الموسوعة
الفقهية الكويتية تَبْيِيتٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّبْيِيتُ لُغَةً: مَصْدَرُ بَيَّتَ الأَْمْرَ إِذَا دَبَّرَهُ
لَيْلاً، وَبَيَّتَ النِّيَّةَ عَلَى الأَْمْرِ: إِذَا عَزَمَ عَلَيْهِ
لَيْلاً فَهِيَ مُبَيَّتَةٌ بِالْفَتْحِ. (1) وَبَيَّتَ الْعَدُوَّ: أَيْ
دَاهَمَهُ لَيْلاً.
وَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيزِ {إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ
الْقَوْل} (2) وَفِي السِّيرَةِ: " هَذَا أَمْرٌ بُيِّتَ بِلَيْلٍ ".
وَالتَّبْيِيتُ فِي الاِصْطِلاَحِ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ، وَالْبَيَاتُ
اسْمُ الْمَصْدَرِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {أَفَأَمِنَ أَهْل الْقُرَى
أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ} (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْغَارَةُ:
2 - يُطْلِقُ الْعَرَبُ الْبَيَاتَ أَوِ التَّبْيِيتَ عَلَى الإِْغَارَةِ
عَلَى الْعَدُوِّ لَيْلاً. (4)
__________
(1) المصباح المنير مادة: " بيت ".
(2) سورة النساء / 108.
(3) سورة الأعراف / 97.
(4) المصباح المنير ولسان العرب مادة: " بيت " والقليوبي 2 / 256.
(10/124)
وَفِي التَّنْزِيل: {قَالُوا تَقَاسَمُوا
بِاَللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ
مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} (1) فَالْفَرْقُ
بَيْنَ تَبْيِيتِ الْعَدُوِّ وَبَيْنَ الإِْغَارَةِ عَلَيْهِ: أَنَّ
الإِْغَارَةَ مُطْلَقَةٌ، إِذْ تَكُونُ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا، أَمَّا
التَّبْيِيتُ فَهُوَ فِي اللَّيْل.
ب - الْبَيْتُوتَةُ:
3 - الْبَيْتُوتَةُ: مَصْدَرُ بَاتَ، وَمَعْنَاهَا الْفِعْل بِاللَّيْل،
فَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى أَعَمُّ مِنَ الْبَيَاتِ، وَيَنْدُرُ
اسْتِعْمَالُهَا بِمَعْنَى النَّوْمِ لَيْلاً. وَيَسْتَعْمِلُهَا
الْفُقَهَاءُ أَحْيَانًا فِي آثَارِ الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ،
وَبِهَذَا الْمَعْنَى يُخَالِفُ الْبَيَاتَ (2) .
حُكْمُ التَّبْيِيتِ:
أَوَّلاً: تَبْيِيتُ الْعَدُوِّ:
4 - تَبْيِيتُ الْعَدُوِّ جَائِزٌ لِمَنْ يَجُوزُ قِتَالُهُمْ، وَهُمُ
الْكُفَّارُ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمُ الدَّعْوَةُ وَرَفَضُوهَا، وَلَمْ
يَقْبَلُوا دَفْعَ الْجِزْيَةِ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ
عَقْدُ ذِمَّةٍ وَلاَ هُدْنَةٍ.
قَال أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لاَ بَأْسَ بِالْبَيَاتِ، وَهَل غَزْوُ
الرُّومِ إِلاَّ الْبَيَاتُ؟ قَال: وَلاَ نَعْلَمُ أَحَدًا كَرِهَ
تَبْيِيتَ الْعَدُوِّ.
وَعَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ قَال: سَمِعْتُ
__________
(1) سورة النمل / 49.
(2) المصباح المنير، والقليوبي 3 / 299.
(10/125)
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يُسْأَل عَنْ أَهْل الدِّيَارِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ:
نُبَيِّتُهُمْ فَنُصِيبُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ؟ فَقَال: هُمْ
مِنْهُمْ (1) فَإِنْ قِيل: قَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ قَتْل النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ. (2) قُلْنَا: هَذَا
مَحْمُولٌ عَلَى التَّعَمُّدِ لِقَتْلِهِمْ. وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا
مُمْكِنٌ بِحَمْل النَّهْيِ عَلَى التَّعَمُّدِ، وَالإِْبَاحَةِ عَلَى مَا
عَدَاهُ. (3)
وَالْمَسْأَلَةُ فِيهَا تَفْرِيعَاتٌ فِيمَا إِذَا كَانَ مَعَ الْكُفَّارِ
مُسْلِمٌ وَقُتِل، تُنْظَرُ فِي: (الْجِهَادِ وَالدِّيَاتِ) . (4)
فَإِنْ بَيَّتَ الإِْمَامُ أَوْ أَمِيرُ الْجَيْشِ قَبْل الدَّعْوَةِ
أَثِمَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} . (5)
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ضَمَانِ مَنْ يُقْتَل مِنْهُمْ
بِالتَّبْيِيتِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُضْمَنُ،
لأَِنَّهُ لاَ إِيمَانَ لَهُ، وَلاَ أَمَانَ، فَلَمْ يُضْمَنْ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُضْمَنُ بِالدِّيَةِ
__________
(1) حديث الصعب بن جثامة: ": هم منهم " أخرجه البخاري (6 / 146 - الفتح - ط
السلفية) ومسلم (3 / 1364 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " نهى عن قتل النساء والذرية. . " أخرجه البخاري (6 / 148 -
الفتح - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1364 - ط الحلبي) .
(3) المغني 8 / 449 مطبعة الرياض الحديثة.
(4) شرح روض الطالب 4 / 191 طبعة الميمنية - الناشر المكتبة الإسلامية سنة
1313 هـ.
(5) سورة الأنفال / 58.
(10/125)
وَالْكَفَّارَةِ، وَنُقِل ذَلِكَ عَنِ
الشَّافِعِيِّ (1) .
وَيَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ أَهْل الْكِتَابِ وَالْمَجُوسَ لاَ
تَجِبُ دَعْوَتُهُمْ قَبْل الْقِتَال؛ لأَِنَّ الدَّعْوَةَ قَدْ
بَلَغَتْهُمْ، وَلأَِنَّ كُتُبَهُمْ قَدْ بَشَّرَتْ بِالرِّسَالَةِ
الْمُحَمَّدِيَّةِ. وَيُدْعَى عَبَدَةُ الأَْوْثَانِ قَبْل أَنْ
يُحَارَبُوا (2) .
5 - أَمَّا مَنْ بَلَغَتْهُمُ الدَّعْوَةُ، فَتُسْتَحَبُّ الدَّعْوَةُ
قَبْل التَّبْيِيتِ مُبَالَغَةً فِي الإِْنْذَارِ، وَلِيَعْلَمُوا أَنَّنَا
نُقَاتِلُهُمْ عَلَى الدِّينِ لاَ عَلَى سَلْبِ الأَْمْوَال وَسَبْيِ
الذَّرَارِيِّ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أَمَرَ عَلِيًّا حِينَ أَعْطَاهُ الرَّايَةَ يَوْمَ خَيْبَرَ
وَبَعَثَهُ إِلَى قِتَالِهِمْ أَنْ يَدْعُوَهُمْ (3) ، وَهُمْ مِمَّنْ
بَلَغَتْهُمُ الدَّعْوَةُ.
وَيَجُوزُ بَيَاتُهُمْ بِغَيْرِ دُعَاءٍ، لأَِنَّهُ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَغَارَ عَلَى بَنِي
الْمُصْطَلِقِ لَيْلاً وَهُمْ غَافِلُونَ. (4) وَعَهِدَ إِلَى أُسَامَةَ
أَنْ يُغِيرَ عَلَى أُبْنَى صَبَاحًا. (5)
__________
(1) البحر الرائق 5 / 80، وابن عابدين 3 / 223، ومطالب أولي النهى شرح غاية
المنتهى 2 / 507 - 508، وروضة الطالبين 10 / 239، ومغني المحتاج 4 / 223،
والمغني لابن قدامة 10 / 386.
(2) المغني لابن قدامة 10 / 386.
(3) حديث: " أمر عليا يوم خيبر. . . " أخرجه البخاري (الفتح 7 / 476 - ط
السلفية) .
(4) حديث: " أغار على بني المصطلق وهم غافلون. . . " أخرجه البخاري (الفتح
5 / 170 - ط السلفية) .
(5) حديث: " عهد إلى أسامة أن يغير على ابني صباحا " أخرجه ابن سعد في
الطبقات (4 / 66 - ط دار صادر) . وإسناده صحيح.
(10/126)
وَسُئِل عَنِ الْمُشْرِكِينَ يُبَيِّتُونَ،
فَيُصَابُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ فَقَال: هُمْ مِنْهُمْ. (1)
وَكَانُوا جَمِيعًا مِمَّنْ بَلَغَتْهُمُ الدَّعْوَةُ وَإِلاَّ لَمْ
يُبَيِّتُوا لِلأَْدِلَّةِ السَّابِقَةِ. (2) .
ثَانِيًا: تَبْيِيتُ النِّيَّةِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ:
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى وُجُوبِ تَبْيِيتِ النِّيَّةِ فِي
صَوْمِ رَمَضَانَ مَا بَيْنَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ
الثَّانِي. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ
التَّبْيِيتُ، لَكِنْ تُجْزِئُ النِّيَّةُ نَهَارًا إِلَى الزَّوَال، وَفِي
ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (الصَّوْمُ، وَالنِّيَّةُ) . (3)
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
7 - يَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ التَّبْيِيتَ فِي كِتَابِ: (السِّيرَةُ،
وَالْجِهَادُ) .
__________
(1) حديث: " هم منهم " سبق تخريجه ف / 4.
(2) البحر الرائق 5 / 81، وروضة الطالبين 10 / 239، والمغني لابن قدامة 10
/ 386، ومغني المحتاج 4 / 323.
(3) البجيرمي على الخطيب 2 / 326، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 17،
والاختيار 2 / 125، وجواهر الإكليل 1 / 148، وفتح الباري 1 / 9، ونيل
الأوطار 4 / 270 والمسودة في أصول الفقه ص 79.
(10/126)
تَتَابُعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي التَّتَابُعِ فِي اللُّغَةِ: الْمُوَالاَةُ. يُقَال:
تَابَعَ فُلاَنٌ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَبَيْنَ الْقِرَاءَةِ: إِذَا وَالَى
بَيْنَهُمَا، فَفَعَل هَذَا عَلَى أَثَرِ هَذَا بِلاَ مُهْلَةٍ
بَيْنَهُمَا. وَتَتَابَعَتِ الأَْشْيَاءُ: تَبِعَ بَعْضُهَا بَعْضًا.
وَتَابَعَ بَيْنَ الأُْمُورِ مُتَابَعَةً وَتِبَاعًا: وَاتَرَ وَوَالَى.
(1) وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ ذَلِكَ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - التَّتَابُعُ يَكُونُ فِي صَوْمِ الْكَفَّارَاتِ، وَيَكُونُ فِي
الاِعْتِكَافِ، وَيَكُونُ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْل، وَيُسَمَّى غَالِبًا
(الْمُوَالاَةَ) وَتُنْظَرُ أَحْكَامُهُ فِي (الْوُضُوءُ وَالْغُسْل) .
التَّتَابُعُ فِي الصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ:
3 - إِذَا لَمْ يَجِدِ الْحَانِثُ فِي يَمِينِهِ مَا يُكَفِّرُ بِهِ
عَنْهَا، مِنْ إِطْعَامِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، أَوْ كِسْوَتِهِمْ، أَوْ
تَحْرِيرِ رَقَبَةٍ، أَوْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ، كَانَ عَلَيْهِ أَنْ
يَنْتَقِل إِلَى
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: " تبع ".
(10/127)
الصَّوْمِ، فَيَصُومَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {لاَ
يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ
يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَْيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ
عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ
كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ
ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} .
(1)
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي التَّتَابُعِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ:
إِلَى وُجُوبِ التَّتَابُعِ، لِلْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ لاِبْنِ مَسْعُودٍ
فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ (2)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ - إِلَى
جَوَازِ صَوْمِهَا مُتَتَابِعَةً أَوْ مُتَفَرِّقَةً. (3) ر: (كَفَّارَةُ
الْيَمِينِ) .
التَّتَابُعُ فِي الصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ:
4 - يَأْتِي الصَّوْمُ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ الْعِتْقِ
فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ
يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ
مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ
__________
(1) سورة المائدة / 89.
(2) ابن عابدين 3 / 60 - 62، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 2 / 142،
والمغني لابن قدامة 8 / 734، 752.
(3) الشرح الكبير 2 / 132 - 133، والمدونة الكبرى للإمام مالك 2 / 122.
(10/127)
فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ
لِتُؤْمِنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ
وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . (1)
فَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمُظَاهِرُ مَا يُعْتِقُ كَمَا فِي الآْيَةِ
الأُْولَى انْتَقَل إِلَى الصِّيَامِ، فَيَصُومُ شَهْرَيْنِ
مُتَتَابِعَيْنِ كَمَا فِي صَدْرِ الآْيَةِ الثَّانِيَةِ، لَيْسَ فِيهِمَا
رَمَضَانُ، وَيَوْمَا الْعِيدِ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَذَلِكَ مِنْ
قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا. فَإِنْ جَامَعَهَا فِي الشَّهْرَيْنِ لَيْلاً أَوْ
نَهَارًا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ
اسْتَقْبَل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا} .
وَبِهَذَا أَخَذَ الْحَنَفِيَّةُ (2) ، وَالْمَالِكِيَّةُ (3) ،
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (4) فِي وُجُوبِ التَّتَابُعِ، إِلاَّ
أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: إِذَا جَامَعَهَا لَيْلاً قَبْل أَنْ
يُكَفِّرَ يَأْثَمُ وَلاَ يَبْطُل التَّتَابُعُ. (5)
ر: (كَفَّارَةُ الظِّهَارِ) .
التَّتَابُعُ فِي الصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ الْفِطْرِ فِي نَهَارِ
رَمَضَانَ:
5 - تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ بِاتِّفَاقٍ.
وَتَجِبُ بِالأَْكْل أَوِ الشُّرْبِ عَمْدًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْكَفَّارَةُ تَكُونُ بِالْعِتْقِ أَوِ الصَّوْمِ
أَوِ الإِْطْعَامِ.
__________
(1) سورة المجادلة / 3، 4.
(2) الاختيار شرح المختار 2 / 223 - 225 ط مصطفى الحلبي 1936 م.
(3) الشرح الكبير 2 / 447، 450 - 451.
(4) المغني لابن قدامة 7 / 359 - 365، 367، م الرياض الحديثة.
(5) المهذب في فقه الإمام الشافعي 2 / 116 - 118.
(10/128)
وَتَأْتِي مَرْتَبَةُ الصَّوْمِ بَعْدَ
الْعِتْقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَجُمْهُورِ
الْحَنَابِلَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا عَلَى
التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْعِتْقِ وَالصِّيَامِ وَالإِْطْعَامِ وَبِأَيِّهَا
كَفَّرَ أَجْزَأَهُ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ لِمَا
رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلاً أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ، فَأَمَرَهُ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُكَفِّرَ بِعِتْقِ
رَقَبَةٍ أَوْ صِيَامِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ أَوْ إِطْعَامِ سِتِّينَ
مِسْكِينًا. (1)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ كَفَّارَتُهُ عَلَى التَّخْيِيرِ أَيْضًا،
وَلَكِنَّهُمْ فَضَّلُوا الإِْطْعَامَ عَلَى الْعِتْقِ فَجَعَلُوهُ
أَوَّلاً، لأَِنَّهُ أَكْثَرُ نَفْعًا لِتَعَدِّيهِ لأَِفْرَادٍ كَثِيرَةٍ،
وَفَضَّلُوا الْعِتْقَ عَلَى الصَّوْمِ؛ لأَِنَّ نَفْعَهُ مُتَعَدٍّ
لِلْغَيْرِ دُونَ الصَّوْمِ، فَالصَّوْمُ عِنْدَهُمْ فِي الْمَرْتَبَةِ
الثَّالِثَةِ.
وَسَوَاءٌ كَانَ هَذَا أَوْ ذَاكَ، فَإِنَّ صَوْمَ كَفَّارَةِ الْفِطْرِ
فِي رَمَضَانَ شَهْرَانِ مُتَتَابِعَانِ عِنْدَ الأَْئِمَّةِ
الأَْرْبَعَةِ.؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال:
بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ: هَلَكْتُ،
قَال: مَا لَكَ؟ قَال: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ. فَقَال
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَل تَجِدُ رَقَبَةً
تُعْتِقُهَا؟ قَال: لاَ.، قَال: فَهَل تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ
مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَال: لاَ، قَال: فَهَل تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ
مِسْكِينًا؟ قَال: لاَ، قَال: فَمَكَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ
__________
(1) حديث: " أن رجلا أفطر في رمضان. . " أخرجه مسلم (2 / 783 - ط الحلبي) .
(10/128)
فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ، أُتِيَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِرْقٍ فِيهَا تَمْرٌ -
وَالْعِرْقُ: الْمِكْتَل - قَال: أَيْنَ السَّائِل؟ فَقَال: أَنَا.، قَال:
خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ.، فَقَال الرَّجُل: عَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا
رَسُول اللَّهِ؟ فَوَاَللَّهِ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا - يُرِيدُ
الْحَرَّتَيْنِ - أَهْل بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْل بَيْتِي. فَضَحِكَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ،
ثُمَّ قَال: أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ. (1)
الصَّوْمُ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْل:
6 - يَأْتِي فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنِ
الْعِتْقِ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَل مُؤْمِنًا خَطَأً
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ
إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا} إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ
اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (2) فَالتَّتَابُعُ فِي صِيَامِ هَذَيْنِ
الشَّهْرَيْنِ وَاجِبٌ اتِّفَاقًا. (3)
ر: (كَفَّارَةُ الْقَتْل) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 109، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 191، والمغني
لابن قدامة 3 / 127 - 128، والشرح الكبير 1 / 530 وحديث أبي هريرة: " بينما
نحن جلوس. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 163 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 781
- 782 ط الحلبي) واللفظ للبخاري.
(2) سورة النساء / 92.
(3) ابن عابدين 5 / 368، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 2 / 218، وجواهر
الإكليل 2 / 272، والمغني لابن قدامة 8 / 97.
(10/129)
التَّتَابُعُ فِي صَوْمِ النَّذْرِ:
7 - إِنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ أَيَّامًا، أَوْ شَهْرًا، أَوْ سَنَةً،
وَلَمْ يُعَيِّنْ، وَشَرَطَ التَّتَابُعَ لَزِمَهُ اتِّفَاقًا، وَكَذَا
لَوْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ شَهْرًا مُعَيَّنًا كَرَجَبٍ، أَوْ سَنَةً
مُعَيَّنَةً، لَزِمَهُ التَّتَابُعُ فِي صِيَامِهَا كَذَلِكَ.
أَمَّا لَوْ نَذَرَ شَهْرًا، أَوْ سَنَةً غَيْرَ مُعَيَّنَيْنِ، وَلَمْ
يَشْتَرِطِ التَّتَابُعَ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى: أَنَّهُ
لاَ يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ كَذَلِكَ
فِيمَنْ قَال: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ: يَصُومُهَا
مُتَتَابِعَةً. (1)
وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيل مُصْطَلَحَ: (نَذْرٌ) .
التَّتَابُعُ فِي الاِعْتِكَافِ:
8 - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ مَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ
اعْتِكَافَ أَيَّامٍ، بِأَنْ قَال: عَشَرَةَ أَيَّامٍ مَثَلاً، لَزِمَهُ
اعْتِكَافُهَا بِلَيَالِيِهَا مُتَتَابِعَةً، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطِ
التَّتَابُعَ؛ لأَِنَّ مَبْنَى الاِعْتِكَافِ عَلَى التَّتَابُعِ.
وَكَذَا لَوْ قَال: شَهْرًا، وَلَمْ يَنْوِهِ بِعَيْنِهِ، لَزِمَهُ
مُتَتَابِعًا لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ، يَفْتَتِحُهُ مَتَى شَاءَ بِالْعَدَدِ،
لاَ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 71، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 252، وجواهر
الإكليل 1 / 148، والتاج والإكليل بهامش الحطاب 2 / 451، ومطالب أولي النهى
6 / 431، والمغني لابن قدامة 9 / 27 ط الرياض.
(10/129)
هِلاَلِيًّا، وَإِنْ عَيَّنَ شَهْرًا
يُعْتَبَرُ الشَّهْرُ بِالْهِلاَل، وَإِنْ فَرَّقَ الاِعْتِكَافَ
اسْتَأْنَفَهُ مُتَتَابِعًا. وَقَال زُفَرُ فِي نَذْرِ اعْتِكَافِ شَهْرٍ:
إِنْ شَاءَ فَرَّقَ الاِعْتِكَافَ وَإِنْ شَاءَ تَابَعَهُ. وَإِنْ نَوَى
الأَْيَّامَ خَاصَّةً أَيْ دُونَ اللَّيْل صَحَّتْ نِيَّتُهُ؛ لأَِنَّ
حَقِيقَةَ الْيَوْمِ بَيَاضُ النَّهَارِ. (1)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ كَذَلِكَ، يَلْزَمُ تَتَابُعُ الاِعْتِكَافِ
الْمَنْذُورِ فِيمَا إِذَا كَانَ مُطْلَقًا، أَيْ غَيْرَ مُقَيَّدٍ
بِتَتَابُعٍ وَلاَ عَدَمِهِ. وَأَنَّ مَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ أَوْ
ثَلاَثِينَ يَوْمًا فَلاَ يُفَرِّقُ ذَلِكَ. وَهَذَا بِخِلاَفِ مَنْ نَذَرَ
أَنْ يَصُومَ شَهْرًا أَوْ أَيَّامًا، فَإِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ
التَّتَابُعُ فِي ذَلِكَ.
وَالْفَرْقُ: أَنَّ الصَّوْمَ إِنَّمَا يُؤَدَّى فِي النَّهَارِ دُونَ
اللَّيْل فَكَيْفَمَا فَعَل أَصَابَ، مُتَتَابِعًا أَوْ مُفَرَّقًا.
وَالاِعْتِكَافُ يَسْتَغْرِقُ الزَّمَانَيْنِ اللَّيْل وَالنَّهَارَ،
فَكَانَ حُكْمُهُ يَقْتَضِي التَّتَابُعَ.
وَالْمُرَادُ بِالْمُطْلَقِ: الَّذِي لَمْ يَشْتَرِطْ فِي التَّتَابُعِ
لَفْظًا، وَلَمْ يَحْصُل فِيهِ نِيَّةُ التَّتَابُعِ، وَلاَ نِيَّةُ
عَدَمِهِ. فَإِنْ حَصَل فِيهِ نِيَّةُ أَحَدِهِمَا عُمِل بِهَا. وَيَلْزَمُ
الْمُعْتَكِفَ مَا نَوَاهُ مِنْ تَتَابُعٍ أَوْ تَفْرِيقٍ وَقْتَ
الشُّرُوعِ، وَهُوَ حِينَ دُخُولِهِ فِيهِ، وَلاَ يَلْزَمُهُ بِنِيَّتِهِ
فَقَطْ؛ لأَِنَّ النِّيَّةَ بِمُجَرَّدِهَا لاَ تُوجِبُ شَيْئًا. (2)
وَالشَّافِعِيَّةُ قَالُوا: إِنَّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ شَهْرًا
__________
(1) فتح القدير 2 / 114 - 115 ط صادر.
(2) الخرشي على مختصر خليل 2 / 271 - 272.
(10/130)
فَإِنْ عَيَّنَ شَهْرًا لَزِمَهُ
اعْتِكَافُهُ مُتَتَابِعًا لَيْلاً وَنَهَارًا، سَوَاءٌ كَانَ الشَّهْرُ
تَامًّا أَوْ نَاقِصًا؛ لأَِنَّ الشَّهْرَ عِبَارَةٌ عَمَّا بَيْنَ
الْهِلاَلَيْنِ، تَمَّ أَوْ نَقَصَ.
وَإِنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ نَهَارِ الشَّهْرِ لَزِمَهُ النَّهَارُ دُونَ
اللَّيْل، لأَِنَّهُ خَصَّ النَّهَارَ فَلَمْ يَلْزَمْهُ الاِعْتِكَافُ
بِاللَّيْل، فَإِنْ فَاتَهُ الشَّهْرُ وَلَمْ يَعْتَكِفْ فِيهِ لَزِمَهُ
قَضَاؤُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَهُ مُتَتَابِعًا وَمُتَفَرِّقًا؛
لأَِنَّ التَّتَابُعَ فِي أَدَائِهِ بِحُكْمِ الْوَقْتِ، فَإِذَا فَاتَ
سَقَطَ التَّتَابُعُ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ. وَإِنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ
مُتَتَابِعًا لَزِمَهُ قَضَاؤُهُ مُتَتَابِعًا؛ لأَِنَّ التَّتَابُعَ هُنَا
بِحُكْمِ النَّذْرِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ.
وَإِنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَاعْتَكَفَ شَهْرًا
بِالأَْهِلَّةِ أَجْزَأَهُ، تَمَّ الشَّهْرُ أَوْ نَقَصَ؛ لأَِنَّ اسْمَ
الشَّهْرِ يَقَعُ عَلَيْهِ، وَإِنِ اعْتَكَفَ شَهْرًا بِالْعَدَدِ لَزِمَهُ
ثَلاَثُونَ يَوْمًا؛ لأَِنَّ الشَّهْرَ بِالْعَدَدِ ثَلاَثُونَ يَوْمًا.
فَإِنْ شَرَطَ التَّتَابُعَ لَزِمَهُ مُتَتَابِعًا، لِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ نَذَرَ وَسَمَّى فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ
بِمَا سَمَّى (1) وَإِنْ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ مُتَفَرِّقًا جَازَ أَنْ
يَكُونَ مُتَفَرِّقًا وَمُتَتَابِعًا؛ لأَِنَّ الْمُتَتَابِعَ أَفْضَل مِنَ
الْمُتَفَرِّقِ، وَإِنْ أَطْلَقَ النَّذْرَ جَازَ مُتَفَرِّقًا
وَمُتَتَابِعًا، كَمَا لَوْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ. (2)
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ
__________
(1) حديث: " من نذر وسمى فعليه الوفاء بما سمى " أورده الزيلعي في نصب
الراية (3 / 300 - ط دار المأمون بمصر) . وقال: غريب.
(2) المهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 198.
(10/130)
اعْتِكَافَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ
يَصُومُهَا فَأَفْطَرَ يَوْمًا أَفْسَدَ تَتَابُعَهُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ
الاِسْتِئْنَافُ، لإِِخْلاَلِهِ بِالإِْتْيَانِ بِمَا نَذَرَهُ عَلَى
صِفَتِهِ. (1)
وَإِنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ لَزِمَهُ شَهْرٌ بِالأَْهِلَّةِ أَوْ
ثَلاَثُونَ يَوْمًا، وَالتَّتَابُعُ فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا لاَ يَلْزَمُهُ،
وَالثَّانِي يَلْزَمُهُ، وَقَال الْقَاضِي: يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ
قَوْلاً وَاحِدًا، لأَِنَّهُ مَعْنًى يَحْصُل فِي اللَّيْل وَالنَّهَارِ،
فَإِذَا أَطْلَقَهُ اقْتَضَى التَّتَابُعَ. (2) ر: (اعْتِكَافٌ) .
مَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ فِي صِيَامِ الْكَفَّارَاتِ:
يَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ فِي صَوْمِ الْكَفَّارَةِ بِأُمُورٍ ذَكَرَهَا
الْفُقَهَاءُ وَهِيَ:
أ - الْفِطْرُ بِإِكْرَاهٍ أَوْ نِسْيَانٍ وَنَحْوِهِمَا:
9 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الإِْفْطَارَ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ
عُذْرٍ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ، بِاسْتِثْنَاءِ عُذْرِ الْمَرْأَةِ فِي
الْحَيْضِ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا فِي ذَلِكَ بَيْنَ عُذْرِ الْمَرَضِ أَوْ
غَيْرِهِ، وَهُوَ يَتَنَاوَل الإِْكْرَاهَ. وَأَمَّا لَوْ أَكَل نَاسِيًا
فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ فَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الْفَتَاوَى
الْهِنْدِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يَضُرُّ. (3)
__________
(1) كشاف القناع عن متن الإقناع 2 / 349 م النصر الحديثة.
(2) المغني لابن قدامة 3 / 212.
(3) فتح القدير مع العناية 3 / 240 ط. الأميرية، والفتاوى الهندية 1 / 512
ط المكتبة الإسلامية.
(10/131)
وَلاَ يُجْزِئُ عَنِ الْكَفَّارَةِ صِيَامُ
تِسْعَةٍ وَخَمْسِينَ يَوْمًا بِغَيْرِ اعْتِبَارِ الأَْهِلَّةِ، أَمَّا
إِذَا صَامَ شَهْرَيْنِ بِاعْتِبَارِ الأَْهِلَّةِ، فَإِنَّ صَوْمَهُ
يَصِحُّ حَتَّى وَلَوْ كَانَ ثَمَانِيَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا. (1)
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْفِطْرَ بِالإِْكْرَاهِ بِمُؤْلِمٍ مِنْ
قَتْلٍ أَوْ ضَرْبٍ لاَ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ، وَلاَ يَقْطَعُهُ أَيْضًا
فِطْرُ مَنْ ظَنَّ بَقَاءَ اللَّيْل، أَوْ غُرُوبَ الشَّمْسِ بِخِلاَفِ
الشَّكِّ فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ فَإِنَّهُ يَقْطَعُهُ، وَكَذَا لاَ
يَقْطَعُ التَّتَابُعَ عِنْدَهُمْ فِطْرُ مَنْ صَامَ تِسْعَةً وَخَمْسِينَ
يَوْمًا، ثُمَّ أَصْبَحَ مُفْطِرًا ظَانًّا الْكَمَال. (2)
وَلاَ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ عِنْدَهُمُ الأَْكْل وَالشُّرْبُ نَاسِيًا
عَلَى الْمَشْهُورِ، وَلاَ يَقْطَعُهُ جِمَاعُ غَيْرِ الْمُظَاهِرِ مِنْهَا
نَهَارًا نِسْيَانًا، أَوْ لَيْلاً وَلَوْ عَمْدًا. (3)
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ: أَنَّ الإِْكْرَاهَ عَلَى الأَْكْل يُبْطِل
التَّتَابُعَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الإِْكْرَاهَ عَلَيْهِ يُبْطِل
الصَّوْمَ عَلَى الْقَوْل بِهِ، لأَِنَّهُ سَبَبٌ نَادِرٌ. هَذَا هُوَ
الْمَذْهَبُ فِي الصُّورَتَيْنِ، كَمَا جَاءَ فِي الرَّوْضَةِ، وَبِهِ
قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَجَعَلَهُمَا ابْنُ كَجٍّ كَالْمَرَضِ، وَكَذَا
إِذَا اسْتَنْشَقَ فَوَصَل الْمَاءُ إِلَى دِمَاغِهِ، فَفِي انْقِطَاعِ
التَّتَابُعِ الْخِلاَفُ، بِنَاءً عَلَى الْقَوْل بِأَنَّهُ يُفْطِرُ،
وَقَال النَّوَوِيُّ: لَوْ أُوجِرَ الطَّعَامَ مُكْرَهًا لَمْ
__________
(1) العناية بهامش فتح القدير 3 / 239 ط. الأميرية.
(2) جواهر الإكليل 1 / 377 ط. دار المعرفة، والخرشي 4 / 118 ط دار صادر.
(3) جواهر الإكليل 1 / 377 ط. دار المعرفة، والدسوقي 2 / 451.
(10/131)
يُفْطِرْ وَلَمْ يَنْقَطِعْ تَتَابُعُهُ،
قَطَعَ بِهِ الأَْصْحَابُ فِي كُل الطُّرُقِ. (1)
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ التَّتَابُعَ لاَ يُقْطَعُ بِالْفِطْرِ
بِسَبَبِ الإِْكْرَاهِ أَوِ الْخَطَأِ أَوِ النِّسْيَانِ عَلَى الصَّحِيحِ
مِنَ الْمَذْهَبِ، لِحَدِيثِ: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي
الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (2) لاَ إِنْ
أَفْطَرَ لِجَهْلٍ فَإِنَّهُ لاَ يُعْذَرُ بِهِ، وَأَمَّا الَّذِي أَفْطَرَ
خَطَأً كَمَنْ ظَنَّ بَقَاءَ اللَّيْل أَوِ الْغُرُوبَ فَبَانَ خِلاَفُهُ
فَلاَ يَنْقَطِعُ تَتَابُعُ صِيَامِهِ، وَأَمَّا الَّذِي أَفْطَرَ عَلَى
ظَنِّ تَمَامِ الشَّهْرَيْنِ فَبَانَ خِلاَفُهُ فَإِنَّهُ يَنْقَطِعُ
تَتَابُعُ صِيَامِهِ، أَوْ ظَنَّ أَنَّ الْوَاجِبَ شَهْرٌ وَاحِدٌ
فَأَفْطَرَ، أَوْ أَفْطَرَ نَاسِيًا لِوُجُوبِ التَّتَابُعِ، أَوْ أَفْطَرَ
لِغَيْرِ عُذْرٍ انْقَطَعَ تَتَابُعُ صِيَامِهِ لِقَطْعِهِ إِيَّاهُ، وَلاَ
يُعْذَرُ بِالْجَهْل. (3)
ب - الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَيْضَ لاَ يَقْطَعُ
التَّتَابُعَ فِي الْكَفَّارَةِ الَّتِي تُوجِبُ صِيَامَ شَهْرَيْنِ عَلَى
الْمَرْأَةِ، كَكَفَّارَةِ الْقَتْل، لأَِنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْهُ فِيهِمَا،
__________
(1) روضة الطالبين 8 / 353 ط. المكتب الإسلامي.
(2) حديث: " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " أخرجه
الحاكم (2 / 198 - ط دائرة المعارف العثمانية) وحسنه النووي كما في المقاصد
الحسنة للسخاوي (ص 230 - نشر دار الكتب العلمية) .
(3) كشاف القناع 5 / 384 ط. النصر، والإنصاف 9 / 226 ط التراث.
(10/132)
وَلأَِنَّهَا لاَ يَدَ لَهَا فِيهِ،
وَلأَِنَّهُ يُنَافِي الصَّوْمَ، وَفِي تَأْخِيرِ التَّكْفِيرِ إِلَى سِنِّ
الْيَأْسِ خَطَرٌ، إِلاَّ أَنَّ الْمُتَوَلِّيَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ قَال:
إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا كَانَتْ لَهَا عَادَةٌ فِي الطُّهْرِ تَسَعُ
صَوْمَ الْكَفَّارَةِ فَصَامَتْ فِي غَيْرِهَا، أَيْ فِي وَقْتٍ يَحْدُثُ
فِيهِ الْحَيْضُ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ. (1)
وَأَمَّا تَتَابُعُ صَوْمِ أَيَّامِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، فَإِنَّ
الْحَيْضَ يَقْطَعُهُ، بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ التَّتَابُعِ فِيهَا كَمَا
ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي
وُجُوبِ تَتَابُعِهَا، لِقِلَّةِ أَيَّامِهَا، بِخِلاَفِ الشَّهْرَيْنِ.
(2)
هَذَا، وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ: أَنَّنَا إِذَا أَوْجَبْنَا
التَّتَابُعَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَحَاضَتْ فِي أَثْنَائِهَا، فَفِي
انْقِطَاعِ تَتَابُعِهَا الْقَوْلاَنِ فِي الْفِطْرِ بِالْمَرَضِ فِي
الشَّهْرَيْنِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ طَرِيقٌ جَازِمٌ
بِانْقِطَاعِ التَّتَابُعِ. (3)
11 - أَمَّا النِّفَاسُ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ فِي صَوْمِ
الْكَفَّارَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَى مُقَابِل الصَّحِيحِ
__________
(1) تبيين الحقائق 3 / 10 ط. دار المعرفة، وجواهر الإكليل 1 / 377 ط. دار
المعرفة، وروضة الطالبين 8 / 302 ط المكتب الإسلامي، وحاشية قليوبي 4 / 26
ط. الحلبي، وكشاف القناع 5 / 384 ط النصر.
(2) تبيين الحقائق 3 / 10 ط. دار المعرفة، والمهذب 2 / 142 - 143 ط. دار
المعرفة.
(3) روضة الطالبين 8 / 304 ط. المكتب الإسلامي.
(10/132)
الَّذِي حَكَاهُ أَبُو الْفَرَجِ
السَّرَخْسِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ لِنُدْرَتِهِ، وَلإِِمْكَانِهَا
اخْتِيَارَ شَهْرَيْنِ خَالِيَيْنِ مِنْهُ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّ
النِّفَاسَ لاَ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ، قِيَاسًا عَلَى الْحَيْضِ،
وَلأَِنَّهَا لاَ يَدَ لَهَا فِيهِ. (1)
ج - دُخُول رَمَضَانَ وَالْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ:
12 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ دُخُول شَهْرِ رَمَضَانَ وَعِيدِ
الْفِطْرِ أَوْ عِيدِ الأَْضْحَى وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ يَقْطَعُ صَوْمَ
الْكَفَّارَةِ لِوُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ وَحُرْمَةِ صَوْمِ الْبَاقِي،
وَلأَِنَّ فِي اسْتِطَاعَتِهِ أَنْ يَجِدَ شَهْرَيْنِ لَيْسَ فِيهِمَا مَا
ذُكِرَ، وَهَذَا أَيْضًا هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ فِي
صَوْمِ غَيْرِ الأَْسِيرِ. وَأَمَّا الأَْسِيرُ إِذَا صَامَ
بِاجْتِهَادِهِ، فَدَخَل عَلَيْهِ رَمَضَانُ أَوِ الْعِيدُ قَبْل تَمَامِ
الشَّهْرَيْنِ، فَفِي انْقِطَاعِ تَتَابُعِهِ الْخِلاَفُ فِي انْقِطَاعِهِ
بِإِفْطَارِ الْمَرِيضِ. (2)
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَذَكَرُوا: أَنَّ تَعَمُّدَ فِطْرِ يَوْمِ
الْعِيدِ يَقْطَعُ تَتَابُعَ صَوْمِ الْكَفَّارَةِ، كَمَا إِذَا تَعَمَّدَ
صَوْمَ ذِي الْقَعْدَةِ وَذِي الْحِجَّةِ عَنْ كَفَّارَةِ ظِهَارِهِ مَعَ
عِلْمِهِ بِدُخُول الْعِيدِ فِي أَثْنَائِهِ. بِخِلاَفِ مَا إِذَا
__________
(1) تبيين الحقائق 3 / 10 ط دار المعرفة، والزرقاني 4 / 81 ط. الفكر، وروضة
الطالبين 8 / 302 ط. المكتب الإسلامي، وكشاف القناع 5 / 384 ط. النصر.
(2) تبيين الحقائق 3 / 10 ط. دار المعرفة، وفتح القدير 3 / 239 ط الأميرية،
وروضة الطالبين 8 / 303 المكتب الإسلامي.
(10/133)
جَهِلَهُ فَإِنَّهُ لاَ يَقْطَعُ، كَمَا
إِذَا ظَنَّ أَنَّ شَهْرَ ذِي الْحِجَّةِ هُوَ الْمُحَرَّمُ، فَصَامَهُ
مَعَ مَا بَعْدَهُ ظَانًّا أَنَّهُ صَفَرٌ، فَبَانَ خِلاَفُهُ.
وَجَهْل دُخُول رَمَضَانَ عِنْدَهُمْ كَجَهْل الْعِيدِ عَلَى الأَْرْجَحِ
عِنْدَ ابْنِ يُونُسَ، وَالْمُرَادُ بِجَهْل الْعِيدِ كَمَا فِي
الْخَرَشِيِّ: جَهْلُهُ فِي كَوْنِهِ يَأْتِي فِي الْكَفَّارَةِ، لاَ جَهْل
حُكْمِهِ، خِلاَفًا لأَِبِي الْحَسَنِ، حَيْثُ ذُكِرَ أَنَّ الْمُرَادَ
بِالْجَهْل جَهْل الْحُكْمِ وَهُوَ أَظْهَرُ. وَمِثْل الْعِيدِ عِنْدَهُمُ
الْيَوْمَانِ بَعْدَهُ. وَأَمَّا ثَالِثُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَإِنَّ
صَوْمَهُ يُجْزِئُ، وَفِطْرُهُ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ اتِّفَاقًا، كَمَا
جَاءَ فِي الْخَرَشِيِّ (1) .
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ صَوْمَ الْكَفَّارَةِ لاَ
يَقْطَعُ بِذَلِكَ مُطْلَقًا، لِوُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ بِإِيجَابِ
الشَّرْعِ، وَلأَِنَّ فِطْرَ الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَاجِبٌ
أَيْضًا بِإِيجَابِ الشَّرْعِ، أَيْ أَنَّ ذَلِكَ الزَّمَنَ مَنَعَهُ
الشَّرْعُ مِنْ صَوْمِهِ كَاللَّيْل (2) .
د - السَّفَرُ:
13 - السَّفَرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَقَوْلٌ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ: يَقْطَعُ التَّتَابُعَ إِنْ أَفْطَرَ فِيهِ؛ لأَِنَّ
__________
(1) الخرشي 4 / 118 ط. دار صادر، وجواهر الإكليل 1 / 377 - 378 ط. دار
المعرفة.
(2) كشاف القناع 5 / 384 ط. النصر، والإنصاف 9 / 224 ط. التراث.
(10/133)
الإِْفْطَارَ عِنْدَهُمْ بِعُذْرٍ أَوْ
بِغَيْرِ عُذْرٍ يَقْطَعُهُ. (1)
وَالْقَوْل الآْخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ كَالْمَرَضِ. (2)
وَالسَّفَرُ الَّذِي يُبَاحُ فِيهِ الْفِطْرُ لاَ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ
عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. (3)
هـ - فِطْرُ الْحَامِل وَالْمُرْضِعِ:
14 - فِطْرُ الْحَامِل وَالْمُرْضِعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، كَمَا جَاءَ
فِي الرَّوْضَةِ خَوْفًا عَلَى الْوَلَدِ. قِيل: هُوَ كَالْمَرَضِ، وَقِيل:
يَقْطَعُ قَطْعًا، لأَِنَّهُ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيَرَوْنَ أَنَّ فِطْرَ الْحَامِل وَالْمُرْضِعِ
خَوْفًا عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَوْ وَلَدَيْهِمَا لاَ يَقْطَعُ
التَّتَابُعَ، لأَِنَّهُ فِطْرٌ أُبِيحَ لِعُذْرٍ عَنْ غَيْرِ جِهَتِهِمَا،
فَأَشْبَهَ الْمَرَضَ. (4)
وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ - مِنْ أَنَّ الْفِطْرَ بِعُذْرٍ
أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ - وَالْمَالِكِيَّةُ - مِنَ
الْقَوْل بِقَطْعِهِ بِكُل فِعْلٍ اخْتِيَارِيٍّ، كَالسَّفَرِ مَثَلاً -
مُقْتَضَاهُ قَطْعُ التَّتَابُعِ بِفِطْرِهِمَا خَوْفًا عَلَى
أَنْفُسِهِمَا أَوْ وَلَدَيْهِمَا. (5)
__________
(1) فتح القدير مع العناية 3 / 240 ط. الأميرية، والفتاوى الهندية 1 / 512
ط. المكتبة الإسلامية، والخرشي 4 / 118 ط. دار صادر. وجواهر الإكليل 1 /
377 ط. دار المعرفة.
(2) روضة الطالبين 8 / 302 ط المكتب الإسلامي.
(3) كشاف القناع 5 / 384 ط النصر.
(4) روضة الطالبين 8 / 302. المكتب الإسلامي، ومغني المحتاج 3 / 365 ط.
الحلبي. وكشاف القناع 5 / 384 ط النصر.
(5) فتح القدير مع العناية 7 / 240 ط. الأميرية، والخرشي 4 / 118 ط. دار
صادر، وجواهر الإكليل 1 / 377 ط. دار المعرفة.
(10/134)
و - الْمَرَضُ:
15 - الْمَرَضُ يَقْطَعُ تَتَابُعَ صَوْمِ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ، وَهُوَ
الْجَدِيدُ، لأَِنَّ الْحَنَفِيَّةَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْفِطْرِ
بِعُذْرِ مَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ فِي قَطْعِ التَّتَابُعِ، بِاسْتِثْنَاءِ
الْمَرْأَةِ فِي الْحَيْضِ، وَلأَِنَّ الْمَرَضَ كَمَا ذَكَرَ
الشَّافِعِيَّةُ لاَ يُنَافِي الصَّوْمَ، وَإِنَّمَا قَطَعَهُ
بِاخْتِيَارِهِ. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّ الْمَرَضَ لاَ
يَقْطَعُ تَتَابُعَ صَوْمِ الْكَفَّارَةِ، لأَِنَّهُ لاَ يَزِيدُ عَلَى
أَصْل وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ، وَهُوَ يَسْقُطُ بِالْمَرَضِ. وَهَذَا
أَيْضًا هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ، وَإِنْ كَانَ الْمَرَضُ
غَيْرَ مَخُوفٍ، لأَِنَّهُ لاَ يَدَ لَهُ فِيهِ كَالْحَيْضِ، وَمِثْلُهُ
الْجُنُونُ وَالإِْغْمَاءُ. (2)
ز - نِسْيَانُ النِّيَّةِ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي:
16 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ نِسْيَانَ النِّيَّةِ فِي بَعْضِ
اللَّيَالِي يَقْطَعُ التَّتَابُعَ كَتَرْكِهَا عَمْدًا، وَلاَ يُجْعَل
النِّسْيَانُ عُذْرًا فِي تَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى
وُجُوبِ اشْتِرَاطِهَا فِي كُل لَيْلَةٍ، عَلَى مُقَابِل الأَْصَحِّ
عِنْدَهُمْ. أَمَّا لَوْ صَامَ أَيَّامًا مِنَ الشَّهْرَيْنِ،
__________
(1) فتح القدير مع العناية 2 / 240 ط الأميرية، وروضة الطالبين 8 / 302 ط.
المكتب الإسلامي.
(2) نهاية المحتاج 7 / 95 ط. المكتبة الإسلامية، وكشاف القناع 5 / 374 ط.
النصر.
(10/134)
ثُمَّ شَكَّ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ صَوْمِ
يَوْمٍ، هَل نَوَى فِيهِ أَمْ لاَ؟ لَمْ يَلْزَمْهُ الاِسْتِئْنَافُ عَلَى
الصَّحِيحِ كَمَا قَال النَّوَوِيُّ، وَلاَ أَثَرَ لِلشَّكِّ بَعْدَ
الْفَرَاغِ مِنَ الْيَوْمِ، ذَكَرَهُ الرُّويَانِيُّ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ
فِي مَسَائِل الْمُتَحَيِّرَةِ. (1)
ح - الْوَطْءُ:
17 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُظَاهِرَ إِذَا وَطِئَ مَنْ
ظَاهَرَ مِنْهَا فِي النَّهَارِ عَامِدًا، فَإِنَّ فِعْلَهُ هَذَا يَقْطَعُ
التَّتَابُعَ، وَأَمَّا إِذَا وَطِئَهَا فِي اللَّيْل عَامِدًا أَوْ
نَاسِيًا، أَوْ وَطِئَهَا فِي النَّهَارِ نَاسِيًا، فَفِيهِ الْخِلاَفُ.
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ الْمُظَاهِرَ إِذَا
جَامَعَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا بِاللَّيْل عَامِدًا أَوْ بِالنَّهَارِ
نَاسِيًا، فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ؛ لأَِنَّ الشَّرْطَ فِي
الصَّوْمِ أَنْ يَكُونَ خَالِيًا مِنَ الْمَسِيسِ، وَقَال أَبُو يُوسُفَ:
إِنَّ التَّتَابُعَ لاَ يَقْطَعُ بِذَلِكَ إِذْ لاَ يَفْسُدُ بِهِ
الصَّوْمُ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمَسِيسِ شَرْطًا،
فَإِنَّ فِيمَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ تَقْدِيمَ الْبَعْضِ، وَفِيمَا قُلْتُمْ
تَأْخِيرُ الْكُل عَنْهُ. (2)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ وَطْءَ
الْمُظَاهِرِ
__________
(1) روضة الطالب 8 / 302 - 303 ط المكتب الإسلامي، ومغني المحتاج 3 / 365
ط. الحلبي.
(2) تبيين الحقائق 3 / 10 ط دار المعرفة، وفتح القدير 3 / 239 - 240 ط.
الأميرية، وحاشية ابن عابدين 2 / 582 ط المصرية.
(10/135)
مِنْهَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ مُطْلَقًا،
سَوَاءٌ أَكَانَ بِاللَّيْل أَمْ بِالنَّهَارِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ عَالِمًا
أَوْ نَاسِيًا أَمْ جَاهِلاً أَمْ غَالِطًا، أَوْ بِعُذْرٍ يُبِيحُ
الْفِطْرَ كَسَفَرٍ، (1) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ قَبْل أَنْ
يَتَمَاسَّا} . (2)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ وَطْأَهُ بِاللَّيْل لاَ يَقْطَعُ
التَّتَابُعَ، وَيُعْتَبَرُ عَاصِيًا. (3)
هَذَا، وَوَطْءُ غَيْرِ الْمُظَاهِرِ مِنْهَا فِي النَّهَارِ عَامِدًا
يَقْطَعُ التَّتَابُعَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ وَطِئَهَا بِاللَّيْل عَامِدًا، أَوْ
نَاسِيًا، أَوْ بِالنَّهَارِ نَاسِيًا فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَقْطَعُ
التَّتَابُعَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُحَرَّمٍ عَلَيْهِ.
وَمِثْل ذَلِكَ مَا لَوْ وَطِئَهَا بِسَبَبِ عُذْرٍ يُبِيحُ الْفِطْرَ
كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَابِلَةُ. (4)
ط - قَضَاءُ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِهِ التَّتَابُعُ:
18 - قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ تَتَابُعَ صَوْمِ الْكَفَّارَةِ
يَقْطَعُهُ تَأْخِيرُ قَضَاءِ الأَْيَّامِ الَّتِي أَفْطَرَهَا فِي
صِيَامِهِ، وَاَلَّتِي يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَهَا مُتَّصِلَةً
بِصِيَامِهِ، فَإِنْ أَخَّرَ
__________
(1) الخرشي 4 / 117 - 118 ط. دار صادر " وكشاف القناع 5 / 384 ط النصر.
(2) سورة المجادلة / 3.
(3) روضة الطالبين 8 / 302 ط. المكتب الإسلامي، ومغني المحتاج 3 / 366 ط.
الحلبي.
(4) العناية 3 / 239 ط الأميرية، والخرشي 4 / 117 - 118 ط دار صادر، وكشاف
القناع 5 / 384 ط النصر.
(10/135)
قَضَاءَهَا انْقَطَعَ تَتَابُعُ الصَّوْمِ.
وَشَبَّهُوا ذَلِكَ بِمَنْ نَسِيَ شَيْئًا مِنْ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ أَوِ
الْغُسْل، ثُمَّ تَذَكَّرَهُ أَثْنَاءَهُ فَلَمْ يَغْسِلْهُ، أَيْ لَمْ
يَأْتِ بِهِ حِينَ تَذَكُّرِهِ فَإِنَّهُ يَبْتَدِئُ الطَّهَارَةَ، نَسِيَ
ذَلِكَ أَمْ تَعَمَّدَهُ. بِخِلاَفِ نِسْيَانِ النَّجَاسَةِ بَعْدَ
تَذَكُّرِهَا قَبْل الصَّلاَةِ فَإِنَّهُ لاَ يُؤَثِّرُ لِخِفَّتِهَا. (1)
وَلَمْ نَجِدْ لِغَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ تَصْرِيحًا فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ.
__________
(1) الخرشي 4 / 119 ط. دار صادر، وجواهر الإكليل 1 / 378 ط. دار المعرفة.
(10/136)
تَتَرُّسٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّتَرُّسُ فِي اللُّغَةِ: التَّسَتُّرُ بِالتُّرْسِ،
وَالاِحْتِمَاءُ بِهِ وَالتَّوَقِّي بِهِ. (1) وَكَذَلِكَ التَّتْرِيسُ،
يُقَال: تَتَرَّسَ بِالتُّرْسِ، أَيْ تَوَقَّى وَتَسَتَّرَ بِهِ. (2)
كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَال: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ
يَتَتَرَّسُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتُرْسٍ
وَاحِدٍ (3) وَيُقَال أَيْضًا: تَتَرَّسَ بِالشَّيْءِ جَعَلَهُ كَالتُّرْسِ
وَتَسَتَّرَ بِهِ، وَمِنْهُ: تَتَرَّسَ الْكُفَّارُ بِأَسَارَى
الْمُسْلِمِينَ وَصِبْيَانِهِمْ أَثْنَاءَ الْحَرْبِ. (4)
وَلاَ يَخْرُجُ الاِسْتِعْمَال الْفِقْهِيُّ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّحَصُّنُ:
2 - مِنْ مَعَانِي التَّحَصُّنِ: الاِحْتِمَاءُ بِالْحِصْنِ،
__________
(1) الترس: صفحة من الفولاذ مستديرة تحمل في اليد للوقاية من السيف ونحوه
(لسان العرب، وتاج العروس، والمصباح المنير مادة: " ترس ") .
(2) لسان العرب، وتاج العروس.
(3) حديث: " كان أبو طلحة يتترس مع
النبي صلى الله عليه سلم. . . " أخرجه البخاري في صحيحه (فتح الباري 6 / 93
- ط السلفية) .
(4) المصباح المنير.
(10/136)
يُقَال: تَحَصَّنَ الْعَدُوُّ: إِذَا دَخَل
الْحِصْنَ وَاحْتَمَى بِهِ، (1) فَالتَّحَصُّنُ نَوْعٌ مِنَ التَّسَتُّرِ
وَالتَّوَقِّي أَثْنَاءَ الْحَرْبِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ رَمْيُ الْكُفَّارِ إِذَا
تَتَرَّسُوا بِالْمُسْلِمِينَ وَأَسَارَاهُمْ أَثْنَاءَ الْقِتَال أَوْ
حِصَارِهِمْ مِنْ قِبَل الْمُسْلِمِينَ، إِذَا دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى
ذَلِكَ، بِأَنْ كَانَ فِي الْكَفِّ عَنْ قِتَالِهِمُ انْهِزَامٌ
لِلْمُسْلِمِينَ، وَالْخَوْفُ عَلَى اسْتِئْصَال قَاعِدَةِ الإِْسْلاَمِ.
