الموسوعة
الفقهية الكويتية تَسَرِّي
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّسَرِّي فِي اللُّغَةِ: اتِّخَاذُ السُّرِّيَّةِ. يُقَال: تَسَرَّى
الرَّجُل جَارِيَتَهُ وَتَسَرَّى بِهَا وَاسْتَسَرَّهَا: إِذَا اتَّخَذَهَا
سُرِّيَّةً، وَهِيَ الأَْمَةُ الْمَمْلُوكَةُ يَتَّخِذُهَا سَيِّدُهَا
لِلْجِمَاعِ. وَهِيَ فِي الأَْصْل مَنْسُوبَةٌ إِلَى السِّرِّ بِمَعْنَى:
الْجِمَاعِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ ضَمُّوا السِّينَ تَجَنُّبًا لِحُصُول
اللَّبْسِ، فَرْقًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ السِّرِّيَّةِ وَهِيَ الْحُرَّةُ
الَّتِي يَتَزَوَّجُهَا الرَّجُل سِرًّا. وَقِيل هِيَ مِنَ السِّرِّ
بِمَعْنَى الإِْخْفَاءِ؛ لأَِنَّ الرِّجَال كَثِيرًا مَا كَانُوا
يَتَّخِذُونَ السَّرَارِيَّ سِرًّا، وَيُخْفُونَهُنَّ عَنْ زَوْجَاتِهِمُ
الْحَرَائِرِ. وَقِيل: هِيَ مِنَ السُّرِّ بِالضَّمِّ بِمَعْنَى
السُّرُورِ، وَسُمِّيَتِ الْجَارِيَةُ سُرِّيَّةً؛ لأَِنَّهَا مَوْضِعُ
سُرُورِ الرَّجُل، وَلأَِنَّهُ يَجْعَلُهَا فِي حَالٍ تَسُرُّهَا مِنْ
دُونِ سَائِرِ جَوَارِيهِ. (1)
__________
(1) لسان العرب المحيط، بيروت، دار لسان العرب، 1389 هـ، وحاشية ابن عابدين
على الدر المختار 3 / 113، القاهرة، مطبعة بولاق 1272 هـ، وفتح القدير لابن
الهمام على الهداية للمرغيناني 4 / 440، 441، القاهرة المطبعة الميمنية،
1319 هـ.
(11/294)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: إِعْدَادُ الأَْمَةِ
لأََنْ تَكُونَ مَوْطُوءَةً (1) .
2 - وَيَتِمُّ التَّسَرِّي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَمْرَيْنِ: الأَْوَّل:
أَنْ يُحْصِنَ الرَّجُل أَمَتَهُ، وَالثَّانِي: أَنْ يُجَامِعَهَا.
وَتَحْصِينُهَا: بِأَنْ يُبَوِّئَهَا مَنْزِلاً وَيَمْنَعَهَا مِنَ
الْخُرُوجِ، فَلَوْ وَطِئَ دُونَ تَحْصِينٍ لَمْ يَثْبُتْ بِذَلِكَ
التَّسَرِّي، وَلَوْ حَمَلَتْ مِنْهُ.
وَالْجِمَاعُ بِأَنْ يُجَامِعَهَا فِعْلاً، فَلَوْ حَصَّنَهَا وَأَعَدَّهَا
لِلْوَطْءِ لَمْ يَثْبُتِ التَّسَرِّي بِذَلِكَ مَا لَمْ يَطَأْ فِعْلاً.
فَإِذَا وَطِئَ الْمُحْصَنَةَ ثَبَتَ التَّسَرِّي سَوَاءٌ أَفْضَى
بِمَائِهِ إِلَيْهَا أَمْ لاَ، بِأَنْ لَمْ يُنْزِل أَصْلاً، أَوْ أَنْزَل
وَعَزَل. وَهَذَا قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَال أَبُو
يُوسُفَ، وَنُقِل عَنِ الشَّافِعِيِّ: لاَ يَتِمُّ التَّسَرِّي إِلاَّ
بِأَنْ يُفْضِيَ إِلَيْهَا بِمَائِهِ، فَلَوْ وَطِئَ فَلَمْ يُنْزِل، أَوْ
أَنْزَل وَعَزَل، لَمْ يَثْبُتِ التَّسَرِّي بِذَلِكَ، وَلَوْ حَلَفَ لاَ
يَتَسَرَّى لَمْ يَحْنَثْ بِذَلِكَ. (2)
وَالْمُقَدَّمُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ التَّسَرِّيَ يَثْبُتُ
بِوَطْءِ الأَْمَةِ الْمَمْلُوكَةِ غَيْرِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَى
وَاطِئِهَا، سَوَاءٌ حَصَّنَهَا أَمْ لاَ، أَنْزَل أَمْ لاَ. وَفِي قَوْل
الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى: لاَ يَتِمُّ التَّسَرِّي إِلاَّ بِالْوَطْءِ
وَالإِْنْزَال. وَلَمْ نَجِدْ لِلْمَالِكِيَّةِ نَصًّا فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ.
