ أَبْدَل أَحَدُ الْمُتَلاَعِنَيْنِ لَفْظَةَ أَشْهَدُ بِأُقْسِمُ، أَوْ أَحْلِفُ، أَوْ أُولِي، لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ؛ لأَِنَّ اللِّعَانَ يُقْصَدُ فِيهِ التَّغْلِيظُ، وَلَفْظُ الشَّهَادَةِ أَبْلَغُ فِيهِ، وَلَوْ أَبْدَل لَفْظَةَ اللَّعْنَةِ بِالإِْبْعَادِ، أَوْ أَبْدَلَهَا (أَيْ لَفْظَةَ اللَّعْنَةِ) بِالْغَضَبِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ، أَوْ أَبْدَلَتِ الْمَرْأَةُ لَفْظَةَ الْغَضَبِ بِالسَّخَطِ، أَوْ قَدَّمَتِ الْغَضَبَ فِيمَا قَبْل الْخَامِسَةِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ، أَوْ أَبْدَلَتْهُ أَيِ الْغَضَبَ بِاللَّعْنَةِ أَوْ قَدَّمَ الرَّجُل اللَّعْنَةَ فِيمَا قَبْل الْخَامِسَةِ لَمْ
__________
(1) منهاج الطالبين وحاشية قليوبي عليه 3 / 253، وابن عابدين 3 / 285 و5 / 190، والدسوقي 4 / 308، والمغني 6 / 593، 594.

(10/53)


يُعْتَدَّ بِهِ لِمُخَالَفَتِهِ الْمَنْصُوصَ. (1) وَالأَْصْل فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} . (2) وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (لِعَانٌ) .

تَبْدِيل الزَّكَاةِ:
7 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ تَبْدِيل الزَّكَاةِ بِدَفْعِ قِيمَتِهَا بَدَلاً مِنْ أَعْيَانِهَا، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِهِ، إِذْ دَفْعُ الْقِيمَةِ عِنْدَهُمْ أَفْضَل مِنْ دَفْعِ الْعَيْنِ؛ لأَِنَّ الْعِلَّةَ فِي أَفْضَلِيَّةِ الْقِيمَةِ كَوْنُهَا أَعْوَنَ عَلَى دَفْعِ حَاجَةِ الْفَقِيرِ؛ لاِحْتِمَال أَنَّهُ يَحْتَاجُ غَيْرَ الْحِنْطَةِ مَثَلاً مِنْ ثِيَابٍ وَنَحْوِهَا، بِخِلاَفِ دَفْعِ الْعُرُوضِ، وَهَذَا فِي السَّعَةِ، أَمَّا فِي الشِّدَّةِ فَدَفْعُ الْعَيْنِ أَفْضَل. (3) وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي (زَكَاةِ الْفِطْرِ) .
__________
(1) كشاف القناع عن متن الإقناع 5 / 391 - 392 ط النصر الحديثة، والمغني لابن قدامة 7 / 436 - 437 ط الرياض الحديثة.
(2) سورة النور / 6 - 9.
(3) ابن عابدين 2 / 76 - 78، وروضة الطالبين 2 / 301 - 303، والشرح الكبير للدردير 1 / 504 - 505، والمغني لابن قدامة 3 / 55، 62، 63، 65.

(10/54)


تَبَذُّلٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - لِلتَّبَذُّل فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ: مِنْهَا: تَرْكُ التَّزَيُّنِ، وَالتَّهَيُّؤِ بِالْهَيْئَةِ الْحَسَنَةِ الْجَمِيلَةِ عَلَى جِهَةِ التَّوَاضُعِ. وَمِنْهُ حَدِيثُ سَلْمَانَ: فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً وَفِي رِوَايَةٍ مُبْتَذَلَةً. (1) وَالْمِبْذَل وَالْمِبْذَلَةُ: الثَّوْبُ الْخَلِقُ. وَالْمُتَبَذِّل: لاَبِسُهُ. وَفِي حَدِيثِ الاِسْتِسْقَاءِ فَخَرَجَ مُتَبَذِّلاً مُتَخَضِّعًا، (2) وَفِي مُخْتَارِ الصِّحَاحِ. الْبِذْلَةُ وَالْمِبْذَلَةُ بِكَسْرِ أَوَّلِهِمَا: مَا يُمْتَهَنُ مِنَ الثِّيَابِ. وَابْتِذَال الثَّوْبِ وَغَيْرِهِ: امْتِهَانُهُ. وَمِنْ مَعَانِي التَّبَذُّل أَيْضًا: تَرْكُ التَّصَاوُنِ. (3) وَالتَّبَذُّل فِي الاِصْطِلاَحِ: لُبْسُ ثِيَابِ الْبِذْلَةِ. وَالْبِذْلَةُ: الْمِهْنَةُ. وَثِيَابُ الْبِذْلَةِ هِيَ الَّتِي
__________
(1) حديث: " فرأى أم الدرداء متبذلة. . . " وفي رواية " مبتذلة ". أخرجه البخاري في صحيحه (4 / 209) ط السلفية.
(2) حديث الاستسقاء: " فخرج متبذلا متخضعا. . ". أخرجه الترمذي (2 / 445 - ط مصطفى الحلبي) وقال: حسن صحيح.
(3) لسان العرب، ومختار الصحاح، والمصباح مادة. " بذل "

(10/54)


تُلْبَسُ فِي حَال الشُّغْل، وَمُبَاشَرَةِ الْخِدْمَةِ، وَتَصَرُّفِ الإِْنْسَانِ فِي بَيْتِهِ. (1)
وَهُوَ بِهَذَا لاَ يَخْرُجُ فِي مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيِّ عَمَّا ذُكِرَ لَهُ مِنْ مَعَانٍ لُغَوِيَّةٍ.

حُكْمُهُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - التَّبَذُّل بِمَعْنَى تَرْكِ التَّزَيُّنِ. تَارَةً يَكُونُ وَاجِبًا، وَتَارَةً يَكُونُ مَسْنُونًا.، وَتَارَةً يَكُونُ مَكْرُوهًا.، وَتَارَةً يَكُونُ مُبَاحًا، وَهُوَ الأَْصْل.
3 - فَيَكُونُ وَاجِبًا: فِي الإِْحْدَادِ، وَهُوَ تَرْكُ الزِّينَةِ وَنَحْوِهَا لِلْمُعْتَدَّةِ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الطَّلاَقِ الْبَائِنِ. (2)
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِهِ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَالأَْصْل فِيهِ قَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (3) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. (4) (5)
وَإِحْدَادُهَا يَكُونُ بِتَجَنُّبِ الزِّينَةِ، وَالطِّيبِ،
__________
(1) منهاج الطالبين 1 / 315.
(2) رد المحتار على الدر المختار 2 / 616.
(3) سورة البقرة / 234.
(4) حديث: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 146 ط السلفية) . ومسلم (2 / 1124 ط عيسى البابي الحلبي) .
(5) سورة البقرة / 234.

(10/55)


وَلُبْسِ الْحُلِيِّ، وَالْمُلَوَّنِ وَالْمُطَرَّزِ مِنَ الثِّيَابِ لِلتَّزَيُّنِ، وَالْكُحْل وَالاِدِّهَانِ، وَكُل مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ تُعْتَبَرَ مَعَهُ بِاسْتِعْمَالِهِ مُتَزَيِّنَةً مَا لَمْ تَدْعُ إِلَى ذَلِكَ ضَرُورَةٌ، فَتُقَدَّرُ حِينَئِذٍ بِقَدْرِهَا، كَالْكُحْل مَثَلاً لِلرَّمَدِ، فَإِنَّهُ يُرَخَّصُ لَهَا بِاسْتِعْمَالِهِ لَيْلاً وَتَمْسَحُهُ نَهَارًا، لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ وَهِيَ حَادَّةٌ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ جَعَلَتْ فِي عَيْنِهَا صَبْرًا، فَقَال: مَا هَذَا يَا أُمَّ سَلَمَةَ؟ فَقَالَتْ: إِنَّمَا هُوَ صَبْرٌ يَا رَسُول اللَّهِ لَيْسَ فِيهِ طِيبٌ، قَال: إِنَّهُ يَشُبُّ الْوَجْهَ، فَلاَ تَجْعَلِيهِ إِلاَّ بِاللَّيْل، وَتَنْزِعِينَهُ بِالنَّهَارِ. (1)
وَحَدِيثُ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: كُنَّا نُنْهَى أَنْ نُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلاَ تَكْتَحِل وَلاَ تَتَطَيَّبُ وَلاَ تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلاَّ ثَوْبَ عَصْبٍ، وَقَدْ رُخِّصَ لَنَا عِنْدَ الطُّهْرِ إِذَا اغْتَسَلَتْ إِحْدَانَا مِنْ مَحِيضِهَا فِي نُبْذَةٍ مِنْ كُسْتِ أَظْفَارٍ. (2)
وَالْمُطَلَّقَةُ طَلاَقًا بَائِنًا كَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا عِنْدَ
__________
(1) حديث. " إنه يشب الوجه، فلا تجعليه إلا بالليل وتنزعينه بالنهار. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 727 - 728) ط عزت عبيد دعاس. والنسائي (6 / 204) ط المطبعة التجارية. قال الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير: (3 / 239 ط المطبعة العربية) أعله عبد الحق والمنذري بجهالة حال المغيرة ومن فوقه.
(2) حديث أم عطية: " كنا ننهى أن نحد. . . " أخرجه البخاري (9 / 491 ط السلفية) .

(10/55)


الْحَنَفِيَّةِ، فَيَجِبُ عَلَيْهَا تَجَنُّبُ مَا تَتَجَنَّبُهُ الْحَادَّةُ، إِظْهَارًا لِلتَّأَسُّفِ عَلَى فَوْتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ. (1) وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيل مُصْطَلَحَ (إِحْدَادٌ) .
4 - وَيَكُونُ التَّبَذُّل مَسْنُونًا فِي الاِسْتِسْقَاءِ. وَهُوَ طَلَبُ الْعِبَادِ السُّقْيَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا. فَيَخْرُجُونَ إِلَى الصَّحْرَاءِ فِي ثِيَابٍ بِذْلَةٍ خَاشِعِينَ مُتَضَرِّعِينَ وَجِلِينَ نَاكِسِينَ رُءُوسَهُمْ، إِذْ ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى الإِْجَابَةِ. فَيُصَلُّونَ رَكْعَتَيْنِ، وَيُكْثِرُونَ مِنَ الدُّعَاءِ وَالاِسْتِغْفَارِ. (2)
قَال ابْنُ عَبَّاسٍ: خَرَجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلاِسْتِسْقَاءِ مُتَبَذِّلاً مُتَوَاضِعًا مُتَخَشِّعًا مُتَضَرِّعًا حَتَّى أَتَى الْمُصَلَّى. (3) وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيل مُصْطَلَحَ (اسْتِسْقَاءٌ) . (4)
__________
(1) الاختيار شرح المختار 2 / 236 ط مصطفى الحلبي 1936، وابن عابدين 2 / 536، 616 - 618، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 2 / 150، وحاشية الجمل على شرح المنهج 4 / 457 - 458، وروضة الطالبين 8 / 405، والشرح الكبير 2 / 478 - 479، ومواهب الجليل شرح مختصر خليل 4 / 154، ونيل المآرب بشرح دليل الطالب 2 / 109 م الفلاح، ومنار السبيل في شرح الدليل 2 / 285 - 286 المكتب الإسلامي، والمغني لابن قدامة 7 / 517 - 520 م الرياض الحديثة.
(2) حاشية قليوبي على منهاج الطالبين 1 / 314 - 315، وحاشية ابن عابدين 1 / 566 - 567.
(3) حديث: ابن عباس رضي الله عنه: " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم للاستسقاء متبذلا. . . " (سبق تخريجه ف 1) .
(4) ابن عابدين 1 / 566 - 567، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 131 - 132، والشرح الكبير 1 / 405، والمغني لابن قدامة 2 / 430 م الرياض الحديثة.

(10/56)


5 - وَيَكُونُ التَّبَذُّل مَكْرُوهًا: فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ؛ لأَِنَّ التَّزَيُّنَ مَسْنُونٌ لَهُمَا بِاتِّفَاقٍ، فَيَغْتَسِل وَيَلْبَسُ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ، وَالْجَدِيدُ مِنْهَا أَفْضَل، وَأَوْلاَهَا الْبَيَاضُ، وَيَتَطَيَّبُ. وَالأَْحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: حَدِيثُ مَنِ اغْتَسَل يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَبِسَ مِنْ أَحْسَنِ ثِيَابِهِ وَمَسَّ مِنْ طِيبٍ إِنْ كَانَ عِنْدَهُ، ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ، فَلَمْ يَتَخَطَّ أَعْنَاقَ النَّاسِ، ثُمَّ صَلَّى مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ أَنْصَتَ إِذَا خَرَجَ إِمَامُهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ صَلاَتِهِ، كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ جُمُعَتِهِ الَّتِي قَبْلَهَا (1) وَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ يَقُول: مَا عَلَى أَحَدِكُمْ لَوِ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ لِيَوْمِ جُمُعَتِهِ سِوَى ثَوْبَيْ مِهْنَتِهِ. (2)
هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلرِّجَال. أَمَّا النِّسَاءُ فَإِنَّهُنَّ إِذَا أَرَدْنَ حُضُورَ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ يَتَنَظَّفْنَ بِالْمَاءِ وَلاَ يَتَطَيَّبْنَ، وَلاَ يَلْبَسْنَ الشُّهْرَةَ مِنَ الثِّيَابِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ،
__________
(1) حديث: " من اغتسل يوم الجمعة، ولبس من أحسن ثيابه ومس من طيب. . . " أخرجه أبو داود (1 / 244 - ط عزت عبيد دعاس) وقال الحافظ بن حجر في تلخيص الحبير (2 / 69 - ط المطبعة العربية) : ومداره على ابن إسحاق، وقد صرح في رواية ابن حبان والحاكم بالتحديث.
(2) حديث عبد الله بن سلام: " ما على أحدكم لو اشترى ثوبين. . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 348 - ط عيسى البابي الحلبي) وقال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات.

(10/56)


وَلْيَخْرُجْنَ تَفِلاَتٍ (1) أَيْ غَيْرَ مُتَعَطِّرَاتٍ؛ لأَِنَّهُنَّ إِذَا تَطَيَّبْنَ وَلَبِسْنَ الشُّهْرَةَ مِنَ الثِّيَابِ دَعَا ذَلِكَ إِلَى الْفَسَادِ وَالاِفْتِتَانِ بِهِنَّ. فَهَذِهِ الأَْحَادِيثُ قَدْ دَلَّتْ عَلَى كَرَاهَةِ التَّبَذُّل لِلرِّجَال فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ، وَعَلَى اسْتِحْبَابِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلنِّسَاءِ فِيهِمَا. (2)
وَانْظُرْ: (جُمُعَةً وَعِيدَيْنِ) .
وَيُكْرَهُ التَّبَذُّل فِي مَجَامِعِ النَّاسِ وَلِقَاءِ الْوُفُودِ. وَانْظُرْ لِتَفْصِيل ذَلِكَ مُصْطَلَحَ: (تَزَيُّنٌ) . وَيُكْرَهُ تَبَذُّل الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا وَالرَّجُل لِزَوْجَتِهِ؛ ذَلِكَ لأَِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَتَزَيَّنَ لِلآْخَرِ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (3) وقَوْله تَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْل الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (4) فَالْمُعَاشَرَةُ بِالْمَعْرُوفِ حَقٌّ
__________
(1) حديث: " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله. . . " أخرجه أبو داود، (1 / 381 - ط عزت عبيد الدعاس) وقال النووي في المجموع (4 / 199 - ط إدارة الطباعة المنيرية) إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.
(2) ابن عابدين 1 / 545، 556 والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 120، 126، وروضة الطالبين 2 / 45، 76، وحاشية الجمل على شرح المنهج 2 / 37 - 38، 46 - 47، 98 - 99، والشرح الكبير 1 / 381، 398، وجواهر الإكليل 1 / 96، 103، والمغني لابن قدامة 2 / 345 - 348، 370، والإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل 1 / 197، 200، وكشاف القناع عن متن الإقناع 2 / 42، 51 - 52 م النصر الحديثة، ونزهة المتقين شرح رياض الصالحين من كلام سيد المرسين للنووي 2 / 827 - 828.
(3) سورة النساء / 19.
(4) سورة البقرة / 228.

(10/57)


لِكُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الآْخَرِ، وَمِنَ الْمَعْرُوفِ أَنْ يَتَزَيَّنَ كُلٌّ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، فَكَمَا يُحِبُّ الزَّوْجُ أَنْ تَتَزَيَّنَ لَهُ زَوْجَتُهُ. فَكَذَلِكَ هِيَ تُحِبُّ أَنْ يَتَزَيَّنَ لَهَا. قَال أَبُو زَيْدٍ: تَتَّقُونَ اللَّهَ فِيهِنَّ كَمَا عَلَيْهِنَّ أَنْ يَتَّقِينَ اللَّهَ فِيكُمْ. وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: " إِنِّي لأَُحِبُّ أَنْ أَتَزَيَّنَ لِلْمَرْأَةِ كَمَا أُحِبُّ أَنْ تَتَزَيَّنَ لِي؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُول: {وَلَهُنَّ مِثْل الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} .
وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ يَلْبَسُ الثِّيَابَ النَّفِيسَةَ وَيَقُول: إِنَّ لِي نِسَاءً وَجَوَارِي، فَأُزَيِّنُ نَفْسِي كَيْ لاَ يَنْظُرْنَ إِلَى غَيْرِي. وَقَال أَبُو يُوسُفَ: يُعْجِبُنِي أَنْ تَتَزَيَّنَ لِي امْرَأَتِي، كَمَا يُعْجِبُهَا أَنْ أَتَزَيَّنَ لَهَا. (1)
وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيل مُصْطَلَحَ (زِينَةٌ) .
كَمَا يُكْرَهُ التَّبَذُّل فِي الصَّلاَةِ عَدَا مَا كَانَ مِنْهُ فِي صَلاَةِ الاِسْتِسْقَاءِ عَلَى نَحْوِ مَا سَبَقَ بَيَانُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُصَلِّي فَرْدًا أَمْ فِي جَمَاعَةٍ، إِمَامًا كَانَ أَمْ
__________
(1) فتح القدير 4 / 200 دار صادر، وابن عابدين 2 / 113، 537، 652، 3 / 188، 5 / 239، 271، 274، 481 - 482، وروضة الطالبين 7 / 344، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 2 / 67 - 68، وحاشية الجمل على شرح المنهج 4 / 280، وقليوبي على منهاج الطالبين 3 / 252، 4 / 73، وجواهر الإكليل 1 / 328 - 329، وكشاف القناع عن متن الإقناع 5 / 184 - 185 م النصر الحديثة، والمغني لابن قدامة 7 / 18 م الرياض الحديثة، وشرح منتهى الإرادات 3 / 92، 96، ومصنف عبد الرزاق 3 / 146.

(10/57)


مَأْمُومًا، كَأَنْ يَلْبَسَ الْمُصَلِّي ثَوْبًا يَزْرِي بِهِ. (1)
وَذَلِكَ لأَِنَّ مُرِيدَ الصَّلاَةِ يَعُدُّ نَفْسَهُ لِمُنَاجَاةِ رَبِّهِ، وَلِذَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَرْتَدِيَ أَكْمَل ثِيَابِهِ وَأَحْسَنَهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُل مَسْجِدٍ} (2) وَهَذِهِ الآْيَةُ وَإِنْ كَانَ نُزُولُهَا فِيمَنْ كَانَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا إِلاَّ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لاَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَالْمُرَادُ مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ عِنْدَ الصَّلاَةِ بِمَا لاَ يَصِفُ الْبَشَرَةَ وَيُخِل بِالصَّلاَةِ، وَالرَّجُل وَالْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ. (3)
6 - وَيَكُونُ التَّبَذُّل مُبَاحًا فِي غَيْرِ الْمَوَاضِعِ الْمَذْكُورَةِ، كَمَنْ يَلْبَسُ ثِيَابَ الْبِذْلَةِ فِي عَمَلِهِ أَوْ شُئُونِهِ الْخَاصَّةِ.
7 - أَمَّا التَّبَذُّل بِمَعْنَى عَدَمِ التَّصَاوُنِ، فَهُوَ مَذْمُومٌ شَرْعًا لإِِخْلاَلِهِ بِالْمُرُوءَةِ، وَلأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى عَدَمِ قَبُول الشَّهَادَةِ. وَهُوَ حَرَامٌ إِنْ كَانَ عَدَمُ التَّصَاوُنِ عَنِ الْمَعَاصِي وَتَفْصِيلُهُ فِي (الشَّهَادَةِ) .

تَبْذِيرٌ

اُنْظُرْ: إِسْرَافٌ.
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 7 / 195 - 197، وكشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 279 م النصر الحديثة.
(2) سورة الأعراف / 31.
(3) المهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 71، ونهاية المحتاج 2 / 5، وقليوبي وعميرة 1 / 176، وكشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 263 - 264، 286 م النصر الحديثة.

(10/58)


تِبْرٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - التِّبْرُ لُغَةً: الذَّهَبُ كُلُّهُ.
وَقَال ابْنُ الأَْعْرَابِيِّ: التِّبْرُ: الْفُتَاتُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ قَبْل أَنْ يُصَاغَا، فَإِذَا صِيغَا، فَهُمَا ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ.
وَقَال الْجَوْهَرِيُّ: التِّبْرُ: مَا كَانَ مِنَ الذَّهَبِ غَيْرَ مَضْرُوبٍ. فَإِذَا ضُرِبَ دَنَانِيرَ فَهُوَ عَيْنٌ، وَلاَ يُقَال: تِبْرٌ إِلاَّ لِلذَّهَبِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُهُ لِلْفِضَّةِ أَيْضًا. (1)
وَقِيل: يُطْلَقُ التِّبْرُ عَلَى غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. كَالنُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ.
وَاصْطِلاَحًا: اسْمٌ لِلذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ قَبْل ضَرْبِهِمَا، أَوْ لِلأَْوَّل فَقَطْ، (2) وَالْمُرَادُ الأَْعَمُّ.
__________
(1) لسان العرب المحيط، والمصباح المنير مادة: " تبر ".
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 310، وجواهر الإكليل 2 / 171. وحاشية قليوبي على شرح المنهاج 3 / 52.

(10/58)


الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالتِّبْرِ:
الرِّبَا فِي التِّبْرِ:
2 - أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، لِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلاَ تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلاَ تَبِيعُوا الْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلاَ تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلاَ تَبِيعُوا مِنْهَا شَيْئًا غَائِبًا بِنَاجِزٍ (1) وَخَبَرِ الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ، وَمِثْلاً بِمِثْلٍ، يَدًا بِيَدٍ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَزْنًا بِوَزْنٍ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، فَمَنْ زَادَ أَوِ اسْتَزَادَ فَهُوَ رِبًا. (2)
كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَسْكُوكَهُ، وَتِبْرَهُ، وَمَصُوغَهُ سَوَاءٌ فِي مَنْعِ بَيْعِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلاً؛ لِمَا رَوَاهُ عُبَادَةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ مُدْيٌ بِمُدْيٍ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ مُدْيٌ بِمُدْيٍ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ مُدْيٌ
__________
(1) حديث " لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل. . . " أخرجه البخاري الفتح (4 / 380 ط السلفية) ومسلم (3 / 1208 ط الحلبي) .
(2) حديث " الذهب بالذهب وزنا بوزن، ومثلا بمثل، والفضة. . . " رواه مسلم (3 / 1212 ط الحلبي) .

(10/59)


بِمُدْيٍ، فَمَنْ زَادَ أَوِ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى. (1) وَلاَ بَأْسَ بِبَيْعِ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ، وَالْفِضَّةُ أَكْثَرُهُمَا، يَدًا بِيَدٍ، وَأَمَّا نَسِيئَةً فَلاَ، وَلاَ بَأْسَ بِبَيْعِ الْبُرِّ بِالشَّعِيرِ، وَالشَّعِيرُ أَكْثَرُهُمَا، يَدًا بِيَدٍ، وَأَمَّا نَسِيئَةً فَلاَ.
وَلِعُمُومِ الأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِهَذَا الْخُصُوصِ (2) . .

الزَّكَاةُ فِي تِبْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ:
3 - الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ إِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا نُقُودًا أَوْ تِبْرًا فَفِيهِ الزَّكَاةُ، إِذَا بَلَغَ نِصَابًا وَحَال عَلَيْهِ الْحَوْل. (3) ر: (زَكَاةٌ: زَكَاةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) .

جَعْل التِّبْرِ رَأْسَمَالٍ فِي الشَّرِكَاتِ:
4 - يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التِّبْرُ رَأْسَ مَالٍ فِي شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ إِنْ تَعَامَل النَّاسُ بِهِ - أَيْ بِاسْتِعْمَالِهِ ثَمَنًا - فَيُنَزَّل التَّعَامُل حِينَئِذٍ مَنْزِلَةَ الضَّرْبِ، فَيَكُونُ
__________
(1) حديث " الذهب بالذهب تبرها وعينها. . . " أخرجه أبو داود (3 / 644 - 646 ط عزت عبيد دعاس) وأصله في صحيح مسلم (3 / 1210 ط الحلبي) .
(2) الاختيار 2 / 39 ط دار المعرفة، وبداية المجتهد 2 / 138، 139، وشرح روض الطالب 2 / 122 ط الرياض، والمغني لابن قدامة 4 / 10، 11 ط الرياض.
(3) فتح الباري 3 / 210، وانظر تفسير القرطبي والطبري، وأحكام القرآن للجصاص، كلهم في تفسير الآيتين 34، 35 من سورة التوبة.

(10/59)


ثَمَنًا، وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالٍ، وَهَذَا عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ. (1)
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: لاَ تَكُونُ الْمُفَاوَضَةُ بِمَثَاقِيل ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، وَمُرَادُهُ التِّبْرُ، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ التِّبْرُ سِلْعَةٌ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، فَلاَ تَصْلُحُ رَأْسَ مَالٍ فِي الْمُضَارَبَاتِ وَالشَّرِكَاتِ، وَنَحْوِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. (2)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِتِبْرٍ وَمَسْكُوكٍ وَلَوْ تَسَاوَيَا قَدْرًا إِنْ كَثُرَ فَضْل السِّكَّةِ، فَإِنْ سَاوَتْهَا جَوْدَةُ التِّبْرِ فَقَوْلاَنِ كَمَا فِي الشَّامِل. (3)

التِّبْرُ الْمُسْتَخْرَجُ مِنَ الأَْرْضِ:
5 - التِّبْرُ الْمُسْتَخْرَجُ مِنَ الأَْرْضِ جَعَل فِيهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْخُمُسَ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ (4) وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ فِيهِ رُبُعَ الْعُشْرِ (5) (ر: رِكَازٌ) .
__________
(1) الهداية 3 / 3 - 6 نشر المكتبة الإسلامية.
(2) تكملة فتح القدير 7 / 379 ط دار صادر، وحاشية ابن عابدين 4 / 310، وشرح المنهاج 3 / 52.
(3) شرح الزرقاني 6 / 42 ط دار الفكر.
(4) حديث " في الركاز الخمس. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 364 ط السلفية) ومسلم (3 / 1335 ط الحلبي) .
(5) حاشية ابن عابدين 2 / 44 - 26، وجواهر الإكليل 1 / 137، وشرح الزرقاني 2 / 169، 171 ط دار الفكر، وشرح المنهاج مع حاشية قليوبي 2 / 25، 26، ونيل الأوطار 4 / 147، 148، والمغني لابن قدامة 3 / 18 - 23.

(10/60)


مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
6 - فَصَّل الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ التِّبْرِ فِي (رِبًا، وَصَرْفٌ، وَشَرِكَةٌ، وَزَكَاةٌ، وَبَيْعٌ، وَمُضَارَبَةٌ، وَرِكَازٌ) " كَنْزٌ ".

تَبَرُّؤٌ

اُنْظُرْ: بَرَاءَةٌ.

(10/60)


تَبَرُّجٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - التَّبَرُّجُ لُغَةً: مَصْدَرُ تَبَرَّجَ، يُقَال: تَبَرَّجَتِ الْمَرْأَةُ: إِذَا أَبْرَزَتْ مَحَاسِنَهَا لِلرِّجَال.
وَفِي الْحَدِيثِ كَانَ يَكْرَهُ عَشْرَ خِلاَلٍ، مِنْهَا: التَّبَرُّجُ بِالزِّينَةِ لِغَيْرِ مَحَلِّهَا (1) وَالتَّبَرُّجُ: إِظْهَارُ الزِّينَةِ لِلرِّجَال الأَْجَانِبِ وَهُوَ الْمَذْمُومُ. أَمَّا لِلزَّوْجِ فَلاَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: لِغَيْرِ مَحَلِّهَا. (2) وَهُوَ فِي مَعْنَاهُ الشَّرْعِيِّ لاَ يَخْرُجُ عَنْ هَذَا.
قَال الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} (3) أَيْ غَيْرَ مُظْهِرَاتٍ
__________
(1) حديث (كان يكره عشر خلال منها التبرج. . . " أخرجه أبو داود (4 / 427 - ط عزت عبيد دعاس) وأعله ابن المديني بجهالة أحد رواته (مختصر السنن للمنذري 6 / 114 نشر دار المعرفة) .
(2) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " برج ".
(3) سورة النور / 60.

(10/61)


وَلاَ مُتَعَرِّضَاتٍ بِالزِّينَةِ لِيُنْظَرَ إِلَيْهِنَّ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَقْبَحِ الأَْشْيَاءِ وَأَبْعَدِهَا عَنِ الْحَقِّ. وَأَصْل التَّبَرُّجِ: التَّكَشُّفُ وَالظُّهُورُ لِلْعُيُونِ. (1)
وَقَال فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُْولَى} (2) حَقِيقَةُ التَّبَرُّجِ: إِظْهَارُ مَا سَتْرُهُ أَحْسَنُ.
قِيل: مَا بَيْنَ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَلْبَسُ الدِّرْعَ مِنَ اللُّؤْلُؤِ غَيْرَ مَخِيطِ الْجَانِبَيْنِ، وَتَلْبَسُ الثِّيَابَ الرِّقَاقَ، وَلاَ تُوَارِي بَدَنَهَا. (3)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّزَيُّنُ:
2 - التَّزَيُّنُ: اتِّخَاذُ الزِّينَةِ، وَهِيَ مَا يُسْتَعْمَل اسْتِجْلاَبًا لِحُسْنِ الْمَنْظَرِ مِنَ الْحُلِيِّ وَغَيْرِهِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَْرْضُ زُخْرُفَهَا
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 12 / 309، وانظر ابن عابدين 5 / 235، وتكملة فتح القدير 8 / 460، 465 - 470، وقليوبي 3 / 208 - 210، وكشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 265، 5 / 15 - 17 نشر مكتبة النصر الحديثة، والآداب الشرعية والمنح المرعية 3 / 390، والمغني لابن قدامة 6 / 554 - 558. 560 ط الرياض.
(2) سورة الأحزاب / 33.
(3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 14 / 179 - 180.

(10/61)


وَازَّيَّنَتْ} (1) أَيْ حَسُنَتْ وَبَهَجَتْ بِالنَّبَاتِ. فَأَمَّا التَّبَرُّجُ: فَهُوَ إِظْهَارُ تِلْكَ الزِّينَةِ لِمَنْ لاَ يَحِل لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهَا.

مَا يُعْتَبَرُ إِظْهَارُهُ تَبَرُّجًا:
3 - التَّبَرُّجُ: إِظْهَارُ الزِّينَةِ وَالْمَحَاسِنِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ فِيمَا يُعْتَبَرُ عَوْرَةً مِنَ الْبَدَنِ: كَعُنُقِ الْمَرْأَةِ وَصَدْرِهَا وَشَعْرِهَا، وَمَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الزِّينَةِ. أَوْ كَانَ فِيمَا لاَ يُعْتَبَرُ عَوْرَةً: كَالْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، إِلاَّ مَا وَرَدَ الإِْذْنُ بِهِ شَرْعًا كَالْكُحْل، وَالْخَاتَمِ، وَالسِّوَارِ، عَلَى مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (2) قَال: مَا ظَهَرَ مِنْهَا: الْكُحْل، وَالْخَاتَمُ، وَالسِّوَارُ (3) . وَلأَِنَّهَا تَحْتَاجُ إِلَى كَشْفِ ذَلِكَ فِي الْمُعَامَلاَتِ فَكَانَ فِيهِ ضَرُورَةٌ، عَلَى أَنَّ فِي اعْتِبَارِ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ مِنَ الْعَوْرَةِ خِلاَفًا يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (عَوْرَةٌ) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلتَّبَرُّجِ:
تَبَرُّجُ الْمَرْأَةِ:
4 - تَبَرُّجُ الْمَرْأَةِ عَلَى أَشْكَالِهِ الْمُخْتَلِفَةِ، سَوَاءٌ
__________
(1) سورة يونس / 24.
(2) سورة النور / 31.
(3) تفسير القرطبي 12 / 228، وفتح القدير للشوكاني 4 / 24.

(10/62)


مَا كَانَ مِنْهُ بِإِظْهَارِ الزِّينَةِ وَالْمَحَاسِنِ لِغَيْرِ مَنْ لاَ يَحِل لَهُ نَظَرُ ذَلِكَ، أَوْ مَا كَانَ بِالتَّبَخْتُرِ وَالاِخْتِيَال، وَالتَّثَنِّي فِي الْمَشْيِ، وَلُبْسِ الرَّقِيقِ مِنَ الثِّيَابِ الَّذِي يَصِفُ بَشَرَتَهَا، وَيُبَيِّنُ مَقَاطِعَ جِسْمِهَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ - مِمَّا يَبْدُو مِنْهَا مُثِيرًا لِلْغَرَائِزِ وَمُحَرِّكًا لِلشَّهْوَةِ - حَرَامٌ إِجْمَاعًا لِغَيْرِ الزَّوْجِ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُْولَى} (1)
وَقَوْلِهِ {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} (2) وَذَلِكَ أَنَّ النِّسَاءَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الأُْولَى كُنَّ يَخْرُجْنَ فِي أَجْوَدِ زِينَتِهِنَّ وَيَمْشِينَ مِشْيَةً مِنَ الدَّلاَّل وَالتَّبَخْتُرِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ فِتْنَةً لِمَنْ يَنْظُرُ إِلَيْهِنَّ. (3) حَتَّى الْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ، وَهُنَّ الْعَجَائِزُ وَنَحْوُهُنَّ مِمَّنْ لاَ رَغْبَةَ لِلرِّجَال فِيهِنَّ، نَزَل فِيهِنَّ: قَوْله تَعَالَى {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاَّتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} (4) فَأَبَاحَ
__________
(1) سورة الأحزاب / 33.
(2) سورة النور / 31.
(3) رد المحتار على الدر المختار 5 / 236، وتكملة فتح القدير8 / 460، 465، وقليوبي 3 / 208 - 210، 213، والشرح الكبير 1 / 214، 2 / 214 - 215، وكشاف القناع 5 / 15 - 17 ط النصر الحديثة، والمغني لابن قدامة 6 / 557 ط الرياض الحديثة، والآداب الشرعية والمنح المرعية 3 / 290، 523 ط الرياض الحديثة.
(4) سورة النور / 60.

(10/62)


لَهُنَّ وَضْعَ الْخِمَارِ، وَكَشْفَ الرَّأْسِ وَنَحْوِهِ، وَنَهَاهُنَّ مَعَ ذَلِكَ عَنِ التَّبَرُّجِ.

تَبَرُّجُ الرَّجُل:
تَبَرُّجُ الرَّجُل إِمَّا بِإِظْهَارِ عَوْرَتِهِ أَوْ تَزَيُّنِهِ، وَالتَّزَيُّنُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِلشَّرِيعَةِ، أَوْ مُخَالِفًا لَهَا.

أ - التَّبَرُّجُ بِإِظْهَارِ الْعَوْرَةِ:
5 - يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل كَشْفُ عَوْرَتِهِ أَمَامَ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ غَيْرِ زَوْجَتِهِ، أَوْ لِحَاجَةِ التَّدَاوِي وَالْخِتَانِ، عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي تَحْدِيدِ الْعَوْرَةِ. يُنْظَرُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (عَوْرَةٌ) .
وَيَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ مِنَ الرَّجُل إِلَى مَا يَنْظُرُ الرَّجُل إِلَيْهِ مِنَ الرَّجُل إِذَا أَمِنَتِ الشَّهْوَةَ؛ لاِسْتِوَاءِ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ فِي النَّظَرِ إِلَى مَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى التَّحْرِيمِ.
كَمَا يُكْرَهُ نَظَرُ الرَّجُل إِلَى فَرْجِهِ عَبَثًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ. (1)
ب - التَّبَرُّجُ بِإِظْهَارِ الزِّينَةِ:
6 - إِظْهَارُ الزِّينَةِ مِنَ الرَّجُل قَدْ يَكُونُ مُوَافِقًا -
__________
(1) تكملة فتح القدير 8 / 463 - 465، وابن عابدين 1 / 375 - 379، والشرح الصغير 1 / 285، والدسوقي 1 / 211 - 217، ومغني المحتاج 1 / 185، وقليوبي 3 / 211، وروضة الطالبين 1 / 283، والمغني 1 / 558، وكشاف القناع 1 / 306، والآداب الشرعية 3 / 337.