وَيُقْصَدُ بِالرَّمْيِ الْكُفَّارُ.
وَلَكِنْ إِذَا لَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ إِلَى رَمْيِهِمْ لِكَوْنِ الْحَرْبِ
غَيْرَ قَائِمَةٍ، أَوْ لإِِمْكَانِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ بِدُونِهِ،
فَلاَ يَجُوزُ رَمْيُهُمْ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ
قَوْل الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ. وَيَجُوزُ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ - مَا عَدَا الْحَسَنَ بْنَ زِيَادٍ - لأَِنَّ فِي
الرَّمْيِ دَفْعَ الضَّرَرِ الْعَامِّ بِالدَّفْعِ عَنْ مُجْتَمَعِ
الإِْسْلاَمِ، إِلاَّ أَنَّهُ عَلَى الرَّامِي أَلاَّ يَقْصِدَ بِالرَّمْيِ
إِلاَّ الْكُفَّارَ. (2)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ، وَلاَ
__________
(1) لسان العرب، وتاج العروس، ومعجم متن اللغة: مادة: " حصن ".
(2) فتح القدير 5 / 198 ط إحياء التراث العربي، وابن عابدين 3 / 333 ط
إحياء التراث العربي، والحطاب 3 / 351 ط دار الفكر، وحاشية الدسوقي 2 / 178
ط دار الفكر، ونهاية المحتاج 8 / 65، والأم 4 / 287 ط دار المعرفة، والمغني
8 / 449 - 450 ط مكتبة الرياض الحديثة.
(10/137)
يَقْصِدُونَ الْمُتَتَرَّسَ بِهِمْ، إِلاَّ
إِذَا كَانَ فِي عَدَمِ رَمْيِ الْمُتَتَرَّسِ بِهِمْ خَوْفٌ عَلَى
أَكْثَرِ الْجَيْشِ الْمُقَاتِلِينَ لِلْكُفَّارِ، فَتَسْقُطُ حُرْمَةُ
التُّرْسِ، سَوَاءٌ أَكَانَ عَدَدُ الْمُسْلِمِينَ الْمُتَتَرَّسِ بِهِمْ
أَكْثَرَ مِنَ الْمُجَاهِدِينَ أَمْ أَقَل، وَكَذَلِكَ لَوْ تَتَرَّسُوا
بِالصَّفِّ، وَكَانَ فِي تَرْكِ قِتَالِهِمُ انْهِزَامٌ لِلْمُسْلِمِينَ.
(1)
وَعَلَى هَذَا فَإِنْ أُصِيبَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَتِيجَةَ
الرَّمْيِ وَقُتِل، وَعُلِمَ الْقَاتِل، فَلاَ دِيَةَ وَلاَ كَفَّارَةَ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْجِهَادَ فَرْضٌ، وَالْغَرَامَاتُ لاَ
تُقْرَنُ بِالْفَرَائِضِ، خِلاَفًا لِلْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ، فَإِنَّهُ
يَقُول بِوُجُوبِ الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ فِيهِ
الْكَفَّارَةَ قَوْلاً وَاحِدًا. أَمَّا الدِّيَةُ فَفِيهَا عَنْهُمْ
قَوْلاَنِ: فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ عَلِمَهُ الرَّامِي مُسْلِمًا،
وَكَانَ يُمْكِنُ تَوَقِّيهِ وَالرَّمْيُ إِلَى غَيْرِهِ لَزِمَتْهُ
الدِّيَةُ، وَإِنْ لَمْ يَتَأَتَّ رَمْيُ الْكُفَّارِ إِلاَّ بِرَمْيِ
الْمُسْلِمِ فَلاَ. (2)
وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: تَجِبُ الدِّيَةُ فِي رِوَايَةٍ
لأَِنَّهُ قَتَل مُؤْمِنًا خَطَأً، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: لاَ دِيَةَ
__________
(1) الحطاب 3 / 351 ط دار الفكر، وحاشية الدسوقي 2 / 178 ط دار الفكر.
(2) فتح القدير 5 / 198، والمبسوط 10 / 31 - 65، وشرح الروض 4 / 191، وروضة
الطالبين 10 / 246، وقد جعل صاحب نهاية المحتاج القيدين الواردين في الدية
واردين في الكفارة أيضا، ونهاية المحتاج 8 / 43، والمغني 8 / 449 - 450.
(10/137)
لأَِنَّهُ قُتِل فِي دَارِ الْحَرْبِ
بِرَمْيٍ مُبَاحٍ. (1)
4 - وَإِنْ تَتَرَّسَ الْكُفَّارُ بِذَرَارِيِّهِمْ وَنِسَائِهِمْ
فَيَجُوزُ رَمْيُهُمْ مُطْلَقًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ
عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَيَقْصِدُ بِالرَّمْيِ الْمُقَاتِلِينَ، لأَِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَاهُمْ بِالْمَنْجَنِيقِ
وَمَعَهُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ. (2) وَلاَ فَرْقَ فِي جَوَازِ
الرَّمْيِ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَتِ الْحَرْبُ مُلْتَحِمَةً وَمَا إِذَا
كَانَتْ غَيْرَ مُلْتَحِمَةٍ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَتَحَيَّنُ بِالرَّمْيِ حَال الْتِحَامِ الْحَرْبِ.
(3)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ
رَمْيُهُمْ، إِلاَّ إِذَا دَعَتِ الضَّرُورَةُ وَيُتْرَكُونَ عِنْدَ عَدَمِ
الضَّرُورَةِ، وَيَكُونُ تَرْكُ الْقِتَال عِنْدَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ
وَاجِبًا فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ
مَا جَاءَ فِي الرَّوْضَةِ وَهُوَ: جَوَازُهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ. (4)
وَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ التَّتَرُّسِ فِي بَابِ الْجِهَادِ:
عِنْدَ الْحَدِيثِ عَنْ كَيْفِيَّةِ الْقِتَال، وَبَيَانِ الْمَكْرُوهَاتِ
وَالْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ فِي الْغَزْوِ.
__________
(1) المغني 8 / 450.
(2) حديث: " رمي النبي صلى الله عليه وسلم بالمنجنيق. . . " أخرجه أبو داود
في المراسيل بهذا المعنى، وإسناده ضعيف. انظر التلخيص الحبير لابن حجر (4 /
104) .
(3) فتح القدير 5 / 198، والمبسوط 10 / 65، وبدائع الصنائع 7 / 98، 99،
والمغني 8 / 449 ط مكتبة الرياض الحديثة.
(4) الحطاب 3 / 351، وحاشية الدسوقي 2 / 178، ونهاية المحتاج 8 / 65.
(10/138)
تَتْرِيبٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّتْرِيبُ: مَصْدَرُ تَرَّبَ، يُقَال: تَرَّبْتُ الشَّيْءَ
تَتْرِيبًا فَتَتَرَّبَ، أَيْ لَطَّخْتَهُ فَتَلَطَّخَ بِالتُّرَابِ.
وَأَتْرَبْتُ الشَّيْءَ: جَعَلْتَ عَلَيْهِ التُّرَابَ، وَتَرَّبْتُ
الْكِتَابَ تَتْرِيبًا، وَتَرَّبْتُ الْقِرْطَاسَ فَأَنَا أُتَرِّبُهُ،
أَيْ أَضَعُ عَلَيْهِ التُّرَابَ لِيَمْتَصَّ مَا زَادَ مِنَ الْحِبْرِ.
(1) وَعَلَى هَذَا، فَتَتْرِيبُ الشَّيْءِ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا: جَعْل
التُّرَابِ عَلَيْهِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - اسْتِعْمَال التُّرَابِ فِي التَّطْهِيرِ مِنْ نَجَاسَةِ الْكَلْبِ:
التُّرَابُ الطَّاهِرُ قَدْ يُسْتَعْمَل فِي التَّطْهِيرِ، كَمَا إِذَا
وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءٍ، فَإِنَّهُ كَيْ يَطْهُرَ هَذَا الإِْنَاءُ
يَجِبُ غَسْلُهُ سَبْعًا إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ، هَذَا عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال: إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي
__________
(1) الصحاح، ولسان العرب، والمصباح المنير، ومختار الصحاح. مادة: " ترب ".
(10/138)
إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، زَادَ مُسْلِمٌ أُولاَهُنَّ بِالتُّرَابِ. (1) وَلِمَا
رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ قَال: إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الإِْنَاءِ فَاغْسِلُوهُ
سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ. (2)
وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُجْعَل التُّرَابُ فِي الْغَسْلَةِ الأُْولَى،
لِمُوَافَقَتِهِ لَفْظَ الْخَبَرِ، أَوْ لِيَأْتِيَ الْمَاءُ عَلَيْهِ
بَعْدَهُ فَيُنَظِّفَهُ. وَمَتَى غُسِل بِهِ أَجْزَأَهُ، لأَِنَّهُ رُوِيَ
فِي حَدِيثٍ: إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ وَفِي حَدِيثٍ: أُولاَهُنَّ وَفِي
حَدِيثٍ: فِي الثَّامِنَةِ فَيَدُل عَلَى أَنَّ مَحَل التُّرَابِ مِنَ
الْغَسَلاَتِ غَيْرُ مَقْصُودٍ.
فَإِنْ جُعِل مَكَانَ التُّرَابِ غَيْرُهُ مِنَ الأُْشْنَانِ وَالصَّابُونِ
وَنَحْوِهِمَا، أَوْ غَسَلَهُ غَسْلَةً ثَامِنَةً، فَالأَْصَحُّ أَنَّهُ
لاَ يُجْزِئُ، لأَِنَّهُ طَهَارَةٌ أَمَرَ فِيهَا بِالتُّرَابِ تَعَبُّدًا،
وَلِذَا لَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ مَقَامَهُ.
وَلِبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ: يَجُوزُ الْعُدُول عَنِ التُّرَابِ إِلَى
غَيْرِهِ عِنْدَ عَدَمِ التُّرَابِ، أَوْ إِفْسَادِ الْمَحَل الْمَغْسُول
بِهِ. فَأَمَّا مَعَ وُجُودِهِ وَعَدَمِ الضَّرَرِ فَلاَ. وَهَذَا قَوْل
ابْنِ حَامِدٍ (3) .
__________
(1) حديث: " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا " متفق عليه من حديث
أبي هريرة: أخرجه البخاري (الفتح 1 / 274 - ط السلفية) وزاد مسلم " أولاهن
بالتراب " (1 / 234 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات، وعفروه. . . "
أخرجه مسلم (1 / 235 - ط الحلبي) .
(3) المغني لابن قدامة 1 / 52 - 54 ط الرياض الحديثة وروضة الطالبين 1 / 32
- 33 المكتب الإسلامي، وشرح روض الطالب من أسنى المطالب 1 / 21 نشر المكتبة
الإسلامية.
(10/139)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يُنْدَبُ غُسْل
الإِْنَاءِ سَبْعًا بِوُلُوغِ الْكَلْبِ فِيهِ، بِأَنْ يُدْخِل فَمَهُ فِي
الْمَاءِ وَيُحَرِّكَ لِسَانَهُ فِيهِ، وَلاَ تَتْرِيبَ مَعَ الْغَسْل
بِأَنْ يُجْعَل فِي الأُْولَى، أَوِ الأَْخِيرَةِ، أَوْ إِحْدَاهُنَّ.
لأَِنَّ التَّتْرِيبَ لَمْ يَثْبُتْ فِي كُل الرِّوَايَاتِ، وَإِنَّمَا
ثَبَتَ فِي بَعْضِهَا، وَذَلِكَ الْبَعْضُ الَّذِي ثَبَتَ فِيهِ، وَقَعَ
فِيهِ اضْطِرَابٌ. (1)
وَلِلْحَنَفِيَّةِ قَوْلٌ بِغَسْلِهِ ثَلاَثًا، لِحَدِيثِ يُغْسَل
الإِْنَاءُ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ ثَلاَثًا. (2) وَقَوْلٌ بِغَسْلِهِ
ثَلاَثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا. لِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ
الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكَلْبِ، يَلَغُ فِي الإِْنَاءِ، أَنَّهُ
يَغْسِلُهُ ثَلاَثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا (3) وَوَرَدَ فِي حَاشِيَةِ
الطَّحْطَاوِيِّ عَلَى مَرَاقِي الْفَلاَحِ:
__________
(1) الشرح الكبير للدردير 1 / 83 - 84، وجواهر الإكليل 1 / 13 - 14 نشر دار
المعرفة، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري 1 / 276.
(2) حديث: " يغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثا " أخرجه الدارقطني موقوفا على
أبي هريرة بلفظ " إذا ولغ الكلب في الإناء فأهرقه، ثم اغسله ثلاث مرات "
وقال الشيخ تقي الدين في " الإمام " هذا سند صحيح (نصب الراية1 / 131،
وإعلاء السنن 1 / 196 نشر إدارة القرآن والعلوم الإسلامية - باكستان) .
(3) حديث: عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكلب " يلغ في
الإناء. . . . " أخرجه الدارقطني (1 / 65 - ط شركة الطباعة الفنية) وقال.
تفرد به عبد الوهاب بن الضحاك، وهو متروك الحديث.
(10/139)
يُنْدَبُ التَّسْبِيعُ وَكَوْنُ
إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ. (1)
تتن
اُنْظُرْ: تَبَغٌ.
__________
(1) فتح القدير 1 / 94 - 95 ط دار إحياء التراث العربي، والاختيار شرح
المختار 1 / 19 نشر دار المعرفة، ومراقي الفلاح وحاشية الطحطاوي عليه ص 18.
(10/140)
تَثَاؤُبٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّثَاؤُبُ: (بِالْمَدِّ) : فَتْرَةٌ تَعْتَرِي الشَّخْصَ فَيَفْتَحُ
عِنْدَهَا فَمَهُ. (1)
وَالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ فِي هَذَا لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ.
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - صَرَّحَ الْعُلَمَاءُ بِكَرَاهَةِ التَّثَاؤُبِ. فَمَنِ اعْتَرَاهُ
ذَلِكَ، فَلْيَكْظِمْهُ، وَلْيَرُدَّهُ قَدْرَ الطَّاقَةِ. لِقَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ (2)
كَأَنْ يُطْبِقَ شَفَتَيْهِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ
وَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَمِهِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيُمْسِكْ بِيَدِهِ عَلَى
فَمِهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُل (3) وَيَقُومُ مَقَامَ الْيَدِ كُل
مَا يَسْتُرُ الْفَمَ كَخِرْقَةٍ أَوْ ثَوْبٍ مِمَّا يَحْصُل بِهِ
الْمَقْصُودُ.
__________
(1) المصباح المنير مادة: " ثوب ".
(2) حديث: " فليرده ما استطاع " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 611 - ط
السلفية) .
(3) حديث: " إذا تثاءب أحدكم. . . " أخرجه مسلم (4 / 2293 - ط الحلبي) .
(10/140)
ثُمَّ يَخْفِضُ صَوْتَهُ وَلاَ يَعْوِي،
لِمَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ
الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَضَعْ يَدَهُ
عَلَى فِيهِ، وَلاَ يَعْوِي، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَضْحَكُ مِنْهُ (1)
ثُمَّ يُمْسِكُ عَنِ التَّمَطِّي وَالتَّلَوِّي الَّذِي يُصَاحِبُ بَعْضَ
النَّاسِ، لأَِنَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ. (2) وَقَدْ رُوِيَ: أَنَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لاَ يَتَمَطَّى، لأَِنَّهُ مِنَ
الشَّيْطَانِ (3) . .
التَّثَاؤُبُ فِي الصَّلاَةِ:
3 - التَّثَاؤُبُ فِي الصَّلاَةِ مَكْرُوهٌ، لِخَبَرِ مُسْلِمٍ: إِذَا
تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلاَةِ فَلْيَكْظِمْهُ مَا اسْتَطَاعَ،
فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُل مِنْهُ، (4) وَهَذَا إِذَا أَمْكَنَ
دَفْعُهُ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ دَفْعُهُ فَلاَ كَرَاهَةَ، وَيُغَطِّي
فَمَه بِيَدِهِ الْيُسْرَى، وَقِيل: بِإِحْدَى يَدَيْهِ. وَهُوَ رَأْيُ
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. وَلاَ شَيْءَ فِيهِ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَيُنْدَبُ كَظْمُ التَّثَاؤُبِ فِي
__________
(1) حديث: " إذا تثاءب. . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 310 ط لحلبي) وفي
الزوائد: في إسناده عبد لله بن سعيد، اتفقوا على ضعفه.
(2) ابن عابدين 1 / 433، ونهاية المحتاج 2 / 56، والآداب الشرعية 2 / 345.
(3) حديث: " كان لا يتمطى لأنه من الشيطان " عزاه ابن حجر في الفتح (10 /
613 ط السلفية) إلى الشفاء لابن سبع.
(4) حديث: إذا تثاءب أحدكم في الصلاة. . . " أخرجه مسلم (4 / 2293 ط
الحلبي)
(10/141)
الصَّلاَةِ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِذَا لَمْ
يَسْتَطِعْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَمِهِ لِلْحَدِيثِ. (1)
التَّثَاؤُبُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ:
4 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ مِنْ آدَابِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَلاَّ يَقْرَأَ
الْقُرْآنَ فِي حَال شُغْل قَلْبِهِ وَعَطَشِهِ وَنُعَاسِهِ، وَأَنْ
يَغْتَنِمَ أَوْقَاتَ نَشَاطِهِ، وَإِذَا تَثَاءَبَ يَنْبَغِي أَنْ
يُمْسِكَ عَنِ الْقِرَاءَةِ حَتَّى يَنْقَضِيَ التَّثَاؤُبُ، ثُمَّ
يَقْرَأُ، لِئَلاَّ يَتَغَيَّرَ نَظْمُ قِرَاءَتِهِ، قَال مُجَاهِدٌ:
وَهُوَ حَسَنٌ (2) وَيَدُل عَلَيْهِ مَا ثَبَتَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيُمْسِكْ
بِيَدِهِ عَلَى فَمِهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُل. (3)
__________
(1) ابن عابدين 1 / 433، ونهاية المحتاج 2 / 56، والمغني 2 / 12 ط الرياض،
وكشاف القناع 1 / 373، ومواهب الجليل 2 / 82، والدسوقي 1 / 281.
(2) التبيان في آداب حملة القرآن للنووي ص 25، 67، 68، وفتح الباري 10 /
112.
(3) حديث: " إذا تثاءب أحدكم. . . " سبق تخريجه ف: 2.
(10/141)
تَثَبُّتٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّثَبُّتُ لُغَةً: هُوَ التَّأَنِّي فِي الأَْمْرِ وَالرَّأْيِ. (1)
وَاصْطِلاَحًا: تَفْرِيغُ الْوُسْعِ وَالْجَهْدِ لِمَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ
الْحَال الْمُرَادِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّحَرِّي:
2 - التَّحَرِّي لُغَةً: الْقَصْدُ وَالطَّلَبُ. وَاصْطِلاَحًا: طَلَبُ
الشَّيْءِ بِغَالِبِ الرَّأْيِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْوُقُوفِ عَلَى
الْحَقِيقَةِ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
لِلتَّثَبُّتِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا:
أ - التَّثَبُّتُ مِنِ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ فِي الصَّلاَةِ:
3 - لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلاَةِ اسْتِقْبَال
الْقِبْلَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَل وَجْهَكَ
__________
(1) لسان العرب والمصباح مادة: " ثبت ".
(2) قواعد الفقه للمجددي ص 220، والمبسوط 10 / 185، وشرح الطحطاوي على
مراقي الفلاح ص 20.
(10/142)
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا
كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (1) (أَيْ جِهَتَهُ)
وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ أَحْوَالٌ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا
الاِسْتِقْبَال، كَصَلاَةِ الْخَوْفِ، وَالْمَصْلُوبِ، وَالْغَرِيقِ،
وَنَفْل السَّفَرِ الْمُبَاحِ وَغَيْرِهَا. (2) (ر: اسْتِقْبَال
الْقِبْلَةِ) .
ب - التَّثَبُّتُ فِي شَهَادَةِ الشُّهُودِ:
4 - يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَتَثَبَّتَ فِي شَهَادَةِ الشُّهُودِ،
وَذَلِكَ بِالسُّؤَال عَنْهُمْ سِرًّا أَوْ عَلاَنِيَةً، وَهَذَا إِذَا
لَمْ يَعْلَمْ بِعَدَالَتِهِمْ؛ لأَِنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ
بِالتَّفَحُّصِ عَنِ الْعَدَالَةِ. (3) (ر: تَزْكِيَةٌ) .
ج - التَّثَبُّتُ مِنْ رُؤْيَةِ هِلاَل شَهْرِ رَمَضَانَ:
5 - يُسْتَحَبُّ التَّثَبُّتُ مِنْ رُؤْيَةِ هِلاَل شَهْرِ رَمَضَانَ
لَيْلَةَ الثَّلاَثِينَ مِنْ شَعْبَانَ لِتَحْدِيدِ بَدْئِهِ، وَيَكُونُ
ذَلِكَ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:
الأَْوَّل: رُؤْيَةُ هِلاَلِهِ، إِذَا كَانَتِ السَّمَاءُ خَالِيَةً مِمَّا
يَمْنَعُ الرُّؤْيَةَ مِنْ غَيْمٍ أَوْ غُبَارٍ وَنَحْوِهِمَا.
الثَّانِي: إِكْمَال شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ يَوْمًا، إِذَا كَانَتِ
السَّمَاءُ غَيْرَ خَالِيَةٍ مِمَّا ذُكِرَ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ،
فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ
__________
(1) سورة البقرة / 144.
(2) البحر الرائق 1 / 299، والاختيار 1 / 46، ومواهب الجليل 1 / 507، وشرح
الروض 1 / 133، والمغني 1 / 431، 432 ط الرياض.
(3) معين الحكام 4 / 104، 105، وقليوبي وعميرة 4 / 306، وحاشية الدسوقي على
الشرح الكبير 4 / 169 وما بعدها ط عيسى الحلبي بمصر.
(10/142)
فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ
(1) وَبِهَذَا أَخَذَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ،
وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ (2) .
وَخَالَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي حَال الْغَيْمِ، فَأَوْجَبُوا اعْتِبَارَ
شَعْبَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، وَأَوْجَبُوا صِيَامَ يَوْمِ
الثَّلاَثِينَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَوَّل رَمَضَانَ، عَمَلاً بِلَفْظٍ
آخَرَ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ وَهُوَ: لاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا
الْهِلاَل، وَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ
فَاقْدُرُوا لَهُ (3)
أَيِ: احْتَاطُوا لَهُ بِالصَّوْمِ. (4) (ر: أَهِلَّةٌ) .
د - التَّثَبُّتُ مِنْ كَلاَمِ الْفُسَّاقِ:
6 - يَجِبُ التَّثَبُّتُ مِمَّا يَأْتِي بِهِ الْفُسَّاقُ مِنْ أَنْبَاءٍ،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ
فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ
فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (5) وَقَدْ قُرِئَ
__________
(1) حديث: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 /
119 - ط السلفية) .
(2) بدائع الصنائع 2 / 82 وما بعدها ط شركة المطبوعات العلمية بمصر،
والخرشي على مختصر خليل 2 / 234، 235 ط دار صادر بيروت، وحاشية الدسوقي على
الشرح الكبير 1 / 509 وما بعدها، وشرح الروض 1 / 409 ط المكتبة الإسلامية.
(3) حديث: " لا تصوموا حتى تروا الهلال. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 /
119 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 759 - ط الحلبي) .
(4) المغني لابن قدامة 3 / 90 ط الرياض.
(5) سورة الحجرات / 6.
(10/143)
فَتَثَبَّتُوا بَدَلاً مِنْ تَبَيَّنُوا
وَالْمُرَادُ بِالتَّبَيُّنِ: التَّثَبُّتُ، قِيل: إِنَّ هَذِهِ الآْيَةَ
نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، وَسَبَبُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ
سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَعَثَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ مُصَدِّقًا إِلَى بَنِي
الْمُصْطَلِقِ، فَلَمَّا أَبْصَرُوهُ أَقْبَلُوا نَحْوَهُ، فَهَابَهُمْ،
فَرَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ
أَنَّهُمْ قَدِ ارْتَدُّوا عَنِ الإِْسْلاَمِ، فَبَعَثَ نَبِيُّ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَأَمَرَهُ
أَنْ يَتَثَبَّتَ وَلاَ يَعْجَل. فَانْطَلَقَ خَالِدٌ حَتَّى أَتَاهُمْ
لَيْلاً، فَبَعَثَ عُيُونَهُ فَلَمَّا جَاءُوا أَخْبَرُوا خَالِدًا
أَنَّهُمْ مُتَمَسِّكُونَ بِالإِْسْلاَمِ، وَسَمِعُوا أَذَانَهُمْ
وَصَلاَتَهُمْ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا أَتَاهُمْ خَالِدٌ وَرَأَى صِحَّةَ مَا
ذَكَرَ عُيُونُهُ، فَعَادَ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَنَزَلَتِ الآْيَةُ، (1) وَقَال النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: التَّأَنِّي مِنَ اللَّهِ،
وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ. . (2)
__________
(1) حديث: سبب نزول آية} يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق. . . {. أخرجه
ابن جرير (26 / 124 - ط الحلبي) وإسناده ضعيف لإرساله.
(2) تفسير القرطبي 16 / 311، 312 ط دار الكتب المصرية. وحديث: " التأني من
الله والعجلة من الشيطان. . . ". رواه أبو يعلى وقال الهيثمي: رجاله رجال
الصحيح (فيض القدير للمناوي 3 / 278 - ط المكتبة التجارية) .
(10/143)
تَثْلِيثٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّثْلِيثُ: مَصْدَرُ ثَلَّثَ، وَيَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ
بِاخْتِلاَفِ مَوَاضِعِ اسْتِعْمَالِهِ، يُقَال: ثَلَّثَ الشَّيْءَ:
جَزَّأَهُ وَقَسَّمَهُ ثَلاَثَةَ أَقْسَامٍ، وَثَلَّثَ الزَّرْعَ: سَقَاهُ
الثَّالِثَةَ، وَثَلَّثَ الشَّرَابَ: طَبَخَهُ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُهُ أَوْ
ثُلُثَاهُ، وَثَلَّثَ الاِثْنَيْنِ: صَيَّرَهُمَا ثَلاَثَةً بِنَفْسِهِ.
أَمَّا فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: فَيُطْلِقُونَهُ عَلَى تَكْرَارِ
الأَْمْرِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وَعَلَى الْعَصِيرِ الَّذِي ذَهَبَ
بِالطَّبْخِ ثُلُثُهُ أَوْ ثُلُثَاهُ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّثْلِيثِ بِاخْتِلاَفِ مَوَاطِنِهِ عَلَى النَّحْوِ
التَّالِي:
أ - التَّثْلِيثُ فِي الْوُضُوءِ:
2 - يُسَنُّ التَّثْلِيثُ فِي الْوُضُوءِ عِنْدَ الأَْئِمَّةِ
الثَّلاَثَةِ،
__________
(1) لسان العرب، وتاج العروس، والصحاح في اللغة العربية، ومتن اللغة،
والرائد، مادة: " ثلث ". وابن عابدين 1 / 88، وعمدة القاري 1 / 668، 669،
670، ونهاية المحتاج 1 / 193.
(10/144)
وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ،
وَذَلِكَ بِتَكْرَارِ غَسْل الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ إِلَى
ثَلاَثِ مَرَّاتٍ مُسْتَوْعَبَاتٍ.، وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ فِي الْمَشْهُورِ
مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ. وَقِيل: الْغَسْلَةُ الثَّانِيَةُ سُنَّةٌ،
وَالثَّالِثَةُ فَضِيلَةٌ، وَقِيل: الْعَكْسُ. أَمَّا الرِّجْلاَنِ فَفِي
تَثْلِيثِ غَسْلِهِمَا فِي الْوُضُوءِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلاَنِ
مَشْهُورَانِ:
الأَْوَّل: أَنَّ الرِّجْلَيْنِ كَالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، فَتُغْسَل كُل
وَاحِدَةٍ ثَلاَثًا وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّ فَرْضَ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ
الإِْنْقَاءُ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ.
وَلاَ يُسَنُّ التَّثْلِيثُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ،
وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ، وَأَمَّا عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ فَقِيل: رَدُّ الْيَدَيْنِ ثَالِثَةً فِي مَسْحِ الرَّأْسِ
لاَ فَضِيلَةَ فِيهِ، وَذَهَبَ أَكْثَرُ عُلَمَائِهِمْ إِلَى أَنَّ رَدَّ
الْيَدَيْنِ ثَالِثَةً فَضِيلَةٌ إِذَا كَانَ فِي الْيَدَيْنِ بَلَلٌ،
وَلاَ يَسْتَأْنِفُ الْمَاءَ لِلثَّانِيَةِ وَلاَ لِلثَّالِثَةِ. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ
التَّثْلِيثَ يُسَنُّ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ، بَل يُسَنُّ التَّثْلِيثُ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ، وَالْعِمَامَةِ،
وَفِي السِّوَاكِ، وَالتَّسْمِيَةِ، وَكَذَا فِي بَاقِي السُّنَنِ
__________
(1) فتح القدير 1 / 27، وابن عابدين 1 / 80، والحطاب 1 / 249، 259، 262،
وحاشية الدسوقي 1 / 101، 102، والمجموع 1 / 432، والجمل 1 / 126، 127،
والمغني 1 / 127، 139، ونيل المآرب 1 / 65.
(10/144)
إِلاَّ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ،
وَكَذَا تَثْلِيثُ النِّيَّةِ فِي قَوْلٍ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ. (1)
وَذَهَبَ ابْنُ سِيرِينَ إِلَى مَسْحِ الرَّأْسِ مَرَّتَيْنِ. (2)
وَالأَْصْل فِيمَا ذُكِرَ، مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا، قَال: تَوَضَّأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَرَّةً مَرَّةً (3) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَرَوَى عُثْمَانُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تَوَضَّأَ ثَلاَثًا ثَلاَثًا. (4)
ثُمَّ الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلاَثِ الْمُسْتَوْعَبَةِ مَعَ اعْتِقَادِ
سُنِّيَّةِ الثَّلاَثِ لاَ بَأْسَ بِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي
رِوَايَةٍ. وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الأَْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ، وَهُوَ
رِوَايَةٌ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهَا تُكْرَهُ. (5)
ب - التَّثْلِيثُ فِي الْغُسْل:
3 - يُسَنُّ التَّثْلِيثُ فِي الْغُسْل عِنْدَ الأَْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ
كَالْوُضُوءِ، فَيَغْسِل رَأْسَهُ ثَلاَثًا، ثُمَّ شِقَّهُ الأَْيْمَنَ
__________
(1) الجمل 1 / 126، 127، والمجموع 1 / 431، 432، والمغني 1 / 127.
(2) المجموع 1 / 432.
(3) حديث: " توضأ النبي صلى الله عليه وسلم مرة مرة. . . " أخرجه البخاري
(الفتح 1 / 258 - ط السلفية) .
(4) حديث عثمان: " أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا. . . . ".
أخرجه البخاري (الفتح 1 / 259 - ط السلفية) .
(5) فتح القدير 1 / 27، وابن عابدين 1 / 81، والحطاب 1 / 259، 262، وحاشية
الدسوقي 1 / 101، 102، والمجموع 1 / 440، والجمل على شرح المنهج 1 / 127،
والمغني 1 / 140، والمبدع في شرح المقنع 1 / 111.
(10/145)
ثَلاَثًا، ثُمَّ شِقَّهُ الأَْيْسَرَ
ثَلاَثًا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّثْلِيثَ مُسْتَحَبٌّ فِي
الْغُسْل، وَإِنْ لَمْ تَكْفِ الثَّلاَثُ زَادَ إِلَى الْكِفَايَةِ. (1)
وَالأَْصْل فِي هَذَا الْبَابِ، مَا رَوَتْهُ عَائِشَةُ: رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِذَا اغْتَسَل مِنَ الْجَنَابَةِ غَسَل يَدَيْهِ ثَلاَثًا، وَتَوَضَّأَ
وُضُوءَهُ لِلصَّلاَةِ، ثُمَّ يُخَلِّل شَعْرَهُ بِيَدِهِ، حَتَّى إِذَا
ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ رَوَى بَشَرَتَهُ أَفَاضَ الْمَاءَ عَلَيْهِ ثَلاَثَ
مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَل سَائِرَ جَسَدِهِ. (2)
ج - التَّثْلِيثُ فِي غُسْل الْمَيِّتِ:
4 - يُسْتَحَبُّ التَّثْلِيثُ فِي غُسْل الْمَيِّتِ عِنْدَ الأَْئِمَّةِ
الثَّلاَثَةِ، وَيُسَنُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى
جَوَازِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ فِي غُسْل الْمَيِّتِ
النَّظَافَةُ وَالإِْنْقَاءُ، فَإِنْ لَمْ يَحْصُل التَّنْظِيفُ
بِالْغَسَلاَتِ الثَّلاَثِ زِيدَ عَلَيْهَا حَتَّى يَحْصُل، مَعَ جَعْل
الْغَسَلاَتِ وِتْرًا. (3)
__________
(1) فتح القدير 1 / 51، وابن عابدين 1 / 107، والحطاب 1 / 316، ونهاية
المحتاج 1 / 227، والجمل 1 / 164، والمغني 1 / 217، ونيل المآرب 1 / 78.
(2) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل. . . . . " أخرجه
البخاري (الفتح 1 / 382 - ط السلفية) . ومسلم (1 / 258 - ط الحلبي) .
بمعناه مختصرا.
(3) فتح القدير 2 / 73، 74، وابن عابدين 1 / 575، والحطاب 2 / 208، 222
ونهاية المحتاج 2 / 446، والأم 1 / 264، والمغني 2 / 458، 459، 460، 461.
(10/145)
وَالأَْصْل فِيمَا ذُكِرَ، خَبَرُ
الشَّيْخَيْنِ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال لِغَاسِلاَتِ ابْنَتِهِ زَيْنَبَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا:
ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا، وَاغْسِلْنَهَا
ثَلاَثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ
رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الآْخِرَةِ
كَافُورًا، أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ. (1)
وَكَذَا يُسْتَحَبُّ التَّثْلِيثُ، وَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ عِنْدَ
جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي تَجْمِيرِ الْمَيِّتِ (2) وَكَفَنِ الْمَيِّتِ،
وَالْمَيِّتُ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَسَرِيرِهِ الَّذِي يُوضَعُ فِيهِ. (3)
وَالأَْصْل فِيمَا ذُكِرَ، مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ إِذَا أَجْمَرْتُمُ الْمَيِّتَ فَأَجْمِرُوهُ ثَلاَثًا. وَفِي
لَفْظٍ فَأَوْتِرُوا. وَفِي لَفْظِ الْبَيْهَقِيِّ: جَمِّرُوا كَفَنَ
الْمَيِّتِ ثَلاَثًا. (4)
__________
(1) حديث: " ابدأن بميامنها. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 130، 134 - ط
السلفية) . ومسلم (2 / 646، 648 - ط الحلبي) .
(2) التجمير والإجمار. التطيب: أي: يدار المجمر حوالي الميت وأكفانه
وسريره. (فتح القدير 2 / 72) .
(3) حديث: " إذا أجمرتم الميت فأجمروه ثلاثا. . . " أخرجه أحمد (3 / 331 -
ط الميمنية) والحاكم (1 / 355 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه
الذهبي. وأعل البيهقي اللفظ الثاني وهو قوله: " جمروا كفن الميت ثلاثا. . .
" كما في سننه (3 / 405 - ط دائرة المعارف العثمانية) .
(4) المبسوط 2 / 59، 60، وفتح القدير 2 / 72، وابن عابدين 1 / 574، والحطاب
2 / 24، والجمل 2 / 145، 147، والمغني 2 / 457.
(10/146)
د - التَّثْلِيثُ فِي الاِسْتِجْمَارِ
وَالاِسْتِبْرَاءِ:
5 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي
الاِسْتِجْمَارِ الإِْنْقَاءُ دُونَ الْعَدَدِ.، وَمَعْنَى الإِْنْقَاءِ
هُنَا هُوَ إِزَالَةُ عَيْنِ النَّجَاسَةِ وَبِلَّتُهَا، بِحَيْثُ يَخْرُجُ
الْحَجَرُ نَقِيًّا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَثَرٌ إِلاَّ شَيْئًا يَسِيرًا.
وَأَمَّا التَّثْلِيثُ فَمُسْتَحَبٌّ عِنْدَهُمْ وَإِنْ حَصَل الإِْنْقَاءُ
بِاثْنَيْنِ، بَيْنَمَا يَشْتَرِطُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي
الاِسْتِجْمَارِ أَمْرَيْنِ: الإِْنْقَاءَ وَإِكْمَال الثَّلاَثَةِ،
أَيُّهُمَا وُجِدَ دُونَ صَاحِبِهِ لَمْ يَكْفِ، وَالْحَجَرُ الْكَبِيرُ
الَّذِي لَهُ ثَلاَثُ شُعَبٍ يَقُومُ مَقَامَ ثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ. (1)
كَذَلِكَ قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ نَتْرُ
الذَّكَرِ ثَلاَثًا بَعْدَ الْبَوْل (2) لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِذَا بَال أَحَدُكُمْ
فَلْيَنْتُرْ ذَكَرَهُ ثَلاَثًا. (3)
وَتَفْصِيل أَحْكَامِ الاِسْتِجْمَارِ وَالاِسْتِبْرَاءِ فِي مُصْطَلَحَيِ
(اسْتِنْجَاءٌ) (وَاسْتِبْرَاءٌ) .
__________
(1) فتح القدير 1 / 187، 188، 189، والطحطاوي 1 / 165، والحطاب 1 / 270،
وحاشية الدسوقي 1 / 106، ونهاية المحتاج 1 / 143، والمغني 1 / 152، 158،
ونيل المآرب 1 / 49.
(2) ابن عابدين 1 / 220، والحطاب 1 / 282، وحاشية الدسوقي 1 / 110، ونهاية
المحتاج 1 / 141، 142، والمغني 1 / 152، 155.
(3) حديث: " إذا بال أحدكم. . . . . " أخرجه أحمد (4 / 347 - ط الميمنية)
من حديث يزداد بن فساءة. وإسناده ضعيف لإرساله وجهالة أحد رواته، (فيض
القدير 1 / 311 - ط المكتبة التجارية) .
(10/146)
هَذَا، وَيُسْتَحَبُّ التَّثْلِيثُ عِنْدَ
جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ فِي غَسْل النَّجَاسَاتِ غَيْرِ الْمَرْئِيَّةِ،
وَكَذَلِكَ إِزَالَةُ النَّجَاسَاتِ الْمَرْئِيَّةِ عِنْدَ بَعْضِ
الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْحَنَابِلَةِ. وَأَمَّا
الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ فَلاَ
يَشْتَرِطُونَ الْعَدَدَ فِيمَا سِوَى نَجَاسَةِ وُلُوغِ الْكَلْبِ.،
وَنَجَاسَةُ الْخِنْزِيرِ كَنَجَاسَةِ الْكَلْبِ فِي ذَلِكَ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. (1)
هـ - التَّثْلِيثُ فِي تَسْبِيحَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ:
6 - يُسَنُّ التَّثْلِيثُ عِنْدَ الأَْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ فِي تَسْبِيحِ
الرُّكُوعِ، وَهُوَ " سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ "، وَتَسْبِيحِ
السُّجُودِ، وَهُوَ " سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَْعْلَى ". وَتُسْتَحَبُّ
عِنْدَهُمُ الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلاَثِ بَعْدَ أَنْ يَخْتِمَ عَلَى
وِتْرٍ، خَمْسٍ، أَوْ سَبْعٍ، أَوْ تِسْعٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ، أَوْ إِحْدَى عَشْرَةَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. هَذَا
إِذَا كَانَ مُنْفَرِدًا، وَأَمَّا الإِْمَامُ فَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ
يُطَوِّل عَلَى وَجْهٍ يَمَل الْقَوْمُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تُكْرَهُ
لِلإِْمَامِ الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلاَثِ. (2)
وَالأَْصْل فِي هَذَا مَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَال: إِذَا رَكَعَ أَحَدُكُمْ فَقَال فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ رَبِّيَ
الْعَظِيمِ
__________
(1) المبسوط 1 / 93، وفتح القدير 1 / 185، 186، والحطاب 1 / 159، ونهاية
المحتاج 1 / 171، والمغني 1 / 54، 55.
(2) المبسوط 1 / 21، والطحطاوي 1 / 213، وفتح القدير 1 / 259، 267، ونهاية
المحتاج 1 / 499، 515، والمغني 1 / 501، 521، ونيل المآرب 1 / 141.
(10/147)
ثَلاَثًا فَقَدْ تَمَّ رُكُوعُهُ، وَذَلِكَ
أَدْنَاهُ. وَمَنْ قَال فِي سُجُودِهِ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَْعْلَى
ثَلاَثًا فَقَدْ تَمَّ سُجُودُهُ، وَذَلِكَ أَدْنَاهُ. (1)
وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَيُنْدَبُ التَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ، وَلَمْ يَحُدُّوا فِيهِ حَدًّا، وَلاَ
دُعَاءً مَخْصُوصًا. (2)
و التَّثْلِيثُ فِي الاِسْتِئْذَانِ:
7 - إِذَا اسْتَأْذَنَ شَخْصٌ عَلَى آخَرَ وَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ،
فَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّثْلِيثِ، وَيُسَنُّ عَدَمُ
الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلاَثِ عِنْدَ الأَْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ.
وَقَال الإِْمَامُ مَالِكٌ: لَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلاَثِ حَتَّى
يَتَحَقَّقَ مِنْ سَمَاعِهِ.
وَأَمَّا إِذَا اسْتَأْذَنَ فَتَحَقَّقَ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ،
فَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلاَثِ وَتَكْرِيرِ
الاِسْتِئْذَانِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ إِسْمَاعُهُ. (3)
__________
(1) حديث: " إذا ركع أحدكم. . . " أخرجه الترمذي (2 / 47 - ط الحلبي) من
طريق عون بن عبد الله بن عتبة عن ابن مسعود وقال: ليس إسناده بمتصل، عون بن
عبد الله لم يلق ابن مسعود.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 248، والحطاب 1 / 538.
(3) عمدة القاري 22 / 241، وتفسير القرطبي 12 / 214، وأحكام الجصاص 3 /
382، وبدائع الصنائع 5 / 124، 125.
(10/147)
تَثْنِيَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّثْنِيَةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ: ثَنَّى، يُقَال: ثَنَّيْتُ
الشَّيْءَ: إِذَا جَعَلْتَهُ اثْنَيْنِ، وَيَأْتِي أَيْضًا بِمَعْنَى
الضَّمِّ، فَإِذَا فَعَل الرَّجُل أَمْرًا ثُمَّ ضَمَّ إِلَيْهِ آخَرَ
قِيل: ثَنَّى بِالأَْمْرِ الثَّانِي. (1) وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى
الاِصْطِلاَحِيُّ لِلَفْظِ تَثْنِيَةٍ عَمَّا وَرَدَ فِي اللُّغَةِ.
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
2 - وَرَدَتِ التَّثْنِيَةُ فِي الأَْذَانِ، وَالإِْقَامَةِ، وَفِي صَلاَةِ
النَّفْل، وَمِنْهَا الرَّوَاتِبُ مَعَ الْفَرَائِضِ، وَفِي صَلاَةِ
اللَّيْل، لِخَبَرِ: صَلاَةُ اللَّيْل مَثْنَى مَثْنَى. (2) وَفِي
الْعَقِيقَةِ لِلذَّكَرِ، وَالشَّهَادَةِ فِي أَغْلَبِ الأُْمُورِ
كَالنِّكَاحِ، وَالطَّلاَقِ، وَالإِْسْلاَمِ، وَالْمَوْتِ، وَتَفْصِيل
كُلٍّ فِي مَوْطِنِهِ.
__________
(1) لسان العرب 1 / 378، والمصباح المنير 1 / 94 مادة: " ثنى ".
(2) حديث: " صلاة الليل مثنى مثنى. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 477 - ط
السلفية) . ومسلم (1 / 516 - ط الحلبي) .
(10/148)
تَثْوِيبٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّثْوِيبُ: مَصْدَرُ ثَوَّبَ يُثَوِّبُ، وَثُلاَثِيُّهُ ثَابَ
يَثُوبُ، بِمَعْنَى: رَجَعَ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ جَعَلْنَا
الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} (1) أَيْ مَكَانًا يَرْجِعُونَ
إِلَيْهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: ثَابَ إِلَى فُلاَنٍ عَقْلُهُ: أَيْ
رَجَعَ. وَمِنْهُ أَيْضًا: الثَّوَابُ؛ لأَِنَّ مَنْفَعَةَ عَمَل الشَّخْصِ
تَعُودُ إِلَيْهِ. (2)
وَالتَّثْوِيبُ: بِمَعْنَى تَرْجِيعِ الصَّوْتِ وَتَرْدِيدِهِ، وَمِنْهُ
التَّثْوِيبُ فِي الأَْذَانِ. (3)
وَالتَّثْوِيبُ فِي الاِصْطِلاَحِ: الْعَوْدُ إِلَى الإِْعْلاَمِ
بِالصَّلاَةِ بَعْدَ الإِْعْلاَمِ الأَْوَّل بِنَحْوِ: " الصَّلاَةُ خَيْرٌ
مِنَ النَّوْمِ " أَوِ " الصَّلاَةَ الصَّلاَةَ " أَوِ " الصَّلاَةُ
حَاضِرَةٌ " أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ بِأَيِّ لِسَانٍ كَانَ، وَقَدْ كَانَتْ
تُسَمَّى تَثْوِيبًا فِي الْعَهْدِ النَّبَوِيِّ وَعَهْدِ
__________
(1) سورة البقرة / 125.
(2) تاج العروس، والمغرب ولسان العرب مادة: " ثوب "، وفتح القدير 1 / 214 ط
دار إحياء التراث العربي، والحطاب 1 / 431 - 432 ط دار الفكر.
(3) تاج العروس والمغرب مادة: " ثوب "، والحطاب 1 / 432 ط دار الفكر.
(10/148)
الصَّحَابَةِ. (1) لأَِنَّ فِيهِ
تَكْرِيرًا لِمَعْنَى الْحَيْعَلَتَيْنِ، أَوْ لأَِنَّهُ لَمَّا حَثَّ
عَلَى الصَّلاَةِ بِقَوْلِهِ: حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ، ثُمَّ قَال: حَيَّ
عَلَى الْفَلاَحِ، عَادَ إِلَى الْحَثِّ عَلَى الصَّلاَةِ بِقَوْلِهِ: "
الصَّلاَةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ ".
وَلِلتَّثْوِيبِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ ثَلاَثَةُ إِطْلاَقَاتٍ:
أ - التَّثْوِيبُ الْقَدِيمُ، أَوِ التَّثْوِيبُ الأَْوَّل، وَهُوَ:
زِيَادَةُ " الصَّلاَةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ " فِي أَذَانِ الْفَجْرِ.
ب - التَّثْوِيبُ الْمُحْدَثُ وَهُوَ: زِيَادَةُ حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ،
حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ، أَوْ عِبَارَةٍ أُخْرَى. حَسَبَ مَا تَعَارَفَهُ
أَهْل كُل بَلْدَةٍ بَيْنَ الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ.
ج - مَا كَانَ يَخْتَصُّ بِهِ بَعْضُ مَنْ يَقُومُ بِأُمُورِ
الْمُسْلِمِينَ وَمَصَالِحِهِمْ مِنْ تَكْلِيفِ شَخْصٍ بِإِعْلاَمِهِمْ
بِوَقْتِ الصَّلاَةِ، فَذَلِكَ الإِْعْلاَمُ أَوِ النِّدَاءُ يُطْلَقُ
عَلَيْهِ أَيْضًا (تَثْوِيبٌ) (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - النِّدَاءُ:
2 - النِّدَاءُ بِمَعْنَى: الدُّعَاءِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ بِمَا لَهُ
__________
(1) المغني 1 / 408 ط الرياض.
(2) المبسوط 1 / 128 ط دار المعرفة، وبدائع الصنائع 1 / 148 ط دار الكتاب
العربي، والكفاية على هامش فتح القدير 1 / 214 ط دار إحياء التراث العربي،
والحطاب 1 / 431 - 432 ط دار الفكر، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 1 /
409 ط مصطفى البابي الحلبي.
(10/149)
مَعْنًى (1) . فَالنِّدَاءُ وَالتَّثْوِيبُ
يَتَّفِقَانِ فِي الدُّعَاءِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ، لَكِنَّ النِّدَاءَ
أَعَمُّ مِنَ التَّثْوِيبِ.
ب - الدُّعَاءُ:
3 - الدُّعَاءُ بِمَعْنَى: الطَّلَبِ، وَيَكُونُ بِرَفْعِ الصَّوْتِ
وَخَفْضِهِ، كَمَا يُقَال: دَعَوْتُهُ مِنْ بَعِيدٍ، وَدَعَوْتُ اللَّهَ
فِي نَفْسِي. (2) فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ النِّدَاءِ وَالتَّثْوِيبِ.
ج - التَّرْجِيعُ:
4 - يُقَال: رَجَّعَ فِي أَذَانِهِ إِذَا أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ مَرَّةً
خَفْضًا وَمَرَّةً رَفْعًا، (3) فَالتَّثْوِيبُ وَالتَّرْجِيعُ
يَتَّفِقَانِ فِي الْعَوْدِ وَالتَّكْرِيرِ، وَلَكِنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ
فِي أَنَّ مَحَل التَّثْوِيبِ (وَهُوَ قَوْل الْمُؤَذِّنِ: " الصَّلاَةُ
خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ ") فِي أَذَانِ الْفَجْرِ عِنْدَ أَكْثَرِ
الْفُقَهَاءِ، أَمَّا التَّرْجِيعُ بِمَعْنَى تَكْرَارِ الشَّهَادَتَيْنِ
فَذَلِكَ فِي الأَْذَانِ لِجَمِيعِ الصَّلَوَاتِ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِهِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
5 - يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ لِلتَّثْوِيبِ بِاخْتِلاَفِ
إِطْلاَقَاتِهِ وَبِاخْتِلاَفِ أَوْقَاتِ الصَّلاَةِ.
__________
(1) المصباح المنير مادة: " ندا "، والفروق في اللغة ص 29 و 30 ط دار
الآفاق الجديدة.
(2) المراجع السابقة.
(3) المصباح المنير مادة: " رجع ".
(10/149)
أَمَّا التَّثْوِيبُ فِي الْقَدِيمِ، أَوِ
التَّثْوِيبُ الأَْوَّل، وَهُوَ زِيَادَةُ عِبَارَةِ: " الصَّلاَةُ خَيْرٌ
مِنَ النَّوْمِ " مَرَّتَيْنِ بَعْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ فِي أَذَانِ
الْفَجْرِ أَوْ بَعْدَهُ (عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ)
فَسُنَّةٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، وَجَائِزَةٌ فِي الْعِشَاءِ عِنْدَ
بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ. (1) وَأَجَازَهُ بَعْضُ
الشَّافِعِيَّةِ فِي جَمِيعِ الأَْوْقَاتِ. (2) أَمَّا عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَمَكْرُوهٌ فِي غَيْرِ الْفَجْرِ،
وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. (3)
التَّثْوِيبُ فِي أَذَانِ الْفَجْرِ:
6 - مِنَ الْمُقَرَّرِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ - عَدَا أَبِي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ - أَنَّ الْمَشْرُوعَ لِلْفَجْرِ أَذَانَانِ:
أَحَدُهُمَا قَبْل وَقْتِهَا
وَالثَّانِي عِنْدَ وَقْتِهَا. وَقَدْ قَال النَّوَوِيُّ: ظَاهِرُ
إِطْلاَقِ الأَْصْحَابِ أَنَّهُ يُشْرَعُ فِي كُل أَذَانٍ لِلصُّبْحِ
سَوَاءٌ مَا قَبْل الْفَجْرِ وَبَعْدَهُ. وَقَال الْبَغَوِيُّ فِي
التَّهْذِيبِ: إِنْ ثَوَّبَ فِي الأَْذَانِ الأَْوَّل لَمْ يُثَوِّبْ فِي
الثَّانِي فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ. وَمِنْ مُرَاجَعَةِ كُتُبِ بَقِيَّةِ
الْفُقَهَاءِ الْقَائِلِينَ بِمَشْرُوعِيَّةِ أَذَانَيْنِ لِلْفَجْرِ
تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِأَنَّ التَّثْوِيبَ يُشْرَعُ فِي
الأَْذَانِ الأَْوَّل أَوِ الثَّانِي أَوْ فِي كِلَيْهِمَا،
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 148 ط دار الكتاب العربي، والمجموع 3 / 97 - 98 ط
المكتبة السلفية.
(2) المجموع 3 / 97 - 98 ط المكتبة السلفية.
(3) كشاف القناع 1 / 215، والمغني 1 / 408، والحطاب 1 / 431، والمجموع 3 /
97، وبدائع الصنائع 1 / 148.
(10/150)
فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَكُونُ فِي
الأَْذَانَيْنِ كَمَا اسْتَظْهَرَ النَّوَوِيُّ (1) .
7 - وَأَمَّا التَّثْوِيبُ الْمُحْدَثُ وَهُوَ الَّذِي اسْتَحْدَثَهُ
عُلَمَاءُ الْكُوفَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ زِيَادَةُ عِبَارَةِ "
حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ مَرَّتَيْنِ " بَيْنَ
الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ فِي الْفَجْرِ أَوْ زِيَادَةُ عِبَارَةٍ
بِحَسَبِ مَا يَتَعَارَفُهُ أَهْل كُل بَلْدَةٍ بِالتَّنَحْنُحِ أَوِ "
الصَّلاَةُ الصَّلاَةُ " أَوْ " قَامَتْ، قَامَتْ " أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ
فَمُسْتَحْسَنٌ عِنْدَ مُتَقَدِّمِي الْحَنَفِيَّةِ فِي الْفَجْرِ فَقَطْ،
إِلاَّ أَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمُ اسْتَحْسَنُوهُ فِي الصَّلَوَاتِ
كُلِّهَا. (2)
وَأَمَّا تَخْصِيصُ مَنْ يَقُومُ بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ وَمَصَالِحِهِمْ
كَالإِْمَامِ وَنَحْوِهِ بِتَكْلِيفِ شَخْصٍ لِيَقُومَ بِإِعْلاَمِهِ
بِوَقْتِ الصَّلاَةِ فَجَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ،
وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَكَذَلِكَ
عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِنْ لَمْ يَكُنِ الإِْمَامُ وَنَحْوُهُ قَدْ سَمِعَ
الأَْذَانَ (3) وَكَرِهَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَبَعْضُ
الْمَالِكِيَّةِ. (4)
__________
(1) اللجنة ترى: أن المعمول به الآن من تخصيص الأذان الثاني للفجر بالتثويب
أقوى، لما فيه من تتابع عمل المسلمين، وهو مرجح.
(2) بدائع الصنائع 1 / 148، وفتح القدير 1 / 214.
(3) بدائع الصنائع 1 / 148، والمهذب 1 / 99، وكشاف القناع 1 / 215.
(4) فتح القدير 1 / 214، والحطاب 1 / 431.
(10/150)
تِجَارَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التِّجَارَةُ فِي اللُّغَةِ وَالاِصْطِلاَحِ: هِيَ تَقْلِيبُ الْمَال،
أَيْ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لِغَرَضِ الرِّبْحِ. (1) وَهِيَ فِي
الأَْصْل: مَصْدَرٌ دَالٌّ عَلَى الْمِهْنَةِ، وَفِعْلُهُ تَجَرَ يَتْجُرُ
تَجْرًا وَتِجَارَةً.
دَلِيل مَشْرُوعِيَّةِ التِّجَارَةِ:
2 - الأَْصْل فِي التِّجَارَةِ: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ
تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (2) وقَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا
قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَْرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْل
اللَّهِ} . (3)
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: التَّاجِرُ الأَْمِينُ
الصَّدُوقُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ. (4)
__________
(1) تاج العروس مادة: " تجر ".
(2) سورة النساء / 29.
(3) سورة الجمعة / 10.
(4) حديث: " التاجر الأمين الصدوق مع النبيين. . . " أخرجه الترمذي (3 /
506 - ط الحلبي) وإسناده ضعيف فيه انقطاع. (فيض القدير 3 / 278 - ط المكتبة
التجارية) .
(10/151)
3 - وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى
جَوَازِ التِّجَارَةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَتَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ، لأَِنَّ
النَّاسَ يَحْتَاجُ بَعْضُهُمْ إِلَى مَا فِي أَيْدِي بَعْضٍ، وَهَذِهِ
سُنَّةُ الْحَيَاةِ، وَتَشْرِيعُ التِّجَارَةِ وَتَجْوِيزُهَا هُوَ
الطَّرِيقُ إِلَى وُصُول كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَى غَرَضِهِ، وَدَفْعِ
حَاجَتِهِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْبَيْعُ:
4 - الْبَيْعُ: مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ تَمْلِيكًا وَتَمَلُّكًا، أَمَّا
التِّجَارَةُ فَهِيَ: عِبَارَةٌ عَنْ شِرَاءِ الشَّخْصِ شَيْئًا
لِيَبِيعَهُ بِالرِّبْحِ. فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا قَصْدُ الاِسْتِرْبَاحِ
فِي التِّجَارَةِ، سَوَاءٌ تَحَقَّقَ أَمْ لاَ.
ب - السَّمْسَرَةُ:
5 - السَّمْسَرَةُ لُغَةً: هِيَ التِّجَارَةُ، قَال الْخَطَّابِيُّ:
السِّمْسَارُ لَفْظٌ أَعْجَمِيٌّ، وَكَانَ كَثِيرٌ مِمَّنْ يُعَالِجُ
الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ فِيهِمْ عَجَمًا، فَتَلَقَّوْا هَذَا الاِسْمَ
عَنْهُمْ، فَغَيَّرَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(2) إِلَى التِّجَارَةِ الَّتِي هِيَ مِنَ الأَْسْمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ.
(3)
__________
(1) المغني 3 / 560.
(2) حديث: " كان اسم التجار سماسرة فغيره رسول الله صلى الله عليه وسلم. .
. . . " أخرجه الترمذي (3 / 505 - ط الحلبي) والحاكم (2 / 7 - ط دائرة
المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(3) تحفة الأحوذي 4 / 398.
(10/151)
وَالسَّمْسَرَةُ اصْطِلاَحًا: هِيَ
التَّوَسُّطُ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، وَالسِّمْسَارُ هُوَ:
الَّذِي يَدْخُل بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي مُتَوَسِّطًا
لإِِمْضَاءِ الْبَيْعِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى الدَّلاَّل، لأَِنَّهُ يَدُل
الْمُشْتَرِيَ عَلَى السِّلَعِ، وَيَدُل الْبَائِعَ عَلَى الأَْثْمَانِ (1)
.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - التِّجَارَةُ مِنَ الْمِهَنِ الْمَعِيشِيَّةِ، الَّتِي يُمَارِسُهَا
الإِْنْسَانُ بِغَرَضِ الْكَسْبِ، وَهُوَ كَسْبٌ مَشْرُوعٌ لأَِنَّهُ
يَسُدُّ حَاجَاتِ الْمُجْتَمَعِ فَتَدْخُل أَصَالَةً فِي دَائِرَةِ
الإِْبَاحَةِ، وَقَدْ تَطْرَأُ عَلَيْهَا سَائِرُ الأَْحْكَامِ
التَّكْلِيفِيَّةِ: كَالْوُجُوبِ، وَالْحُرْمَةِ، وَالْكَرَاهَةِ إِلَخْ.
حَسَبَ الظُّرُوفِ وَالْمُلاَبَسَاتِ الَّتِي تُصَادِفُهَا.
وَيَعْنِي الْفُقَهَاءُ بِالأَْحْكَامِ الْمُتَّصِلَةِ بِالتِّجَارَةِ
(بِالإِْضَافَةِ إِلَى كُتُبِ الْفِقْهِ الأَْسَاسِيَّةِ) بِمَا
يُورِدُونَهُ فِي كُتُبِ الْحِسْبَةِ، وَكُتُبِ الآْدَابِ الشَّرْعِيَّةِ
وَكُتُبِ الْفَتَاوَى، وَخَصَّهَا بَعْضُهُمْ بِالتَّأْلِيفِ
كَالسَّرَخْسِيِّ فِي كِتَابِهِ " الاِكْتِسَابُ فِي الرِّزْقِ
الْمُسْتَطَابِ "، وَأَبُو بَكْرٍ الْخَلاَّل فِي " كِتَابِ التِّجَارَةِ
". وَقَدِ اُسْتُحْدِثَتْ أَوْضَاعٌ وَتَنْظِيمَاتٌ تِجَارِيَّةٌ يُعْرَفُ
حُكْمُهَا مِمَّا وَضَعَهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ قَوَاعِدَ عَامَّةٍ وَمَا
تَعَرَّضُوا إِلَيْهِ مِنْ أَحْكَامٍ.
كَمَا يَتَنَاوَل الْفُقَهَاءُ بَعْضَ أَحْكَامٍ خَاصَّةٍ بِمَال
التِّجَارَةِ فِي بَابِ زَكَاةِ الْعُرُوضِ، كَوُجُوبِ الزَّكَاةِ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 39.
(10/152)
فِيمَا لاَ تَجِبُ فِيهِ زَكَاةٌ لَوْ لَمْ
يَكُنْ لِلتِّجَارَةِ، كَالْبَزِّ وَالْعَقَارَاتِ، وَتَغَيُّرِ النَّوْعِ
الْمُخْرَجِ وَقَدْرِهِ فِيمَا كَانَ زَكَوِيًّا مِنَ الْمَال فِي الأَْصْل
إِذَا صَارَ لِلتِّجَارَةِ، كَالنَّعَمِ وَالْمُعَشَّرَاتِ.، وَتَرِدُ
بَعْضُ أَحْكَامٍ لِلتِّجَارَةِ فِي الْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَاتِ
الأُْخْرَى.
فَضْل التِّجَارَةِ:
7 - التِّجَارَةُ مِنْ أَفْضَل طُرُقِ الْكَسْبِ، وَأَشْرَفِهَا إِذَا
تَوَقَّى التَّاجِرُ طُرُقَ الْكَسْبِ الْحَرَامِ وَالْتَزَمَ بِآدَابِهَا.
جَاءَ فِي الأَْثَرِ: سُئِل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَيُّ الْكَسْبِ أَطْيَبُ؟ فَقَال: عَمَل الرَّجُل بِيَدِهِ وَكُل بَيْعٍ
مَبْرُورٍ (1) قَال الشَّرْقَاوِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ: قَوْلُهُ: " وَكُل
بَيْعٍ مَبْرُورٍ " إِشَارَةٌ إِلَى التِّجَارَةِ. (2)
الْمَحْظُورَاتُ فِي التِّجَارَةِ:
8 - يَحْرُمُ فِي التِّجَارَةِ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْغِشِّ وَالْخِدَاعِ،
وَتَرْوِيجُ السِّلْعَةِ بِالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ. فَعَنْ رِفَاعَةَ بْنِ
رَافِعٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُصَلَّى، فَرَأَى النَّاسَ
يَتَبَايَعُونَ فَقَال: يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ فَاسْتَجَابُوا لِرَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَفَعُوا أَعْنَاقَهُمْ
وَأَبْصَارَهُمْ إِلَيْهِ، فَقَال: إِنَّ
__________
(1) حديث: " أطيب الكسب عمل الرجل بيده. . . . ". أخرجه أحمد (4 / 141 - ط
الميمنية) . وقال ابن حجر: رجاله لا بأس بهم. (فيض القدير 1 / 547 - ط
المكتبة التجارية) .
(2) حاشية الشرقاوي على التحرير 2 / 3 ط عيسى الحلبي.
(10/152)
التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ فُجَّارًا، إِلاَّ مَنِ اتَّقَى اللَّهَ وَبَرَّ وَصَدَقَ.
(1)
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَال: ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،
وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ،
قُلْتُ: مَنْ هُمْ يَا رَسُول اللَّهِ؟ فَقَدْ خَسِرُوا وَخَابُوا: قَال:
الْمَنَّانُ، وَالْمُسْبِل إِزَارَهُ، وَالْمُنْفِقُ سِلْعَتَهُ
بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ. (2)
9 - وَمِنَ الْمَحْظُورَاتِ تَلَقِّي الْجَلَبِ: وَهُوَ أَنْ يَسْتَقْبِل
الْحَضَرِيُّ الْبَدَوِيَّ، قَبْل وُصُولِهِ إِلَى السُّوقِ لِيَشْتَرِيَ
مِنْهُ سِلْعَتَهُ بِأَقَل مِنَ الثَّمَنِ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ
(تَلَقِّي الرُّكْبَانِ) .
10 - وَمِنْهَا الاِحْتِكَارُ: لِحَدِيثِ: الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ،
وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ. (3) وَحَدِيثِ: لاَ يَحْتَكِرُ إِلاَّ خَاطِئٌ
(4) وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (احْتِكَارٌ) .
__________
(1) حديث: " إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارا. . . " أخرجه الترمذي (3 /
506 - ط الحلبي) وفي إسناده جهالة. (ميزان الاعتدال للذهبي 1 / 238 - ط
الحلبي) .
(2) حديث: " ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة. . . " أخرجه مسلم (1 /
103 - ط الحلبي) .
(3) حديث: " الجالب مرزوق والمحتكر ملعون. . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 728 -
ط الحلبي بتعليق من فؤاد عبد الباقي) . وقال البوصيري في الزوائد: في
إسناده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف.
(4) حديث: " لا يحتكر إلا خاطئ. . . " أخرجه مسلم (3 / 1228 - ط الحلبي) .
(10/153)
11 - وَمِنْهَا: سَوْمُ الْمَرْءِ عَلَى
سَوْمِ أَخِيهِ: وَهُوَ أَنْ يَتَفَاوَضَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي ثَمَنِ
السِّلْعَةِ، وَيَتَقَارَبَ الاِنْعِقَادُ، فَيَجِيءَ آخَرُ يُرِيدُ أَنْ
يَشْتَرِيَ تِلْكَ السِّلْعَةَ وَيُخْرِجَهَا مِنْ يَدِ الأَْوَّل
بِزِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ الثَّمَنِ. (1)
12 - وَمِنْهَا: الْمُتَاجَرَةُ مَعَ الْعَدُوِّ بِمَا فِيهِ
تَقْوِيَتُهُمْ عَلَى حَرْبِنَا كَالسِّلاَحِ وَالْحَدِيدِ، وَلَوْ بَعْدَ
صُلْحٍ، لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ذَلِكَ،
وَيَجُوزُ الْمُتَاجَرَةُ مَعَهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ، إِذَا لَمْ يَكُنِ
الْمُسْلِمُونَ فِي حَاجَةٍ إِلَيْهِ. (2)
آدَابُ التِّجَارَةِ:
13 - مِنْ آدَابِ التِّجَارَةِ: السَّمَاحَةُ فِي الْمُعَامَلَةِ،
وَاسْتِعْمَال مَعَالِي الأَْخْلاَقِ، وَتَرْكُ الْمُشَاحَّةِ
وَالتَّضْيِيقِ عَلَى النَّاسِ بِالْمُطَالَبَةِ.
وَالآْثَارُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا حَدِيثُ جَابِرِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى،
وَإِذَا اقْتَضَى (3) وَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: غَفَرَ اللَّهُ لِرَجُلٍ كَانَ
__________
(1) لسان العرب: مادة: " سوم "، والمغني 4 / 236 ط مكتبة الرياض.
(2) ابن عابدين 3 / 226، وجواهر الإكليل 2 / 3.
(3) حديث: " رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى. . . . . " أخرجه
البخاري (الفتح 4 / 306 - ط السلفية) .
(10/153)
قَبْلَكُمْ سَهْلاً إِذَا بَاعَ، سَهْلاً
إِذَا اشْتَرَى، سَهْلاً إِذَا اقْتَضَى (1)
14 - وَمِنْ آدَابِهَا: تَرْكُ الشُّبُهَاتِ كَالاِتِّجَارِ فِي سُوقٍ
يَخْتَلِطُ الْحَرَامُ فِيهِ بِالْحَلاَل، وَكَالتَّعَامُل مَعَ مَنْ
أَكْثَرُ مَالِهِ حَرَامٌ، (2) لِحَدِيثِ: الْحَلاَل بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ
بَيِّنٌ، وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ
مِنَ النَّاسِ: أَمِنَ الْحَلاَل هِيَ أَمْ مِنَ الْحَرَامِ؟ ، فَمَنْ
تَرَكَهَا فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ. (3)
15 - وَمِنْهَا: تَحَرِّي الصِّدْقِ وَالأَْمَانَةِ. جَاءَ فِي الأَْثَرِ
التَّاجِرُ الأَْمِينُ الصَّدُوقُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ
وَالشُّهَدَاءِ. (4)
16 - وَمِنْهَا: التَّصَدُّقُ مِنْ مَال التِّجَارَةِ لِحَدِيثِ: إِنَّ
الشَّيْطَانَ وَالإِْثْمَ يَحْضُرَانِ الْبَيْعَ، فَشُوبُوا بَيْعَكُمْ
بِالصَّدَقَةِ، فَإِنَّهَا تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ. (5)
17 - وَمِنْهَا: التَّبْكِيرُ بِالتِّجَارَةِ. رَوَى صَخْرٌ
__________
(1) حديث: " غفر الله لرجل كان قبلكم سهلا إذا باع. . . " أخرجه الترمذي
وحسنه (3 / 601 - ط الحلبي) .
(2) القليوبي 2 / 186.
(3) حديث: " الحلال بين والحرام بين. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 290 -
ط السلفية) . ومسلم (3 / 1219 - ط الحلبي) .
(4) حديث: " التاجر الأمين الصدوق مع النبيين. . . " سبق تخريجه. (ف 2) .
(5) حديث: " إن الشيطان والإثم يحضران البيع. . . " أخرجه الترمذي (3 / 505
- ط الحلبي) والحاكم وصححه (2 / 7 - ط دائرة المعارف العثمانية) ووافقه
الذهبي.
(10/154)
الْغَامِدِيُّ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لأُِمَّتِي فِي
بُكُورِهَا (1) وَقِيل: إِنَّ صَخْرًا كَانَ رَجُلاً تَاجِرًا، وَكَانَ
إِذَا بَعَثَ تُجَّارَهُ بَعَثَهُمْ أَوَّل النَّهَارِ، فَأَثْرَى وَكَثُرَ
مَالُهُ. . (2)
وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي مَال التِّجَارَةِ:
18 - تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَال التِّجَارَةِ. (3) وَمَال التِّجَارَةِ:
كُل مَا قُصِدَ الاِتِّجَار بِهِ عِنْدَ اكْتِسَابِ الْمِلْكِ
بِمُعَاوَضَةٍ إِذَا حَال عَلَيْهِ الْحَوْل، وَبِهِ قَال فُقَهَاءُ
الْمَدِينَةِ السَّبْعَةُ (4) ، وَالْحَسَنُ وَجَابِرُ بْنُ مَيْمُونٍ
وَطَاوُسٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ، وَالأَْوْزَاعِيُّ وَأَبُو
عُبَيْدٍ وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي
الْقَوْل الْجَدِيدِ.
وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ التَّاجِرِ الْمُدِيرِ (وَهُوَ مَنْ
يَبِيعُ بِالسِّعْرِ الْوَاقِعِ وَيَخْلُفُ بِغَيْرِهِ، كَأَرْبَابِ
الْحَوَانِيتِ)
__________
(1) حديث: " اللهم بارك لأمتي في بكورها " أخرجه الترمذي (3 / 508 - ط
الحلبي) من حديث صخر الغامدي. وذكر المنذري في الترغيب رواة هذا الحديث من
الصحابة ثم قال: وفي كثير من أسانيدها مقال، وبعضها حسن، (الترغيب والترهيب
2 / 529 - ط الحلبي) .
(2) تحفة الأحوذي 4 / 402.
(3) المغني 3 / 30، وروضة الطالبين 2 / 266، وبدائع الصنائع 2 / 20.
(4) هم سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وعبيد الله بن عبد
الله بن عتبة وخارجة بن زيد وسليمان بن يسار والسابع أبو سلمة بن عبد
الرحمن بن عوف عند الأكثرين. انظر الموسوعة 1 / 364.
(10/154)
فَإِنَّهُ يُزَكِّي كُل حَوْلٍ، وَبَيْنَ
التَّاجِرِ الْمُحْتَكِرِ وَهُوَ مَنْ يَرْصُدُ بِعَرْضِ التِّجَارَةِ
السُّوقَ لِتَرْتَفِعَ الأَْثْمَانُ. فَهَذَا لاَ زَكَاةَ عَلَى
تِجَارَتِهِ إِلاَّ بِالتَّنْضِيضِ (تَحَوُّل السِّلْعَةِ إِلَى نَقْدٍ)
وَلَوْ بَقِيَتْ عِنْدَهُ سِنِينَ. (1)
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَأْمُرُنَا أَنْ نُخْرِجَ الصَّدَقَةَ مِمَّا
نُعِدُّهُ لِلْبَيْعِ. (2) وَخَبَرِ: وَفِي الْبَزِّ صَدَقَةٌ. (3)
وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهَا لاَ تَجِبُ فِي عَيْنِهِ، فَثَبَتَ أَنَّهَا
تَجِبُ فِي قِيمَتِهِ، وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ
الْحَوْل وَالنِّصَابَ مُعْتَبَرَانِ فِي وُجُوبِ زَكَاةِ التِّجَارَةِ (4)
.
وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيل مُصْطَلَحَ: (زَكَاةٌ) زَكَاةُ عُرُوضِ
التِّجَارَةِ (5) .
__________
(1) المدونة 1 / 253، والدسوقي 1 / 472 - 474.
(2) حديث: " كان يأمرنا أن نخرج الصدقة. . . " أخرجه أبو داود (2 / 212 - ط
عزت عبيد دعاس) وقال ابن حجر: في إسناده جهالة. (التلخيص الحبير 2 / 179 -
ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) حديث: " وفي البز صدقة. . . " أخرجه أحمد (5 / 179 - ط الميمنية)
والحاكم (1 / 388 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(4) المصادر السابقة، والمغني 3 / 31، وروضة الطالبين 2 / 267، وبدائع
الصنائع 2 / 20 - 21.
(5) ابن عابدين 2 / 13 - 14، والمغني 3 / 31، وكشاف القناع 2 / 239، وروضة
الطالبين 2 / 266، وأسنى المطالب 1 / 388، والمدونة 1 / 253 - 254.
(10/155)
تَجْدِيدٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّجْدِيدُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ: جَدَّدَ، وَالْجَدِيدُ: خِلاَفُ
الْقَدِيمِ. وَمِنْهُ: جَدَّدَ وُضُوءَهُ، أَوْ عَهْدَهُ أَوْ ثَوْبَهُ:
أَيْ صَيَّرَهُ جَدِيدًا. (1) وَالاِصْطِلاَحُ الشَّرْعِيُّ لاَ يَخْرُجُ
عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّجْدِيدِ بِاخْتِلاَفِ مَوْضِعِهِ:
فَتَجْدِيدُ الْوُضُوءِ سُنَّةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، أَوْ
مُسْتَحَبٌّ عَلَى اخْتِلاَفِ اصْطِلاَحَاتِهِمْ. وَعَنْ أَحْمَدَ
رِوَايَتَانِ: أَصَحُّهُمَا تُوَافِقُ الْجُمْهُورَ، وَالأُْخْرَى أَنَّهُ
لاَ فَضْل فِيهِ. (2)
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ لِلاِسْتِحْبَابِ: أَنْ يُصَلِّيَ بِالأَْوَّل
صَلاَةً وَلَوْ رَكْعَتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يُصَل بِهِ صَلاَةً فَلاَ
يُسَنُّ التَّجْدِيدُ، فَإِنْ خَالَفَ وَفَعَل لَمْ يَصِحَّ وُضُوءُهُ،
لأَِنَّهُ غَيْرُ مَطْلُوبٍ. (3)
__________
(1) لسان العرب، والمصباح مادة: " جدد ".
(2) المغني لابن قدامة 1 / 143.
(3) مغني المحتاج 1 / 74.
(10/155)
وَيَشْتَرِطُ الأَْحْنَافُ أَنْ يَفْصِل
بَيْنَ الْوُضُوءَيْنِ بِمَجْلِسٍ أَوْ صَلاَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَفْصِل
بِذَلِكَ كُرِهَ، وَنُقِل عَنْ بَعْضِهِمْ مَشْرُوعِيَّةُ التَّجْدِيدِ،
وَإِنْ لَمْ يَفْصِل بِصَلاَةٍ أَوْ مَجْلِسٍ. (1)
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لاِسْتِحْبَابِ التَّجْدِيدِ أَنْ يَفْعَل
بِالأَْوَّل عِبَادَةً: كَالطَّوَافِ أَوِ الصَّلاَةِ، (2)
وَدَلِيل مَشْرُوعِيَّتِهِ حَدِيثُ: مَنْ تَوَضَّأَ عَلَى طُهْرٍ كُتِبَ
لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ (3)
وَقَدْ كَانَ الْخُلَفَاءُ يَتَوَضَّئُونَ لِكُل صَلاَةٍ، وَكَانَ عَلِيٌّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَفْعَلُهُ وَيَتْلُو قَوْله تَعَالَى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ. . .} (4) الآْيَةَ وَلأَِنَّهُ كَانَ يَجِبُ الْوُضُوءُ فِي
أَوَّل الإِْسْلاَمِ لِكُل صَلاَةٍ فَنُسِخَ وُجُوبُهُ، وَبَقِيَ أَصْل
الطَّلَبِ (5) ر: مُصْطَلَحَ (وُضُوءٌ) .
تَجْدِيدُ الْمَاءِ لِمَسْحِ الأُْذُنَيْنِ:
3 - ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ تَجْدِيدَ الْمَاءِ لِمَسْحِ
الأُْذُنَيْنِ سُنَّةٌ، وَلاَ تَحْصُل السُّنَّةُ إِلاَّ بِهِ، وَهُوَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 81. .
(2) مواهب الجليل 1 / 302.
(3) القرطبي 6 / 81 وحديث: " من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات " أخرجه
الترمذي (1 / 87 - ط الحلبي) وقال: وهو إسناد ضعيف.
(4) سورة المائدة / 6.
(5) مغني المحتاج 1 / 74.
(10/156)
الصَّحِيحُ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ
الْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ. (1) وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى
أَنَّ السُّنَّةَ هِيَ: مَسْحُهُمَا بِمَاءِ الرَّأْسِ فِي الْمَشْهُورِ
مِنَ الْمَذْهَبِ. (2) .
تَجْدِيدُ الْعِصَابَةِ وَالْحَشْوِ لِلاِسْتِحَاضَةِ:
4 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ
يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَحَاضَةِ تَجْدِيدُ الْعِصَابَةِ وَالْحَشْوِ عِنْدَ
كُل صَلاَةٍ، قِيَاسًا عَلَى الْوُضُوءِ، وَقِيل: لاَ تَجِبُ عَلَيْهَا،
لأَِنَّهُ لاَ مَعْنَى لإِِزَالَةِ النَّجَاسَةِ مَعَ اسْتِمْرَارِهَا،
وَهَذَا إِذَا لَمْ يَظْهَرِ الدَّمُ عَلَى جَوَانِبِ الْعِصَابَةِ، وَلَمْ
تَزُل الْعِصَابَةُ عَنْ مَحَلِّهَا، أَمَّا إِذَا ظَهَرَ الدَّمُ عَلَى
جَوَانِبِ الْعِصَابَةِ أَوْ زَالَتْ عَنْ مَحَلِّهَا، فَإِنَّهُ يَجِبُ
التَّجْدِيدُ قَوْلاً وَاحِدًا عِنْدَهُمْ. (3)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ يَلْزَمُهَا إِعَادَةُ شَدِّ الْعِصَابَةِ
وَغَسْل الدَّمِ لِكُل صَلاَةٍ، إِذَا لَمْ تُفَرِّطْ فِي الشَّدِّ.
وَصَرَّحَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ بِاسْتِحْبَابِ الْحَشْوِ أَوِ
الْعِصَابَةِ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَصْحَابِ
الأَْعْذَارِ تَقْلِيلاً لِلنَّجَاسَةِ، وَلَمْ يَنُصُّوا عَلَى مَسْأَلَةِ
التَّجْدِيدِ، وَمُقْتَضَاهُ عَدَمُ وُجُوبِهِ لِعَدَمِ وُجُوبِ أَصْل
الْعِصَابَةِ.
وَلَمْ نَجِدْ لِلْمَالِكِيَّةِ تَصْرِيحًا بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. (4)
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 60، والإنصاف 1 / 135، ومواهب الجليل 1 / 248.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 82 - 83.
(3) مغني المحتاج 1 / 112.
(4) الإنصاف 1 / 377، والطحطاوي على مراقي الفلاح 80 ط دار الإيمان دمشق.
(10/156)
تَجْدِيدُ نِكَاحِ الْمُرْتَدَّةِ:
5 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا ارْتَدَّتْ، وَلَمْ
تَرْجِعْ إِلَى الإِْسْلاَمِ بَعْدَ الاِسْتِتَابَةِ تُقْتَل، وَقَال
الْحَنَفِيَّةُ: لاَ تُقْتَل، بَل تُحْبَسُ إِلَى أَنْ تَمُوتَ.
وَذَهَبَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا ارْتَدَّتِ
الْمَرْأَةُ الْمُتَزَوِّجَةُ، تُجْبَرُ عَلَى الإِْسْلاَمِ وَتَجْدِيدِ
النِّكَاحِ مَعَ زَوْجِهَا، وَلَوْ بِغَيْرِ رِضَاهَا، إِذَا رَغِبَ
زَوْجُهَا فِي ذَلِكَ، وَلاَ يَجُوزُ لَهَا إِذَا رَجَعَتْ إِلَى
الإِْسْلاَمِ أَنْ تَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ، وَلِكُل قَاضٍ أَنْ يُجَدِّدَ
النِّكَاحَ بِمَهْرٍ يَسِيرٍ. وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (رِدَّةٌ) .
وَإِذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عَنِ الإِْسْلاَمِ بَعْدَ الدُّخُول
انْفَسَخَ النِّكَاحُ مِنْ حِينِ الرِّدَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ، فَإِنْ عَادَ الْمُرْتَدُّ مِنْهُمَا إِلَى
الإِْسْلاَمِ، وَكَانَتِ الْعِدَّةُ قَائِمَةً وَجَبَ تَجْدِيدُ الْعَقْدِ،
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ النِّكَاحَ
مَوْقُوفٌ إِلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ عَادَ الْمُرْتَدُّ
مِنْهُمَا إِلَى الإِْسْلاَمِ، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَهُمَا عَلَى
النِّكَاحِ الأَْوَّل. وَإِنْ لَمْ يَعُدِ انْفَسَخَ النِّكَاحُ مِنْ حِينِ
الرِّدَّةِ، وَتَبْدَأُ الْعِدَّةُ مُنْذُ الرِّدَّةِ. (1) وَتَفْصِيل
ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (رِدَّةٌ) .
__________
(1) البحر الرائق شرح كنز الدقائق 3 / 230، وحاشية ابن عابدين 2 / 392،
والمغني مع الشرح الكبير 7 / 565 - 566.
(10/157)
تَجَرُّدٌ
اُنْظُرْ: عَوْرَةٌ.
(10/157)
تَجْرِبَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّجْرِبَةُ: مَصْدَرُ جَرَّبْتُ، وَمَعْنَاهُ: الاِخْتِبَارُ.
يُقَال: جَرَّبْتُ الشَّيْءَ تَجْرِيبًا وَتَجْرِبَةً، أَيِ: اخْتَبَرْتَهُ
مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. (1) وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنِ
الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - أَثَرُ الْمَرَضِ فِي إِبَاحَةِ الْفِطْرِ عِنْدَ خَوْفِ زِيَادَتِهِ
بِالتَّجْرِبَةِ:
يَجُوزُ الْفِطْرُ لِمَرِيضٍ خَافَ زِيَادَةَ مَرَضِهِ بِالتَّجْرِبَةِ،
وَلَوْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ الْمَرِيضِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَرَضِ. (2)
أَمَّا حُكْمُ الصَّحِيحِ الَّذِي يَخَافُ الْمَرَضَ لَوْ صَامَ، وَضَابِطُ
الْمَرَضِ الْمُبِيحِ لِلْفِطْرِ، فَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَوْمٌ) .
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب، ومعجم متن اللغة مادة: " جرب ".
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 116 ط بولاق، وحاشية الدسوقي 1 / 535 ط الحلبي.
(10/158)
تَجْرِبَةُ الْمَبِيعِ فِي مُدَّةِ
الْخِيَارِ:
3 - يَجُوزُ تَجْرِبَةُ الْمَبِيعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَهِيَ
تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ السِّلْعَةِ، وَإِلَيْكَ بَعْضُ أَنْوَاعِهَا: (1)
أ - تَجْرِبَةُ الثَّوْبِ:
4 - يَجُوزُ تَجْرِبَةُ الثَّوْبِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لِمَعْرِفَةِ
طُولِهِ وَعَرْضِهِ، وَلاَ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ إِجَازَةً عِنْدَ جُمْهُورِ
الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ صَرَّحُوا بِأَنَّ
الْمُشْتَرِيَ إِذَا لَبِسَ الثَّوْبَ مَرَّةً، ثُمَّ لَبِسَهُ ثَانِيًا
لِمَعْرِفَةِ الطُّول وَالْعَرْضِ يَسْقُطُ خِيَارُهُ، لأَِنَّهُ لاَ
حَاجَةَ إِلَى تَكْرَارِ اللُّبْسِ فِي الثَّوْبِ، لِحُصُول الْمَقْصُودِ
بِاللُّبْسِ مَرَّةً وَاحِدَةً.
وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: فَتَجْرِي فِي لُبْسِ الثَّوْبِ فِي
مُدَّةِ الْخِيَارِ سِتَّ عَشْرَةَ صُورَةً، حَاصِلُهَا جَوَازُ لُبْسِ
الثَّوْبِ بُغْيَةَ التَّجْرِبَةِ وَالاِخْتِيَارِ فِي بَعْضِ تِلْكَ
الصُّوَرِ بِشُرُوطٍ ذَكَرُوهَا. (2)
وَلِتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ (خِيَارُ الشَّرْطِ)
.
__________
(1) كشاف القناع 3 / 258 ط عالم الكتب، وحاشية العدوي 2 / 143 ط دار
المعرفة.
(2) بدائع الصنائع 5 / 270 ط الجمالية، وتحفة الفقهاء 2 / 90، والشرح
الصغير 3 / 136، وحاشية العدوي على شرح أبي الحسن لرسالة ابن أبي زيد 2 /
143 ط دار المعرفة، والجمل 3 / 119، والفروع لابن مفلح 4 / 89، 90، وكشاف
القناع 3 / 208 ط عالم الكتب.
(10/158)
ب - تَجْرِبَةُ الدَّارِ:
5 - إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ دَارًا فَسَكَنَهَا الْمُشْتَرِي فِي مُدَّةِ
الْخِيَارِ، أَوْ أَسْكَنَهَا غَيْرَهُ، بِأَجْرٍ أَوْ بِغَيْرِ أَجْرٍ،
يَسْقُطُ خِيَارُهُ، لأَِنَّهُ دَلِيل اخْتِيَارِ الْمِلْكِ أَوْ
تَقْرِيرِهِ، فَكَانَ إِجَازَةَ دَلاَلَةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. (1)
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي فِي مُدَّةِ
الْخِيَارِ أَنْ يَسْكُنَ الدَّارَ الْمُشْتَرَاةَ تَيْسِيرًا
لِتَجْرِبَتِهَا وَاخْتِبَارِهَا، (2) حَسَبَ تَفْصِيلٍ يَأْتِي فِي
مُصْطَلَحِ (خِيَارُ الشَّرْطِ) .
وَيُؤْخَذُ مِمَّا أَوْرَدَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَنَّ
لِلْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ التَّصَرُّفَ بِمَا تَحْصُل بِهِ تَجْرِبَةُ
الْمَبِيعِ، فَلَهُ تَجْرِبَةُ الثَّوْبِ أَوِ الدَّارِ وَلاَ يُعْتَبَرُ
بِذَلِكَ إِجَازَةً. (3)
ج - (تَجْرِبَةُ الدَّابَّةِ) :
6 - يَرَى الْفُقَهَاءُ جَوَازَ تَجْرِبَةِ الدَّابَّةِ فِي مُدَّةِ
الْخِيَارِ لِلنَّظَرِ فِي سَيْرِهَا وَقُوَّتِهَا، عَلَى خِلاَفٍ
وَتَفْصِيلٍ فِي كَيْفِيَّةِ التَّجْرِبَةِ وَالْمُدَّةِ الَّتِي يُمْكِنُ
تَجْرِيبُ الدَّابَّةِ فِيهَا يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مَوْطِنِهِ، وَفِي
مُصْطَلَحِ (خِيَارُ الشَّرْطِ (4)) .
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 270، وتحفة الفقهاء2 / 89.
(2) الشرح الصغير 3 / 135، 136، وشرح الزرقاني 5 / 111.
(3) الجمل على شرح المنهج 3 / 119، وأسنى المطالب 2 / 55، والشرح الكبير مع
المغني 4 / 72، ومغني المحتاج 2 / 49، وروضة الطالبين 3 / 455، وتصحيح
الفروع 4 / 89، 90، وكشاف القناع 3 / 208.
(4) بدائع الصنائع 5 / 270 ط الجمالية، وتحفة الفقهاء 2 / 90 ط دار الفكر
بدمشق، والشرح الصغير 3 / 136 - 137 ط دار المعارف، والمغني مع الشرح
الكبير 4 / 15 - 16 و 21.
(10/159)
تَجْرِبَةُ الصَّبِيِّ لِمَعْرِفَةِ
رُشْدِهِ:
7 - يُجَرَّبُ الصَّبِيُّ لِمَعْرِفَةِ رُشْدِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ
بِتَفْوِيضِهِ فِي التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَتَصَرَّفُ فِيهَا
أَمْثَالُهُ.
فَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْلاَدِ التُّجَّارِ فُوِّضَ إِلَيْهِ الْبَيْعُ
وَالشِّرَاءُ، فَإِذَا تَكَرَّرَ مِنْهُ فَلَمْ يُغْبَنْ، وَلَمْ يُضَيِّعْ
مَا فِي يَدَيْهِ، فَهُوَ رَشِيدٌ.
وَيُجَرَّبُ وَلَدُ الزَّارِعِ بِالزِّرَاعَةِ وَالنَّفَقَةِ عَلَى
الْقَائِمِينَ بِمَصَالِحِ الزَّرْعِ مِنْ حَرْثٍ وَحَصْدٍ وَحِفْظٍ، كَمَا
يُجَرَّبُ وَلَدُ الْمُحْتَرِفِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِحِرْفَةِ أَبِيهِ
وَأَقَارِبِهِ.
وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَالنَّخَعِيُّ عَدَمَ تَجْرِبَةِ
الشَّخْصِ الَّذِي بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ، إِذَا أَكْمَل الْخَامِسَةَ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ عُمْرِهِ، فَيَجِبُ عِنْدَهُمْ إِعْطَاؤُهُ مَالَهُ
وَلَوْ لَمْ يَصِرْ رَشِيدًا؛ لأَِنَّ مَنْعَهُ مِنْ مَالِهِ هُوَ
لِلتَّأْدِيبِ، فَإِذَا لَمْ يَتَأَدَّبْ - وَقَدْ بَلَغَ سِنًّا يُمْكِنُ
أَنْ يَكُونَ فِيهِ جَدًّا - فَلاَ يَبْقَى أَمَلٌ فِي تَأْدِيبِهِ. (1)
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي مَعْنَى الرُّشْدِ وَوَقْتِ تَجْرِبَةِ الصَّبِيِّ
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 4 / 523، ونهاية المحتاج 4 / 351، ومغني
المحتاج 2 / 169 ط مصطفى الحلبي، وحاشية الطحطاوي على الدر المختار 4 / 85،
ودرر الحكم شرح مجلة الأحكام مادة (982) ج 2 / 631، وتفسير القرطبي 5 / 38.
(10/159)
لِمَعْرِفَةِ رُشْدِهِ آرَاءٌ وَخِلاَفَاتٌ
تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِ: (حَجْرٌ، رُشْدٌ، وَسَفَهٌ) .
تَجْرِبَةُ الْقَائِفِ لِمَعْرِفَةِ كَفَاءَتِهِ:
8 - يُشْتَرَطُ فِي الْقَائِفِ - عِنْدَ مَنْ يَرَى الْعَمَل بِقَوْلِهِ
فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ - أَنْ يَكُونَ مُجَرَّبًا فِي الإِْصَابَةِ،
لِخَبَرِ: لاَ حَكِيمَ إِلاَّ ذُو تَجْرِبَةٍ (1) وَلأَِنَّ الْقِيَافَةَ
أَمْرٌ عِلْمِيٌّ، فَلاَ بُدَّ مِنَ الْعِلْمِ بِمَعْرِفَةِ الْقَائِفِ
لَهُ، وَذَلِكَ لاَ يُعْرَفُ بِغَيْرِ التَّجْرِبَةِ.
وَمِنْ طُرُقِ تَجْرِبَةِ الْقَائِفِ لِمَعْرِفَةِ كَفَاءَتِهِ: أَنْ
يُعْرَضَ عَلَيْهِ وَلَدٌ فِي نِسْوَةٍ، لَيْسَ فِيهِنَّ أُمُّهُ ثَلاَثَ
مَرَّاتٍ، ثُمَّ فِي نِسْوَةٍ هِيَ فِيهِنَّ، فَإِذَا أَصَابَ فِي الْكُل
فَهُوَ مُجَرِّبٌ.
وَتَجْدُرُ الإِْشَارَةُ إِلَى أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ لاَ يُجِيزُونَ
الْعَمَل بِقَوْل الْقَائِفِ مُطْلَقًا، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَشْتَرِطُوا
شُرُوطًا لاِعْتِبَارِ قَوْل الْقَافَةِ دَلِيلاً يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي
الْحُكْمِ (2) .
وَتُنْظَرُ التَّفَاصِيل الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ:
(قِيَافَةٌ) .
__________
(1) حديث: " لا حكيم إلا ذو تجربة " أخرجه أحمد (3 / 8، 69 - ط الميمنية)
وإسناده ضعيف. (انظر ميزان الاعتدال للذهبي 2 / 24 - ط الحلبي) .
(2) روضة الطالبين 12 / 102، ونهاية المحتاج 8 / 351، ومطالب أولي النهى 4
/ 266 نشر المكتب الإسلامي، والمغني مع الشرح الكبير 6 / 398، وعمدة القاري
شرح صحيح البخاري 16 / 109 - 110 ط المنيرية، والموسوعة الفقهية مصطلح:
إثبات (1 / 247) .
(10/160)
تَجْرِبَةُ أَهْل الْخِبْرَةِ:
9 - يُشْتَرَطُ فِي أَهْل الْخِبْرَةِ الَّذِينَ يُعْمَل بِقَوْلِهِمْ فِي
الْمُنَازَعَاتِ: أَنْ تَثْبُتَ خِبْرَتُهُمْ بِتَجَارِبَ مُنَاسَبَةٍ
كَالطَّبِيبِ وَالْمُهَنْدِسِ وَنَحْوِهِمَا.
تَجَزُّؤٌ
اُنْظُرْ: تَبْعِيضٌ.
(10/160)
تَجَسُّسٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّجَسُّسُ لُغَةً: تَتَبُّعُ الأَْخْبَارِ، يُقَال: جَسَّ
الأَْخْبَارَ وَتَجَسَّسَهَا: إِذَا تَتَبَّعَهَا، وَمِنْهُ الْجَاسُوسُ،
لأَِنَّهُ يَتَتَبَّعُ الأَْخْبَارَ وَيَفْحَصُ عَنْ بَوَاطِنِ الأُْمُورِ،
ثُمَّ اُسْتُعِيرَ لِنَظَرِ الْعَيْنِ. (1) وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى
الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنِيِّ اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّحَسُّسُ:
2 - التَّحَسُّسُ هُوَ: طَلَبُ الْخَبَرِ، يُقَال: رَجُلٌ حَسَّاسٌ
لِلأَْخْبَارِ أَيْ: كَثِيرُ الْعِلْمِ بِهَا، وَأَصْل الإِْحْسَاسِ:
الإِْبْصَارُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {هَل تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ
أَحَدٍ} (2) أَيْ: هَل تَرَى، ثُمَّ اُسْتُعْمِل فِي الْوِجْدَانِ
وَالْعِلْمِ بِأَيِّ حَاسَّةٍ كَانَتْ،
__________
(1) المصباح المنير.
(2) سورة مريم / 98.
(10/161)
وَقَدْ قُرِئَ قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ
تَجَسَّسُوا} (1) بِالْحَاءِ " وَلاَ تَحَسَّسُوا " قَال الزَّمَخْشَرِيُّ:
وَالْمَعْنَيَانِ مُتَقَارِبَانِ، وَقِيل: إِنَّ التَّجَسُّسَ غَالِبًا
يُطْلَقُ عَلَى الشَّرِّ، وَأَمَّا التَّحَسُّسُ فَيَكُونُ غَالِبًا فِي
الْخَيْرِ (2) .
ب - التَّرَصُّدُ:
3 - التَّرَصُّدُ: الْقُعُودُ عَلَى الطَّرِيقِ، وَمِنْهُ الرَّصَدِيُّ:
الَّذِي يَقْعُدُ عَلَى الطَّرِيقِ يَنْظُرُ النَّاسَ لِيَأْخُذَ شَيْئًا
مِنْ أَمْوَالِهِمْ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا. (3) فَيَجْتَمِعُ التَّجَسُّسُ
وَالتَّرَصُّدُ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَتَبُّعُ أَخْبَارِ النَّاسِ،
غَيْرَ أَنَّ التَّجَسُّسَ يَكُونُ بِالتَّتَبُّعِ وَالسَّعْيِ لِتَحْصِيل
الأَْخْبَارِ وَلَوْ بِالسَّمَاعِ أَوِ الاِنْتِقَال، أَمَّا التَّرَصُّدُ
فَهُوَ الْقُعُودُ وَالاِنْتِظَارُ وَالتَّرَقُّبُ.
التَّنَصُّتُ:
4 - التَّنَصُّتُ هُوَ: التَّسَمُّعُ. يُقَال: أَنْصَتَ إِنْصَاتًا أَيِ:
اسْتَمَعَ، وَنَصَتَ لَهُ أَيْ: سَكَتَ مُسْتَمِعًا، فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ
التَّجَسُّسِ؛ لأَِنَّ التَّنَصُّتَ يَكُونُ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً (4) .
__________
(1) سورة الحجرات / 12.
(2) المصباح المنير، وتفسير الزمخشري 3 / 5018.
(3) المصباح المنير.
(4) المصباح المنير.
(10/161)
حُكْمُ التَّجَسُّسِ التَّكْلِيفِيِّ:
5 - التَّجَسُّسُ تَعْتَرِيهِ أَحْكَامٌ ثَلاَثَةٌ: الْحُرْمَةُ
وَالْوُجُوبُ وَالإِْبَاحَةُ.
فَالتَّجَسُّسُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الأَْصْل حَرَامٌ مَنْهِيٌّ
عَنْهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَجَسَّسُوا} لأَِنَّ فِيهِ تَتَبُّعَ
عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَمَعَايِبِهِمْ وَالاِسْتِكْشَافَ عَمَّا
سَتَرُوهُ. وَقَدْ قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مَعْشَرَ
مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُل الإِْيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ لاَ
تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَاتِ
الْمُسْلِمِينَ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ حَتَّى يَفْضَحَهُ وَلَوْ فِي
جَوْفِ بَيْتِهِ. (1)
قَال ابْنُ وَهْبٍ: وَالسَّتْرُ وَاجِبٌ إِلاَّ عَنِ الإِْمَامِ
وَالْوَالِي وَأَحَدِ الشُّهُودِ الأَْرْبَعَةِ فِي الزِّنَى.
وَقَدْ يَكُونُ التَّجَسُّسُ وَاجِبًا، فَقَدْ نُقِل عَنِ ابْنِ
الْمَاجِشُونِ أَنَّهُ قَال: اللُّصُوصُ وَقُطَّاعُ الطَّرِيقِ أَرَى أَنْ
يُطْلَبُوا فِي مَظَانِّهِمْ وَيُعَانَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يُقْتَلُوا أَوْ
يُنْفَوْا مِنَ الأَْرْضِ بِالْهَرَبِ. (2) وَطَلَبُهُمْ لاَ يَكُونُ
إِلاَّ بِالتَّجَسُّسِ عَلَيْهِمْ وَتَتَبُّعِ أَخْبَارِهِمْ.
وَيُبَاحُ فِي الْحَرْبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ بَعْثُ
الْجَوَاسِيسِ لِتُعْرَفَ أَخْبَارُ جَيْشِ الْكُفَّارِ مِنْ عَدَدٍ
وَعَتَادٍ وَأَيْنَ يُقِيمُونَ وَمَا إِلَى ذَلِكَ.
__________
(1) تفسير الكشاف 3 / 568، وحديث: " يا معشر من آمن بلسانه. . . " أخرجه
الترمذي (4 / 278 - ط الحلبي) وقال: حسن غريب.
(2) تبصرة الحكام 2 / 171.
(10/162)
وَكَذَلِكَ يُبَاحُ التَّجَسُّسُ إِذَا
رُفِعَ إِلَى الْحَاكِمِ أَنَّ فِي بَيْتِ فُلاَنٍ خَمْرًا، فَإِنْ شَهِدَ
عَلَى ذَلِكَ شُهُودٌ كَشَفَ عَنْ حَال صَاحِبِ الْبَيْت، فَإِنْ كَانَ
مَشْهُورًا بِمَا شُهِدَ عَلَيْهِ أُخِذَ، وَإِنْ كَانَ مَسْتُورًا فَلاَ
يُكْشَفُ عَنْهُ. وَقَدْ سُئِل الإِْمَامُ مَالِكٌ عَنِ الشُّرْطِيِّ
يَأْتِيهِ رَجُلٌ يَدْعُوهُ إِلَى نَاسٍ فِي بَيْتٍ اجْتَمَعُوا فِيهِ
عَلَى شَرَابٍ، فَقَال: إِنْ كَانَ فِي بَيْتٍ لاَ يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ
فَلاَ يَتَتَبَّعُهُ، وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ يَتَتَبَّعُهُ.
وَلِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَكْشِفَ عَلَى مُرْتَكِبِي الْمَعَاصِي؛ لأَِنَّ
قَاعِدَةَ وِلاَيَةِ الْحِسْبَةِ: الأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ
عَنِ الْمُنْكَرِ. (1)
التَّجَسُّسُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْحَرْبِ:
6 - الْجَاسُوسُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا أَوْ
ذِمِّيًّا أَوْ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ، وَقَدْ أَجَابَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ
سُؤَال هَارُونَ الرَّشِيدِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُكْمِ فِيهِمْ،
فَقَال: وَسَأَلْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْجَوَاسِيسِ
يُوجَدُونَ وَهُمْ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ أَوْ أَهْل الْحَرْبِ أَوْ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْل الْحَرْبِ أَوْ مِنْ أَهْل
الذِّمَّةِ مِمَّنْ يُؤَدِّي الْجِزْيَةَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى
وَالْمَجُوسِ فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْل
الإِْسْلاَمِ مَعْرُوفِينَ فَأَوْجِعْهُمْ عُقُوبَةً، وَأَطِل حَبْسَهُمْ
حَتَّى يُحْدِثُوا تَوْبَةً. (2)
__________
(1) المصدر السابق.
(2) الخراج لأبي يوسف 205 - 206.
(10/162)
وَقَال الإِْمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ
الْحَسَنِ: وَإِذَا وَجَدَ الْمُسْلِمُونَ رَجُلاً - مِمَّنْ يَدَّعِي
الإِْسْلاَمَ - عَيْنًا لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَكْتُبُ
إِلَيْهِمْ بِعَوْرَاتِهِمْ فَأَقَرَّ بِذَلِكَ طَوْعًا فَإِنَّهُ لاَ
يُقْتَل، وَلَكِنَّ الإِْمَامَ يُوجِعُهُ عُقُوبَةً. ثُمَّ قَال: إِنَّ
مِثْلَهُ لاَ يَكُونُ مُسْلِمًا حَقِيقَةً، وَلَكِنْ لاَ يُقْتَل لأَِنَّهُ
لَمْ يَتْرُكْ مَا بِهِ حُكِمَ بِإِسْلاَمِهِ فَلاَ يَخْرُجُ عَنِ
الإِْسْلاَمِ فِي الظَّاهِرِ مَا لَمْ يَتْرُكْ مَا بِهِ دَخَل فِي
الإِْسْلاَمِ، وَلأَِنَّهُ إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى مَا فَعَل الطَّمَعُ،
لاَ خُبْثُ الاِعْتِقَادِ، وَهَذَا أَحْسَنُ الْوَجْهَيْنِ، وَبِهِ
أُمِرْنَا. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْل
فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (1) وَاسْتَدَل عَلَيْهِ بِحَدِيثِ حَاطِبِ
بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، فَإِنَّهُ كَتَبَ إِلَى قُرَيْشٍ: أَنَّ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُوكُمْ فَخُذُوا
حِذْرَكُمْ، فَأَرَادَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَتْلَهُ، فَقَال
الرَّسُول لِعُمَرِ: مَهْلاً يَا عُمَرُ، فَلَعَل اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ
عَلَى أَهْل بَدْرٍ فَقَال: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ
(2) فَلَوْ كَانَ بِهَذَا كَافِرًا مُسْتَوْجِبًا لِلْقَتْل مَا تَرَكَهُ
الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدْرِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ
بَدْرِيٍّ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَزِمَهُ الْقَتْل بِهَذَا حَدًّا مَا تَرَكَهُ
الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ نَزَل قَوْله
تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي
وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} (3) فَقَدْ سَمَّاهُ مُؤْمِنًا، وَعَلَيْهِ
دَلَّتْ قِصَّةُ
__________
(1) سورة الزمر / 18.
(2) حديث حاطب بن أبي بلتعة أخرجه البخاري (6 / 143 - الفتح ط السلفية)
ومسلم (4 / 1941 - ط الحلبي) .
(3) سورة الممتحنة / 1.
(10/163)
أَبِي لُبَابَةَ حِينَ اسْتَشَارَهُ بَنُو
قُرَيْظَةَ، فَأَمَرَّ أُصْبُعَهُ عَلَى حَلْقِهِ يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُمْ
لَوْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَتَلَهُمْ، وَفِيهِ نَزَل قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُول} . (1)
وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَل هَذَا ذِمِّيٌّ فَإِنَّهُ يُوجَعُ عُقُوبَةً
وَيُسْتَوْدَعُ السِّجْنَ، وَلاَ يَكُونُ هَذَا نَقْضًا مِنْهُ لِلْعَهْدِ،
لأَِنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ مُسْلِمٌ لَمْ يَكُنْ بِهِ نَاقِضًا أَمَانَهُ،
فَإِذَا فَعَلَهُ ذِمِّيٌّ لاَ يَكُونُ نَاقِضًا أَمَانَهُ أَيْضًا. أَلاَ
تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ فَقَتَل وَأَخَذَ الْمَال لَمْ
يَكُنْ بِهِ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ، وَإِنْ كَانَ قَطْعُ الطَّرِيقِ
مُحَارَبَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بِالنَّصِّ فَهَذَا أَوْلَى. وَكَذَلِكَ
لَوْ فَعَلَهُ مُسْتَأْمَنٌ فَإِنَّهُ لاَ يَصِيرُ نَاقِضًا لأَِمَانِهِ
بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ، إِلاَّ أَنَّهُ يُوجَعُ
عُقُوبَةً فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لأَِنَّهُ ارْتَكَبَ مَا لاَ يَحِل لَهُ
وَقَصَدَ بِفِعْلِهِ إِلْحَاقَ الضَّرَرِ بِالْمُسْلِمِينَ.
فَإِنْ كَانَ حِينَ طَلَبَ الأَْمَانَ قَال لَهُ الْمُسْلِمُونَ:
أَمَّنَّاكَ إِنْ لَمْ تَكُنْ عَيْنًا لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ، أَوْ أَمَّنَّاكَ عَلَى أَنَّكَ إِنْ أَخْبَرْتَ أَهْل
الْحَرْبِ بِعَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ فَلاَ أَمَانَ لَكَ - وَالْمَسْأَلَةُ
بِحَالِهَا - فَلاَ بَأْسَ بِقَتْلِهِ؛ لأَِنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ
يَكُونُ مَعْدُومًا قَبْل وُجُودِ الشَّرْطِ، فَقَدْ عُلِّقَ أَمَانُهُ
هَاهُنَا بِشَرْطِ أَلاَّ يَكُونَ عَيْنًا، فَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ عَيْنٌ
كَانَ حَرْبِيًّا لاَ أَمَانَ لَهُ فَلاَ بَأْسَ بِقَتْلِهِ.