(10/63)


لِلشَّرِيعَةِ، وَقَدْ يَكُونُ مُخَالِفًا لَهَا. فَالتَّزَيُّنُ الْمُخَالِفُ لِلشَّرِيعَةِ، كَالأَْخْذِ مِنْ أَطْرَافِ الْحَاجِبِ تَشَبُّهًا بِالنِّسَاءِ، وَكَوَضْعِ الْمَسَاحِيقِ عَلَى الْوَجْهِ تَشَبُّهًا بِالنِّسَاءِ، وَكَالتَّزَيُّنِ بِلُبْسِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ وَالتَّخَتُّمِ بِهِ وَمَا إِلَى ذَلِكَ، وَهُنَاكَ صُوَرٌ مِنَ التَّزَيُّنِ اُخْتُلِفَ فِي حُكْمِهَا. تُنْظَرُ فِي (اخْتِضَابٌ) وَفِي (لِحْيَةٌ وَتَزَيُّنٌ) .
وَأَمَّا التَّزَيُّنُ الَّذِي أَبَاحَتْهُ الشَّرِيعَةُ، وَمِنْهُ تَزَيُّنٌ حَضَّتْ عَلَيْهِ: كَتَزَيُّنِ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ كَتَزَيُّنِهَا لَهُ، وَتَسْرِيحِ الشَّعْرِ أَوْ حَلْقِهِ، لَكِنْ يُكْرَهُ الْقَزَعُ، وَيُسَنُّ تَغْيِيرُ الشَّيْبِ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ.
وَيَجُوزُ التَّزَيُّنُ بِالتَّخَتُّمِ بِالْفِضَّةِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنَ الْفِضَّةِ، إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الْخَاتَمِ (1) وَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (تَخَتُّمٌ) .

تَبَرُّجُ الذِّمِّيَّةِ:
7 - الذِّمِّيَّةُ الْحُرَّةُ عَوْرَتُهَا كَعَوْرَةِ الْمُسْلِمَةِ الْحُرَّةِ، حَيْثُ لَمْ يُفَرِّقِ الْفُقَهَاءُ فِي إِطْلاَقِهِمْ لِلْحُرَّةِ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَغَيْرِهَا، كَمَا أَنَّهُمْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ عَوْرَةِ الرَّجُل الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، وَهَذَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 155، 255، والمنتقى على الموطأ 7 / 254، وبجيرمي على الخطيب 2 / 227 - 230، والمغني 1 / 588 - 591، وشرح مسلم للنووي 3 / 149، ونيل الأوطار 1 / 116، والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 345، وما بعدها و3 / 501 وما بعدها.

(10/63)


النَّظَرِ إِلَى عَوْرَةِ الذِّمِّيِّ رَجُلاً كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَعَلَى ذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الذِّمِّيَّةِ سَتْرُ عَوْرَتِهَا وَالاِمْتِنَاعُ عَنِ التَّبَرُّجِ الْمُثِيرِ لِلْفِتْنَةِ؛ دَرْءًا لِلْفَسَادِ وَمُحَافَظَةً عَلَى الآْدَابِ الْعَامَّةِ. (1)

مَنْ يُطْلَبُ مِنْهُ مَنْعُ التَّبَرُّجِ؟
8 - عَلَى الأَْبِ أَنْ يَمْنَعَ بِنْتَه الصَّغِيرَةَ عَنِ التَّبَرُّجِ إِذَا كَانَتْ تُشْتَهَى، حَيْثُ لاَ يُبَاحُ مَسُّهَا وَالنَّظَرُ إِلَيْهَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ لِخَوْفِ الْفِتْنَةِ، وَكَذَلِكَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِبِنْتِهِ الَّتِي لَمْ تَتَزَوَّجْ مَتَى كَانَتْ فِي وِلاَيَتِهِ، إِذْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْمُرَهَا بِجَمِيعِ الْمَأْمُورَاتِ، وَيَنْهَاهَا عَنْ جَمِيعِ الْمَنْهِيَّاتِ، وَمِثْل الأَْبِ فِي ذَلِكَ وَلِيُّهَا عِنْدَ عَدَمِهِ.
وَعَلَى الزَّوْجِ مَنْعُ زَوْجَتِهِ عَنْهُ؛ لأَِنَّهُ مَعْصِيَةٌ، فَلَهُ تَأْدِيبُهَا وَضَرْبُهَا ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ فِي كُل مَعْصِيَةٍ لاَ حَدَّ فِيهَا، إِذَا لَمْ تَسْتَجِبْ لِنُصْحِهِ وَوَعْظِهِ، مَتَى كَانَ مُتَمَشِّيًا مَعَ الْمَنْهَجِ الشَّرْعِيِّ. وَعَلَى وَلِيِّ الأَْمْرِ أَنْ يَنْهَى عَنِ التَّبَرُّجِ الْمُحَرَّمِ، وَلَهُ أَنْ يُعَاقِبَ عَلَيْهِ، وَعُقُوبَتُهُ التَّعْزِيرُ، وَالْمُرَادُ بِهِ التَّأْدِيبُ، وَيَكُونُ بِالضَّرْبِ أَوْ بِالْحَبْسِ أَوْ بِالْكَلاَمِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 375 - 379، وتبيين الحقائق 1 / 95 - 97، والشرح الصغير 1 / 285، والقوانين الفقهية ص53، والدسوقي 1 / 211 - 217، ومغني المحتاج 1 / 185 ط والروضة 10 / 328، والمغني 1 / 577 - 582، وكشاف القناع 1 / 306 - 315، وأحكام أهل الذمة 2 / 735 وما بعدها و765، 766.

(10/64)


الْعَنِيفِ، أَوْ لَيْسَ فِيهِ تَقْدِيرٌ، بَل هُوَ مُفَوَّضٌ إِلَى رَأْيِ مَنْ يَقُومُ بِهِ وَفْقَ مُقْتَضَيَاتِ الأَْحْوَال الَّتِي يُطْلَبُ فِيهَا التَّعْزِيرُ. (1) وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (تَعْزِيرٌ) .

تَبَرُّزٌ

اُنْظُرْ: قَضَاءُ الْحَاجَةِ.
__________
(1) تكملة فتح القدير 8 / 462، وابن عابدين 1 / 235، 2 / 537، 665، 3 / 177 - 182، 188 - 189، 5 / 274. وقليوبي 4 / 205 - 206، 214، وكشاف القناع عن متن الإقناع 5 / 209 - 210، 6 / 121 - 125 ط النصر الحديثة، والآداب الشرعية والمنح المرعية 1 / 506، 3 / 557 - 558 ط الرياض الحديثة، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 5 / 168 - 174.

(10/64)


تَبَرُّعٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - التَّبَرُّعُ لُغَةً: مَأْخُوذٌ مِنْ بَرَعَ الرَّجُل وَبَرُعَ بِالضَّمِّ أَيْضًا بَرَاعَةً، أَيْ: فَاقَ أَصْحَابَهُ فِي الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ فَهُوَ بَارِعٌ، وَفَعَلْتُ كَذَا مُتَبَرِّعًا أَيْ: مُتَطَوِّعًا، وَتَبَرَّعَ بِالأَْمْرِ: فَعَلَهُ غَيْرَ طَالِبٍ عِوَضًا. (1)
وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ، فَلَمْ يَضَعِ الْفُقَهَاءُ تَعْرِيفًا لِلتَّبَرُّعِ، وَإِنَّمَا عَرَّفُوا أَنْوَاعَهُ كَالْوَصِيَّةِ وَالْوَقْفِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهَا، وَكُل تَعْرِيفٍ لِنَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الأَْنْوَاعِ يُحَدِّدُ مَاهِيَّتَهُ فَقَطْ، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّ مَعْنَى التَّبَرُّعِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ تَعْرِيفِهِمْ لِهَذِهِ الأَْنْوَاعِ، لاَ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِ التَّبَرُّعِ بَذْل الْمُكَلَّفِ مَالاً أَوْ مَنْفَعَةً لِغَيْرِهِ فِي الْحَال أَوِ الْمَآل بِلاَ عِوَضٍ بِقَصْدِ الْبِرِّ وَالْمَعْرُوفِ غَالِبًا.
__________
(1) الصحاح للجوهري والمصباح مادة: (برع) .

(10/65)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّطَوُّعُ:
2 - التَّطَوُّعُ: اسْمٌ لِمَا شُرِعَ زِيَادَةً عَلَى الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ (1) وَهُوَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ التَّبَرُّعِ، فَالتَّبَرُّعُ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا، وَقَدْ لاَ يَكُونُ وَاجِبًا، وَيَكُونُ التَّطَوُّعُ أَيْضًا فِي الْعِبَادَاتِ، وَهِيَ النَّوَافِل كُلُّهَا الزَّائِدَةُ عَنِ الْفُرُوضِ وَالْوَاجِبَاتِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلتَّبَرُّعِ:
3 - حَثَّ الإِْسْلاَمُ عَلَى فِعْل الْخَيْرِ وَتَقْدِيمِ الْمَعْرُوفِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ، وَالتَّبَرُّعِ بِأَنْوَاعِهِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنَ الْخَيْرِ، فَيَكُونُ مَشْرُوعًا بِهَذِهِ الأَْدِلَّةِ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (2) فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ، وَهُوَ كُل مَعْرُوفٍ يُقَدَّمُ لِلْغَيْرِ سَوَاءٌ أَكَانَ بِتَقْدِيمِ الْمَال أَمِ الْمَنْفَعَةِ.
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَْقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} (3)
وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَإِنَّ الأَْحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى أَعْمَال
__________
(1) التعريفات للجرجاني.
(2) سورة المائدة / 2.
(3) سورة البقرة / 180.

(10/65)


الْخَيْرِ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَال: أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا، فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، لَمْ أُصِبْ مَالاً قَطُّ هُوَ أَنْفَسُ عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُنِي بِهِ؟ قَال: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا. قَال: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ: أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلاَ يُبْتَاعُ، وَلاَ يُورَثُ، وَلاَ يُوهَبُ. قَال: فَتَصَدَّقَ عُمَرُ فِي الْفُقَرَاءِ، وَفِي الْقُرْبَى، وَفِي الرِّقَابِ، وَفِي سَبِيل اللَّهِ، وَابْنِ السَّبِيل، وَالضَّيْفِ، لاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُل مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا، غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ
. (1) قَال: فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ مُحَمَّدًا. فَلَمَّا بَلَغْتُ هَذَا الْمَكَانَ: غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ، قَال مُحَمَّدٌ: غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالاً.
قَال ابْنُ عَوْنٍ: وَأَنْبَأَنِي مَنْ قَرَأَ هَذَا الْكِتَابَ، أَنَّ فِيهِ: غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالاً.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَهَادَوْا تَحَابُّوا (2) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ زِيَادَةً فِي حَيَاتِكُمْ؛ لِيَجْعَلَهَا
__________
(1) حديث: " إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 354 - 355 - ط السلفية) . ومسلم (3 / 1255 - ط الحلبي) واللفظ لمسلم.
(2) حديث: " تهادوا تحابوا " أخرجه البخاري في الأدب المفرد (برقم 594 ص 155 - ط السلفية) وجوده السخاوي في المقاصد (ص 166 - ط الخانجي) .

(10/66)


لَكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ. (1)
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ فَقَدِ اتَّفَقَتِ الأُْمَّةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّبَرُّعِ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ. (2)
4 - وَالتَّبَرُّعَاتُ أَنْوَاعٌ مُتَعَدِّدَةٌ مِنْهَا: تَبَرُّعٌ بِالْعَيْنِ، وَمِنْهَا تَبَرُّعٌ بِالْمَنْفَعَةِ، وَتَكُونُ التَّبَرُّعَاتُ، حَالَّةً أَوْ مُؤَجَّلَةً، أَوْ مُضَافَةً إِلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالتَّبَرُّعُ بِأَنْوَاعِهِ يَدُورُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ بِأَقْسَامِهِ.
5 - وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّبَرُّعَ لَيْسَ لَهُ حُكْمٌ تَكْلِيفِيٌّ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا تَعْتَرِيهِ الأَْحْكَامُ الْخَمْسَةُ: فَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا، وَقَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا، وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا، وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا؛ تَبَعًا، لِحَالَةِ التَّبَرُّعِ وَالْمُتَبَرَّعِ لَهُ وَالْمُتَبَرَّعِ بِهِ.
فَإِنْ كَانَ التَّبَرُّعُ وَصِيَّةً، فَتَكُونُ وَاجِبَةً لِتَدَارُكِ قُرْبَةٍ فَاتَتْهُ كَزَكَاةٍ أَوْ حَجٍّ، وَتَكُونُ مَنْدُوبَةً إِذَا كَانَ وَرَثَتُهُ أَغْنِيَاءَ وَهِيَ فِي حُدُودِ الثُّلُثِ، وَتَكُونُ حَرَامًا إِذَا أَوْصَى لِمَعْصِيَةٍ أَوْ بِمُحَرَّمٍ، وَتَكُونُ مَكْرُوهَةً إِذَا أَوْصَى لِفَقِيرٍ أَجْنَبِيٍّ وَلَهُ فَقِيرٌ قَرِيبٌ، وَتَكُونُ مُبَاحَةً إِذَا أَوْصَى بِأَقَل مِنَ الثُّلُثِ لِغَنِيٍّ أَجْنَبِيٍّ وَوَرَثَتُهُ أَغْنِيَاءُ.
__________
(1) حديث: " إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم. . . " أخرجه الطبراني كما في مجمع الزوائد (4 / 212 - ط القدسي) وقال عن طرقه ابن حجر في بلوغ المرام (ص 221 - ط عبد الحميد حنفي) : كلها ضعيفة، لكن قد يقوي بعضها بعضا.
(2) مغني المحتاج 2 / 276.

(10/66)


وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ فِي بَاقِي التَّبَرُّعَاتِ كَالْوَقْفِ وَالْهِبَةِ. (1) .

أَرْكَانُ التَّبَرُّعِ:
6 - التَّبَرُّعُ أَسَاسُهُ الْعَقْدُ، وَلاَ بُدَّ مِنْ تَوَافُرِ أَرْكَانِ الْعَقْدِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَدَدِ هَذِهِ الأَْرْكَانِ.
فَالْجُمْهُورُ يَرَوْنَ أَنَّ لِلتَّبَرُّعِ أَرْبَعَةَ أَرْكَانٍ: مُتَبَرِّعٌ، وَمُتَبَرَّعٌ لَهُ، وَمُتَبَرَّعٌ بِهِ، وَصِيغَةٌ. فَالْمُتَبَرِّعُ هُوَ الْمُوصِي أَوِ الْوَاهِبُ أَوِ الْوَاقِفُ أَوِ الْمُعِيرُ. وَالْمُتَبَرَّعُ لَهُ قَدْ يَكُونُ الْمُوصَى لَهُ أَوِ الْمَوْهُوبَ لَهُ أَوِ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ أَوِ الْمُسْتَعِيرَ. وَالْمُتَبَرَّعُ بِهِ قَدْ يَكُونُ مُوصًى بِهِ أَوْ مَوْهُوبًا أَوْ مَوْقُوفًا أَوْ مُعَارًا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَالصِّيغَةُ هِيَ الَّتِي تُنْشِئُ التَّبَرُّعَ وَتُبَيِّنُ إِرَادَةَ الْمُتَبَرِّعِ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلِلتَّبَرُّعِ عِنْدَهُمْ رُكْنٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الصِّيغَةُ، وَالْخِلاَفُ عِنْدَهُمْ فِيمَا تَتَحَقَّقُ بِهِ هَذِهِ الصِّيغَةُ، وَهَذَا يَخْتَلِفُ تَبَعًا لِنَوْعِ التَّبَرُّعِ (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 330 - 331 ط بولاق، والحطاب 5 / 224، والبهجة شرح التحفة 2 / 236، والدسوقي 4 / 376، ومغني المحتاج 2 / 264، 396، والمغني 5 / 354، 6 / 414 - 418.
(2) بدائع الصنائع 7 / 331 - 333، والدسوقي مع الشرح الكبير 3 / 389 - 391، 4 / 69، 76، 375، 390، وبداية المجتهد 2 / 251 ط دار الفكر ومغني المحتاج 2 / 264 - 266، 376، 379 - 381، 397، 3 / 39 - 40، 44، 53، والمغني 5 / 190، 6 / 440.

(10/67)


شُرُوطُ التَّبَرُّعِ:
7 - لِكُل نَوْعٍ مِنَ التَّبَرُّعَاتِ شُرُوطٌ إِذَا تَحَقَّقَتْ كَانَ التَّبَرُّعُ صَحِيحًا. وَإِذَا لَمْ تَتَحَقَّقْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا، وَهَذِهِ الشُّرُوطُ كَثِيرَةٌ وَمُتَنَوِّعَةٌ، فَبَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُتَبَرِّعِ، وَبَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُتَبَرَّعِ لَهُ، وَبَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُتَبَرَّعِ بِهِ، وَبَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِالصِّيغَةِ، وَتَفْصِيل شُرُوطِ كُل نَوْعٍ مِنَ التَّبَرُّعَاتِ فِي مُصْطَلَحِهِ. (1)

آثَارُ التَّبَرُّعِ:
8 - التَّبَرُّعُ إِذَا تَمَّ بِشُرُوطِهِ الشَّرْعِيَّةِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرٌ شَرْعِيٌّ، وَهُوَ انْتِقَال الْمُتَبَرَّعِ بِهِ إِلَى الْمُتَبَرَّعِ لَهُ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلاَفِ الْمُتَبَرَّعِ بِهِ.
فَفِي الْوَصِيَّةِ مَثَلاً يَنْتَقِل الْمِلْكُ مِنَ الْمُوصِي بَعْدَ وَفَاتِهِ إِلَى الْمُوصَى لَهُ بِقَبُولِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُوصَى بِهِ أَعْيَانًا أَمْ مَنَافِعَ، وَفِي الْهِبَةِ يَنْتَقِل مِلْكُ الْمَوْهُوبِ مِنَ الْوَاهِبِ إِلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ إِذَا قَبَضَهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَيَتَوَقَّفُ انْتِقَالُهُ عَلَى الْقَبْضِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَفِي الْعَارِيَّةِ يَنْتَقِل حَقُّ الاِنْتِفَاعِ إِلَى الْمُسْتَعِيرِ انْتِقَالاً مُؤَقَّتًا، وَأَمَّا الْوَقْفُ
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 331، 334، 335، 337 - 338، والدسوقي مع الشرح الكبير4 / 380، 390، ومغني المحتاج 2 / 264 - 266، 376، 397، 3 / 39 - 40، 47، والمغني 6 / 440.

(10/67)


فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي انْتِقَال الْمِلْكِ وَعَدَمِهِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ: (1) أَنَّ الْوَقْفَ يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ وَيَبْقَى عَلَى مِلْكِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَبْقَى عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ (2) وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا وَقَفَ أَسْهُمًا لَهُ بِخَيْبَرَ قَال لَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: حَبِّسْ أَصْلَهَا (3) فَاسْتَنْبَطُوا مِنْ ذَلِكَ النَّصِّ بَقَاءَ الْمَوْقُوفِ عَلَى مِلْكِ وَاقِفِهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ التَّبَرُّعَ يُنْتِجُ أَثَرًا شَرْعِيًّا، وَهُوَ انْتِقَال الْمِلْكِ فِي الْعَيْنِ أَوِ الْمَنْفَعَةِ مِنَ الْمُتَبَرِّعِ إِلَى الْمُتَبَرَّعِ لَهُ إِذَا تَمَّ الْعَقْدُ بِشُرُوطِهِ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلاَتٌ وَاخْتِلاَفٌ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي (عَارِيَّةٌ. هِبَةٌ. وَقْفٌ. وَصِيَّةٌ. إِلَخْ) .

مَا يَنْتَهِي بِهِ التَّبَرُّعُ:
9 - انْتِهَاءُ التَّبَرُّعِ قَدْ يَكُونُ بِبُطْلاَنِهِ، وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ فِعْلٍ مِنْ أَحَدٍ، وَقَدْ يَكُونُ بِفِعْل التَّبَرُّعِ أَوْ غَيْرِهِ. وَالأَْصْل فِي التَّبَرُّعِ عَدَمُ انْتِهَائِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْبِرِّ وَالْمَعْرُوفِ، بِاسْتِثْنَاءِ الإِْعَارَةِ لأَِنَّهَا مُؤَقَّتَةٌ. وَبِاسْتِعْرَاضِ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ فِي انْتِهَاءِ التَّبَرُّعِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 385 وما بعدها ط بولاق، 8 / 3898، 3913 ط الإمام.
(2) مغني المحتاج 2 / 382، والمغني لابن قدامة 6 / 190، والشرح الكبير 4 / 76 ط الحلبي.
(3) حديث: " حبس أصلها " سبق تخريجه (ف 3) .

(10/68)


يَتَبَيَّنُ أَنَّ الاِنْتِهَاءَ يَتَّسِعُ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِ التَّبَرُّعِ، وَيَضِيقُ فِي بَعْضِهَا الآْخَرِ، وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى فَقَدْ يَكُونُ إِنْهَاءُ بَعْضِ التَّبَرُّعَاتِ غَيْرَ مُمْكِنٍ كَالْوَقْفِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَقَدْ يَكُونُ أَمْرًا حَتْمِيًّا كَالإِْعَارَةِ. (1)
وَتَفْصِيل مَا يَتَعَلَّقُ بِكُل نَوْعٍ مِنَ التَّبَرُّعَاتِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِهِ.
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 394 ط بولاق والمبسوط 2 / 41، وفتح القدير 6 / 48 ط الحلبي، وحاشية الدسوقي 3 / 394، 4 / 69 - 76، 99 وما بعدها 379 - 380، ومغني المحتاج 2 / 401 - 403، 3 / 54، 71، 72، والمغني 6 / 277، 280، 435، 438، 480، ومنار السبيل 1 / 430.

(10/68)


تَبَرُّكٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - التَّبَرُّكُ لُغَةً: طَلَبُ الْبَرَكَةِ، وَالْبَرَكَةُ هِيَ: النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ، وَالتَّبْرِيكُ: الدُّعَاءُ لِلإِْنْسَانِ بِالْبَرَكَةِ. وَبَارَكَ اللَّهُ الشَّيْءَ وَبَارَكَ فِيهِ وَعَلَيْهِ: وَضَعَ فِيهِ الْبَرَكَةَ، وَفِي التَّنْزِيل: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} (1) وَتَبَرَّكْتُ بِهِ: تَيَمَّنْتُ بِهِ. قَال الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ: الْبَرَكَةُ ثُبُوتُ الْخَيْرِ الإِْلَهِيِّ فِي الشَّيْءِ. قَال تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْل الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَْرْضِ} (2) {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} (3) تَنْبِيهًا عَلَى مَا يُفِيضُ بِهِ مِنَ الْخَيْرَاتِ الإِْلَهِيَّةِ. (4)
وَعَلَى هَذَا فَالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِلتَّبَرُّكِ هُوَ: طَلَبُ ثُبُوتِ الْخَيْرِ الإِْلَهِيِّ فِي الشَّيْءِ.
__________
(1) سورة الأنعام / 92.
(2) سورة الأعراف / 96.
(3) سورة الأنبياء / 50.
(4) لسان العرب، والمصباح المنير مادة (برك) والمفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني.

(10/69)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّوَسُّل:
2 - التَّوَسُّل لُغَةً: التَّقَرُّبُ. يُقَال: تَوَسَّل الْعَبْدُ إِلَى رَبِّهِ بِوَسِيلَةٍ إِذَا تَقَرَّبَ إِلَيْهِ بِعَمَلٍ. (1) وَفِي التَّنْزِيل: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} . (2)
ب - الشَّفَاعَةُ:
3 - الشَّفَاعَةُ: لُغَةً مِنْ مَادَّةِ شَفَعَ، وَيُقَال: اسْتَشْفَعْتُ بِهِ: طَلَبْتُ مِنْهُ الشَّفَاعَةَ. وَقَال الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ: الشَّفَاعَةُ الاِنْضِمَامُ إِلَى آخَرَ نَاصِرًا لَهُ وَسَائِلاً عَنْهُ، وَشَفَّعَ وَتَشَفَّعَ: طَلَبَ الشَّفَاعَةَ، وَالشَّفَاعَةُ: كَلاَمُ الشَّفِيعِ لِلْمَلِكِ فِي حَاجَةٍ يَسْأَلُهَا لِغَيْرِهِ، وَالشَّافِعُ: الطَّالِبُ لِغَيْرِهِ، وَشَفَعَ إِلَيْهِ فِي مَعْنَى: طَلَبَ إِلَيْهِ قَضَاءَ حَاجَةِ الْمَشْفُوعِ لَهُ. (3)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الضَّرَاعَةُ وَالسُّؤَال فِي التَّجَاوُزِ عَنْ ذُنُوبِ الْمَشْفُوعِ لَهُ أَوْ قَضَاءِ حَاجَتِهِ.

ج - الاِسْتِغَاثَةُ:
4 - الاِسْتِغَاثَةُ لُغَةً: طَلَبُ الْغَوْثِ، وَفِي التَّنْزِيل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} (4) وَأَغَاثَهُ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، ومختار الصحاح مادة: (وسل) .
(2) سورة المائدة / 35.
(3) لسان العرب، وغريب القرآن للأصفهاني مادة (شفع) .
(4) سورة الأنفال / 9.

(10/69)


إِغَاثَةً: إِذَا أَعَانَهُ وَنَصَرَهُ، فَهُوَ مُغِيثٌ، وَأَغَاثَهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ: كَشَفَ شِدَّتَهُمْ. (1)

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
التَّبَرُّكُ مَشْرُوعٌ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي:

(1) التَّبَرُّكُ بِالْبَسْمَلَةِ وَالْحَمْدَلَةِ:
5 - ذَهَبَ بَعْضُ أَهْل الْعِلْمِ إِلَى سُنِّيَّةِ ابْتِدَاءِ كُل أَمْرٍ ذِي بَالٍ يُهْتَمُّ بِهِ شَرْعًا - بِحَيْثُ لاَ يَكُونُ مُحَرَّمًا لِذَاتِهِ، وَلاَ مَكْرُوهًا لِذَاتِهِ، وَلاَ مِنْ سَفَاسِفِ الأُْمُورِ وَمُحَقَّرَاتِهَا - بِالْبَسْمَلَةِ وَالْحَمْدَلَةِ، كُلٌّ فِي مَوْضِعِهِ عَلَى سَبِيل التَّبَرُّكِ.
وَجَرَى الْعُلَمَاءُ فِي افْتِتَاحِ كَلِمَاتِهِمْ وَخُطَبِهِمْ وَمُؤَلَّفَاتِهِمْ وَكُل أَعْمَالِهِمُ الْمُهِمَّةِ بِالْبَسْمَلَةِ عَمَلاً بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُل أَمْرٍ ذِي بَالٍ لاَ يُبْدَأُ فِيهِ بِبِسْمِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ أَوْ أَقْطَعُ أَوْ أَجْذَمُ (2) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: كُل أَمْرٍ ذِي بَالٍ لاَ يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ أَوْ أَقْطَعُ أَوْ أَجْذَمُ (3) وَمِنْ
__________
(1) المصباح المنير، وغريب القرآن للأصفهاني.
(2) حديث: " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر أو أقطع أو أجذم ". أخرجه عبد القادر الرهاوي في الأربعين، وعنه السبكي في الطبقات، وإسناده ضعيف جدا. (فيض القدير للمناوي 5 / 13 - ط المكتبة التجارية) .
(3) حديث: " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أبتر أو أقطع أو أجذم " أخرجه ابن ماجه (1 / 610 - ط الحلبي) وإسناده ضعيف، (فيض القدير للمناوي 5 / 13 - طالمكتبة التجارية) .

(10/70)


هَذَا الْبَابِ الإِْتْيَانُ بِالْبَسْمَلَةِ عِنْدَ الأَْكْل، وَالشُّرْبِ، وَالْجِمَاعِ، وَالاِغْتِسَال، وَالْوُضُوءِ، وَالتِّلاَوَةِ، وَالتَّيَمُّمِ، وَالرُّكُوبِ وَالنُّزُول. (1) وَمَا إِلَى ذَلِكَ.

(2) التَّبَرُّكُ بِآثَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
6 - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّبَرُّكِ بِآثَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوْرَدَ عُلَمَاءُ السِّيرَةِ وَالشَّمَائِل وَالْحَدِيثِ أَخْبَارًا كَثِيرَةً تُمَثِّل تَبَرُّكَ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِأَنْوَاعٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ آثَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُجْمِلُهَا فِيمَا يَأْتِي:

أ - فِي وَضُوئِهِ:
7 - كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، (2) لِفَرْطِ حِرْصِهِمْ عَلَى التَّبَرُّكِ بِمَا مَسَّهُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 4، وجواهر الإكليل 1 / 10، 212، وتحفة المحتاج 1 / 3، وحاشية الباجوري 1 / 2، 4، وسبل السلام 1 / 1، وكشف المخدرات ص13، والبدائع 1 / 20، ودليل الفالحين شرح رياض الصالحين 3 / 215، 239، 455، وإحياء علوم الدين 2 / 252، ومغني المحتاج 1 / 42، 51، 57، وفتح الباري شرح صحيح البخاري 1 / 3، 9 / 521، 601، 633، والأذكار للإمام النووي ص 24، 32، 33، 205، وزاد المعاد لابن القيم 2 / 22
(2) حديث: " ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 330 - ط السلفية) .

(10/70)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَدَنِهِ الشَّرِيفِ، وَكَانَ مَنْ لَمْ يُصِبْ مِنْ وَضُوئِهِ يَأْخُذُ مِنْ بَلَل يَدِ صَاحِبِهِ. (1)
ب - فِي رِيقِهِ وَنُخَامَتِهِ:
8 - كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَبْصُقُ بُصَاقًا وَلاَ يَتَنَخَّمُ نُخَامَةً إِلاَّ تَلَقَّوْهَا، وَأَخَذُوهَا مِنَ الْهَوَاءِ، وَوَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكُوا بِهَا وُجُوهَهُمْ وَأَجْسَادَهُمْ، وَمَسَحُوا بِهَا جُلُودَهُمْ وَأَعْضَاءَهُمْ تَبَرُّكًا بِهَا. (2) وَكَانَ يَتْفُل فِي أَفْوَاهِ الأَْطْفَال، وَيَمُجُّ رِيقَهُ فِي الأَْيَادِي، وَكَانَ يَمْضُغُ الطَّعَامَ فَيَمُجُّهُ فِي فَمِ الشَّخْصِ، وَكَانَ الصَّحَابَةُ يَأْتُونَ بِأَطْفَالِهِمْ لِيُحَنِّكَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَاءَ الْبَرَكَةِ. (3)
ج - فِي دَمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
9 - ثَبَتَ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ شَرِبُوا دَمَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَبِيل التَّبَرُّكِ، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) نسيم الرياض في شرح القاضي عياض، وشرح الشفا 3 / 392، وفتح الباري شرح صحيح البخاري 5 / 330، وزاد المعاد في هدي خير العباد 2 / 124.
(2) الحديث بتمامه تقدم تخريجه في الفقرة السابقة.
(3) نسيم الرياض 3 / 393، والخصائص الكبرى للسيوطي 1 / 153، وزاد المعاد 2 / 124، ومغني المحتاج 4 / 296 وجواهر الإكليل 1 / 224 وصحيح مسلم مع النووي 14 / 122 وحديث: " كان الصحابة. . . " ورد بلفظ: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالصبيان فيبرك عليهم ويحنكهم ". أخرجه مسلم (1 / 237 - ط الحلبي) .

(10/71)


أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَحْتَجِمُ، فَلَمَّا فَرَغَ قَال: يَا عَبْدَ اللَّهِ اذْهَبْ بِهَذَا الدَّمِ فَأَهْرِقْهُ حَيْثُ لاَ يَرَاكَ أَحَدٌ فَشَرِبَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ، قَال: يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا صَنَعْتَ؟ قَال: جَعَلْتُهُ فِي أَخْفَى مَكَانٍ عَلِمْتُ أَنَّهُ مَخْفِيٌّ عَنِ النَّاسِ، قَال: لَعَلَّكَ شَرِبْتَهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَال: وَيْلٌ لِلنَّاسِ مِنْكَ، وَوَيْلٌ لَكَ مِنَ النَّاسِ، فَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْقُوَّةَ الَّتِي بِهِ مِنْ ذَلِكَ الدَّمِ. (1) وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لَهُ: مَنْ خَالَطَ دَمُهُ دَمِي لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ. (2)
د - فِي شَعْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
10 - كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوَزِّعُ شَعْرَهُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ عِنْدَمَا يَحْلِقُ رَأْسَهُ الشَّرِيفَ، وَكَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَحْرِصُونَ عَلَى أَنْ يُحَصِّلُوا شَيْئًا مِنْ شَعْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُحَافِظُونَ عَلَى مَا يَصِل إِلَى أَيْدِيهِمْ مِنْهُ لِلتَّبَرُّكِ بِهِ. فَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى مِنًى فَأَتَى الْجَمْرَةَ فَرَمَاهَا ثُمَّ أَتَى مَنْزِلَهُ بِمِنًى وَنَحَرَ، ثُمَّ قَال: لِلْحَلاَّقِ: خُذْ وَأَشَارَ إِلَى جَانِبِهِ الأَْيْمَنِ ثُمَّ الأَْيْسَرِ، ثُمَّ جَعَل
__________
(1) الخصائص الكبرى 1 / 171، وحاشية البيجوري 1 / 104، ودليل الفالحين 2 / 222.
(2) حديث عبد الله بن الزبير في شربه دم النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه الحاكم (3 / 554 - ط دائرة المعارف العثمانية) والطبراني كما في مجمع الزوائد (8 / 271 - ط القدسي) وقال الهيثمي: رواه الطبراني والبزار باختصار، ورجال البزار رجال الصحيح غير هنيد بن القاسم وهو ثقة.

(10/71)


يُعْطِيهِ النَّاسَ. وَفِي رِوَايَةٍ: لَمَّا رَمَى الْجَمْرَةَ وَنَحَرَ نُسُكَهُ وَحَلَقَ نَاوَل الْحَلاَّقَ شِقَّهُ الأَْيْمَنَ، فَحَلَقَهُ، ثُمَّ دَعَا أَبَا طَلْحَةَ الأَْنْصَارِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، ثُمَّ نَاوَلَهُ الشِّقَّ الأَْيْسَرَ فَقَال: احْلِقْ، فَحَلَقَهُ، فَأَعْطَاهُ أَبَا طَلْحَةَ، فَقَال: اقْسِمْهُ بَيْنَ النَّاسِ. (1)
وَفِي رِوَايَةٍ: فَبَدَأَ بِالشِّقِّ الأَْيْمَنِ فَوَزَّعَهُ الشَّعْرَةَ وَالشَّعْرَتَيْنِ بَيْنَ النَّاسِ، ثُمَّ قَال بِالأَْيْسَرِ فَصَنَعَ بِهِ مِثْل ذَلِكَ. (2)
وَرُوِيَ أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَقَدَ قَلَنْسُوَةً لَهُ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ، فَطَلَبَهَا حَتَّى وَجَدَهَا، وَقَال: اعْتَمَرَ رَسُول اللَّهِ فَحَلَقَ رَأْسَهُ فَابْتَدَرَ النَّاسُ جَوَانِبَ شَعْرِهِ فَسَبَقْتُهُمْ إِلَى نَاصِيَتِهِ فَجَعَلْتُهَا فِي هَذِهِ الْقَلَنْسُوَةِ، فَلَمْ أَشْهَدْ قِتَالاً وَهِيَ مَعِي إِلاَّ رُزِقْتُ النَّصْرَ (3) .
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْحَلاَّقُ يَحْلِقُهُ وَأَطَافَ بِهِ أَصْحَابُهُ، فَمَا يُرِيدُونَ أَنْ تَقَعَ شَعْرَةٌ إِلاَّ فِي يَدِ رَجُلٍ. (4)
__________
(1) حديث: " اقسمه بين الناس. . . " أخرجه مسلم (2 / 947 - ط الحلبي) .
(2) زاد المعاد لابن القيم 1 / 232، ونسيم الرياض 3 / 133.
(3) حديث خالد بن الوليد. أخرجه الحاكم (3 / 299 - ط دائرة المعارف العثمانية) وقال الذهبي في تلخيصه: منقطع.
(4) حديث أنس: " لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه مسلم (4 / 1812 - ط الحلبي) .

(10/72)


هـ - فِي سُؤْرِهِ وَطَعَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
11 - ثَبَتَ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يَتَنَافَسُونَ فِي سُؤْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَحُوزَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْبَرَكَةَ الَّتِي حَلَّتْ فِي الطَّعَامِ أَوِ الشَّرَابِ مِنْ قِبَل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (1) فَعَنْ سَهْل بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ الأَْشْيَاخُ، فَقَال لِلْغُلاَمِ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلاَءِ؟ فَقَال الْغُلاَمُ: - وَهُوَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: وَاَللَّهِ يَا رَسُول اللَّهِ لاَ أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا، فَتَلَّهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَدِهِ. (2)
وَعَنْ عَمِيرَةَ بِنْتِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ وَأَخَوَاتُهَا يُبَايِعْنَهُ، وَهُنَّ خَمْسٌ، فَوَجَدَتْهُ يَأْكُل قَدِيدَةً، فَمَضَغَ لَهُنَّ قَدِيدَةً، ثُمَّ نَاوَلَنِي الْقَدِيدَةَ، فَمَضَغَتْهَا كُل وَاحِدَةٍ قِطْعَةً قِطْعَةً، فَلَقِينَ اللَّهَ وَمَا وُجِدَ لأَِفْوَاهِهِنَّ خُلُوفٌ. (3) وَفِي حَدِيثِ خُنْسِ بْنِ عَقِيلٍ: سَقَانِي
__________
(1) دليل الفالحين 2 / 568، وصحيح مسلم بشرح الإمام النووي 15 / 40.
(2) حديث سهل بن سعد. . . . أخرجه البخاري (الفتح 10 / 86 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 167 - ط الحلبي) .
(3) حديث عميرة بنت مسعود: أخرجه الطبراني (24 / 341 - ط وزارة الأوقاف العراقية) وقال الهيثمي في المجمع (8 / 283 - ط القدسي) : فيه إسحاق بن إدريس الأسواري وهو ضعيف.

(10/72)


رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرْبَةً مِنْ سَوِيقٍ شَرِبَ أَوَّلَهَا وَشَرِبْتُ آخِرَهَا، فَمَا بَرِحْتُ أَجِدُ شِبَعَهَا إِذَا جُعْتُ، وَرَيَّهَا إِذَا عَطِشْتُ، وَبَرْدَهَا إِذَا ظَمِئْتُ. (1)
و فِي أَظَافِرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
12 - ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلَّمَ أَظَافِرَهُ، وَقَسَمَهَا بَيْنَ النَّاسِ لِلتَّبَرُّكِ بِهَا، فَقَدْ ذَكَرَ الإِْمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ، مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ: أَنَّهُ شَهِدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَنْحَرِ وَرَجُلاً مِنْ قُرَيْشٍ، وَهُوَ يَقْسِمُ أَضَاحِيَّ، فَلَمْ يُصِبْهُ مِنْهَا شَيْءٌ وَلاَ صَاحِبُهُ، فَحَلَقَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ، فَأَعْطَاهُ، فَقَسَمَ مِنْهُ عَلَى رِجَالٍ، وَقَلَّمَ أَظَافِرَهُ فَأَعْطَاهُ صَاحِبَهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ ثُمَّ قَلَّمَ أَظَافِرَهُ وَقَسَمَهَا بَيْنَ النَّاسِ. (2)
ز - فِي لِبَاسِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوَانِيهِ:
13 - ثَبَتَ كَذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يَحْرِصُونَ عَلَى اقْتِنَاءِ مَلاَبِسِهِ وَأَوَانِيهِ لِلتَّبَرُّكِ بِهَا وَالاِسْتِشْفَاءِ.
" فَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهَا أَخْرَجَتْ جُبَّةً طَيَالِسَةً وَقَالَتْ: إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) حديث خنس بن عقيل: عزاه ابن حجر في الإصابة إلى قاسم بن ثابت في الدلائل (1 / 358 ط مطبعة السعادة) .
(2) حديث محمد بن زيد في تقليم الأظافر: أخرجه أحمد (4 / 42 - ط الميمنية) ورجاله ثقات. وانظر زاد المعاد 1 / 232.

(10/73)


كَانَ يَلْبَسُهَا فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا لِلْمَرْضَى يُسْتَشْفَى بِهَا. (1)
وَفِي رِوَايَةٍ: فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا نَسْتَشْفِي بِهَا. (2)
وَرُوِيَ " عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْبَاجِيِّ قَال: كَانَتْ عِنْدَنَا قَصْعَةٌ مِنْ قِصَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُنَّا نَجْعَل فِيهَا الْمَاءَ لِلْمَرْضَى، يَسْتَشْفُونَ بِهَا، فَيُشْفَوْنَ بِهَا. (3)
ح - فِي مَا لَمَسَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُصَلاَّهُ:
14 - كَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَتَبَرَّكُونَ فِيمَا تَلْمِسُ يَدُهُ الشَّرِيفَةُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (4)
وَمِنْ ذَلِكَ بَرَكَةُ يَدِهِ فِيمَا لَمَسَهُ وَغَرَسَهُ لِسَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ كَاتَبَهُ مَوَالِيهِ عَلَى ثَلاَثِمِائَةِ وَدِيَّةٍ وَهُوَ صِغَارُ النَّخْل يَغْرِسُهَا لَهُمْ كُلَّهَا، تُعَلَّقُ وَتُطْعَمُ، وَعَلَى أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَامَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَرَسَهَا لَهُ بِيَدِهِ، إِلاَّ وَاحِدَةً غَرَسَهَا غَيْرُهُ، فَأَخَذَتْ كُلُّهَا إِلاَّ تِلْكَ الْوَاحِدَةَ، فَقَلَعَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَدَّهَا فَأَخَذَتْ وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَطْعَمَ النَّخْل مِنْ عَامِهِ إِلاَّ الْوَاحِدَةَ، فَقَلَعَهَا رَسُول اللَّهِ
__________
(1) حديث أسماء بنت أبي بكر أخرجه مسلم (3 / 1641 - ط نسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض3 / 134.
(2) نسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض3 / 134.
(3) صحيح مسلم مع شرح الإمام النووي 14 / 123.
(4) صحيح مسلم بشرح الإمام النووي 15 / 82، والشفاء للقاضي عياض 1 / 278.

(10/73)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَرَسَهَا فَأَطْعَمَتْ مِنْ عَامِهَا، وَأَعْطَاهُ مِثْل بَيْضَةِ الدَّجَاجَةِ مِنْ ذَهَبٍ، بَعْدَ أَنْ أَدَارَهَا عَلَى لِسَانِهِ، فَوَزَنَ مِنْهَا لِمَوَالِيهِ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةٍ، وَبَقِيَ عِنْدَهُ مِثْل مَا أَعْطَاهُمْ. (1)
وَوَضَعَ يَدَهُ الشَّرِيفَةَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِ حَنْظَلَةَ بْنِ حِذْيَمٍ وَبَرَّكَ عَلَيْهِ، فَكَانَ حَنْظَلَةُ يُؤْتَى بِالرَّجُل قَدْ وَرِمَ وَجْهُهُ، وَالشَّاةِ قَدْ وَرِمَ ضَرْعُهَا، فَيُوضَعُ عَلَى مَوْضِعِ كَفِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَذْهَبُ الْوَرَمُ. (2)
وَكَانَ يُؤْتَى إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَرْضَى وَأَصْحَابِ الْعَاهَاتِ وَالْمَجَانِينِ فَيَمْسَحُ عَلَيْهِمْ بِيَدِهِ الشَّرِيفَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَزُول مَا بِهِمْ مِنْ مَرَضٍ وَجُنُونٍ وَعَاهَةٍ. (3)
وَكَذَلِكَ كَانُوا يَحْرِصُونَ عَلَى أَنْ يُصَلِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَكَانٍ مِنْ بُيُوتِهِمْ، لِيَتَّخِذُوهُ مُصَلًّى لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَتَحْصُل لَهُمْ بَرَكَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَعَنْ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا - قَال: كُنْتُ أُصَلِّي لِقَوْمِي بَنِي سَالِمٍ، وَكَانَ يَحُول بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ وَادٍ إِذَا جَاءَتِ الأَْمْطَارُ، فَيَشُقُّ عَلَيَّ اجْتِيَازُهُ قِبَل مَسْجِدِهِمْ، فَجِئْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) حديث سلمان. . . أخرجه البزار (3 / 268 - كشف الأستار - ط الرسالة) وقال الهيثمي في المجمع (9 / 337 - ط القدسي) : رجاله رجال الصحيح.
(2) حديث حنظلة بن حذيم. أخرجه أحمد (5 / 67 - 68 - ط الميمنية) وقال الهيثمي في المجمع (9 / 418 - ط القدسي) رجاله ثقات.
(3) نسيم الرياض 3 / 147.

(10/74)


فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي أَنْكَرْتُ بَصَرِي، وَإِنَّ الْوَادِيَ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَ قَوْمِي يَسِيل إِذَا جَاءَتِ الأَْمْطَارُ فَيَشُقُّ عَلَيَّ اجْتِيَازُهُ، فَوَدِدْتُ أَنَّكُ تَأْتِي فَتُصَلِّي فِي بَيْتِي مَكَانًا أَتَّخِذُهُ مُصَلًّى، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَأَفْعَل إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَغَدَا عَلَيَّ رَسُول اللَّهِ وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَمَا اشْتَدَّ النَّهَارُ، وَاسْتَأْذَنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَذِنْتُ لَهُ، فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى قَال: أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ؟ فَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أُحِبُّ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ، فَقَامَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَبَّرَ وَصَفَفْنَا وَرَاءَهُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، وَسَلَّمْنَا حِينَ سَلَّمَ. (1)

(3) التَّبَرُّكُ بِمَاءِ زَمْزَمَ:
15 - ذَهَبَ الْعُلَمَاءُ إِلَى سُنِّيَّةِ شُرْبِ مَاءِ زَمْزَمَ لِمَطْلُوبِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ؛ لأَِنَّهَا مُبَارَكَةٌ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ. (2)

(4) التَّبَرُّكُ بِبَعْضِ الأَْزْمِنَةِ وَالأَْمَاكِنِ فِي النِّكَاحِ:
16 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى اسْتِحْبَابِ مُبَاشَرَةِ عَقْدِ النِّكَاحِ فِي الْمَسْجِدِ، وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِلتَّبَرُّكِ بِهِمَا، فَقَدْ قَال الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعْلِنُوا هَذَا
__________
(1) حديث عتبان مالك: أخرجه البخاري (الفتح 2 / 323 - ط السلفية) ومسلم (1 / 455 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " ماء زمزم لما شرب له " أخرجه أحمد (3 / 357 - ط الميمنية) وصححه المنذري كما في المقاصد الحسنة للسخاوي (ص357 - ط الخانجي) .

(10/74)


النِّكَاحَ، وَاجْعَلُوهُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفُوفِ. (1)

تَبَسُّطٌ

اُنْظُرْ: تَوْسِعَةٌ.

تَبَعٌ

اُنْظُرْ: تَابِعٌ.

تَبَعُّضٌ

اُنْظُرْ: تَبْعِيضٌ.

تَبِعَةٌ

اُنْظُرِ: اتِّبَاعٌ، ضَمَانٌ.
__________
(1) حديث: " أعلنوا هذا النكاح واجعلوه في المساجد " أخرجه الترمذي (3 / 390 - ط الحلبي) وقال: هذا حديث غريب حسن في هذا الباب، وعيسى بن ميمون الأنصاري - يعني راويه - يضعف في الحديث.

(10/75)


تَبْعِيضٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّبْعِيضُ فِي اللُّغَةِ: التَّجْزِئَةُ، وَهُوَ مَصْدَرُ بَعَّضَ الشَّيْءَ تَبْعِيضًا، أَيْ جَعَلَهُ أَبْعَاضًا أَيْ أَجْزَاءً مُتَمَايِزَةً. وَبَعْضُ الشَّيْءِ: جُزْؤُهُ، وَهُوَ طَائِفَةٌ مِنْهُ سَوَاءٌ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ. وَمِنْهُ: أَخَذُوا مَالَهُ فَبَعَّضُوهُ، أَيْ: فَرَّقُوهُ أَجْزَاءً. (1) وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِكَلِمَةِ التَّبْعِيضِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّفْرِيقُ:
2 - التَّفْرِيقُ: مَصْدَرُ فَرَّقَ الشَّيْءَ تَفْرِيقًا، أَيْ فَصَلَهُ أَبْعَاضًا، فَيَكُونُ بِمَعْنَى التَّبْعِيضِ وَالتَّجَزُّؤِ، وَهُوَ ضِدُّ الْجَمْعِ. وَفَرَّقْتُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فَتَفَرَّقَا. قَال ابْنُ الأَْعْرَابِيِّ: فَرَقْتُ بَيْنَ الْكَلاَمَيْنِ فَافْتَرَقَا، مُخَفَّفٌ، وَفَرَّقْتُ بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ فَتَفَرَّقَا مُثَقَّلٌ، فَجُعِل الْمُخَفَّفُ فِي الْمَعَانِي، وَالْمُثَقَّل فِي
__________
(1) مختار الصحاح، والمصباح المنير، وتاج العروس مادة: " بعض ".

(10/75)


الأَْعْيَانِ. وَالَّذِينَ حَكَاهُ غَيْرُهُ أَنَّهُمَا بِمَعْنًى، وَالتَّثْقِيل لِلْمُبَالَغَةِ. (1) وَيَأْتِي التَّفْرِيقُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ بِمَعْنَى التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - لَيْسَ لِلتَّبْعِيضِ حُكْمٌ عَامٌّ جَامِعٌ، وَلاَ يُمْكِنُ اطِّرَادُهُ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ، وَيَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِاخْتِلاَفِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَالْمُعَامَلاَتِ وَالدَّعَاوَى، وَالْجِنَايَاتِ، وَغَيْرِهَا عَلَى مَا سَيَأْتِي.

أَهَمُّ الْقَوَاعِدِ الَّتِي تُبْنَى عَلَيْهَا مَسَائِل التَّبْعِيضِ وَأَحْكَامُهَا:
4 - تُبْنَى أَحْكَامُ التَّبْعِيضِ مِنْ نَاحِيَةِ الْجَوَازِ وَعَدَمِهِ عَلَى قَوَاعِدَ فِقْهِيَّةٍ كَثِيرَةٍ فِي الْمَذَاهِبِ الْمُخْتَلِفَةِ، نُجْمِل أَهَمَّهَا فِيمَا يَأْتِي:

أ - قَاعِدَةُ " ذِكْرِ بَعْضِ مَا لاَ يَتَجَزَّأُ كَذِكْرِ كُلِّهِ ".
5 - فَإِذَا طَلَّقَ الْمَرْأَةَ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ وَقَعَتْ وَاحِدَةً. أَوْ طَلَّقَ نِصْفَ الْمَرْأَةِ طَلُقَتْ. (2)
وَلِلْقَاعِدَةِ فُرُوعٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، يَأْتِي ذِكْرُ بَعْضِهَا فِي مَوَاضِعِهَا، وَنَظِيرُهَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَاعِدَةُ " مَا لاَ يَقْبَل التَّبْعِيضَ فَاخْتِيَارُ بَعْضِهِ كَاخْتِيَارِ كُلِّهِ، وَإِسْقَاطُ بَعْضِهِ كَإِسْقَاطِ كُلِّهِ (3) ".
__________
(1) مختار الصحاح، ومحيط المحيط، ولسان العرب المحيط.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم / 189.
(3) المنثور في القواعد للزركشي 3 / 153، 175، والأشباه والنظائر لابن نجيم 189.

(10/76)


ب - " مَا جَازَ عَلَى الْبَدَل لاَ يَدْخُلُهُ تَبْعِيضٌ فِي الْبَدَل وَالْمُبْدَل مِنْهُ مَعًا ":
6 - وَلِهَذَا قَال الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الْعَدَدِ: الْوَاجِبُ الْوَاحِدُ لاَ يَتَأَدَّى بِبَعْضِ الأَْصْل، وَبَعْضُ الْبَدَل كَخِصَال الْكَفَّارَةِ، وَكَالتَّيَمُّمِ مَعَ الْوُضُوءِ، أَمَّا فِي أَحَدِهِمَا فَنَعَمْ، كَمَا لَوْ وَجَدَ مِنَ الْمَاءِ مَا لاَ يَكْفِيهِ، فَإِنَّهُ يَسْتَعْمِلُهُ وَيَتَيَمَّمُ عَنِ الْبَاقِي. (1) فَهَذَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلاَ يَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ. كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.

ج - قَاعِدَةُ " الْمَيْسُورُ لاَ يَسْقُطُ بِالْمَعْسُورِ ".
7 - قَال ابْنُ السُّبْكِيِّ: هِيَ مِنْ أَشْهَرِ الْقَوَاعِدِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ (2) وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا مَا إِذَا قَدَرَ الْمُصَلِّي عَلَى بَعْضِ الْفَاتِحَةِ لَزِمَهُ قَطْعًا.
وَكَمَا لَوْ وَجَدَ بَعْضَ الصَّاعِ مِنَ الْفِطْرَةِ لَزِمَهُ إِخْرَاجُهُ عَلَى الأَْصَحِّ، وَيَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أُمُورٌ مِنْهَا: أَنَّهُ لَوْ وَجَدَ الْمُحْدِثُ الْفَاقِدُ لِلْمَاءِ ثَلْجًا أَوْ بَرَدًا، وَتَعَذَّرَتْ إِذَابَتُهُ فَلاَ يَجِبُ مَسْحُ الرَّأْسِ بِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَكَمَا إِذَا وَجَدَ فِي الْكَفَّارَةِ الْمُرَتَّبَةِ بَعْضَ الرَّقَبَةِ لاَ يَجِبُ قَطْعًا؛ لأَِنَّ الشَّرْعَ قَصَدَ
__________
(1) المنثور في القواعد للزركشي 1 / 258، 259.
(2) حديث: (إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم. . . " أخرجه البخاري (الفتح 13 / 251 ط السلفية) ومسلم (2 / 975 ط الحلبي) .

(10/76)


تَكْمِيل الْعِتْقِ قَطْعًا. (1) وَسَيَأْتِي تَفْصِيل هَذِهِ الأَْحْكَامِ.

أَحْكَامُ التَّبْعِيضِ

التَّبْعِيضُ فِي الطَّهَارَةِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّبْعِيضَ يَتَأَتَّى فِي الطَّهَارَةِ:
فَإِنْ قُطِعَتْ يَدُ الشَّخْصِ مِنَ الْمِرْفَقِ غَسَل مَا بَقِيَ مِنْ مَحَل الْفَرْضِ، وَكَذَلِكَ كُل عُضْوٍ سَقَطَ بَعْضُهُ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِبَاقِيهِ غَسْلاً وَمَسْحًا؛ طِبْقًا لِقَاعِدَةِ " الْمَيْسُورُ لاَ يَسْقُطُ بِالْمَعْسُورِ ".
وَإِذَا وَجَدَ الْجُنُبُ مَاءً يَكْفِي غَسْل بَعْضِ أَعْضَائِهِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، إِلَى أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَيَتْرُكُهُ؛ لأَِنَّ هَذَا الْمَاءَ لاَ يُطَهِّرُهُ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِعْمَالُهُ كَالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَل، وَلِمَا فِيهِ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْبَدَل وَالْمُبْدَل، وَلأَِنَّ مَا جَازَ عَلَى الْبَدَل لاَ يَدْخُلُهُ تَبْعِيضٌ. وَهُوَ قَوْل الْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَحَمَّادٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيِّ، إِلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُهُ، وَيَتَيَمَّمُ لِلْبَاقِي. وَبِهِ قَال
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي 142، والمنثور في القواعد للزركشي 1 / 227، 231.

(10/77)


عَبْدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ وَمَعْمَرٌ، وَنَحْوُهُ قَال عَطَاءٌ. (1)
وَأَمَّا إِنْ وَجَدَ الْمُحْدِثُ حَدَثًا أَصْغَرَ بَعْضَ مَا يَكْفِيهِ مِنْ مَاءٍ فَالْحُكْمُ لاَ يَخْتَلِفُ عِنْدَ مَنْ لاَ يُجَوِّزُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْبَدَل وَالْمُبْدَل مِنْهُ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَجِبُ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى الأَْصَحِّ، وَهُوَ وَجْهٌ لِلْحَنَابِلَةِ أَيْضًا؛ لأَِنَّهُ قَدَرَ عَلَى بَعْضِ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ فَلَزِمَهُ كَالْجُنُبِ، وَكَمَا لَوْ كَانَ بَعْضُ بَدَنِهِ صَحِيحًا وَبَعْضُهُ جَرِيحًا.
وَمَأْخَذُ مَنْ لاَ يَرَاهُ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِمَّا أَنَّ الْحَدَثَ الأَْصْغَرَ لاَ يَتَبَعَّضُ رَفْعُهُ فَلاَ يَحْصُل بِهِ مَقْصُودُهُ، أَوْ أَنَّهُ يَتَبَعَّضُ لَكِنَّهُ يَبْطُل بِالإِْخْلاَل بِالْمُوَالاَةِ، فَلاَ يَبْقَى لَهُ فَائِدَةٌ، أَوْ أَنَّ غَسْل بَعْضِ أَعْضَاءِ الْمُحْدِثِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، بِخِلاَفِ غَسْل بَعْضِ أَعْضَاءِ الْجُنُبِ. (2)
وَعَلَى هَذَا الْخِلاَفِ الْجَرِيحُ وَالْمَرِيضُ إِذَا أَمْكَنَ غَسْل بَعْضِ جَسَدِهِ دُونَ بَعْضٍ، فَقَدْ قَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: إِنْ كَانَ أَكْثَرُ بَدَنِهِ صَحِيحًا غَسَل وَلاَ تَيَمُّمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْعَكْسُ تَيَمَّمَ وَلاَ غَسْل عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْبَدَل وَالْمُبْدَل لاَ يَجِبُ كَالصِّيَامِ وَالإِْطْعَامِ. وَيَلْزَمُهُ غَسْل
__________
(1) ابن عابدين 1 / 172 وحاشية الدسوقي 1 / 149، وروضة الطالبين 1 / 96، والمغني 1 / 237، 238، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 142. وقواعد ابن رجب 11، والمنثور في القواعد للزركشي 1 / 228، 229، 259.
(2) المراجع السابقة.

(10/77)


مَا أَمْكَنَهُ، وَالتَّيَمُّمُ لِلْبَاقِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَبِهِ قَال الشَّافِعِيُّ. (1)
9 - وَإِذَا تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، ثُمَّ خَلَعَهُمَا قَبْل انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يُجْزِئُهُ غَسْل قَدَمَيْهِ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ إِذَا خَلَعَ خُفَّيْهِ قَبْل انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ بَطَل وُضُوءُهُ، وَبِهِ قَال النَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَمَكْحُولٌ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ. وَهَذَا الاِخْتِلاَفُ مَبْنِيٌّ عَلَى الاِخْتِلاَفِ فِي وُجُوبِ الْمُوَالاَةِ فِي الْوُضُوءِ، فَمَنْ أَجَازَ التَّفْرِيقَ جَوَّزَ غَسْل الْقَدَمَيْنِ لأَِنَّ سَائِرَ أَعْضَائِهِ مَغْسُولَةٌ، وَمَنْ مَنَعَ التَّفْرِيقَ أَبْطَل وُضُوءَهُ لِفَوَاتِ الْمُوَالاَةِ.
وَنَزْعُ أَحَدِ الْخُفَّيْنِ كَنَزْعِهِمَا فِي قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ، مِنْهُمْ: مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَالْحَنَابِلَةُ. وَيَلْزَمُهُ نَزْعُ الآْخَرِ. وَقَال الزُّهْرِيُّ: يَغْسِل الْقَدَمَ الَّتِي نُزِعَ الْخُفُّ مِنْهَا، وَيَمْسَحُ الآْخَرَ؛ لأَِنَّهُمَا عُضْوَانِ فَأَشْبَهَا الرَّأْسَ وَالْقَدَمَ. (2)
__________
(1) ابن عابدين 1 / 171، وحاشية الدسوقي 1 / 166، والمغني 1 / 258.
(2) ابن عابدين 1 / 183، 184، وحاشية الدسوقي 1 / 145، وروضة الطالبين 1 / 132، والمغني 1 / 288، 289.

(10/78)


كَمَا أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ غَسْل إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ وَالْمَسْحُ عَلَى الأُْخْرَى؛ لأَِنَّ الشَّارِعَ خَيَّرَ الْمُتَوَضِّئَ بَيْنَ غَسْل الرِّجْلَيْنِ وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُجْمَعُ بَيْنَ الْبَدَل وَالْمُبْدَل مِنْهُ. (1)

10 - وَأَمَّا التَّبْعِيضُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ:
فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ مَسْحِ الرَّأْسِ وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ الْوَاجِبِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ الْمُتَوَضِّئَ يُجْزِئُهُ مَسْحُ بَعْضِ الرَّأْسِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَسَنُ وَالثَّوْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ، وَقَدْ نُقِل عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَْكْوَعِ أَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ مُقَدَّمَ رَأْسِهِ، وَابْنُ عُمَرَ مَسَحَ الْيَافُوخَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى وُجُوبِ مَسْحِ جَمِيعِهِ فِي حَقِّ كُل أَحَدٍ، إِلاَّ أَنَّ الظَّاهِرَ عَنْ أَحْمَدَ فِي حَقِّ الرَّجُل: وُجُوبُ الاِسْتِيعَابِ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ يُجْزِئُهَا مَسْحُ مُقَدَّمِ رَأْسِهَا. (2)
وَفِي مَوْضِعِ الْمَسْحِ وَبَيَانِ الْقَدْرِ الْمُجْزِئِ تَفْصِيلٌ ذُكِرَ فِي مَوْطِنِهِ. ر: مُصْطَلَحَ (وُضُوءٌ) .
__________
(1) المنثور في القواعد للزركشي 1 / 259، وروضة الطالبين 1 / 133.
(2) ابن عابدين 1 / 67، وقليوبي وعميرة 1 / 49، وشرح الزرقاني 1 / 59، والمغني 1 / 125، 126.

(10/78)


التَّبْعِيضُ فِي الصَّلاَةِ:
11 - ذَهَبَ الأَْئِمَّةُ الأَْرْبَعَةُ إِلَى جَوَازِ التَّبْعِيضِ فِي بَعْضِ أَفْعَال الصَّلاَةِ، وَمِنْهَا مَا يَلِي:
إِذَا قَدَرَ الْمُصَلِّي عَلَى بَعْضِ الْفَاتِحَةِ: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ، وَالأَْصْل فِي هَذَا الْبَابِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَاعِدَةُ " الْمَيْسُورُ لاَ يَسْقُطُ بِالْمَعْسُورِ " أَيْ عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكُل لاَ يُسْقِطُ الْبَعْضَ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَاعِدَةُ " مَنْ قَدَرَ عَلَى بَعْضِ الْعِبَادَةِ، فَمَا هُوَ جُزْءٌ مِنَ الْعِبَادَةِ - وَهُوَ عِبَادَةٌ مَشْرُوعَةٌ فِي نَفْسِهِ - فَيَجِبُ فِعْلُهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ فِعْل الْجَمِيعِ بِغَيْرِ خِلاَفٍ ".
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلاَ يَتَأَتَّى هَذَا عِنْدَهُمْ؛ لأَِنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلاَةِ لاَ تَتَعَيَّنُ، وَتُجْزِئُ آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ. (1)
وَإِذَا وَجَدَ الْمُصَلِّي بَعْضَ مَا يَسْتُرُ بِهِ الْعَوْرَةَ، فَذَهَبَ الأَْئِمَّةُ الأَْرْبَعَةُ إِلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قَطْعًا.
وَكَذَلِكَ لَوْ عَجَزَ عَنِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ دُونَ الْقِيَامِ " لَزِمَاهُ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلاَةِ إلاَّ بِالزِّيَادَةِ أَوِ النُّقْصَانِ أَتَى بِالْمُمْكِنِ؛
__________
(1) ابن عابدين 1 / 300، والمغني 1 / 479.

(10/79)


لِلْقَوَاعِدِ الْمَذْكُورَةِ، (1) وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ. (2)

التَّبْعِيضُ فِي الزَّكَاةِ:
12 - مَنْ أَتْلَفَ جُزْءًا مِنَ النِّصَابِ قَصْدًا لِلتَّنْقِيصِ لِتَسْقُطَ عَنْهُ الزَّكَاةُ، لَمْ تَسْقُطْ عِنْدَ الإِْمَامِ مَالِكٍ وَالْحَنَابِلَةِ، وَتُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنْهُ فِي آخِرِ الْحَوْل إِذَا كَانَ إِبْدَالُهُ أَوْ إِتْلاَفُهُ عِنْدَ قُرْبِ الْوُجُوبِ، وَلَوْ فَعَل ذَلِكَ فِي أَوَّل الْحَوْل لَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ لأَِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَظِنَّةٍ لِلْفِرَارِ. وَبِهِ قَال الأَْوْزَاعِيُّ، وَابْنُ الْمَاجِشُونِ، وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ.
وَقَال الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: تَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ؛ لأَِنَّهُ نَقَصَ قَبْل تَمَامِ الْحَوْل، فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ لِحَاجَتِهِ. (3)

التَّبْعِيضُ فِي الصَّوْمِ:
13 - لاَ يَصِحُّ صِيَامُ بَعْضِ الْيَوْمِ، فَمَنْ قَدَرَ عَلَى صَوْمِ بَعْضِ الْيَوْمِ لاَ يَلْزَمُهُ إِمْسَاكُهُ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِصَوْمٍ شَرْعِيٍّ. (4)
__________
(1) ابن عابدين 1 / 277، 509، وحاشية الدسوقي 1 / 220، 258، وروضة الطالبين 1 / 231، 233، 248، 289، والمغني 1 / 471، 495، 595، 596.
(2) حديث: " إذا أمرتكم. . . " سبق تخريجه (ف 6) .
(3) ابن عابدين 3 / 21، والدسوقي 1 / 473، وروضة الطالبين 2 / 190، والمغني 2 / 979.
(4) المواهب السنية على هامش الأشباه والنظائر للسيوطي 349، وقواعد ابن رجب 10.

(10/79)


وَأَمَّا مَنْ قَدَرَ عَلَى صَوْمِ بَعْضِ أَيَّامِ رَمَضَانَ دُونَ جَمِيعِهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ صَوْمُ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} . (1)
التَّبْعِيضُ فِي الْحَجِّ:

أ - التَّبْعِيضُ فِي الإِْحْرَامِ:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّبْعِيضَ لاَ يُؤَثِّرُ فِي انْعِقَادِ الإِْحْرَامِ، فَإِذَا قَال: أَحْرَمْتُ بِنِصْفِ نُسُكٍ، انْعَقَدَ بِنُسُكٍ كَامِلٍ، طِبْقًا لِقَاعِدَةِ: " الْمُضَافِ لِلْجُزْءِ كَالْمُضَافِ لِلْكُل " وَقَاعِدَةِ: " ذِكْرِ بَعْضِ مَا لاَ يَتَجَزَّأُ كَذِكْرِ كُلِّهِ " وَكَذَلِكَ قَاعِدَةُ " مَا لاَ يَقْبَل التَّبْعِيضَ يَكُونُ اخْتِيَارُ بَعْضِهِ كَاخْتِيَارِ كُلِّهِ، وَإِسْقَاطُ بَعْضِهِ كَإِسْقَاطِ كُلِّهِ "
كَمَا أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ تَغْطِيَةِ جَمِيعِ الرَّأْسِ وَتَغْطِيَةِ بَعْضِهِ، وَكَذَلِكَ تَغْطِيَةُ جَمِيعِ الْوَجْهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ، وَقَلْمُ جَمِيعِ الأَْظْفَارِ أَوْ بَعْضِهَا، وَحَلْقُ جَمِيعِ الرَّأْسِ، أَوْ بَعْضِهِ، فَإِنَّ الْمُحْرِمَ يُمْنَعُ مِنْ تَغْطِيَةِ بَعْضِ رَأْسِهِ، كَمَا يُمْنَعُ مِنْ تَغْطِيَةِ جَمِيعِهِ، وَهَكَذَا، لأَِنَّ
__________
(1) سورة البقرة / 185.

(10/80)


النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ (1) وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ يَحْرُمُ فِعْل بَعْضِهِ. وَكَذَلِكَ لَمَّا قَال تَعَالَى: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} (2) حَرُمَ حَلْقُ بَعْضِهِ. (3) وَإِنَّمَا الْفَرْقُ فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ دَمٍ وَفِدْيَةٍ. وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِحْرَامٌ وَحَجٌّ) .

ب - التَّبْعِيضُ فِي الطَّوَافِ:
15 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ إِنَّمَا شُرِعَ بِجَمِيعِ الْبَيْتِ، وَأَنَّ تَرْكَ بَعْضِ الْبَيْتِ فِي الطَّوَافِ مُبْطِلٌ لَهُ. (4) وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ طَافَ دَاخِل الْحِجْرِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ مَا تَرَكَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَل فَعَلَيْهِ دَمٌ. (5) أَمَّا التَّبْعِيضُ فِي عَدَدِ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ فَلاَ يَجُوزُ نَقْصُهُ عَنْ سَبْعَةٍ كَامِلَةٍ خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ: بِأَنَّ الأَْشْوَاطَ الأَْرْبَعَةَ رُكْنٌ، وَمَا زَادَ عَلَيْهَا وَاجِبٌ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ بُدَّ فِي الطَّوَافِ أَنْ يَمُرَّ فِي الاِبْتِدَاءِ بِجَمِيعِ الْبَدَنِ عَلَى جَمِيعِ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ، فَلَوْ حَاذَاهُ بِبَعْضِ بَدَنِهِ، وَكَانَ بَعْضُهُ
__________
(1) حديث: " لا تخمروا رأسه. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 136 ط السلفية) ومسلم (2 / 865 ط الحلبي) .
(2) سورة البقرة 196.
(3) ابن عابدين 2 / 162، 201، 204؟ والحطاب 3 / 140، 164، وروضة الطالبين - 3 / 125، 127، 136، والمغني 3 / 319، 324.
(4) الحطاب 3 / 71، 72، وروضة الطالبين 3 / 80، 81، والمغني 3 / 382، 383.
(5) ابن عابدين 2 / 167.

(10/80)


الآْخَرُ مُجَاوِزًا إِلَى جَانِبِ الْبَابِ فَفِيهِ قَوْلاَنِ عِنْدَهُمُ:
الْجَدِيدُ: أَنَّهُ لاَ يُعْتَدُّ بِذَلِكَ الشَّوْطِ. وَالْقَدِيمُ: يُعْتَدُّ بِهِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ احْتِمَالاَنِ، وَأَمَّا لَوْ حَاذَى بِجَمِيعِ الْبَدَنِ بَعْضَ الْحَجَرِ دُونَ بَعْضِهِ أَجْزَأَهُ، كَمَا يُجْزِئُهُ أَنْ يَسْتَقْبِل فِي الصَّلاَةِ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ بَعْضَ الْكَعْبَةِ. (1)

التَّبْعِيضُ فِي النُّذُورِ:
16 - مَنْ نَذَرَ صَلاَةَ نِصْفِ رَكْعَةٍ أَوْ صِيَامَ بَعْضِ يَوْمٍ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ مَا عَدَا مُحَمَّدًا وَزُفَرَ، وَالْمَالِكِيَّةُ مَا عَدَا ابْنَ الْمَاجِشُونِ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ تَكْمِيلُهُ، وَالتَّكْمِيل فِي الصَّوْمِ يَكُونُ بِصِيَامِ يَوْمٍ كَامِلٍ.
وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يَكْفِيهِ إِمْسَاكُ بَعْضِ يَوْمٍ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّذْرَ يُنَزَّل عَلَى أَقَل مَا يَصِحُّ مِنْ جِنْسِهِ، وَأَنَّ إِمْسَاكَ بَعْضِ الْيَوْمِ صَوْمٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّلاَةِ أَيْضًا. فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْحَنَابِلَةِ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِلَى أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُهُ إِلاَّ رَكْعَتَانِ.
وَنَقَل الْجَرْهَدِيُّ فِي شَرْحِ الْفَرَائِدِ الْبَهِيَّةِ: أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَالْمُوَافِقُ لِلْقَاعِدَةِ، وَهِيَ: مَا لاَ
__________
(1) روضة الطالبين 3 / 80، والمغني 3 / 371.