__________
(1) سورة الأنفال / 27.
(10/163)
وَإِنْ رَأَى الإِْمَامُ أَنْ يَصْلُبَهُ
حَتَّى يَعْتَبِرَ بِهِ غَيْرُهُ فَلاَ بَأْسَ بِذَلِكَ، وَإِنْ رَأَى أَنْ
يَجْعَلَهُ فَيْئًا فَلاَ بَأْسَ بِهِ أَيْضًا كَغَيْرِهِ مِنَ
الأُْسَرَاءِ، إِلاَّ أَنَّ الأَْوْلَى أَنْ يَقْتُلَهُ هَاهُنَا
لِيَعْتَبِرَ غَيْرُهُ. فَإِنْ كَانَ مَكَانَ الرَّجُل امْرَأَةٌ فَلاَ
بَأْسَ بِقَتْلِهَا أَيْضًا، لأَِنَّهَا قَصَدَتْ إِلْحَاقَ الضَّرَرِ
بِالْمُسْلِمِينَ، وَلاَ بَأْسَ بِقَتْل الْحَرْبِيَّةِ فِي هَذِهِ
الْحَالَةِ، كَمَا إِذَا قَاتَلَتْ، إِلاَّ أَنَّهُ يُكْرَهُ صَلْبُهَا
لأَِنَّهَا عَوْرَةٌ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ أَوْلَى.
وَإِنْ وَجَدُوا غُلاَمًا لَمْ يَبْلُغْ، بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَإِنَّهُ
يُجْعَل فَيْئًا وَلاَ يُقْتَل، لأَِنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ، فَلاَ يَكُونُ
فِعْلُهُ خِيَانَةً يَسْتَوْجِبُ الْقَتْل بِهَا، بِخِلاَفِ الْمَرْأَةِ.
وَهُوَ نَظِيرُ الصَّبِيِّ إِذَا قَاتَل فَأُخِذَ أَسِيرًا لَمْ يَجُزْ
قَتْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، بِخِلاَفِ الْمَرْأَةِ إِذَا قَاتَلَتْ فَأُخِذَتْ
أَسِيرَةً فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُهَا.
وَالشَّيْخُ الَّذِي لاَ قِتَال عِنْدَهُ وَلَكِنَّهُ صَحِيحُ الْعَقْل
بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا. وَإِنْ جَحَدَ
الْمُسْتَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ فَعَل ذَلِكَ، وَقَال: الْكِتَابُ الَّذِي
وَجَدُوهُ مَعَهُ إِنَّمَا وَجَدَهُ فِي الطَّرِيقِ وَأَخَذَهُ، فَلَيْسَ
يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْتُلُوهُ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ،
لأَِنَّهُ آمِنٌ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، فَمَا لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ
مَا يَنْفِي أَمَانَهُ كَانَ حَرَامَ الْقَتْل. فَإِنْ هَدَّدُوهُ بِضَرْبٍ
أَوْ قَيْدٍ أَوْ حَبْسٍ حَتَّى أَقَرَّ بِأَنَّهُ عَيْنٌ فَإِقْرَارُهُ
هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لأَِنَّهُ مُكْرَهٌ، وَإِقْرَارُ الْمُكْرَهِ
بَاطِلٌ سَوَاءٌ أَكَانَ الإِْكْرَاهُ بِالْحَبْسِ أَمْ بِالْقَتْل، وَلاَ
يَظْهَرُ كَوْنُهُ عَيْنًا إِلاَّ بِأَنْ يُقِرَّ بِهِ عَنْ طَوْعٍ، أَوْ
شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ بِذَلِكَ، وَيُقْبَل عَلَيْهِ بِذَلِكَ
شَهَادَةُ أَهْل
(10/164)
الذِّمَّةِ وَأَهْل الْحَرْبِ، لأَِنَّهُ
حَرْبِيٌّ فِينَا وَإِنْ كَانَ مُسْتَأْمَنًا، وَشَهَادَةُ أَهْل الْحَرْبِ
حُجَّةٌ عَلَى الْحَرْبِيِّ.
وَإِنْ وَجَدَ الإِْمَامُ مَعَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ مُسْتَأْمَنٍ
كِتَابًا فِيهِ خَطُّهُ وَهُوَ مَعْرُوفٌ، إِلَى مَلِكِ أَهْل الْحَرْبِ
يُخْبِرُ فِيهِ بِعَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ الإِْمَامَ يَحْبِسُهُ،
وَلاَ يَضْرِبُهُ بِهَذَا الْقَدْرِ؛ لأَِنَّ الْكِتَابَ مُحْتَمَلٌ
فَلَعَلَّهُ مُفْتَعَلٌ، وَالْخَطُّ يُشْبِهُ الْخَطَّ، (1) فَلاَ يَكُونُ
لَهُ أَنْ يَضْرِبَهُ بِمِثْل هَذَا الْمُحْتَمَل، وَلَكِنْ يَحْبِسُهُ
نَظَرًا لِلْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ أَمْرُهُ: فَإِنْ لَمْ
يَتَبَيَّنْ خَلَّى سَبِيلَهُ، وَرَدَّ الْمُسْتَأْمَنَ إِلَى دَارِ
الْحَرْبِ، وَلَمْ يَدَعْهُ لِيُقِيمَ بَعْدَ هَذَا فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ
يَوْمًا وَاحِدًا؛ لأَِنَّ الرِّيبَةَ فِي أَمْرِهِ قَدْ تَمَكَّنَتْ
وَتَطْهِيرُ دَارِ الإِْسْلاَمِ مِنْ مِثْلِهِ مِنْ بَابِ إِمَاطَةِ
الأَْذَى فَهُوَ أَوْلَى (2) .
7 - مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الْجَاسُوسَ الْمُسْتَأْمَنَ يُقْتَل،
وَقَال سَحْنُونٌ فِي الْمُسْلِمِ يَكْتُبُ لأَِهْل الْحَرْبِ بِأَخْبَارِ
الْمُسْلِمِينَ: يُقْتَل وَلاَ يُسْتَتَابُ وَلاَ
__________
(1) هذا ما ذهب إليه الفقهاء والمتقدمون، لأنه لم يكن لديهم وسائل تميز
الخطوط. ومعرفة خواص كل خط فاحتاطوا. أما وقد كشف العلم في زماننا أن لخط
كل شخص خاصية تميزه بها عن سائر الخطوط، فإن الخط يمكن الآن الاعتماد عليه
واعتباره قرينة، يقضى بموجبها. وكذلك بصمة الأصبع، ونحوها مما تثبت قطعية
دلالته.
(2) السير الكبير 5 / 2040 - 244 ط شركة الإعلانات.
(10/164)
دِيَةَ لِوَرَثَتِهِ كَالْمُحَارِبِ.
وَقِيل: يُجْلَدُ نَكَالاً وَيُطَال حَبْسُهُ وَيُنْفَى مِنَ الْمَوْضِعِ
الَّذِي كَانَ فِيهِ، وَقِيل: يُقْتَل إِلاَّ أَنْ يَتُوبَ، وَقِيل: إِلاَّ
أَنْ يُعْذَرَ بِجَهْلٍ. وَقِيل: يُقْتَل إِنْ كَانَ مُعْتَادًا لِذَلِكَ،
وَإِنْ كَانَتْ فَلْتَةً ضُرِبَ وَنُكِّل. (1)
وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْطُبِيِّ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ
أَوْلِيَاءَ} (2) مَا يَأْتِي:
مَنْ كَثُرَ تَطَلُّعُهُ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَيُنَبِّهُ
عَلَيْهِمْ وَيُعَرِّفُ عَدَدَهُمْ بِأَخْبَارِهِمْ لَمْ يَكُنْ كَافِرًا
بِذَلِكَ، إِذَا كَانَ فِعْلُهُ لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ وَاعْتِقَادُهُ عَلَى
ذَلِكَ سَلِيمٌ، كَمَا فَعَل حَاطِبٌ حِينَ قَصَدَ بِذَلِكَ اتِّخَاذَ
الْيَدِ وَلَمْ يَنْوِ الرِّدَّةَ عَنِ الدِّينِ. وَإِذَا قُلْنَا: لاَ
يَكُونُ بِذَلِكَ كَافِرًا فَهَل يُقْتَل بِذَلِكَ حَدًّا أَمْ لاَ؟
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ، فَقَال مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ:
يَجْتَهِدُ فِي ذَلِكَ الإِْمَامُ. وَقَال عَبْدُ الْمَلِكِ: إِذَا كَانَتْ
عَادَتُهُ ذَلِكَ قُتِل لأَِنَّهُ جَاسُوسٌ. وَقَدْ قَال مَالِكٌ: يُقْتَل
الْجَاسُوسُ - وَهُوَ صَحِيحٌ - لإِِضْرَارِهِ بِالْمُسْلِمِينَ وَسَعْيِهِ
بِالْفَسَادِ فِي الأَْرْضِ، وَلَعَل ابْنَ الْمَاجِشُونِ إِنَّمَا
اتَّخَذَ التَّكْرَارَ فِي هَذَا لأَِنَّ حَاطِبًا أُخِذَ فِي أَوَّل
فِعْلِهِ.
فَإِنْ كَانَ الْجَاسُوسُ كَافِرًا، فَقَال الأَْوْزَاعِيُّ: يَكُونُ
نَقْضًا لِعَهْدِهِ، وَقَال أَصْبَغُ: الْجَاسُوسُ الْحَرْبِيُّ يُقْتَل،
وَالْجَاسُوسُ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ
__________
(1) تبصرة الحكام 2 / 177 - 178.
(2) سورة الممتحنة / 1.
(10/165)
يُعَاقَبَانِ إِلاَّ إِنْ تَظَاهَرَا عَلَى
الإِْسْلاَمِ فَيُقْتَلاَنِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أُتِيَ بِعَيْنٍ لِلْمُشْرِكِينَ اسْمُهُ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ
فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُقْتَل، فَصَاحَ: يَا مَعْشَرَ الأَْنْصَارِ أُقْتَل
وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا
رَسُول اللَّهِ فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَخَلَّى سَبِيلَهُ. ثُمَّ قَال: إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ أَكِلُهُ
إِلَى إيمَانِهِ، مِنْهُمْ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ.
8 - وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ: أَنَّ الْجَاسُوسَ الْمُسْلِمَ
يُعَزَّرُ وَلاَ يَجُوزُ قَتْلُهُ. وَإِنْ كَانَ ذَا هَيْئَةٍ (أَيْ مَاضٍ
كَرِيمٍ فِي خِدْمَةِ الإِْسْلاَمِ) عُفِيَ عَنْهُ لِحَدِيثِ حَاطِبٍ،
وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ لاَ يُنْتَقَضُ عَهْدُ الذِّمِّيِّ بِالدَّلاَلَةِ
عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ شُرِطَ عَلَيْهِمْ فِي عَهْدِ
الأَْمَانِ ذَلِكَ فِي الأَْصَحِّ، وَفِي غَيْرِهِ يُنْتَقَضُ بِالشَّرْطِ.
(1)
9 - وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يُنْتَقَضُ عَهْدُ أَهْل الذِّمَّةِ
بِأَشْيَاءَ وَمِنْهَا: تَجَسَّسَ أَوْ آوَى جَاسُوسًا، لِمَا فِيهِ مِنَ
الضَّرَرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. (2)
__________
(1) عمدة القاري 14 / 256 ط المنيرية، وشرح المنهج بحاشية البجيرمي 4 /
281، القليوبي 4 / 226، والشرقاوي على التحرير 2 / 412.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 138 - 139.
(10/165)
وَمِمَّا تَقَدَّمَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ
الْجَاسُوسَ الْحَرْبِيَّ مُبَاحُ الدَّمِ يُقْتَل عَلَى أَيِّ حَالٍ
عِنْدَ الْجَمِيعِ، أَمَّا الذِّمِّيُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ فَقَال أَبُو
يُوسُفَ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: إِنَّهُ يُقْتَل.
وَلِلشَّافِعِيَّةِ أَقْوَالٌ أَصَحُّهَا أَنَّهُ لاَ يُنْتَقَضُ عَهْدُ
الذِّمِّيِّ بِالدَّلاَلَةِ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، لأَِنَّهُ لاَ
يُخِل بِمَقْصُودِ الْعَقْدِ. وَأَمَّا الْجَاسُوسُ الْمُسْلِمُ فَإِنَّهُ
يُعَزَّرُ وَلاَ يُقْتَل عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَبَعْضِ
الْمَالِكِيَّةِ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَعِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُقْتَل.
التَّجَسُّسُ عَلَى الْكُفَّارِ:
10 - التَّجَسُّسُ عَلَى الْكُفَّارِ فِي الْحَرْبِ لِمَعْرِفَةِ
عَدَدِهِمْ وَعُدَدِهِمْ وَمَا مَعَهُمْ مِنْ سِلاَحٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ
مَشْرُوعٌ، وَدَلِيل ذَلِكَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ صَلَّى هَوِيًّا (1) مِنَ اللَّيْل،
ثُمَّ الْتَفَتَ فَقَال: مَنْ رَجُلٌ يَقُومُ فَيَنْظُرُ لَنَا مَا فَعَل
الْقَوْمُ - يَشْتَرِطُ لَهُ النَّبِيُّ أَنْ يَرْجِعَ - أَدْخَلَهُ
اللَّهُ الْجَنَّةَ قَال رَاوِي الْحَدِيثِ حُذَيْفَةُ: فَمَا قَامَ
رَجُلٌ، ثُمَّ صَلَّى إِلَى. . أَنْ قَال ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَمَا
قَامَ رَجُلٌ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَشِدَّةِ الْبَرْدِ وَشِدَّةِ
الْجُوعِ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ أَحَدٌ دَعَانِي أَيْ دَعَا الرَّسُول
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُذَيْفَةَ فَلَمْ يَكُنْ لِي بُدٌّ
مِنَ الْقِيَامِ حِينَ دَعَانِي، فَقَال الرَّسُول: يَا حُذَيْفَةُ اذْهَبْ
فَادْخُل فِي الْقَوْمِ
__________
(1) الهوي: الساعة الممتدة من الليل (لسان العرب، مادة هوى) .
(10/166)
فَانْظُرْ مَاذَا يَفْعَلُونَ، وَلاَ
تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنَا (1) قَال: فَذَهَبْتُ فَدَخَلْتُ
فِي الْقَوْمِ، وَالرِّيحُ وَجُنُودُ اللَّهِ عَزَّ وَجَل تَفْعَل بِهِمْ
مَا تَفْعَل، لاَ تَقِرُّ لَهُمْ قِدْرٌ وَلاَ نَارٌ وَلاَ بِنَاءٌ،
فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَال: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ لِيَنْظُرْ كُل
امْرِئٍ مَنْ جَلِيسُهُ، قَال حُذَيْفَةُ: فَأَخَذْتُ بِيَدِ الرَّجُل
الَّذِي إِلَى جَنْبِي فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَال: أَنَا فُلاَنُ بْنُ
فُلاَنٍ، ثُمَّ قَال أَبُو سُفْيَانَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّكُمْ
وَاَللَّهِ مَا أَصْبَحْتُمْ بِدَارِ مَقَامٍ، لَقَدْ هَلَكَ الْكُرَاعُ
وَالْخُفُّ، وَأَخْلَفَتْنَا بَنُو قُرَيْظَةَ، وَبَلَغَنَا عَنْهُمُ
الَّذِي نَكْرَهُ. . . إِلَخْ (2) فَهَذَا دَلِيل جَوَازِ التَّجَسُّسِ
عَلَى الْكُفَّارِ فِي الْحَرْبِ.
تَجَسُّسُ الْحَاكِمِ عَلَى رَعِيَّتِهِ:
11 - سَبَقَ أَنَّ الأَْصْل تَحْرِيمُ التَّجَسُّسِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا
كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا}
(3)
وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ فِي حَقِّ وَلِيِّ الأَْمْرِ لِوُرُودِ نُصُوصٍ
خَاصَّةٍ تَنْهَى أَوْلِيَاءَ الأُْمُورِ عَنْ تَتَبُّعِ عَوْرَاتِ
النَّاسِ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ مُعَاوِيَةُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) حديث غزوة الخندق أخرجه ابن إسحاق في سيرته، وفي إسناده انقطاع.
(البداية والنهاية لابن كثير 4 / 113 - 114 ط دار السعادة) .
(2) تفسير ابن كثير 5 / 430 - 431 ط دار الأندلس.
(3) سورة الحجرات / 12.
(10/166)
قَال لَهُ: إِنَّكَ إِنِ اتَّبَعْتَ
عَوْرَاتِ النَّاسِ أَفْسَدْتَهُمْ أَوْ كِدْتَ أَنْ تُفْسِدَهُمْ (1)
فَقَال أَبُو الدَّرْدَاءِ: كَلِمَةٌ سَمِعَهَا مُعَاوِيَةُ مِنْ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا. وَعَنْ
أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِنَّ الأَْمِيرَ إِذَا ابْتَغَى الرِّيبَةَ فِي النَّاسِ
أَفْسَدَهُمْ. (2)
وَلَكِنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَتَجَسَّسَ عَلَى رَعِيَّتِهِ إِذَا كَانَ فِي
تَرْكِ التَّجَسُّسِ انْتِهَاكُ حُرْمَةٍ يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهَا، مِثْل
أَنْ يُخْبِرَهُ مَنْ يَثِقُ بِصِدْقِهِ أَنَّ رَجُلاً خَلاَ بِرَجُلٍ
لِيَقْتُلَهُ، أَوِ امْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا، فَيَجُوزُ لَهُ فِي هَذِهِ
الْحَال أَنْ يَتَجَسَّسَ وَيَقْدَمَ عَلَى الْكَشْفِ وَالْبَحْثِ حَذَرًا
مِنْ فَوَاتِ مَا لاَ يُسْتَدْرَكُ مِنِ انْتِهَاكِ الْمَحَارِمِ
وَارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ، وَهَكَذَا لَوْ عَرَفَ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنَ
الْمُتَطَوِّعَةِ جَازَ لَهُمُ الإِْقْدَامُ عَلَى الْكَشْفِ
وَالإِْنْكَارِ.
أَمَّا مَا كَانَ دُونَ ذَلِكَ فِي الرِّيبَةِ فَلاَ يَجُوزُ التَّجَسُّسُ
عَلَيْهِ وَلاَ كَشْفُ الأَْسْتَارِ عَنْهُ. وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ عُمَرَ
دَخَل عَلَى قَوْمٍ يَتَعَاقَرُونَ عَلَى
__________
(1) حديث: " إنك إن اتبعت عورات الناس. . . " أخرجه أبو داود (5 / 199 - ط
عزت عبيد دعاس) وإسناده صحيح. (عون المعبود 4 / 423 - نشر دار الكتاب
العربي) .
(2) حديث: " إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس. . . " أخرجه أبو داود (5
/ 200 - ط عزت عبيد دعاس) من حديث أبي أمامة وصححه النووي كما في فيض
القدير (2 / 323 - ط المكتبة التجارية) .
(10/167)
شَرَابٍ وَيُوقِدُونَ فِي أَخْصَاصٍ
فَقَال: نَهَيْتُكُمْ عَنِ الْمُعَاقَرَةِ فَعَاقَرْتُمْ، وَنَهَيْتُكُمْ
عَنِ الإِْيقَادِ فِي الأَْخْصَاصِ فَأَوْقَدْتُمْ. فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ قَدْ نَهَى اللَّهُ عَنِ التَّجَسُّسِ فَتَجَسَّسْتَ،
وَعَنِ الدُّخُول بِغَيْرِ إِذْنٍ فَدَخَلْتَ. فَقَال: هَاتَانِ
بِهَاتَيْنِ وَانْصَرَفَ وَلَمْ يَعْرِضْ لَهُمْ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ فِيمَا سُتِرَ
مِنَ الْمُنْكَرِ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ هَل يُنْكَرُ؟ فَرَوَى ابْنُ
مَنْصُورٍ وَعَبْدُ اللَّهِ فِي الْمُنْكَرِ يَكُونُ مُغَطًّى، مِثْل
طُنْبُورٍ وَمُسْكِرٍ وَأَمْثَالِهِ فَقَال: إِذَا كَانَ مُغَطًّى لاَ
يُكْسَرُ. وَنُقِل عَنْهُ أَنَّهُ يُكْسَرُ.
فَإِنْ سَمِعَ أَصْوَاتَ الْمَلاَهِي الْمُنْكَرَةِ مِنْ دَارٍ تَظَاهَرَ
أَهْلُهَا بِأَصْوَاتِهِمْ أَنْكَرَهُ خَارِجَ الدَّارِ، وَلَمْ يَهْجُمْ
بِالدُّخُول عَلَيْهِمْ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَكْشِفَ عَمَّا سِوَاهُ
مِنَ الْبَاطِنِ، وَقَدْ نُقِل عَنْ مُهَنَّا الأَْنْبَارِيِّ عَنْ
أَحْمَدَ أَنَّهُ سَمِعَ صَوْتَ طَبْلٍ فِي جِوَارِهِ، فَقَامَ إِلَيْهِمْ
مِنْ مَجْلِسِهِ، فَأَرْسَل إِلَيْهِمْ وَنَهَاهُمْ.
وَقَال فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْبٍ فِي الرَّجُل يَسْمَعُ
الْمُنْكَرَ فِي دَارِ بَعْضِ جِيرَانِهِ قَال: يَأْمُرُهُ، فَإِنْ لَمْ
يَقْبَل جَمَعَ عَلَيْهِ الْجِيرَانَ وَيُهَوِّل عَلَيْهِ. وَقَال
الْجَصَّاصُ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَجَسَّسُوا} نَهَى اللَّهُ
تَعَالَى عَنْ سُوءِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ الَّذِي ظَاهِرُهُ
الْعَدَالَةُ وَالسَّتْرُ، ثُمَّ قَال: نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ
التَّجَسُّسِ، بَل أَمَرَ بِالسَّتْرِ عَلَى أَهْل الْمَعَاصِي مَا لَمْ
يَظْهَرْ مِنْهُمْ إِصْرَارٌ. ثُمَّ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ
(10/167)
قِيل لَهُ: هَذَا فُلاَنٌ تَقْطُرُ
لِحْيَتُهُ خَمْرًا، فَقَال عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّا قَدْ نُهِينَا عَنِ
التَّجَسُّسِ، وَلَكِنْ إِنْ يَظْهَرْ لَنَا شَيْءٌ نَأْخُذْ بِهِ (1) .
تَجَسُّسُ الْمُحْتَسِبِ:
12 - الْمُحْتَسِبُ هُوَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ إِذَا ظَهَرَ
تَرْكُهُ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ إِذَا ظَهَرَ فِعْلُهُ. قَال
تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ
وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (2) وَهَذَا
وَإِنْ صَحَّ مِنْ كُل مُسْلِمٍ لَكِنَّ الْمُحْتَسِبَ مُتَعَيَّنٌ
عَلَيْهِ بِحُكْمِ وِلاَيَتِهِ، لَكِنَّ غَيْرَهُ فُرِضَ عَلَيْهِ عَلَى
سَبِيل الْكِفَايَةِ.
وَمَا لَمْ يَظْهَرْ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ فَلَيْسَ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ
يَتَجَسَّسَ عَنْهَا وَلاَ أَنْ يَهْتِكَ الأَْسْتَارَ حَذَرًا مِنَ
الاِسْتِتَارِ بِهَا، فَقَدْ قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْقَاذُورَةَ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا، فَمَنْ
أَلَمَّ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ. (3)
فَإِنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ اسْتِتَارُ قَوْمٍ بِهَا لأَِمَارَاتٍ
دَلَّتْ وَآثَارٍ ظَهَرَتْ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
__________
(1) الأحكام السلطانية لأبي يعلى 279 - 281، والماوردي 252، وأحكام القرآن
للجصاص 3 / 407، والقرطبي 16 / 331.
(2) سورة آل عمران / 104.
(3) حديث: " اجتنبوا هذه القاذورة التي نهى الله عنها. . .) أخرجه الحكم (4
/ 244 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(10/168)
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي
انْتِهَاكِ حُرْمَةٍ يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهَا مِثْل أَنْ يُخْبِرَهُ مَنْ
يَثِقُ بِهِ أَنَّ رَجُلاً خَلاَ بِامْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا أَوْ رَجُلٍ
لِيَقْتُلَهُ، فَيَجُوزُ لَهُ فِي مِثْل هَذِهِ الْحَال أَنْ يَتَجَسَّسَ
وَيَقْدَمَ عَلَى الْكَشْفِ وَالْبَحْثِ حَذَرًا مِنْ فَوَاتِ مَا لاَ
يُسْتَدْرَكُ مِنِ ارْتِكَابِ الْمَحَارِمِ وَفِعْل الْمَحْظُورَاتِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا خَرَجَ عَنْ هَذَا الْحَدِّ وَقَصُرَ عَنْ
حَدِّ هَذِهِ الرُّتْبَةِ، فَلاَ يَجُوزُ التَّجَسُّسُ عَلَيْهِ وَلاَ
كَشْفُ الأَْسْتَارِ عَنْهُ (1) كَمَا تَقَدَّمَ. (2)
عِقَابُ التَّجَسُّسِ عَلَى الْبُيُوتِ:
13 - رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ مِنْ
غَيْرِ إِذْنِهِمْ حَل لَهُمْ أَنْ يَفْقَئُوا عَيْنَهُ (3)
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَال
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي في أحكام الحسبة 240 وما بعدها.
(2) وما يجري الآن في الدول وما يطبق في التجسس على المفسدين ومن يظن فيهم
الشر وهتك الأعراض واغتصاب الأموال ومخالفة الأنظمة الواجب اتباعها، وما
يحصل في الكشف عمن يظن فيهم الاتجار في المحظورات كالخمر والحشيش بقرائن
ظاهرة والغش في المعاملات وتعقب المجرمين والمخر
(3) حديث: " من اطلع في بيت قوم من غير إذنهم حل لهم أن يفقئوا عينه "
أخرجه مسلم (3 / 1699 - ط الحلبي) .
(10/168)
بَعْضُهُمْ: هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَيَحِل
لِمَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْقَأَ عَيْنَ الْمُطَّلِعِ حَال
الاِطِّلاَعِ، وَلاَ ضَمَانَ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ: لَيْسَ هَذَا
عَلَى ظَاهِرِهِ، فَإِنْ فَقَأَ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَالْخَبَرُ
مَنْسُوخٌ، وَكَانَ قَبْل نُزُول قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ
فَعَاقِبُوا بِمِثْل مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (1) وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ
خَرَجَ عَلَى وَجْهِ الْوَعِيدِ لاَ عَلَى وَجْهِ الْحَتْمِ، وَالْخَبَرُ
إِذَا كَانَ مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى لاَ يَجُوزُ الْعَمَل
بِهِ.
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَكَلَّمُ
بِالْكَلاَمِ فِي الظَّاهِرِ، وَهُوَ يُرِيدُ شَيْئًا آخَرَ، كَمَا جَاءَ
فِي الْخَبَرِ أَنَّ عَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ لَمَّا مَدَحَهُ قَال
لِبِلاَلٍ: قُمْ فَاقْطَعْ لِسَانَهُ (2) وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ أَنْ
يَدْفَعَ إِلَيْهِ شَيْئًا وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْقَطْعَ فِي الْحَقِيقَةِ.
وَهَذَا أَيْضًا يَحْتَمِل أَنْ يَكُونَ ذَكَرَ فَقْءَ الْعَيْنِ
وَالْمُرَادُ: أَنْ يَعْمَل بِهِ عَمَلاً حَتَّى لاَ يَنْظُرَ بَعْدَ
ذَلِكَ فِي بَيْتِ غَيْرِهِ.
وَفِي تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ: وَلَوْ نَظَرَ مِنْ كُوَّةٍ أَوْ مِنْ بَابٍ
فَفَقَأَ عَيْنَهُ صَاحِبُ الدَّارِ ضَمِنَ، لأَِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى
زَجْرِهِ وَدَفْعِهِ بِالأَْخَفِّ، وَلَوْ قَصَدَ زَجْرَهُ
__________
(1) سورة النمل / 126.
(2) حديث: " قال لبلال: قم فاقطع لسانه " أخرجه ابن إسحاق في سيرته كما في
سيرة ابن هشام (2 / 493 - 494 - ط الحلبي) .
(10/169)
بِذَلِكَ فَأَصَابَ عَيْنَهُ وَلَمْ
يَقْصِدْ فَقْأَهَا فَفِي ضَمَانِهِ خِلاَفٌ.
وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ دَفْعُ الْمُطَّلِعِ
إِلاَّ بِفَقْءِ عَيْنِهِ فَفَقَأَهَا لاَ ضَمَانَ، وَإِنْ أَمْكَنَ
بِدُونِ فَقْءِ عَيْنِهِ فَفَقَأَهَا فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ.
أَمَّا إِذَا تَجَسَّسَ وَانْصَرَفَ فَلَيْسَ لِلْمُطَلَّعِ عَلَيْهِ أَنْ
يَفْقَأَ عَيْنَهُ اتِّفَاقًا. وَيُنْظَرُ لِلتَّفْصِيل: (دَفْعُ
الصَّائِل) . (1)
أَمَّا عُقُوبَةُ الْمُتَجَسِّسِ فَهِيَ التَّعْزِيرُ، إِذْ لَيْسَ فِي
ذَلِكَ حَدٌّ مُعَيَّنٌ، وَالتَّعْزِيرُ يَخْتَلِفُ وَالْمَرْجِعُ فِي
تَقْدِيرِهِ إِلَى الإِْمَامِ (ر: تَعْزِيرٌ (2)) .
__________
(1) تفسير القرطبي 12 / 212 - 213 ط دار الكتب، وتبصرة الحكام 2 / 304،
والمغني 8 / 325، 9 / 189 وما بعدها، وابن عابدين 5 / 353.
(2) ابن عابدين 3 / 251، والزيلعي 3 / 207، 208، وتبصرة الحكام بهامش فتح
العلي المالك 2 / 80، 308، وتحفة المحتاج 9 / 175 - 181، ومغني المحتاج 4 /
191، 192، 193، وحاشية القليوبي 4 / 205 - 259، والمغني 5 / 52 و8 / 325،
والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 295، 296.
(10/169)
تَجَشُّؤٌ
اُنْظُرْ: طَعَامٌ.
تَجَمُّلٌ
اُنْظُرْ: تَزَيُّنٌ.
تَجْمِيلٌ
اُنْظُرْ: تَغْيِيرٌ.
(10/170)
تَجْهِيزٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّجْهِيزُ لُغَةً: تَهْيِئَةُ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ. يُقَال:
جَهَّزْتُ الْمُسَافِرَ: إِذَا هَيَّأْتَ لَهُ جِهَازَ سَفَرِهِ.
وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى تَجْهِيزِ الْعَرُوسِ وَالْمَيِّتِ وَالْغُزَاةِ،
وَيُقَال: جَهَّزْتُ عَلَى الْجَرِيحِ - بِالتَّثْقِيل - إِذَا أَتْمَمْتَ
عَلَيْهِ وَأَسْرَعْتَ قَتْلَهُ، وَذَلِكَ لِلْمُبَالَغَةِ (وَمِثْلُهُ
أَجْهَزْتُ) وَفِعْلُهُ مِنْ بَابِ نَفَعَ، وَيَأْتِي عَلَى وَزْنِ
أَفْعَل. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْعْدَادُ:
2 - الإِْعْدَادُ: التَّهْيِئَةُ وَالإِْحْضَارُ. فَالتَّجْهِيزُ أَعَمُّ
مِنَ الإِْعْدَادِ؛ لأَِنَّ التَّجْهِيزَ يَشْمَل الإِْعْدَادَ وَغَيْرَهُ.
ب - التَّزْوِيدُ:
3 - التَّزْوِيدُ: مَصْدَرُ زَوَّدْتُهُ: أَعْطَيْتَهُ زَادًا، فَهُوَ
أَخَصُّ مِنَ التَّجْهِيزِ. لأَِنَّ التَّجْهِيزَ يَكُونُ بِالطَّعَامِ
__________
(1) المصباح، والصحاح، والمعجم الوسيط.
(10/170)
وَغَيْرِهِ، أَمَّا التَّزْوِيدُ فَهُوَ
بِإِعْدَادِ الزَّادِ أَوْ إِعْطَائِهِ (1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالتَّجْهِيزِ:
وَيَتَكَلَّمُ الْفُقَهَاءُ فِي تَجْهِيزِ الْعَرُوسِ وَالْمُجَاهِدِينَ
وَالْمَيِّتِ، عَلَى مَنْ يَجِبُ، وَالْحُكْمِ فِيهِ، وَمِقْدَارِهِ،
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
تَجْهِيزُ الْعَرُوسِ:
4 - مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: عَدَمُ إِجْبَارِ الْمَرْأَةِ عَلَى
الْجِهَازِ، (2) وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ نُصُوصِ الْحَنَابِلَةِ، فَلاَ
تُجْبَرُ هِيَ وَلاَ غَيْرُهَا عَلَى التَّجْهِيزِ، فَقَدْ جَاءَ فِي
مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ: وَتُمْلَكُ زَوْجَةٌ بِعَقْدِ جَمِيعِ
الْمُسَمَّى، وَلَهَا نَمَاءٌ مُعَيَّنٌ كَدَارٍ وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ. (3)
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَقَدْ نَقَل الْحَصْكَفِيُّ عَنِ الزَّاهِدِيِّ
فِي الْقُنْيَةِ: أَنَّهُ لَوْ زُفَّتِ الزَّوْجَةُ إِلَى الزَّوْجِ بِلاَ
جِهَازٍ يَلِيقُ بِهِ فَلَهُ مُطَالَبَةُ الأَْبِ بِالنَّقْدِ. وَزَادَ فِي
الْبَحْرِ عَنِ الْمُنْتَقَى: إِلاَّ إِذَا سَكَتَ طَوِيلاً فَلاَ
خُصُومَةَ لَهُ. لَكِنْ فِي النَّهْرِ عَنِ الْبَزَّازِيَّةِ: الصَّحِيحُ
أَنَّهُ لاَ يَرْجِعُ عَلَى الأَْبِ بِشَيْءٍ؛ لأَِنَّ الْمَال فِي
النِّكَاحِ غَيْرُ مَقْصُودٍ. (4)
__________
(1) المصباح.
(2) الجمل 4 / 264.
(3) منتهى الإرادات 2 / 207 نشر مكتبة دار العروبة.
(4) شرح الدر 2 / 367.
(10/171)
وَمَفْهُومُ هَذَا أَنَّ الأَْبَ هُوَ
الَّذِي يُجَهِّزُ، لَكِنَّ هَذَا إِذَا كَانَ هُوَ الَّذِي قَبَضَ
الْمَهْرَ، فَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ هِيَ الَّتِي قَبَضَتْهُ فَهِيَ
الَّتِي تُطَالَبُ بِهِ عَلَى الْقَوْل بِوُجُوبِ الْجِهَازِ، وَهُوَ
بِحَسَبِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا قَبَضَتِ الْحَال مِنْ صَدَاقِهَا قَبْل
بِنَاءِ الزَّوْجِ بِهَا فَإِنَّهُ يَلْزَمُهَا أَنْ تَتَجَهَّزَ بِهِ
عَلَى الْعَادَةِ مِنْ حَضَرٍ أَوْ بَدْوٍ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْعُرْفُ
شِرَاءَ دَارٍ لَزِمَهَا ذَلِكَ، وَلاَ يَلْزَمُهَا أَنْ تَتَجَهَّزَ
بِأَزْيَدَ مِنْهُ. وَمِثْل حَال الصَّدَاقِ مَا إِذَا عَجَّل لَهَا
الْمُؤَجَّل وَكَانَ نَقْدًا. وَإِنْ تَأَخَّرَ الْقَبْضُ عَنِ الْبِنَاءِ
لَمْ يَلْزَمْهَا التَّجْهِيزُ سَوَاءٌ أَكَانَ حَالًّا أَمْ حَل، إِلاَّ
لِشَرْطٍ أَوْ عُرْفٍ. (أَيْ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهَا التَّجْهِيزُ
لِلشَّرْطِ أَوِ الْعُرْفِ (2)) . .
تَجْهِيزُ الْغُزَاةِ:
5 - يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ لاَ يُعَطِّلُوا الْجِهَادَ فِي
سَبِيل اللَّهِ، وَأَنْ يُجَهِّزُوا لِذَلِكَ الْغُزَاةَ بِمَا
يَلْزَمُهُمْ مِنْ عُدَّةٍ وَعَتَادٍ وَزَادٍ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى:
{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيل اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى
التَّهْلُكَةِ} (3) وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْل تُرْهِبُونَ بِهِ
عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ
__________
(1) في ابن عابدين في الموضع نفسه إشارة إلى هذا.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 322.
(3) سورة البقرة / 195.
(10/171)
تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ
وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيل اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ
وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} (1) وَتَجْهِيزُ الْغُزَاةِ وَاجِبُ
الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا، حُكَّامًا وَمَحْكُومِينَ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ
الْقُرَبِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ
جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيل اللَّهِ فَقَدْ غَزَا (2)
وَمِنَ الْمَصَادِرِ الَّتِي يُمْكِنُ تَجْهِيزُ الْغُزَاةِ مِنْهَا:
الزَّكَاةُ مِنْ صِنْفِ (سَبِيل اللَّهِ) .
وَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
أَنَّ الْغُزَاةَ يُعْطَوْنَ مِنَ الزَّكَاةِ مُطْلَقًا، وَلَوْ كَانُوا
أَغْنِيَاءَ.
لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَيَّدُوهُ بِأَنْ يَكُونَ الْمُعْطَوْنَ مِمَّنْ
يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْجِهَادُ. وَقَيَّدَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَلاَّ
تَكُونَ أَسْمَاؤُهُمْ فِي دِيوَانِ الْجُنْدِ. (3)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْغَازِيَ يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ
إِذَا كَانَ مِنْ مُنْقَطِعِي الْغُزَاةِ، وَهُمُ الَّذِينَ عَجَزُوا عَنِ
الاِلْتِحَاقِ بِجَيْشِ الإِْسْلاَمِ لِفَقْرِهِمْ. (4)
__________
(1) سورة الأنفال / 60.
(2) حديث: " من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا " أخرجه البخاري ومسلم من
حديث زيد بن خالد رضي الله عنه مرفوعا (فتح الباري 6 / 49 ط السلفية، وصحيح
مسلم 3 / 1507 ط الحلبي) .
(3) وهم الآن من لهم في بيت المال رزق أي مرتب.
(4) البدائع 2 / 45، وابن عابدين 2 / 61، والقرطبي 8 / 185، 186، ومغني
المحتاج 1 / 111، والمغني 2 / 670.
(10/172)
وَسَبَبُ اخْتِلاَفِهِمْ فِي هَذَا هُوَ
اخْتِلاَفُهُمْ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى فِي مَصَارِفِ الصَّدَقَاتِ:
{وَفِي سَبِيل اللَّهِ} (1) وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي
مُصْطَلَحِ (زَكَاةٌ) .
تَجْهِيزُ الْمَيِّتِ:
6 - يَجِبُ تَجْهِيزُ الْمَيِّتِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِهِ، وَلأَِنَّ سُتْرَتَهُ وَاجِبَةٌ فِي
الْحَيَاةِ، فَهِيَ وَاجِبَةٌ كَذَلِكَ بِالْكَفَنِ فِي الْمَمَاتِ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَجْهِيزَ الْمَيِّتِ فَرْضُ
كِفَايَةٍ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ.
وَنَفَقَاتُ التَّجْهِيزِ تَكُونُ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ إِنْ تَرَكَ
مَالاً، وَتُقَدَّمُ عَلَى دُيُونِهِ وَوَصِيَّتِهِ وَإِرْثِهِ، إِلاَّ
أَعْيَانَ التَّرِكَةِ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ لِلْغَيْرِ، كَعَيْنِ
الرَّهْنِ وَالْمَبِيعِ وَنَحْوِهِمَا. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ،
وَجَبَ تَجْهِيزُهُ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ فِي حَال
حَيَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلاَءِ، وَجَبَ تَجْهِيزُهُ
فِي بَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ إِنْ وُجِدَ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ أَوْ
كَانَ مَوْجُودًا وَلَمْ يُمْكِنِ الأَْخْذُ فَتَجْهِيزُهُ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ فَرْضُ كِفَايَةٍ.
__________
(1) سورة التوبة / 60.
(10/172)
وَلاَ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجَةِ تَجْهِيزُ
زَوْجِهَا الْمُتَوَفَّى عَنْهَا بِلاَ خِلاَفٍ. (1)
وَفِي وُجُوبِ تَجْهِيزِ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ الْمُتَوَفَّاةِ، خِلاَفٌ
يُرْجَعُ إِلَيْهِ مَعَ تَفْصِيل الْبَحْثِ فِي مُصْطَلَحِ: (جَنَائِزُ) .
__________
(1) البدائع 1 / 308، 309، والشرح الكبير 1 / 413، 414، والمجموع 5 / 188،
189، والمغني 2 / 521.
(10/173)
تَجْهِيلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي التَّجْهِيل فِي اللُّغَةِ: النِّسْبَةُ إِلَى الْجَهْل.
يُقَال: جَهَّلْتُ فُلاَنًا: إِذَا قُلْتَ: إِنَّهُ جَاهِلٌ. وَالْجَهْل:
نَقِيضُ الْعِلْمِ. وَيَكُونُ الْجَهْل أَيْضًا نَقِيضَ الْحِلْمِ، يُقَال:
جَهِل فُلاَنٌ عَلَى فُلاَنٍ: إِذَا سَفِهَ عَلَيْهِ وَأَخْطَأَ. (1)
يُقَال: جَهِل فُلاَنٌ جَهْلاً وَجَهَالَةً، وَالْجَهَالَةُ: أَنْ تَفْعَل
فِعْلاً بِغَيْرِ عِلْمٍ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: أَنْ لاَ يُبَيِّنَ الأَْمِينُ قَبْل مَوْتِهِ حَال
مَا بِيَدِهِ لِلْغَيْرِ مِنْ وَدِيعَةٍ، أَوْ لُقَطَةٍ، أَوْ مَال يَتِيمٍ
وَنَحْوِهِ، وَكَانَ يَعْلَمُ أَنَّ وَارِثَهُ لاَ يَعْلَمُهَا، مَاتَ
وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - التَّجْهِيل قَدْ يَرِدُ عَلَى الْوَدِيعَةِ، وَهِيَ الْمَال الَّذِي
يُوضَعُ عِنْدَ شَخْصٍ لِيَحْفَظَهُ. (3) وَهِيَ
__________
(1) الصحاح، ولسان العرب، والمصباح المنير مادة: " جهل ".
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 495، والأشباه والنظائر لابن نجيم 109 ط المطبعة
الحسينية المصرية.
(3) ابن عابدين 4 / 493، والمادة 763 من مجلة الأحكام العدلية ص 144.
(10/173)
أَمَانَةٌ نَزَل فِي شَأْنِهَا قَوْل
اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا
الأَْمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (1) قِيل: نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ
طَلْحَةَ الْحَجَبِيِّ الدَّارِيِّ قَبْل إِسْلاَمِهِ، كَانَ سَادِنَ
الْكَعْبَةِ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَلَمَّا دَخَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ أَغْلَقَ عُثْمَانُ بَابَ الْكَعْبَةِ
وَامْتَنَعَ مِنْ إِعْطَاءِ مِفْتَاحِهَا، زَاعِمًا أَنَّهُ لَوْ عَلِمَ
أَنَّهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مَنَعَهُ،
فَلَوَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدَهُ، وَأَخَذَهُ مِنْهُ،
وَفَتَحَ الْبَابَ وَدَخَل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَعْبَةَ.
فَلَمَّا خَرَجَ سَأَلَهُ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ
يُعْطِيَهُ الْمِفْتَاحَ لِتَجْتَمِعَ لَهُ السَّدَانَةُ مَعَ
السِّقَايَةِ، فَأَنْزَل اللَّهُ تَعَالَى الآْيَةَ.، فَأَمَرَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا أَنْ يَرُدَّهُ إِلَى عُثْمَانَ
وَيَعْتَذِرَ إِلَيْهِ، فَقَال لَهُ: أَكْرَهْتَ وَآذَيْتَ ثُمَّ جِئْتَ
تَرْفُقُ؟ فَقَال لَهُ: لَقَدْ أَنْزَل اللَّهُ فِي شَأْنِكَ قُرْآنًا
وَقَرَأَ عَلَيْهِ الآْيَةَ فَأَسْلَمَ، فَجَاءَ جِبْرِيل عَلَيْهِ
السَّلَامُ فَقَال: مَا دَامَ هَذَا الْبَيْتُ فَإِنَّ الْمِفْتَاحَ
وَالسَّدَانَةَ فِي أَوْلاَدِ عُثْمَانَ.
3 - وَقَدْ جَعَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
السَّدَانَةَ فِي أَوْلاَدِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، حَيْثُ قَال:
خُذُوهَا خَالِدَةً تَالِدَةً
__________
(1) سورة النساء / 58.
(10/174)
لاَ يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إِلاَّ ظَالِمٌ
(1) وَالْمُرَادُ مِنَ الآْيَةِ جَمِيعُ الأَْمَانَاتِ فَيَجِبُ عَلَى مَنْ
كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ - وَدِيعَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا - أَنْ
يُبَيِّنَ أَمْرَهَا حَتَّى لاَ يُفَاجِئَهُ الْمَوْتُ وَلَمْ يُعَيَّنْ
صَاحِبُهَا، فَتَضِيعُ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ مَسْئُولاً عَنْ تَجْهِيلِهَا.
قَال ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَمْ يُرَخِّصِ اللَّهُ لِمُعْسِرٍ وَلاَ لِمُوسِرٍ
أَنْ يُمْسِكَ الأَْمَانَةَ، أَيْ يَحْبِسَهَا عَنْ صَاحِبِهَا عِنْدَ
طَلَبِهَا.
وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ كَانَتْ
عِنْدَهُ وَدَائِعُ، فَلَمَّا أَرَادَ الْهِجْرَةَ أَوْدَعَهَا عِنْدَ
أُمِّ أَيْمَنَ، وَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى أَهْلِهَا. (2)
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لَيْسَ
عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ ضَمَانٌ مَا لَمْ يَتَعَدَّ. (3)
4 - وَقَدْ عَظَّمَ اللَّهُ تَعَالَى أَمْرَ الأَْمَانَةِ تَعْظِيمًا
بَلِيغًا وَأَكَّدَهُ تَأْكِيدًا شَدِيدًا فَقَال عَزَّ وَجَل {إِنَّا
عَرَضْنَا
__________
(1) حديث: " خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم " أخرجه الطبراني
في الكبير (11 / 120 - ط وزارة الأوقاف العراقية) وأورده الهيثمي في المجمع
(3 / 285 - ط القدسي) وفيه عبد الله بن المؤمل، وثقه ابن حبان وقال: يخطئ،
ووثقه ابن معين في رواية، وضعفه جماعة.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت عنده ودائع. . . . " أخرجه
ابن سعد في الطبقات الكبرى (3 / 22 - ط دار صادر) .
(3) حديث: " ليس على المستودع ضمان ما لم يتعد. . . " أخرجه الدارقطني
مرفوعا بلفظ: " ليس على المستعير ضمان على المستودع غير المغل ضمان ". وفي
إسناده عمرو وعبيدة وهما ضعيفان وقال الدارقطني: إنما يروى هذا عن شريح غير
مرفوع (سنن الدارقطني 3 / 41 ط دار المحاسن، والتلخيص الحبير 3 / 97) .
(10/174)
الأَْمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ
وَالأَْرْضِ وَالْجِبَال فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ
مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِْنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً} (1)
أَيْ بِمَشَقَّتِهَا الَّتِي لاَ تَتَنَاهَى بِهَا. (2) وَإِذَا كَانَتِ
الْوَدِيعَةُ أَمَانَةً كَانَتْ غَيْرَ مَضْمُونَةٍ بِالْهَلاَكِ
مُطْلَقًا، مَا لَمْ يَكُنِ الْمُودَعُ مُفَرِّطًا أَوْ مُتَعَدِّيًا،
وَمِنَ التَّعَدِّي التَّجْهِيل عَنْ قَصْدٍ. (3)
قَال فِي الْبَزَّازِيَّةِ: وَالْمُودَعُ إِنَّمَا يَضْمَنُ بِالتَّجْهِيل
إِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْوَارِثُ الْوَدِيعَةَ.
أَمَّا إِذَا عَلِمَ الْوَارِثُ الْوَدِيعَةَ، وَالْمُودَعُ يَعْلَمُ أَنَّ
الْوَارِثَ يَعْلَمُ، وَمَاتَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَمْ يَضْمَنْ. وَلَوْ قَال
الْوَارِثُ: أَنَا عَلِمْتُهَا، وَأَنْكَرَ الطَّالِبُ عِلْمَ الْوَارِثِ
بِهَا لِتَصِيرَ مَضْمُونَةً بِالتَّجْهِيل يُنْظَرُ، إِنْ فَسَّرَهَا
الْوَارِثُ وَقَال: هِيَ كَذَا وَكَذَا، وَهَلَكَتْ صُدِّقَ. وَمَعْنَى
ضَمَانِهَا صَيْرُورَتُهَا دَيْنًا فِي تَرِكَتِهِ. (4)
5 - وَفِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: قَال فِي مَجْمَعِ الْفَتَاوَى:
الْمُودَعُ وَالْمُضَارِبُ وَالْمُسْتَعِيرُ وَالْمُسْتَبْضِعُ وَكُل مَنْ
كَانَ الْمَال بِيَدِهِ أَمَانَةً إِذَا مَاتَ قَبْل
__________
(1) سورة الأحزاب / 72.
(2) الزواجر عن اقتراف الكبائر للهيثمي 1 / 266 ط دار المعرفة.
(3) ابن عابدين 4 / 494، والمغني لابن قدامة 6 / 382 - 383 م الرياض
الحديثة، وجواهر الإكليل 2 / 140، والمهذب 1 / 366.
(4) الأشباه والنظائر لابن نجيم 109.
(10/175)
الْبَيَانِ، وَلَمْ تُعْرَفِ الأَْمَانَةُ
بِعَيْنِهَا، فَإِنَّ الْمَال يَكُونُ دَيْنًا عَلَيْهِ فِي تَرِكَتِهِ،
لأَِنَّهُ صَارَ مُسْتَهْلِكًا لِلْوَدِيعَةِ بِالتَّجْهِيل. وَمَعْنَى
مَوْتِهِ مُجَهِّلاً: أَنْ لاَ يُبَيِّنَ حَال الأَْمَانَةِ كَمَا فِي
الأَْشْبَاهِ.
وَقَدْ سُئِل الشَّيْخُ عُمَرُ بْنُ نُجَيْمٍ عَمَّا لَوْ قَال الْمَرِيضُ:
عِنْدِي وَرَقَةٌ فِي الْحَانُوتِ لِفُلاَنٍ ضَمَّنَهَا دَرَاهِمَ لاَ
أَعْرِفُ قَدْرَهَا، فَمَاتَ وَلَمْ تُوجَدْ. فَأَجَابَ: بِأَنَّهُ مِنَ
التَّجْهِيل، لِقَوْلِهِ فِي الْبَدَائِعِ: هُوَ أَنْ يَمُوتَ قَبْل
الْبَيَانِ وَلَمْ تُعْرَفِ الأَْمَانَةُ بِعَيْنِهَا.
6 - وَمِنَ الأَْمَانَاتِ الرَّهْنُ، إِذَا مَاتَ الْمُرْتَهِنُ مُجَهِّلاً
يَضْمَنُ قِيمَةَ الرَّهْنِ فِي تَرِكَتِهِ، وَكَذَا الْوَكِيل إِذَا مَاتَ
مُجَهِّلاً مَا قَبَضَهُ (1) .
وَقَدْ نَصَّتِ الْمَادَّةُ 801 مِنَ الْمَجَلَّةِ عَلَى أَنَّهُ: (إِذَا
مَاتَ الْمُسْتَوْدَعُ وَوُجِدَتِ الْوَدِيعَةُ عَيْنًا فِي تَرِكَتِهِ
يَكُونُ أَمَانَةً فِي يَدِ وَارِثِهِ، فَيَرُدُّهَا لِصَاحِبِهَا.
وَأَمَّا إِذَا لَمْ تُوجَدْ عَيْنًا فِي تَرِكَتِهِ: فَإِنْ أَثْبَتَ
الْوَارِثُ أَنَّ الْمُسْتَوْدَعَ قَدْ بَيَّنَ حَال الْوَدِيعَةِ فِي
حَيَاتِهِ، كَأَنْ قَال: رَدَدْتُ الْوَدِيعَةَ لِصَاحِبِهَا، أَوْ قَال:
ضَاعَتْ بِلاَ تَعَدٍّ، فَلاَ يَلْزَمُ الضَّمَانُ. وَكَذَا لَوْ قَال
الْوَارِثُ: نَحْنُ نَعْرِفُ الْوَدِيعَةَ، وَفَسَّرَهَا بِبَيَانِ
أَوْصَافِهَا، ثُمَّ قَال: إِنَّهَا هَلَكَتْ أَوْ ضَاعَتْ بَعْدَ وَفَاةِ
الْمُسْتَوْدَعِ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ وَلاَ ضَمَانَ حِينَئِذٍ، وَإِذَا
مَاتَ الْمُسْتَوْدَعُ بِدُونِ أَنْ يُبَيِّنَ حَال الْوَدِيعَةِ يَكُونُ
مُجَهِّلاً، فَتُؤْخَذُ الْوَدِيعَةُ مِنْ تَرِكَتِهِ
__________
(1) رد المحتار وحاشية ابن عابدين 4 / 495 - 497.