(10/81)


يَقْبَل التَّبْعِيضَ فَاخْتِيَارُ بَعْضِهِ كَاخْتِيَارِ كُلِّهِ، وَإِسْقَاطُ بَعْضِهِ كَإِسْقَاطِ كُلِّهِ. وَلأَِنَّ أَقَل الصَّلاَةِ الْوَاجِبَةِ بِالشَّرْعِ رَكْعَتَانِ، فَوَجَبَ حَمْل النَّذْرِ عَلَيْهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يُجْزِئُهُ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لأَِنَّ أَقَل الصَّلاَةِ رَكْعَةٌ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ، وَابْنُ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ: أَيْ إِذَا نَذَرَ صَلاَةَ نِصْفِ رَكْعَةٍ، أَوْ صِيَامَ بَعْضِ يَوْمٍ لاَ يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ، فَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَلاَ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ. (1) وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ كُلِّهِ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ (نَذْرٌ، أَيْمَانٌ) .

التَّبْعِيضُ فِي الْكَفَّارَةِ:
17 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ التَّبْعِيضِ فِي الْكَفَّارَةِ: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَبْعِيضُ الْكَفَّارَةِ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُعْتِقَ نِصْفَ رَقَبَةٍ وَيَصُومَ شَهْرًا، وَيَصُومَ شَهْرًا أَوْ يُطْعِمَ ثَلاَثِينَ مِسْكِينًا، أَوْ يُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ بِإِطْعَامِ خَمْسَةِ مَسَاكِينَ وَكِسْوَةِ خَمْسَةٍ؛ لأَِنَّ مَا جَازَ فِيهِ التَّخْيِيرُ لاَ يَجُوزُ فِيهِ التَّبْعِيضُ، إِلاَّ
__________
(1) الحطاب 2 / 451، وروضة الطالبين 3 / 305، 313، والمغني 9 / 11، والأشباه للسيوطي ص144.

(10/81)


أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ لِمُعَيَّنٍ وَرَضِيَ تَبْعِيضَهُ، وَالْحَقُّ هُنَا لِلَّهِ تَعَالَى. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى جَوَازِ التَّبْعِيضِ فِي الْكَفَّارَةِ.
قَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ أَطْعَمَ خَمْسَةَ مَسَاكِينَ وَكَسَا خَمْسَةً مُطْلَقًا جَازَ؛ لأَِنَّهُ أُخْرِجَ مِنَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِعِدَّةِ الْوَاجِبِ، فَأَجْزَأَهُ كَمَا لَوْ أَخْرَجَهُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ. وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَيُجْزِئُهُ ذَلِكَ عَنِ الإِْطْعَامِ إِنْ كَانَ الإِْطْعَامُ أَرْخَصَ مِنَ الْكِسْوَةِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَكْسِ فَلاَ يَجُوزُ. هَذَا فِي إِطْعَامِ الإِْبَاحَةِ (التَّمْكِينُ مِنَ التَّنَاوُل دُونَ التَّزَوُّدِ) أَمَّا إِذَا مَلَّكَهُ الطَّعَامَ فَيَجُوزُ وَيُقَامُ مَقَامَ الْكِسْوَةِ. (2) .

التَّبْعِيضُ فِي الْبَيْعِ
18 - يَجُوزُ التَّبْعِيضُ فِي الْبَيْعِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ يَرْجِعُ عَلَى أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ، أَوْ لاَ يُفْضِي إِلَى الْجَهَالَةِ وَالْمُنَازَعَةِ، وَلاَ خِلاَفَ فِي هَذَا. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الآْثَارِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى وُقُوعِ التَّبْعِيضِ، وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ ذَلِكَ:
يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّبْعِيضِ بِاخْتِلاَفِ كَوْنِ الْعَقْدِ وَقَعَ عَلَى مِثْلِيٍّ كَالْمَكِيل، أَوِ الْمَوْزُونِ، أَوِ الْمَذْرُوعِ، أَوْ قِيَمِيٍّ.
__________
(1) الحطاب 3 / 274، وروضة الطالبين 8 / 310، والمنثور في القواعد للزركشي 1 / 255.
(2) ابن عابدين 3 / 61، والمغني 8 / 759، وقواعد ابن رجب 229.

(10/82)


19 - فَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ قَدْ وَقَعَ عَلَى مِثْلِيٍّ (مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ) وَلَمْ يَكُنْ فِي تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ، كَمَنْ بَاعَ صُبْرَةً عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ قَفِيزٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَهِيَ أَقَل أَوْ أَكْثَرُ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ الأَْقَل بِحِصَّتِهِ أَوْ يَفْسَخَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، وَلأَِنَّهُ وَجَدَ الْمَبِيعَ نَاقِصًا فَكَانَ لَهُ الْفَسْخُ كَغَيْرِ الصُّبْرَةِ، وَكَنُقْصَانِ الصِّفَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي لِلْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لاَ خِيَارَ لَهُ؛ لأَِنَّ نُقْصَانَ الْقَدْرِ لَيْسَ بِعَيْبٍ فِي الْبَاقِي مِنَ الْكَيْل بِخِلاَفِ غَيْرِهِ.
ثُمَّ التَّخْيِيرُ عِنْدَ النُّقْصَانِ فِي الْمِثْلِيِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا لَمْ يَقْبِضْ كُل الْمَبِيعِ أَوْ بَعْضَهُ، فَإِنْ قَبَضَ أَيْ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالنَّقْصِ لاَ يُخَيَّرُ، بَل يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ. وَأَيْضًا هُوَ مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ كَوْنِهِ مُشَاهِدًا لِلْمَبِيعِ حَيْثُ يَنْتَفِي التَّغْرِيرُ.
وَأَمَّا الْمَوْزُونُ الَّذِي فِي تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ، كَمَا لَوْ بَاعَ لُؤْلُؤَةً عَلَى أَنَّهَا تَزِنُ مِثْقَالاً فَوَجَدَهَا أَكْثَرَ سُلِّمَتْ لِلْمُشْتَرِي؛ لأَِنَّ الْوَزْنَ فِيمَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ وَصْفٌ بِمَنْزِلَةِ الذُّرْعَانِ فِي الثَّوْبِ. (1) وَلِلتَّفْصِيل ر: (خِيَارٌ) .
20 - وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ قَدْ وَقَعَ عَلَى مَذْرُوعٍ:
__________
(1) ابن عابدين 4 / 30، ومجلة الأحكام العدلية 2 / 224، 225، ومنح الجليل 2 / 694.

(10/82)


كَمَنْ بَاعَ ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ مِائَةُ ذِرَاعٍ مَثَلاً فَبَانَ أَنَّهُ أَقَل، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا: أَخَذَ الْمُشْتَرِي الأَْقَل بِكُل الثَّمَنِ أَوْ تَرَكَ، وَإِنْ بَانَ أَكْثَرَ أَخَذَ الأَْكْثَرَ قَضَاءً بِلاَ خِيَارٍ لِلْبَائِعِ؛ لأَِنَّ الذَّرْعَ فِي الْقِيَمِيَّاتِ وَصْفٌ لِتَعَيُّبِهِ بِالتَّبْعِيضِ. بِخِلاَفِ الْقَدْرِ فِي الْمِثْلِيَّاتِ مِنْ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ، وَالْوَصْفُ لاَ يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ إِلاَّ إِذَا كَانَ مَقْصُودًا بِتَنَاوُل الْمَبِيعِ لَهُ، كَأَنْ يَقُول فِي بَيْعِ الْمَذْرُوعِ: كُل ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ. (1)
وَالْقَوْل الثَّانِي عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ كَانَ النَّاقِصُ يَسِيرًا لَزِمَهُ الْبَاقِي بِمَا يَنُوبُهُ مِنَ الثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا كَانَ مُخَيَّرًا فِي الْبَاقِي بَيْنَ أَخْذِهِ بِمَا يَنُوبُهُ أَوْ رَدِّهِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي صُورَةِ الزِّيَادَةِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: الْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَالثَّانِيَةُ: الْبَيْعُ صَحِيحٌ، وَالزِّيَادَةُ لِلْبَائِعِ، وَيُخَيَّرُ بَيْنَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ زَائِدًا وَبَيْنَ تَسْلِيمِ الْمِائَةِ، فَإِنْ رَضِيَ بِتَسْلِيمِ الْجَمِيعِ فَلاَ خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، وَإِنْ أَبَى تَسْلِيمَهُ زَائِدًا، فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ، وَالأَْخْذِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى وَقَسِّطِ الزَّائِدَ.
وَكَذَلِكَ فِي صُورَةِ النُّقْصَانِ أَيْضًا رِوَايَتَانِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. إِحْدَاهُمَا: الْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَالثَّانِيَةُ: الْبَيْعُ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 30، والدسوقي 3 / 135، ومنح الجليل 2 / 505.

(10/83)


صَحِيحٌ، وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالإِْمْسَاكِ بِقِسْطِهِ مِنَ الثَّمَنِ.
وَقَال أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَيْسَ لَهُ إِمْسَاكُهُ إِلاَّ بِكُل الثَّمَنِ أَوِ الْفَسْخُ، بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمَعِيبَ لَيْسَ لِمُشْتَرِيهِ إِلاَّ الْفَسْخُ، أَوْ إِمْسَاكُهُ بِكُل الثَّمَنِ (1) .

التَّبْعِيضُ فِي الْقِيَمِيَّاتِ:
21 - أَمَّا التَّبْعِيضُ فِي الأَْعْيَانِ الأُْخْرَى فَذَكَرَ صَاحِبُ رَوْضَةِ الطَّالِبِينَ: أَنَّهُ لَوْ بَاعَ جُزْءًا شَائِعًا مِنْ سَيْفٍ أَوْ إِنَاءٍ وَنَحْوِهِمَا صَحَّ وَصَارَ مُشْتَرَكًا، وَلَوْ عَيَّنَ بَعْضَهُ وَبَاعَهُ لَمْ يَصِحَّ؛ لأَِنَّ تَسْلِيمَهُ لاَ يَحْصُل إِلاَّ بِقَطْعِهِ، وَفِيهِ نَقْصٌ وَتَضْيِيعٌ لِلْمَال.
وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ جُزْءًا مُعَيَّنًا مِنْ جِدَارٍ أَوْ أُسْطُوَانَةٍ، فَإِنْ كَانَ فَوْقَهُ شَيْءٌ لَمْ يَصِحَّ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ إِلاَّ بِهَدْمِ مَا فَوْقَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَوْقَهُ شَيْءٌ، فَإِنْ كَانَ قِطْعَةً وَاحِدَةً تَتْلَفُ كُلِّيَّةً بِالتَّبْعِيضِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَتْ لاَ تَتْلَفُ جَازَ. (2)
وَقَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى تَقْضِي بِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ.
__________
(1) ابن عابدين 4 / 109، وروضة الطالبين 3 / 357، والمغني 4 / 144، 146، 147، ومنح الجليل 2 / 694 - 505.
(2) روضة الطالبين 4 / 30، والدسوقي 3 / 13، 14، 135، ومنح الجليل 2 / 694.

(10/83)


التَّبْعِيضُ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ:
22 - إِذَا اشْتَرَى شَيْئَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً فَوَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا، وَكَانَا مِمَّا يَنْقُصُهُمَا التَّفْرِيقُ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ:
إِحْدَاهُمَا: لَيْسَ لَهُ إِلاَّ رَدُّهُمَا، أَوْ أَخْذُ الأَْرْشِ مَعَ إِمْسَاكِهِمَا، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْل الشَّافِعِيِّ، وَقَوْل أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا قَبْل الْقَبْضِ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشْقِيصِ عَلَى الْبَائِعِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ.
وَالثَّانِيَةُ: لَهُ رَدُّ الْمَعِيبِ وَإِمْسَاكُ الصَّحِيحِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا بَعْدَ الْقَبْضِ. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ رَدِّ الْمَعِيبِ، وَالرُّجُوعِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، إِذَا كَانَ الثَّمَنُ عَيْنًا أَوْ مِثْلِيًّا، فَإِنْ كَانَ سِلْعَةً فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِمَا يَنُوبُ السِّلْعَةَ الْمَعِيبَةَ مِنْ قِيمَةِ السِّلْعَةِ الَّتِي هِيَ الثَّمَنُ، لِضَرَرِ الشَّرِكَةِ، وَهَذَا إِذَا لَمْ تَكُنِ السِّلْعَةُ الْمَعِيبَةُ وَجْهَ الصَّفْقَةِ. (2) فَإِنْ كَانَتْ فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي إِلاَّ رَدُّ الْجَمِيعِ أَوِ الرِّضَى بِالْجَمِيعِ. (3)

التَّبْعِيضُ فِي الشُّفْعَةِ:
23 - قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُل مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ أَحَدَ الشَّفِيعَيْنِ لَوْ تَرَكَ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 93، وروضة الطالبين 3 / 489، والمغني 4 / 177، 179.
(2) الحطاب 4 / 495.

(10/84)


شُفْعَتَهُ، لَمْ يَكُنْ لِلآْخَرِ إِلاَّ أَخْذُ الْجَمِيعِ أَوْ تَرْكُ الْجَمِيعِ، وَلَيْسَ لَهُ أَخْذُ الْبَعْضِ، وَهَذَا قَوْل مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لأَِنَّ فِي أَخْذِ الْبَعْضِ إِضْرَارًا بِالْمُشْتَرِي بِتَبْعِيضِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ، وَالضَّرَرُ لاَ يُزَال بِالضَّرَرِ.
وَكَذَا لَوْ كَانَ الشَّفِيعُ وَاحِدًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُ بَعْضِ الْمَبِيعِ لِذَلِكَ. فَإِنْ فَعَل سَقَطَتْ شُفْعَتُهُ؛ لأَِنَّهَا لاَ تَتَبَعَّضُ، فَإِذَا سَقَطَ بَعْضُهَا سَقَطَ جَمِيعُهَا كَالْقِصَاصِ. (1)
وَالأَْصْل فِي هَذَا الْبَابِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَاعِدَةُ " مَا لاَ يَقْبَل التَّبْعِيضَ يَكُونُ اخْتِيَارُ بَعْضِهِ كَاخْتِيَارِ كُلِّهِ، وَإِسْقَاطُ بَعْضِهِ كَإِسْقَاطِ كُلِّهِ ".
وَقَاعِدَةُ " مَا جَازَ فِيهِ التَّخْيِيرُ لاَ يَجُوزُ فِيهِ التَّبْعِيضُ " قَال الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي فَتَاوِيهِ: وَالشَّفِيعُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ، وَالتَّرْكِ، فَلَوْ أَرَادَ أَخْذَ بَعْضِ الشُّفْعَةِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. (2)
وَكَذَلِكَ إِذَا وَجَدَ الشَّفِيعُ بَعْضَ ثَمَنِ الشِّقْصِ لاَ يَأْخُذُ قِسْطَهُ مِنَ الْمُثَمَّنِ (الْمَبِيعِ) طِبْقًا لِقَاعِدَةِ " إِنَّ بَعْضَ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ لاَ يَجِبُ قَطْعًا ".
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 25، والفروق للكرابيسي 2 / 119، والحطاب 5 / 327، 328، وروضة الطالبين 5 / 106، والمغني 5 / 366.
(2) المنثور في القواعد للزركشي 1 / 256.

(10/84)


ثُمَّ هَذَا كُلُّهُ إِنْ كَانَ الْمَبِيعُ بَعْضُهُ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ عَنِ الْبَعْضِ، أَمَّا إِنْ كَانَ مُتَمَيِّزًا عَنِ الْبَعْضِ، بِأَنِ اشْتَرَى دَارَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً، فَأَرَادَ الشَّفِيعُ أَنْ يَأْخُذَ إِحْدَاهُمَا دُونَ الأُْخْرَى، وَكَانَ شَفِيعًا لَهُمَا أَوْ لإِِحْدَاهُمَا دُونَ الأُْخْرَى. فَاخْتَلَفَ الأَْئِمَّةُ عَلَى آرَاءٍ وَأَقْوَالٍ. (1) مَوْطِنُهَا كِتَابُ (الشُّفْعَةِ) .

التَّبْعِيضُ فِي السَّلَمِ:
24 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ تَسْلِيمِ رَأْسِ مَال السَّلَمِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، فَلَوْ تَفَرَّقَا قَبْل قَبْضِهِ بَطَل الْعَقْدُ عِنْدَهُمْ. وَأَمَّا لَوْ تَفَرَّقَا قَبْل قَبْضِ بَعْضِهِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: يَبْطُل فِيمَا لَمْ يُقْبَضْ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ، وَالثَّوْرِيِّ.
وَأَمَّا الْحُكْمُ فِي الْمَقْبُوضِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ بِقِسْطِهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ طَرِيقَانِ، وَكَلاَمُ الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ يَقْتَضِي أَلاَّ يَصِحَّ؛ لِقَوْلِهِ: وَيُقْبَضُ الثَّمَنُ كَامِلاً وَقْتَ السَّلَمِ قَبْل التَّفَرُّقِ. وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ تَسْلِيمَ رَأْسِ الْمَال فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، فَإِنْ تَأَخَّرَ بَعْضُهُ انْفَسَخَ كُلُّهُ. (2)
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 29، والحطاب 5 / 327، 328.
(2) ابن عابدين 4 / 208، 209، والحطاب 4 / 514، وروضة الطالبين 3 / 421، 422، 4 / 3، والمغني 4 / 328، ونيل المآرب 1 / 365.

(10/85)


وَأَمَّا التَّبْعِيضُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ بِالإِْقَالَةِ فِي بَعْضِهِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِهَا؛ لأَِنَّ الإِْقَالَةَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا، وَكُل مَعْرُوفٍ جَازَ فِي الْجَمِيعِ جَازَ فِي الْبَعْضِ كَالإِْبْرَاءِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَحُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَالْحَكَمِ وَالثَّوْرِيِّ. وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى إِلَى أَنَّهَا لاَ تَجُوزُ.
وَرُوِيَتْ كَرَاهَتُهَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَالنَّخَعِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَرَبِيعَةَ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَإِسْحَاقَ. (1)
وَأَمَّا لَوِ انْقَطَعَ بَعْضُ الْمُسْلَمِ فِيهِ عِنْدَ الْمَحَل، وَالْبَاقِي مَقْبُوضٌ أَوْ غَيْرُ مَقْبُوضٍ، فَفِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي بَابِ (السَّلَمُ) . (2)

التَّبْعِيضُ فِي الْقَرْضِ:
25 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّبْعِيضِ فِي الإِْقْرَاضِ.
نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ قَوْلَهُ: يُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ الإِْقْرَاضُ بَعْدَ إِفْرَازِهِ أَوْ قَبْلَهُ، فَإِنَّ قَرْضَ الْمُشَاعِ جَائِزٌ بِالإِْجْمَاعِ.
__________
(1) المغني 4 / 336.
(2) روضة الطالبين 4 / 12، 3 / 422، والمغني 4 / 327، وابن عابدين 4 / 209.

(10/85)


وَأَمَّا التَّبْعِيضُ فِي إِيفَاءِ الْقَرْضِ كَأَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ يُوفِيَهُ أَنْقَصَ مِمَّا أَقْرَضَهُ. فَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا أَمْ لاَ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لأَِصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لأَِنَّ الْقَرْضَ يَقْتَضِي الْمِثْل، فَشَرْطُ النُّقْصَانِ يُخَالِفُ مُقْتَضَاهُ، فَلَمْ يَجُزْ كَشَرْطِ الزِّيَادَةِ.
وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ يَجُوزُ؛ لأَِنَّ الْقَرْضَ جُعِل لِلرِّفْقِ بِالْمُسْتَقْرِضِ، وَشَرْطُ النُّقْصَانِ لاَ يُخْرِجُهُ عَنْ مَوْضُوعِهِ. (1)
26 - وَأَمَّا تَعْجِيل بَعْضِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّل مِنْ قِبَل الْمَدِينِ فِي مُقَابِل تَنَازُل الْغَرِيمِ عَنْ بَعْضِ الدَّيْنِ، فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لَكِنْ إِنْ تَنَازَل الْمَقْرُوضُ بِلاَ شَرْطٍ مَلْفُوظٍ أَوْ مَلْحُوظٍ عَنْ بَعْضِ الْحَقِّ فَهُوَ جَائِزٌ. ر: مُصْطَلَحَ (أَجَلٌ) (ف: 89) .

التَّبْعِيضُ فِي الرَّهْنِ:
27 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ التَّبْعِيضِ فِي الرَّهْنِ، فَيَجُوزُ رَهْنُ بَعْضِ الْمُشَاعِ عِنْدَهُمْ، رَهَنَهُ عِنْدَ شَرِيكِهِ أَوْ غَيْرِهِ، قَبِل الْقِسْمَةَ أَمْ لَمْ يَقْبَلْهَا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْبَاقِي مِنَ الْمُشَاعِ لِلرَّاهِنِ أَمْ لِغَيْرِهِ. (2)
__________
(1) ابن عابدين 3 / 353، والمغني 4 / 357.
(2) الحطاب 5 / 2، وروضة الطالبين 4 / 38، والمغني4 / 316.

(10/86)


وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ رَهْنُ الْمُشَاعِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ مُقَارِنًا كَنِصْفِ دَارٍ، أَمْ طَارِئًا: كَأَنْ يَرْهَنَ الْجَمِيعَ ثُمَّ يَتَفَاسَخَا فِي الْبَعْضِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الطَّارِئَ لاَ يَضُرُّ، وَالصَّحِيحُ الأَْوَّل، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ شَرِيكِهِ أَمْ غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مِمَّا يُقْسَمُ أَمْ لاَ.
فَالأَْصْل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ رَهْنُ الْمُشَاعِ، فَلاَ يَجُوزُ التَّبْعِيضُ فِيهِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الأَْصْل الصُّوَرُ التَّالِيَةُ:
أ - إِذَا كَانَتْ عَيْنًا بَيْنَهُمَا، رَهَنَاهَا عِنْدَ رَجُلٍ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَهْنًا وَاحِدًا.
ب - إِذَا ثَبَتَ الشُّيُوعُ فِيهِ ضَرُورَةً، كَمَا لَوْ جَاءَ بِثَوْبَيْنِ، وَقَال: خُذْ أَحَدَهُمَا رَهْنًا وَالآْخَرُ بِضَاعَةً عِنْدَكَ، فَإِنَّ نِصْفَ كُلٍّ مِنْهُمَا يَصِيرُ رَهْنًا بِالدَّيْنِ،؛ لأَِنَّ أَحَدَهُمَا لَيْسَ بِأَوْلَى مِنَ الآْخَرِ، فَيَشِيعُ الرَّهْنُ فِيهِمَا بِالضَّرُورَةِ، فَلاَ يَضُرُّ. (1)
28 - أَمَّا حَقُّ الْوَثِيقَةِ فِي الرَّهْنِ وَهُوَ الْحَبْسُ لِلتَّوَثُّقِ، فَلاَ يَتَبَعَّضُ بِأَدَاءِ بَعْضِ الدَّيْنِ؛ لأَِنَّ الدَّيْنَ يَتَعَلَّقُ بِالرَّهْنِ جَمِيعِهِ، فَيَصِيرُ مَحْبُوسًا بِكُل الْحَقِّ، وَبِكُل جُزْءٍ مِنْهُ، لاَ يَنْفَكُّ مِنْهُ شَيْءٌ حَتَّى يَقْضِيَ جَمِيعَ الدَّيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِمَّا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ أَمْ لاَ يُمْكِنُ.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُل مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ رَهَنَ شَيْئًا بِمَالٍ فَأَدَّى
__________
(1) ابن عابدين 5 / 315، 317.

(10/86)


بَعْضَ الْمَال، وَأَرَادَ إِخْرَاجَ بَعْضِ الرَّهْنِ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ، وَلاَ يَخْرُجُ شَيْءٌ حَتَّى يُوفِيَهُ آخِرَ حَقِّهِ أَوْ يُبْرِئَهُ مِنْ ذَلِكَ، كَذَلِكَ قَال مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛؛ لأَِنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ بِحَقٍّ فَلاَ يَزُول إِلاَّ بِزَوَال جَمِيعِهِ كَالضَّمَانِ وَالشَّهَادَةِ. (1)
وَكَذَلِكَ إِنْ تَلِفَ بَعْضُ الرَّهْنِ وَبَقِيَ بَعْضُهُ فَبَاقِيهِ رَهْنٌ بِجَمِيعِ الْحَقِّ. (2)
وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي بَابِ (الرَّهْنُ) .

التَّبْعِيضُ فِي الصُّلْحِ:
29 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّبْعِيضِ فِي الصُّلْحِ، فَالصُّلْحُ مَبْنَاهُ عَلَى التَّبْعِيضِ إِذَا وَقَعَ عَلَى جِنْسِ الْمُدَّعِي وَكَانَ أَقَل مِنْهُ، وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ تَبَعًا لِكَوْنِ الْمُدَّعَى عَيْنًا أَوْ دَيْنًا يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (صُلْحٌ) .

التَّبْعِيضُ فِي الْهِبَةِ:
30 - اتَّفَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى جَوَازِ التَّبْعِيضِ فِي الْهِبَةِ مُطْلَقًا، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِيمَا لاَ يَقْبَل الْقِسْمَةَ، فَتَصِحُّ هِبَةُ الْمُشَاعِ عِنْدَ الأَْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ مُطْلَقًا، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَصِحُّ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 321، وروضة الطالبين 4 / 109، والمغني 4 / 399، 5 / 367، 373، 5 / 655.
(2) نيل المآرب 1 / 373.

(10/87)


هِبَةُ الْمُشَاعِ الَّذِي لاَ يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ إِلاَّ بِضَرَرٍ، بِأَلاَّ يَبْقَى مُنْتَفَعًا بِهِ بَعْدَ أَنْ يُقْسَمَ، كَبَيْتٍ وَحَمَّامٍ صَغِيرَيْنِ. وَأَمَّا هِبَةُ الْمُشَاعِ الَّذِي يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ بِلاَ ضَرَرٍ فَلاَ تَصِحُّ هِبَتُهُ مُشَاعًا، وَلَوْ كَانَ لِشَرِيكِهِ؛ وَذَلِكَ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ الْقَبْضِ الْكَامِل. وَقِيل: يَجُوزُ لِشَرِيكِهِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَهُمْ. (1) وَإِنْ وَهَبَ وَاحِدٌ لاِثْنَيْنِ شَيْئًا مِمَّا يَنْقَسِمُ يَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا. وَذَهَبَ الإِْمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ وَجْهٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِهِ. (2)
وَفِي الْمَوْضُوعِ فُرُوعَاتٌ كَثِيرَةٌ تَفْصِيلُهَا فِي بَابِ الْهِبَةِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.

التَّبْعِيضُ فِي الْوَدِيعَةِ:
31 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّبْعِيضَ فِي الْوَدِيعَةِ بِإِنْفَاقِ بَعْضِهَا أَوِ اسْتِهْلاَكِهِ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي أَخْذِ بَعْضِ الْوَدِيعَةِ، ثُمَّ رَدِّهَا أَوْ رَدِّ مِثْلِهَا.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنِ اسْتَوْدَعَ شَيْئًا فَأَخَذَ بَعْضَهُ لَزِمَهُ ضَمَانُ مَا أَخَذَهُ، فَإِنْ رَدَّهُ أَوْ مِثْلَهُ لَمْ يَزُل الضَّمَانُ عَنْهُ.
وَقَال مَالِكٌ: لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ إِذَا رَدَّهُ أَوْ مِثْلَهُ.
__________
(1) ابن عابدين 4 / 510، والحطاب 9 / 60، وروضة الطالبين 5 / 367، 373.
(2) المغني 5 / 655، وروضة الطالبين 5 / 373.

(10/87)


وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ لَمْ يُنْفِقْ مَا أَخَذَهُ وَرَدَّهُ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ أَنْفَقَهُ ثُمَّ رَدَّهُ أَوْ مِثْلَهُ ضَمِنَ. (1)

التَّبْعِيضُ فِي الْوَقْفِ:
32 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى جَوَازِ التَّبْعِيضِ فِي الْوَقْفِ، سَوَاءٌ فِيمَا يَقْبَل الْقِسْمَةَ أَوْ لاَ يَقْبَلُهَا، فَيَجُوزُ وَقْفُ الْمُشَاعِ كَنِصْفِ دَارٍ. (2)
وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ وَقْفِ الْمُشَاعِ إِذَا كَانَ مِمَّا يَقْبَل الْقِسْمَةَ، وَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ، وَهُوَ لاَ يَصِحُّ فِي الْمُشَاعِ. وَأَمَّا مَا لاَ يَقْبَلُهَا كَالْحَمَّامِ وَالرَّحَى، فَيَجُوزُ وَقْفُهُ مُشَاعًا عِنْدَهُ أَيْضًا، إِلاَّ فِي الْمَسْجِدِ وَالْمَقْبَرَةِ؛ لأَِنَّ بَقَاءَ الشَّرِكَةِ يَمْنَعُ الْخُلُوصَ لِلَّهِ تَعَالَى. (3)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي بَابِ (الْوَقْفِ) .

التَّبْعِيضُ فِي الْغَصْبِ:
33 - يُرَتِّبُ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَبْعِيضِ الْمَال الْمَغْصُوبِ بِتَلَفِ بَعْضِهِ أَوْ تَعْيِيبِهِ أَحْكَامًا مُخْتَلِفَةً:
__________
(1) ابن عابدين 4 / 498، والحطاب 5 / 253، وروضة الطالبين 6 / 339، والمغني 6 / 400.
(2) ابن عابدين 3 / 373، والحطاب 6 / 18، وروضة الطالبين 5 / 314، والمغني 5 / 538، 643.
(3) ابن عابدين 3 / 373، والمغني 5 / 643، 5 / 260، 361.

(10/88)


فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْجُزْءَ الْغَائِبَ مَضْمُونٌ بِقِسْطِهِ مِنْ أَقْصَى الْقِيَمِ مِنْ يَوْمِ الْغَصْبِ إِلَى يَوْمِ التَّلَفِ، وَالنَّقْصُ الْحَاصِل بِتَفَاوُتِ السِّعْرِ فِي الْبَاقِي الْمَرْدُودِ غَيْرُ مَضْمُونٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِيمَا لاَ يُنْقِصُهُ التَّبْعِيضُ، وَأَمَّا فِيمَا يُنْقِصُهُ - كَأَنْ يَكُونَ ثَوْبًا يُنْقِصُهُ الْقَطْعُ - فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَرْشُ النَّقْصِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ تَعَيَّبَ الْمَال الْمَغْصُوبُ بِاسْتِهْلاَكِ بَعْضِهِ كَقَطْعِ يَدِ الشَّاةِ خُيِّرَ الْمَالِكُ بَيْنَ تَرْكِ الْمَغْصُوبِ لِلْغَاصِبِ وَأَخْذِ قِيمَتِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الْمَغْصُوبَ وَيُضَمِّنَهُ النُّقْصَانَ.، بِخِلاَفِ قَطْعِ طَرَفِ دَابَّةٍ غَيْرِ مَأْكُولَةٍ إِذَا اخْتَارَ رَبُّهَا أَخْذَهَا، لاَ يُضَمِّنُهُ شَيْئًا، وَإِلاَّ غَرَّمَهُ كَمَال الْقِيمَةِ؛ لأَِنَّهُ فَوَّتَ جَمِيعَ مَنَافِعِهَا فَصَارَ كَمَا لَوْ قَتَلَهَا. (1)
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ فَصَّلُوا الْكَلاَمَ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى بَعْضِ السِّلْعَةِ الْمَغْصُوبَةِ: فَالتَّعَدِّي عَلَى بَعْضِ السِّلْعَةِ الْمَغْصُوبَةِ إِنْ فَوَّتَ الْمَغْصُوبَ يُضْمَنُ جَمِيعُهُ، كَقَطْعِ ذَنَبِ دَابَّةٍ ذِي هَيْبَةٍ، أَوْ أُذُنِهَا، وَكَذَا مَرْكُوبُ كُل مَنْ يُعْلَمُ أَنَّ مِثْلَهُ لاَ يَرْكَبُ مِثْل ذَلِكَ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الْمَرْكُوبِ وَالْمَلْبُوسِ، كَقَلَنْسُوَةِ الْقَاضِي وَطَيْلَسَانِهِ، وَإِنْ لَمْ يُفَوِّتْهُ فَإِنْ كَانَ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 123، والفروق للكرابيسي 2 / 8.

(10/88)


التَّعَدِّي يَسِيرًا، وَلَمْ يَبْطُل الْغَرَضُ مِنْهُ لَمْ يَضْمَنْ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ التَّعَدِّي كَثِيرًا، وَلَمْ يُبْطِل الْغَرَضَ الْمَقْصُودَ مِنْهُ، فَإِنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْيَسِيرِ. (1)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل الْكَلاَمِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ فِي بَابِ (الْغَصْبِ) .

التَّبْعِيضُ فِي الْقِصَاصِ:
34 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقِصَاصَ مِمَّا لاَ يَتَبَعَّضُ بِالتَّبْعِيضِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي التَّفَاصِيل:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مُسْتَحِقَّ الْقِصَاصِ إِذَا عَفَا عَنْ بَعْضِ الْقَاتِل كَانَ عَفْوًا عَنْ كُلِّهِ، وَكَذَا إِذَا عَفَا بَعْضُ الأَْوْلِيَاءِ، صَحَّ الْعَفْوُ، وَسَقَطَ الْقِصَاصُ كُلُّهُ، وَلَمْ يَبْقَ لأَِحَدٍ إِلَيْهِ سَبِيلٌ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَرُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَطَاوُسٍ وَالشَّعْبِيِّ.
لِمَا رَوَى زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ أَنَّ عُمَرَ أُتِيَ بِرَجُلٍ قَتَل قَتِيلاً، فَجَاءَ وَرَثَةُ الْمَقْتُول لِيَقْتُلُوهُ، فَقَالَتِ امْرَأَةُ الْمَقْتُول، وَهِيَ أُخْتُ الْقَاتِل: قَدْ عَفَوْتُ عَنْ حَقِّي، فَقَال عُمَرُ: " اللَّهُ أَكْبَرُ، عَتَقَ الْقَتِيل.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ زَيْدٍ قَال: دَخَل رَجُلٌ عَلَى امْرَأَتِهِ، فَوَجَدَ عِنْدَهَا رَجُلاً فَقَتَلَهَا، فَاسْتَعْدَى
__________
(1) الحطاب 5 / 293.

(10/89)


إِخْوَتُهَا عُمَرَ، فَقَال بَعْضُ إِخْوَتِهَا: قَدْ تَصَدَّقْتُ. فَقَضَى لِسَائِرِهِمْ بِالدِّيَةِ. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ عَفْوَ بَعْضِ الْوَرَثَةِ لاَ يُسْقِطُ الْقَوَدَ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْعَافِي مُسَاوِيًا لِمَنْ بَقِيَ فِي الدَّرَجَةِ أَوْ أَعْلَى مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ أَنْزَل دَرَجَةً لَمْ يَسْقُطِ الْقَوَدُ بِعَفْوِهِ. فَإِنِ انْضَافَ إِلَى الدَّرَجَةِ الْعُلْيَا الأُْنُوثَةُ كَالْبَنَاتِ مَعَ الأَْبِ أَوِ الْجَدِّ، فَلاَ عَفْوَ إِلاَّ بِاجْتِمَاعِ الْجَمِيعِ، فَإِنِ انْفَرَدَ الأَْبَوَانِ فَلاَ حَقَّ لِلأُْمِّ فِي عَفْوٍ وَلاَ قَتْلٍ. (2)
وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْل الْمَدِينَةِ، وَقِيل: هُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ إِلَى أَنَّ الْقِصَاصَ لاَ يَسْقُطُ بِعَفْوِ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ؛ لأَِنَّ النَّفْسَ قَدْ تُؤْخَذُ بِبَعْضِ النَّفْسِ بِدَلِيل قَتْل الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ. (3)

التَّبْعِيضُ فِي الْعَفْوِ عَنِ الْقَذْفِ:
35 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِهِ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ أَقْوَال الْمَالِكِيَّةِ (مَا لَمْ يَبْلُغِ الإِْمَامَ) إِلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّبْعِيضِ فِي حَدِّ الْقَذْفِ، فَإِذَا عَفَا بَعْضُ الْوَرَثَةِ، أَوْ بَعْضُ مُسْتَحِقِّي حَدِّ الْقَذْفِ يَكُونُ لِمَنْ بَقِيَ اسْتِيفَاءُ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 247، وروضة الطالبين 9 / 239، 242، والمغني 7 / 743 وما بعدها، والمنثور في القواعد للزركشي 3 / 153، والأشباه والنظائر للسيوطي ص143، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 189.
(2) الحطاب 6 / 253.
(3) المغني 7 / 743.