(10/175)
كَسَائِرِ دُيُونِهِ، وَكَذَا لَوْ قَال
الْوَارِثُ: نَحْنُ نَعْرِفُ الْوَدِيعَةَ بِدُونِ أَنْ يُفَسِّرَهَا
وَيَصِفَهَا، لاَ يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ: إِنَّهَا ضَاعَتْ. وَبِهَذِهِ
الصُّورَةِ إِذَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهَا ضَاعَتْ يَلْزَمُ الضَّمَانُ مِنَ
التَّرِكَةِ) . (1)
7 - وَقَدْ وَرَدَ فِي الأَْشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ لاِبْنِ نُجَيْمٍ:
الأَْمَانَاتُ تَنْقَلِبُ مَضْمُونَةً بِالْمَوْتِ عَنْ تَجْهِيلٍ إِلاَّ
فِي ثَلاَثٍ: النَّاظِرِ إِذَا مَاتَ مُجَهِّلاً غَلاَّتِ الْوَقْفِ،
وَالْقَاضِي إِذَا مَاتَ مُجَهِّلاً أَمْوَال الْيَتَامَى عِنْدَ مَنْ
أَوْدَعَهَا. وَالسُّلْطَانِ إِذَا أَوْدَعَ بَعْضَ الْغَنِيمَةِ عِنْدَ
الْغَازِي ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يُبَيِّنْ عِنْدَ مَنْ أَوْدَعَهَا. هَكَذَا
فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ فِي بَابِ الْوَقْفِ، وَفِي الْخُلاَصَةِ فِي
بَابِ الْوَدِيعَةِ وَذَكَرَهَا الْوَلْوَالَجِيُّ وَذَكَرَ مِنَ الصُّوَرِ
الثَّلاَثِ: أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ إِذَا مَاتَ وَلَمْ
يُبَيِّنْ حَال الْمَال الَّذِي فِي يَدِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ لِلْقَاضِي،
فَصَارَ الْمُسْتَثْنَى أَرْبَعَةً. وَزَادَ (أَيْ صَاحِبُ الأَْشْبَاهِ)
عَلَيْهَا مَسَائِل: الأُْولَى: الْوَصِيُّ إِذَا مَاتَ مُجَهِّلاً فَلاَ
ضَمَانَ عَلَيْهِ كَمَا فِي جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ. الثَّانِيَةُ: الأَْبُ
إِذَا مَاتَ مُجَهِّلاً مَال ابْنِهِ ذَكَرَهُ فِيهَا أَيْضًا.
الثَّالِثَةُ: إِذَا مَاتَ الْوَارِثُ مُجَهِّلاً مَا أُودِعَ عِنْدَ
مَوْتِهِ. الرَّابِعَةُ: إِذَا مَاتَ مُجَهِّلاً لِمَا أَلْقَتْهُ الرِّيحُ
فِي بَيْتِهِ. الْخَامِسَةُ: إِذَا مَاتَ مُجَهِّلاً لِمَا وَضَعَهُ
مَالِكُهُ فِي بَيْتِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ. السَّادِسَةُ: إِذَا مَاتَ
الصَّبِيُّ مُجَهِّلاً لِمَا أُودِعَ عِنْدَهُ مَحْجُورًا. وَهَذِهِ
الثَّلاَثُ فِي تَلْخِيصِ الْجَامِعِ
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية المواد 777، 801، 803 ص 148 - 154.
(10/176)
الْكَبِيرِ لِلْخَلاَّطِيِّ فَصَارَ
الْمُسْتَثْنَى عَشَرَةً. وَمَعْنَى مَوْتِهِ مُجَهِّلاً: أَنْ لاَ
يُبَيِّنَ حَال الأَْمَانَةِ وَكَانَ يَعْلَمُ أَنَّ وَارِثَهُ لاَ
يَعْلَمُهَا، فَإِنْ بَيَّنَهَا وَقَال فِي حَيَاتِهِ: رَدَدْتُهَا فَلاَ
تَجْهِيل إِنْ بَرْهَنَ الْوَارِثُ عَلَى مَقَالَتِهِ، وَإِلاَّ لَمْ
يُقْبَل قَوْلُهُ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ وَارِثَهُ يَعْلَمُهَا
فَلاَ تَجْهِيل. (1)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِذَا تُوُفِّيَ الْمُودَعُ وَلَدَيْهِ
وَدِيعَةٌ، وَلَمْ يَرُدَّهَا لِصَاحِبِهَا قَبْل مَوْتِهِ، وَلَمْ يُوصِ
بِهَا، أَيْ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا مَنْ يَقُومُ بِرَدِّهَا بَعْدَ مَوْتِهِ
مِنْ قَاضٍ أَوْ أَمِينٍ أَوْ وَارِثٍ ضَمِنَهَا إِنْ تَمَكَّنَ مِنْ
رَدِّهَا أَوِ الإِْيصَاءِ بِهَا وَلَمْ يَفْعَل، بِخِلاَفِ مَا إِذَا لَمْ
يَتَمَكَّنْ، كَأَنْ مَاتَ فَجْأَةً أَوْ قُتِل غِيلَةً أَوْ سَافَرَ
بِهَا، لِعَجْزِهِ عَنْ ذَلِكَ، وَمَحَل ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْقَاضِي.
أَمَّا الْقَاضِي إِذَا مَاتَ وَلَمْ يُوجَدْ مَال الْيَتِيمِ فِي
تَرِكَتِهِ فَلاَ يَضْمَنُهُ وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهِ، لأَِنَّهُ أَمِينُ
الشَّرْعِ، بِخِلاَفِ سَائِرِ الأُْمَنَاءِ وَلِعُمُومِ وِلاَيَتِهِ. وَلاَ
أَثَرَ لِكِتَابَةِ الْمُودَعِ عَلَى شَيْءٍ: هَذَا وَدِيعَةُ فُلاَنٍ
مَثَلاً، أَوْ فِي أَوْرَاقِهِ: عِنْدِي لِفُلاَنٍ كَذَا إِلاَّ إِذَا
أَقَرَّ بِهِ أَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ أَوْ أَقَرَّ بِهِ الْوَارِثُ.
(2)
وَالْمَالِكِيَّةُ كَذَلِكَ فِي الضَّمَانِ، وَزَادُوا طُول الزَّمَنِ،
حَيْثُ قَالُوا: تُضْمَنُ الْوَدِيعَةُ بِمَوْتِ
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص / 109.
(2) شرح المنهج وحاشية الجمل عليه 4 / 78 - 79، وشرح روض الطالب وأسنى
المطالب 3 / 77 - 78 نشر المكتبة الإسلامية.
(10/176)
الْمُودَعِ إِذَا لَمْ يُوصِ بِهَا وَلَمْ
تُوجَدْ فِي تَرِكَتِهِ، فَتُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ، لاِحْتِمَال أَنَّهُ
تَسَلَّفَهَا، إِلاَّ أَنْ يَطُول الزَّمَنُ مِنْ يَوْمِ الإِْيدَاعِ
لِعَشْرِ سِنِينَ فَلاَ ضَمَانَ، وَيُحْمَل عَلَى أَنَّهُ رَدَّهَا
لِرَبِّهَا.، وَمَحَل كَوْنِ الْعَشْرِ السِّنِينَ طِوَالاً إِذَا لَمْ
تَكُنِ الْوَدِيعَةُ بِبَيِّنَةٍ مَقْصُودَةٍ لِلتَّوَثُّقِ، وَإِلاَّ
فَلاَ يَسْقُطُ الضَّمَانُ، وَلَوْ زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ أَخَذَهَا
رَبُّهَا إِنْ ثَبَتَ بِكِتَابَةٍ عَلَيْهَا أَنَّهَا لَهُ بِخَطِّ
الْمُودَعِ أَوِ الْمُودِعِ. (1)
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ: أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الْمُودَعُ وَعِنْدَهُ
وَدِيعَةٌ وَلاَ تَتَمَيَّزُ مِنْ مَالِهِ فَصَاحِبُهَا غَرِيمٌ بِهَا،
فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ سِوَاهَا فَهِيَ وَالدَّيْنُ سَوَاءٌ.
8 - هَذَا وَلاَ تَثْبُتُ الْوَدِيعَةُ إِلاَّ بِإِقْرَارٍ سَابِقٍ مِنَ
الْمَيِّتِ أَوْ وَرَثَتِهِ أَوْ بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِهَا، وَإِنْ
وَجَدَ عَلَيْهَا مَكْتُوبًا وَدِيعَةً لَمْ يَكُنْ حُجَّةً عَلَيْهِمْ،
لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الظَّرْفُ كَانَتْ فِيهِ وَدِيعَةٌ قَبْل هَذَا،
أَوْ كَانَتْ وَدِيعَةً لِمُوَرِّثِهِمْ عِنْدَ غَيْرِهِ، أَوْ كَانَتْ
وَدِيعَةً فَابْتَاعَهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ وَجَدَ فِي أَوْرَاقِ أَبِيهِ
أَنَّ لِفُلاَنٍ عِنْدِي وَدِيعَةً لَمْ يَلْزَمْهُ بِذَلِكَ، لِجَوَازِ
أَنْ يَكُونَ قَدْ رَدَّهَا وَنَسِيَ الضَّرْبَ عَلَى مَا كَتَبَ أَوْ
غَيْرَ ذَلِكَ. (2)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي (إِبْضَاعٌ، رَهْنٌ، عَارِيَّةٌ،
مُضَارَبَةٌ، وَدِيعَةٌ وَوَقْفٌ) .
__________
(1) الشرح الكبير 3 / 425 - 426، وجواهر الإكليل 2 / 142.
(2) المغني لابن قدامة 6 / 393، 394 م الرياض الحديثة.
(10/177)
تَجْوِيدٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّجْوِيدُ لُغَةً: تَصْيِيرُ الشَّيْءِ جَيِّدًا. وَالْجَيِّدُ:
ضِدُّ الرَّدِيءِ، يُقَال: جَوَّدَ فُلاَنٌ كَذَا: أَيْ فَعَلَهُ جَيِّدًا،
وَجَوَّدَ الْقِرَاءَةَ: أَيْ أَتَى بِهَا بَرِيئَةً مِنَ الرَّدَاءَةِ فِي
النُّطْقِ. (1)
وَاصْطِلاَحًا: إِعْطَاءُ كُل حَرْفٍ حَقَّهُ وَمُسْتَحَقَّهُ.
وَالْمُرَادُ بِحَقِّ الْحَرْفِ: الصِّفَةُ الذَّاتِيَّةُ الثَّابِتَةُ
لَهُ كَالشِّدَّةِ وَالاِسْتِعْلاَءِ، وَالْمُرَادُ بِمُسْتَحَقِّ
الْحَرْفِ: مَا يَنْشَأُ عَنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ
اللاَّزِمَةِ كَالتَّفْخِيمِ، فَإِنَّهُ نَاشِئٌ عَنْ كُلٍّ مِنَ
الاِسْتِعْلاَءِ وَالتَّكْرِيرِ؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ فِي الْحَرْفِ حَال
سُكُونِهِ وَتَحْرِيكِهِ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ فَقَطْ، وَلاَ يَكُونُ فِي
حَال الْكَسْرِ. (2) وَهَذَا كُلُّهُ بَعْدَ إِخْرَاجِ كُل حَرْفٍ مِنْ
مَخْرَجِهِ. وَاعْتَبَرَهُ بَعْضُهُمْ غَيْرَ دَاخِلٍ فِي تَعْرِيفِ
التَّجْوِيدِ، لأَِنَّهُ مَطْلُوبٌ لِحُصُول أَصْل
__________
(1) لسان العرب، وطيبة النشر في القراءات العشر لمحمد بن محمد بن الجزري
المتوفى 833 هـ ص 36.
(2) المقدمة الجزرية وشرحها لزكريا الأنصاري ولعلي القارئ ص 21، ونهاية
القول المفيد للشيخ محمد بن مكي بن نصر ص 11، والإتقان للسيوطي 1 / 100.
(10/177)
الْقِرَاءَةِ، لَكِنْ قَال الشَّيْخُ
عَلِيٌّ الْقَارِيُّ: وَلاَ يَخْفَى أَنَّ إِخْرَاجَ الْحَرْفِ مِنْ
مَخْرَجِهِ أَيْضًا دَاخِلٌ فِي تَعْرِيفِ التَّجْوِيدِ، كَمَا صَرَّحَ
بِهِ ابْنُ الْجَزَرِيِّ فِي كِتَابِ التَّمْهِيدِ، (1) أَيْ لأَِنَّ
الْمُعَرَّفَ هُوَ الْقِرَاءَةُ الْمُجَوَّدَةُ، وَلَيْسَ مُطْلَقَ
الْقِرَاءَةِ، وَتَجْوِيدُ الْقِرَاءَةِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِإِخْرَاجِ
كُل حَرْفٍ مِنْ مَخْرَجِهِ.
قَال ابْنُ الْجَزَرِيِّ: التَّجْوِيدُ: إِعْطَاءُ الْحُرُوفِ حُقُوقَهَا
وَتَرْتِيبَهَا مَرَاتِبَهَا، وَرَدُّ الْحَرْفِ إِلَى مَخْرَجِهِ
وَأَصْلِهِ وَإِلْحَاقُهُ بِنَظِيرِهِ، وَتَصْحِيحُ لَفْظِهِ وَتَلْطِيفُ
النُّطْقِ بِهِ عَلَى حَال صِيغَتِهِ وَكَمَال هَيْئَتِهِ، مِنْ غَيْرِ
إِسْرَافٍ وَلاَ تَعَسُّفٍ وَلاَ إِفْرَاطٍ وَلاَ تَكَلُّفٍ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التِّلاَوَةُ، وَالأَْدَاءُ، وَالْقِرَاءَةُ:
2 - التِّلاَوَةُ اصْطِلاَحًا: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ مُتَتَابِعًا
كَالأَْجْزَاءِ وَالأَْسْدَاسِ. أَمَّا الأَْدَاءُ فَهُوَ: الأَْخْذُ عَنِ
الشُّيُوخِ بِالسَّمَاعِ مِنْهُمْ أَوِ الْقِرَاءَةِ بِحَضْرَتِهِمْ.
وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فَهِيَ أَعَمُّ مِنَ التِّلاَوَةِ وَالأَْدَاءِ (3)
. وَلاَ يَخْفَى أَنَّ التَّجْوِيدَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى هَذِهِ
الأَْلْفَاظِ الثَّلاَثَةِ، فَهُوَ أَخَصُّ مِنْهَا جَمِيعِهَا.
__________
(1) شرح المقدمة الجزرية للشيخ علي القاري ص 21.
(2) النشر لمحمد بن محمد بن الجزري 1 / 212.
(3) شرح المقدمة الجزرية للقاضي زكريا الأنصاري، وكشاف مصطلحات الفنون 1 /
171، وشرح مسلم الثبوت 2 / 15 - 16.
(10/178)
ب - التَّرْتِيل:
3 - التَّرْتِيل لُغَةً: مَصْدَرُ رَتَّل، يُقَال: رَتَّل فُلاَنٌ
كَلاَمَهُ: إِذَا أَتْبَعَ بَعْضَهُ بَعْضًا عَلَى مُكْثٍ وَتَفَهُّمٍ مِنْ
غَيْرِ عَجَلٍ.
وَاصْطِلاَحًا: هُوَ رِعَايَةُ مَخَارِجِ الْحُرُوفِ وَحِفْظُ الْوُقُوفِ.
وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ قَال:
التَّرْتِيل تَجْوِيدُ الْحُرُوفِ وَمَعْرِفَةُ الْوُقُوفِ (1) .
فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّجْوِيدِ: أَنَّ التَّرْتِيل وَسِيلَةٌ
مِنْ وَسَائِل التَّجْوِيدِ، وَأَنَّ التَّجْوِيدَ يَشْمَل مَا يَتَّصِل
بِالصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ لِلْحُرُوفِ، وَمَا يَلْزَمُ عَنْ تِلْكَ
الصِّفَاتِ، أَمَّا التَّرْتِيل فَيَقْتَصِرُ عَلَى رِعَايَةِ مَخَارِجِ
الْحُرُوفِ وَضَبْطِ الْوُقُوفِ لِعَدَمِ الْخَلْطِ بَيْنَ الْحُرُوفِ فِي
الْقِرَاءَةِ السَّرِيعَةِ، وَلِذَلِكَ أَطْلَقَ الْعُلَمَاءُ
(التَّرْتِيل) عَلَى مَرْتَبَةٍ مِنْ مَرَاتِبِ الْقِرَاءَةِ مِنْ حَيْثُ
إِتْمَامُ الْمَخَارِجِ وَالْمُدُودِ، وَهُوَ يَأْتِي بَعْدَ مَرْتَبَةِ
(التَّحْقِيقِ) وَأَدْنَى مِنْهُمَا مَرْتَبَةٌ وُسْطَى تُسَمَّى
(التَّدْوِيرَ) ثُمَّ (الْحَدْرَ) وَهُوَ الْمَرْتَبَةُ الأَْخِيرَةُ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الاِشْتِغَال بِعِلْمِ التَّجْوِيدِ فَرْضُ
كِفَايَةٍ (3)
__________
(1) التعريفات للجرجاني.
(2) شرح طيبة النشر ص 35، وشرح الجزرية للأنصاري ص 20.
(3) نهاية القول المفيد ص 7، وشرح الجزرية للقاري ص 19.
(10/178)
أَمَّا الْعَمَل بِهِ، فَقَدْ ذَهَبَ
الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْقِرَاءَاتِ وَالتَّجْوِيدِ إِلَى
أَنَّ الأَْخْذَ بِجَمِيعِ أُصُول التَّجْوِيدِ وَاجِبٌ يَأْثَمُ
تَارِكُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُتَعَلِّقًا بِحِفْظِ الْحُرُوفِ - مِمَّا
يُغَيِّرُ مَبْنَاهَا أَوْ يُفْسِدُ مَعْنَاهَا - أَمْ تَعَلَّقَ بِغَيْرِ
ذَلِكَ مِمَّا أَوْرَدَهُ الْعُلَمَاءُ فِي كُتُبِ التَّجْوِيدِ،
كَالإِْدْغَامِ وَنَحْوِهِ. قَال مُحَمَّدُ بْنُ الْجَزَرِيِّ فِي
النَّشْرِ نَقْلاً عَنِ الإِْمَامِ نَصْرٍ الشِّيرَازِيِّ: حُسْنُ
الأَْدَاءِ فَرْضٌ فِي الْقِرَاءَةِ، وَيَجِبُ عَلَى الْقَارِئِ أَنْ
يَتْلُوَ الْقُرْآنَ حَقَّ تِلاَوَتِهِ (1) .
وَذَهَبَ الْمُتَأَخِّرُونَ إِلَى التَّفْصِيل بَيْنَ مَا هُوَ (وَاجِبٌ
شَرْعِيٌّ) مِنْ مَسَائِل التَّجْوِيدِ، وَهُوَ مَا يُؤَدِّي تَرْكُهُ
إِلَى تَغْيِيرِ الْمَبْنَى أَوْ فَسَادِ الْمَعْنَى، وَبَيْنَ مَا هُوَ
(وَاجِبٌ صِنَاعِيٌّ) أَيْ أَوْجَبَهُ أَهْل ذَلِكَ الْعِلْمِ لِتَمَامِ
إِتْقَانِ الْقِرَاءَةِ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ فِي كُتُبِ
التَّجْوِيدِ مِنْ مَسَائِل لَيْسَتْ كَذَلِكَ، كَالإِْدْغَامِ
وَالإِْخْفَاءِ إِلَخْ. فَهَذَا النَّوْعُ لاَ يَأْثَمُ تَارِكُهُ
عِنْدَهُمْ.
قَال الشَّيْخُ عَلِيٌّ الْقَارِيُّ بَعْدَ بَيَانِهِ أَنَّ مَخَارِجَ
الْحُرُوفِ وَصِفَاتِهَا، وَمُتَعَلِّقَاتِهَا مُعْتَبَرَةٌ فِي لُغَةِ
الْعَرَبِ: فَيَنْبَغِي أَنْ تُرَاعَى جَمِيعُ قَوَاعِدِهِمْ وُجُوبًا
فِيمَا يَتَغَيَّرُ بِهِ الْمَبْنَى وَيَفْسُدُ الْمَعْنَى،
وَاسْتِحْبَابًا فِيمَا يَحْسُنُ بِهِ اللَّفْظُ وَيُسْتَحْسَنُ بِهِ
النُّطْقُ حَال الأَْدَاءِ. ثُمَّ قَال عَنِ اللَّحْنِ الْخَفِيِّ الَّذِي
لاَ يَعْرِفُهُ
__________
(1) النشر 1 / 211.
(10/179)
إِلاَّ مَهَرَةُ الْقُرَّاءِ: لاَ
يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ فَرْضَ عَيْنٍ يَتَرَتَّبُ الْعِقَابُ عَلَى
قَارِئِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ حَرَجٍ عَظِيمٍ. (1) وَلَمَّا قَال مُحَمَّدُ
بْنُ الْجَزَرِيِّ فِي مَنْظُومَتِهِ فِي التَّجْوِيدِ، وَفِي الطَّيِّبَةِ
أَيْضًا:
وَالأَْخْذُ بِالتَّجْوِيدِ حَتْمٌ لاَزِمُ
مَنْ لَمْ يُجَوِّدِ الْقُرْآنَ آثِمُ
قَال ابْنُهُ أَحْمَدُ فِي شَرْحِهَا:
ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَال: لأَِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى أَنْزَل بِهِ كِتَابَهُ الْمَجِيدَ، وَوَصَل مِنْ نَبِيِّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَاتِرًا بِالتَّجْوِيدِ.
وَكَرَّرَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْجَزَرِيِّ هَذَا التَّقْيِيدَ
بِالْقُدْرَةِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ. (2) وَيَدُل لِذَلِكَ الْحَدِيثُ
الَّذِي رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
أَنَّهَا قَالَتْ: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ،
وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيُتَعْتِعُ فِيهِ، وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ
لَهُ أَجْرَانِ (3)
وَقَدِ اعْتَبَرَ ابْنُ غَازِيٍّ فِي شَرْحِهِ لِلْجَزَرِيَّةِ (4)
__________
(1) شرح الجزرية للشيخ علي القاري ص 20، ونهاية القول المفيد ص 25.
(2) شرح الطيبة لأحمد بن محمد بن الجزري المتوفى 859 وهو ولد مصنف الجزرية
والطيبة والنشر ص 36.
(3) حديث: " الماهر بالقرآن مع السفرة. . . " أخرجه البخاري ومسلم واللفظ
له (فتح الباري 8 / 691 ط السلفية، وصحيح مسلم 1 / 550 ط الحلبي) .
(4) نهاية القول المفيد ص 25 - 26 نقلا عن شرح الجزرية لابن غازي.
(10/179)
مِنَ الْوَاجِبِ الصِّنَاعِيِّ: كُل مَا
كَانَ مِنْ مَسَائِل الْخِلاَفِ مِنَ الْوُجُوهِ الْمُخْتَارَةِ لِكُل
قَارِئٍ مِنَ الْقُرَّاءِ الْمَشْهُورِينَ، حَيْثُ يَرَى بَعْضُهُمُ
التَّفْخِيمَ وَيَرَى غَيْرُهُ التَّرْقِيقَ فِي مَوْطِنٍ وَاحِدٍ، فَهَذَا
لاَ يَأْثَمُ تَارِكُهُ، وَلاَ يَتَّصِفُ بِالْفِسْقِ. وَكَذَلِكَ مَا
كَانَ مِنْ جِهَةِ الْوَقْفِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَى الْقَارِئِ
الْوَقْفُ عَلَى مَحَلٍّ مُعَيَّنٍ بِحَيْثُ لَوْ تَرَكَهُ يَأْثَمُ، وَلاَ
يَحْرُمُ الْوَقْفُ عَلَى كَلِمَةٍ بِعَيْنِهَا إِلاَّ إِذَا كَانَتْ
مُوهِمَةً وَقَصَدَهَا، فَإِنِ اعْتَقَدَ الْمَعْنَى الْمُوهِمَ لِلْكُفْرِ
كَفَرَ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - كَأَنْ وَقَفَ عَلَى قَوْله تَعَالَى:
(إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِ) دُونَ قَوْلِهِ: (أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً
مَا) ، أَوْ عَلَى قَوْلِهِ: (وَمَا مِنْ إِلَهٍ) دُونَ (إِلاَّ اللَّهُ) .
أَمَّا قَوْل عُلَمَاءِ الْقِرَاءَةِ: الْوَقْفُ عَلَى هَذَا وَاجِبٌ، أَوْ
لاَزِمٌ، أَوْ حَرَامٌ، أَوْ لاَ يَحِل، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِنَ
الأَْلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى الْوُجُوبِ أَوِ التَّحْرِيمِ فَلاَ
يُرَادُ مِنْهُ مَا هُوَ مُقَرَّرٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، مِمَّا يُثَابُ
عَلَى فِعْلِهِ، وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ، أَوْ عَكْسُهُ، بَل
الْمُرَادُ: أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْقَارِئِ أَنْ يَقِفَ عَلَيْهِ لِمَعْنًى
يُسْتَفَادُ مِنَ الْوَقْفِ عَلَيْهِ، أَوْ لِئَلاَّ يُتَوَهَّمَ مِنَ
الْوَصْل تَغْيِيرُ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ، أَوْ لاَ يَنْبَغِي الْوَقْفُ
عَلَيْهِ وَلاَ الاِبْتِدَاءُ بِمَا بَعْدَهُ، لِمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ
تَغْيِيرِ الْمَعْنَى أَوْ رَدَاءَةِ التَّلَفُّظِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُمْ: لاَ يُوقَفُ عَلَى كَذَا، مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لاَ يَحْسُنُ
الْوَقْفُ عَلَيْهِ صِنَاعَةً، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ
(10/180)
الْوَقْفَ عَلَيْهِ حَرَامٌ أَوْ
مَكْرُوهٌ، بَل خِلاَفُ الأَْوْلَى، إِلاَّ إِنْ تَعَمَّدَ قَاصِدًا
الْمَعْنَى الْمُوهِمَ. (1)
ثُمَّ تَطَرَّقَ ابْنُ غَازِيٍّ إِلَى حُكْمِ تَعَلُّمِ التَّجْوِيدِ
بِالنِّسْبَةِ لِمُرِيدِ الْقِرَاءَةِ، فَقَرَّرَ عَدَمَ وُجُوبِ ذَلِكَ
عَلَى مَنْ أَخَذَ الْقِرَاءَةَ عَلَى شَيْخٍ مُتْقِنٍ، وَلَمْ يَتَطَرَّقِ
اللَّحْنُ إِلَيْهِ، مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ عِلْمِيَّةٍ بِمَسَائِلِهِ،
وَكَذَلِكَ عَدَمُ وُجُوبِ تَعَلُّمِهِ عَلَى الْعَرَبِيِّ الْفَصِيحِ
الَّذِي لاَ يَتَطَرَّقُ اللَّحْنُ إِلَيْهِ، بِأَنْ كَانَ طَبْعُهُ عَلَى
الْقِرَاءَةِ بِالتَّجْوِيدِ، فَإِنَّ تَعَلُّمَ هَذَيْنِ لِلأَْحْكَامِ
أَمْرٌ صِنَاعِيٌّ. أَمَّا مَنْ أَخَل بِشَيْءٍ مِنَ الأَْحْكَامِ
الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا، أَوْ لَمْ يَكُنْ عَرَبِيًّا فَصِيحًا، فَلاَ بُدَّ
فِي حَقِّهِ مِنْ تَعَلُّمِ الأَْحْكَامِ وَالأَْخْذِ بِمُقْتَضَاهَا مِنْ
أَفْوَاهِ الْمَشَايِخِ. (2)
قَال الإِْمَامُ الْجَزَرِيُّ فِي النَّشْرِ: وَلاَ شَكَّ أَنَّ الأُْمَّةَ
كَمَا هُمْ مُتَعَبَّدُونَ بِفَهْمِ مَعَانِي الْقُرْآنِ وَإِقَامَةِ
حُدُودِهِ، كَذَلِكَ هُمْ مُتَعَبِّدُونَ بِتَصْحِيحِ أَلْفَاظِهِ
وَإِقَامَةِ حُرُوفِهِ عَلَى الصِّفَةِ الْمُتَلَقَّاةِ مِنْ أَئِمَّةِ
الْقِرَاءَةِ وَالْمُتَّصِلَةِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. (3)
مَا يَتَنَاوَلُهُ التَّجْوِيدُ مِنْ أُمُورٍ:
5 - التَّجْوِيدُ عِلْمٌ مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ، وَلَكِنَّهُ يَتَمَيَّزُ
عَنْ غَيْرِهِ مِنْ تِلْكَ الْعُلُومِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْقُرْآنِ
بِأَنَّهُ
__________
(1) نهاية القول المفيد نقلا عن ابن غازي ص 26.
(2) نهاية القول المفيد ص 26.
(3) النشر للجزري 1 / 210، والإتقان للسيوطي 1 / 100.
(10/180)
يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْخَاصَّةُ
وَالْعَامَّةُ، لِحَاجَتِهِمْ إِلَى تِلاَوَةِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى
كَمَا أُنْزِل، حَسْبَمَا نُقِل عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُوَ إِمَّا أَنْ يُحَصَّل بِالتَّعَلُّمِ
لِمَسَائِلِهِ، أَوْ يُؤْخَذَ بِالتَّلَقِّي مِنْ أَفْوَاهِ الْعُلَمَاءِ،
وَلاَ بُدَّ فِي الْحَالَيْنِ مِنَ التَّمْرِينِ وَالتَّكْرَارِ.
قَال أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ: لَيْسَ بَيْنَ التَّجْوِيدِ وَتَرْكِهِ
إِلاَّ رِيَاضَةٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ بِفَكَهٍ. وَقَال أَحْمَدُ بْنُ
الْجَزَرِيِّ: لاَ أَعْلَمُ سَبَبًا لِبُلُوغِ نِهَايَةِ الإِْتْقَانِ
وَالتَّجْوِيدِ وَوُصُول غَايَةِ التَّصْحِيحِ وَالتَّسْدِيدِ مِثْل
رِيَاضَةِ الأَْلْسُنِ وَالتَّكْرَارِ عَلَى اللَّفْظِ الْمُتَلَقَّى مِنْ
فَمِ الْمُحْسِنِ.
وَيَشْتَمِل عِلْمُ التَّجْوِيدِ عَلَى أَبْحَاثٍ كَثِيرَةٍ أَهَمُّهَا:
أ - مَخَارِجُ الْحُرُوفِ، لِلتَّوَصُّل إِلَى إِخْرَاجِ كُل حَرْفٍ مِنْ
مَخْرَجِهِ الصَّحِيحِ.
ب - صِفَاتُ الْحُرُوفِ، مِنْ جَهْرٍ وَهَمْسٍ مَعَ مَعْرِفَةِ الْحُرُوفِ
الْمُشْتَرَكَةِ فِي الصِّفَةِ.
ج - التَّفْخِيمُ وَالتَّرْقِيقُ وَمَا يَتَّصِل بِذَلِكَ مِنْ أَحْكَامٍ
لِبَعْضِ الْحُرُوفِ كَالرَّاءِ وَاللاَّمِ.
د - أَحْوَال النُّونِ السَّاكِنَةِ وَالتَّنْوِينِ وَالْمِيمِ
السَّاكِنَةِ.
هـ - الْمَدُّ وَالْقَصْرُ وَأَنْوَاعُ الْمَدِّ.
و الْوَقْفُ وَالاِبْتِدَاءُ وَالْقَطْعُ وَمَا يَتَّصِل بِذَلِكَ مِنْ
أَحْكَامٍ.
ز - أَحْكَامُ الاِبْتِدَاءِ بِالْقِرَاءَةِ، مِنْ تَعَوُّذٍ وَبَسْمَلَةٍ
وَأَحْكَامِ خَتْمِ الْقُرْآنِ وَآدَابِ التِّلاَوَةِ.
(10/181)
وَمَوْطِنُ تَفْصِيل ذَلِكَ هُوَ كُتُبُ
عِلْمِ التَّجْوِيدِ، وَكَذَلِكَ كُتُبُ الْقِرَاءَاتِ فِي آخِرِ
أَبْحَاثِهَا كَمَا فِي مَنْظُومَةِ حِرْزِ الأَْمَانِي لِلشَّاطِبِيِّ،
أَوْ فِي أَوَائِلِهَا كَمَا فِي " الطَّيِّبَةِ " لِمُحَمَّدِ بْنِ
الْجَزَرِيِّ، وَفِي بَعْضِ الْمُطَوَّلاَتِ مِنْ كُتُبِ عُلُومِ
الْقُرْآنِ كَالْبُرْهَانِ لِلزَّرْكَشِيِّ، وَالإِْتْقَانِ
لِلسُّيُوطِيِّ.
مَا يُخِل بِالتَّجْوِيدِ، وَحُكْمُهُ:
6 - يَقَعُ الإِْخْلاَل بِالتَّجْوِيدِ إِمَّا فِي أَدَاءِ الْحُرُوفِ،
وَإِمَّا فِيمَا يُلاَبِسُ الْقِرَاءَةَ مِنَ التَّغْيِيرَاتِ
الصَّوْتِيَّةِ الْمُخَالِفَةِ لِكَيْفِيَّةِ النُّطْقِ الْمَأْثُورَةِ.
فَالنَّوْعُ الأَْوَّل يُسَمَّى (اللَّحْنَ) أَيِ الْخَطَأَ وَالْمَيْل
عَنِ الصَّوَابِ، وَهُوَ نَوْعَانِ: جَلِيٌّ وَخَفِيٌّ.
وَاللَّحْنُ الْجَلِيُّ: خَطَأٌ يَطْرَأُ عَلَى الأَْلْفَاظِ فَيُخِل
بِعُرْفِ الْقِرَاءَةِ، سَوَاءٌ أَخَل بِالْمَعْنَى أَمْ لَمْ يُخِل.
وَسُمِّيَ جَلِيًّا لأَِنَّهُ يُخِل إِخْلاَلاً ظَاهِرًا يَشْتَرِكُ فِي
مَعْرِفَتِهِ عُلَمَاءُ الْقُرْآنِ وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ يَكُونُ فِي
مَبْنَى الْكَلِمَةِ كَتَبْدِيل حَرْفٍ بِآخَرَ، أَوْ فِي حَرَكَتِهَا
بِتَبْدِيلِهَا إِلَى حَرَكَةٍ أُخْرَى أَوْ سُكُونٍ، سَوَاءٌ أَتَغَيَّرَ
الْمَعْنَى بِالْخَطَأِ فِيهَا أَمْ لَمْ يَتَغَيَّرْ.
وَهَذَا النَّوْعُ يَحْرُمُ عَلَى مَنْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى تَلاَفِيهِ،
سَوَاءٌ أَوْهَمَ خَلَل الْمَعْنَى أَوِ اقْتَضَى تَغْيِيرَ الإِْعْرَابِ.
وَأَمَّا اللَّحْنُ الْخَفِيُّ: فَهُوَ خَطَأٌ يَطْرَأُ عَلَى اللَّفْظِ،
فَيُخِل بِعُرْفِ الْقِرَاءَةِ وَلاَ يُخِل بِالْمَعْنَى. وَسُمِّيَ
خَفِيًّا لأَِنَّهُ يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ عُلَمَاءُ الْقُرْآنِ
(10/181)
وَأَهْل التَّجْوِيدِ. وَهُوَ يَكُونُ فِي
صِفَاتِ الْحُرُوفِ (1) ، وَهَذَا اللَّحْنُ الْخَفِيُّ قِسْمَانِ:
أَحَدُهُمَا: لاَ يَعْرِفُهُ إِلاَّ عُلَمَاءُ الْقِرَاءَةِ كَتَرْكِ
الإِْخْفَاءِ، وَهُوَ لَيْسَ بِفَرْضِ عَيْنٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ عِقَابٌ
كَمَا سَبَقَ، بَل فِيهِ خَوْفُ الْعِتَابِ وَالتَّهْدِيدِ (2) .
وَالثَّانِي: لاَ يَعْرِفُهُ إِلاَّ مَهَرَةُ الْقُرَّاءِ كَتَكْرِيرِ
الرَّاءَاتِ وَتَغْلِيظِ اللاَّمَاتِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا، وَمُرَاعَاةُ
مِثْل هَذَا مُسْتَحَبَّةٌ تَحْسُنُ فِي حَال الأَْدَاءِ.
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الإِْخْلاَل فَهُوَ مَا يَحْصُل مِنَ
الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ عَنِ الْحَدِّ الْمَنْقُول مِنْ أَوْضَاعِ
التِّلاَوَةِ، سَوَاءٌ فِي أَدَاءِ الْحَرْفِ أَوِ الْحَرَكَةِ عِنْدَ
الْقِرَاءَةِ، وَسَبَبُ الإِْخْلاَل الْقِرَاءَةُ بِالأَْلْحَانِ
الْمُطْرِبَةِ الْمُرَجِّعَةِ كَتَرْجِيعِ الْغِنَاءِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ
لِمَا فِيهِ مِنْ إِخْرَاجِ التِّلاَوَةِ عَنْ أَوْضَاعِهَا الصَّحِيحَةِ،
وَتَشْبِيهِ الْقُرْآنِ بِالأَْغَانِي الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا الطَّرَبُ
(3) .
وَاسْتَدَلُّوا لِمَنْعِ ذَلِكَ بِحَدِيثِ عَابِسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَال: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُول: بَادِرُوا بِالْمَوْتِ سِتًّا: إِمْرَةَ السُّفَهَاءِ، وَكَثْرَةَ
الشُّرَطِ، وَبَيْعَ الْحُكْمِ، وَاسْتِخْفَافًا بِالدَّمِ، وَقَطِيعَةَ
الرَّحِمِ، وَنَشْئًا يَتَّخِذُونَ الْقُرْآنَ مَزَامِيرَ
__________
(1) نهاية القول المفيد ص 22 - 24، والإتقان للسيوطي 1 / 100
(2) أي في حق القادر على ذلك
(3) نهاية القول المفيد ص 24.
(10/182)
يُقَدِّمُونَهُ يُغَنِّيهِمْ، وَإِنْ كَانَ
أَقَل مِنْهُمْ فِقْهًا (1) .
قَال الشَّيْخُ زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيُّ: وَالْمُرَادُ بِلُحُونِ
الْعَرَبِ: الْقِرَاءَةُ بِالطَّبْعِ وَالسَّلِيقَةِ كَمَا جُبِلُوا
عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلاَ نَقْصٍ، وَالْمُرَادُ بِلُحُونِ
أَهْل الْفِسْقِ وَالْكَبَائِرِ: الأَْنْغَامُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ
عِلْمِ الْمُوسِيقَى، وَالأَْمْرُ فِي الْخَبَرِ مَحْمُولٌ عَلَى
النَّدْبِ، وَالنَّهْيُ عَلَى الْكَرَاهَةِ إِنْ حَصَلَتِ الْمُحَافَظَةُ
عَلَى صِحَّةِ أَلْفَاظِ الْحُرُوفِ، وَإِلاَّ فَعَلَى التَّحْرِيمِ (2) .
قَال الرَّافِعِيُّ: الْمَكْرُوهُ أَنْ يُفَرِّطَ فِي الْمَدِّ وَفِي
إِشْبَاعِ الْحَرَكَاتِ، حَتَّى يَتَوَلَّدَ مِنَ الْفَتْحَةِ أَلِفٌ
وَمِنَ الضَّمَّةِ وَاوٌ. . . إِلَخْ قَال النَّوَوِيُّ: الصَّحِيحُ أَنَّ
الإِْفْرَاطَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ حَرَامٌ يَفْسُقُ بِهِ
الْقَارِئُ وَيَأْثَمُ بِهِ الْمُسْتَمِعُ، لأَِنَّهُ عَدَل بِهِ عَنْ
مَنْهَجِهِ الْقَوِيمِ، وَهَذَا مُرَادُ الشَّافِعِيِّ بِالْكَرَاهَةِ.
وَقَدْ أَوْرَدَ عُلَمَاءُ التَّجْوِيدِ نَمَاذِجَ مِنْ ذَلِكَ، فَمِنْهَا
مَا يُسَمَّى بِالتَّرْقِيصِ، وَالتَّحْزِينِ، وَالتَّرْعِيدِ،
وَالتَّحْرِيفِ، وَالْقِرَاءَةِ بِاللِّينِ وَالرَّخَاوَةِ
__________
(1) حديث عابس أخرجه أحمد من طريق شريك عن أبي اليقظان ابن عمير. والحديث
صحيح بشواهده. (مسند أحمد بن حنبل 3 / 494، و 6 / 22 ط الميمنية، والمستدرك
3 / 443 نشر دار الكتاب العربي، وزاد المعاد بتحقيق شعيب الأرناؤوط وعبد
القادر الأرناؤوط 1 / 491 نشر مؤسسة الرسالة) .
(2) شرح الجزرية للأنصاري ص 21.
(10/182)
فِي الْحُرُوفِ، وَالنَّقْرِ بِالْحُرُوفِ
وَتَقْطِيعِهَا. . . (1) إِلَخْ.
وَتَفْصِيل الْمُرَادِ بِذَلِكَ فِي مَرَاجِعِهِ، وَمِنْهَا شُرُوحُ
الْجَزَرِيَّةِ، وَنِهَايَةُ الْقَوْل الْمُفِيدِ، وَقَدْ أَوْرَدَ
أَبْيَاتًا فِي ذَلِكَ مِنْ مَنْظُومَةٍ لِلإِْمَامِ عَلَمِ الدِّينِ
السَّخَاوِيِّ، ثُمَّ نَقَل عَنْ شَرْحِهَا قَوْلَهُ: فَكُل حَرْفٍ لَهُ
مِيزَانٌ يُعْرَفُ بِهِ مِقْدَارُ حَقِيقَتِهِ، وَذَلِكَ الْمِيزَانُ هُوَ
مَخْرَجُهُ وَصِفَتُهُ، وَإِذَا خَرَجَ عَنْ مَخْرَجِهِ مُعْطًى مَا لَهُ
مِنَ الصِّفَاتِ عَلَى وَجْهِ الْعَدْل فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إِفْرَاطٍ
وَلاَ تَفْرِيطٍ فَقَدْ وُزِنَ بِمِيزَانِهِ، وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ
التَّجْوِيدِ (2) . وَسَبِيل ذَلِكَ التَّلَقِّي مِنْ أَفْوَاهِ
الْقُرَّاءِ الْمُتْقِنِينَ.
تَحَالُفٌ
اُنْظُرْ: حِلْفٌ.
تَحْبِيسٌ
اُنْظُرْ: وَقْفٌ.
__________
(1) شرح الجزرية للأنصاري وللقاري ص 22، ونهاية القول المفيد ص 19 - 20.
(2) الإتقان للسيوطي 1 / 102، ونهاية القول المفيد ص 20.
(10/183)
تَحْجِيرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّحْجِيرُ أَوِ الاِحْتِجَارُ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا: مَنْعُ
الْغَيْرِ مِنَ الإِْحْيَاءِ بِوَضْعِ عَلاَمَةٍ كَحَجَرٍ أَوْ غَيْرِهِ
عَلَى الْجَوَانِبِ الأَْرْبَعَةِ، وَهُوَ يُفِيدُ الاِخْتِصَاصَ لاَ
التَّمْلِيكَ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الأَْرْضَ الْمُحَجَّرَةَ - مِنَ
الأَْرَاضِيِ الْخَرِبَةِ - لاَ يَجُوزُ إِحْيَاؤُهَا؛ لأَِنَّ مَنْ
حَجَّرَهَا أَوْلَى بِالاِنْتِفَاعِ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ
أَهْمَلَهَا فَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلاَتٌ.
فَالْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَضَعُوا مُدَّةً قُصْوَى
لِلاِخْتِصَاصِ الْحَاصِل بِالتَّحْجِيرِ، وَهِيَ ثَلاَثُ سَنَوَاتٍ،
وَهَذَا هُوَ الْحُكْمُ دِيَانَةً، أَمَّا قَضَاءً فَإِذَا أَحْيَاهَا
غَيْرُهُ قَبْل مُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ مَلَكَهَا، وَهَذَا هُوَ
الْحُكْمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِتَعْمِيرِهَا
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة " حجر "، والفتاوى الهندية 5 / 386،
وشرح فتح القدير 8 / 138، 139، وحاشية الدسوقي 4 / 70 ط عيسى الحلبي بمصر،
والمغني لابن قدامة 5 / 518.
(10/183)
أَخَذَهَا الإِْمَامُ وَدَفَعَهَا إِلَى
غَيْرِهِ، لِقَوْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَيْسَ لِمُتَحَجِّرٍ
بَعْدَ ثَلاَثِ سِنِينَ حَقٌّ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى
أَنَّهُ إِذَا أَهْمَل الْمُتَحَجِّرُ إِحْيَاءَ الأَْرْضِ مُدَّةً غَيْرَ
طَوِيلَةٍ عُرْفًا، وَجَاءَ مَنْ يُحْيِيهَا فَإِنَّ الْحَقَّ
لِلْمُتَحَجِّرِ.
وَالْوَجْهُ الآْخَرُ لِلْحَنَابِلَةِ: أَنَّ التَّحْجِيرَ بِلاَ عَمَلٍ
لاَ يُفِيدُ، وَأَنَّ الْحَقَّ لِمَنْ أَحْيَا تِلْكَ الأَْرْضَ (2) .
وَسَبَقَ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ ج 2 16) .
__________
(1) شرح فتح القدير 8 / 138، 139 ط دار صادر، ورد المحتار 5 / 278،
والفتاوى الهندية 5 / 386، والدسوقي 4 / 69، 70، والرهوني 7 / 101، 114.
(2) نهاية المحتاج 5 / 327، 336، 337 ط المكتبة الإسلامية، وشرح المنهاج 3
/ 91، 193، والمغني لابن قدامة 5 / 569، 570، وكشاف القناع 4 / 193.
(10/184)
تَحْدِيدٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّحْدِيدُ لُغَةً: مَصْدَرُ حَدَّدَ، وَأَصْل الْحَدِّ: الْمَنْعُ
وَالْفَصْل بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، يُقَال: حَدَّدْتُ الدَّارَ تَحْدِيدًا:
إِذَا مَيَّزْتَهَا مِنْ مُجَاوَرَاتِهَا بِذِكْرِ نِهَايَاتِهَا (1) .
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: تَحْدِيدُ الشَّيْءِ عِبَارَةٌ عَنْ ذِكْرِ
حُدُودِهِ، وَيُسْتَعْمَل غَالِبًا فِي الْعَقَارِ، كَمَا يَقُولُونَ: إِنِ
ادَّعَى عَقَارًا حَدَّدَهُ، أَيْ ذَكَرَ الْمُدَّعِي حُدُودَهُ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّعْيِينُ:
2 - تَعْيِينُ الشَّيْءِ: تَخْصِيصُهُ مِنَ الْجُمْلَةِ، يُقَال: عَيَّنْتُ
النِّيَّةَ إِذَا نَوَيْتَ صَوْمًا مُعَيَّنًا، وَمِنْهُ خِيَارُ
التَّعْيِينِ، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ أَحَدَ الشَّيْئَيْنِ أَوِ
الثَّلاَثَةَ عَلَى أَنْ يُعَيِّنَهُ فِي خِلاَل ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ (3) .
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " حدد ".
(2) ابن عابدين 3 / 140، و 4 / 421، والفتاوى البزازية على الهندية 5 /
416، وفتح القدير 7 / 151.
(3) الهندية 3 / 54.
(10/184)
ب - التَّقْدِيرُ:
3 - التَّقْدِيرُ مِنَ الْقَدْرِ، وَقَدْرُ الشَّيْءِ وَمِقْدَارُهُ:
مِقْيَاسُهُ، فَالتَّقْدِيرُ: وَضْعُ قَدْرٍ لِلشَّيْءِ أَوْ قِيَاسُهُ،
أَوِ التَّرَوِّي وَالتَّفْكِيرُ فِي تَسْوِيَةِ أَمْرٍ وَتَهْيِئَتِهِ،
وَمِنْهُ: تَقْدِيرُ الْقَاضِي الْعُقُوبَةَ الرَّادِعَةَ فِي التَّعْزِيرِ
بِحَيْثُ تَتَنَاسَبُ مَعَ الْجَرِيمَةِ وَالْمُجْرِمِ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - تَحْدِيدُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الْعُقُودِ الْوَارِدَةِ عَلَى
الْعَقَارِ بِحَيْثُ تَنْتَفِي الْجَهَالَةُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ.
وَتَحْدِيدُ الْمُدَّعِي شَرْطٌ لِصِحَّةِ الدَّعْوَى إِذَا كَانَ
عَقَارًا؛ لأَِنَّ الْعَقَارَ لاَ يُمْكِنُ إِحْضَارُهُ فَتَعَذَّرَ
تَعْرِيفُهُ بِالإِْشَارَةِ، فَيُعْرَفُ بِالْحُدُودِ، فَيَذْكُرُ
الْمُدَّعِي الْحُدُودَ الأَْرْبَعَةَ، وَيَذْكُرُ أَسْمَاءَ أَصْحَابِ
الْحُدُودِ وَأَنْسَابَهُمْ، وَيَذْكُرُ الْمَحَلَّةَ وَالْبَلَدَ،
وَإِلاَّ لاَ تَصِحُّ الدَّعْوَى (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (دَعْوَى) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
يَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ تَحْدِيدَ الْمُدَّعِي فِي كِتَابِ الدَّعْوَى،
وَتَحْدِيدَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ
وَنَحْوِهَا.
__________
(1) لسان العرب مادة: " قدر "، وابن عابدين 3 / 177، وجواهر الإكليل 2 /
296، والمهذب 2 / 289، والمغني 8 / 324.
(2) ابن عابدين 4 / 421، والاختيار 2 / 110، وتكملة فتح القدير 7 / 152.
(10/185)
تَحَرُّفٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي التَّحَرُّفِ فِي اللُّغَةِ: الْمَيْل، وَالْعُدُول عَنِ
الشَّيْءِ.
يُقَال: حَرَّفَ عَنِ الشَّيْءِ يُحَرِّفُ حَرْفًا وَتَحَرَّفَ: عَدَل،
وَإِذَا مَال الإِْنْسَانُ عَنْ شَيْءٍ يُقَال: تَحَرَّفَ (1) .
وَاصْطِلاَحًا: يُطْلَقُ عَلَى التَّحَرُّفِ فِي الْقِتَال بِمَعْنَى
تَرْكِ الْمَوْقِفِ إِلَى مَوْقِفٍ أَصْلَحَ لِلْقِتَال مِنْهُ، حَسَبَ مَا
يَقْتَضِيهِ الْحَال، أَوْ لِلتَّوَجُّهِ إِلَى قِتَال طَائِفَةٍ أُخْرَى
أَهَمَّ مِنْ هَؤُلاَءِ، أَوْ مُسْتَطْرِدًا لِقِتَال عَدُوِّهِ بِطَلَبِ
عَوْرَةٍ لَهُ يُمْكِنُهُ إِصَابَتُهَا، فَيَكُرُّ عَلَيْهِ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
2 - إِذَا الْتَقَى جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ وَكَانَ عَدَدُ
__________
(1) لسان العرب، والصحاح، والمصباح المنير مادة: " حرف ".
(2) تفسير روح المعاني 9 / 181 ط إدارة الطباعة المنيرية بمصر، والمغني مع
الشرح الكبير 10 / 551، 552 ط المنار بمصر الطبعة الأولى، وشرح الزرقاني 3
/ 115 ط دار الفكر / بيروت.
(10/185)
الْكُفَّارِ مِثْلَيِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ
أَقَل يَحْرُمُ الْفِرَارُ وَالاِنْصِرَافُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ،
فَيَجُوزُ لَهُ الاِنْصِرَافُ بِقَصْدِ التَّحَرُّفِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَْدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ
دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ
فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ} (1) .
وَالْمُتَحَرِّفُ هُوَ مَنْ يَنْصَرِفُ مِنْ جِهَةٍ إِلَى أُخْرَى
حَسْبَمَا يَقْتَضِيهِ الْحَال، فَلَهُ أَنْ يَنْتَقِل مِنْ مَكَان ضَيِّقٍ
إِلَى مَكَانٍ أَرْحَبَ مِنْهُ، لِيَتْبَعَهُ الْعَدُوُّ إِلَى مُتَّسَعٍ
سَهْلٍ لِلْقِتَال، أَوْ مِنْ مَوْضِعٍ مَكْشُوفٍ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ
غَيْرِ مَكْشُوفٍ لِيَكْمُنَ فِيهِ وَيَهْجُمَ، أَوْ عَنْ مَحَلِّهِ
لأَِصْوَنَ مِنْهُ عَنْ نَحْوِ رِيحٍ أَوْ شَمْسٍ أَوْ عَطَشٍ، أَوْ
يَفِرَّ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ لِتُنْتَقَضَ صُفُوفُهُمْ وَيَجِدَ فِيهِمْ
فُرْصَةً، أَوْ لِيَسْتَنِدَ إِلَى جَبَلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا جَرَتْ
بِهِ عَادَةُ أَهْل الْحَرْبِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَوْمًا فِي خُطْبَتِهِ إِذْ قَال: " يَا سَارِيَةَ
بْنَ زُنَيْمٍ الْجَبَل "، وَكَانَ قَدْ بَعَثَ سَارِيَةَ إِلَى نَاحِيَةِ
الْعِرَاقِ لِغَزْوِهِمْ، فَلَمَّا قَدِمَ ذَلِكَ الْجَيْشُ أَخْبَرُوا
أَنَّهُمْ لاَقَوْا عَدُوَّهُمْ يَوْمَ جُمُعَةٍ، فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ،
فَسَمِعُوا صَوْتَ عُمَرَ فَتَحَيَّزُوا إِلَى الْجَبَل، فَنَجَوْا مِنْ
عَدُوِّهِمْ فَانْتَصَرُوا عَلَيْهِمْ.
__________
(1) سورة الأنفال / 15، 16.
(10/186)
وَالتَّحَرُّفُ جَائِزٌ بِلاَ خِلاَفٍ
بَيْنَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَلَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ أَجَازُوهُ
لِغَيْرِ أَمِيرِ الْجَيْشِ وَالإِْمَامِ. أَمَّا هُمَا فَلَيْسَ لَهُمَا
التَّحَرُّفُ؛ لِمَا يَحْصُل بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنَ الْخَلَل
وَالْمَفْسَدَةِ (1) .
وَالتَّفْصِيل مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ: (جِهَادٌ) .
__________
(1) تفسير القرطبي 7 / 380، وتفسير روح المعاني 9 / 180 - 183، وتفسير
الطبري 9 / 200، 201، وبدائع الصنائع 7 / 99 - الطبعة الأولى (الجمالية)
مصر، ونهاية المحتاج 8 / 62، 63، وروضة الطالبين 10 / 247، والمغني مع
الشرح الكبير 10 / 551، 552، وكشاف القناع 3 / 46، وشرح الزرقاني 3 / 115 ط
دار الفكر / بيروت، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 178، 179 ط دار
الفكر.