(10/89)


جَمِيعِهِ لأَِنَّ الْمَعَرَّةَ عَنْهُ لَمْ تَزُل بِعَفْوِ صَاحِبِهِ، وَلَيْسَ لِلْعَافِي الطَّلَبُ بِهِ؛ لأَِنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ.
وَكَذَلِكَ بِالْعَفْوِ عَنْ بَعْضِهِ لاَ يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْهُ.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ جَوَازُ التَّبْعِيضِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ جَلَدَاتٌ مَعْرُوفَةُ الْعَدَدِ، وَلاَ رَيْبَ أَنَّ الشَّخْصَ لَوْ عَفَا بَعْدَ جَلْدِ بَعْضِهَا، سَقَطَ مَا بَقِيَ مِنْهَا، فَكَذَلِكَ إِذَا أَسْقَطَ مِنْهَا فِي الاِبْتِدَاءِ قَدْرًا مَعْلُومًا، وَعَلَى هَذَا لَوْ عَفَا بَعْضُ مُسْتَحِقِّي حَدِّ الْقَذْفِ عَنْ حَقِّهِ يَسْقُطُ نَصِيبُ الْعَافِي، وَيُسْتَوْفَى الْبَاقِي؛ لأَِنَّهُ مُتَوَزِّعٌ.
وَهُنَاكَ وَجْهٌ ثَالِثٌ لِلشَّافِعِيَّةِ: أَنْ يَسْقُطَ جَمِيعُ الْحَدِّ كَالْقِصَاصِ. (1)
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلاَ يَتَأَتَّى عِنْدَهُمْ هَذَا؛ لأَِنَّ الْغَالِبَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ عِنْدَهُمْ حَقُّ اللَّهِ، فَلاَ يَسْقُطُ كُلُّهُ وَلاَ بَعْضُهُ بِالْعَفْوِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، وَكَذَا إِذَا عَفَا قَبْل الرَّفْعِ إِلَى الْقَاضِي. (2)

تَبْعِيضُ الصَّدَاقِ:
36 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الصَّدَاقِ مُعَجَّلاً وَبَعْضُهُ مُؤَجَّلاً؛ لأَِنَّهُ عِوَضٌ فِي
__________
(1) الحطاب 6 / 305، وروضة الطالبين 8 / 326، والمغني 8 / 234، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 144.
(2) ابن عابدين 3 / 173.

(10/90)


عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، فَجَازَ ذَلِكَ فِيهِ كَالثَّمَنِ (1) . وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (أَجَلٌ، مَهْرٌ)
وَأَمَّا تَنْصِيفُ الصَّدَاقِ بِالطَّلاَقِ قَبْل الدُّخُول وَالْخَلْوَةِ، وَكَيْفِيَّةُ ذَلِكَ فَفِيهِ أَوْجُهٌ وَتَفْصِيلٌ يُذْكَرُ فِي مَوَاطِنِهِ، وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (مَهْرٌ) .

التَّبْعِيضُ فِي الطَّلاَقِ:
37 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الطَّلاَقَ لاَ يَتَبَعَّضُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّعْبِيُّ وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَهْل الْحِجَازِ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَهْل الْعِرَاقِ؛ وَذَلِكَ لأَِنَّ ذِكْرَ بَعْضِ مَا لاَ يَتَبَعَّضُ ذِكْرٌ لِجَمِيعِهِ، فَذِكْرُ بَعْضِ الطَّلاَقِ كَذِكْرِ كُلِّهِ، وَجُزْءُ الطَّلْقَةِ وَلَوْ مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ تَطْلِيقَةٌ. وَهَذَا الْحُكْمُ ثَابِتٌ سَوَاءٌ أَبْهَمَ: بِأَنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ بَعْضَ طَلْقَةٍ.، أَوْ بَيَّنَ فَقَال: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ، أَوْ رُبُعَ طَلْقَةٍ، وَهَكَذَا؛ لأَِنَّ ذِكْرَ مَا لاَ يَتَبَعَّضُ ذِكْرٌ لِجَمِيعِهِ.

التَّبْعِيضُ فِي الْمُطَلَّقَةِ:
38 - إِذَا أَضَافَ الطَّلاَقَ إِلَى جُزْءٍ مِنْهَا: سَوَاءٌ أَضَافَهُ إِلَى بَعْضِهَا شَائِعًا وَأَبْهَمَ فَقَال: بَعْضُكِ وَجُزْؤُكِ طَالِقٌ.، أَوْ نَصَّ عَلَى جُزْءٍ مَعْلُومٍ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 358، 359، والمغني 6 / 693، 694، والحطاب 3 / 509، 513، 514، وروضة الطالبين 7 / 259، وأسنى المطالب 3 / 202.

(10/90)


كَالنِّصْفِ وَالرُّبُعِ، أَوْ أَضَافَهُ إِلَى عُضْوٍ: بَاطِنًا كَانَ كَالْكَبِدِ وَالْقَلْبِ، أَوْ ظَاهِرًا كَالْيَدِ وَالرِّجْل، طَلُقَتْ كُلُّهَا عِنْدَ الأَْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ - مَا عَدَا زُفَرَ - فَفَرَّقُوا بَيْنَ إِضَافَةِ الطَّلاَقِ إِلَى جُمْلَتِهَا، أَوْ إِلَى مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْهَا كَالرَّقَبَةِ، أَوِ الْعُنُقِ أَوِ الرُّوحِ، أَوِ الْبَدَنِ أَوِ الْجَسَدِ، أَوْ إِلَى جُزْءٍ شَائِعٍ كَنِصْفِهَا أَوْ ثُلُثِهَا، وَبَيْنَ إِضَافَتِهِ إِلَى مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْجُمْلَةِ كَالْيَدِ وَالرِّجْل حَيْثُ تَطْلُقُ فِي الْحَالَةِ الأُْولَى دُونَ الثَّانِيَةِ. (1)
وَالتَّبْعِيضُ فِي الطَّلاَقِ مِنْ فُرُوعِ قَاعِدَةِ " مَا لاَ يَقْبَل التَّبْعِيضَ فَاخْتِيَارُ بَعْضِهِ كَاخْتِيَارِ كُلِّهِ، وَإِسْقَاطُ بَعْضِهِ كَإِسْقَاطِ كُلِّهِ ".

التَّبْعِيضُ فِي الْوَصِيَّةِ:
39 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّبْعِيضِ فِي الْوَصِيَّةِ، إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِجُزْءٍ شَائِعٍ. كَمَنْ أَوْصَى بِجُزْءٍ أَوْ سَهْمٍ مِنْ مَالِهِ، فَالْبَيَانُ إِلَى الْوَرَثَةِ يُقَال لَهُمْ: أَعْطُوهُ شَيْئًا؛ لأَِنَّهُ مَجْهُولٌ يَتَنَاوَل الْقَلِيل وَالْكَثِيرَ، وَالْوَصِيَّةُ لاَ تَمْتَنِعُ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 435، 436، 437، والحطاب 4 / 62، 65، وروضة الطالبين 8 / 63، 64، 85، 86، والمغني 7 / 242، 243، والأشباه والنظائر لابن نجيم / 74.

(10/91)


بِالْجَهَالَةِ وَمِثْلُهُ الْحَظُّ، وَالشِّقْصُ، وَالنَّصِيبُ، وَالْبَعْضُ (لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ حَقِيقَتُهَا تَصَرُّفُ الْمَالِكِ فِي جُزْءٍ مِنْ حُقُوقِهِ) . (1)
كَذَلِكَ إِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِجُزْءٍ مُعَيَّنٍ: كَمَنْ أَوْصَى بِقُطْنِهِ لِرَجُلٍ، وَبِحَبِّهِ لآِخَرَ، أَوْ أَوْصَى بِلَحْمِ شَاةٍ مُعَيَّنَةٍ لِرَجُلٍ وَبِجِلْدِهَا لآِخَرَ، أَوْ أَوْصَى بِحِنْطَةٍ فِي سُنْبُلِهَا لِرَجُلٍ، وَبِالتِّبْنِ لآِخَرَ.
جَازَتِ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا، وَعَلَى الْمُوصَى لَهُمَا أَنْ يَدُوسَا الْحَبَّ، أَوْ يَسْلُخَا الشَّاةَ، أَوْ يَحْلِجَا الْقُطْنَ. وَلَوْ بَانَتِ الشَّاةُ حَيَّةً فَأُجْرَةُ الذَّبْحِ عَلَى صَاحِبِ اللَّحْمِ خَاصَّةً؛ لأَِنَّ التَّذْكِيَةَ لأَِجْل اللَّحْمِ لاَ الْجِلْدِ. (2)
وَفِي الْمُغْنِي: إِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِخَاتَمٍ وَلآِخَرَ بِفَصِّهِ صَحَّ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا الاِنْتِفَاعُ بِهِ إِلاَّ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ، وَأَيُّهُمَا طَلَبَ قَلْعَ الْفَصِّ مِنَ الْخَاتَمِ أُجِيبَ إِلَيْهِ، وَأُجْبِرَ الآْخَرُ عَلَيْهِ. (3)

التَّبْعِيضُ فِي الْعِتْقِ:
40 - مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا مَمْلُوكًا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَاقِيهِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ:
__________
(1) ابن عابدين 5 / 429، والحطاب 6 / 364، وروضة الطالبين 6 / 112، والمغني 6 / 63، 64.
(2) ابن عابدين 5 / 429.
(3) ابن عابدين 5 / 425، والحطاب 6 / 372، والمغني 6 / 64، وروضة الطالبين 6 / 150.

(10/91)


فَفِي الْحَالَةِ الأُْولَى:
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدٌ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الإِْعْتَاقَ لاَ يَتَجَزَّأُ وَلاَ يَتَبَعَّضُ بِالتَّبْعِيضِ؛ لأَِنَّ مِنْ خَصَائِصِهِ السِّرَايَةَ، فَمَنْ أَعْتَقَ بَعْضَ مَمْلُوكٍ لَهُ، فَإِنَّهُ يَسْرِي الْعِتْقُ إِلَى بَاقِيهِ.
وَكَذَلِكَ مَنْ أَعْتَقَ جُزْءًا مُعَيَّنًا كَرَأْسِهِ أَوْ ظَهْرِهِ أَوْ بَطْنِهِ، أَوْ جُزْءًا مُشَاعًا كَنِصْفِهِ، أَوْ جُزْءًا مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ، عَتَقَ الرَّقِيقُ كُلُّهُ. (1)
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الإِْعْتَاقَ يَتَجَزَّأُ، سَوَاءٌ كَانَ بَاقِيهِ لَهُ، أَوْ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا أَوْ مُوسِرًا. (2)
41 - وَفِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ: وَهِيَ مَا إِذَا كَانَ الْعَبْدُ مُشْتَرَكًا، وَأَعْتَقَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ حِصَّتَهُ أَوْ بَعْضَهَا، فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ تَبَعًا لِكَوْنِ الْمُعْتِقِ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا:
فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: عَتَقَ مَا عَتَقَ وَيَبْقَى الْبَاقِي رَقِيقًا (3) . وَبِهِ قَال الْبَتِّيُّ: وَاسْتَدَل بِمَا رَوَى
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 86، وفتح القدير 4 / 255، وابن عابدين 3 / 15، والحطاب 6 / 336، وروضة الطالبين 12 / 110، 111، وكشاف القناع 4 / 515، 516، والمغني 9 / 335، 336.
(2) فتح القدير 4 / 355، وبدائع الصنائع 4 / 86، وابن عابدين 3 / 15.
(3) بدائع الصنائع 4 / 86، والمغني 9 / 336.

(10/92)


ابْنُ التَّلْبِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلاً أَعْتَقَ نَصِيبًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ فَلَمْ يَضْمَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْمُعْتِقَ إِنْ كَانَ مُوسِرًا عَتَقَ كُلَّهُ، وَعَلَيْهِ قِيمَةُ بَاقِيهِ لِشَرِيكِهِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا عَتَقَ نَصِيبَهُ فَقَطْ وَلاَ يَسْرِي إِلَى بَاقِيهِ وَلَوْ أَيْسَرَ بَعْدَهُ. (2) لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ مِنْ عَبْدٍ أَوْ شِرْكًا، أَوْ قَال: نَصِيبًا، وَكَانَ لَهُ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَهُ بِقِيمَةِ الْعَدْل فَهُوَ عَتِيقٌ، وَإِلاَّ فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ. (3)
وَهَذَا قَوْل إِسْحَاقَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَابْنِ جَرِيرٍ.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلشَّرِيكِ إِلاَّ الضَّمَانُ مَعَ الْيَسَارِ وَالسِّعَايَةُ مَعَ الإِْعْسَارِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ شُبْرُمَةَ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالأَْوْزَاعِيِّ (4) . لِمَا رَوَى
__________
(1) حديث: " أن رجلا أعتق نصيا له. . . " أخرجه أبو داود 4 / 259 ط عزت عبيد دعاس وحسنه ابن حجر في الفتح 5 / 159 ط السلفية.
(2) الحطاب 6 / 336، وروضة الطالببن 12 / 112، وكشاف القناع 4 / 515، 516، والمغني 9 / 341، 336.
(3) حديث: " من أعتق شقصا له من عبد أو شركا نصيبا. . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 132 ط السلفية) ومسلم (3 / 1286 ط الحلبي) من حديث ابن عمر.
(4) فتح القدير 4 / 260، وبدائع الصنائع 4 / 86، والمغني 9 / 341.

(10/92)


أَبُو هُرَيْرَةَ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَعْتَقَ شُقَيْصًا لَهُ فِي عَبْدٍ مَمْلُوكٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْتِقَهُ كُلَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِلاَّ اسْتَسْعَى الْعَبْدُ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ (1)
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا فَشَرِيكُهُ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ أَعْتَقَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُعْتِقَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ بِإِذْنِهِ، فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ الشَّرِيكِ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدُ. (2)
وَقَال بَعْضُهُمْ: يُعْتَقُ كُلُّهُ، وَلَيْسَ لِلشَّرِيكِ إِلاَّ الضَّمَانُ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ زُفَرَ وَبِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ (3) .
__________
(1) حديث: " من أعتق شقيصا له في عبد مملوك، فعليه أن يعتقه كله إن كان له مال. . . " أخرجه أبو داود (4 / 254 ط عزت عبيد دعاس) وأصله في صحيح البخاري (الفتح 5 / 156 ط السلفية) .
(2) فتح القدير 4 / 259.
(3) بدائع الصنائع 4 / 86، وفتح القدير 4 / 263.

(10/93)


تَبَعِيَّةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّبَعِيَّةُ: كَوْنُ الشَّيْءِ مُرْتَبِطًا بِغَيْرِهِ بِحَيْثُ لاَ يَنْفَكُّ عَنْهُ. وَالتَّابِعُ: هُوَ التَّالِي الَّذِي يَتْبَعُ غَيْرَهُ، كَالْجُزْءِ مِنَ الْكُل، وَالْمَشْرُوطِ لِلشَّرْطِ. وَلاَ يَخْرُجُ الاِسْتِعْمَال الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الاِسْتِعْمَال اللُّغَوِيِّ (1) .
أَقْسَامُ التَّبَعِيَّةِ:
التَّبَعِيَّةُ قِسْمَانِ:

2 - الْقِسْمُ الأَْوَّل: مَا اتَّصَل بِالْمَتْبُوعِ فَيُلْحَقُ بِهِ. لِتَعَذُّرِ انْفِرَادِهِ عَنْهُ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الْقِسْمِ: ذَكَاةُ الْجَنِينِ فَإِنَّهَا تَحْصُل بِذَكَاةِ أُمِّهِ تَبَعًا لَهَا، عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَالصَّاحِبَيْنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، خِلاَفًا لِلإِْمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ (2) . وَذَلِكَ بِشُرُوطٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (ذَبَائِحُ) .
__________
(1) انظر في لسان العرب مادة: " تبع "، والصحاح وتاج العروس، والمصباح المنير، والكليات 2 / 104 - 105 ط دار الكتب الثقافية - دمشق، والحموي على ابن نجيم 1 / 154 ط العامرة.
(2) ابن عابدين 3 / 14، 5 / 193، وجواهر الإكليل 1 / 216 ط دار المعرفة، والدسوقي مع الشرح الكبير 2 / 114 ط. الفكر، وحاشية البجيرمي على الخطيب 4 / 255 ط. دار المعرفة، وكشاف القناع 6 / 209 - 210.

(10/93)


وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الْقِسْمِ أَيْضًا: الْحَمْل، فَإِنَّهُ لاَ يُفْرَدُ فِي الْبَيْعِ، بَل يَتْبَعُ الأُْمَّ بِلاَ خِلاَفٍ. (1)
3 - الْقِسْمُ الثَّانِي:
مَا انْفَصَل عَنْ مَتْبُوعِهِ وَالْتَحَقَ بِهِ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الْقِسْمِ: الصَّبِيُّ إِذَا أُسِرَ مَعَهُ أَحَدُ أَبَوَيْهِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَحْوَالٍ:
الأُْولَى: أَنْ يُسْبَى الصَّبِيُّ مُنْفَرِدًا عَنْ أَبَوَيْهِ، فَيَصِيرَ مُسْلِمًا إِجْمَاعًا؛ لأَِنَّ الدِّينَ إِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ تَبَعًا، وَقَدِ انْقَطَعَتْ بِتَبَعِيَّتِهِ لأَِبَوَيْهِ لاِنْقِطَاعِهِ عَنْهُمَا.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يُسْبَى مَعَ أَبَوَيْهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى دِينِهِمَا (تَبَعًا) وَبِهَذَا قَال أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يُسْبَى مَعَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ، فَإِنَّهُ يَتْبَعُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ.
وَقَال مَالِكٌ: إِنْ سُبِيَ مَعَ أَبِيهِ يَتْبَعُهُ، وَإِنْ سُبِيَ مَعَ أُمِّهِ فَهُوَ مُسْلِمٌ، لأَِنَّهُ لاَ يَتْبَعُهَا فِي النَّسَبِ، فَكَذَلِكَ فِي الدِّينِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَنْ سُبِيَ مِنْ أَوْلاَدِ الْكُفَّارِ مَعَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلاَمِهِ. (2)
__________
(1) الحموي على ابن نجيم 1 / 154 ط العامرة، والخرشي 5 / 71 ط. دار صادر، والدسوقي 3 / 57 ط. الفكر، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 117 ط. العلمية، والمنثور1 / 234 ط. الأولى، وكشاف القناع 3 / 166 ط النصر.
(2) المغني 8 / 426، والدسوقي 2 / 184، 200 و 4 / 305.

(10/94)


وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ أَيْضًا: وَلَدُ الْمُسْلِمِ، فَإِنَّهُ يَتْبَعُهُ فِي الإِْسْلاَمِ، وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ كَافِرَةً اتِّفَاقًا. (1) .

أَحْكَامُ التَّبَعِيَّةِ:
4 - التَّبَعِيَّةُ يَتَعَلَّقُ بِهَا جُمْلَةٌ مِنَ الأَْحْكَامِ، تَرْجِعُ كُلُّهَا إِلَى قَاعِدَةٍ فِقْهِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ (التَّابِعُ تَابِعٌ) وَمَعْنَى كَوْنِ التَّابِعِ تَابِعًا: هُوَ أَنَّ مَا كَانَ تَبَعًا لِغَيْرِهِ فِي الْوُجُودِ لاَ يَنْفَرِدُ بِالْحُكْمِ، بَل يَدْخُل فِي الْحُكْمِ مَعَ مَتْبُوعِهِ، فَإِذَا بِيعَ حَيَوَانٌ فِي بَطْنِهِ جَنِينٌ دَخَل الْجَنِينُ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا لأُِمِّهِ، وَلاَ يَجُوزُ إِفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ، وَمِثْل هَذَا الصُّوفُ عَلَى الْغَنَمِ، وَاللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ كَانَ التَّابِعُ شَيْئًا لاَ يَقْبَل الاِنْفِكَاكَ عَنْ مَتْبُوعِهِ، بِأَنْ كَانَ فِي حُكْمِ الْجُزْءِ، كَالْمِفْتَاحِ مِنَ الْقَفْل، فَإِنَّهُ يَدْخُل فِي الْبَيْعِ تَبَعًا لَهُ، أَوْ كَانَ شَيْئًا جَرَى فِي عُرْفِ الْبَلَدِ أَنَّهُ مِنْ مُشْتَمِلاَتِهِ، فَإِنَّهُ يَدْخُل فِي الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ.
فَمَثَلاً بَيْعُ الدَّارِ يَدْخُل فِيهِ الْمَطْبَخُ، وَفِي بَيْعِ حَدِيقَةِ زَيْتُونٍ تَدْخُل أَشْجَارُ الزَّيْتُونِ. (2)
__________
(1) ابن عابدين 3 / 252 ط. المصرية، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 4 / 308 ط. الفكر، والمنثور 1 / 239 ط. الأولى، والمغني 8 / 139 ط الرياض.
(2) الحموي على ابن نجيم 1 / 154 ط. العامرة، وشرح مجلة الأحكام العدلية للأتاسي 1 / 107 ط. حمص، والفروق مع تهذيب الفروق والقواعد السنية 3 / 283، 287، الفرق التاسع والتسعون والمائة ط. دار المعرفة، والأشباه والنظائر للسيوطي / 117 ط. العلمية، والمجموع للنووي 9 / 324 ط. السلفية، والمغني 4 / 88 ط. الرياض.

(10/94)


هَذَا، وَقَدْ فَرَّعَ الْفُقَهَاءُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى قَاعِدَةِ: (أَنَّ التَّابِعَ تَابِعٌ) عَدَدًا مِنَ الْقَوَاعِدِ ذَكَرَهَا الزَّرْكَشِيُّ فِي الْمَنْثُورِ، وَالسُّيُوطِيُّ وَابْنُ نُجَيْمٍ فِي كِتَابَيْهِمَا الأَْشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهَا الْقَرَافِيُّ فِي الْفُرُوقِ فِي الْفَرْقِ التَّاسِعِ وَالتِّسْعِينَ بَعْدَ الْمِائَةِ، الَّذِي فَرَّقَ فِيهِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَتْبَعُ الْعَقْدَ عُرْفًا وَمَا لاَ يَتْبَعُهُ. وَتِلْكَ الْقَوَاعِدُ الْفَرْعِيَّةُ هِيَ:

أ - التَّابِعُ لاَ يُفْرَدُ بِالْحُكْمِ:
5 - الْمُرَادُ بِالتَّابِعِ الَّذِي لاَ يُفْرَدُ بِالْحُكْمِ عَنْ مَتْبُوعِهِ هُوَ الَّذِي لاَ يُوجَدُ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، بَل يَكُونُ وُجُودُهُ تَبَعًا لِوُجُودِ مَتْبُوعِهِ، بِأَنْ يَكُونَ جُزْءًا أَوْ كَالْجُزْءِ مِنْهُ، فَحِينَئِذٍ لاَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا مُسْتَقِلًّا فِي الْعَقْدِ لِيَتَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ، كَالْجَنِينِ فِي بَطْنِ الْحَيَوَانِ، فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ مُنْفَرِدًا عَنْ أُمِّهِ، وَكَحَقِّ الشُّرْبِ فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ مُنْفَرِدًا عَنِ الأَْرْضِ. (1)
وَكَمَنْ بَاعَ دَارًا بِحُقُوقِهَا، فَإِنَّ الْبَيْعَ يَتَنَاوَل أَرْضَهَا وَبِنَاءَهَا وَمَا هُوَ مُتَّصِلٌ بِهَا مِمَّا هُوَ مِنْ مَصْلَحَتِهَا، كَالأَْبْوَابِ الْمَنْصُوبَةِ، دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا
__________
(1) الحموي على ابن نجيم 1 / 154، وشرح مجلة الأحكام العدلية للأتاسي 1 / 107، وتهذيب الفروق والقواعد السنية 3 / 288، والأشباه والنظائر للسيوطي / 117.

(10/95)


لَيْسَ مِنْ مَصَالِحِهَا، كَالْكَنْزِ وَالأَْحْجَارِ الْمَدْفُونَةِ، لأَِنَّ ذَلِكَ مُودَعٌ فِيهَا لِلنَّقْل عَنْهَا، فَأَشْبَهَ الْفُرُشَ وَالسُّتُورَ. (1)
وَاسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ مِنْ ذَلِكَ صُوَرًا يَسْتَقِل التَّابِعُ فِيهَا بِالْحُكْمِ عَنْ مَتْبُوعِهِ، وَمِنْ تِلْكَ الصُّوَرِ: إِفْرَادُ الْحَمْل بِالْوَصِيَّةِ دُونَ أُمِّهِ بِشَرْطِ أَنْ يُولَدَ حَيًّا. لأَِقَل مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَهَذَا الْقَدْرُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَأَمَّا إِنْ أَتَتْ بِهِ لأَِكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، (2) فَفِيهِ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (وَصِيَّةٌ، ثُبُوتُ النَّسَبِ، وَالْمِيرَاثُ) .

ب - مَنْ مَلَكَ شَيْئًا مَلَكَ مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ:
6 - تَتَنَاوَل هَذِهِ الْقَاعِدَةُ الأُْصُول الَّتِي تَدْخُل فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ، وَتِلْكَ الأُْصُول تَدْخُل تَحْتَ أَصْلَيْنِ:
الأَْوَّل: كُل مَا كَانَ فِي الدَّارِ مِنْ بِنَاءٍ وَغَيْرِهِ يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْبَيْعِ عُرْفًا، مِثْل مُلْحَقَاتِ الدَّارِ كَالْمَطْبَخِ وَالْحِجَارَةِ الْمُثَبَّتَةِ فِي الأَْرْضِ وَالدَّارِ لاَ الْمَدْفُونَةِ.
الثَّانِي: مَا كَانَ مُتَّصِلاً اتِّصَال قَرَارٍ، كَالشَّجَرِ
__________
(1) المغني 4 / 88.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 418، والدسوقي 4 / 375 - 376 ط الفكر، وجواهر الإكليل 2 / 317 ط. دار المعرفة. وحاشية قليوبي 3 / 157 - 158 ط الحلبي، وكشاف القناع 4 / 356 ط النصر.

(10/95)


فَإِنَّهُ يَدْخُل فِي بَيْعِ الأَْرْضِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ بِلاَ ذِكْرٍ، وَعَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَيْضًا نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي الْبَيْعِ، وَنَصَّ فِي الرَّهْنِ عَلَى عَدَمِ الدُّخُول فِيمَا لَوْ رَهَنَ الأَْرْضَ وَأَطْلَقَ. وَأَمَّا الأَْصْحَابُ فَلَهُمْ فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ فِي الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ طُرُقٌ، أَصَحُّهَا عِنْدَ جُمْهُورِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: تَقْرِيرُ النَّصَّيْنِ (أَيْ دُخُول الشَّجَرِ وَالْبِنَاءِ فِي الْبَيْعِ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ، وَعَدَمُ دُخُولِهَا فِي الرَّهْنِ) . وَالثَّانِي: فِيهِمَا قَوْلاَنِ، وَالثَّالِثُ: الْقَطْعُ بِعَدَمِ الدُّخُول فِيهِمَا، قَالَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَاخْتَارَهُ الإِْمَامُ وَالْغَزَالِيُّ (1) .

ج - التَّابِعُ يَسْقُطُ بِسُقُوطِ الْمَتْبُوعِ:
7 - هَذِهِ الْقَاعِدَةُ ذَكَرَهَا الزَّرْكَشِيُّ فِي الْمَنْثُورِ وَالسُّيُوطِيُّ وَابْنُ نُجَيْمٍ فِي كِتَابَيْهِمَا. (2)
وَمُرَادُهُمْ بِالتَّابِعِ الَّذِي يَسْقُطُ بِسُقُوطِ مَتْبُوعِهِ ذَلِكَ التَّابِعُ الَّذِي يَتْبَعُ غَيْرَهُ فِي الْوُجُودِ، وَمِنَ الْفُرُوعِ الَّتِي تَذْكُرُهَا كُتُبُ الْقَوَاعِدِ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ: أَنَّ مَنْ فَاتَتْهُ صَلاَةٌ فِي أَيَّامِ الْجُنُونِ، وَقِيل بِعَدَمِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ، فَإِنَّهُ لاَ يُسْتَحَبُّ لَهُ
__________
(1) شرح مجلة الأحكام العدلية 1 / 111 - 112، والفروق 3 / 283، وروضة الطالبين 3 / 536 - 537، والمغني 4 / 86 - 88.
(2) المنثور 1 / 235 ط. الأولى، والأشباه والنظائر للسيوطي / 118، والحموي على ابن نجيم 1 / 155.

(10/96)


قَضَاءُ سُنَنِهَا الرَّاتِبَةِ؛ لأَِنَّ الْفَرْضَ سَقَطَ فَكَذَا تَابِعُهُ.
وَمَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ بِعَدَمِ الْوُقُوفِ فَتَحَلَّل بِأَفْعَال الْعُمْرَةِ، فَلاَ يَأْتِي بِالرَّمْيِ وَالْمَبِيتِ؛ لأَِنَّهُمَا تَابِعَانِ لِلْوُقُوفِ وَقَدْ سَقَطَ.
وَمِمَّا خَرَجَ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ: الأَْخْرَسُ الْعَاجِزُ عَنِ التَّلَفُّظِ بِالتَّكْبِيرِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ تَحْرِيكُ لِسَانِهِ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَعِنْدَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَلاَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، بَل تَكْفِيهِ النِّيَّةُ، وَيُكَبِّرُ بِقَلْبِهِ؛ لأَِنَّ تَحْرِيكَ اللِّسَانِ لِلْعَاجِزِ عَنِ النُّطْقِ عَبَثٌ كَمَا قَال الْحَنَابِلَةُ، بَل قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَلَوْ قِيل بِبُطْلاَنِ الصَّلاَةِ بِذَلِكَ لَكَانَ أَقْوَى. (1)
وَمِمَّا خَرَجَ عَنْهَا أَيْضًا: إِمْرَارُ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِ الأَْقْرَعِ لِلتَّحَلُّل بِالْحَلْقِ، فَإِنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْمُخْتَارِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَوَاجِبٌ أَيْضًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْحَلْقَ عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالشَّعْرِ فَتَنْتَقِل إِلَى الْبَشَرَةِ عِنْدَ عَدَمِهِ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ بِالنَّدْبِ، وَالْحَنَابِلَةُ بِالاِسْتِحْبَابِ. (2)
__________
(1) الحموي على ابن نجيم 1 / 155، والزرقاني 1 / 195 ط. الفكر، والدسوقي 1 / 233، وجواهر الإكليل 1 / 46، وروضة الطالبين 1 / 229 ط. المكتب الإسلامي، والإنصاف 2 / 43 ط. التراث، وكشاف القناع 1 / 331 ط. النصر، والمغني 1 / 463.
(2) الحموي على ابن نجيم 1 / 155، والدسوقي 2 / 46، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 118، والإنصاف 4 / 39.

(10/96)


وَمِمَّا خَرَجَ عَنْهَا فِي غَيْرِ الْعِبَادَاتِ: مَا لَوْ أَقَرَّ أَحَدُ الْوَرَثَةِ بِوَارِثٍ ثَالِثٍ مُشَارِكٍ لَهُمَا فِي الْمِيرَاثِ لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ بِالإِْجْمَاعِ؛ لأَِنَّ النَّسَبَ لاَ يَتَبَعَّضُ، فَلاَ يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ دُونَ الْمُنْكِرِ، وَلاَ يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ فِي حَقِّهِمَا؛ لأَِنَّ أَحَدَهُمَا مُنْكِرٌ، وَلَمْ تُوجَدْ شَهَادَةٌ يَثْبُتُ بِهَا النَّسَبُ، وَلَكِنَّهُ يُشَارِكُ الْمُقِرَّ فِي الْمِيرَاثِ فِي قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ؛ لأَِنَّهُ أَقَرَّ بِسَبَبِ مَالٍ لَمْ يُحْكَمْ بِبُطْلاَنِهِ، فَلَزِمَهُ الْمَال. (1)
هَذَا، وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ وَابْنُ نُجَيْمٍ قَاعِدَةً أُخْرَى قَرِيبَةً مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُمُ (الْفَرْعُ يَسْقُطُ إِذَا سَقَطَ الأَْصْل) وَجَاءَ فِي شَرْحِ الْمَجَلَّةِ: أَنَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ مُطَّرِدَةٌ فِي الْمَحْسُوسَاتِ وَالْمَعْقُولاَتِ. فَالشَّيْءُ الَّذِي يَكُونُ وُجُودُهُ أَصْلاً لِوُجُودِ شَيْءٍ آخَرَ يَتْبَعُهُ فِي الْوُجُودِ، يَكُونُ ذَلِكَ فَرْعًا مُبْتَنِيًا عَلَيْهِ، كَالشَّجَرَةِ إِذَا ذَوَتْ ذَوَى ثَمَرُهَا، وَكَالإِْيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى أَصْلٌ وَجَمِيعُ الأَْعْمَال فُرُوعُهُ، فَإِذَا سَقَطَ الإِْيمَانُ - وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى - حَبَطَتِ الأَْعْمَال؛ لأَِنَّ اعْتِبَارَهَا مَبْنِيٌّ عَلَيْهِ.
وَمِنْ فُرُوعِهَا قَوْلُهُمْ: إِذَا بَرِئَ الأَْصِيل بَرِئَ الضَّامِنُ، أَيِ الْكَفِيل لأَِنَّهُ فَرْعُهُ بِخِلاَفِ الْعَكْسِ. (2)
__________
(1) الموسوعة الفقهية 6 / 75، مصطلح إقرار، ف 62، وانظر المراجع المغني 5 / 197 - 199 وابن عابدين 4 / 466 والدسوقي 3 / 415 والمهذب 2 / 352 و353.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 119، والحموي على ابن نجيم 1 / 155، وشرح مجلة الأحكام العدلية للأتاسي 1 / 115.

(10/97)


وَقَدْ يَثْبُتُ الْفَرْعُ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتِ الأَْصْل، كَمَا لَوِ ادَّعَى الزَّوْجُ الْخُلْعَ، وَأَنْكَرَتِ الزَّوْجَةُ، ثَبَتَتِ الْبَيْنُونَةُ بِلاَ خِلاَفٍ، لأَِنَّهُ مُقِرٌّ بِمَا يُوجِبُهَا، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتِ الْمَال الَّذِي هُوَ الأَْصْل. (1)

د - يُغْتَفَرُ فِي التَّوَابِعِ مَا لاَ يُغْتَفَرُ فِي غَيْرِهَا:
8 - هَذِهِ الْقَاعِدَةُ ذَكَرَهَا السُّيُوطِيُّ وَابْنُ نُجَيْمٍ، وَقَرِيبٌ مِنْهَا قَوْلُهُمْ: يُغْتَفَرُ فِي الشَّيْءِ ضِمْنًا مَا لاَ يُغْتَفَرُ فِيهِ قَصْدًا، وَقَوْلُهُمْ: يُغْتَفَرُ فِي الثَّوَانِي مَا لاَ يُغْتَفَرُ فِي الأَْوَائِل، وَقَوْلُهُمْ: أَوَائِل الْعُقُودِ تُؤَكَّدُ بِمَا لاَ يُؤَكَّدُ بِهَا أَوَاخِرُهَا، وَإِنَّمَا اُغْتُفِرَ فِي ذَلِكَ لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِلشَّيْءِ قَصْدًا شُرُوطٌ مَانِعَةٌ، وَإِذَا ثَبَتَ ضِمْنًا أَوْ تَبَعًا لِشَيْءٍ آخَرَ يَكُونُ ثُبُوتُهُ ضَرُورَةَ ثُبُوتِهِ لِمَتْبُوعِهِ أَوْ مَا هُوَ فِي ضِمْنِهِ. (2)
وَمِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ: أَنَّ النَّسَبَ لاَ يَثْبُتُ ابْتِدَاءً بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ، أَمَّا لَوْ شَهِدْنَ بِالْوِلاَدَةِ عَلَى الْفِرَاشِ يَثْبُتُ النَّسَبُ تَبَعًا، حَتَّى لَوْ كَانَتِ الشَّاهِدَةُ فِي الْوِلاَدَةِ الْقَابِلَةَ وَحْدَهَا. (3)
__________
(1) الحموي على ابن نجيم 1 / 155، وجواهر الإكليل 1 / 336، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 119، وكشاف القناع 5 / 230.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص120 - 121 ط العلمية، والحموي على ابن نجيم 1 / 156، وشرح مجلة الأحكام 1 / 131.
(3) ابن عابدين 2 / 626، والدسوقي 4 / 188، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 120، وكشاف القناع 6 / 436.

(10/97)


وَمِمَّا خَرَجَ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مِمَّا هُوَ عَكْسُهَا: أَنَّ الْفَاسِقَ يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ الْقَضَاءَ إِذَا ظُنَّ صِدْقُهُ، لَكِنْ إِذَا قُلِّدَ عَدْلٌ فَفَسَقَ فِي أَثْنَاءِ قَضَائِهِ اسْتَحَقَّ الْعَزْل، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ، وَقِيل: إِنَّهُ يَنْعَزِل بِفِسْقِهِ؛ لأَِنَّ عَدَالَتَهُ فِي مَعْنَى الْمَشْرُوطَةِ، فَقَدْ جَازَ تَقْلِيدُهُ ابْتِدَاءً وَلَمْ يَجُزِ انْتِهَاءً فِي وِلاَيَتِهِ، فَلَمَّا زَالَتْ عَدَالَتُهُ زَالَتْ وِلاَيَتُهُ. (1)
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ غَيْرَ الْعَدْل لاَ يَصِحُّ قَضَاؤُهُ وَلاَ يَنْفُذُ حُكْمُهُ، لَكِنْ قَال مَالِكٌ: لاَ أَرَى خِصَال الْقُضَاةِ تَجْتَمِعُ الْيَوْمَ فِي أَحَدٍ، فَإِنِ اجْتَمَعَ مِنْهَا خَصْلَتَانِ فِي وَاحِدٍ وَهِيَ الْعِلْمُ وَالْوَرَعُ وُلِّيَ.
وَقَال الْقَرَافِيُّ: إِنْ لَمْ يُوجَدْ عَدْلٌ وُلِّيَ أَمْثَل الْمَوْجُودِينَ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَلاَ يَصِحُّ عِنْدَهُمْ تَوْلِيَةُ الْفَاسِقِ الْقَضَاءَ. (2)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ تَعَذَّرَ جَمْعُ الشُّرُوطِ فِي رَجُلٍ فَوَلَّى سُلْطَانٌ لَهُ شَوْكَةٌ فَاسِقًا نَفَذَ قَضَاؤُهُ لِلضَّرُورَةِ؛ لِئَلاَّ تَتَعَطَّل مَصَالِحُ النَّاسِ (3) .
وَقَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: لَمَّا كَانَ تَصَرُّفُ الْقُضَاةِ أَعَمَّ مِنْ تَصَرُّفِ الأَْوْصِيَاءِ (الَّذِينَ
__________
(1) الهداية وفتح القدير 5 / 454، 455 ط بولاق: 1316 هـ، وشرح مجلة الأحكام 1 / 134.
(2) الدسوقي 4 / 129، وجواهر الإكليل 2 / 221 ط دار المعرفة.
(3) انظر شرح المحلي على المنهاج وحاشيتي القليوبي وعميرة 4 / 297.

(10/98)


يُشْتَرَطُ فِيهِمُ الْعَدَالَةُ) وَأَخَصَّ مِنْ تَصَرُّفِ الأَْئِمَّةِ (وَفِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِيهِمُ اخْتِلاَفٌ) اُخْتُلِفَ فِي إِلْحَاقِهِمْ بِالأَْئِمَّةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَلْحَقَهُمْ بِالأَْئِمَّةِ؛ لأَِنَّ تَصَرُّفَهُمْ أَعَمُّ مِنْ تَصَرُّفِ الأَْوْصِيَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَلْحَقَهُمْ بِالأَْوْصِيَاءِ؛ لأَِنَّ تَصَرُّفَهُمْ أَخَصُّ مِنْ تَصَرُّفِ الأَْئِمَّةِ. (1)

هـ - التَّابِعُ لاَ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْمَتْبُوعِ:
9 - مِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ: أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ تَقَدُّمُ الْمَأْمُومِ عَلَى إِمَامِهِ فِي تَكْبِيرَةِ الاِفْتِتَاحِ، وَلاَ فِي غَيْرِهَا مِنَ الأَْرْكَانِ، لِحَدِيثِ: إِنَّمَا جُعِل الإِْمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا. . . إِلَخْ الْحَدِيثِ. (2)

و التَّابِعُ لاَ يَكُونُ لَهُ تَابِعٌ:
10 - مِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ: لَوْ قَطَعَ شَخْصٌ الأَْصَابِعَ وَحْدَهَا فِي جِنَايَةٍ وَجَبَتِ الدِّيَةُ، فَإِنْ قَطَعَ الْيَدَ مِنَ الْكُوعِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنَ الدِّيَةِ، وَيُجْعَل الْكَفُّ تَبَعًا لِلأَْصَابِعِ، وَإِنْ قَطَعَ زِيَادَةً
__________
(1) قواعد الأحكام 1 / 68.
(2) الحموي على ابن نجيم 1 / 155 ط، العامرة، وابن عابدين 1 / 302 - 303، وجواهر الإكليل 1 / 82، وروضة الطالبين 1 / 369 - 373، والمنثور 1 / 236، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 119 - 120، والإنصاف 2 / 234 ط. التراث، وكشاف القناع 1 / 464 - 465. وحديث: " إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 584 ط السلفية) .

(10/98)


عَلَى ذَلِكَ لَمْ يُجْعَل تَبَعًا، بَل يَلْزَمُهُ لِلزِّيَادَةِ حُكُومَةُ عَدْلٍ عَلَى قَدْرِهَا؛ لأَِنَّ التَّابِعَ لاَ يَكُونُ لَهُ تَابِعٌ. (1)
وَمِمَّا خَرَجَ عَنْهَا تَوْكِيل الْوَكِيل غَيْرَهُ دُونَ الرُّجُوعِ إِلَى مُوَكِّلِهِ، فَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ لِلْوَكِيل أَنْ يُوَكِّل فِي حُقُوقِ الْعَقْدِ فِيمَا تَرْجِعُ الْحُقُوقُ فِيهِ إِلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ أَصِيلٌ فِيهَا، فَلَهُ أَنْ يُوَكِّل فِيهَا بِلاَ إِذْنِ مُوَكِّلِهِ.
وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ الْوَكِيل الْمُفَوَّضِ وَغَيْرِ الْمُفَوَّضِ، وَذَكَرُوا أَنَّ الْوَكِيل الْمُفَوَّضَ لَهُ أَنْ يُوَكِّل عَلَى الأَْظْهَرِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمُفَوَّضِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَكِّل فِيمَا وُكِّل فِيهِ بِلاَ إِذْنٍ، إِلاَّ فِي حَالَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: أَلاَّ يَلِيقَ الْفِعْل بِهِ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَكْثُرَ بِحَيْثُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهِ وَحْدَهُ.
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ: أَنَّ الْوَكِيل لَوْ وُكِّل فِيمَا وُكِّل فِيهِ، وَسَكَتَ عَنْهُ مُوَكِّلُهُ، نُظِرَ: إِنْ كَانَ أَمْرًا يَتَأَتَّى لَهُ الإِْتْيَانُ بِهِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُوَكَّل فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَأَتَّ مِنْهُ، لِكَوْنِهِ لاَ يُحْسِنُهُ، أَوْ لاَ يَلِيقُ بِمَنْصِبِهِ، فَلَهُ التَّوْكِيل عَلَى الصَّحِيحِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ مِثْلِهِ الاِسْتِنَابَةُ.
__________
(1) المنثور 1 / 237 ط الأولى، وابن عابدين 5 / 371 ط. المصرية، وجواهر الإكليل 2 / 270 ط. دار المعرفة، وروضة الطالبين 9 / 282 ط المكتب الإسلامي، وكشاف القناع 6 / 46 ط. النصر.

(10/99)


وَالْمَذْهَبُ الَّذِي عَلَيْهِ الأَْصْحَابُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْوَكِيل لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُوَكِّل فِيمَا يَتَوَلَّى مِثْلُهُ بِنَفْسِهِ، وَنُقِل عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ الْجَوَازُ. (1)
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (وَكَالَةٌ) .

ز - الْعِبْرَةُ بِنِيَّةِ الْمَتْبُوعِ لاَ التَّابِعِ:
11 - فَمَنْ كَانَ تَابِعًا لِغَيْرِهِ، كَالزَّوْجَةِ التَّابِعَةِ لِزَوْجِهَا، وَالْجُنْدِيِّ التَّابِعِ لِقَائِدِهِ، فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي السَّفَرِ الَّذِي يُبِيحُ لَهُمَا الْقَصْرَ وَالْفِطْرَ نِيَّةُ الْمَتْبُوعِ دُونَ التَّابِعِ؛ لأَِنَّ نِيَّةَ الْمَتْبُوعِ تَنْسَحِبُ عَلَى التَّابِعِ، فَيُعْطَى حُكْمَهُ، فَتَتْبَعُ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا، وَالْجُنْدِيُّ قَائِدَهُ، هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ: فَهُمْ كَالْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي جَعْلِهِمْ نِيَّةَ الزَّوْجَةِ تَابِعَةً لِنِيَّةِ الزَّوْجِ، وَخَالَفُوهُمْ فِي نِيَّةِ الْجُنْدِيِّ فَلَمْ يَجْعَلُوهَا تَابِعَةً لِنِيَّةِ الأَْمِيرِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ تَحْتَ يَدِهِ وَقَهْرِهِ. (2)
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَمْ يَعْرِضُوا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا. اُطُّلِعَ عَلَيْهِ مِنْ مَرَاجِعَ. (3)
__________
(1) ابن عابدين 4 / 410، وجواهر الإكليل 2 / 128 - 129، وروضة الطالبين 4 / 313 - 314، والإنصاف 5 / 362.
(2) ابن عابدين 1 / 533 - 534، وروضة الطالبين 1 / 386، وكشاف القناع 1 / 505.
(3) مواهب الجليل 2 / 139 - 158 ط النجاح، والمدونة 1 / 118 - 123 ط دار صادر، والدسوقي 1 / 358 - 373 ط الفكر، وجواهر الإكليل 1 / 88 - 93 ط دار المعرفة، والعدوي على الرسالة 1 / 321 - 325 ط دار المعرفة.

(10/99)


ح - مَا دَخَل فِي الْبَيْعِ تَبَعًا لاَ حِصَّةَ لَهُ مِنَ الثَّمَنِ
12 - وَذَلِكَ كَالأَْوْصَافِ الَّتِي تَدْخُل فِي الْبَيْعِ بِلاَ ذِكْرٍ، كَبِنَاءٍ وَشَجَرٍ فِي الأَْرْضِ، وَأَطْرَافٍ فِي الْحَيَوَانِ، وَجَوْدَةٍ فِي الْكَيْلِيِّ وَالْوَزْنِيِّ، فَإِنَّ هَذِهِ الأَْوْصَافَ لاَ يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ قَبْل الْقَبْضِ، كَمَا فِي جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ، أَوْ إِلاَّ إِذَا وَرَدَ عَلَيْهَا الْقَبْضُ كَمَا فِي شَرْحِ الأَْسْبِيجَابِيِّ. وَقَدْ وَضَعَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَصْلاً لِهَذَا، وَهُوَ: كُل شَيْءٍ إِذَا بِعْتَهُ وَحْدَهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَإِذَا بِعْتَهُ مَعَ غَيْرِهِ جَازَ، فَإِذَا اُسْتُحِقَّ ذَلِكَ الشَّيْءُ قَبْل الْقَبْضِ، كَانَ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخَذَ الْبَاقِيَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ.
وَكُل شَيْءٍ إِذَا بِعْتَهُ وَحْدَهُ جَازَ بَيْعُهُ، فَإِذَا بِعْتَهُ مَعَ غَيْرِهِ فَاسْتُحِقَّ، كَانَ لَهُ حِصَّةٌ مِنَ الثَّمَنِ.
وَالْحَاصِل أَنَّ مَا يَدْخُل فِي الْبَيْعِ تَبَعًا إِذَا اُسْتُحِقَّ بَعْدَ الْقَبْضِ كَانَ لَهُ حِصَّةٌ مِنَ الثَّمَنِ، فَيَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِحِصَّتِهِ، وَإِنِ اُسْتُحِقَّ قَبْل الْقَبْضِ، فَإِنْ كَانَ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَحْدَهُ كَالشُّرْبِ. فَلاَ حِصَّةَ لَهُ مِنَ الثَّمَنِ، فَلاَ يَرْجِعُ بِشَيْءٍ، بَل يُخَيَّرُ بَيْنَ الأَْخْذِ بِكُل الثَّمَنِ أَوِ التَّرْكِ، وَإِنْ جَازَ بَيْعُهُ وَحْدَهُ كَالشَّجَرِ كَانَ لَهُ حِصَّةٌ مِنَ الثَّمَنِ، فَيَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْبَائِعِ.

(10/100)


ثُمَّ إِنَّ مَحَل دُخُول التَّابِعِ فِي الْبَيْعِ مَا لَمْ يُذْكَرْ، فَإِنْ ذُكِرَ كَانَ مَبِيعًا قَصْدًا، حَتَّى لَوْ فَاتَ قَبْل الْقَبْضِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ تُسْقِطُ حِصَّتَهُ مِنَ الثَّمَنِ. (1) وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (بَيْعٌ) .

ط - التَّابِعُ مَضْمُونٌ بِالاِعْتِدَاءِ:
13 - مِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّ مَنْ جَنَى عَلَى امْرَأَةٍ حَامِلٍ فَأَسْقَطَتْ فَفِيهِ الْغُرَّةُ. (2)
وَمِنْ ذَلِكَ مَنَافِعُ الْمَغْصُوبِ وَغَلَّتُهُ، فَإِنَّهَا مَضْمُونَةٌ عَلَى الْغَاصِبِ تَبَعًا لِلْمَغْصُوبِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ (3) .
__________
(1) شرح مجلة الأحكام العدلية للأتاسي 2 / 151 - 153.
(2) ابن عابدين 5 / 377 ط المصرية.
(3) ابن عابدين 5 / 120 ط. المصرية، وجواهر الإكليل 2 / 150 - 151 ط دار المعرفة، وروضة الطالبين 5 / 13 - 15 ط. المكتب الإسلامي. وكشاف القناع 4 / 111 ط النصر.

(10/100)


تَبَغٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - التَّبَغُ (بِتَاءٍ مَفْتُوحَةٍ) لَفْظٌ أَجْنَبِيٌّ دَخَل الْعَرَبِيَّةَ دُونَ تَغْيِيرٍ، وَقَدْ أَقَرَّهُ مَجْمَعُ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. وَهُوَ نَبَاتٌ مِنَ الْفَصِيلَةِ الْبَاذِنْجَانِيَّة يُسْتَعْمَل تَدْخِينًا وَسَعُوطًا وَمَضْغًا، وَمِنْهُ نَوْعٌ يُزْرَعُ لِلزِّينَةِ، وَهُوَ مِنْ أَصْلٍ أَمْرِيكِيٍّ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ الْعَرَبُ الْقُدَمَاءُ.
وَمِنْ أَسْمَائِهِ: الدُّخَانُ، وَالتُّتُنُ، وَالتُّنْبَاكُ.
لَكِنَّ الْغَالِبَ إِطْلاَقُ هَذَا الأَْخِيرِ عَلَى نَوْعٍ خَاصٍّ مِنَ التَّبَغِ كَثِيفٍ يُدَخَّنُ بِالنَّارَجِيلَةِ لاَ بِاللَّفَائِفِ.
2 - وَمِمَّا يُشْبِهُ التَّبَغَ فِي التَّدْخِينِ وَالإِْحْرَاقِ: الطُّبَّاقُ، وَهُوَ نَبَاتٌ عُشْبِيٌّ مُعَمَّرٌ مِنْ فَصِيلَةِ الْمُرَكَّبَاتِ الأُْنْبُوبِيَّةِ الزَّهْرِ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعَرَبِ، خِلاَفًا لِلتَّبَغِ، وَالطُّبَّاقُ: لَفْظٌ مُعَرَّبٌ. وَفِي الْمُعْجَمِ الْوَسِيطِ: الطُّبَّاقُ: الدُّخَانُ، يُدَخَّنُ وَرَقُهُ مَفْرُومًا أَوْ مَلْفُوفًا (1) .
__________
(1) المعجم الوسيط (تبغ - طبق) ولسان العرب المحيط قسم المصطلحات، وتهذيب الفروق 1 / 216.

(10/101)


3 - وَقَال الْفُقَهَاءُ عَنِ الدُّخَّانِ: إِنَّهُ حَدَثَ فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الْعَاشِرِ الْهِجْرِيِّ وَأَوَائِل الْقَرْنِ الْحَادِيَ عَشَرَ، وَأَوَّل مَنْ جَلَبَهُ لأَِرْضِ الرُّومِ (أَيِ الأَْتْرَاكِ الْعُثْمَانِيِّينَ) الإِْنْكِلِيزُ، وَلأَِرْضِ الْمَغْرِبِ يَهُودِيٌّ زَعَمَ أَنَّهُ حَكِيمٌ، ثُمَّ جُلِبَ إِلَى مِصْرَ، وَالْحِجَازِ، وَالْهِنْدِ، وَغَالِبِ بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ. (1)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالتَّبَغِ:
حُكْمُ اسْتِعْمَالِهِ:
4 - مُنْذُ ظُهُورِ الدُّخَّانِ - وَهُوَ الاِسْمُ الْمَشْهُورُ لِلتَّبَغِ - وَالْفُقَهَاءُ يَخْتَلِفُونَ فِي حُكْمِ اسْتِعْمَالِهِ، بِسَبَبِ الاِخْتِلاَفِ فِي تَحَقُّقِ الضَّرَرِ مِنَ اسْتِعْمَالِهِ، وَفِي الأَْدِلَّةِ الَّتِي تَنْطَبِقُ عَلَيْهِ، قِيَاسًا عَلَى غَيْرِهِ، إِذْ لاَ نَصَّ فِي شَأْنِهِ.
فَقَال بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ حَرَامٌ، وَقَال آخَرُونَ: إِنَّهُ مُبَاحٌ، وَقَال غَيْرُهُمْ: إِنَّهُ مَكْرُوهٌ.
وَبِكُل حُكْمٍ مِنْ هَذِهِ الأَْحْكَامِ أَفْتَى فَرِيقٌ مِنْ كُل مَذْهَبٍ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

الْقَائِلُونَ بِتَحْرِيمِهِ وَأَدِلَّتُهُمْ:
5 - ذَهَبَ إِلَى الْقَوْل بِتَحْرِيمِ شُرْبِ الدُّخَّانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: الشَّيْخُ الشُّرُنْبُلاَلِيُّ، وَالْمَسِيرِيُّ،
__________
(1) فتح العلي المالك 1 / 118، 190، الطبعة الأخيرة للحلبي، وتهذيب الفروق 1 / 216، والدر المحتار وحاشية ابن عابدين عليه 5 / 295.

(10/101)


وَصَاحِبُ الدُّرِّ الْمُنْتَقَى، وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا عِنْدَ الشَّيْخِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعِمَادِيِّ.
وَقَال بِتَحْرِيمِهِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: سَالِمٌ السَّنْهُورِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ اللَّقَّانِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْفَكُّونُ، وَخَالِدُ بْنُ أَحْمَدَ، وَابْنُ حَمْدُونَ وَغَيْرُهُمْ.
وَمِنَ الشَّافِعِيَّةِ: نَجْمُ الدِّينِ الْغَزِّيُّ، وَالْقَلْيُوبِيُّ، وَابْنُ عَلاَّنَ، وَغَيْرُهُمْ.
وَمِنَ الْحَنَابِلَةِ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْبُهُوتِيُّ، وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ النَّجْدِيِّينَ.
وَمِنْ هَؤُلاَءِ جَمِيعًا مَنْ أَلَّفَ فِي تَحْرِيمِهِ كَاللَّقَّانِيِّ وَالْقَلْيُوبِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْفَكُّونِ، وَابْنِ عَلاَّنَ (1) . وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِالْحُرْمَةِ بِمَا يَأْتِي:
6 - أ - أَنَّ الدُّخَّانَ يُسْكِرُ فِي ابْتِدَاءِ تَعَاطِيهِ إِسْكَارًا سَرِيعًا بِغَيْبَةٍ تَامَّةٍ، ثُمَّ لاَ يَزَال فِي كُل مَرَّةٍ يَنْقُصُ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى يَطُول الأَْمَدُ جِدًّا،
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 295، 296، وتهذيب الفروق بهامش الفروق 1 / 216، 217، وفتح العلي المالك 1 / 118، 189، 190، الطبعة الأخيرة للحلبي، وبغية المسترشدين ص 260، وحاشية القليوبي 1 / 69، وحاشية الجمل 1 / 170، وحاشية الشرواني 4 / 237، ومطالب أولي النهى 6 / 217 إلى 219، والفواكه العديدة في المسائل المفيدة 2 / 78، ورسالة إرشاد السائل إلى دلائل المسائل ص 50، 51، من مجموعة الرسائل السلفية في إحياء سنة خير البرية للشوكاني ط دار الكتب العلمية.

(10/102)


فَيَصِيرُ لاَ يُحِسُّ بِهِ، لَكِنَّهُ يَجِدُ نَشْوَةً وَطَرَبًا أَحْسَن عِنْدَهُ مِنَ السُّكْرِ. أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالإِْسْكَارِ: مُطْلَقُ الْمُغَطِّي لِلْعَقْل وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ الشِّدَّةُ الْمُطْرِبَةُ، وَلاَ رَيْبَ أَنَّهَا حَاصِلَةٌ لِمَنْ يَتَعَاطَاهُ أَوَّل مَرَّةٍ. وَهُوَ عَلَى هَذَا يَكُونُ نَجِسًا، وَيُحَدُّ شَارِبُهُ، وَيَحْرُمُ مِنْهُ الْقَلِيل وَالْكَثِيرُ.
7 - ب - إِنْ قِيل: إِنَّهُ لاَ يُسْكِرُ، فَهُوَ يُحْدِثُ تَفْتِيرًا وَخَدَرًا لِشَارِبِهِ، فَيُشَارِكُ أَوَّلِيَّةَ الْخَمْرِ فِي نَشْوَتِهِ، وَقَدْ قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كُل مُسْكِرٍ وَمُفَتِّرٍ (1) قَال الْعُلَمَاءُ: الْمُفَتِّرُ: مَا يُحْدِثُ الْفُتُورَ وَالْخَدَرَ فِي الأَْطْرَافِ وَصَيْرُورَتَهَا إِلَى وَهَنٍ وَانْكِسَارٍ، وَيَكْفِي حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ حُجَّةً، وَدَلِيلاً عَلَى تَحْرِيمِهِ.
وَلَكِنَّهُ عَلَى هَذَا لاَ يَكُونُ نَجِسًا وَلاَ يُحَدُّ شَارِبُهُ، وَيَحْرُمُ الْقَلِيل مِنْهُ كَالْكَثِيرِ خَشْيَةَ الْوُقُوعِ فِي التَّأْثِيرِ، إِذِ الْغَالِبُ وُقُوعُهُ بِأَدْنَى شَيْءٍ مِنْهَا، وَحِفْظُ الْعُقُول مِنَ الْكُلِّيَّاتِ الْخَمْسِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا عِنْدَ أَهْل الْمِلَل. (2)
8 - ج - أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى شُرْبِهِ الضَّرَرُ فِي الْبَدَنِ وَالْعَقْل وَالْمَال، فَهُوَ يُفْسِدُ الْقَلْبَ، وَيُضْعِفُ
__________
(1) حديث: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر. . . " أخرجه أبو داود (4 / 90 - ط عزت عبيد دعاس) وإسناده ضعيف (عون المعبود 3 / 374 - ط نشر دار الكتاب العربي) .
(2) ابن عابدين 5 / 296، وتهذيب الفروق 1 / 217، 218، والفواكه العديدة في المسائل المفيدة 2 /، 80، 81.

(10/102)


الْقُوَى، وَيُغَيِّرُ اللَّوْنَ بِالصُّفْرَةِ، وَيَتَوَلَّدُ مِنْ تَكَاثُفِ دُخَانِهِ فِي الْجَوْفِ الأَْمْرَاضُ وَالْعِلَل، كَالسُّعَال الْمُؤَدِّي لِمَرَضِ السُّل، وَتَكْرَارُهُ يُسَوِّدُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَتَتَوَلَّدُ مِنْهُ الْحَرَارَةُ، فَتَكُونُ دَاءً مُزْمِنًا مُهْلِكًا، فَيَشْمَلُهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (1) وَهُوَ يَسُدُّ مَجَارِيَ الْعُرُوقِ، فَيَتَعَطَّل وُصُول الْغِذَاءِ مِنْهَا إِلَى أَعْمَاقِ الْبَدَنِ، فَيَمُوتُ مُسْتَعْمِلُهُ فَجْأَةً. (2)
ثُمَّ قَالُوا: وَالأَْطِبَّاءُ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ مُضِرٌّ، قَال الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: أَخْبَرَ بَعْضُ مُخَالِطِي الإِْنْكِلِيزِ أَنَّهُمْ مَا جَلَبُوا الدُّخَانَ لِبِلاَدِ الإِْسْلاَمِ إِلاَّ بَعْدَ إِجْمَاعِ أَطِبَّائِهِمْ عَلَى مَنْعِهِمْ مِنْ مُلاَزَمَتِهِ، وَأَمْرِهِمْ بِالاِقْتِصَارِ عَلَى الْيَسِيرِ الَّذِي لاَ يَضُرُّ، لِتَشْرِيحِهِمْ رَجُلاً مَاتَ بِاحْتِرَاقِ كَبِدِهِ وَهُوَ مُلاَزِمُهُ، فَوَجَدُوهُ سَارِيًا فِي عُرُوقِهِ وَعَصَبِهِ، وَمُسَوِّدًا مُخَّ عِظَامِهِ، وَقَلْبُهُ مِثْل إِسْفَنْجَةٍ يَابِسَةٍ، فَمَنَعُوهُمْ مِنْ مُدَاوَمَتِهِ، وَأَمَرُوهُمْ بِبَيْعِهِ لِلْمُسْلِمِينَ لإِِضْرَارِهِمْ. . . قَال الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلاَّ هَذَا لَكَانَ بَاعِثًا لِلْعَقْل عَلَى اجْتِنَابِهِ، (3) وَقَدْ قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَلاَل
__________
(1) سورة النساء / 29.
(2) فتح العلي المالك 1 / 118، 123، وحاشية قليوبي 1 / 69، والبجيرمي على الخطيب 4 / 276، والفواكه العديدة في المسائل المفيدة 2 / 81.
(3) فتح العلي المالك 1 / 122، والفواكه العديدة 2 / 81.

(10/103)


بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْل الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ. (1)
هَذَا وَفِي الْمَرَاجِعِ الْحَدِيثَةِ مَا يُثْبِتُ ضَرَرَ التَّدْخِينِ. (2)
9 - د - فِي التَّدْخِينِ إِسْرَافٌ وَتَبْذِيرٌ وَضَيَاعٌ لِلْمَال، قَال الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: لَوْ سُئِل الْفُقَهَاءُ - الَّذِينَ قَالُوا: السَّفَهُ الْمُوجِبُ لِلْحَجْرِ تَبْذِيرُ الْمَال فِي اللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ - عَنْ مُلاَزِمِ اسْتِعْمَال الدُّخَانِ، لَمَّا تَوَقَّفُوا فِي وُجُوبِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ وَسَفَهِهِ، وَانْظُرْ إِلَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى إِضَاعَةِ الأَْمْوَال فِيهِ مِنَ التَّضْيِيقِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَحِرْمَانِهِمْ مِنَ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ مِمَّا أَفْسَدَهُ الدُّخَّانُ عَلَى الْمُتَرَفِّهِينَ بِهِ، وَسَمَاحَةِ أَنْفُسِهِمْ بِدَفْعِهَا لِلْكُفَّارِ الْمُحَارِبِينَ أَعْدَاءِ الدِّينِ،
__________
(1) حديث: " الحلال بين والحرام بين. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 290 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1219 - ط الحلبي) واللفظ لمسلم.
(2) تذكر المراجع الحديثة أن التقارير عن التدخين أثبتت ضرره،وأنه مصدر خطر على الصحة، ويؤدي إلى مرض السرطان، وأن نسبة المتوفين من المدخنين أعلى منها بين غير المدخنين. انظر في هذا دائرة المعارف البريطانية ط 1968 م مادة (
TOBCCO) وكتاب التدخين وسرطان الرئة للدكتور نبيل الطويل ص 30.

(10/103)


وَمَنْعِهَا مِنَ الإِْعَانَةِ بِهَا عَلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَسَدِّ خُلَّةِ الْمُحْتَاجِينَ. (1)
10 - هـ - صَدَرَ أَمْرٌ سُلْطَانِيٌّ مِنَ الْخَلِيفَةِ الْعُثْمَانِيِّ فِي وَقْتِهِ - بِنَاءً عَلَى فَتَاوَى عُلَمَاءِ عَصْرِهِ - بِمَنْعِ اسْتِعْمَال الدُّخَّانِ وَمُعَاقَبَةِ شَارِبِيهِ، وَحَرْقِ مَا وُجِدَ مِنْهُ. فَيُعْتَبَرُ مِنْ وُجُوهِ تَحْرِيمِهِ: الْخُرُوجُ عَنْ طَاعَةِ السُّلْطَانِ، فَإِنَّ امْتِثَال أَمْرِهِ وَاجِبٌ فِي غَيْرِ مَا أُجْمِعَ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَمُخَالَفَتُهُ مُحَرَّمَةٌ. (2)
11 وَرَائِحَةُ الدُّخَّانِ مُنْتِنَةٌ مُؤْذِيَةٌ، وَكُل رَائِحَةٍ مُؤْذِيَةٍ فَهِيَ مَمْنُوعَةٌ، وَالدُّخَّانُ أَشَدُّ مِنَ الْبَصَل وَالثُّومِ فِي الرَّائِحَةِ، وَقَدْ وَرَدَ مَنْعُ مَنْ تَنَاوَلَهُمَا مِنْ دُخُول الْمَسْجِدِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الرَّائِحَةِ الْمُنْتِنَةِ وَالرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ، وَالْبَصَل وَالثُّومُ رِيحُهُمَا مَكْرُوهٌ وَلَيْسَ مُنْتِنًا، وَالدُّخَّانُ رِيحُهُ مُنْتِنٌ. (3)
12 - ز - مَنْ زَعَمَ اسْتِعْمَالَهُ تَدَاوِيًا لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ اسْتِعْمَال الأَْدْوِيَةِ، وَخَرَجَ بِهِ إِلَى حَدِّ التَّفَكُّهِ وَالتَّلَذُّذِ، وَادَّعَى التَّدَاوِيَ تَلْبِيسًا وَتَسَتُّرًا حَتَّى وَصَل بِهِ إِلَى أَغْرَاضٍ بَاطِنَةٍ مِنَ الْعَبَثِ وَاللَّهْوِ وَالإِْسْطَال، وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ حُرْمَتُهُ، وَعَرَّفُوا الْعَبَثَ: بِأَنَّهُ فِعْلٌ لِغَيْرِ غَرَضٍ صَحِيحٍ،
__________
(1) فتح العلي المالك 1 / 122، 189، وتهذيب الفروق 1 / 217، 218.
(2) ابن عابدين 5 / 296، والدر المنتقى بهامش مجمع الأنهر 2 / 572، وفتح العلي المالك 1 / 120.
(3) فتح العلي المالك 1 / 120، 121.

(10/104)


وَالسَّفَهَ: بِأَنَّهُ فِعْلٌ لاَ غَرَضَ فِيهِ أَصْلاً وَاللَّعِبَ: فِعْلٌ فِيهِ لَذَّةٌ. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِحُرْمَةِ الْعَبَثِ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ صَاحِبُ كِتَابِ الاِحْتِسَابِ (1) مُتَمَسِّكًا بِقَوْل اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} (2) وَصَاحِبُ الْكَافِي مُتَمَسِّكًا بِقَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُل شَيْءٍ يَلْهُو بِهِ الرَّجُل بَاطِلٌ إِلاَّ رَمْيَةَ الرَّجُل بِقَوْسِهِ، وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ، وَمُلاَعَبَتَهُ امْرَأَتَهُ، فَإِنَّهُنَّ مِنَ الْحَقِّ. (3)

الْقَائِلُونَ بِإِبَاحَتِهِ وَأَدِلَّتُهُمْ:
13 - ذَهَبَ إِلَى الْقَوْل بِإِبَاحَةِ شُرْبِ الدُّخَّانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: الشَّيْخُ عَبْدُ الْغَنِيِّ النَّابُلُسِيُّ، وَقَدْ أَلَّفَ فِي إِبَاحَتِهِ رِسَالَةً سَمَّاهَا (الصُّلْحُ بَيْنَ الإِْخْوَانِ فِي إِبَاحَةِ شُرْبِ الدُّخَّانِ) وَمِنْهُمْ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ، وَابْنُ عَابِدِينَ، وَالشَّيْخُ مُحَمَّدٌ الْعَبَّاسِيُّ الْمَهْدِيُّ صَاحِبُ الْفَتَاوَى الْمَهْدِيَّةِ، وَالْحَمَوِيُّ شَارِحُ الأَْشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ.
وَمِنَ الْمَالِكِيَّةِ: عَلِيٌّ الأَُجْهُورِيُّ، وَلَهُ رِسَالَةٌ فِي إِبَاحَتِهِ سَمَّاهَا (غَايَةُ الْبَيَانِ لِحِل شُرْبِ مَا لاَ يُغَيِّبُ الْعَقْل مِنَ الدُّخَّانِ)
__________
(1) فتح العلي المالك 1 / 119.
(2) سورة المؤمنون / 115.
(3) حديث: " كل شيء يلهوبه الرجل باطل إلا رمية الرجل بقوسه. . . " أخرجه أحمد (4 / 144 - ط الميمنية) والحاكم (2 / 95 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه وافقه الذهبي.

(10/104)


وَنَقَل فِيهَا الإِْفْتَاءَ بِحِلِّهِ عَمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ، وَتَابَعَهُ عَلَى الْحِل أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمِنْهُمُ: الدُّسُوقِيُّ، وَالصَّاوِيُّ، وَالأَْمِيرُ، وَصَاحِبُ تَهْذِيبِ الْفُرُوقِ.
وَمِنَ الشَّافِعِيَّةِ: الْحِفْنِيُّ، وَالْحَلَبِيُّ، وَالرَّشِيدِيُّ، وَالشُّبْرَامَلْسِيُّ، وَالْبَابِلِيُّ، وَعَبْدُ الْقَادِرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْحُسَيْنِيُّ الطَّبَرِيُّ الْمَكِّيُّ، وَلَهُ رِسَالَةٌ سَمَّاهَا (رَفْعُ الاِشْتِبَاكِ عَنْ تَنَاوُل التُّنْبَاكِ) .
وَمِنَ الْحَنَابِلَةِ: الْكَرْمِيُّ صَاحِبُ دَلِيل الطَّالِبِ، وَلَهُ رِسَالَةٌ فِي ذَلِكَ سَمَّاهَا (الْبُرْهَانُ فِي شَأْنِ شُرْبِ الدُّخَّانِ) .
كَذَلِكَ قَال الشَّوْكَانِيُّ بِإِبَاحَتِهِ. (1)
وَقَدِ اسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِإِبَاحَتِهِ بِمَا يَأْتِي:
14 - أ - أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ إِسْكَارُهُ وَلاَ تَخْدِيرُهُ، وَلاَ إِضْرَارُهُ (عِنْدَ أَصْحَابِ هَذَا الرَّأْيِ) وَقَدْ عُرِفَ ذَلِكَ بَعْدَ اشْتِهَارِهِ، وَمَعْرِفَةِ النَّاسِ بِهِ،
__________
(1) ابن عابدين 5 / 295، 296، والفتاوى المهدية 5 / 298، والحموي على الأشباه 1 / 98، وفتح العلي المالك 1 / 189، 190، وتهذيب الفروق 1 / 217 - 219، والدسوقي 1 / 50، والشرح الصغير 1 / 19، 323 والشرواني على تحفة المحتاج 8 / 309، وحاشية الجمل 1 / 170، ومطالب أولي النهى 6 / 217، والفواكه العديدة في المسائل المفيدة 2 / 80، 81، ورسالة إرشاد السائل للشوكاني ص 50، 51.