(10/186)
تَحَرِّي
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّحَرِّي فِي اللُّغَةِ: الْقَصْدُ وَالاِبْتِغَاءُ، كَقَوْل
الْقَائِل: أَتَحَرَّى مَسَرَّتَكَ، أَيْ أَطْلُبُ مَرْضَاتَكَ، وَمِنْهُ
قَوْله تَعَالَى: {فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} (1)
أَيْ قَصَدُوا طَرِيقَ الْحَقِّ وَتَوَخَّوْهُ. وَمِنْهُ حَدِيثُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَحَرُّوا لَيْلَةَ
الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ. . . الْحَدِيثَ (2)
. أَيِ اعْتَنُوا بِطَلَبِهَا (3) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: بَذْل الْمَجْهُودِ فِي طَلَبِ الْمَقْصُودِ، أَوْ
طَلَبُ الشَّيْءِ بِغَالِبِ الظَّنِّ عِنْدَ عَدَمِ الْوُقُوفِ عَلَى
حَقِيقَتِهِ (4) .
__________
(1) سورة الجن / 14.
(2) حديث: " تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان ". أخرجه
البخاري (الفتح 4 / 259 - ط السلفية) .
(3) المصباح المنير ولسان العرب، وتاج العروس، ومتن اللغة، والصحاح مادة: "
حرى "، والمبسوط 10 / 185 ط دار المعرفة، والقرطبي 19 / 16.
(4) ابن عابدين 1 / 190، 2 / 67، والمبسوط 7 / 185 ط مصطفى البابي الحلبي،
ومطالب أولي النهى 1 / 55.
(10/187)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِجْتِهَادُ:
2 - الاِجْتِهَادُ وَالتَّحَرِّي لَفْظَانِ مُتَقَارِبَا الْمَعْنَى،
وَمَعْنَاهُمَا: بَذْل الْمَجْهُودِ فِي طَلَبِ الْمَقْصُودِ، إِلاَّ أَنَّ
لَفْظَ الاِجْتِهَادِ صَارَ فِي عُرْفِ الْعُلَمَاءِ مَخْصُوصًا بِبَذْل
الْمُجْتَهِدِ وُسْعَهُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ،
وَبَذْل الْمَجْهُودِ فِي تَعَرُّفِ حُكْمِ الْحَادِثَةِ مِنَ الدَّلِيل.
أَمَّا التَّحَرِّي فَقَدْ يَكُونُ بِدَلِيلٍ، وَقَدْ يَكُونُ بِمُجَرَّدِ
شَهَادَةِ الْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ أَمَارَةٍ (1) . فَكُل اجْتِهَادٍ
تَحَرٍّ، وَلَيْسَ كُل تَحَرٍّ اجْتِهَادًاٌ.
ب - التَّوَخِّي:
3 - التَّوَخِّي مَأْخُوذٌ مِنَ الْوَخْيِ، بِمَعْنَى الْقَصْدِ،
فَالتَّحَرِّي وَالتَّوَخِّي سَوَاءٌ، إِلاَّ أَنَّ لَفْظَ التَّوَخِّي
يُسْتَعْمَل فِي الْمُعَامَلاَتِ. كَمَا قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِلرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ اخْتَصَمَا فِي الْمَوَارِيثِ:
اذْهَبَا وَتَوَخَّيَا، وَاسْتَهِمَا، وَلْيُحْلِل كُل وَاحِدٍ مِنْكُمَا
صَاحِبَهُ (2) .
وَأَمَّا التَّحَرِّي فَيُسْتَعْمَل غَالِبًا فِي
__________
(1) المستصفى للغزالي 2 / 350، والفروق في اللغة 69 - 70، وحاشية ابن
عابدين 1 / 290 ط دار التراث العربي بيروت.
(2) حديث: " اذهبا وتوخيا، واستهما. . . " أخرجه أحمد (6 / 320 - ط
الميمنية) وأبو داود (4 / 14 - ط عزت عبيد دعاس) وإسناده حسن.
(10/187)
الْعِبَادَاتِ (1) . كَمَا قَال النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلاَةِ
فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ (2)
ج - الظَّنُّ:
4 - الظَّنُّ: هُوَ إِدْرَاكُ الطَّرَفِ الرَّاجِحِ مَعَ احْتِمَال
النَّقِيضِ، فَفِي الظَّنِّ يَكُونُ تَرْجِيحُ أَحَدِ الأَْمْرَيْنِ عَلَى
الآْخَرِ، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ فَهُوَ مَذْمُومٌ، وَيَكُونُ
التَّرْجِيحُ فِي التَّحَرِّي بِغَالِبِ الرَّأْيِ، وَهُوَ دَلِيلٌ
يُتَوَصَّل بِهِ إِلَى طَرَفِ الْعِلْمِ وَإِنْ كَانَ لاَ يُتَوَصَّل بِهِ
إِلَى مَا يُوجِبُ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَل الظَّنُّ
بِمَعْنَى الْيَقِينِ (3) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ
أَنَّهُمْ مُلاَقُو رَبِّهِمْ} (4) .
د - الشَّكُّ:
5 - الشَّكُّ: تَرَدُّدٌ بَيْنَ احْتِمَالَيْنِ مُسْتَوِيَيْنِ، أَيْ مِنْ
غَيْرِ رُجْحَانٍ لأَِحَدِهِمَا عَلَى الآْخَرِ عِنْدَ الشَّاكِّ (5) .
فَالتَّحَرِّي وَسِيلَةٌ لإِِزَالَةِ الشَّكِّ.
__________
(1) المبسوط 10 / 186 ط دار المعرفة، ومتن اللغة مادة: " وخى ".
(2) حديث: " إذا شك أحدكم في الصلاة فليتحر الصواب " أخرجه البخاري (الفتح
1 / 504 - ط السلفية) ومسلم (1 / 400 - ط الحلبي) .
(3) المبسوط 10 / 186 ط د دار المعرفة، والتعريفات للجرجاني، والمصباح
المنير مادة: " ظن ".
(4) سورة البقرة / 46.
(5) المصباح المنير، والتعريفات للجرجاني مادة: " شك "، والمبسوط 10 / 186.
(10/188)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - التَّحَرِّي مَشْرُوعٌ وَالْعَمَل بِهِ جَائِزٌ، وَالدَّلِيل عَلَى
ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْمَعْقُول:
أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ
أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ
تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} (1) .
وَذَلِكَ يَكُونُ بِالتَّحَرِّي وَغَالِبِ الرَّأْيِ، وَأُطْلِقَ عَلَيْهِ
الْعِلْمُ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَالْحَدِيثَانِ السَّابِقَانِ عِنْدَ الْكَلاَمِ
عَنِ التَّوَخِّي.
وَأَمَّا مَا يَدُل عَلَيْهِ مِنَ الْمَعْقُول: فَهُوَ أَنَّ الاِجْتِهَادَ
فِي الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ جَائِزٌ لِلْعَمَل بِهِ، وَذَلِكَ عَمَلٌ
بِغَالِبِ الرَّأْيِ، ثُمَّ جُعِل مَدْرَكًا مِنْ مَدَارِكِ أَحْكَامِ
الشَّرْعِ، وَإِنْ كَانَتِ الأَْحْكَامُ لاَ تَثْبُتُ بِهِ ابْتِدَاءً،
فَكَذَلِكَ التَّحَرِّي مَدْرَكٌ مِنْ مَدَارِكِ التَّوَصُّل إِلَى أَدَاءِ
الْعِبَادَاتِ وَإِنْ كَانَتِ الْعِبَادَةُ لاَ تَثْبُتُ بِهِ ابْتِدَاءً
(2) .
هَذَا، وَالتَّحَرِّي فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَرَدَ فِي مَوَاضِعَ
كَثِيرَةٍ، وَيَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِاخْتِلاَفِ مَوَاطِنِهِ:
__________
(1) سورة الممتحنة / 10.
(2) المبسوط 10 / 185، 186.
(10/188)
أَوَّلاً: التَّحَرِّي لِمَعْرِفَةِ
الطَّاهِرِ مِنْ غَيْرِهِ حَالَةَ الاِخْتِلاَطِ:
أ - اخْتِلاَطُ الأَْوَانِي:
7 - إِذَا اخْتَلَطَتِ الأَْوَانِي الَّتِي فِيهَا مَاءٌ طَاهِرٌ
بِالأَْوَانِي الَّتِي فِيهَا مَاءٌ نَجِسٌ، وَاشْتَبَهَ الأَْمْرُ، وَلَمْ
يَكُنْ مَعَهُ مَاءٌ طَاهِرٌ سِوَى ذَلِكَ، وَلاَ يُعْرَفُ الطَّاهِرُ مِنَ
النَّجِسِ:
فَإِنْ كَانَتِ الْغَلَبَةُ لِلأَْوَانِي الطَّاهِرَةِ، يَتَحَرَّى عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ،
وَبِاعْتِبَارِ الْغَالِبِ لَزِمَهُ اسْتِعْمَال الْمَاءِ الطَّاهِرِ،
وَإِصَابَتُهُ بِتَحَرِّيهِ مَأْمُولَةٌ، وَلأَِنَّ جِهَةَ الإِْبَاحَةِ
قَدْ تَرَجَّحَتْ.
وَإِنْ كَانَتِ الْغَلَبَةُ لِلأَْوَانِي النَّجِسَةِ أَوْ كَانَا
مُتَسَاوِيَيْنِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَرَّى إِلاَّ لِلشُّرْبِ حَالَةَ
الضَّرُورَةِ، إِذْ لاَ بَدِيل لَهُ، بِخِلاَفِ الْوُضُوءِ فَإِنَّ لَهُ
بَدِيلاً (1) .
وَظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ عَدَمُ جَوَازِ
التَّحَرِّي، وَإِنْ كَثُرَ عَدَدُ الأَْوَانِي الطَّاهِرَةِ (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَجُوزُ التَّحَرِّي فِي الْحَالَيْنِ،
فَيَتَوَضَّأُ بِالأَْغْلَبِ، لأَِنَّهُ شَرْطٌ لِلصَّلاَةِ، فَجَازَ
التَّحَرِّي مِنْ أَجْلِهِ كَالْقِبْلَةِ (3) .
__________
(1) المبسوط 10 / 201، وابن عابدين 5 / 221، 469، 470، والمغني 1 / 60، 61.
(2) المغني 1 / 60، 61.
(3) نهاية المحتاج 1 / 88، 89، 90، 91.
(10/189)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ
إِذَا كَانَ عِنْدَهُ ثَلاَثَةُ أَوَانٍ نَجِسَةٍ أَوْ مُتَنَجِّسَةٍ
وَاثْنَانِ طَهُورَانِ، وَاشْتَبَهَتْ هَذِهِ بِهَذِهِ، فَإِنَّهُ
يَتَوَضَّأُ ثَلاَثَةَ وُضُوءَاتٍ مِنْ ثَلاَثَةِ أَوَانٍ عَدَدَ
الأَْوَانِي النَّجِسَةِ، وَيَتَوَضَّأُ وُضُوءًا رَابِعًا مِنْ إِنَاءٍ
رَابِعٍ، وَيُصَلِّي بِكُل وُضُوءٍ صَلاَةً (1) .
وَحَكَى ابْنُ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلاً آخَرَ، وَهُوَ
أَنَّهُ يَتَوَضَّأُ مِنْ كُل وَاحِدٍ مِنَ الأَْوَانِي وُضُوءًا
وَيُصَلِّي بِهِ (2) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (اشْتِبَاهٌ) .
ب - اخْتِلاَطُ الثِّيَابِ:
8 - إِذَا اشْتَبَهَتْ عَلَى الشَّخْصِ ثِيَابٌ طَاهِرَةٌ بِنَجِسَةٍ،
وَتَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ بَيْنَهَا، وَلَيْسَ مَعَهُ ثَوْبٌ طَاهِرٌ
بِيَقِينٍ غَيْرَهَا، وَلاَ مَا يَغْسِلُهَا بِهِ، وَلاَ يَعْرِفُ
الطَّاهِرَ مِنَ النَّجِسِ، وَاحْتَاجَ إِلَى الصَّلاَةِ، فَإِنَّهُ
يَتَحَرَّى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ مَا عَدَا الْمُزَنِيَّ، وَيُصَلِّي فِي
الَّذِي يَقَعُ تَحَرِّيهِ عَلَى أَنَّهُ طَاهِرٌ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ
الْغَلَبَةُ لِلثِّيَابِ النَّجِسَةِ أَمِ الطَّاهِرَةِ، أَوْ كَانَا
مُتَسَاوِيَيْنِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ، وَابْنُ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ
يَجُوزُ التَّحَرِّي، وَيُصَلِّي فِي ثِيَابٍ مِنْهَا بِعَدَدِ النَّجِسِ
مِنْهَا، وَيَزِيدُ صَلاَةً فِي ثَوْبٍ آخَرَ. وَقَال
__________
(1) الدسوقي 1 / 82.
(2) المغني 1 / 60، 61.
(10/189)
ابْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ:
يَتَحَرَّى فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ دَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ.
وَقَال أَبُو ثَوْرٍ وَالْمُزَنِيُّ: لاَ يُصَلِّي فِي شَيْءٍ مِنْهَا،
كَقَوْلِهِمَا فِي الأَْوَانِي (1) .
ج - اخْتِلاَطُ الْمُذَكَّاةِ بِالْمَيْتَةِ:
9 - إِذَا اخْتَلَطَتِ الْمُذَكَّاةُ بِالْمَيْتَةِ، فَذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّحَرِّي فِي حَالَةِ
الاِضْطِرَارِ مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْغَلَبَةُ
لِلْمُذَكَّاةِ أَمْ لِلْمَيْتَةِ أَوْ تَسَاوَيَا.
وَفِي حَالَةِ الاِخْتِيَارِ لاَ يَجُوزُ التَّحَرِّي إِلاَّ إِذَا كَانَتِ
الْغَلَبَةُ لِلْحَلاَل.
وَأَمَّا الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُمُ التَّحَرِّي
مُطْلَقًا فِي هَذَا الْمَجَال (2) .
د - التَّحَرِّي فِي الْحَيْضِ:
10 - إِذَا نَسِيَتِ امْرَأَةٌ عَدَدَ أَيَّامِ حَيْضِهَا وَمَوْضِعَهَا،
وَاشْتَبَهَ عَلَيْهَا حَالُهَا فِي الْحَيْضِ
__________
(1) المبسوط 10 / 200، وابن عابدين 5 / 221، 469، وحاشية الدسوقي 1 / 79،
والحطاب 1 / 160، ونهاية المحتاج 2 / 17، 18، والمغني 1 / 63، وانظر مصطلح:
(اشتباه) .
(2) المبسوط 10 / 196، 197، 198، وابن عابدين 5 / 221، والفروق للقرافي 1 /
226، ونهاية المحتاج 1 / 99، وأسنى المطالب 1 / 23، والأشباه والنظائر
للسيوطي 1 / 106، والقواعد لابن رجب 241.
(10/190)
وَالطُّهْرِ فَالْمُتَبَادَرُ مِنْ
أَقْوَال جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ عَلَيْهَا أَنْ تَتَحَرَّى، فَإِنْ
وَقَعَ أَكْبَرُ رَأْيِهَا عَلَى أَنَّهَا حَائِضٌ أُعْطِيَتْ حُكْمَهُ،
وَإِنْ وَقَعَ أَكْبَرُ رَأْيِهَا عَلَى أَنَّهَا طَاهِرَةٌ أُعْطِيَتْ
حُكْمَ الطَّاهِرَاتِ؛ لأَِنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ مِنَ الأَْدِلَّةِ
الشَّرْعِيَّةِ.
وَأَمَّا إِذَا تَحَيَّرَتْ وَلَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهَا شَيْءٌ، فَهِيَ
الْمُتَحَيِّرَةُ أَوِ الْمُضَلَّةُ، فَعَلَيْهَا الأَْخْذُ بِالأَْحْوَطِ
فِي الأَْحْكَامِ (1) .
وَلِتَفْصِيل أَحْكَامِهَا يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ (حَيْضٌ،
اسْتِحَاضَةٌ) .
ثَانِيًا: مَعْرِفَةُ الْقِبْلَةِ بِالاِسْتِدْلاَل وَالتَّحَرِّي:
11 - إِنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى اسْتِقْبَال
الْقِبْلَةِ، وَكَانَ بِمَكَّةَ وَفِي حَال مُشَاهَدَةِ الْكَعْبَةِ
وَمُعَايَنَتِهِ لَهَا، فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ
عَلَيْهِ التَّوَجُّهَ إِلَى عَيْنِ الْكَعْبَةِ، وَمُقَابَلَةَ ذَاتِهَا.
وَإِنْ كَانَ نَائِيًا عَنِ الْكَعْبَةِ غَائِبًا عَنْهَا: فَذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَكْفِيهِ اسْتِقْبَال جِهَةِ الْكَعْبَةِ
بِاجْتِهَادٍ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِصَابَةُ الْعَيْنِ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ
عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ.
وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ،
وَرِوَايَةٌ عَنِ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ تَلْزَمُهُ إِصَابَةُ الْعَيْنِ
(2) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 190، ومغني المحتاج 1 / 346، والمغني 1 / 321.
(2) بدائع الصنائع 1 / 118 ط دار الكتاب العربي بيروت، والحطاب 1 / 508 ط
دار الفكر بيروت، ونهاية المحتاج 1 / 424 وما بعدها - ط مصطفى البابي
الحلبي، والمغني 1 / 439 ط مكتبة الرياض الحديثة.
(10/190)
وَلاَ يَجُوزُ الاِجْتِهَادُ عِنْدَ
جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مَعَ وُجُودِ مَحَارِيبِ الصَّحَابَةِ، وَكَذَلِكَ
مَحَارِيبُ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي تَكَرَّرَتِ الصَّلَوَاتُ إِلَيْهَا.
كَمَا أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الاِجْتِهَادُ إِذَا كَانَ بِحَضْرَتِهِ مَنْ
يَسْأَلُهُ مِنْ أَهْل الْمَكَانِ الْعَالِمِ بِهَا، بِشَرْطِ كَوْنِهِ
مَقْبُول الشَّهَادَةِ، فَالذِّمِّيُّ وَالْجَاهِل وَالْفَاسِقُ
وَالصَّبِيُّ لاَ يُعْتَدُّ بِإِخْبَارِهِ فِي هَذَا الْمَجَال.
فَإِذَا عَجَزَ الْمُصَلِّي عَنْ إِصَابَةِ عَيْنِ الْكَعْبَةِ
وَالتَّوَجُّهِ إِلَى جِهَتِهَا اسْتِدْلاَلاً بِالْمَحَارِيبِ
الْمَنْصُوبَةِ الْقَدِيمَةِ، أَوْ سُؤَال مَنْ هُوَ عَالِمٌ
بِالْقِبْلَةِ، مِمَّنْ تُقْبَل شَهَادَتُهُ مِنْ أَهْل الْمَكَانِ: فَإِنْ
كَانَ مِنْ أَهْل الاِجْتِهَادِ فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ، فَعَلَيْهِ
الاِجْتِهَادُ. وَالْمُجْتَهِدُ فِي الْقِبْلَةِ هُوَ: الْعَالِمُ
بِأَدِلَّتِهَا وَهِيَ: النُّجُومُ، وَالشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ،
وَالرِّيَاحُ، وَالْجِبَال، وَالأَْنْهَارُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ
الْوَسَائِل وَالْمَعَالِمِ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلاً بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ.
فَإِنَّ كُل مَنْ عَلِمَ بِأَدِلَّةِ شَيْءٍ كَانَ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ
فِيهِ، وَإِنْ جَهِل غَيْرَهُ.
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِأَدِلَّتِهَا، أَوْ كَانَ أَعْمَى فَهُوَ
مُقَلِّدٌ وَإِنْ عَلِمَ غَيْرَهَا (1) .
فَالْمُصَلِّي الْقَادِرُ عَلَى الاِجْتِهَادِ إِنْ صَلَّى بِغَيْرِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 290 ط دار إحياء التراث العربي، والمبسوط 10 / 190 -
192 ط دار المعرفة، والحطاب 1 / 509، دار الفكر، والدسوقي 1 / 226 ط دار
الفكر، ونهاية المحتاج 1 / 440، 441، 442، 443 ط مصطفى البابي الحلبي،
والمغني 1 / 440، 441 ط، مكتبة الرياض الحديثة.
(10/191)
اجْتِهَادٍ، فَالْمُتَبَادَرُ مِنْ
أَقْوَال جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ صَلاَتُهُ، وَإِنْ
وَقَعَتْ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَدَّاهُ الاِجْتِهَادُ
إِلَى جِهَةٍ فَصَلَّى إِلَى غَيْرِهَا، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَلَّى
إِلَى الْكَعْبَةِ، فَصَلاَتُهُ بَاطِلَةٌ عِنْدَ الأَْئِمَّةِ
الأَْرْبَعَةِ، لِتَرْكِهِ الْوَاجِبَ، كَمَا لَوْ صَلَّى ظَانًّا أَنَّهُ
مُحْدِثٌ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مُتَطَهِّرٌ (1) .
وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ: (اسْتِقْبَالٌ) .
12 - مَنْ عَجَزَ عَنْ مَعْرِفَةِ الْقِبْلَةِ بِالاِسْتِدْلاَل، بِأَنْ
خَفِيَتْ عَلَيْهِ الأَْدِلَّةُ لِحَبْسٍ أَوْ غَيْمٍ، أَوِ الْتَبَسَتْ
عَلَيْهِ أَوْ تَعَارَضَتْ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يُخْبِرُهُ
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِلَى
أَنَّ عَلَيْهِ التَّحَرِّيَ وَتَصِحُّ صَلاَتُهُ؛ لأَِنَّ التَّكْلِيفَ
بِحَسَبِ الْوُسْعِ وَالإِْمْكَانِ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ إِلاَّ
التَّحَرِّي.
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُصَلِّي كَيْفَ كَانَ
لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي الْوَقْتِ سَعَةٌ أَمْ لاَ،
وَيَقْضِي لِنُدْرَةِ حُصُول ذَلِكَ (2) .
__________
(1) المراجع السابقة في المذاهب الأربعة.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 289، وبدائع الصنائع 1 / 118، وفتح القدير 234،
237 ط دار إحياء التراث العربي، والمغني 10 / 444 ط مكتبة الرياض الحديثة،
وحاشية الدسوقي 1 / 227، ونهاية المحتاج 1 / 443 ط مصطفى البابي الحلبي.
(10/191)
وَالأَْصْل فِي هَذَا الْبَابِ مَا رُوِيَ
عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّهُ قَال: كُنَّا مَعَ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، فَلَمْ نَدْرِ
أَيْنَ الْقِبْلَةُ، فَصَلَّى كُل رَجُلٍ مِنَّا عَلَى خَيَالِهِ، فَلَمَّا
أَصْبَحْنَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَنَزَل قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ
وَجْهُ اللَّهِ} (1) وَقَال عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ:
قِبْلَةُ الْمُتَحَرِّي جِهَةُ قَصْدِهِ.
ثَالِثًا: التَّحَرِّي فِي الصَّلاَةِ:
13 - مَنْ شَكَّ فِي الصَّلاَةِ فَلاَ يَدْرِي كَمْ صَلَّى، فَعِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ إِنْ كَانَ يَعْرِضُ لَهُ الشَّكُّ كَثِيرًا فِي
الصَّلاَةِ، وَكَانَ لَهُ رَأْيٌ تَحَرَّى، وَبَنَى عَلَى أَكْبَرِ
رَأْيِهِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ شَكَّ فِي
الصَّلاَةِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ (2) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَبْنِي عَلَى الأَْقَل، وَيَأْتِي بِمَا شَكَّ
فِيهِ مُطْلَقًا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا شَكَّ فِي أَثْنَاءِ
الصَّلاَةِ فَعَلَيْهِ الأَْخْذُ بِالأَْقَل، وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ.
وَلَوْ شَكَّ بَعْدَ السَّلاَمِ فَقَوْلاَنِ عِنْدَهُمْ: أَحَدُهُمَا:
__________
(1) سورة البقرة / 115. وحديث عامر بن ربيعة أخرجه ابن ماجه (1 / 326 - ط
الحلبي) وذكر ابن كثير الأحاديث في ذلك في تفسيره ثم قال: وهذه الأسانيد
فيها ضعف، ولعله يشد بعضها بعضها (تفسير ابن كثير 1 / 278 - ط الأندلس) .
(2) حديث. " من شك في الصلاة فليتحر الصواب ". تقدم تخريجه (ف 3) .
(10/192)
أَنْ يَقُومَ إِلَى التَّدَارُكِ،
كَأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ بَعْدَ
الْفَرَاغِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْعُسْرِ.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ الإِْمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ
فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِهِمْ. فَمَنْ كَانَ إِمَامًا وَشَكَّ فَلَمْ
يَدْرِ كَمْ صَلَّى تَحَرَّى وَبَنَى عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ، وَأَمَّا
الْمُنْفَرِدُ فَيَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ (الأَْقَل) ، وَفِي رِوَايَةٍ
يَبْنِي عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ كَالإِْمَامِ، هَذَا إِذَا كَانَ لَهُ
رَأْيٌ، أَمَّا إِذَا اسْتَوَى عِنْدَهُ الأَْمْرَانِ بَنَى عَلَى
الْيَقِينِ إِمَامًا كَانَ أَوْ مُنْفَرِدًا (1) .
رَابِعًا: التَّحَرِّي فِي الصَّوْمِ:
14 - مَنْ كَانَ مَحْبُوسًا أَوْ كَانَ فِي بَعْضِ النَّوَاحِي
النَّائِيَةِ عَنِ الأَْمْصَارِ، أَوْ بِدَارِ حَرْبٍ بِحَيْثُ لاَ
يُمْكِنُهُ التَّعَرُّفُ عَلَى الأَْشْهُرِ بِالْخَبَرِ وَاشْتَبَهَ
عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ: فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ
يَجِبُ عَلَيْهِ التَّحَرِّي وَالاِجْتِهَادُ فِي مَعْرِفَةِ شَهْرِ
رَمَضَانَ، لأَِنَّهُ أَمْكَنَهُ تَأْدِيَةُ فَرْضٍ بِالتَّحَرِّي
وَالاِجْتِهَادِ، فَلَزِمَهُ كَاسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ.
فَإِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ عَنْ أَمَارَةٍ تَقُومُ فِي نَفْسِهِ دُخُول
شَهْرِ رَمَضَانَ صَامَهُ، ثُمَّ إِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ شَهْرَ
رَمَضَانَ، أَوْ لَمْ يَنْكَشِفْ لَهُ الْحَال أَجْزَأَهُ فِي قَوْل
عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّهُ أَدَّى فَرْضَهُ بِالاِجْتِهَادِ،
وَأَدْرَكَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالتَّحَرِّي.
وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَامَ شَهْرًا قَبْلَهُ، فَذَهَبَ الأَْئِمَّةُ
__________
(1) فتح القدير 1 / 452، والدسوقي 1 / 275، ونهاية المحتاج 1 / 79، والوجيز
1 / 51، والمغني 2 / 17، 18.
(10/192)
الثَّلاَثَةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي
الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُهُ، لأَِنَّهُ أَدَّى
الْعِبَادَةَ قَبْل وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهَا فَلَمْ تُجْزِئْهُ كَمَنْ
صَلَّى قَبْل الْوَقْتِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ فِي الْقَدِيمِ
فِي حَالَةِ تَبَيُّنِ الأَْمْرِ بَعْدَ رَمَضَانَ أَنَّهُ يُجْزِئُ،
لأَِنَّهُ عِبَادَةٌ تُفْعَل فِي السَّنَةِ مَرَّةً، فَجَازَ أَنْ يَسْقُطَ
فَرْضُهَا بِالْفِعْل قَبْل الْوَقْتِ عِنْدَ الْخَطَأِ.
أَمَّا إِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَامَ شَهْرًا بَعْدَهُ، جَازَ عِنْدَ
جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ،
وَذَلِكَ بِشَرْطَيْنِ: إِكْمَال الْعِدَّةِ، وَتَبْيِيتُ النِّيَّةِ
لِشَهْرِ رَمَضَانَ، لأَِنَّهُ قَضَاءٌ، وَفِي الْقَضَاءِ يُعْتَبَرُ
هَذَانِ الشَّرْطَانِ، وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ أَدَاءٌ
لِلْعُذْرِ؛ لأَِنَّ الْعُذْرَ قَدْ يَجْعَل غَيْرَ الْوَقْتِ وَقْتًا
كَمَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ.
وَعَلَى هَذَا فَإِنْ كَانَ الشَّهْرُ الَّذِي صَامَهُ نَاقِصًا،
وَرَمَضَانُ الَّذِي صَامَهُ النَّاسُ تَامًّا، صَامَ يَوْمًا؛ لأَِنَّ
صَوْمَ شَهْرٍ آخَرَ بَعْدَهُ يَكُونُ قَضَاءً، وَالْقَضَاءُ يَكُونُ عَلَى
قَدْرِ الْفَائِتِ.
وَعَلَى الْقَوْل الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ - بِأَنَّهُ يَقَعُ أَدَاءً -
يُجْزِئُهُ وَلَوْ صَامَهُ نَاقِصًا وَصَامَ النَّاسُ رَمَضَانَ تَامًّا؛
لأَِنَّ الشَّهْرَ يَقَعُ مَا بَيْنَ الْهِلاَلَيْنِ. وَكَذَلِكَ إِنْ
وَافَقَ بَعْضَ رَمَضَانَ دُونَ بَعْضٍ، فَمَا وَافَقَ رَمَضَانَ أَوْ
بَعْدَهُ أَجْزَأَهُ، وَمَا وَافَقَ قَبْلَهُ لَمْ يُجْزِئْهُ.
وَأَمَّا إِنْ ظَنَّ أَنَّ الشَّهْرَ لَمْ يَدْخُل فَصَامَ لَمْ
يُجْزِئْهُ، وَلَوْ أَصَابَ، وَكَذَا لَوْ شَكَّ فِي دُخُولِهِ وَلَمْ
يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ دُخُولُهُ.
(10/193)
وَإِنْ صَامَ مَنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ
الأَْشْهُرُ بِلاَ اجْتِهَادٍ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ، وَبِلاَ تَحَرٍّ،
لاَ يُجْزِئُهُ كَمَنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ (1) .
وَمَنْ شَكَّ فِي الْغُرُوبِ فِي يَوْمِ غَيْمٍ وَلَمْ يَتَحَرَّ لاَ يَحِل
لَهُ الْفِطْرُ، لأَِنَّ الأَْصْل بَقَاءُ النَّهَارِ (2) .
خَامِسًا: التَّحَرِّي فِي مَعْرِفَةِ مُسْتَحِقِّي الزَّكَاةِ:
15 - مَنْ شَكَّ فِي حَال مَنْ يَدْفَعُ لَهُ الزَّكَاةَ لَزِمَهُ
التَّحَرِّي: فَإِنْ وَقَعَ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ فَقِيرٌ دَفَعَ
إِلَيْهِ، فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ فَقِيرٌ أَوْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْ حَالِهِ
شَيْءٌ جَازَ بِالاِتِّفَاقِ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ غَنِيًّا
فَكَذَلِكَ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ قَوْل أَبِي
يُوسُفَ الأَْوَّل، وَفِي قَوْلِهِ الآْخَرِ تَلْزَمُهُ الإِْعَادَةُ،
وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ دَفَعَ الزَّكَاةَ بِاجْتِهَادٍ لِغَيْرِ
مُسْتَحِقٍّ فِي الْوَاقِعِ كَغَنِيٍّ، أَوْ كَافِرٍ مَعَ ظَنِّهِ أَنَّهُ
مُسْتَحِقٌّ، لَمْ تُجْزِهِ.
أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَرِوَايَتَانِ:
__________
(1) المبسوط 3 / 59 ط دار المعرفة، والدسوقي 1 / 519 ط دار الفكر، والحطاب
2 / 417 ط دار الفكر، ونهاية المحتاج 3 / 162، 163 ط مصطفى البابي الحلبي،
والمغني 3 / 161، 163، وكشاف القناع 2 / 307، 308 ط عالم الكتب.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 106، 114 ط دار إحياء التراث العربي، ونهاية
المحتاج 3 / 162، 163 ط مصطفى البابي الحلبي، والمغني 3 / 162 ط مكتبة
الرياض الحديثة.
(10/193)
إِحْدَاهُمَا يُجْزِئُهُ، وَالأُْخْرَى لاَ
يُجْزِئُهُ (1) .
وَلِمَعْرِفَةِ تَفْصِيل أَحْكَامِ ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ:
(زَكَاةٌ) .
سَادِسًا: التَّحَرِّي بَيْنَ الأَْقْيِسَةِ الْمُتَعَارِضَةِ:
16 - إِذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْقِيَاسَيْنِ، وَلَمْ يَكُنْ
هُنَاكَ دَلِيلٌ لِتَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا عَلَى الآْخَرِ، وَلَمْ يَقَعِ
اخْتِيَارُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِالْعَمَل بِهِ، فَيَجِبُ التَّحَرِّي،
خِلاَفًا لِلإِْمَامِ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ يَقُول: لاَ يَجِبُ
التَّحَرِّي، بَل لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَعْمَل بِأَيِّهِمَا شَاءَ، وَعَلَى
هَذَا الْخِلاَفِ، التَّحَرِّي فِي قَوْل صَحَابِيَّيْنِ عِنْدَ مَنْ
يَقُول بِحُجِّيَّةِ قَوْل الصَّحَابِيِّ (2) ، وَالتَّفْصِيل فِي
الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
17 - وَرَدَ ذِكْرُ التَّحَرِّي فِي فُصُولٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كُتُبِ
الْفِقْهِ مِنْهَا: كِتَابُ الصَّلاَةِ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ اسْتِقْبَال
الْقِبْلَةِ، وَسَجْدَةِ السَّهْوِ، وَأَبْوَابُ الْحَيْضِ وَالطَّهَارَةِ،
وَالصَّوْمِ، وَخَصَّصَ صَاحِبُ الْمَبْسُوطِ لِلتَّحَرِّي كِتَابًا
مُسْتَقِلًّا بِعِنْوَانِ (كِتَابُ التَّحَرِّي) (3) ، كَمَا أَنَّهُ
يُرْجَعُ لِتَفْصِيل أَحْكَامِهِ إِلَى مُصْطَلَحَاتِ (اسْتِقْبَالٌ،
وَاسْتِحَاضَةٌ، وَاشْتِبَاهٌ) .
__________
(1) المبسوط 1 / 187، 189، والدسوقي 1 / 501، والمغني 3 / 667، 668.
(2) مسلم الثبوت 2 / 193.
(3) المبسوط 10 / 185.
(10/194)
تَحْرِيشٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّحْرِيشُ فِي اللُّغَةِ: إِغْرَاءُ الإِْنْسَانِ أَوِ الْحَيَوَانِ
لِيَقَعَ بِقِرْنِهِ، أَيْ نَظِيرِهِ. يُقَال: حَرَّشَ بَيْنَ الْقَوْمِ
إِذَا أَفْسَدَ بَيْنَهُمْ، وَأَغْرَى بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ.
قَال الْجَوْهَرِيُّ: التَّحْرِيشُ: الإِْغْرَاءُ بَيْنَ الْقَوْمِ، أَوِ
الْبَهَائِمِ، كَالْكِلاَبِ وَالثِّيرَانِ وَغَيْرِهِمَا، بِتَهْيِيجِ
بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، فَفِي التَّحْرِيشِ تَسْلِيطٌ لِلْمُحَرَّشِ عَلَى
غَيْرِهِ (1) . وَيُقَال فِي تَسْلِيطِ الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ نَحْوَهُ
عَلَى الصَّيْدِ: إِشْلاَءٌ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِلتَّحْرِيشِ عَنِ الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّحْرِيضُ:
2 - التَّحْرِيضُ: الْحَثُّ عَلَى الْقِتَال وَغَيْرِهِ، وَهُوَ يَكُونُ
فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَيَغْلِبُ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا
__________
(1) لسان العرب مادة: " حرش ".
(10/194)
يَكُونُ الْحَثُّ فِيهِ لِطَرَفٍ، أَمَّا
التَّحْرِيشُ فَيَكُونُ فِيهِ الْحَثُّ لِطَرَفَيْنِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - التَّحْرِيشُ بَيْنَ النَّاسِ بِقَصْدِ الإِْفْسَادِ حَرَامٌ،
لأَِنَّهُ وَسِيلَةٌ لإِِفْسَادِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ
الْفَسَادَ. وَمِنْ صُوَرِ التَّحْرِيشِ: النَّمِيمَةُ. قَال رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَل
مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ؟ قَالُوا: بَلَى.
قَال: صَلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ
الْحَالِقَةُ (1)
أَمَّا تَحْرِيشُ الْحَيَوَانِ - بِمَعْنَى الإِْغْرَاءِ وَالتَّسْلِيطِ
وَالإِْرْسَال بِقَصْدِ الصَّيْدِ - فَمُبَاحٌ كَإِرْسَال الْكَلْبِ
الْمُعَلَّمِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ.
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي حُرْمَةِ التَّحْرِيشِ بَيْنَ
الْبَهَائِمِ، بِتَحْرِيضِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ وَتَهْيِيجِهِ عَلَيْهِ،
لأَِنَّهُ سَفَهٌ وَيُؤَدِّي إِلَى حُصُول الأَْذَى لِلْحَيَوَانِ،
وَرُبَّمَا أَدَّى إِلَى إِتْلاَفِهِ بِدُونِ غَرَضٍ مَشْرُوعٍ (2) .
__________
(1) حديث: " ألا أخبركم. . . " رواه الترمذي (4 / 663) وقال: حديث صحيح. ثم
قال: ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا أقول: تمحلق
الشعر، ولكن تحلق الدين ".
(2) عون المعبود 2 / 331، وحاشية عميرة على المحلي 3 / 204، والآداب
الشرعية 3 / 357، وأسنى المطالب 4 / 228.
(10/195)
وَجَاءَ فِي الأَْثَرِ: نَهَى رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّحْرِيشِ بَيْنَ
الْبَهَائِمِ (1) .
وَيَحْرُمُ التَّحْرِيشُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِقَصْدِ الإِْفْسَادِ
وَإِثَارَةِ الْفِتْنَةِ بَيْنَهُمْ. وَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي
جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ (2) .
أَمَّا الإِْغْرَاءُ عَلَى فِعْلٍ مَشْرُوعٍ فَيُسَمَّى تَحْرِيضًا،
وَمِنْهُ التَّحْرِيضُ عَلَى رُكُوبِ الْخَيْل، وَالتَّدَرُّبُ عَلَى
الرَّمْيِ، وَفُنُونِ الْقِتَال وَهُوَ جَائِزٌ.
وَقَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ (3) . وَتَفْصِيلُهُ فِي
(تَحْرِيضٌ) .
__________
(1) حديث: " نهى عن التحريش بين البهائم " أخرجه أبو داود (3 / 56 - ط عزت
عبيد دعاس) والترمذي (4 / 210 - ط الحلبي) وأعله بالإرسال، وفيه ضعف.
(2) حديث: " إن الشطان قد يئس أن يعبد في جزيرة العرب. . . " أخرجه مسلم (4
/ 2166 - ط الحلبي) .
(3) الآداب الشرعية 3 / 357، وروضة الطالبين 10 / 354، وأسنى المطالب 4 /
229.
(10/195)
تَحْرِيضٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّحْرِيضُ فِي اللُّغَةِ: التَّحْضِيضُ وَالْحَثُّ عَلَى الْقِتَال
وَغَيْرِهِ وَالإِْحْمَاءُ عَلَيْهِ. وَجَاءَ فِي التَّنْزِيل: {فَقَاتِل
فِي سَبِيل اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ
الْمُؤْمِنِينَ} (1) . وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ
الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. وَقَرِيبٌ مِنَ التَّحْرِيضِ الْحَثُّ
وَالتَّحْرِيشُ وَالإِْغْرَاءُ وَالتَّهْيِيجُ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّثْبِيطُ:
2 - التَّثَبُّطُ مَصْدَرُ ثَبَّطَهُ عَنِ الأَْمْرِ تَثْبِيطًا: شَغَلَهُ
عَنْهُ وَعَوَّقَهُ. وَنَحْوُهُ التَّخْذِيل، وَهُوَ: حَمْل أَنْصَارِ
الشَّخْصِ عَلَى تَرْكِ عَوْنِهِ وَتَثْبِيطِهِ عَنْ نُصْرَتِهِ.
فَالتَّثْبِيطُ ضِدُّ التَّحْرِيضِ (3) .
__________
(1) سورة النساء / 84.
(2) لسان العرب مادة: " حرض ".
(3) مختار الصحاح.
(10/196)
ب - الإِْرْجَافُ:
3 - الإِْرْجَافُ مَصْدَرُ: أَرْجَفَ فِي الشَّيْءِ: خَاضَ فِيهِ،
وَأَرْجَفَ الْقَوْمُ: إِذَا خَاضُوا فِي الأَْخْبَارِ السَّيِّئَةِ
وَذِكْرِ الْفِتَنِ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمُرْجِفُونَ فِي
الْمَدِينَةِ} (1) وَهُمُ الَّذِينَ يُوَلِّدُونَ الأَْخْبَارَ
الْكَاذِبَةَ الَّتِي يَكُونُ مَعَهَا اضْطِرَابٌ فِي النَّاسِ (2) .
فَالإِْرْجَافُ وَسِيلَةٌ مِنْ وَسَائِل التَّثْبِيطِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ
التَّحْرِيضِ.
ج - التَّحْرِيشُ:
4 - التَّحْرِيشُ: إِغْرَاءُ الإِْنْسَانِ أَوِ الْحَيَوَانِ لِيَقَعَ
بِقِرْنِهِ أَيْ نَظِيرِهِ. وَلاَ يَكُونُ اسْتِعْمَالُهُ إِلاَّ فِي
الشَّرِّ، وَهُوَ فِيمَا يَكُونُ الْحَثُّ فِيهِ لِطَرَفَيْنِ. أَمَّا
التَّحْرِيضُ فَيَكُونُ الْحَثُّ فِيهِ لِطَرَفٍ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّحْرِيضِ بِاخْتِلاَفِ مَوْضُوعِهِ:
فَالتَّحْرِيضُ عَلَى الْقِتَال فِي الْجِهَادِ مَأْمُورٌ بِهِ، وَكَذَلِكَ
التَّحْرِيضُ عَلَى الْبِرِّ وَالإِْحْسَانِ، كَإِطْعَامِ الْمَسَاكِينِ
وَالأَْيْتَامِ.
وَالتَّحْرِيضُ فِي الْفَسَادِ، وَأَنْوَاعِ الْمُنْكَرِ حَرَامٌ.
وَتَحْرِيضُ السَّبُعِ الضَّارِي، وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ
__________
(1) سورة الأحزاب / 60.
(2) لسان العرب مادة: " رجف ".
(10/196)
عَلَى إِنْسَانٍ مَعْصُومِ الدَّمِ أَوْ
مَالٍ مُحْتَرَمٍ حَرَامٌ وَمُوجِبٌ لِلضَّمَانِ، بِتَفْصِيلٍ يَأْتِي.
تَحْرِيضُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقِتَال:
6 - يُسَنُّ لِلإِْمَامِ وَالأَْمِيرِ إِذَا جَهَّزَ جَيْشًا أَوْ
سَرِيَّةً لِلْخُرُوجِ إِلَى الْجِهَادِ أَنْ يُحَرِّضَهُمْ عَلَى
الْقِتَال وَعَلَى الصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ (1) . لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَقَاتِل فِي سَبِيل اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ
الْمُؤْمِنِينَ} (2) وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ
الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَال} (3) وَتَفْصِيلُهُ فِي بَابِ الْجِهَادِ.
التَّحْرِيضُ عَلَى الْمُسَابَقَةِ:
7 - يُسَنُّ تَحْرِيضُ الرِّجَال عَلَى الْمُسَابَقَةِ وَالْمُنَاضَلَةِ
وَرُكُوبِ الْخَيْل. وَيَجُوزُ لِلإِْمَامِ أَنْ يَدْفَعَ الْعِوَضَ مِنْ
بَيْتِ الْمَال، وَمِنْ مَالِهِ الْخَاصِّ، كَمَا يَجُوزُ لِلأَْفْرَادِ
أَيْضًا أَنْ يَدْفَعُوهُ، لأَِنَّهُ بَذْلٌ فِي طَاعَةٍ، وَيُثَابُ
عَلَيْهِ (4) . لأَِنَّ ذَلِكَ مِنَ الإِْعْدَادِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ
بِهِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْل} (5)
__________
(1) روض الطالب 4 / 188.
(2) سورة النساء / 84.
(3) سورة الأنفال / 65.
(4) روضة الطالبين 10 / 354، وأسنى المطالب 4 / 228، المغني 8 / 652.
(5) سورة الأنفال / 60.
(10/197)
وَلِخَبَرِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمًا عَلَى قَوْمٍ يَتَنَاضَلُونَ
فَقَال: ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيل فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا (1)
وَلِخَبَرِ: أَلاَ إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلاَ إِنَّ الْقُوَّةَ
الرَّمْيُ (2) ، وَلِخَبَرِ: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِل الْجَنَّةَ بِالسَّهْمِ
الْوَاحِدِ ثَلاَثَةً: صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ فِي صُنْعِهِ الْخَيْرَ،
وَالرَّامِيَ بِهِ، وَمُنَبِّلَهُ. إِلَخْ (3)
وَالتَّفْصِيل فِي (السِّبَاقِ) .
تَحْرِيضُ الْحَيَوَانِ:
8 - إِذَا حَرَّضَ حَيَوَانًا فَجَنَى عَلَى إِنْسَانٍ فَعَلَيْهِ
الضَّمَانُ لِتَسَبُّبِهِ، هَذَا رَأْيُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
(4) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ وَاسِعٍ
كَالصَّحْرَاءِ فَقَتَلَهُ فَلاَ ضَمَانَ، لأَِنَّهُ لَمْ يُلْجِئْهُ إِلَى
قَتْلِهِ، وَالَّذِي وُجِدَ مِنْهُ لَيْسَ بِمُهْلِكٍ. أَمَّا إِذَا كَانَ
فِي مَوْضِعٍ ضَيِّقٍ، أَوْ كَانَ الْحَيَوَانُ ضَارِيًا شَدِيدَ الْعَدْوِ
لاَ يَتَأَتَّى الْهَرَبُ مِنْهُ فِي الصَّحْرَاءِ، وَجَبَ عَلَيْهِ
الضَّمَانُ إِذَا قُتِل فِي الْحَال (5) .
__________
(1) حديث: " ارموا بني إسماعيل. . " أخرجه البخاري (6 / 91 - الفتح - ط
السلفية) من حديث سلمة بن الأكوع.
(2) حديث: " إلا إن القوة الرمي. . . " أخرجه مسلم (3 / 1522 - ط الحلبي)
من حديث عقبة بن عامر.
(3) حديث: " إن الله يدخل الجنة بالسهم الواحد. . " أخرجه أحمد (4 / 144 -
ط الميمنية) والحاكم (2 / 95 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه
الذهبي.
(4) مطالب أولي النهى 4 / 74، وحاشية العدوي على الخرشي 8 / 8.
(5) روضة الطالبين 9 / 143، والوجيز 2 / 124.
(10/197)
وَعِنْدَ الأَْحْنَافِ: لاَ يَضْمَنُ.
وَالتَّفْصِيل فِي (الْجِنَايَاتُ) (1) .
تَحْرِيضُ الْمُحْرِمِ كَلْبًا عَلَى صَيْدٍ:
9 - إِذَا حَرَّضَ مُحْرِمٌ كَلْبًا عَلَى صَيْدٍ ضَمِنَ، كَحَلاَلٍ فِي
الْحَرَمِ بِجَامِعِ التَّسَبُّبِ فِيهِمَا (2) . وَالتَّفْصِيل فِي
(الإِْحْرَامُ) .
تَحْرِيفٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّحْرِيفُ لُغَةً: مَصْدَرُ حَرَّفَ الشَّيْءَ: إِذَا جَعَلَهُ
عَلَى جَانِبٍ، أَوْ أَخَذَ مِنْ جَانِبِهِ شَيْئًا، وَتَحْرِيفُ
الْكَلاَمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ تَغْيِيرُهُ وَالْعُدُول بِهِ عَنْ جِهَتِهِ،
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى فِي الْيَهُودِ: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ
مَوَاضِعِهِ} (3) أَيْ يُغَيِّرُونَهُ (4) .
وَالتَّحْرِيفُ فِي الاِصْطِلاَحِ: التَّغْيِيرُ فِي الْكَلِمَةِ
بِتَبْدِيلٍ فِي حَرَكَاتِهَا، كَالْفُلْكِ وَالْفَلَكِ، وَالْخَلْقِ
وَالْخُلُقِ. أَوْ تَبْدِيل حَرْفٍ بِحَرْفٍ، سَوَاءٌ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 390، وفتح القدير 9 / 264.
(2) أسنى المطالب 1 / 514، وروضة الطالبين 3 / 148.
(3) سورة النساء / 46.
(4) انظر المصباح المنير ومختار الصحاح مادة: " حرف "، وتفسير الجلالين عند
قوله تعالى:} يحرفون الكلم عن مواضعه {، وحاشية الصاوي على الجلالين 1 / 39
طبع بيروت.
(10/198)
اشْتَبَهَا فِي الْخَطِّ أَمْ لاَ، أَوْ
كَلِمَةٍ بِكَلِمَةٍ نَحْوِ (سَرَى بِالْقَوْمِ) (وَسَرَى فِي الْقَوْمِ)
أَوْ بِالزِّيَادَةِ فِي الْكَلاَمِ أَوِ النَّقْصِ مِنْهُ، أَوْ حَمْلِهِ
عَلَى غَيْرِ الْمُرَادِ مِنْهُ.
وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ فِي عِلْمِ أُصُول الْحَدِيثِ بِتَبْدِيل الْكَلِمَةِ
بِكَلِمَةٍ أُخْرَى تُشَابِهُهَا فِي الْخَطِّ وَالنَّقْطِ، وَتُخَالِفُهَا
فِي الْحَرَكَاتِ، كَتَبْدِيل الْخَلْقِ بِالْخُلُقِ، وَالْقَدَمِ
بِالْقِدَمِ، وَهَذَا اصْطِلاَحُ ابْنِ حَجَرٍ عَلَى ظَاهِرِ مَا فِي
نُخْبَةِ الْفِكْرِ وَشَرْحِهَا (1) ، جَعَلَهُ مُقَابِلاً لِلتَّصْحِيفِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّصْحِيفُ:
2 - التَّصْحِيفُ هُوَ تَغْيِيرُ اللَّفْظِ حَتَّى يَتَغَيَّرَ الْمَعْنَى
الْمُرَادُ، وَأَصْلُهُ الْخَطَأُ، يُقَال: صَحَّفَهُ فَتَصَحَّفَ، أَيْ
غَيَّرَهُ فَتَغَيَّرَ حَتَّى الْتَبَسَ (2) .
وَالتَّصْحِيفُ فِي الاِصْطِلاَحِ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
قِيل: هُوَ كُل تَغْيِيرٍ فِي الْكَلِمَةِ سَوَاءٌ بِسَبَبِ اخْتِلاَفِ
النَّقْطِ أَوِ الشَّكْل أَوْ بِتَبْدِيل حَرْفٍ بِحَرْفٍ أَوْ كَلِمَةٍ
بِكَلِمَةٍ، وَهَذَا الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ اصْطِلاَحُ أَغْلَبِ
الْمُحَدِّثِينَ قَبْل ابْنِ حَجَرٍ، مِنْهُمُ
__________
(1) تصحيفات المحدثين للعسكري، المقدمة ص 40، ولقط الدرر على شرح نخبة
الفكر ص 82 القاهرة، مطبعة عبد الحميد حنفي.
(2) المصباح المنير مادة: " صحف ".
(10/198)
الْخَطِيبُ فِي الْكِفَايَةِ، وَالْحَاكِمُ
فِي مَعْرِفَةِ عُلُومِ الْحَدِيثِ، وَالنَّوَوِيُّ فِي التَّقْرِيبِ،
وَابْنُ الصَّلاَحِ وَغَيْرُهُمْ. وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى قَرِيبٌ مِنَ
التَّحْرِيفِ، إِلاَّ أَنَّ التَّحْرِيفَ أَشْمَل، إِذْ يَدْخُل فِيهِ
تَغْيِيرُ الْمَعْنَى مَعَ بَقَاءِ اللَّفْظِ عَلَى حَالِهِ.
فَيَكُونُ التَّصْحِيفُ هُوَ التَّحْرِيفَ فِي نَقْطِ الْكَلِمَةِ أَوْ
شَكْلِهَا أَوْ حُرُوفِهَا. وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ التَّحْرِيفُ فِي
الْمَعْنَى.
أَمَّا ابْنُ حَجَرٍ وَمَنْ تَابَعَهُ فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ
التَّصْحِيفَ خَاصٌّ بِتَبْدِيل الْكَلِمَةِ بِكَلِمَةٍ أُخْرَى
تُشَابِهُهَا فِي الْخَطِّ وَتُخَالِفُهَا فِي النَّقْطِ، وَهُوَ
اصْطِلاَحُ الْعَسْكَرِيِّ فِي كِتَابِهِ (شَرْحُ التَّصْحِيفِ
وَالتَّحْرِيفِ) وَذَلِكَ كَتَبْدِيل الْغَدْرِ بِالْعُذْرِ، وَالْخَطْبِ
بِالْحَطَبِ.
وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّحْرِيفِ تَصْحِيفًا لأَِنَّ
الآْخِذَ عَنِ الصَّحِيفَةِ قَدْ لاَ يُمْكِنُهُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ
الْكَلِمَةِ الْمُرَادَةِ وَالْكَلِمَةِ الَّتِي تَلْتَبِسُ بِهَا
لِمُشَابَهَتِهَا فِي الصُّورَةِ، بِخِلاَفِ الآْخِذِ مِنْ أَفْوَاهِ أَهْل
الْعِلْمِ (1) . وَكَانَ هَذَا الاِلْتِبَاسُ كَثِيرًا قَبْل اخْتِرَاعِ
النَّقْطِ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي الْهِجْرِيِّ، وَقَل
__________
(1) نخبة الفكر، ولقط الدرر ص 83، والتقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح
للحافظ العراقي ص 282 - 284 بيروت دار الفكر، 1401 هـ، والكفاية في أصول
الرواية للخطيب البغدادي ص 146، 149، وتدريب الراوي شرح تقريب النواوي ص
384 المدينة المنورة، المكتبة العلمية 1379 هـ، وتصحيفات المحدثين المقدمة
ص 40.
(10/199)
بَعْدَهُ، إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَنْعَدِمْ
حَتَّى عِنْدَ مَنْ يَلْتَزِمُ بِهِ؛ لأَِنَّ النُّقَطَ قَدْ تَسْقُطُ،
وَقَدْ تَنْتَقِل عَنْ مَكَانِهَا، فَيَحْصُل الاِلْتِبَاسُ.