(10/105)


فَدَعْوَى أَنَّهُ يُسْكِرُ أَوْ يُخَدِّرُ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، فَإِنَّ الإِْسْكَارَ غَيْبُوبَةُ الْعَقْل مَعَ حَرَكَةِ الأَْعْضَاءِ، وَالتَّخْدِيرُ غَيْبُوبَةُ الْعَقْل مَعَ فُتُورِ الأَْعْضَاءِ، وَكِلاَهُمَا لاَ يَحْصُل لِشَارِبِهِ. نَعَمْ مَنْ لَمْ يَعْتَدْهُ يَحْصُل لَهُ إِذَا شَرِبَهُ نَوْعُ غَشَيَانٍ. وَهَذَا لاَ يُوجِبُ التَّحْرِيمَ. كَذَا قَال الشَّيْخُ حَسَنٌ الشَّطِّيُّ وَغَيْرُهُ. (1)
وَقَال الشَّيْخُ عَلِيٌّ الأَُجْهُورِيُّ: الْفُتُورُ الَّذِي يَحْصُل لِمُبْتَدِئِ شُرْبِهِ لَيْسَ مِنْ تَغْيِيبِ الْعَقْل فِي شَيْءٍ، وَإِنْ سَلِمَ أَنَّهُ مِمَّا يُغَيِّبُ الْعَقْل فَلَيْسَ مِنَ الْمُسْكِرِ قَطْعًا؛ لأَِنَّ الْمُسْكِرَ يَكُونُ مَعَهُ نَشْوَةٌ وَفَرَحٌ، وَالدُّخَانُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ فَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لِمَنْ لاَ يُغَيِّبُ عَقْلَهُ، وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَْمْزِجَةِ، وَالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، فَقَدْ يُغَيِّبُ عَقْل شَخْصٍ وَلاَ يُغَيِّبُ عَقْل آخَرَ، وَقَدْ يُغَيِّبُ مِنِ اسْتِعْمَال الْكَثِيرِ دُونَ الْقَلِيل. (2)
15 - ب - الأَْصْل فِي الأَْشْيَاءِ الإِْبَاحَةُ حَتَّى يَرِدَ نَصٌّ بِالتَّحْرِيمِ، فَيَكُونُ فِي حَدِّ ذَاتِهِ مُبَاحًا، جَرْيًا عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ وَعُمُومَاتِهِ، الَّتِي يَنْدَرِجُ تَحْتَهَا حَيْثُ كَانَ حَادِثًا غَيْرَ مَوْجُودٍ زَمَنَ الشَّارِعِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ نَصٌّ بِخُصُوصِهِ، وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ فِي الْقُرْآنِ أَوِ السُّنَّةِ، فَهُوَ مِمَّا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ، وَلَيْسَ
__________
(1) الحاشية على مطالب أولي النهى 6 / 217، وابن عابدين 5 / 296، وتهذيب الفروق 1 / 219.
(2) تهذيب الفروق 1 / 217.

(10/105)


الاِحْتِيَاطُ فِي الاِفْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِإِثْبَاتِ الْحُرْمَةِ أَوِ الْكَرَاهَةِ اللَّذَيْنِ لاَ بُدَّ لَهُمَا مِنْ دَلِيلٍ، بَل فِي الْقَوْل بِالإِْبَاحَةِ الَّتِي هِيَ الأَْصْل، وَقَدْ تَوَقَّفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَنَّهُ هُوَ الْمُشَرِّعُ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ أُمِّ الْخَبَائِثِ - حَتَّى نَزَل عَلَيْهِ النَّصُّ الْقَطْعِيُّ، فَاَلَّذِي يَنْبَغِي لِلإِْنْسَانِ إِذَا سُئِل عَنْهُ أَنْ يَقُول: هُوَ مُبَاحٌ، لَكِنَّ رَائِحَتَهُ تَسْتَكْرِهُهَا الطِّبَاعُ، فَهُوَ مَكْرُوهٌ طَبْعًا لاَ شَرْعًا. (1)
16 - ج - إِنْ فُرِضَ إِضْرَارُهُ لِبَعْضِ النَّاسِ فَهُوَ أَمْرٌ عَارِضٌ لاَ لِذَاتِهِ، وَيَحْرُمُ عَلَى مَنْ يَضُرُّهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَلاَ يَلْزَمُ تَحْرِيمُهُ عَلَى كُل أَحَدٍ، فَإِنَّ الْعَسَل يَضُرُّ بَعْضَ النَّاسِ، وَرُبَّمَا أَمْرَضَهُمْ، مَعَ أَنَّهُ شِفَاءٌ بِالنَّصِّ الْقَطْعِيِّ. (2)
17 - د - صَرْفُ الْمَال فِي الْمُبَاحَاتِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَيْسَ بِسَرَفٍ؛ لأَِنَّ الإِْسْرَافَ هُوَ التَّبْذِيرُ، وَفَسَّرَ ابْنُ مَسْعُودٍ التَّبْذِيرَ بِأَنَّهُ إِنْفَاقُ الْمَال فِي غَيْرِ حَقِّهِ، فَإِذَا كَانَ الإِْنْفَاقُ فِي حَقِّهِ وَلَوْ مُبَاحًا فَلَيْسَ بِسَرَفٍ، وَدَعْوَى أَنَّهُ إِسْرَافٌ فَهَذَا غَيْرُ خَاصٍّ بِالدُّخَّانِ. (3)
__________
(1) ابن عابدين 5 / 296، وتهذيب الفروق 1 / 217، ومطالب أولي النهى 6 / 217، 218، والفواكه العديدة 2 / 84، وحاشية الجمل 3 / 24.
(2) ابن عابدين 5 / 296، وتهذيب الفروق 1 / 218، ورسالة إرشاد السائل للشوكاني ص 50، 51، والفواكه العديدة 2 / 84.
(3) تهذيب الفروق 1 / 218، ومطالب أولي النهى 6 / 217.

(10/106)


18 - هـ - اتَّفَقَ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّ تَحْكِيمَ الْعَقْل وَالرَّأْيِ بِلاَ مُسْتَنَدٍ شَرْعِيٍّ بَاطِلٌ، إِذْ لَيْسَ الصَّلاَحُ بِتَحْرِيمِهِ، وَإِنَّمَا الصَّلاَحُ وَالدِّينُ الْمُحَافَظَةُ بِالاِتِّبَاعِ لِلأَْحْكَامِ الْوَارِدَةِ بِلاَ تَغْيِيرٍ وَلاَ تَبْدِيلٍ، وَهَل الطَّعْنُ فِي أَكْثَرِ النَّاسِ مِنْ أَهْل الإِْيمَانِ وَالدِّينِ، وَالْحُكْمُ عَلَيْهِمْ بِالْفِسْقِ وَالطُّغْيَانِ بِسَبَبِ شُرْبِهِمُ الدُّخَّانَ، وَفِي الْعَامَّةِ مِنْ هَذِهِ الأُْمَّةِ فَضْلاً عَنِ الْخَاصَّةِ، (1) صَلاَحٌ أَمْ فَسَادٌ؟
19 - وَ - حَرَّرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ تَقْلِيدُ مَنْ أَفْتَى بِحُرْمَةِ شُرْبِ الدُّخَّانِ؛ لأَِنَّ فَتْوَاهُمْ إِنْ كَانَتْ عَنِ اجْتِهَادٍ فَاجْتِهَادُهُمْ لَيْسَ بِثَابِتٍ، لِعَدَمِ تَوَافُرِ شُرُوطِ الاِجْتِهَادِ، وَإِنْ كَانَتْ عَنْ تَقْلِيدٍ لِمُجْتَهِدٍ آخَرَ، فَلَيْسَ بِثَابِتٍ كَذَلِكَ لأَِنَّهُ لَمْ يُنْقَل مَا يَدُل عَلَى ذَلِكَ، فَكَيْفَ سَاغَ لَهُمُ الْفَتْوَى وَكَيْفَ يَجِبُ تَقْلِيدُهُمْ؟
ثُمَّ قَال: وَالْحَقُّ فِي إِفْتَاءِ التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيمِ فِي هَذَا الزَّمَانِ التَّمَسُّكُ بِالأَْصْلَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْبَيْضَاوِيُّ فِي الأُْصُول، وَوَصَفَهُمَا بِأَنَّهُمَا نَافِعَانِ فِي الشَّرْعِ.
الأَْوَّل: أَنَّ الأَْصْل فِي الْمَنَافِعِ: الإِْبَاحَةُ، وَالآْيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
الثَّانِي: أَنَّ الأَْصْل فِي الْمَضَارِّ: التَّحْرِيمُ وَالْمَنْعُ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ (2) .
__________
(1) مطالب أولي النهى 6 / 218.
(2) حديث: " لا ضرر ولا ضرار. . " أخرجه ابن ماجه (2 / 784 - ط الحلبي) وقال ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم (ص 286 - ط الحلبي) : له طرق يقوي بعضها بعضا.

(10/106)


ثُمَّ قَال: وَبِالْجُمْلَةِ إِنْ ثَبَتَ فِي هَذَا الدُّخَّانِ إِضْرَارٌ صَرَفَ عَنِ الْمَنَافِعِ فَيَجُوزُ الإِْفْتَاءُ بِتَحْرِيمِهِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ إِضْرَارُهُ فَالأَْصْل الْحِل. مَعَ أَنَّ الإِْفْتَاءَ بِحِلِّهِ فِيهِ دَفْعُ الْحَرَجِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ يُبْتَلَوْنَ بِتَنَاوُلِهِ، فَتَحْلِيلُهُ أَيْسَرُ مِنْ تَحْرِيمِهِ، فَإِثْبَاتُ حُرْمَتِهِ أَمْرٌ عَسِيرٌ لاَ يَكَادُ يُوجَدُ لَهُ نَصِيرٌ. نَعَمْ لَوْ أَضَرَّ بِبَعْضِ الطَّبَائِعِ فَهُوَ عَلَيْهِ حَرَامٌ، وَلَوْ نَفَعَ بِبَعْضٍ وَقُصِدَ التَّدَاوِي فَهُوَ مَرْغُوبٌ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: كَذَا أَجَابَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ حَيْدَرٍ الْكَرْدِيُّ الْجَزَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. (1)
وَفِي تَهْذِيبِ الْفُرُوقِ: مَنْ عَافَاهُ اللَّهُ مِنْ شُرْبِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَحْمِل النَّاسَ عَلَى مُخْتَارِهِ، فَيُدْخِل عَلَيْهِمْ شَغَبًا فِي أَنْفُسِهِمْ وَحَيْرَةً فِي دِينِهِمْ، إِذْ مِنْ شَرْطِ التَّغْيِيرِ لأَِمْرٍ مَا أَنْ يَكُونَ مُتَّفَقًا عَلَى إِنْكَارِهِ. (2)

الْقَائِلُونَ بِالْكَرَاهَةِ وَأَدِلَّتُهُمْ:
20 - ذَهَبَ إِلَى الْقَوْل بِكَرَاهَةِ شُرْبِ الدُّخَّانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: ابْنُ عَابِدِينَ، وَأَبُو السُّعُودِ،
__________
(1) تهذيب الفروق 1 / 220، وتنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 365، 366.
(2) تهذيب الفروق 1 / 221.

(10/107)


وَاللَّكْنَوِيُّ.
وَمِنَ الْمَالِكِيَّةِ: الشَّيْخُ يُوسُفُ الصَّفْتِيُّ.
وَمِنَ الشَّافِعِيَّةِ: الشِّرْوَانِيُّ.
وَمِنَ الْحَنَابِلَةِ: الْبُهُوتِيُّ، وَالرَّحِيبَانِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَنْقُورُ التَّمِيمِيُّ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا يَأْتِي:
21 - أ - كَرَاهَةُ رَائِحَتِهِ، فَيُكْرَهُ قِيَاسًا عَلَى الْبَصَل النِّيءِ وَالثُّومِ وَالْكُرَّاثِ وَنَحْوِهَا.
22 - ب - عَدَمُ ثُبُوتِ أَدِلَّةِ التَّحْرِيمِ، فَهِيَ تُورِثُ الشَّكَّ، وَلاَ يَحْرُمُ شَيْءٌ بِمُجَرَّدِ الشَّكِّ، فَيُقْتَصَرُ عَلَى الْكَرَاهَةِ لِمَا أَوْرَدَهُ الْقَائِلُونَ بِالْحُرْمَةِ. (2) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 296، وتهذيب الفروق 1 / 219، والشرواني على تحفة المحتاج 4 / 237، ومطالب أولي النهى 6 / 217 - 219، والفواكه العديدة 2 / 80.
(2) ترى لجنة الموسوعة أن الدخان يحرم إذا ثبت ضرره لبعض الناس ضررا صرفا خاليا من المنافع، سواء أكان الضرر في العقل أو البدن، أو كان شاربه مضطرا إلى صرف ثمنه في حاجاته وحاجات عياله الأساسية، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه، لأن رائحته كريهة منتنة، ولأنه لا يخلو

(10/107)


حُكْمُ شُرْبِ الدُّخَّانِ فِي الْمَسَاجِدِ وَمَجَالِسِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ وَالْمَحَافِل:
23 - لاَ يَجُوزُ شُرْبُ الدُّخَّانِ فِي الْمَسَاجِدِ بِاتِّفَاقٍ، سَوَاءٌ قِيل بِإِبَاحَتِهِ أَوْ كَرَاهَتِهِ أَوْ تَحْرِيمِهِ، قِيَاسًا عَلَى مَنْعِ أَكْل الثُّومِ وَالْبَصَل فِي الْمَسَاجِدِ، وَمَنْعِ آكِلِهِمَا مِنْ دُخُول الْمَسَاجِدِ حَتَّى تَزُول رَائِحَةُ فَمِهِ، وَذَلِكَ لِكَرَاهَةِ رَائِحَةِ الثُّومِ وَالْبَصَل، فَيَتَأَذَّى الْمَلاَئِكَةُ وَالْمُصَلُّونَ مِنْهَا، وَيُلْحَقُ الدُّخَّانُ بِهِمَا لِكَرَاهَةِ رَائِحَتِهِ - وَالْمَسَاجِدُ إِنَّمَا بُنِيَتْ لِعِبَادَةِ اللَّهِ، فَيَجِبُ تَجْنِيبُهَا الْمُسْتَقْذَرَاتِ وَالرَّوَائِحَ الْكَرِيهَةَ - فَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ أَكَل الْبَصَل وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ فَلاَ يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ. (1)
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: يُمْنَعُ فِي الْمَسْجِدِ أَكْل نَحْوِ ثُومٍ وَبَصَلٍ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي النَّهْيِ عَنْ قُرْبَانِ آكِل الثُّومِ وَالْبَصَل
__________
(1) حديث: " من أكل البصل والثوم والكرات. . . " أخرجه مسلم (1 / 395 - ط الحلبي) .

(10/108)


الْمَسْجِدَ قَال الإِْمَامُ الْعَيْنِيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَى صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: قُلْتُ: عِلَّةُ النَّهْيِ أَذَى الْمَلاَئِكَةِ وَأَذَى الْمُسْلِمِينَ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَيُلْحَقُ بِمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ: كُل مَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ مَأْكُولاً أَوْ غَيْرَهُ.
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الطَّحْطَاوِيِّ: إِنَّ الدُّخَانَ مُلْحَقٌ بِالْبَصَل وَالثُّومِ فِي هَذَا الْحُكْمِ.
وَقَال الشَّيْخُ عُلَيْشٌ الْمَالِكِيُّ: لاَ شَكَّ فِي تَحْرِيمِ شُرْبِ الدُّخَّانِ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْمَحَافِل لأَِنَّ لَهُ رَائِحَةً كَرِيهَةً، وَنُقِل عَنْ مَجْمُوعِ الأَْمِيرِ فِي بَابِ الْجُمُعَةِ: أَنَّهُ يَحْرُمُ تَعَاطِي مَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ فِي الْمَسْجِدِ وَالْمَحَافِل.
وَفِي الشِّرْوَانِيِّ عَلَى تُحْفَةِ الْمُحْتَاجِ: يُمْنَعُ مِنْ دُخُول الْمَسْجِدِ ذُو الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ، كَآكِل الْبَصَل وَالثُّومِ، وَمِنْهُ رِيحُ الدُّخَّانِ الْمَشْهُورِ الآْنَ. (1)
24 - كَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ لِشَارِبِ الدُّخَّانِ دُخُول الْمَسْجِدِ حَتَّى تَزُول الرَّائِحَةُ مِنْ فَمِهِ، قِيَاسًا عَلَى مَنْعِ آكِل الثُّومِ وَالْبَصَل مِنْ دُخُول الْمَسْجِدِ حَتَّى تَزُول الرَّائِحَةُ. وَاعْتَبَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ وُجُودَ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ، عُذْرٌ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجُمُعَةِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 444، 5 / 296، 297، وفتح العلي المالك 1 / 189، 191، وحاشية الشرواني على تحفة المحتاج 2 / 275، 276، وكشاف القناع 1 / 497 و 2 / 365.

(10/108)


وَالْجَمَاعَةِ، إِذَا لَمْ يُفْعَل ذَلِكَ قَصْدًا لإِِسْقَاطِ الْجَمَاعَةِ.
وَلاَ يَخْتَصُّ الْمَنْعُ بِالْمَسَاجِدِ، بَل إِنَّهُ يَشْمَل مَجَامِعَ الصَّلاَةِ غَيْرَ الْمَسَاجِدِ، كَمُصَلَّى الْعِيدِ وَالْجَنَائِزِ وَنَحْوِهَا مِنْ مَجَامِعِ الْعِبَادَاتِ، وَكَذَا مَجَامِعُ الْعِلْمِ وَالذِّكْرِ وَمَجَالِسُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَنَحْوُهَا.
25 - هَذَا مَعَ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي مَنْعِ مَنْ فِي فَمِهِ رَائِحَةُ الدُّخَّانِ مِنْ دُخُول الْمَسْجِدِ، أَوْ مَجَامِعِ الْعِبَادَاتِ، وَمَجَالِسِ الْقُرْآنِ، فَحَرَّمَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَكَرِهَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
كَذَلِكَ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَجَامِعِ الَّتِي لَيْسَتْ لِلصَّلاَةِ أَوِ الذِّكْرِ أَوْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ. وَذَلِكَ كَالْوَلاَئِمِ وَمَجَالِسِ الْقَضَاءِ.
فَأَفْتَى بِإِبَاحَتِهِ فِي مَجَالِسِ الْقَضَاءِ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ مَهْدِيٌّ الْعَبَّاسِيُّ الْحَنَفِيُّ شَيْخُ الأَْزْهَرِ وَمُفْتِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ.
وَقَال الشَّيْخُ عُلَيْشٌ الْمَالِكِيُّ: يَحْرُمُ تَعَاطِيهِ فِي الْمَحَافِل.
وَكَرِهَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
26 - أَمَّا الأَْسْوَاقُ وَنَحْوُهَا، فَقَدْ قَال الإِْمَامُ النَّوَوِيُّ: يُلْحَقُ بِالثُّومِ وَالْبَصَل وَالْكُرَّاثِ كُل مَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ مِنَ الْمَأْكُولاَتِ وَغَيْرِهَا، وَقَاسَ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْمَسَاجِدِ مَجَامِعَ الْعِبَادَاتِ وَمَجَامِعَ

(10/109)


الْعِلْمِ وَالذِّكْرِ وَالْوَلاَئِمِ وَنَحْوِهَا.
ثُمَّ قَال: وَلاَ يُلْتَحَقُ بِهَا الأَْسْوَاقُ وَنَحْوُهَا. (1) .

حُكْمُ بَيْعِ الدُّخَانِ وَزِرَاعَتِهِ:
27 - كَانَ الاِخْتِلاَفُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِلدُّخَانِ هُوَ فِي بَيَانِ حُكْمِ شُرْبِهِ، هَل هُوَ حَرَامٌ أَوْ مُبَاحٌ أَوْ مَكْرُوهٌ؟ ، وَكَانَ التَّعَرُّضُ لِبَيَانِ حُكْمِ بَيْعِهِ أَوْ زِرَاعَتِهِ قَلِيلاً.
عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَال فِي الْجُمْلَةِ: إِنَّ الَّذِينَ حَرَّمُوهُ يَسْتَتْبِعُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ حُرْمَةَ بَيْعِهِ وَزِرَاعَتِهِ، وَالَّذِينَ أَبَاحُوهُ يُبَاحُ عِنْدَهُمْ بَيْعُهُ وَزِرَاعَتُهُ. يَقُول الشَّيْخُ عُلَيْشٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: الْحَاصِل أَنَّ الدُّخَّانَ فِي شُرْبِهِ خِلاَفٌ بِالْحِل وَالْحُرْمَةِ، فَالْوَرَعُ عَدَمُ شُرْبِهِ، وَبَيْعُهُ وَسِيلَةً لِشُرْبِهِ، فَيُعْطَى حُكْمَهُ (2) .
وَنُورِدُ فِيمَا يَلِي مَا أَمْكَنَ الْعُثُورُ عَلَيْهِ مِنْ أَقْوَالٍ فِي ذَلِكَ:
28 - مِنَ الْحَنَفِيَّةِ نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 444، 5 / 296، 297، والطحطاوي على الدر 1 / 278، وفتح العلي المالك 1 / 189، 191، والشرح الصغير 1 / 184 والشرواني 2 / 276، ومغني المحتاج 1 / 236 ونهاية المحتاج 2 / 155، والبجيرمي على الخطيب 2 / 114، وصحيح مسلم بشرح النووي 5 / 48، 49 ط ثالثة نشر دار إحياء التراث، وكشاف القناع 1 / 497، 498، 2 / 365، 6 / 195، والفتاوى المهدية 5 / 298.
(2) فتح العلي المالك 1 / 190.

(10/109)


الشُّرُنْبُلاَلِيِّ: أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ بَيْعِ الدُّخَّانِ (1) ، وَمِنَ الْمَالِكِيَّةِ، ذَكَرَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: مَا يُفِيدُ جَوَازَ زِرَاعَتِهِ وَبَيْعِهِ، فَقَدْ سُئِل فِي الدُّخَّانِ الَّذِي يُشْرَبُ فِي الْقَصَبَةِ، وَالَّذِي يُسْتَنْشَقُ بِهِ، هَل كُلٌّ مِنْهُمَا مُتَمَوَّلٌ؟ فَإِذَا أَتْلَفَ شَخْصٌ شَيْئًا مِنْ أَحَدِهِمَا مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ يَكُونُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، أَوْ كَيْفَ الْحَال؟
فَأَجَابَ: نَعَمْ كُلٌّ مِنْهُمَا مُتَمَوَّلٌ؛ لأَِنَّهُ طَاهِرٌ فِيهِ مَنْفَعَةٌ شَرْعِيَّةٌ لِمَنِ اخْتَلَّتْ طَبِيعَتُهُ بِاسْتِعْمَالِهِ وَصَارَ لَهُ كَالدَّوَاءِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا كَسَائِرِ الْعَقَاقِيرِ الَّتِي يُتَدَاوَى بِهَا مِنَ الْعِلَل، وَلاَ يَرْتَابُ عَاقِلٌ مُتَشَرِّعٌ فِي أَنَّهَا مُتَمَوَّلَةٌ، فَكَذَلِكَ هَذَانِ، كَيْفَ وَالاِنْتِفَاعُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ وَالتَّنَافُسُ حَاصِلاَنِ بِالْمُشَاهَدَةِ.
فَإِذَا أَتْلَفَ شَخْصٌ شَيْئًا مِنْ أَحَدِهِمَا مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ كَانَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَقَدْ أَفْتَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِجَوَازِ بَيْعِ مُغَيَّبِ الْعَقْل بِلاَ نَشْوَةٍ، لِمَنْ يَسْتَعْمِل مِنْهُ الْقَدْرَ الْيَسِيرَ الَّذِي لاَ يُغَيِّبُ عَقْلَهُ، وَاسْتَظْهَرَ فَتْوَاهُ سَيِّدِي إِبْرَاهِيمُ اللَّقَّانِيُّ (2) .
كَذَلِكَ سُئِل الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: عَنْ رَجُلٍ تَعَدَّى عَلَى بَصَلٍ لآِخَرَ أَوْ جَزَرٍ أَوْ خَسٍّ أَوْ دُخَّانٍ أَوْ مُطْلَقِ زَرْعٍ قَبْل بُدُوِّ صَلاَحِهِ، فَمَاذَا يَلْزَمُهُ؟ وَهَل يُعْتَبَرُ وَقْتُ الْحَصَادِ، أَوْ مَا يَقُولُهُ أَهْل الْمَعْرِفَةِ؟ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ فَمَا الْحُكْمُ؟
__________
(1) ابن عابدين 5 / 295.
(2) فتح العلي المالك 2 / 181.

(10/110)


فَأَجَابَ: إِنْ تَعَدَّى عَلَى الزَّرْعِ قَبْل بُدُوِّ الصَّلاَحِ أُغْرِمَ قِيمَتَهُ يَوْمَ التَّعَدِّي عَلَى الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، وَإِنْ تَأَخَّرَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِالْغُرْمِ حَتَّى رَجَعَ الزَّرْعُ لِحَالِهِ سَقَطَتْ عَنْهُ الْقِيمَةُ وَيُؤَدَّبُ الْمُفْسِدُ، وَإِنْ تَعَدَّى بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ أُغْرِمَ قِيمَتَهُ يَوْمَ التَّعَدِّي عَلَى الْبَتِّ. (1)
وَمِنَ الشَّافِعِيَّةِ: جَاءَ فِي حَاشِيَةِ الشُّبْرَامَلْسِيِّ عَلَى نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: يَصِحُّ بَيْعُ الدُّخَانِ الْمَعْرُوفِ فِي زَمَانِنَا؛ لأَِنَّهُ طَاهِرٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ (2) أَيْ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ.
وَجَاءَ فِي حَاشِيَةِ الشِّرْوَانِيِّ عَلَى تُحْفَةِ الْمُحْتَاجِ مَا مُلَخَّصُهُ جَوَازُ بَيْعِهِ.، لِلْخِلاَفِ فِي حُرْمَتِهِ وَلاِنْتِفَاعِ بَعْضِ النَّاسِ بِهِ. كَمَا إِذَا كَانَ يُعْلَمُ الضَّرَرُ بِتَرْكِهِ، وَحِينَئِذٍ فَيَصِحُّ بَيْعُهُ. (3)
وَلَمْ نَعْثُرْ عَلَى نَصٍّ فِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ، لَكِنْ جَاءَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَفَادَ مِنْهُ جَوَازُ بَيْعِهِ قِيَاسًا. قَال: السُّمُّ مِنَ الْحَشَائِشِ وَالنَّبَاتِ، إِنْ كَانَ لاَ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ كَانَ يَقْتُل قَلِيلُهُ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، وَإِنِ اُنْتُفِعَ بِهِ وَأَمْكَنَ التَّدَاوِي بِيَسِيرِهِ جَازَ بَيْعُهُ، لِمَا فِيهِ مِنَ النَّفْعِ الْمُبَاحِ. (4)
__________
(1) فتح العلي المالك 2 / 179.
(2) نهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي عليه 3 / 318.
(3) حاشية الشرواني على تحفة المحتاج 4 / 237، وحاشية الجمل 3 / 24.
(4) كشاف القناع 3 / 155.

(10/110)


حُكْمُ الدُّخَّانِ مِنْ حَيْثُ الطَّهَارَةُ وَالنَّجَاسَةُ:
29 - صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِطَهَارَةِ الدُّخَّانِ. قَال الدَّرْدِيرُ: مِنَ الطَّاهِرِ الْجَمَادُ، وَيَشْمَل النَّبَاتَ بِأَنْوَاعِهِ، قَال الصَّاوِيُّ: وَمِنْ ذَلِكَ الدُّخَّانُ (1) وَفِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ قَال الشُّبْرَامَلْسِيُّ فِي الْحَاشِيَةِ: يَصِحُّ بَيْعُ الدُّخَّانِ الْمَعْرُوفِ فِي زَمَانِنَا؛ لأَِنَّهُ طَاهِرٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ. وَوَرَدَ مِثْل ذَلِكَ فِي حَاشِيَةِ الْجَمَل وَحَاشِيَةِ الشِّرْوَانِيِّ وَحَاشِيَةِ الْقَلْيُوبِيِّ (2) .
هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفَرْقِ الأَْرْبَعِينَ: " قَاعِدَةُ الْمُسْكِرَاتِ وَالْمُرَقِّدَاتِ وَالْمُفْسِدَاتِ "
(تَنْبِيهٌ)
تَنْفَرِدُ الْمُسْكِرَاتُ عَنِ الْمُرَقِّدَاتِ وَالْمُفْسِدَاتِ بِثَلاَثَةِ أَحْكَامٍ: الْحَدِّ، وَالتَّنْجِيسِ، وَتَحْرِيمِ الْيَسِيرِ. وَالْمُرَقِّدَاتُ وَالْمُفْسِدَاتُ لاَ حَدَّ فِيهَا وَلاَ نَجَاسَةَ، فَمَنْ صَلَّى بِالْبَنْجِ مَعَهُ أَوِ الأَْفْيُونِ لَمْ تَبْطُل صَلاَتُهُ إِجْمَاعًا (3) . هَذَا وَبَعْضُ مَنْ حَرَّمَ الدُّخَّانَ وَعَلَّل حُرْمَتَهُ بِالإِْسْكَارِ فَهِيَ عِنْدَهُ نَجِسَةٌ قِيَاسًا عَلَى الْخَمْرِ. (4)
وَلَمْ نَعْثُرْ عَلَى نَصٍّ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّ قَوَاعِدَهُمْ تَدُل عَلَى أَنَّ الدُّخَّانَ طَاهِرٌ، فَقَدْ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الأَْشْرِبَةُ الْجَامِدَةُ كَالْبَنْجِ وَالأَْفْيُونِ
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 19 ط الحلبي.
(2) نهاية المحتاج 3 / 318، وحاشية الجمل 1 / 170، وحاشية الشرواني 1 / 288، 289، 4 / 237، وحاشية القليوبي 1 / 69.
(3) الفروق للقرافي 1 / 218.
(4) هامش الفروق 1 / 217.

(10/111)


لَمْ نَرَ أَحَدًا قَال بِنَجَاسَتِهَا، وَلاَ يَلْزَمُ مِنَ الْحُرْمَةِ نَجَاسَتُهُ، كَالسُّمِّ الْقَاتِل، فَإِنَّهُ حَرَامٌ مَعَ أَنَّهُ طَاهِرٌ. (1)
كَذَلِكَ لَمْ نَعْثُرْ عَلَى نَصٍّ فِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ جَاءَ فِي نَيْل الْمَآرِبِ: الْمُسْكِرُ غَيْرُ الْمَائِعِ طَاهِرٌ. (2)

تَفْطِيرُ الصَّائِمِ بِشُرْبِ الدُّخَّانِ:
30 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ شُرْبَ الدُّخَّانِ الْمَعْرُوفِ أَثْنَاءَ الصَّوْمِ يُفْسِدُ الصِّيَامَ لأَِنَّهُ مِنَ الْمُفْطِرَاتِ، كَذَلِكَ يُفْسِدُ الصَّوْمَ لَوْ أَدْخَل الدُّخَّانَ حَلْقَهُ مِنْ غَيْرِ شُرْبٍ، بَل بِاسْتِنْشَاقٍ لَهُ عَمْدًا، أَمَّا إِذَا وَصَل إِلَى حَلْقِهِ بِدُونِ قَصْدٍ، كَأَنْ كَانَ يُخَالِطُ مَنْ يَشْرَبُهُ فَدَخَل الدُّخَانُ حَلْقَهُ دُونَ قَصْدٍ، فَلاَ يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ، إِذْ لاَ يُمْكِنُ الاِحْتِزَازُ مِنْ ذَلِكَ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: إِنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَقَطْ، إِذِ الْكَفَّارَةُ عِنْدَهُمْ تَكُونُ بِالْجِمَاعِ فَقَطْ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ. (3)
وَكَذَلِكَ يُفْطِرُ الصَّائِمُ بِمَضْغِ الدُّخَّانِ أَوْ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 293.
(2) نيل المآرب بشرح دليل الطالب 1 / 100.
(3) ابن عابدين 2 / 97، 98، والشرح الصغير 1 / 246 ط الحلبي، وفتح العلي المالك 1 / 179، والشرواني على تحفة المحتاج 3 / 400، والبجيرمي على الإقناع 2 / 328، وكشاف القناع 2 / 320.

(10/111)


نُشُوقِهِ، لأَِنَّهُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ التَّكْيِيفِ، وَيَصِل طَعْمُهُ لِلْحَلْقِ، وَيَتَكَيَّفُ بِهِ الدِّمَاغُ مِثْل تَكَيُّفِهِ بِالدُّخَّانِ الَّذِي يُمَصُّ بِالْعُودِ.
وَهَذَا مَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ، وَقَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى لاَ تَأْبَاهُ. (1)

حَقُّ الزَّوْجِ فِي مَنْعِ زَوْجَتِهِ مِنْ شُرْبِ الدُّخَّانِ:
31 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَأَحَدُ وَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) أَنَّ لِلزَّوْجِ مَنْعَ زَوْجَتِهِ مِنْ كُل مَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ، كَالْبَصَل وَالثُّومِ، وَمِنْ ذَلِكَ شُرْبُ الدُّخَّانِ الْمَعْرُوفِ؛ لأَِنَّ رَائِحَتَهُ تَمْنَعُ كَمَال الاِسْتِمْتَاعِ، خُصُوصًا إِذَا كَانَ الزَّوْجُ لاَ يَشْرَبُهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ لأَِنَّهُ لاَ يَمْنَعُ الْوَطْءَ. (2)

التَّبَغُ فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ:
32 - يَرَى بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الزَّوْجَةَ إِنِ اعْتَادَتْ شُرْبَ الدُّخَّانِ تَفَكُّهًا وَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ تَوْفِيرُهُ لَهَا ضِمْنَ حَقِّهَا فِي النَّفَقَةِ.
__________
(1) فتح العلي المالك 1 / 179.
(2) ابن عابدين 3 / 402، 5 / 295، والشرح الصغير 1 / 520 ط الحلبي، ومنح الجليل 2 / 435، والبجيرمي على الخطيب 3 / 407، والمهذب 2 / 67، والمجموع 15 / 283، 286 ط المطيعي، والإنصاف 8 / 352، ونيل المآرب 2 / 217، والمغني 7 / 20، وكشاف القناع 5 / 190، ومطالب أولي النهى 5 / 264.

(10/112)


وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَإِنْ تَضَرَّرَتْ بِتَرْكِهِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لأَِنَّ ذَلِكَ إِنْ كَانَ مِنْ قَبِيل الدَّوَاءِ أَوْ مِنْ قَبِيل التَّفَكُّهِ، فَكُلٌّ مِنَ الدَّوَاءِ وَالتَّفَكُّهِ لاَ يَلْزَمُهُ.
وَلَمْ يُصَرِّحِ الْمَالِكِيَّةُ بِذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّ قَوَاعِدَهُمْ كَالْحَنَفِيَّةِ فِي أَنَّ الدَّوَاءَ وَالتَّفَكُّهَ لاَ يَلْزَمُ الزَّوْجَ. (1)

حُكْمُ التَّدَاوِي بِالتَّبَغِ:
33 - مِنَ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ الَّتِي أَجْمَعَ عَلَيْهَا الْفُقَهَاءُ أَنَّ الأَْشْيَاءَ الْمُحَرَّمَةَ النَّجِسَةَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا كَالْخَمْرِ لاَ يَجُوزُ التَّدَاوِي بِهَا.
أَمَّا مَا لاَ نَصَّ فِيهِ فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ اجْتِهَادِ الْفُقَهَاءِ.
فَمَنْ قَال بِنَجَاسَةِ الدُّخَّانِ وَأَنَّهُ يُسْكِرُ كَالْخَمْرِ لاَ يَجُوزُ عِنْدَهُ التَّدَاوِي بِهِ.
لَكِنَّهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ طَاهِرٌ وَيَجُوزُ التَّدَاوِي بِهِ، كَمَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ نُصُوصِهِمْ. وَهَذَا إِذَا كَانَ يُمْكِنُ التَّدَاوِي بِهِ.
قَال الشَّيْخُ عُلَيْشٌ الْمَالِكِيُّ: الدُّخَانُ مُتَمَوَّلٌ، لأَِنَّهُ طَاهِرٌ فِيهِ مَنْفَعَةٌ شَرْعِيَّةٌ لِمَنِ اخْتَلَّتْ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 649، والشرح الصغير 1 / 519، وحواشي تحفة المحتاج للشرواني 8 / 309، والجمل على شرح المنهج 4 / 490، ومطالب أولي النهى 6 / 219 الحاشية.

(10/112)


طَبِيعَتُهُ بِاسْتِعْمَالِهِ وَصَارَ لَهُ كَالدَّوَاءِ، فَهُوَ كَسَائِرِ الْعَقَاقِيرِ الَّتِي يُتَدَاوَى بِهَا مِنَ الْعِلَل. (1)

إِمَامَةُ شَارِبِ الدُّخَّانِ:
34 - نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الشَّيْخِ الْعِمَادِيِّ أَنَّهُ يُكْرَهُ الاِقْتِدَاءُ بِالْمَعْرُوفِ بِأَكْل الرِّبَا، أَوْ شَيْءٍ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، أَوْ يُدَاوِمُ الإِْصْرَارَ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَكْرُوهَاتِ، كَالدُّخَّانِ الْمُبْتَدَعِ فِي هَذَا الزَّمَانِ. (2)
__________
(1) ابن عابدين 5 / 293، 294، وفتح العلي المالك 2 / 181 ومغني المحتاج 4 / 306، وحاشية الشرواني 9 / 387، 388، والبجيرمي على الإقناع 2 / 328، وكشاف القناع 3 / 155، ومجموعة فتاوى ابن تيمية 34 / 198.
(2) ابن عابدين 5 / 296.

(10/113)


تَبْكِيرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّبْكِيرُ: مَصْدَرُ بَكَّرَ بِالتَّشْدِيدِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْخُرُوجِ بُكْرَةَ أَوَّل النَّهَارِ، وَيَكُونُ أَيْضًا بِمَعْنَى: التَّعْجِيل وَالإِْسْرَاعِ أَيَّ وَقْتٍ كَانَ، يُقَال: بَكَّرَ بِالصَّلاَةِ أَيْ: صَلاَّهَا لأَِوَّل وَقْتِهَا، وَيُقَال: بَكِّرُوا بِصَلاَةِ الْمَغْرِبِ أَيْ: صَلُّوهَا عِنْدَ سُقُوطِ الْقُرْصِ، وَكُل مَنْ أَسْرَعَ إِلَى شَيْءٍ فَقَدْ بَكَّرَ إِلَيْهِ. وَلَمْ يَخْرُجِ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِعْمَالِهِمْ عَنْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّغْلِيسُ:
2 - التَّغْلِيسُ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ: فِعْلُهَا أَوَّل طُلُوعِ الْفَجْرِ قَبْل انْتِشَارِ الضَّوْءِ.

ب - الإِْسْفَارُ:
3 - الإِْسْفَارُ مَعْنَاهُ: الْوُضُوحُ وَالظُّهُورُ، يُقَال: أَسْفَرَ الصُّبْحُ: انْكَشَفَ وَأَضَاءَ، وَالإِْسْفَارُ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والنهاية لابن الأثير، والنظم المستعذب بهامش المهذب 1 / 114 ط الحلبي، والمغني 2 / 299 ط الرياض.

(10/113)


بِصَلاَةِ الصُّبْحِ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ هُوَ: فِعْلُهَا عِنْدَ انْتِشَارِ ضَوْءِ الْفَجْرِ (1) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - التَّبْكِيرُ بِأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ فِي أَوَّل أَوْقَاتِهَا مُسْتَحَبٌّ لِتَحْصِيل الْفَضْل وَالثَّوَابِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ سُئِل عَنْ أَفْضَل الأَْعْمَال - قَال: الصَّلاَةُ فِي أَوَّل وَقْتِهَا (2) وَهَذَا عَلَى الْجُمْلَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ.
5 - وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الْحُكْمِ مَا نُصَّ عَلَى تَأْخِيرِهِ لِسَبَبٍ، كَالإِْبْرَادِ بِصَلاَةِ الظُّهْرِ فِي وَقْتِ الْحَرِّ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلاَةِ. (3)
كَذَلِكَ اسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ صَلاَةَ الْعِشَاءِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لأََمَرْتُهُمْ بِتَأْخِيرِ الْعِشَاءِ (4) وَهُوَ أَيْضًا قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
__________
(1) اللسان، والمصباح المنير.
(2) حديث: " أفضل الأعمال الصلاة في أول وقتها. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 6 / 3 - ط السلفية) ، ومسلم (19 - ط الحلبي) .
(3) حديث: " إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة. . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 20 - ط - السلفية) .
(4) حديث: " لولا أن أشق على المؤمنين لأمرتهم بتأخير العشاء " أخرجه أبو داود (1 / 40 - ط عزت عبيد دعاس) من حديث أبي هريرة، وأصله في صحيح البخاري (الفتح 2 / 50 - ط السلفية) من حديث ابن عباس.

(10/114)


وَالشَّافِعِيَّةِ، وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ صَلاَةَ الْعَصْرِ. (1)
6 - أَمَّا التَّبْكِيرُ بِمَعْنَى الْخُرُوجِ أَوَّل النَّهَارِ فَهُوَ وَارِدٌ فِي صَلاَةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ. فَقَدِ اسْتَحَبَّ التَّبْكِيرَ لَهُمَا مِنْ أَوَّل النَّهَارِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ غَسَّل يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْتَسَل، وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ كَانَ لَهُ بِكُل خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا أَجْرُ سَنَةٍ، صِيَامُهَا وَقِيَامُهَا (2) وَقَال الإِْمَامُ مَالِكٌ: لاَ يُسْتَحَبُّ التَّبْكِيرُ خَشْيَةَ الرِّيَاءِ. (3)

التَّبْكِيرُ لِطَلَبِ الرِّزْقِ:
7 - يُسْتَحَبُّ التَّبْكِيرُ بِطَلَبِ الرِّزْقِ وَالتِّجَارَةِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَاكِرُوا لِلْغُدُوِّ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ، فَإِنَّ الْغُدُوَّ بَرَكَةٌ وَنَجَاحٌ (4) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 256، 257 ط بولاق الثالثة، والاختيار 1 / 40 ط دار المعرفة، والدسوقي 1 / 179، 180 ط دار الفكر، والمغني 1 / 388، ومغني المحتاج 1 / 125، 126 ط مصطفى الحلبي.
(2) حديث: " من غسل يوم الجمعة. . . " أخرجه الترمذي (2 / 368 - ط الحلبي) وحسنه.
(3) مغني المحتاج 1 / 292، والدسوقي 1 / 381، 399، والمهذب 1 / 114 ط الحلبي، والمغني 2 / 299، 373، وحاشية الطحطاوي على الدر 1 / 347 ط دار المعرفة بيروت، والفتاوى الهندية 1 / 149 ط المكتبة الإسلامية - تركيا.
(4) حديث: " باكروا طلب الرزق، فإن الغدو بركة ونجاح. . . " أخرجه البزار والطبراني في الأوسط، وقال الهيثمي: فيه إسماعيل بن قيس بن سعد بن زيد بن ثابت، وهو ضعيف، مجمع الزوائد (4 / 61 - ط القدسي) .

(10/114)


قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ مَا بَعْدَ صَلاَةِ الصُّبْحِ وَقْتٌ يَقْسِمُ اللَّهُ فِيهِ الرِّزْقَ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَثَبَتَ أَنَّهُ وَقْتٌ يُنَادِي فِيهِ الْمَلَكُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَأَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا (1) . وَهُوَ وَقْتُ ابْتِدَاءِ الْحِرْصِ وَنَشَاطِ النَّفْسِ وَرَاحَةِ الْبَدَنِ وَصَفَاءِ الْخَاطِرِ، فَيُقْسَمُ لأَِجْل ذَلِكَ كُلِّهِ وَأَمْثَالِهِ. (2)

التَّبْكِيرُ بِالتَّعْلِيمِ:
8 - يَنْبَغِي التَّبْكِيرُ بِتَعْلِيمِ الصِّبْيَانِ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ، لِكَيْ يَأْتِيَ عَلَيْهِمُ الْبُلُوغُ وَقَدْ تَمَكَّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَسَكَنَتْ إِلَيْهِ أَنْفُسُهُمْ، وَأَنِسَتْ بِمَا يَعْلَمُونَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ جَوَارِحُهُمْ.
وَقَدْ قَال النَّوَوِيُّ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الآْبَاءِ وَالأُْمَّهَاتِ تَعْلِيمُ الأَْوْلاَدِ الصِّغَارِ مَا سَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ مِنَ: الطَّهَارَةِ، وَالصَّلاَةِ، وَالصَّوْمِ، وَتَحْرِيمِ الزِّنَى وَاللِّوَاطِ وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْمُسْكِرِ وَالْكَذِبِ، وَنَحْوِهَا.
__________
(1) حديث: " اللهم أعط منفقا. . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 241 ط السلفية) ومسلم (2 / 700 ط الحلبي) .
(2) تحفة الأحوذي 4 / 403 ط السلفية، وصحيح الترمذي بشرح ابن العربي 5 / 215، 216 ط المطبعة الأزهرية 1350 هـ.

(10/115)


وَاسْتَدَل عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} (1) قَال عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: مَعْنَاهُ عَلِّمُوهُمْ مَا يَنْجُونَ بِهِ مِنَ النَّارِ.
وَتَعْلِيمُ الصِّبْيَانِ يَرُدُّ الْعَذَابَ الْوَاقِعَ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ آبَائِهِمْ، أَوْ عَمَّنْ تَسَبَّبَ فِي تَعْلِيمِهِمْ، أَوْ عَنْ مُعَلِّمِهِمْ، أَوْ عَنْهُمْ فِيمَا يُسْتَقْبَل، أَوْ عَنِ الْمَجْمُوعِ، أَوْ يَرُدُّ الْعَذَابَ عُمُومًا. (2)
__________
(1) سورة التحريم / 6.
(2) كفاية الطالب الرباني 1 / 30 - 36 نشر دار المعرفة، والمجموع للنووي 1 / 26 ط المنيرية.

(10/115)


تَبْلِيغٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - التَّبْلِيغُ: مَصْدَرُ بَلَّغَ، أَيْ: أَوْصَل، يُقَال: بَلَّغَهُ السَّلاَمَ: إِذَا أَوْصَلَهُ. وَبَلَغَ الْكِتَابُ بُلُوغًا: وَصَل. (1)
وَالتَّبْلِيغُ فِي الاِصْطِلاَحِ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ، إِذْ يُرَادُ بِهِ: الإِْعْلاَمُ وَالإِْخْبَارُ، لأَِنَّهُ إِيصَال الْخَبَرِ. (2)
وَالتَّبْلِيغُ يَكُونُ شِفَاهًا وَبِالرِّسَالَةِ وَالْكِتَابَةِ. وَأَغْلَبُ تَبْلِيغِ الرُّسُل كَانَ مُشَافَهَةً. وَالتَّبْلِيغُ بِالرِّسَالَةِ: أَنْ يُرْسِل شَخْصٌ رَسُولاً إِلَى رَجُلٍ، وَيَقُول لِلرَّسُول مَثَلاً: إِنِّي بِعْتُ عَبْدِي هَذَا مِنْ فُلاَنٍ الْغَائِبِ بِكَذَا، فَاذْهَبْ إِلَيْهِ، وَقُل لَهُ: إِنَّ فُلاَنًا أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ، وَقَال لِي: قُل لَهُ: إِنِّي قَدْ بِعْتُ عَبْدِي هَذَا مِنْ فُلاَنٍ بِكَذَا، فَإِنْ ذَهَبَ الرَّسُول وَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ، فَقَال الْمُشْتَرِي فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ: قَبِلْتُ، انْعَقَدَ الْبَيْعُ؛ لأَِنَّ الرَّسُول سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ عَنْ كَلاَمِ الْمُرْسِل، نَاقِلٌ كَلاَمَهُ إِلَى الْمُرْسَل إِلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ حَضَرَ بِنَفْسِهِ فَأَوْجَبَ الْبَيْعَ، وَقَبِل
__________
(1) المصباح.
(2) ابن عابدين 1 / 319.

(10/116)


الآْخَرُ فِي الْمَجْلِسِ. فَالرِّسَالَةُ بَعْضُ وَسَائِل التَّبْلِيغِ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْكِتَابَةُ:
2 - الْكِتَابَةُ هِيَ: أَنْ يَكْتُبَ الرَّجُل إِلَى رَجُلٍ إِنِّي بِعْتُ مِنْكَ فَرَسِي - وَيَصِفُهُ - بِمَبْلَغِ كَذَا، فَبَلَغَ الْكِتَابُ الْمُرْسَل إِلَيْهِ، فَقَال فِي مَجْلِسِهِ: اشْتَرَيْتُ، تَمَّ الْبَيْعُ. لأَِنَّ خِطَابَ الْغَائِبِ كِتَابُهُ، فَكَأَنَّهُ حَضَرَ بِنَفْسِهِ وَخَاطَبَ بِالإِْيجَابِ وَقَبِل الآْخَرُ فِي الْمَجْلِسِ، فَالْكِتَابَةُ أَيْضًا أَخَصُّ مِنَ التَّبْلِيغِ (2) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
تَبْلِيغُ الرِّسَالاَتِ:
3 - أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى رُسُلِهِ تَبْلِيغَ رِسَالاَتِهِ إِلَى مَنْ أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ، لِئَلاَّ يَكُونَ لَهُمْ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ، قَال تَعَالَى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل} (3) وَقَال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُول بَلِّغْ مَا أُنْزِل إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَل فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاَللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} . (4)
قَال ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى بَلِّغْ جَمِيعَ مَا أُنْزِل
__________
(1) البدائع 5 / 138.
(2) المرجع السابق.
(3) سورة النساء / 165.
(4) سورة المائدة / 67.

(10/116)


إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، فَإِنْ كَتَمْتَ شَيْئًا مِنْهُ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ. وَهَذَا تَأْدِيبٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَأْدِيبٌ لِحَمَلَةِ الْعِلْمِ مِنْ أُمَّتِهِ أَلاَّ يَكْتُمُوا شَيْئًا مِنْ أَمْرِ شَرِيعَتِهِ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَمَ شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ فَقَدْ كَذَبَ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُول بَلِّغْ مَا أُنْزِل إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَل فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (1) وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ: قُلْتُ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَل عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْوَحْيِ مَا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَال: لاَ. وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، إِلاَّ فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلاً فِي الْقُرْآنِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قُلْتُ: وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَال: الْعَقْل، وَفِكَاكُ الأَْسِيرِ، وَأَلاَّ يُقْتَل مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ (2) .

تَبْلِيغُ الدَّعْوَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ:
4 - تَبْلِيغُ الدَّعْوَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، فَقَدْ أَرْسَل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُلُوكِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الإِْسْلاَمِ،
__________
(1) حديث: " من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم شيئا. . . " أخرجه البخاري (الفتح 8 / 275 - ط السلفية) . ومسلم (1 / 160 ط عيسى البابي) .
(2) تفسير القرطبي 1 / 240 - 243 وحديث: " أبي جحيفة قلت لعلي. . . . . " أخرجه البخاري (12 / 260 - الفتح - ط السلفية) .

(10/117)


فَكَتَبَ إِلَى الْمُقَوْقِسِ وَغَيْرِهِ، وَجَرَى عَلَى ذَلِكَ أَصْحَابُهُ. (1)

التَّبْلِيغُ خَلْفَ الإِْمَامِ:
5 - مِنْ سُنَنِ الصَّلاَةِ جَهْرُ الإِْمَامِ بِالتَّكْبِيرِ وَالتَّسْمِيعِ وَالسَّلاَمِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ لِيُسَمِّعَ الْمَأْمُومِينَ، فَإِنْ زَادَ عَلَى الْحَاجَةِ زِيَادَةً كَبِيرَةً كُرِهَ.
وَالتَّكْبِيرُ لِلإِْعْلاَمِ بِالدُّخُول فِي الصَّلاَةِ وَالاِنْتِقَال فِيهَا يَكُونُ مِنَ الإِْمَامِ، فَإِنْ كَانَ صَوْتُهُ لاَ يَبْلُغُ مَنْ وَرَاءَهُ فَيَنْبَغِي التَّبْلِيغُ عَنْهُ مِنْ أَحَدِ الْمَأْمُومِينَ، وَالْمُرَادُ مِنَ التَّكْبِيرِ مَا يَشْمَل تَكْبِيرَةَ الإِْحْرَامِ وَغَيْرَهَا. وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: يُسْتَحَبُّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَجْهَرَ بِالتَّكْبِيرِ، بِحَيْثُ يَسْمَعُ الْمَأْمُومُونَ لِيُكَبِّرُوا، فَإِنَّهُمْ لاَ يَجُوزُ لَهُمُ التَّكْبِيرُ إِلاَّ بَعْدَ تَكْبِيرِهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إِسْمَاعُهُمْ جَهَرَ بَعْضُ الْمَأْمُومِينَ لِيُسْمِعَهُمْ، أَوْ لِيُسْمِعَ مَنْ لاَ يَسْمَعُ الإِْمَامَ. لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: صَلَّى بِنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ خَلْفَهُ، فَإِذَا كَبَّرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَبَّرَ أَبُو بَكْرٍ لِيُسْمِعَنَا (2) وَفِي
__________
(1) تفسير الألوسي 4 / 28 وحديث: " أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس. . . . " في البداية والنهاية لابن كثير (4 / 271 - 272 ط دار الكتب العلمية) وعزاه إلى البيهقي.
(2) المغني 1 / 462 ط الرياض. وحديث جابر: " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر خلفه. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 204 - ط السلفية) ومسلم (1 / 313 - 314 - ط عيسى البابي الحلبي) .

(10/117)


كُل مَذْهَبٍ تَفْصِيلٌ:
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الإِْمَامَ إِذَا كَبَّرَ لِلاِفْتِتَاحِ فَلاَ بُدَّ لِصِحَّةِ صَلاَتِهِ مِنْ قَصْدِهِ بِالتَّكْبِيرِ الإِْحْرَامَ بِالصَّلاَةِ، وَإِلاَّ فَلاَ صَلاَةَ لَهُ إِذَا قَصَدَ الإِْعْلاَمَ فَقَطْ. فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ الأَْمْرَيْنِ بِأَنْ قَصَدَ الإِْحْرَامَ وَالإِْعْلاَمَ فَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ شَرْعًا. وَكَذَلِكَ الْمُبَلِّغُ إِذَا قَصَدَ التَّبْلِيغَ فَقَطْ خَالِيًا عَنْ قَصْدِ الإِْحْرَامِ فَلاَ صَلاَةَ لَهُ، وَلاَ لِمَنْ يُصَلِّي بِتَبْلِيغِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، لأَِنَّهُ اقْتَدَى بِمَنْ لَمْ يَدْخُل فِي الصَّلاَةِ. فَإِنْ قَصَدَ بِتَكْبِيرِهِ الإِْحْرَامَ مَعَ التَّبْلِيغِ لِلْمُصَلِّينَ، فَذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ شَرْعًا.
وَوَجْهُهُ: أَنَّ تَكْبِيرَةَ الإِْحْرَامِ شَرْطٌ أَوْ رُكْنٌ، فَلاَ بُدَّ فِي تَحَقُّقِهَا مِنْ قَصْدِ الإِْحْرَامِ أَيِ الدُّخُول فِي الصَّلاَةِ.
وَأَمَّا التَّسْمِيعُ مِنَ الإِْمَامِ، وَالتَّحْمِيدُ مِنَ الْمُبَلِّغِ، وَتَكْبِيرَاتُ الاِنْتِقَالاَتِ مِنْهُمَا، إِذَا قَصَدَ بِمَا ذُكِرَ الإِْعْلاَمَ فَقَطْ، فَلاَ فَسَادَ لِلصَّلاَةِ. وَالْفَرْقُ أَنَّ قَصْدَ الإِْعْلاَمِ غَيْرُ مُفْسِدٍ، كَمَا لَوْ سَبَّحَ لِيُعْلِمَ غَيْرَهُ أَنَّهُ فِي الصَّلاَةِ. وَلَمَّا كَانَ الْمَطْلُوبُ هُوَ التَّكْبِيرَ عَلَى قَصْدِ الذِّكْرِ وَالإِْعْلاَمِ، فَإِذَا مَحْضُ قَصْدِ الإِْعْلاَمِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ، وَعَدَمُ الذِّكْرِ فِي غَيْرِ التَّحْرِيمَةِ غَيْرُ مُفْسِدٍ. (1)
__________
(1) ابن عابدين 1 / 319، وتنبيه ذوي الأفهام على أحكام التبليغ خلف الإمام (مجموعة رسائل ابن عابدين 1 / 138) . والمجموع 3 / 398.

(10/118)


وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ اتِّخَاذُ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ لِيُسْمِعَ النَّاسَ، وَتَصِحُّ صَلاَتُهُ، وَلَوْ قَصَدَ بِتَكْبِيرِهِ وَتَحْمِيدِهِ مُجَرَّدَ إِسْمَاعِ الْمَأْمُومِينَ.
وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُسَمِّعُ (الْمُبَلِّغُ) صَبِيًّا أَوِ امْرَأَةً أَوْ مُحْدِثًا، وَذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُسَمِّعَ عَلاَمَةٌ عَلَى صَلاَةِ الإِْمَامِ، وَذَلِكَ هُوَ اخْتِيَارُ الْمَازِرِيِّ وَاللَّقَّانِيِّ.
وَفِي رَأْيٍ: أَنَّ الْمُسَمِّعَ نَائِبٌ وَوَكِيلٌ عَنِ الإِْمَامِ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ التَّسْمِيعُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ شَرَائِطَ الإِْمَامِ. (1)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْجَهْرُ مِنَ الإِْمَامِ لِيُسْمِعَ الْمَأْمُومِينَ انْتِقَالاَتِهِ فِي الصَّلاَةِ، كَالْجَهْرِ بِتَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ، فَإِنْ لَمْ يَجْهَرِ الإِْمَامُ بِحَيْثُ يُسْمِعُ الْجَمِيعَ اُسْتُحِبَّ لِبَعْضِ الْمَأْمُومِينَ رَفْعُ صَوْتِهِ لِيُسْمِعَهُمْ. (2)

تَبْلِيغُ السَّلاَمِ:
6 - أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الاِبْتِدَاءَ بِالسَّلاَمِ سُنَّةٌ مُرَغَّبٌ فِيهَا، وَرَدُّهُ فَرِيضَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (3) فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِالتَّحِيَّةِ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ بِالرَّدِّ. وَالأَْمْرُ
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 337.
(2) المغني 1 / 496 ط الرياض.
(3) سورة النساء / 86.

(10/118)


لِلْوُجُوبِ مَا لَمْ يَصْرِفْهُ صَارِفٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحُكْمَ كَذَلِكَ فِي الْمُكَاتَبَةِ، أَوْ بِالطَّلَبِ إِلَى رَسُولٍ تَبْلِيغُ السَّلاَمِ، كَمَا يَنْبَغِي لِمَنْ تَحَمَّل السَّلاَمَ أَنْ يُبَلِّغَهُ.
قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَعَلَيْهِ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ حِينَ أَخْبَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقْرَأُ عَلَيْهَا السَّلاَمَ. (1)
قَال الْقُرْطُبِيُّ: وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ مِنَ الْفِقْهِ أَنَّ الرَّجُل إِذَا أَرْسَل إِلَى رَجُلٍ بِسَلاَمِهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ كَمَا يَرُدُّ عَلَيْهِ إِذَا شَافَهَهُ. وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: إِنَّ أَبِي يُقْرِئُكَ السَّلاَمَ. فَقَال وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ، وَعَلَى أَبِيكَ السَّلاَمُ. (2) .

تَبْلِيغُ الْوَالِي عَنِ الْجُنَاةِ الْمُسْتَتِرِينَ:
7 - الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْمَذَاهِبِ أَنَّ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ، فَلَيْسَ لأَِحَدٍ - مُحْتَسِبًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ - أَنْ يَتَجَسَّسَ عَنْهَا، وَلاَ أَنْ يَهْتِكَ الأَْسْتَارَ، فَقَدْ قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسَتْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ
__________
(1) حديث: " إخبار عائشة بسلام جبريل. . . " أخرجه البخاري (الفتح 7 / 106 ط السلفية) . ومسلم (4 / 1896 ط عيسى البابي الحلبي) .
(2) القرطبي 5 / 301. وحديث: " وعليك السلام وعلى أبيك السلام " أخرجه أبو داود (5 / 398، ط عزت عبيد الدعاس) . وقال المنذري: وهذا الإسناد فيه مجاهيل.

(10/119)


تَعَالَى. (1) وَأَمَّا عِنْدَ الظُّهُورِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (تَجَسُّسٌ وَشَهَادَةٌ) .
__________
(1) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 280، والأحكام السلطانية للماوردي ص 252 وحديث: " من أصاب من هذه القاذورات شيئا. . . " أخرجه مالك في الموطأ (ص 715 ط دار الآفاق) مرسلا عن زيد بن أسلم. وأخرجه البيهقي (8 / 330 ط دار المعرفة) موصولا عن ابن عمر بلفظ " اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمن ألم فليستتر بستر الله عز وجل، وليتب إلى الله، فإنه من يبد لنا صفحته نقم كتاب الله عليه " وأخرجه الحاكم (4 / 244 ط دار الكتاب العربي) . وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي.

(10/119)


تَبَنِّي
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّبَنِّي: اتِّخَاذُ الشَّخْصِ وَلَدَ غَيْرِهِ ابْنًا لَهُ، (1) وَكَانَ الرَّجُل فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَتَبَنَّى الرَّجُل، فَيَجْعَلُهُ كَالاِبْنِ الْمَوْلُودِ لَهُ، وَيَدْعُوهُ إِلَيْهِ النَّاسُ، وَيَرِثُ مِيرَاثَ الأَْوْلاَدِ. (2)
وَغَلَبَ فِي اسْتِعْمَال الْعَرَبِ لَفْظُ (ادِّعَاءٌ) عَلَى التَّبَنِّي، (3) إِذَا جَاءَ فِي مِثْل (ادَّعَى فُلاَنٌ فُلاَنًا) وَمِنْهُ (الدَّعِيُّ) وَهُوَ الْمُتَبَنَّى، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا جَعَل أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} . (4)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلَفْظِ التَّبَنِّي عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِسْتِلْحَاقُ:
2 - أَلْحَقَ الْقَائِفُ الْوَلَدَ بِأَبِيهِ: أَخْبَرَ أَنَّهُ ابْنُهُ لِشَبَهٍ
__________
(1) القاموس مادة: " بنى ".
(2) الخازن 3 / 451.
(3) المصباح المنير مادة: " دعا ".
(4) سورة الأحزاب / 4.

(10/120)


بَيْنَهُمَا يَظْهَرُ لَهُ، وَاسْتَلْحَقْتُ الشَّيْءَ: ادَّعَيْتُهُ، وَفِي الْقَامُوسِ: اسْتَلْحَقَ فُلاَنًا: ادَّعَاهُ، (1) وَالاِسْتِلْحَاقُ يَخْتَصُّ بِالأَْبِ وَحْدَهُ، وَهُوَ الإِْقْرَارُ بِالنَّسَبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلاَ يَقَعُ الاِسْتِلْحَاقُ إِلاَّ عَلَى مَجْهُول النَّسَبِ، فَالاِسْتِلْحَاقُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالنِّسْبَةِ لِمَجْهُول النَّسَبِ، فِي حِينِ أَنَّ التَّبَنِّيَ يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ لِكُلٍّ مِنْ مَجْهُول النَّسَبِ وَمَعْلُومِ النَّسَبِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (2) (اسْتِلْحَاقٌ) .

ب - الْبُنُوَّةُ:
3 - الاِبْنُ: الذَّكَرُ مِنَ الأَْوْلاَدِ، وَالاِسْمُ: الْبُنُوَّةُ. (3) وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: يُطْلَقُ الاِبْنُ عَلَى الاِبْنِ الصُّلْبِيِّ مِنْ نَسَبٍ حَقِيقِيٍّ، فَتَكُونُ الْبُنُوَّةُ مِنْ نَسَبٍ أَصْلِيٍّ، وَيُطْلَقُ الاِبْنُ عَلَى ابْنِ الاِبْنِ وَإِنْ نَزَل مَجَازًا. فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبُنُوَّةِ وَالتَّبَنِّي: أَنَّ الْبُنُوَّةَ تَرْجِعُ إِلَى النَّسَبِ الأَْصْلِيِّ، أَمَّا التَّبَنِّي فَهُوَ ادِّعَاءُ الرَّجُل أَوِ الْمَرْأَةِ مَنْ لَيْسَ وَلَدًا لَهُمَا. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (بُنُوَّةٌ) .
__________
(1) مختار الصحاح والقاموس المحيط مادة: " لحق ".
(2) انظر الفروع 5 / 518.
(3) القاموس المحيط.

(10/120)


ج - الإِْقْرَارُ بِالنَّسَبِ:
4 - إِقْرَارُ الأَْبِ أَوِ الأُْمِّ بِالْبُنُوَّةِ دُونَ ذِكْرِ السَّبَبِ مَعَ عَدَمِ إِلْحَاقِ الضَّرَرِ أَوِ الْعَارِ بِالْوَلَدِ، هُوَ الإِْقْرَارُ بِالنَّسَبِ الْمُبَاشِرِ. فَالإِْقْرَارُ تَصْحِيحٌ لِلنَّسَبِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَجْهُولاً. أَمَّا التَّبَنِّي فَيَكُونُ لِمَجْهُول النَّسَبِ وَمَعْلُومِهِ، وَالتَّبَنِّي قَدْ أَبْطَلَهُ الإِْسْلاَمُ، أَمَّا الإِْقْرَارُ بِالنَّسَبِ فَقَائِمٌ وَلاَ يَصِحُّ الرُّجُوعُ فِيهِ، وَلاَ يَجُوزُ نَفْيُهُ بَعْدَ صُدُورِهِ (1) . اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِقْرَارٌ) .

د - اللَّقِيطُ:
5 - ادِّعَاءُ اللَّقِيطِ شَكْلٌ مِنْ أَشْكَال الإِْقْرَارِ بِالنَّسَبِ، وَاللَّقِيطُ هُوَ الصَّغِيرُ الَّذِي وُجِدَ فِي مَكَان يَصْعُبُ فِيهِ التَّعَرُّفُ عَلَى أَبَوَيْهِ. (2) أَمَّا التَّبَنِّي فَيَكُونُ لِمَجْهُول النَّسَبِ كَمَا يَكُونُ لِمَعْلُومِ النَّسَبِ، وَادِّعَاءُ اللَّقِيطِ فِي الْحَقِيقَةِ رَدٌّ إِلَى نَسَبٍ حَقِيقِيٍّ فِي الظَّاهِرِ، وَلاَ يَحْمِل التَّبَنِّي هَذَا الْمَعْنَى.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - حَرَّمَ الإِْسْلاَمُ التَّبَنِّيَ، وَأَبْطَل كُل آثَارِهِ،
__________
(1) المبسوط 17 / 159، والبحر الرائق 4 / 130، وحاشية البجيرمي 3 / 283، والمغني 5 / 165.
(2) أحكام الصغار على هامش جامع الفصول 1 / 232، ومنح الجليل 4 / 130.

(10/121)


وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَل أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُول الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيل} (1) ، وقَوْله تَعَالَى: {اُدْعُوهُمْ لآِبَائِهِمْ} . (2)
وَقَدْ كَانَ التَّبَنِّي مَعْرُوفًا عِنْدَ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَبَعْدَ الإِْسْلاَمِ، فَكَانَ الرَّجُل فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا أَعْجَبَهُ مِنَ الرَّجُل جَلَدَهُ وَظَرْفَهُ ضَمَّهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَجَعَل لَهُ نَصِيبَ ابْنٍ مِنْ أَوْلاَدِهِ فِي الْمِيرَاثِ، وَكَانَ يُنْسَبُ إِلَيْهِ فَيُقَال: فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ. " وَقَدْ تَبَنَّى الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ قَبْل أَنْ يُشَرِّفَهُ اللَّهُ بِالرِّسَالَةِ، وَكَانَ يُدْعَى زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، وَاسْتَمَرَّ الأَْمْرُ عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَنْ نَزَل قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَل أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (3) وَبِذَلِكَ أَبْطَل اللَّهُ نِظَامَ التَّبَنِّي، وَأَمَرَ مَنْ تَبَنَّى أَحَدًا أَلاَّ يَنْسُبَهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَنْسُبُهُ إِلَى أَبِيهِ إِنْ كَانَ لَهُ أَبٌ مَعْرُوفٌ، فَإِنْ جُهِل أَبُوهُ دُعِيَ (مَوْلًى) (وَأَخًا فِي الدِّينِ) وَبِذَلِكَ مُنِعَ
__________
(1) سورة الأحزاب / 4.
(2) سورة الأحزاب / 5.
(3) سورة الأحزاب / 4 - 5.

(10/121)


النَّاسُ مِنْ تَغْيِيرِ الْحَقَائِقِ، وَصِينَتْ حُقُوقُ الْوَرَثَةِ مِنَ الضَّيَاعِ أَوِ الاِنْتِقَاصِ. (1)
__________
(1) بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب 30 / 23، والأغاني 7 / 110، ومقدمة ابن خلدون 110 - 111، والكامل لابن الأثير 2 / 15، وتاريخ الطبري 2 / 261، وتفسير الخازن 5 / 190 - 191، والرازي 25 / 192 - 193، وأحكام الصغار على هامش جامع الفصول 1 / 232، ومنح الجليل 4 / 130، وتكملة الفتح 7 / 280، وحاشية الدسوقي 4 / 415، والمدونة 3 / 347 - 348، ونهاية المحتاج 8 / 394، وحواشي الشرواني على التحفة 10 / 375، والمغني 6 / 367، ومنتهى الإرادات 3 / 115 - 116.

(10/122)


تَبْوِئَةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - التَّبْوِئَةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ بَوَّأَ، بِمَعْنَى أَسْكَنَ، يُقَال: بَوَّأْتُهُ دَارًا: أَيْ أَسْكَنْتَهُ إِيَّاهَا. وَالْمُبَوَّأُ الْمَنْزِل الْمَلْزُومُ، وَمِنْهُ: بَوَّأَهُ اللَّهُ مَنْزِلاً: أَيْ أَلْزَمَهُ إِيَّاهُ وَأَسْكَنَهُ، (1) وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيل مُبَوَّأَ صِدْقٍ} (2) وَمِنْهُ أَيْضًا حَدِيثُ: مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ. . . . (3)
وَهِيَ فِي الاِصْطِلاَحِ: أَنْ يُخَلِّيَ الْمَوْلَى بَيْنَ الأَْمَةِ وَبَيْنَ زَوْجِهَا وَيَدْفَعَهَا إِلَيْهِ وَلاَ يَسْتَخْدِمَهَا.
أَمَّا إِذَا كَانَتْ تَذْهَبُ وَتَجِيءُ وَتَخْدُمُ مَوْلاَهَا فَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ تَبْوِئَةً.
__________
(1) المصباح المنير، ومحيط المحيط، ولسان العرب المحيط مادة (باء) ، وابن عابدين 2 / 376، وتفسير القرطبي 8 / 371
(2) سورة يونس / 93.
(3) حديث: " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 200، 201 - ط السلفية) . ومسلم (4 / 2299 ط الحلبي) واللفظ لمسلم.

(10/122)


وَلِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِهَا تُنْظَرُ مَبَاحِثُ (النِّكَاحِ) مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ (1) وَانْظُرْ أَيْضًا مُصْطَلَحَ (رِقٌّ) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 376، وفتح القدير 3 / 268، والشرح الصغير 2 / 268، 418، والخرشي 3 / 60، وروضة الطالبين 7 / 218، ونهاية المحتاج 6 / 0 33، 332، والوجيز 2 / 22، والمغني 6 / 564، 565.

(10/123)


تَبِيعٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - التَّبِيعُ فِي اللُّغَةِ: وَلَدُ الْبَقَرِ فِي السَّنَةِ الأُْولَى، وَيُسَمَّى تَبِيعًا لأَِنَّهُ يَتْبَعُ أُمَّهُ، وَالأُْنْثَى تَبِيعَةٌ، وَجَمْعُ الْمُذَكَّرِ أَتْبِعَةٌ، وَجَمْعُ الأُْنْثَى تِبَاعٌ. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: لاَ يَخْرُجُ مَعْنَى تَبِيعٍ، وَتَبِيعَةٍ عَمَّا وَرَدَ فِي اللُّغَةِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. (2)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: مَا أَوْفَى سَنَتَيْنِ وَدَخَل فِي الثَّالِثَةِ. (3)

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّبِيعَ يَكُونُ وَاجِبًا فِي نِصَابِ الْبَقَرِ إِذَا بَلَغَتْ ثَلاَثِينَ، لِحَدِيثِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: بَعَثَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) القاموس والمغرب في ترتيب المعرب مادة: " تبع ".
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 280 ط مصطفى الحلبي بمصر (الطبعة الثانية) ، وكشاف القناع 2 / 191، والمغني لابن قدامة 2 / 592، وشرح المنهاج 2 / 8، 9 ط مصطفى الحلبي بمصر.
(3) حاشية الدسوقي 1 / 435.

(10/123)


أُصَدِّقُ أَهْل الْيَمَنِ، فَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنَ الْبَقَرِ مِنْ كُل ثَلاَثِينَ تَبِيعًا. . . (1) إِلَخْ.
وَوُجُوبُ التَّبِيعِ فِيمَا زَادَ عَنِ الثَّلاَثِينَ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاةٌ) .
__________
(1) حديث معاذ: " أمرني أن آخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعا. . . " أخرجه النسائي (5 / 26 - ط المكتبة التجارية) والحاكم (1 / 398 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.

(10/124)