ب - التَّزْوِيرُ:
3 - الزُّورُ لُغَةً: الْكَذِبُ، وَالتَّزْوِيرُ: تَزْيِينُ الْكَذِبِ (1)
.
وَاصْطِلاَحًا: كُل قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ يُرَادُ بِهِ تَزْيِينُ الْبَاطِل
حَتَّى يُظَنَّ أَنَّهُ حَقٌّ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي الْقَوْل
كَشَهَادَةِ الزُّورِ، أَمِ الْفِعْل كَمُحَاكَاةِ الْخُطُوطِ أَوِ
النُّقُودِ بِقَصْدِ إِثْبَاتِ الْبَاطِل.
فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّحْرِيفِ أَنَّ التَّزْوِيرَ يَحْدُثُ
بِهِ تَغْيِيرٌ مَقْصُودٌ، أَمَّا التَّحْرِيفُ فَقَدْ يَتَغَيَّرُ بِهِ
الْوَاقِعُ وَقَدْ لاَ يَتَغَيَّرُ، وَقَدْ يَكُونُ التَّحْرِيفُ
مَقْصُودًا أَوْ غَيْرَ مَقْصُودٍ، فَفِيهِمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ.
أَنْوَاعُ التَّحْرِيفِ وَالتَّصْحِيفِ:
4 - التَّحْرِيفُ إِمَّا لَفْظِيٌّ وَإِمَّا مَعْنَوِيٌّ:
فَاللَّفْظِيُّ يَكُونُ فِي السَّنَدِ، كَمَا صَحَّفَ الطَّبَرِيُّ اسْمَ
عُتْبَةَ بْنِ النُّدَّرِ فَقَال فِيهِ: ابْنُ الْبَذْرِ.
وَيَكُونُ فِي الْمَتْنِ كَمَا صَحَّفَ ابْنُ لَهِيعَةَ حَدِيثَ احْتَجَرَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ (2) فَقَال
فِيهِ احْتَجَمَ فِي الْمَسْجِدِ.
__________
(1) مختار الصحاح مادة. " زور ".
(2) حديث: " احتجر النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد ". أخرجه البخاري
(الفتح 10 / 517 - ط السلفية) ومسلم (1 / 539 - ط الحلبي) . ورواية التصحيف
في مسند أحمد (5 / 185 - ط الميمنية) .
(10/199)
وَيَنْقَسِمُ اللَّفْظِيُّ قِسْمَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا: مَا يُحَسُّ بِالْبَصَرِ، كَمَا سَبَقَ.
وَثَانِيهِمَا: مَا يُحَسُّ بِالسَّمْعِ، نَحْوُ حَدِيثٍ لِعَاصِمٍ
الأَْحْوَل رَوَاهُ بَعْضُهُمْ فَقَال وَاصِلٌ الأَْحْدَبُ فَذَكَرَ
الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّهُ مِنْ تَصْحِيفِ السَّمْعِ، لاَ مِنْ تَصْحِيفِ
الْبَصَرِ، كَأَنَّهُ ذَهَبَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - إِلَى أَنَّ ذَلِكَ
لاَ يُشْتَبَهُ مِنْ حَيْثُ الْكِتَابَةُ وَإِنَّمَا أَخْطَأَ فِيهِ
السَّمْعُ مِمَّنْ رَوَاهُ كَذَلِكَ.
وَأَمَّا التَّحْرِيفُ الْمَعْنَوِيُّ: فَهُوَ مَا يَقَعُ فِي الْمَعْنَى
بِحَمْل اللَّفْظِ عَلَى غَيْرِ الْمُرَادِ مِنْهُ بِتَأْوِيلٍ فَاسِدٍ،
قَصْدًا أَوْ بِدُونِ قَصْدٍ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ
بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ، حَدَّثَ بِحَدِيثٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى إِلَى عَنَزَةٍ (1) . فَقَال: نَحْنُ
قَوْمٌ لَنَا شَرَفٌ، صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِلَيْنَا. وَإِنَّمَا الْعَنَزَةُ هُنَا: حَرْبَةٌ نُصِبَتْ بَيْنَ
يَدَيْهِ فَصَلَّى إِلَيْهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ قَبِيلَةَ عَنَزَةَ.
قَال ابْنُ الصَّلاَحِ: وَأَظْرَفُ مِنْ هَذَا أَنَّ أَعْرَابِيًّا زَعَمَ
أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا صَلَّى نُصِبَتْ
بَيْنَ يَدَيْهِ شَاةٌ. أَيْ صَحَّفَهَا إِلَى عَنْزَةٍ بِإِسْكَانِ
النُّونِ (2) .
حُكْمُ التَّحْرِيفِ وَالتَّصْحِيفِ:
التَّحْرِيفُ إِمَّا أَنْ يُقْصَدَ بِهِ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى، أَوِ
الأَْحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ، أَوْ غَيْرُهُمَا مِنَ الْكَلاَمِ:
__________
(1) حديث " صلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى عنزة " أخرجه البخاري (الفتح
2 / 463 - ط السلفية) .
(2) مقدمة ابن الصلاح ص 284، وكشاف اصطلاحات الفنون ص 836، وشرح ألفية
العراقي 2 / 296 - 298.
(10/200)
أ - التَّحْرِيفُ لِكَلاَمِ اللَّهِ
تَعَالَى:
5 - ضَمِنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَحْفَظَ كِتَابَهُ مِنَ التَّبْدِيل
وَالتَّحْرِيفِ فِي أَلْفَاظِهِ وَمَبَانِيهِ حَتَّى يَبْقَى إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ كَمَا أُنْزِل، قَال تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا
الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) فَعَزَل الشَّيَاطِينَ عَنِ
اسْتِمَاعِهِ، وَرَجَمَهُمْ عِنْدَ الْبَعْثَةِ بِالشُّهُبِ، وَجَعَل
الْقُرْآنَ {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي
سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ} (2) وَلَمْ يَجْعَل اللَّهُ تَعَالَى لأَِحَدٍ
مِنْ خَلْقِهِ أَنْ يُبَدِّل كَلاَمَهُ أَوْ يُغَيِّرَ فِيهِ، قَال اللَّهُ
تَعَالَى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَال
الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ
بَدِّلْهُ قُل مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي
إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} (3) وَدَعَتِ الشَّرِيعَةُ
الْمُسْلِمِينَ إِلَى حِفْظِ الْقُرْآنِ وَتِلاَوَتِهِ وَضَبْطِهِ،
فَقَامَتِ الأُْمَّةُ الإِْسْلاَمِيَّةُ بِذَلِكَ خَيْرَ قِيَامٍ، بِحَيْثُ
أُمِنَ أَنْ يَتَبَدَّل مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَوْ بَدَّل أَحَدٌ حَرْفًا
وَاحِدًا مِنْهُ لَوَجَدَ الْعَشَرَاتِ بَل الْمِئَاتِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
كِبَارًا وَصِغَارًا مِمَّنْ يُبَيِّنُونَ ذَلِكَ التَّحْرِيفَ،
وَيَنْفُونَ ذَلِكَ التَّبْدِيل.
وَقَدْ قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مَا فَعَلَهُ أَهْل
الْكِتَابِ، مِنْ تَحْرِيفٍ لِمَا لَدَيْهِمْ مِنَ الْكُتُبِ
السَّمَاوِيَّةِ بِالزِّيَادَةِ أَوِ الْحَذْفِ أَوِ التَّغْيِيرِ، فَقَال:
{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ
__________
(1) سورة الحجر / 9.
(2) سورة عبس / 13 - 16.
(3) سورة يونس / 15.
(10/200)
لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ
مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ} (1) وَقَال: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ
وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ
يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (2) وَقَال:
{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ
قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} (3) وَقَال: {وَمِنَ
الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ
لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} (4)
وَلأَِجْل الأَْمْنِ مِنْ أَيِّ تَحْرِيفٍ أَوْ تَغْيِيرٍ فِي كَلاَمِ
اللَّهِ تَعَالَى الْتَزَمَ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الأُْمَّةِ رَسْمَ خَطِّ
الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ دُونَ تَغْيِيرٍ فِيهِ، مَهْمَا تَغَيَّرَ
اصْطِلاَحُ الْكِتَابَةِ فِي الْعُصُورِ اللاَّحِقَةِ. قَال
الزَّرْكَشِيُّ: وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُمْ كَيْفَ اُتُّفِقَ، بَل
عَلَى أَمْرٍ عِنْدَهُمْ قَدْ تَحَقَّقَ. وَقَال أَبُو الْبَقَاءِ فِي
كِتَابِ اللُّبَابِ: ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْل اللُّغَةِ إِلَى
كِتَابَةِ الْكَلِمَةِ عَلَى لَفْظِهَا، إِلاَّ فِي خَطِّ الْمُصْحَفِ،
فَإِنَّهُمُ اتَّبَعُوا فِي ذَلِكَ مَا وَجَدُوهُ فِي الْمُصْحَفِ
الإِْمَامِ. وَقَال أَشْهَبُ: سُئِل مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَل
تَكْتُبُ الْمُصْحَفَ عَلَى مَا أَخَذَهُ النَّاسُ مِنَ الْهِجَاءِ؟
فَقَال: لاَ، إِلاَّ عَلَى الْكَتْبَةِ
__________
(1) سورة آل عمران / 78.
(2) سورة البقرة / 75.
(3) سورة المائدة / 13.
(4) سورة المائدة / 41.
(10/201)
الأُْولَى. رَوَاهُ الدَّانِيُّ، ثُمَّ
قَال: وَلاَ مُخَالِفَ لَهُ مِنْ عُلَمَاءِ الأُْمَّةِ، وَقَال الإِْمَامُ
أَحْمَدُ: تَحْرُمُ مُخَالَفَةُ خَطِّ مُصْحَفِ عُثْمَانَ " أَيْ رَسْمِهِ
" فِي يَاءٍ أَوْ وَاوٍ أَوْ أَلِفٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَقَال أَبُو
عُبَيْدٍ: اتِّبَاعُ حُرُوفِ الْمُصْحَفِ عِنْدَنَا كَالسُّنَّةِ
الْقَائِمَةِ الَّتِي لاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ أَنْ يَتَعَدَّاهَا (1) إِلاَّ
أَنَّ لِلإِْمَامِ الشَّوْكَانِيِّ فِي ذَلِكَ رَأْيًا مُخَالِفًا
بَيَّنَهُ فِي تَفْسِيرِهِ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ
الرِّبَا} (2) مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: قَال: وَقَدْ كَتَبُوهُ فِي
الْمُصْحَفِ بِالْوَاوِ، وَهَذَا مُجَرَّدُ اصْطِلاَحٍ لاَ يَلْزَمُ
الْمَشْيُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ هَذِهِ النُّقُوشَ الْكِتَابِيَّةَ أُمُورٌ
اصْطِلاَحِيَّةٌ لاَ يُشَاحُّ فِي مِثْلِهَا، إِلاَّ فِيمَا كَانَ يَدُل
بِهِ عَلَى الْحَرْفِ الَّذِي كَانَ فِي أَصْل الْكَلِمَةِ وَنَحْوِهِ.
قَال: وَعَلَى كُل حَالٍ فَرَسْمُ الْكَلِمَةِ وَحَمْل نَقْشِهَا
الْكِتَابِيِّ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ بِهَا هُوَ الأَْوْلَى (3)
أَمَّا التَّغْيِيرُ فِي الْقِرَاءَةِ بِمَا يَخْرُجُ عَنْ رَسْمِ
الْمُصْحَفِ فَلاَ يَجُوزُ أَيْضًا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَلاَ
يَجُوزُ التَّغْيِيرُ عَمَّا صَحَّتْ بِهِ الرِّوَايَةُ مِنَ الْوُجُوهِ
وَلَوِ
__________
(1) البرهان في علوم القرآن 1 / 376 - 380، القاهرة، عيسى الحلبي، 1376 هـ،
والإتقان في علوم القرآن للسيوطي 2 / 167، القاهرة، مصطفى الحلبي، 1354 هـ.
(2) سورة البقرة / 275.
(3) فتح القدير للشوكاني 1 / 265 القاهرة، مصطفى الحلبي، 1349 هـ.
(10/201)
احْتَمَلَهَا رَسْمُ الْمُصْحَفِ
الإِْمَامِ.
وَيَحْصُل الأَْمْنُ مِنْ تَحْرِيفِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ بِالتَّلَقِّي
مِنْ أَفْوَاهِ الْقُرَّاءِ الْعَالِمِينَ بِالْقِرَاءَةِ، وَلاَ يَنْبَغِي
الاِكْتِفَاءُ بِتَعَلُّمِهَا بِمُجَرَّدِ النَّظَرِ فِي الْمُصْحَفِ.
أَمَّا تَغْيِيرُ الْمَعْنَى بِتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِ
الْوَجْهِ الْمُرَادِ بِهِ، فَهُوَ نَوْعٌ شَدِيدٌ مِنَ التَّحْرِيفِ.
وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْوَاجِبَ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ إِمَّا بِالْقُرْآنِ،
وَإِمَّا بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَإِمَّا بِمُقْتَضَى لِسَانِ
الْعَرَبِ لِلْعَالِمِينَ بِهِ. وَأَمَّا تَفْسِيرُهُ بِمُجَرَّدِ
الرَّأْيِ فَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ شَرْعًا، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ قَال فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ
فَقَدْ أَخْطَأَ (1)
وَإِذَا كَانَ التَّحْرِيفُ لِمُوَافَقَةِ الْهَوَى وَتَأْيِيدِهِ كَانَ
فَاعِلُهُ أَشَدَّ ضَلاَلاً وَإِضْلاَلاً، فَإِنَّ الإِْيمَانَ بِكِتَابِ
اللَّهِ يَقْتَضِي أَنْ يُتَّخَذَ الْكِتَابُ مَتْبُوعًا، يَأْتَمِرُ
الْمُؤْمِنُونَ بِأَمْرِهِ وَيَقِفُونَ عِنْدَ نَهْيِهِ، لاَ أَنْ يُجْعَل
تَابِعًا لِلأَْهْوَاءِ كَمَا اتَّخَذَتْهُ بَعْضُ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ.
هَذَا فِيمَا قَدْ يَصْنَعُهُ الْمُفَسِّرُ مِنَ التَّغْيِيرِ
وَالتَّحْرِيفِ لِلْمَعْنَى عَنْ عَمْدٍ، وَأَمَّا التَّفْسِيرُ
الْمُغَيِّرُ، خَطَأٌ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُحْذَرَ مِنْهُ فَلاَ
يَتَصَدَّى لِلتَّفْسِيرِ إِلاَّ عَالِمٌ بِالْقُرْآنِ عَالِمٌ بِالسُّنَنِ
وَالْعَرَبِيَّةِ،
__________
(1) حديث: " من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ " رواه الترمذي (5 /
200 - ط الحلبي) وقال: هذا حديث غريب، وقد تكلم بعض أهل العلم في سهيل بن
أبي حزم.
(10/202)
قَدْ تَعَلَّمَ أُصُول التَّفْسِيرِ،
وَعَرَفَ نَاسِخَ الْقُرْآنِ مِنْ مَنْسُوخِهِ، وَعَرَفَ الْعُمُومَ
وَالْخُصُوصَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لاَ بُدَّ مِنْهُ لِلْمُفَسِّرِ (1) .
ب - التَّحْرِيفُ وَالتَّصْحِيفُ لِلأَْحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ:
حُكْمُ التَّصْحِيفِ:
6 - يَقُول الْمُحَدِّثُونَ: إِنَّهُ لاَ يَجُوزُ عَلَى الصَّحِيحِ
تَعَمُّدُ تَغْيِيرِ صُورَةِ الْحَدِيثِ مَتْنًا أَوْ إِسْنَادًا، إِلاَّ
لِعَالِمٍ بِمَدْلُولاَتِ الأَْلْفَاظِ، عَالِمٍ بِمَا يُحِيل الْمَعْنَى،
فَلَهُ أَنْ يُغَيِّرَ عَلَى أَنْ يَتَجَنَّبَ تَحْوِيل الْمَعْنَى.
وَالتَّصْحِيفُ الْمَقْصُودُ نَوْعٌ مِنَ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى (2) .
أَمَّا مَا يَقَعُ مِنَ التَّصْحِيفِ وَالتَّحْرِيفِ عَلَى سَبِيل
الْخَطَأِ، فَإِنَّ مَنْ وَقَعَ فِي رِوَايَتِهِ أَشْيَاءُ مِنْ ذَلِكَ
فَاحِشَةٌ، فَيُقَال فِيهِ: إِنَّهُ سَيِّئُ الضَّبْطِ، وَيُتْرَكُ
حَدِيثُهُ فَلاَ يُؤْخَذُ بِهِ، نَقَل أَبُو أَحْمَدَ الْعَسْكَرِيُّ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيِّ أَنَّ الْغَفْلَةَ الَّتِي
يُرَدُّ بِهَا حَدِيثُ الرَّجُل الرِّضَا الَّذِي لاَ يَعْرِفُ الْكَذِبَ
هِيَ أَنْ يَكُونَ فِي كِتَابِهِ غَلَطٌ، فَيُقَال لَهُ فِي ذَلِكَ،
فَيُحَدِّثُ بِمَا قَالُوهُ وَيُغَيِّرُ فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِمْ، لاَ
يُعْرَفُ فَرْقُ مَا بَيْنَ ذَلِكَ، أَوْ يُصَحِّفُ تَصْحِيفًا فَاحِشًا
يَقْلِبُ الْمَعْنَى لاَ يَعْقِل ذَلِكَ. وَنُقِل عَنْ يَحْيَى بْنِ
مَعِينٍ أَنَّهُ قَال: مَنْ
__________
(1) الإتقان في علوم القرآن 2 / 175 وما بعدها.
(2) شرح نخبة الفكر للشيخ علي القاري الحنفي ص 145.
(10/202)
حَدَّثَكَ وَهُوَ لاَ يُفَرِّقُ بَيْنَ
الْخَطَأِ وَالصَّوَابِ فَلَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ يُؤْخَذَ عَنْهُ (1) .
عَلَى أَنَّ مَا يَقَعُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيل النُّدْرَةِ أَوِ
الْقِلَّةِ - وَلاَ يَكُونُ فَاحِشًا - فَلاَ يَقْدَحُ فِي الرَّاوِي، قَال
الإِْمَامُ أَحْمَدُ: وَمَنْ يَعْرَى عَنِ الْخَطَأِ وَالتَّصْحِيفِ؟ (2)
أَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ التَّصْحِيفُ، فَمَا كَانَ مِنْهُ
فِي الْمَتْنِ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْوَضْعِ، وَمَا كَانَ فِي السَّنَدِ
فَإِنَّهُ يُصَيِّرُهُ ضَعِيفًا بِذَلِكَ السَّنَدِ (3) .
إِصْلاَحُ التَّصْحِيفِ:
7 - فِي مُقَدِّمَةِ ابْنِ الصَّلاَحِ، وَالْبَاعِثِ الْحَثِيثِ: إِذَا
لَحَنَ الشَّيْخُ فَالصَّوَابُ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنْهُ السَّامِعُ عَلَى
الصَّوَابِ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنِ الأَْوْزَاعِيِّ وَابْنِ الْمُبَارَكِ
وَالْجُمْهُورِ.
وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ يَرْوِيهِ كَمَا سَمِعَهُ
مَلْحُونًا. قَال ابْنُ الصَّلاَحِ: وَهَذَا غُلُوٌّ فِي مَذْهَبِ
اتِّبَاعِ اللَّفْظِ.
وَقَال الْقَاضِي عِيَاضٌ: الَّذِي اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ الْعَمَل أَنْ
يَنْقُلُوا الرِّوَايَةَ كَمَا وَصَلَتْ إِلَيْهِمْ وَلاَ يُغَيِّرُوا فِي
كُتُبِهِمْ، كَمَا وَقَعَ فِي الصَّحِيحَيْنِ
__________
(1) تصحيفات المحدثين 1 / 12.
(2) تدريب الراوي ص 384، وشرح مقدمة ابن الصلاح ص 282.
(3) كشاف اصطلاحات الفنون ص 836.
(10/203)
وَالْمُوَطَّأِ، لَكِنَّ أَهْل
الْمَعْرِفَةِ يُنَبِّهُونَ عَلَى ذَلِكَ فِي الْحَوَاشِي. وَمِنْهُمْ مَنْ
جَسَرَ عَلَى تَغْيِيرِ الْكُتُبِ وَإِصْلاَحِهَا. وَالأَْوْلَى سَدُّ
بَابِ التَّغْيِيرِ وَالإِْصْلاَحِ، لِئَلاَّ يَجْسُرَ عَلَى ذَلِكَ مَنْ
لاَ يُحْسِنُهُ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ
يُصْلِحُ الْخَطَأَ الْفَاحِشَ، وَيَسْكُتُ عَنِ الْخَفِيِّ السَّهْل.
وَقَال ابْنُ كَثِيرٍ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ إِذَا سَمِعَ الْحَدِيثَ
مَلْحُونًا عَنِ الشَّيْخِ تَرَكَ رِوَايَتَهُ، لأَِنَّهُ إِنِ اتَّبَعَهُ
فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَلْحَنُ فِي
كَلاَمِهِ، وَإِنْ رَوَاهُ عَنْهُ عَلَى الصَّوَابِ فَلَمْ يَسْمَعْهُ
مِنْهُ كَذَلِكَ (1) .
التَّصْحِيفُ وَالتَّحْرِيفُ لِغَيْرِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ:
8 - التَّصْحِيفُ وَالتَّحْرِيفُ الْمُتَعَمَّدُ فِي الْوَثَائِقِ
وَالسِّجِلاَّتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ نَوْعٌ مِنَ التَّزْوِيرِ، وَحُكْمُهُ
التَّحْرِيمُ إِنْ أَسْقَطَ بِهِ حَقًّا لِغَيْرِهِ، أَوْ أَثْبَتَ
لِنَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْحَقِّ مَا لَيْسَ لَهُ، أَوْ أَلْحَقَ
بِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ ضَرَرًا بِغَيْرِ حَقٍّ. وَمَنْ فَعَلَهُ
يَسْتَحِقُّ التَّعْزِيرَ (2) . (ر: تَزْوِيرٌ) .
__________
(1) الباعث الحثيث لابن كثير ص 145 ط 3، القاهرة، محمد علي صبيح، وشرح
ألفية العراقي ص 175 - 182.
(2) ابن عابدين 4 / 395، القليوبي 4 / 205.
(10/203)
تَوَقِّي التَّحْرِيفِ وَالتَّصْحِيفِ:
9 - بَيَّنَ أَهْل الْحَدِيثِ الطُّرُقَ الَّتِي يُتَوَقَّى بِهَا
التَّحْرِيفُ وَالتَّصْحِيفُ، وَمِنْ ذَلِكَ:
أَوَّلاً: أَخْذُ الْعِلْمِ مِنْ أَفْوَاهِ الْعَارِفِينَ بِهِ
الْمُتْقِنِينَ لَهُ، فَإِنَّ التَّصْحِيفَ كَثِيرًا مَا يَنْشَأُ عَنْ
تَشَابُهِ الْحُرُوفِ فِي الصُّورَةِ، فَتُقْرَأُ الْكَلِمَةُ عَلَى
أَكْثَرَ مِنْ وَجْهٍ، فَإِنْ أَخَذَهَا الرَّاوِي عَنْ فَمِ الشَّيْخِ
أَخَذَهَا عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ (1) .
ثَانِيًا: كِتَابَةُ الْعِلْمِ الْمَرْوِيِّ وَضَبْطُ الْمَكْتُوبِ
لِئَلاَّ يَخْتَلِطَ بِغَيْرِهِ. وَذَلِكَ لأَِنَّ الاِعْتِمَادَ عَلَى
الذَّاكِرَةِ وَحْدَهَا لاَ يَكْفِي، وَقَدْ قَال بَعْضُ السَّلَفِ:
قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابِ.
ثَالِثًا: اسْتِكْمَال نَقْطِ الإِْعْجَامِ فِي الْكِتَابِ، لِتُفَرِّقَ
بَيْنَ الْحُرُوفِ الْمُتَشَابِهَةِ كَالْبَاءِ وَالتَّاءِ وَالثَّاءِ
وَالنُّونِ وَالْيَاءِ، وَكَالْفَاءِ وَالْقَافِ. وَاسْتِعْمَال الضَّبْطِ
بِالشَّكْل حَيْثُ يُخْشَى التَّحْرِيفُ، وَرُبَّمَا اُحْتِيجَ إِلَى
الضَّبْطِ بِالْكَلِمَاتِ، كَقَوْلِهِمُ " الْبِرُّ: بِكَسْرِ الْبَاءِ
الْمُوَحَّدَةِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ ".
رَابِعًا: إِتْقَانُ عُلُومِ اللُّغَةِ، فَإِنَّهَا كَثِيرًا مَا تَكْشِفُ
التَّحْرِيفَ وَالتَّصْحِيفَ (2) .
وَقَدْ أَفْرَدَ الْعُلَمَاءُ لِبَيَانِ ضَبْطِ مَا يَقْبَل أَنْ يَدْخُل
__________
(1) الباعث الحثيث ص 145، ومقدمة ابن الصلاح ص 229.
(2) شرح ألفية العراقي له 2 / 174 فاس، المطبعة الجديدة 1354 هـ.
(10/204)
التَّحْرِيفُ وَالتَّصْحِيفُ فِي كُتُبِ
الْعِلْمِ مِنَ الْحَدِيثِ وَأَسْمَاءِ رِجَال الأَْسَانِيدِ وَغَيْرِهَا
كُتُبًا خَاصَّةً، إِذَا قَرَأَهَا طَالِبُ الْعِلْمِ أَمِنَ الْغَلَطَ
وَالتَّحْرِيفَ (1) .
وَأَفْرَدُوا كُتُبًا أُخْرَى لِبَيَانِ مَا وَقَعَ فِعْلاً مِنَ
الأَْوْهَامِ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ (2)
وَحَذَّرُوا فِي تَآلِيفِهِمْ فِي عِلْمِ أُصُول الْحَدِيثِ مِنَ
التَّصْحِيفِ، وَذَكَرُوا أَمْثِلَةً مِمَّا وَقَعَ مِنْهُ كَثِيرَةً
يَحْصُل بِهَا التَّنَبُّهُ لِلْمَزَالِقِ فِي هَذَا الْبَابِ (3) . كَمَا
حَذَّرُوا مِنْ أَنْ يَرْوِيَ الشَّيْخُ حَدِيثَهُ بِقِرَاءَةِ اللَّحَّانِ
وَالْمُصَحِّفِ (4) .
وَبَيَّنُوا الطُّرُقَ الَّتِي اسْتَقَرَّتْ عِنْدَهُمْ بِاسْتِقْرَاءِ مَا
وَرَدَ عَنْ أَئِمَّةِ الشَّأْنِ لِكَيْفِيَّةِ ضَبْطِ الرِّوَايَةِ
وَالسَّمَاعِ وَالنَّقْل مِنَ الْكُتُبِ، وَكِتَابَةِ التَّسْمِيعِ،
وَالْمُقَابَلَةِ بِالأُْصُول، وَضَوَابِطِ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَحَقَّقُ بِهِ ضَبْطُ الرِّوَايَةِ لِئَلاَّ
__________
(1) من ذلك: مشارق الأنوار للقاضي عياض، وتقييد المهمل لأبي علي الغساني.
(2) من ذلك: التنبيه على حدوث التصحيف لحمزة بن الحسن الأصفهاني، وشرح ما
يقع فيه التصحيف والتحريف للعسكري، وتصحيفات المحدثين له أيضا، وإصلاح خطأ
المحدثين للخطابي.
(3) انظر في ذلك مثلا: الباعث الحثيث ص 170 - 174، والكفاية للبغدادي ص
146، 149 وغيرهما من الكتب المعزو إليها في هذا البحث.
(4) شرح ألفية العراقي 2 / 174.
(10/204)
يَتَحَرَّفَ الْحَدِيثُ عَنْ وَضْعِهِ
الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ فِي اللَّفْظِ أَوْ فِي الْمَعْنَى (1) .
وَمِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي ضَبْطِ الْكَلاَمِ الْمَكْتُوبِ لِئَلاَّ
يَدْخُلَهُ التَّحْرِيفُ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي أُصُول الْفُتْيَا،
فَقَالُوا: لاَ يَنْبَغِي إِذَا ضَاقَ مَوْضِعُ الْفُتْيَا فِي رُقْعَةِ
الْجَوَابِ أَنْ يَكْتُبَ الْجَوَابَ فِي رُقْعَةٍ أُخْرَى خَوْفًا مِنَ
الْحِيلَةِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَلاَمُهُ
مُتَّصِلاً حَتَّى آخِرَ سَطْرٍ فِي الرُّقْعَةِ، فَلاَ يَدَعُ فُرْجَةً
خَوْفًا مِنْ أَنْ يُثْبِتَ السَّائِل فِيهَا غَرَضًا لَهُ ضَارًّا.
وَقَالُوا: إِنْ رَأَى الْمُفْتِي فِي وَرَقَةِ السُّؤَال بَيَاضًا فِي
أَثْنَاءِ بَعْضِ الأَْسْطُرِ أَوْ فِي آخِرِهَا خَطَّ عَلَيْهِ
وَشَغَلَهُ، لأَِنَّهُ رُبَّمَا قَصَدَ الْمُفْتِيَ أَحَدٌ بِسُوءٍ،
فَكَتَبَ فِي ذَلِكَ الْبَيَاضِ بَعْدَ فُتْيَاهُ مَا يُفْسِدُهَا.
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ الْجَوَابَ بِخَطٍّ وَاضِحٍ وَسَطٍ، وَيُقَارِبَ
سُطُورَهُ وَأَقْلاَمَهُ وَخَطَّهُ لِئَلاَّ يُزَوِّرَ أَحَدٌ عَلَيْهِ (2)
.
وَهَذَا كَمَا لاَ يَخْفَى يَنْطَبِقُ عَلَى كِتَابَةِ الْوَثَائِقِ
وَالشَّهَادَاتِ وَسَائِرِ مَا تَثْبُتُ بِهِ الْحُقُوقُ.
تَحْرِيقٌ
اُنْظُرْ: إِحْرَاقٌ.
__________
(1) شرح الألفية للعراقي 2 / 157، وما بعدها.
(2) صفة الفتوى والمفتي والمستفتي ص 58، 99، 63، دمشق، المكتب الإسلامي
1380 هـ.
(10/205)
تَحْرِيمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّحْرِيمُ فِي اللُّغَةِ: خِلاَفُ التَّحْلِيل وَضِدُّهُ.
وَالْحَرَامُ: نَقِيضُ الْحَلاَل. يُقَال: حَرُمَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ
حُرْمَةً وَحَرَامًا.
وَالْحَرَامُ: مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَالْمُحَرَّمُ: الْحَرَامُ.
وَالْمَحَارِمُ: مَا حَرَّمَ اللَّهُ. وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ أَوِ
الْعُمْرَةِ أَوْ بِهِمَا: إِذَا دَخَل فِي الإِْحْرَامِ بِالإِْهْلاَل،
فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ بِهِ مَا كَانَ حَلاَلاً مِنْ قَبْل كَالصَّيْدِ
وَالنِّسَاءِ، فَيَتَجَنَّبُ الأَْشْيَاءَ الَّتِي مَنَعَهُ الشَّرْعُ
مِنْهَا كَالطِّيبِ وَالنِّكَاحِ وَالصَّيْدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالأَْصْل
فِيهِ الْمَنْعُ، فَكَأَنَّ الْمُحْرِمَ مُمْتَنِعٌ مِنْ هَذِهِ
الأَْشْيَاءِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ الصَّلاَةِ: تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ (1)
فَكَأَنَّ الْمُصَلِّيَ بِالتَّكْبِيرِ وَالدُّخُول فِي الصَّلاَةِ صَارَ
مَمْنُوعًا مِنَ الْكَلاَمِ وَالأَْفْعَال الْخَارِجَةِ عَنْ كَلاَمِ
الصَّلاَةِ وَأَفْعَالِهَا، فَقِيل لِلتَّكْبِيرِ: تَحْرِيمٌ لِمَنْعِهِ
الْمُصَلِّيَ مِنْ ذَلِكَ.
__________
(1) حديث الصلاة " تحريمها التكبير ".
أخرجه الترمذي (1 / 9 - ط الحلبي) والحاكم (1 / 132 - ط دائرة المعارف
العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(10/205)
وَالإِْحْرَامُ أَيْضًا بِمَعْنَى
التَّحْرِيمِ. يُقَال: أَحْرَمَهُ وَحَرَّمَهُ بِمَعْنًى (1) .
وَهُوَ فِي اصْطِلاَحِ الأُْصُولِيِّينَ: خِطَابُ اللَّهِ الْمُقْتَضِي
الْكَفَّ عَنِ الْفِعْل اقْتِضَاءً جَازِمًا، بِأَنْ لَمْ يُجَوِّزْ
فِعْلَهُ (2) .
هَذَا فِي اصْطِلاَحِ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَهْل الأُْصُول، أَمَّا
أُصُولِيُّو الْحَنَفِيَّةِ فَيُعَرِّفُونَهُ: بِأَنَّهُ طَلَبُ الْكَفِّ
عَنِ الْفِعْل بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ (3) . كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
وَالأَْنْصَابُ وَالأَْزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَل الشَّيْطَانِ
فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (4) . فَقَدْ ثَبَتَ التَّحْرِيمُ
وَالأَْمْرُ بِالْكَفِّ بِالنَّصِّ الْقُرْآنِيِّ الْقَاطِعِ.،
وَكَتَحْرِيمِ الرِّبَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} (5) .
وَأَوْرَدَ الْبِرْكِيُّ فِي تَعْرِيفَاتِهِ الْفِقْهِيَّةِ تَعْرِيفَ
التَّحْرِيمِ فَقَال: هُوَ جَعْل الشَّيْءِ مُحَرَّمًا.، وَإِنَّمَا
خُصَّتِ التَّكْبِيرَةُ الأُْولَى فِي الصَّلاَةِ بِالتَّحْرِيمَةِ،
لأَِنَّهَا تُحَرِّمُ الأُْمُورَ الْمُبَاحَةَ قَبْل الشُّرُوعِ فِي
الصَّلاَةِ دُونَ سَائِرِ التَّكْبِيرَاتِ (6) .
هَذَا وَلِلتَّحْرِيمِ إِطْلاَقٌ آخَرُ حِينَ يَصْدُرُ مِنْ
__________
(1) لسان العرب، ومختار الصحاح مادة: " حرم ".
(2) جمع الجوامع 1 / 80.
(3) شرح مسلم الثبوت للأنصاري 1 / 85.
(4) سورة المائدة / 90.
(5) سورة البقرة / 275.
(6) التعريفات الفقهية للبركي - الرسالة الرابعة ص 221.
(10/206)
غَيْرِ الشَّارِعِ، كَتَحْرِيمِ الزَّوْجِ
زَوْجَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ تَحْرِيمِ بَعْضِ الْمُبَاحَاتِ بِيَمِينٍ
أَوْ بِغَيْرِهَا، وَمَعْنَاهُ هُنَا: الْمَنْعُ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْكَرَاهَةُ:
2 - الْكَرَاهَةُ، وَالْكَرَاهِيَةُ: خِطَابُ الشَّارِعِ الْمُقْتَضِي
الْكَفَّ عَنِ الْفِعْل اقْتِضَاءً غَيْرَ جَازِمٍ.
كَالنَّهْيِ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ إِذَا دَخَل أَحَدُكُمُ
الْمَسْجِدَ فَلاَ يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ (1) وَفِي
حَدِيثِ ابْنِ مَاجَهْ وَغَيْرِهِ لاَ تُصَلُّوا فِي أَعْطَانِ الإِْبِل
فَإِنَّهَا خُلِقَتْ مِنَ الشَّيَاطِينِ (2) .
وَالتَّحْرِيمُ وَكَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ يَتَشَارَكَانِ فِي اسْتِحْقَاقِ
الْعِقَابِ بِتَرْكِ الْكَفِّ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ التَّحْرِيمَ:
مَا تُيُقِّنَ الْكَفُّ عَنْهُ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ.
__________
(1) حديث: " إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3
/ 48 - ط السلفية) ومسلم (1 / 415 - ط الحلبي) .
(2) جمع الجوامع 1 / 80، وشرح مسلم الثبوت للأنصاري 1 / 58 وحديث: " لا
تصلوا في أعطان الإبل. . . " أخرجه أبو داود (1 / 331 - ط عزت عبيد دعاس)
وابن ماجه (1 / 253 - ط الحلبي) . وصححه مغلطاي كما في فيض القدير (4 / 200
- المكتبة التجارية) .
(10/206)
وَالْمَكْرُوهُ مَا تَرَجَّحَ الْكَفُّ
عَنْهُ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ (1) .
وَفِي مَرَاقِي الْفَلاَحِ: الْمَكْرُوهُ: مَا كَانَ النَّهْيُ فِيهِ
بِظَنِّيٍّ.، وَهُوَ قِسْمَانِ: مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا وَهُوَ مَا كَانَ
إِلَى الْحِل أَقْرَبَ، وَمَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا وَهُوَ مَا كَانَ إِلَى
الْحَرَامِ أَقْرَبَ، فَالْفِعْل إِنْ تَضَمَّنَ تَرْكَ وَاجِبٍ
فَمَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا، وَإِنْ تَضَمَّنَ تَرْكَ سُنَّةٍ فَمَكْرُوهٌ
تَنْزِيهًا، لَكِنْ تَتَفَاوَتُ كَرَاهَتُهُ فِي الشِّدَّةِ وَالْقُرْبِ
مِنَ التَّحْرِيمِ بِحَسَبِ تَأَكُّدِ السُّنَّةِ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
تَحْرِيمُ الشَّارِعِ يُرْجَعُ فِي تَفْصِيلِهِ إِلَى الْمُصْطَلَحِ
الأُْصُولِيِّ.
أَمَّا تَحْرِيمُ الْمُكَلَّفِ مَا هُوَ حَلاَلٌ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ مَا
يَلِي مِنَ الأَْحْكَامِ:
أَوَّلاً - تَحْرِيمُ الزَّوْجَةِ:
3 - مَنْ قَال لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ يُسْأَل عَنْ
نِيَّتِهِ، فَإِنْ قَال: أَرَدْتُ الْكَذِبَ، فَهُوَ كَمَا قَال، لأَِنَّهُ
نَوَى حَقِيقَةَ كَلاَمِهِ. وَقِيل: لاَ يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ،
لأَِنَّهُ يَمِينٌ ظَاهِرًا؛ لأَِنَّ تَحْرِيمَ الْحَلاَل يَمِينٌ
بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَل اللَّهُ لَكَ} (3) إِلَى
__________
(1) شرح مسلم الثبوت للأنصاري 1 / 57 - 58، والتعريفات للجرجاني 228.
(2) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح 188 - 189.
(3) سورة التحريم / 1.
(10/207)
قَوْلِهِ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ
تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (1) فَلاَ يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ فِي
نِيَّتِهِ خِلاَفُ الظَّاهِرِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ عَلَى مَا عَلَيْهِ
الْعَمَل وَالْفَتْوَى.
وَإِنْ قَال: أَرَدْتُ الطَّلاَقَ، فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ، إِلاَّ
أَنْ يَنْوِيَ الثَّلاَثَ.
وَإِنْ قَال: أَرَدْتُ الظِّهَارَ فَهُوَ ظِهَارٌ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَال مُحَمَّدٌ: لَيْسَ بِظِهَارٍ،
لاِنْعِدَامِ التَّشْبِيهِ بِالْمُحَرَّمَةِ وَهُوَ الرُّكْنُ فِيهِ،
وَلَهُمَا أَنَّهُ أَطْلَقَ الْحُرْمَةَ، وَفِي الظِّهَارِ نَوْعُ
حُرْمَةٍ، وَالْمُطْلَقُ يَحْتَمِل الْمُقَيَّدَ.
وَإِنْ قَال: أَرَدْتُ التَّحْرِيمَ أَوْ لَمْ أُرِدْ بِهِ شَيْئًا، فَهُوَ
يَمِينٌ يَصِيرُ بِهِ مُولِيًا، وَصَرَفَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ لَفْظَةَ
التَّحْرِيمِ إِلَى الطَّلاَقِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ بِحُكْمِ الْعُرْفِ ْ؛
لأَِنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ فِي زَمَانِنَا
أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهَذَا اللَّفْظِ الطَّلاَقَ. قَال بِذَلِكَ أَبُو
اللَّيْثِ (2) .
وَإِنْ قَال لَهَا: أَنَا عَلَيْكِ حَرَامٌ وَيَنْوِي الطَّلاَقَ: فَهِيَ
طَالِقٌ (3) .
وَإِنْ قَال لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَظَهْرِ أُمِّي وَنَوَى بِهِ
طَلاَقًا أَوْ إِيلاَءً: لَمْ يَكُنْ إِلاَّ ظِهَارًا عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ، وَقَالاَ: هُوَ عَلَى مَا نَوَى لأَِنَّ التَّحْرِيمَ يَحْتَمِل
كُل ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ إِذَا
__________
(1) سورة التحريم / 2.
(2) فتح القدير 3 / 196 - 197 ط دار صادر.
(3) فتح القدير 3 / 71.
(10/207)
نَوَى الطَّلاَقَ لاَ يَكُونُ ظِهَارًا،
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَكُونَانِ جَمِيعًا، وَلأَِبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ
صَرِيحٌ فِي الظِّهَارِ فَلاَ يَحْتَمِل غَيْرَهُ (1) .
أَمَّا إِذَا كَانَ بِلَفْظِ الظِّهَارِ صَرِيحًا كَأَنْ قَال لَهَا:
أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَلاَ يَنْصَرِفُ لِغَيْرِ الظِّهَارِ،
وَبِهِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ، فَلاَ يَحِل لَهُ وَطْؤُهَا وَلاَ مَسُّهَا
وَلاَ تَقْبِيلُهَا، حَتَّى يُكَفِّرَ عَنْ ظِهَارِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا
قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا} (2) إِلَى
قَوْلِهِ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ
قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ
مِسْكِينًا} (3) .
فَإِنْ وَطِئَهَا قَبْل أَنْ يُكَفِّرَ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ تَعَالَى وَلاَ
شَيْءَ عَلَيْهِ غَيْرُ الْكَفَّارَةِ الأُْولَى، وَلاَ يَعُودُ حَتَّى
يُكَفِّرَ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلَّذِي وَاقَعَ
فِي ظِهَارِهِ قَبْل الْكَفَّارَةِ: فَاعْتَزِلْهَا حَتَّى تُكَفِّرَ
عَنْكَ (4) وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ آخَرُ وَاجِبًا لَنَبَّهَ عَلَيْهِ (5) .
__________
(1) فتح القدير 3 / 231.
(2) سورة المجادلة / 3.
(3) سورة المجادلة / 4.
(4) حديث: " فاعتزلها حتى تكفر عنك " أخرجه أبو داود (2 / 666 - ط عزت عبيد
دعاس) وحسنه ابن حجر في الفتح (9 / 433 - ط السلفية) .
(5) فتح القدير 3 / 226 - 228، 233.
(10/208)
وَلَوْ قَال: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ
كَأُمِّي يَحْتَمِل الطَّلاَقَ وَالظِّهَارَ.
فَإِنْ قَال: أَرَدْتُ الظِّهَارَ أَوِ الطَّلاَقَ فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى،
لأَِنَّهُ يَحْتَمِل الْوَجْهَيْنِ: الظِّهَارَ لِمَكَانِ التَّشْبِيهِ،
وَالطَّلاَقَ لِمَكَانِ التَّحْرِيمِ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ:
فَعَلَى قَوْل أَبِي يُوسُفَ إِيلاَءٌ، وَعَلَى قَوْل مُحَمَّدٍ ظِهَارٌ
(1) .
هَذَا وَتَحْرِيمُ الزَّوْجَةِ بِأَرْبَعَةِ طُرُقٍ: الطَّلاَقِ،
وَالإِْيلاَءِ، وَاللِّعَانِ، وَالظِّهَارِ. وَهَذَا مَا قَال بِهِ
الْحَنَفِيَّةُ (2) .
4 - وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لَوْ قَال لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ
حَرَامٌ فَهُوَ الْبَتَاتُ (الْبَيْنُونَةُ الْكُبْرَى) (3) .
وَلَوْ قَال لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَكُل شَيْءٍ حَرَّمَهُ الْكِتَابُ،
فَإِنَّهُ حَرَّمَ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ، فَهُوَ
بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَال لَهَا: أَنْتِ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ،
فَيَلْزَمُهُ الْبَتَاتُ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ
نَافِعٍ.
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: قَال رَبِيعَةُ: مَنْ قَال: أَنْتِ مِثْل كُل شَيْءٍ
حَرَّمَهُ الْكِتَابُ، فَهُوَ مُظَاهِرٌ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْمَاجِشُونِ
(4) .
5 - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا قَال لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ
__________
(1) فتح القدير 3 / 231.
(2) فتح القدير 3 / 182 - 184 ط دار صادر.
(3) جواهر الإكليل 1 / 346، ومواهب الجليل 4 / 57، 58.
(4) الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 442 - 444.
(10/208)
حَرَامٌ أَوْ حَرَّمْتُكِ، وَنَوَى
طَلاَقًا أَوْ ظِهَارًا حَصَل الْمَنْوِيُّ، وَهُمْ كَالْحَنَفِيَّةِ،
وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَشْهُورِ عَنْ أَحْمَدَ فِيمَا إِذَا نَوَى
الطَّلاَقَ يَكُونُ طَلاَقًا إِلاَّ أَنَّهُ يَكُونُ رَجْعِيًّا. فَإِنْ
نَوَى عَدَدًا فَإِنَّهُ يَقَعُ مَا نَوَاهُ وَهُمْ كَرَأْيِ أَبِي
حَنِيفَةَ إِذَا نَوَى الظِّهَارَ يَكُونُ ظِهَارًا عِنْدَهُمْ، كَمَا هُوَ
ظِهَارٌ عِنْدَهُ.
فَإِنْ نَوَاهُمَا: أَيِ الطَّلاَقَ وَالظِّهَارَ مَعًا تَخَيَّرَ وَثَبَتَ
مَا اخْتَارَهُ مِنْهُمَا. وَقِيل: الْوَاقِعُ طَلاَقٌ لأَِنَّهُ أَقْوَى
بِإِزَالَتِهِ الْمِلْكَ، وَقِيل: ظِهَارٌ، لأَِنَّ الأَْصْل بَقَاءُ
النِّكَاحِ، وَلاَ يَثْبُتَانِ جَمِيعًا لأَِنَّ الطَّلاَقَ يُزِيل
النِّكَاحَ، وَالظِّهَارَ يَسْتَدْعِي بَقَاءَهُ.
وَإِنْ نَوَى تَحْرِيمَ عَيْنِهَا أَوْ فَرْجِهَا أَوْ وَطْئِهَا لَمْ
تَحْرُمْ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ (1) .
إِنْ أَطْلَقَ قَوْلَهُ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا
فَقَوْلاَنِ:
أَظْهَرُهُمَا: وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ. وَقَوْلُهُ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ
صَرِيحٌ فِي لُزُومِ الْكَفَّارَةِ.
وَالثَّانِي: لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَهَذَا اللَّفْظُ كِنَايَةٌ فِي
لُزُومِ الْكَفَّارَةِ (2) .
وَإِنْ قَال لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ. أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ
وَنَوَى التَّحْرِيمَ. فَإِنْ قَال ذَلِكَ فِي مَجْلِسٍ أَوْ
__________
(1) منهاج الطالبين وحاشية قليوبي عليه 3 / 326، وروضة الطالبين 8 / 28،
243 المكتب الإسلامي، والمغني لابن قدامة 7 / 156 - 157، 343.
(2) روضة الطالبين 8 / 29.
(10/209)
قَالَهُ فِي مَجَالِسَ وَنَوَى
التَّأْكِيدَ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَإِنْ قَالَهُ فِي مَجَالِسَ وَنَوَى الاِسْتِئْنَافَ تَعَدَّدَتِ
الْكَفَّارَةُ عَلَى الأَْصَحِّ، وَقِيل: عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ فَقَطْ.
وَإِنْ أَطْلَقَ فَقَوْلاَنِ (1) .
وَلَوْ قَال: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْخَمْرِ
وَالْخِنْزِيرِ، وَقَال: أَرَدْتُ الطَّلاَقَ أَوِ الظِّهَارَ صُدِّقَ،
وَإِنْ نَوَى التَّحْرِيمَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ أَطْلَقَ
فَظَاهِرُ النَّصِّ أَنَّهُ كَالْحَرَامِ فَيَكُونُ عَلَى الْخِلاَفِ (2) .
6 - وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِذَا قَال لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ
حَرَامٌ وَأَطْلَقَ، فَهُوَ ظِهَارٌ، لأَِنَّهُ تَحْرِيمٌ لِلزَّوْجَةِ
بِغَيْرِ طَلاَقٍ، فَوَجَبَ بِهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ، كَمَا لَوْ قَال:
أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَظَهْرِ أُمِّي.
وَإِنْ نَوَى غَيْرَ الظِّهَارِ، فَعَنْ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ:
أَنَّهُ ظِهَارٌ، نَوَى الطَّلاَقَ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ.
وَقِيل: إِذَا نَوَى بِقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ الْيَمِينَ كَانَ
يَمِينًا، وَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا: إِذَا حَرَّمَ الرَّجُل عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ فَهِيَ
يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا. وَقَال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُول اللَّهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (3) وَلأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَال: {يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَل اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ
أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ
__________
(1) روضة الطالبين 8 / 30 - 31.
(2) روضة الطالبين 8 / 31.
(3) سورة الأحزاب / 21.
(10/209)
لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (1)
فَجَعَل الْحَرَامَ يَمِينًا (2) .
وَإِنْ قَال: أَعْنِي بِأَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ الطَّلاَقَ فَهُوَ طَلاَقٌ،
وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ. وَإِنْ نَوَى بِهِ ثَلاَثًا فَهِيَ
ثَلاَثٌ، لأَِنَّهُ أَتَى فِي تَفْسِيرِهِ لِلتَّحْرِيمِ بِالأَْلِفِ
وَاللاَّمِ الَّتِي لِلاِسْتِغْرَاقِ، فَيَدْخُل فِيهِ الطَّلاَقُ كُلُّهُ.
وَإِنْ قَال: أَعْنِي بِهِ طَلاَقًا فَهُوَ وَاحِدَةٌ، لأَِنَّهُ ذَكَرَهُ
مُنَكَّرًا فَيَكُونُ طَلاَقًا وَاحِدًا (3) .
وَإِنْ قَال: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَنَوَى بِهِ الطَّلاَقَ لَمْ
يَكُنْ طَلاَقًا، لأَِنَّهُ صَرِيحٌ فِي الظِّهَارِ، وَلاَ يَنْصَرِفُ
إِلَى غَيْرِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ كِنَايَةً فِي الطَّلاَقِ، كَمَا لاَ
يَكُونُ الطَّلاَقُ كِنَايَةَ الظِّهَارِ (4) .
وَإِنْ قَال: أَنْتِ عَلَيَّ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، وَنَوَى بِهِ
الطَّلاَقَ كَانَ طَلاَقًا، وَيَقَعُ بِهِ مِنْ عَدَدِ الطَّلاَقِ مَا
نَوَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ.
وَإِنْ نَوَى الظِّهَارَ: وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ تَحْرِيمَهَا عَلَيْهِ مَعَ
بَقَاءِ نِكَاحِهَا، احْتَمَل أَنْ يَكُونَ ظِهَارًا، وَاحْتَمَل أَنْ لاَ
يَكُونَ ظِهَارًا.
وَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ: وَهُوَ أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ تَرْكَ وَطْئِهَا
لاَ تَحْرِيمَهَا وَلاَ طَلاَقَهَا فَهُوَ يَمِينٌ. وَإِنْ لَمْ
__________
(1) سورة التحريم / 1، 2.
(2) المغني لابن قدامة 7 / 154 - 156 م الرياض الحديثة.
(3) المغني لابن قدامة 7 / 156 - 157، 343.
(4) المغني لابن قدامة 7 / 157، 344.
(10/210)
يَنْوِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ طَلاَقًا،
لأَِنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الطَّلاَقِ وَلاَ نَوَاهُ بِهِ.
وَهَل يَكُونُ ظِهَارًا أَوْ يَمِينًا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا يَكُونُ ظِهَارًا، وَالثَّانِي يَكُونُ يَمِينًا (1) .
7 - وَإِنْ نَوَى بِقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ الظِّهَارَ فَهُوَ
ظِهَارٌ عَلَى مَا قَالَهُ بِهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (أَبُو حَنِيفَةَ
وَأَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ) وَإِنْ نَوَى بِهِ الطَّلاَقَ
فَهُوَ طَلاَقٌ، وَإِنْ أَطْلَقَ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا هُوَ
ظِهَارٌ، وَالأُْخْرَى يَمِينٌ (2) .
وَإِنْ قَال: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَنَوَى الطَّلاَقَ وَالظِّهَارَ
مَعًا كَانَ ظِهَارًا وَلَمْ يَكُنْ طَلاَقًا؛ لأَِنَّ اللَّفْظَ
الْوَاحِدَ لاَ يَكُونُ ظِهَارًا وَطَلاَقًا، وَالظِّهَارُ أَوْلَى بِهَذَا
اللَّفْظِ، فَيَنْصَرِفُ إِلَيْهِ، وَعِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِ
الشَّافِعِيِّ يَتَخَيَّرُ، فَيُقَال لَهُ: اخْتَرْ أَيَّهُمَا شِئْتَ
كَمَا سَبَقَ الْقَوْل (3) .
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى
الْمُظَاهِرِ وَطْءُ امْرَأَتِهِ قَبْل التَّكْفِيرِ عَنْ ظِهَارِهِ، عَلَى
نَحْوِ مَا سَبَقَ بَيَانُهُ (4) . .
__________
(1) المغني لابن قدامة 7 / 157.
(2) المغني لابن قدامة 7 / 343، وفتح القدير 3 / 71 ط دار صادر، ومنهاج
الطالبين وحاشية قليوبي عليه 3 / 326، وروضة الطالبين 8 / 28، 243.
(3) المغني لابن قدامة 7 / 345، ومنهاج الطالبين وحاشية قليوبي عليه 3 /
326، وروضة الطالبين 8 / 28، 243 المكتب الإسلامي.
(4) المغني لابن قدامة 7 / 345 - 368، وفتح القدير 3 / 226 - 228، 233.
(10/210)
ثَانِيًا: تَحْرِيمُ الْحَلاَل:
8 - الأَْصْل فِي الأَْشْيَاءِ الإِْبَاحَةُ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيل
عَلَى تَحْرِيمِهَا، وَبِهِ قَال الشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ
وَمِنْهُمُ الْكَرْخِيُّ وَيُعَضِّدُ هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَحَل اللَّهُ فَهُوَ حَلاَلٌ، وَمَا حَرَّمَ
فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ، فَاقْبَلُوا مِنَ
اللَّهِ عَافِيَتَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيَنْسَى شَيْئًا (1)
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ: إِنَّ اللَّهَ
فَرَضَ فَرَائِضَ فَلاَ تُضَيِّعُوهَا، وَنَهَى عَنْ أَشْيَاءَ فَلاَ
تَنْتَهِكُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلاَ تَعْتَدُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ
أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلاَ تَبْحَثُوا عَنْهَا وَفِي لَفْظ
وَسَكَتَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلاَ تَتَكَلَّفُوهَا
رَحْمَةً لَكُمْ فَاقْبَلُوهَا (2) وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ
مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عَنِ الْجُبْنِ وَالسَّمْنِ وَالْغِذَاءِ فَقَال:
الْحَلاَل مَا أَحَل اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ
اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ
(3) .
__________
(1) حديث: " ما أحل الله فهو حلال. . . . " أخرجه البزار (3 / 325 - كشف
الأستار - ط الرسالة) وإسناده ضعيف. (ميزان الاعتدال للذهبي 1 / 242 - ط
الحلبي) .
(2) حديث: " إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها. . . " أخرجه الدارقطني (4 /
298) وفي التعليق عليه: عن نهشل - يعني الذي في إسناده - قال إسحاق ابن
راهويه كان كذابا، وقال أبو حاتم والنسائي: متروك.
(3) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 65، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 26 - 27
وحديث: " الحلال ما أحل الله في كتابه " أخرجه الترمذي (4 / 220 - ط
الحلبي) والحاكم (4 / 115 - ط دائرة المعارف العثمانية) وضعفه الذهبي لضعف
أحد رواته.
(10/211)
وَقَدْ نَزَل فِي تَحْرِيمِ الْحَلاَل
قَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ
تُحَرِّمُ مَا أَحَل اللَّهُ لَكَ} (1) إِلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {قَدْ
فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (2) فَفِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلاً. قَالَتْ:
فَتَوَاطَأْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ أَنَّ أَيَّتَنَا مَا دَخَل عَلَيْهَا
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْتَقُل: إِنِّي
أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ.، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ فَدَخَل عَلَى
إِحْدَاهُمَا فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ. فَقَال: بَل شَرِبْتُ عَسَلاً عِنْدَ
زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَلَنْ أَعُودَ لَهُ فَنَزَل قَوْله تَعَالَى:
{لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَل اللَّهُ لَكَ} إِلَى قَوْلِهِ: {إِنْ تَتُوبَا}
(3) لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ (4) .
وَفِي قَوْلٍ: إِنَّ الَّتِي حَرَّمَهَا هِيَ مَارِيَةُ الْقِبْطِيَّةُ،
فَقَدْ رَوَى الْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَال: قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَفْصَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: لاَ تُخْبِرِي أَحَدًا وَإِنَّ أُمَّ إِبْرَاهِيمَ
يَعْنِي مَارِيَةَ
__________
(1) سورة التحريم / 1.
(2) سورة التحريم / 2.
(3) سورة التحريم / 4.
(4) حديث سبب نزول} يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك {أخرجه مسلم (2 /
1100 - ط الحلبي) .
(10/211)
عَلَيَّ حَرَامٌ فَقَالَتْ: أَتُحَرِّمُ
مَا أَحَل اللَّهُ لَكَ؟ قَال: فَوَاللَّهِ لاَ أَقْرَبُهَا، قَال: فَلَمْ
يَقْرَبْهَا حَتَّى أَخْبَرَتْ عَائِشَةَ. قَال: فَأَنْزَل اللَّهُ
تَعَالَى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (1) .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَال: حَرَّمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أُمَّ إِبْرَاهِيمَ فَقَال: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَاللَّهِ
لاَ آتِيَنَّكِ فَأَنْزَل اللَّهُ عَزَّ وَجَل فِي ذَلِكَ {يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَل اللَّهُ لَكَ} (2) . فَهَذِهِ
رِوَايَاتٌ وَرَدَتْ فِي سَبَبِ نُزُول هَذِهِ الآْيَةِ، وَالتَّحْرِيمُ
الْوَارِدُ فِيهَا يَمِينٌ تَلْزَمُ بِهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، لِقَوْل
اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ
أَيْمَانِكُمْ} (3) وَلَيْسَ تَحْرِيمًا لِمَا أَحَل اللَّهُ؛ لأَِنَّ مَا
لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ لَيْسَ لأَِحَدٍ أَنْ يُحَرِّمَهُ، وَلاَ أَنْ
يَصِيرَ بِتَحْرِيمِهِ حَرَامًا، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال لِمَا أَحَلَّهُ اللَّهُ:
هُوَ عَلَيَّ حَرَامٌ. وَإِنَّمَا امْتَنَعَ مِنْ مَارِيَةَ لِيَمِينٍ
تَقَدَّمَتْ مِنْهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ وَاللَّهِ لاَ أَقْرَبُهَا فَقِيل
لَهُ: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَل اللَّهُ لَكَ} أَيْ لِمَ تَمْتَنِعُ
مِنْهُ
__________
(1) حديث عمر: " لا تخبري أحدا " أورده ابن كثير في تفسيره من رواية الهيثم
بن كليب في سنده وقال: هذا إسناد صحيح. ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب
الستة. (تفسير ابن كثير 7 / 51 - ط دار الأندلس) .
(2) حديث ابن وهب في سبب نزول} يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك
{أخرجه ابن جرير (28 / 156 - ط الحلبي) وإسناده ضعيف لإرساله.
(3) سورة التحريم / 2.
(10/212)
بِسَبَبِ الْيَمِينِ، يَعْنِي أَقْدِمْ
عَلَيْهِ وَكَفِّرْ. قَال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
إِذَا حَرَّمَ الرَّجُل عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ فَإِنَّمَا هِيَ يَمِينٌ
يُكَفِّرُهَا (1) وَتَفْصِيل ذَلِكَ كُلِّهِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي
مُصْطَلَحِ (أَيْمَانٌ) وَفِي أَبْوَابِ الطَّلاَقِ وَالظِّهَارِ
وَالإِْيلاَءِ.
تَحْرِيمَةٌ
اُنْظُرْ: تَكْبِيرَةُ الإِْحْرَامِ.
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 18 / 177 - 181.
(10/212)
تَحْسِينٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّحْسِينُ لُغَةً: التَّزْيِينُ، وَمِثْلُهُ التَّجْمِيل.
قَال الْجَوْهَرِيُّ: حَسَّنْتُ الشَّيْءَ تَحْسِينًا: زَيَّنْتُهُ.
وَقَال الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ: الْحُسْنُ أَكْثَرُ مَا يُقَال فِي
تَعَارُفِ الْعَامَّةِ فِي الْمُسْتَحْسَنِ بِالْبَصَرِ، وَأَكْثَرُ مَا
جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي الْمُسْتَحْسَنِ مِنْ جِهَةِ
الْبَصِيرَةِ.
فَأَهْل اللُّغَةِ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ " زَيَّنْتُ الشَّيْءَ " وَ "
حَسَّنْتُهُ "، وَجَعَلُوا الْجَمِيعَ مَعْنًى وَاحِدًا.
وَالتَّحْسِينُ فِي الاِصْطِلاَحِ لاَ يَخْرُجُ عَنْ مَعْنَاهُ
اللُّغَوِيِّ (1) .
__________
(1) الصحاح للجوهري مادة: " حسن "، وانظر: تاج العروس شرح القاموس، ولسان
العرب، والمعجم الوسيط، ومحيط المحيط، كلها في " حسن " ولسان العرب مادة: "
جمل "، وتفسير القرطبي 12 / 229 طبع دار الكتب المصرية، وتفسير ابن كثير 3
/ 304 و 2 / 210 طبع دار المعرفة، والمفردات للراغب الاصبهاني مادة: " زين
".
(10/213)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّجْوِيدُ:
2 - التَّجْوِيدُ: مَصْدَرُ جَوَّدَ الشَّيْءَ، بِمَعْنَى جَعَلَهُ
جَيِّدًا.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: إِعْطَاءُ الْحُرُوفِ حُقُوقَهَا وَتَرْتِيبَهَا،
وَرَدُّ الْحَرْفِ إِلَى مَخْرَجِهِ وَأَصْلِهِ، وَتَلْطِيفُ النُّطْقِ
بِهِ عَلَى كَمَال هَيْئَتِهِ مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلاَ تَعَسُّفٍ وَلاَ
إِفْرَاطٍ وَلاَ تَكَلُّفٍ (1) .
فَالتَّحْسِينُ أَعَمُّ مِنَ التَّجْوِيدِ لاِخْتِصَاصِ التَّجْوِيدِ
بِالْقِرَاءَةِ.
ب - التَّحْلِيَةُ:
3 - يُقَال: تَحَلَّتِ الْمَرْأَةُ: إِذَا لَبِسَتِ الْحُلِيَّ أَوِ
اتَّخَذَتْهُ، وَحَلَّيْتُهَا بِالتَّشْدِيدِ تَحْلِيَةً: أَلْبَسْتُهَا
الْحُلِيَّ أَوِ اتَّخَذْتُهُ لَهَا لِتَلْبَسَهُ. وَحَلَّيْتُ السَّوِيقَ:
جَعَلْتُ فِيهِ شَيْئًا حُلْوًا حَتَّى حَلاَ (2)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالتَّحْسِينُ أَعَمُّ مِنَ التَّحْلِيَةِ، فَقَدْ يَحْسُنُ الشَّيْءُ
بِغَيْرِ تَحْلِيَتِهِ، كَمَا يَحْسُنُ الطَّعَامُ بِتَمْلِيحِهِ لاَ
بِتَحْلِيَتِهِ.
__________
(1) الإتقان 1 / 100 ط الحلبي، 1370 هـ = 1951 م، ومقاييس اللغة، ولسان
العرب مادة: " جود ".
(2) الفروق في اللغة لأبي هلال العسكري 23 طبع دار الآفاق الجديدة - بيروت،
والمصباح المنير مادة: " حلا ".
(10/213)
ج - التَّقْبِيحُ:
4 - التَّقْبِيحُ: جَعْل الشَّيْء قَبِيحًا، أَوْ نِسْبَتُهُ إِلَى
الْقُبْحِ. وَهُوَ ضِدُّ التَّحْسِينِ.
مَصْدَرُ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ:
5 - التَّحْسِينُ وَالتَّقْبِيحُ يُطْلَقَانِ بِثَلاَثَةِ اعْتِبَارَاتٍ:
الأَْوَّل: بِاعْتِبَارِ مُلاَءَمَةِ الطَّبْعِ وَمُنَافَرَتِهِ،
كَقَوْلِنَا: رِيحُ الْوَرْدِ حَسَنٌ، وَرِيحُ الْجِيفَةِ قَبِيحٌ.
الثَّانِي: بِاعْتِبَارِهِ صِفَةَ كَمَالٍ أَوْ صِفَةَ نَقْصٍ،
كَقَوْلِنَا: الْعِلْمُ حَسَنٌ، وَالْجَهْل قَبِيحٌ.
وَهَذَانِ النَّوْعَانِ مَصْدَرُهُمَا: الْعَقْل مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ
عَلَى الشَّرْعِ، لاَ يُعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلاَفٌ (1) .
وَالثَّالِثُ: بِاعْتِبَارِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ الشَّرْعِيَّيْنِ،
وَهَذَا قَدِ اُخْتُلِفَ فِيهِ: فَذَهَبَ الأَْشَاعِرَةُ إِلَى أَنَّ
مَصْدَرَهُ الشَّرْعُ، وَالْعَقْل لاَ يُحَسِّنُ وَلاَ يُقَبِّحُ، وَلاَ
يُوجِبُ وَلاَ يُحَرِّمُ.
وَقَال الْمَاتُرِيدِيَّةُ: إِنَّ الْعَقْل يُحَسِّنُ وَيُقَبِّحُ،
وَرَدُّوا الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ الشَّرْعِيَّيْنِ إِلَى الْمُلاَءَمَةِ
وَالْمُنَافَرَةِ.
__________
(1) شرح الكوكب المنير لابن اللحام 1 / 300 طبع مركز البحث العلمي في جامعة
الملك عبد العزيز 1400 هـ، وفواتح الرحموت 1 / 25 المطبعة البولاقية الأولى
1322 بهامش المستصفى، ونهاية السول شرح منهاج الوصول للأسنوي 1 / 145 طبع
مطبعة السعادة بمصر.
(10/214)
وَذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ إِلَى أَنَّ
الْعَقْل يُحَسِّنُ وَيُقَبِّحُ، وَيُوجِبُ وَيُحَرِّمُ، وَفِي ذَلِكَ
تَفْصِيلٌ مَحَلُّهُ الْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ (1) .
التَّحْسِينِيَّاتُ:
6 - بَحْثُ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ مِنْ أَبْحَاثِ أُصُول الْفِقْهِ،
وَيَذْكُرُ عُلَمَاءُ الأُْصُول أَنَّ مَقَاصِدَ الشَّرِيعَةِ لاَ تَعْدُو
ثَلاَثَةَ أَقْسَامٍ: الأَْوَّل: ضَرُورِيَّةٌ، وَالثَّانِي: حَاجِيَّةٌ،
وَالثَّالِثُ: تَحْسِينِيَّةٌ.
فَالضَّرُورِيَّةُ: هِيَ الَّتِي لاَ بُدَّ مِنْهَا لِقِيَامِ مَصَالِحِ
الدِّينِ وَالدُّنْيَا، بِحَيْثُ إِذَا فُقِدَتْ لَمْ تَجْرِ مَصَالِحُ
الدُّنْيَا عَلَى اسْتِقَامَةٍ، بَل عَلَى فَسَادٍ وَتَهَارُجٍ وَفَوْتِ
حَيَاةٍ، وَفِي الآْخِرَةِ يَكُونُ فَوَاتُ النَّعِيمِ، وَالرُّجُوعُ
بِالْخُسْرَانِ الْمُبِينِ.
أَمَّا الْحَاجِيَّةُ: فَهِيَ مَا يُفْتَقَرُ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ
التَّوْسِعَةُ وَرَفْعُ الضِّيقِ الْمُؤَدِّي فِي الْغَالِبِ إِلَى
الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ اللاَّحِقَةِ بِفَوْتِ الْمَطْلُوبِ، فَإِذَا
لَمْ تُرَاعَ دَخَل عَلَى الْمُكَلَّفِينَ - عَلَى الْجُمْلَةِ - الْحَرَجُ
وَالْمَشَقَّةُ دُونَ اخْتِلاَل شَيْءٍ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ الْخَمْسَةِ.
__________
(1) كشف الأسرار 4 / 230 طبع دار سعادت باسطنبول، وشرح الكوكب المنير 1 /
302، والرد على المنطقيين لابن تيمية ص 320 طبع إدارة ترجمان القرآن بلاهور
باكستان سنة 1396، ومدارج السالكين لابن القيم 1 / 231 مطبعة السنة
المحمدية 1375 هـ.
(10/214)
وَأَمَّا التَّحْسِينِيَّةُ: فَهِيَ
الأَْخْذُ بِمَا يَلِيقُ مِنْ مَحَاسِنِ الْعَادَاتِ، وَيَجْمَعُ ذَلِكَ
مَكَارِمُ الأَْخْلاَقِ، وَالآْدَابُ الشَّرْعِيَّةُ (1) . وَتَفْصِيل
ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
حُكْمُ التَّحْسِينِ فِي الْفِقْهِ الإِْسْلاَمِيِّ:
7 - التَّحْسِينُ مَطْلُوبٌ فِي الْجُمْلَةِ إِذَا خَلَصَتْ فِيهِ
النِّيَّةُ وَأُرِيدَ بِهِ الْخَيْرُ، وَمَكْرُوهٌ أَوْ مُحَرَّمٌ إِذَا
لَمْ تَخْلُصْ فِيهِ النِّيَّةُ أَوْ كَانَ سَبَبًا لِلْوُقُوعِ فِي
الْحَرَامِ وَلَمْ يُرَدْ بِهِ الْخَيْرُ.
وَيَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِاعْتِبَارِ مَوْضُوعِهِ. وَإِلَيْكَ بَعْضَ
الأَْمْثِلَةِ:
تَحْسِينُ الْهَيْئَةِ:
8 - يُنْدَبُ تَحْسِينُ الْهَيْئَةِ الْعَامَّةِ مِنْ غَيْرِ مُبَالَغَةٍ،
وَقَدْ كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ
بِذَلِكَ.، وَمِمَّا قَال فِي هَذَا: أَصْلِحُوا رِحَالَكُمْ، وَأَصْلِحُوا
لِبَاسَكُمْ حَتَّى تَكُونُوا كَأَنَّكُمْ شَامَةٌ فِي النَّاسِ، فَإِنَّ
اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلاَ التَّفَحُّشَ (2) .
__________
(1) الموافقات للشاطبي 2 / 8 وما بعدها نشر المكتبة التجارية الكبرى بمصر،
والإحكام للآمدي 2 / 48، والمستصفى للغزالي 1 / 139، وإرشاد الفحول
للشوكاني 189.
(2) حديث: " أصلحوا رحالكم، وأصلحوا لباسكم. . . " أخرجه أبو داود (4 / 349
- ط عزت عبيد دعاس) وفي إسناده جهالة. (ميزان الاعتدال للذهبي 3 / 392 - ط
الحلبي) .
(10/215)
وَيُنْدَبُ تَحْسِينُ اللِّحْيَةِ
وَالشَّارِبَيْنِ، لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
جَدِّهِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
يَأْخُذُ مِنْ لِحْيَتِهِ مِنْ عَرْضِهَا وَطُولِهَا (1) . وَفِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
جُزُّوا الشَّوَارِبَ وَأَرْخُوا اللِّحَى، خَالِفُوا الْمَجُوسَ (2) .
9 - وَتَحْسِينُ وَجْهِ الْمَرْأَةِ يَكُونُ بِتَنْقِيَتِهِ مِنَ الشَّعْرِ
النَّابِتِ فِي غَيْرِ أَمَاكِنِهِ، فَيُسْتَحَبُّ لَهَا إِزَالَتُهُ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَإِذَا أَمَرَهَا الزَّوْجُ بِإِزَالَتِهِ وَجَبَ
عَلَيْهَا ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (3) . فَقَدْ رَوَتِ امْرَأَةُ
بْنِ أَبِي الصَّقْرِ: أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا، فَسَأَلَتْهَا امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ
إِنَّ فِي وَجْهِي شَعْرَاتٍ أَفَأَنْتِفُهُنَّ، أَتَزَيَّنُ بِذَلِكَ
لِزَوْجِي؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَمِيطِي عَنْكِ الأَْذَى، وَتَصَنَّعِي
لِزَوْجِكِ كَمَا تَصَنَّعِينَ لِلزِّيَارَةِ، وَإِنْ أَمَرَكِ
فَأَطِيعِيهِ، وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْكِ فَأَبَرِّيهِ،
__________
(1) حديث: " كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها " أخرجه الترمذي (5 / 94 -
ط الحلبي) وفي إسناده عمر بن هارون البلخي، وهو متهم بالكذب. (ميزان
الاعتدال 3 / 228 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " جزوا الشوارب، وأرخوا اللحى. . . . " أخرجه مسلم (1 / 222 - ط
الحلبي) . وانظر ابن عابدين 5 / 260، والفتاوى الهندية 5 / 357، وقليوبي 2
/ 298، وزاد المعاد 1 / 178، والموطأ 2 / 949.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 239، وحاشية قليوبي 3 / 252.
(10/215)
وَلاَ تَأْذَنِي فِي بَيْتِهِ لِمَنْ
يَكْرَهُ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ إِزَالَةُ الشَّعْرِ
الَّذِي فِي إِزَالَتِهِ جَمَالٌ لَهَا، كَشَعْرِ اللِّحْيَةِ إِنْ نَبَتَ
لَهَا.
وَيَجِبُ عَلَيْهَا إِبْقَاءُ مَا فِي بَقَائِهِ جَمَالٌ لَهَا، فَيَحْرُمُ
عَلَيْهَا حَلْقُ شَعْرِ رَأْسِهَا (2) .
وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ، وَرَخَّصُوا بِإِزَالَتِهِ
بِالْمُوسَى (3) .
وَمِنْ وُجُوهِ التَّحَسُّنِ لِلْهَيْئَةِ: قَطْعُ الأَْعْضَاءِ
الزَّائِدَةِ فِي الْبَدَنِ كَالسِّنِّ الزَّائِدَةِ، وَالأُْصْبُعِ
الزَّائِدَةِ، وَالْكَفِّ الزَّائِدَةِ، لِمَا فِيهَا مِنَ التَّشْوِيهِ.
وَيُقَاسُ عَلَى ذَلِكَ سَائِرُ التَّشَوُّهَاتِ فِي الْبَدَنِ،
وَيُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ السَّلاَمَةُ هِيَ الْغَالِبَةَ فِي
إِزَالَتِهِ (4) .
وَتَحْسِينُ الأَْسْنَانِ: يَكُونُ بِالتَّدَاوِي وَالاِسْتِيَاكِ
وَالتَّفْلِيجِ (وَيُرَاجَعُ حُكْمُهُ فِي مُصْطَلَحِ تَفْلِيجٌ) ،
وَالسِّوَاكُ مُسْتَحَبٌّ عَلَى كُل حَالٍ.
10 - وَيَتَأَكَّدُ تَحْسِينُ الْمَرْأَةِ هَيْئَتَهَا لِلزَّوْجِ،
وَتَحْسِينُ الزَّوْجِ هَيْئَتَهُ لِلزَّوْجَةِ.
كَمَا يَتَأَكَّدُ تَحْسِينُ الْهَيْئَةِ لِلْخُرُوجِ إِلَى الْجُمُعَةِ
وَالْعِيدَيْنِ وَلِلأَْذَانِ (5) .
__________
(1) مصنف عبد الرزاق 3 / 146.
(2) الفواكه الدواني 2 / 401.
(3) المغني 1 / 75 و 94.
(4) الفتاوى الهندية 5 / 360.
(5) حاشية ابن عابدين 1 / 77، و 2 / 537، و3 / 188، و5 / 274، ومواهب
الجليل 1 / 437، وحاشية قليوبي 4 / 73، وشرح منتهى الإرادات 3 / 96، وعقود
اللجين في بيان حقوق الزوجين ص 5، 8 طبع مصر دار إحياء الكتب العربية،
وإحياء علوم الدين 1 / 181، وزاد المعاد 1 / 441، وابن أبي شيبة 1 / 82.
(10/216)
تَحْسِينُ اللِّبَاسِ:
11 - يُسْتَحَبُّ تَحْسِينُ اللِّبَاسِ بِمَا لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْعُرْفِ،
وَلاَ يَخْرُجُ عَنِ السُّنَّةِ، لِمَا رَوَاهُ أَبُو الأَْحْوَصِ أَنَّ
أَبَاهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ
أَشْعَثُ سَيِّئُ الْهَيْئَةِ، فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا لَكَ مَالٌ؟ قَال: مِنْ كُلٍّ قَدْ آتَانِي
اللَّهُ عَزَّ وَجَل، قَال: فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل إِذَا أَنْعَمَ
عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً أَحَبَّ أَنْ تُرَى عَلَيْهِ (1) وَيَكُونُ
تَحْسِينُ اللِّبَاسِ بِمَا يَلِي:
أ - أَنْ يَكُونَ نَظِيفًا، فَقَدْ رَأَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلاً شَعْثًا فَقَال: أَمَا كَانَ يَجِدُ هَذَا مَا
يُسَكِّنُ بِهِ شَعْرَهُ،؟ وَرَأَى آخَرَ عَلَيْهِ ثِيَابٌ وَسِخَةٌ
فَقَال: أَمَا كَانَ هَذَا يَجِدُ مَا يَغْسِل بِهِ ثَوْبَهُ؟ (2) .
ب - أَنْ لاَ يَكُونَ وَاسِعًا سَعَةً تَخْرُجُ عَنْ حَدِّ الاِحْتِيَاجِ،
لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الإِْسْرَافِ، فَقَدْ كَرِهَ
__________
(1) حديث: " إن الله إذا أنعم على عبد نعمة. . . " أخرجه الطبراني في
الصغير (1 / 179 - ط المكتبة السلفية) وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح
(مجمع الزوائد 5 / 133 - ط القدسي) .
(2) حديث: " أما كان يجد هذا ما يسكن به شعره " أخرجه أبو داود (4 / 333 -
ط عزت عبيد دعاس) والحاكم (4 / 186 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه
الحاكم ووافقه الذهبي.
(10/216)
الإِْمَامُ مَالِكٌ لِلرَّجُل سَعَةَ
الثَّوْبِ وَطُولَهُ، قَال ابْنُ الْقَاسِمِ: بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ قَطَعَ كُمَّ رَجُلٍ إِلَى قَدْرِ أَصَابِعِ كَفِّهِ، ثُمَّ
أَعْطَاهُ فَضْل ذَلِكَ، وَقَال لَهُ: خُذْ هَذَا وَاجْعَلْهُ فِي
حَاجَتِكَ (1) .
ج - أَنْ يَكُونَ مُنَسَّقًا مُرَتَّبًا عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْعُرْفُ،
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَصْلِحُوا رِحَالَكُمْ
وَأَصْلِحُوا لِبَاسَكُمْ، حَتَّى تَكُونُوا كَأَنَّكُمْ شَامَةٌ فِي
النَّاسِ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلاَ التَّفَحُّشَ (2) .
وَيَتَأَكَّدُ تَحْسِينُ الثَّوْبِ لِلْخُرُوجِ لِلْجُمَعِ وَالأَْعْيَادِ
وَالْجَمَاعَاتِ (3) .
كَمَا يَتَأَكَّدُ تَحْسِينُ الثَّوْبِ لِلْعُلَمَاءِ خَاصَّةً (4) .
تَحْسِينُ الأَْفْنِيَةِ:
12 - يُسَنُّ تَحْسِينُ الأَْفْنِيَةِ وَالْبُيُوتِ بِتَنْظِيفِهَا
وَتَرْتِيبِهَا، عَمَلاً بِمَا رَوَاهُ عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ
يُحِبُّ الطَّيِّبَ، نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ، كَرِيمٌ يُحِبُّ
الْكَرَمَ، جَوَّادٌ
__________
(1) المدخل لابن الحاج 1 / 131.
(2) الحديث سبق تخريجه (ف 11) .
(3) زاد المعاد 1 / 381، 441، وإحياء علوم الدين 1 / 180 و 201.
(4) الموطأ 2 / 911.
(10/217)
يُحِبُّ الْجُودَ، فَنَظِّفُوا
أَفْنِيَتَكُمْ وَلاَ تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ (1) . .
تَحْسِينُ الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسْجِدِ:
13 - يَكُونُ تَحْسِينُ الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسْجِدِ بِمَا يَلِي:
أ - إِخْلاَصُ النِّيَّةِ لِلْخُرُوجِ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَعَدَمُ
خَلْطِهَا بِنِيَّةٍ أُخْرَى كَالتَّمَشِّي وَنَحْوِهِ.
ب - أَنْ يَزِيدَ عَلَى نِيَّةِ الْخُرُوجِ لأَِدَاءِ الْفَرِيضَةِ فِي
الْمَسْجِدِ نِيَّةَ الاِعْتِكَافِ فِيهِ.
ج - الْخُرُوجُ إِلَى الْمَسْجِدِ بِغَيْرِ ثِيَابِ الْمِهْنَةِ،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُل
مَسْجِدٍ} (2) .
د - الدُّخُول إِلَى الْمَسْجِدِ بِرِجْلِهِ الْيُمْنَى (3) .
تَحْسِينُ اللِّقَاءِ وَالسَّلاَمِ وَرَدِّهِ:
14 - يُنْدَبُ تَحْسِينُ لِقَاءِ الْمُسْلِمِ، وَتَحْسِينُ السَّلاَمِ
وَالرَّدِّ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ
بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (4) وَتَحْسِينُ
رَدِّ السَّلاَمِ يَكُونُ بِقَوْل: " وَعَلَيْكُمُ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ
اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ " (5) .
__________
(1) حديث: " إن الله طيب يحب الطيب. . . " أخرجه الترمذي (5 / 112 - ط
الحلبي) وقال: حديث غريب، وخالد بن إلياس يضعف.
(2) سورة الأعراف / 31.
(3) انظر المدخل لابن الحاج 1 / 39.
(4) سورة النساء / 86.
(5) المدخل لابن الحاج 1 / 160، وحاشية قليوبي 3 / 213، وحاشية ابن عابدين
5 / 245، وشرح منتهى الإرادات 2 / 133، والأذكار للنووي 218 مصطفى البابي
الحلبي.
(10/217)
تَحْسِينُ الصَّوْتِ:
15 - تَحْسِينُ الصَّوْتِ هُوَ: التَّرَنُّمُ وَالتَّغَنِّي الَّذِي لاَ
يُصَاحِبُهُ تَرْدِيدُ الصَّوْتِ بِالْحُرُوفِ، وَلاَ تَغْيِيرُ
الْكَلِمَاتِ عَنْ وَجْهِهَا، مَعَ الْتِزَامِ قَوَاعِدِ التَّجْوِيدِ (1)
.
وَيُنْدَبُ تَحْسِينُ الصَّوْتِ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي الأَْذَانِ،
لأَِنَّهُ يَجْذِبُ النَّاسَ إِلَيْهِمَا، وَيُحَبِّبُهُمْ بِهِمَا،
وَيَشْرَحُ صُدُورَهُمْ لَهُمَا.
أَمَّا التَّطْرِيبُ وَالتَّلْحِينُ وَالتَّغَنِّي - بِمَعْنَى الْغِنَاءِ
- وَالْقَصْرُ وَالزِّيَادَةُ بِالتَّمْطِيطِ فَهُوَ مُحَرَّمٌ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ أَنْ يَكُونَ
الْمُؤَذِّنُ حَسَنَ الصَّوْتِ؛ " لأَِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتَارَ أَبَا مَحْذُورَةَ مُؤَذِّنًا، لِحُسْنِ
صَوْتِهِ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 222، والبخاري في فضائل القرآن الباب 19، ومسلم
في صلاة المسافرين برقم 232، وأبو داود في الوتر، وانظر حاشية ابن عابدين 1
/ 259، والمدخل لابن الحاج 1 / 51.
(2) ابن عابدين 1 / 259، وتبيين الحقائق 1 / 90 و91، ومواهب الجليل 1 / 437
و438، وشرح منتهى الإرادات 1 / 242، وشرح روض الطالب 1 / 129 طبع المكتب
الإسلامي، والمدخل لابن الحاج 1 / 51 و 54، وحاشية البجيرمي على شرح منهج
الطلاب 1 / 173، والمدونة 1 / 58، والمحلى 3 / 146، ومصنف عبد الرزاق 1 /
36، وحديث: " اختار أبا محذورة مؤذنا لحسن صوته " أخرجه النسائي (2 / 6 - ط
المكتبة التجارية) وصححه ابن دقيق العيد. التلخيص لابن حجر (1 / 200 - ط
شركة الطباعة الفنية) .
(10/218)
تَحْسِينُ الْمَرْأَةِ صَوْتَهَا
بِحَضْرَةِ الأَْجَانِبِ:
16 - عَلَى الْمَرْأَةِ إِذَا تَكَلَّمَتْ بِحَضْرَةِ الرِّجَال
الأَْجَانِبِ أَنْ تَتَكَلَّمَ بِصَوْتٍ طَبِيعِيٍّ لَيْسَ فِيهِ تَكَلُّفٌ
وَلاَ تَقْطِيعٌ وَلاَ تَلْيِينٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا نِسَاءَ
النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ
تَخْضَعْنَ بِالْقَوْل فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ
قَوْلاً مَعْرُوفًا} (1) .
قَال ابْنُ كَثِيرٍ: هَذِهِ آدَابٌ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا نِسَاءَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنِسَاءَ الأُْمَّةِ تَبَعٌ
لَهُنَّ فِي ذَلِكَ (2) .
قَال الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ {فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْل} أَيْ
لاَ تُلِنَّ الْقَوْل، أَمَرَهُنَّ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُنَّ جَزْلاً،
وَكَلاَمُهُنَّ فَصْلاً، وَلاَ يَكُونُ عَلَى وَجْهٍ يُظْهِرُ فِي
الْقَلْبِ عَلاَقَةً بِمَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ مِنَ اللِّينِ (3) .
تَحْسِينُ الْمِشْيَةِ:
17 - عَلَى الإِْنْسَانِ أَنْ يَمْشِيَ الْمِشْيَةَ الْمُتَعَارَفَةَ
الْمُعْتَادَةَ، أَمَّا الْمِشْيَةُ الْمُصْطَنَعَةُ الْمُلْفِتَةُ
لِلأَْنْظَارِ فَمَنْهِيٌّ عَنْهَا، وَمَنْعُهَا فِي حَقِّ النِّسَاءِ
آكَدُ مِنْ
__________
(1) سورة الأحزاب / 32.
(2) تفسير ابن كثير 3 / 482.
(3) تفسير القرطبي 14 / 177، والمدخل لابن الحاج 1 / 32.
(10/218)
مَنْعِهَا فِي حَقِّ الرِّجَال؛ لأَِنَّ
أَمْرَ الْمَرْأَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى السَّتْرِ قَال تَعَالَى: {وَلاَ
يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ}
(1) قَال الْقُرْطُبِيُّ: مَنْ فَعَل مِنْهُنَّ ذَلِكَ فَرَحًا
بِحُلِيِّهِنَّ فَهُوَ مَكْرُوهٌ، وَمَنْ فَعَل مِنْهُنَّ تَبَرُّجًا
وَتَعَرُّضًا لِلرِّجَال فَهُوَ حَرَامٌ مَذْمُومٌ.
وَكَذَلِكَ مَنْ ضَرَبَ بِنَعْلِهِ مِنَ الرِّجَال، مَنْ فَعَل ذَلِكَ
تَعَجُّبًا حَرُمَ، فَإِنَّ الْعُجْبَ كَبِيرَةٌ، وَإِنْ فَعَل ذَلِكَ
تَبَرُّجًا لَمْ يَجُزْ (2) .
وَأَحْسَنُ الْمَشْيِ مَشْيُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ، وَكَانَ
أَسْرَعَ النَّاسِ مِشْيَةً، وَأَحْسَنَهَا وَأَسْكَنَهَا (3) وَهِيَ
الْمُرَادَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ
يَمْشُونَ عَلَى الأَْرْضِ هَوْنًا} (4) .
قَال غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: يَعْنِي بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ مِنْ
غَيْرِ تَكَبُّرٍ وَلاَ تَمَاوُتٍ (5) .
تَحْسِينُ الْخُلُقِ:
18 - تَحْسِينُ الْخُلُقِ مَطْلُوبٌ شَرْعًا. قَال اللَّهُ
__________
(1) سورة النور / 31.
(2) تفسير القرطبي 12 / 238.
(3) حديث: " كان إذا مشى تكفأ. . . . " أخرجه مسلم (4 / 1815 - ط الحلبي) .
(4) سورة الفرقان / 63.
(5) زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم 1 / 167، ونشر مؤسسة الرسالة
1399 هـ.
(10/219)
تَعَالَى: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَْرْضِ
مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَْرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَال
طُولاً} (1) وَقَال جَل شَأْنُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ
يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلاَ
نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلاَ
تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَْلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ
الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِْيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ
الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ
بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُل لَحْمَ أَخِيهِ
مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ
رَحِيمٌ} (2) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآْيَاتِ الْمُوجِبَةِ لِحُسْنِ
الْخُلُقِ، وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِقَوْلِهِ: {وَإِنَّكَ
لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (3) .
وَيَتَنَاسَبُ تَحْسِينُ الْخُلُقِ مَعَ عِظَمِ الْحَقِّ، فَمَنْ كَانَ
حَقُّهُ عَلَيْكَ أَكْبَرَ كَانَ تَحْسِينُ الأَْخْلاَقِ مَعَهُ أَوْجَبَ،
وَلِذَلِكَ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الإِْنْسَانِ أَنْ يَتَأَفَّفَ
لأَِحَدِ وَالِدَيْهِ، لِعَظِيمِ حَقِّهِمَا عَلَى الْوَلَدِ، قَال
تَعَالَى: {فَلاَ تَقُل لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَهُمَا
قَوْلاً كَرِيمًا} (4) .
قَال الْبُهُوتِيُّ: يُسْتَحَبُّ لِكُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ
__________
(1) سورة الإسراء / 37.
(2) سورة الحجرات 11 - 12.
(3) سورة القلم / 4.
(4) سورة الإسراء / 17.
(10/219)
تَحْسِينُ الْخُلُقِ لِصَاحِبِهِ
وَالرِّفْقُ بِهِ وَاحْتِمَال أَذَاهُ، وَفِي حَدِيثِ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا،
فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ (1) .
تَحْسِينُ الظَّنِّ:
أ - تَحْسِينُ الظَّنِّ بِاللَّهِ تَعَالَى:
19 - يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يُحْسِنَ الظَّنَّ بِاللَّهِ تَعَالَى،
وَأَكْثَرُ مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ إِحْسَانًا لِلظَّنِّ بِاللَّهِ عِنْدَ
نُزُول الْمَصَائِبِ وَعِنْدَ الْمَوْتِ، قَال الْحَطَّابُ: نُدِبَ
لِلْمُحْتَضَرِ تَحْسِينُ الظَّنِّ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَتَحْسِينُ
الظَّنِّ بِاللَّهِ وَإِنْ كَانَ يَتَأَكَّدُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَفِي
الْمَرَضِ، إِلاَّ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يَكُونَ دَائِمًا
حَسَنَ الظَّنِّ بِاللَّهِ (2) ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: لاَ يَمُوتَنَّ
أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ (3) .
ب - تَحْسِينُ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِينَ:
20 - عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُحْسِنَ الظَّنَّ بِالْمُسْلِمِينَ، حَتَّى
إِذَا مَا أَخْطَأَ أَحَدُهُمْ عَفَا عَنْهُ وَصَفَحَ وَالْتَمَسَ لَهُ
الْعُذْرَ.
وَمَعَ إِحْسَانِهِ الظَّنَّ بِالْمُسْلِمِينَ مَا دَامَ لَهُمْ
__________
(1) حديث: " استوصوا بالنساء، فإن المرأة خلقت من ضلع " أخرجه البخاري (9 /
253 - الفتح - ط السلفية) ومسلم (2 / 1091 - ط الحلبي) .
(2) مواهب الجليل. 2 / 218 و 219.
(3) حديث: " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله " أخرجه مسلم (4 /
2206 - ط الحلبي) .
(10/220)
وَجْهٌ، عَلَيْهِ أَنْ يَتَّهِمَ نَفْسَهُ
وَلاَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِهَا؛ لأَِنَّ ذَلِكَ أَبْعَدُ عَنِ الْغُرُورِ،
وَأَسْلَمُ لِلْقَلْبِ عَنْ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ، قَال ابْنُ الْحَاجِّ
فِي الْمَدْخَل: إِذَا خَرَجَ الْمَرْءُ إِلَى الصَّلاَةِ فَلْيَحْذَرْ
أَنْ يَخْطِرَ لَهُ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ أَحَدٍ مِنْ
إِخْوَانِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَيَقَعَ فِي الْبَلِيَّةِ الْعُظْمَى،
بَل يَخْرُجُ مُحْسِنَ الظَّنِّ بِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ، مُسِيءَ
الظَّنِّ بِنَفْسِهِ، فَيَتَّهِمُ نَفْسَهُ فِي فِعْل الْخَيْرِ (1) . .
تَحْسِينُ الْخَطِّ:
21 - حُسْنُ الْخَطِّ عِصْمَةٌ لِلْقَارِئِ مِنَ الْخَطَأِ فِي
قِرَاءَتِهِ، وَكُلَّمَا كَانَ الْكَلاَمُ أَكْثَرَ حُرْمَةً كَانَ
تَحْسِينُ الْخَطِّ فِيهِ أَلْزَمَ؛ لأَِنَّ الْخَطَأَ فِيهِ أَفْحَشُ،
وَعَلَى هَذَا فَتَحْسِينُ الْخَطِّ بِكِتَابَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ
أَلْزَمُ شَيْءٍ، ثُمَّ يَتْلُوهُ تَحْسِينُ الْخَطِّ بِكِتَابَةِ سُنَّةِ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ بِالآْثَارِ
الْمَرْوِيَّةِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، ثُمَّ بِالأَْحْكَامِ
الشَّرْعِيَّةِ وَهَكَذَا. .
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ " قَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
يَا مُعَاوِيَةُ أَلْقِ الدَّوَاةَ، وَحَرِّفِ الْقَلَمَ، وَانْصِبِ
الْبَاءَ، وَفَرِّقِ السِّينَ، وَلاَ تُعَوِّرِ الْمِيمَ، وَحَسِّنِ
اللَّهَ، وَمُدَّ الرَّحْمَنَ، وَجَوِّدِ الرَّحِيمَ (2) .
__________
(1) المدخل لابن الحاج 1 / 60.
(2) حديث: " يا معاوية ألق الدواة، وحرف القلم. . " أخرجه السمعاني في أدب
الإملاء (ص 170 - ط ليدن) وفي إسناده إرسال.
(10/220)
تَحْسِينُ الْمَخْطُوبَةِ:
22 - لاَ تُمْنَعُ الْمَرْأَةُ الْمَخْطُوبَةُ مِنْ تَحْسِينِ هَيْئَتِهَا
وَلُبْسِهَا عِنْدَ رُؤْيَةِ الْخَاطِبِ لَهَا مِنْ غَيْرِ سَتْرِ عَيْبٍ
وَلاَ تَدْلِيسٍ وَلاَ سَرَفٍ (1) .
تَحْسِينُ الْمُصْحَفِ:
23 - تَحْسِينُ الْمُصْحَفِ مَنْدُوبٌ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِتَحْسِينِ
خَطِّهِ، وَتَعْشِيرِهِ، وَكِتَابَةِ أَسْمَاءِ سُوَرِهِ فِي أَوَّل كُل
سُورَةٍ وَعَدَدِ آيَاتِهَا، وَتَشْكِيلِهِ وَتَنْقِيطِهِ، وَعَلاَمَاتِ
وُقُوفِهِ، وَتَجْلِيدِهِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْكَلاَمِ عَنِ الْمُصْحَفِ (2) . .
تَحْسِينُ الذَّبْحِ:
24 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى نَدْبِ تَحْسِينِ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ
تَحْسِينًا يُؤَدِّي إِلَى إِرَاحَةِ الْحَيَوَانِ الْمَذْبُوحِ بِقَدْرِ
الْمُسْتَطَاعِ، فَاسْتَحَبُّوا أَنْ يُحِدَّ الشَّفْرَةَ قَبْل الذَّبْحِ
(3) . وَكَرِهُوا الذَّبْحَ بِآلَةٍ كَالَّةٍ، لِمَا فِي الذَّبْحِ بِهَا
مِنْ تَعْذِيبٍ لِلْحَيَوَانِ (4) وَلِحَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُول
__________
(1) مواهب الجليل 3 / 405.
(2) تفسير القرطبي 1 / 63، 64، والمدخل لابن الحاج 1 / 77، و 4 / 87.
(3) حاشية الجمل على شرح المنهاج 5 / 236 طبع دار إحياء التراث العربي
ببيروت، ونيل الأوطار 5 / 212 طبع دار الجيل.
(4) شرح منتهى الإرادات 3 / 408.
(10/221)
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال: إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِْحْسَانَ عَلَى كُل شَيْءٍ، فَإِذَا
قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا
الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ
(1) .
وَيُنْدَبُ عَدَمُ شَحْذِ السِّكِّينِ أَمَامَ الذَّبِيحَةِ، وَلاَ ذَبْحُ
وَاحِدَةٍ أَمَامَ أُخْرَى، كَمَا يُنْدَبُ عَرْضُ الْمَاءِ عَلَيْهَا
قَبْل ذَبْحِهَا. وَأَنْ يَكُونَ الذَّبْحُ فِي الْعُنُقِ لِمَا قَصُرَ
عُنُقُهُ، وَفِي اللَّبَّةِ لِمَا طَال عُنُقُهُ كَالإِْبِل وَالنَّعَامِ
وَالإِْوَزِّ لأَِنَّهُ أَسْهَل لِخُرُوجِ الرُّوحِ.
وَإِمْرَارُ السِّكِّينِ عَلَى الذَّبِيحَةِ بِرِفْقٍ وَتَحَامُلٍ يَسِيرٍ
ذَهَابًا وَإِيَابًا.
وَأَنْ لاَ يَكُونَ الذَّبْحُ مِنَ الْقَفَا، وَأَنْ لاَ يَقْطَعَ أَعْمَقَ
مِنَ الْوَدَجَيْنِ وَالْحُلْقُومِ، وَلاَ يَكْسِرُ الْعُنُقَ، وَلاَ
يَقْطَعُ شَيْئًا مِنْهَا قَبْل أَنْ تَزْهَقَ نَفْسُهَا (2) .
وَكَذَلِكَ يُنْدَبُ تَحْسِينُ الْقَتْل فِي الْقِصَاصِ أَوِ الْحَدِّ،
لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ.
تَحْسِينُ الْمَبِيعِ:
25 - يُعْتَبَرُ تَحْسِينُ الْمَبِيعِ مُبَاحًا مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ
سَتْرُ
__________
(1) حديث: " إن الله كتب الإحسان على كل شيء. . . " أخرجه مسلم (3 / 1548 -
ط الحلبي) .
(2) حاشية الجمل 5 / 235 وما بعدها، وشرح المنهاج 5 / 234، والمغني 8 /
578، والمحلى 7 / 444 الطبعة المنيرية.
(10/221)
عَيْبٍ، أَوْ تَغْرِيرٌ لِلْمُشْتَرِي،
أَوْ تَحْسِينٌ مُؤَقَّتٌ لاَ يَلْبَثُ أَنْ يَزُول، فَإِذَا ظَهَرَ
الْعَيْبُ الَّذِي أُخْفِيَ بِالتَّحْسِينِ ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي خِيَارُ
الْعَيْبِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (بَيْعٌ، غَرَرٌ، خِيَارُ الْعَيْبِ) .
تَحْسِينُ الْمُطَالَبَةِ بِالدَّيْنِ:
26 - يُنْدَبُ تَحْسِينُ الْمُطَالَبَةِ بِالدَّيْنِ، وَيَكُونُ
تَحْسِينُهَا: بِالسَّمَاحَةِ بِالْمُطَالَبَةِ: لِقَوْل رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً سَمْحًا إِذَا
بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى (2) . وَأَنْ تَكُونَ
الْمُطَالَبَةُ فِي وَقْتٍ يُظَنُّ فِيهِ الْيُسْرُ: فَقَدْ قَدِمَ سَعِيدُ
بْنُ عَامِرِ بْنِ حِذْيَمٍ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَلَمَّا
أَتَاهُ عَلاَهُ عُمَرُ بِالدِّرَّةِ، فَقَال سَعِيدٌ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ سَبَقَ سَيْلُكَ مَطَرَكَ، إِنْ تُعَاقِبْ نَصْبِرْ، وَإِنْ
تَعْفُ نَشْكُرْ، وَإِنْ تَسْتَعْتِبْ نَعْتِبْ، فَقَال عُمَرُ: مَا عَلَى
الْمُسْلِمِ إِلاَّ هَذَا، مَا لَكَ تُبْطِئُ بِالْخَرَاجِ؟ قَال سَعِيدٌ:
أَمَرْتنَا أَنْ لاَ نَزِيدَ الْفَلاَّحِينَ عَلَى
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 43 - 50، والزيلعي 4 / 35، 41، 74، ومصنف ابن أبي
شيبة 1 / 332، ومواهب الجليل 4 / 437، والمغني 4 / 157، 160، 167، والمدخل
لابن الحاج 4 / 28، 29، ومعالم القربة في أحكام الحسبة للقرشي ص 92، 136،
ونهاية الرتبة للشيزري ص 34، 65.
(2) حديث: " رحم الله رجلا سمحا إذا باع. . . " أخرجه البخاري (4 / 206 -
الفتح - ط السلفية) .
(10/222)
أَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ، فَلَسْنَا
نَزِيدُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنَّا نُؤَخِّرُهُمْ إِلَى غَلاَّتِهِمْ،
فَقَال عُمَرُ: لاَ عَزَلْتُكَ مَا حَيِيتُ (1) .
تَحْسِينُ الْمَيِّتِ وَالْكَفَنِ وَالْقَبْرِ:
27 - يُنْدَبُ تَحْسِينُ هَيْئَةِ الْمَيِّتِ، فَفِي تَبْيِينِ
الْحَقَائِقِ: فَإِذَا مَاتَ شُدَّ لَحْيَاهُ، وَغُمِّضَتْ عَيْنَاهُ؛
لأَِنَّ فِيهِ تَحْسِينَهُ، إِذْ لَوْ تُرِكَ عَلَى حَالِهِ لَبَقِيَ
فَظِيعَ الْمَنْظَرِ، ثُمَّ يُغَسَّل (2) .
28 - وَيُسْتَحَبُّ تَحْسِينُ كَفَنِ الْمَيِّتِ؛ لأَِنَّ الْكَفَنَ
لِلْمَيِّتِ بِمَثَابَةِ اللِّبَاسِ لِلْحَيِّ، وَلِمَا رَوَاهُ جَابِرٌ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ (3) .
وَيَكُونُ تَحْسِينُ الْكَفَنِ بِثَلاَثَةِ أُمُورٍ: تَحْسِينُ ذَاتِ
الْكَفَنِ، وَتَحْسِينُ صِفَةِ الْكَفَنِ، وَتَحْسِينُ وَضْعِهِ عَلَى
الْمَيِّتِ.
أ - أَمَّا تَحْسِينُ ذَاتِ الْكَفَنِ: فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ
بِأَنَّ الْمَيِّتَ يُكَفَّنُ بِمِثْل مَا كَانَ يَلْبَسُهُ فِي الْجُمَعِ
وَالأَْعْيَادِ فِي حَيَاتِهِ - وَهُوَ يَلْبَسُ لَهَا أَحْسَن
__________
(1) الأموال لأبي عبيد ص 43، والمغني 8 / 537، والمدخل لابن الحاج 1 / 69.
(2) تبيين الحقائق 1 / 235.
(3) حديث: " إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه " أخرجه مسلم (2 / 651 - ط
الحلبي) .
(10/222)
ثِيَابِهِ - وَيُقْضَى بِذَلِكَ عِنْدَ
اخْتِلاَفِ الْوَرَثَةِ فِيهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ (1) .
ب - أَمَّا تَحْسِينُ صِفَةِ الْكَفَنِ: فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْبَيَاضُ
فِي الْكَفَنِ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
مَرْفُوعًا: الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ، فَإِنَّهَا مِنْ
خَيْرِ ثِيَابِكُمْ، وَكَفِّنُوا بِهَا مَوْتَاكُمْ (2) وَالْجَدِيدُ
أَفْضَل مِنَ الْقَدِيمِ، عَلَى خِلاَفٍ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ
(3) .
ج - أَمَّا تَحْسِينُ كَيْفِيَّةِ الْكَفَنِ: فَيَتَمَثَّل بِأَنْ تُجْعَل
أَحْسَنُ اللَّفَائِفِ بِحَيْثُ تَظْهَرُ لِلنَّاسِ، فَيَظْهَرُ حُسْنُ
الْكَفَنِ (4) .
29 - وَيُنْدَبُ تَحْسِينُ الْقَبْرِ، وَيَكُونُ تَحْسِينُهُ بِمَا يَلِي:
أ - حَفْرُهُ لَحْدًا إِنْ أَمْكَنَ، وَبِنَاءُ اللَّحْدِ، وَأَفْضَل مَا
يُبْنَى بِهِ اللَّحْدُ اللَّبِنُ، ثُمَّ الأَْلْوَاحُ، ثُمَّ
الْقِرْمِيدُ، ثُمَّ الْقَصَبُ (5) .
ب - أَنْ يَكُونَ عُمْقُهُ بِقَدْرِ قَامَةٍ - وَهِيَ
__________
(1) مواهب الجليل 2 / 218.
(2) حديث: " البسوا من ثيابكم البياض. . . " أخرجه أبو داود (4 / 332 - ط
عزت عبيد دعاس) والحاكم (4 / 185 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه
ووافقه الذهبي.
(3) سبل السلام 2 / 96، وتبيين الحقائق 1 / 238، والمغني 2 / 464، وكفاية
الأخيار 1 / 320، وشرح منتهى الإرادات 1 / 334.
(4) المغني 2 / 464 وما بعدها، والمدخل لابن الحاج 3 / 241 وما بعدها، وسبل
السلام 2 / 96.
(5) مواهب الجليل 2 / 234.
(10/223)
مَا يَقْرُبُ مِنْ ثَلاَثَةِ أَذْرَاعٍ -
وَأَنْ يَكُونَ وَاسِعًا بِحَيْثُ لاَ يَضِيقُ بِالْمَيِّتِ.
ج - فَرْشُ أَرْضِهِ بِالرَّمْل إِنْ كَانَتِ الأَْرْضُ صَخْرِيَّةً أَوْ
كَانَ هُنَاكَ سَبَبٌ آخَرُ لِذَلِكَ.
د - أَنْ يَعْلُوَ عَنِ الأَْرْضِ مِقْدَارَ شِبْرٍ، وَيَكُونَ مُسَطَّحًا
أَوْ مُسَنَّمًا عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِيمَا هُوَ
الأَْفْضَل.
هـ - أَنْ يُعَلَّمَ عِنْدَ رَأْسِ الْمَيِّتِ بِحَجَرٍ.
وَلَيْسَ مِنَ الْمُسْتَحْسَنِ - بَل هُوَ مَكْرُوهٌ - تَجْصِيصُ
الْقُبُورِ وَتَطْيِينُهَا وَالْبِنَاءُ عَلَيْهَا (1) . .
__________
(1) المدخل لابن الحاج 1 / 258، ومواهب الجليل 2 / 234، وكفاية الأخيار 1 /
324، وشرح منتهى الإرادات 1 / 349 وما بعدها، وحاشية ابن عابدين 1 / 601 و5
/ 269 و441، وحاشية قليوبي 1 / 351.
(10/223)
|