__________
(1) تعريفات الجرجاني (تسري) .
(2) فتح القدير 4 / 440، 441، وابن عابدين 3 / 113، والمغني 8 / 723 ط
ثالثة، القاهرة، دار المنار، 1367 هـ، وشرح المنهاج مع حاشية القليوبي 4 /
367.
(11/295)
وَسَوْفَ يَكُونُ هَذَا الْبَحْثُ عَلَى
أَنَّ التَّسَرِّيَ هُوَ وَطْءُ الرَّجُل مَمْلُوكَتَهُ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ
كَانَ مَعَ الْوَطْءِ تَحْصِينٌ أَمْ لَمْ يَكُنْ؛ لِيَكُونَ شَامِلاً
لِكُل مَا يَتَعَلَّقُ بِوَطْءِ الإِْمَاءِ بِالْمِلْكِ، وَلأَِنَّ مَا
ذُكِرَ مِنَ الْخِلاَفِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يَظْهَرُ أَثَرُهُ،
إِلاَّ فِي نَحْوِ الْحِنْثِ فِي الْحَلِفِ عَلَى التَّسَرِّي.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - النِّكَاحُ:
3 - النِّكَاحُ: هُوَ التَّزَوُّجُ بِعَقْدٍ. وَقَدْ يَتَزَوَّجُ الرَّجُل
أَمَةً لِغَيْرِهِ يُنْكِحُهُ إِيَّاهَا سَيِّدُهَا، وَلاَ يُسَمَّى ذَلِكَ
تَسَرِّيًا. وَلاَ يَنْكِحُ الْحُرُّ الأَْمَةَ إِلاَّ إِذَا خَافَ
الْعَنَتَ.
ب - الْحَظِيَّةُ:
4 - الْحَظِيَّةُ: الْمَرْأَةُ تَنَال حُظْوَةً لَدَى الرَّجُل مِنْ بَيْنِ
نِسَائِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ زَوْجَةً أَمْ سُرِّيَّةً (1) .
ج - مِلْكُ الْيَمِينِ:
5 - مِلْكُ الْيَمِينِ أَعَمُّ مِنَ التَّسَرِّي؛ لأَِنَّهُ قَدْ يَطَأُ
بِمِلْكِ الْيَمِينِ بِدُونِ تَسَرٍّ، أَمَّا السُّرِّيَّةُ فَلاَ بُدَّ
أَنْ تَكُونَ مُعَدَّةً لِلْوَطْءِ.
حُكْمُ التَّسَرِّي:
6 - التَّسَرِّي جَائِزٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ إِذَا
تَمَّتْ شُرُوطُهُ كَمَا يَأْتِي.
__________
(1) لسان العرب.
(11/295)
أَمَّا الْكِتَابُ فَفِي مَوَاضِعَ مِنْهَا
قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى
فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا} (1) وَقَوْلُهُ {حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ. . .} إِلَى قَوْلِهِ:
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (2)
وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى
أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ
مَلُومِينَ} (3) قَال ابْنُ عَابِدِينَ (4) : فَمَنْ لاَمَ الْمُتَسَرِّيَ
عَلَى أَصْل الْفِعْل، بِمَعْنَى: أَنَّكَ فَعَلْتَ أَمْرًا قَبِيحًا
فَهُوَ كَافِرٌ لِهَذِهِ الآْيَةِ، لَكِنْ لاَ يَكْفُرُ إِنْ لاَمَهُ عَلَى
تَسَرِّيهِ؛ لأَِنَّهُ يَشُقُّ عَلَى زَوْجَتِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ لاَ تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ،
وَلاَ غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً (5) وَأَعْطَى حَسَّانَ
بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِحْدَى الْجَوَارِي الَّتِي
أَهْدَاهَا لَهُ الْمُقَوْقِسُ، وَقَال لِحَسَّانَ دُونَكَ
__________
(1) سورة النساء / 3.
(2) سورة النساء / 24.
(3) سورة المؤمنون / 6.
(4) ابن عابدين 2 / 291.
(5) حديث: " لا توطأ حامل حتى تضع. . . " رواه أبو داود (2 / 614 - ط عزت
عبيد دعاس) وحسنه ابن حجر في التلخيص (1 / 172 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(11/296)
هَذِهِ بَيِّضْ بِهَا وَلَدَكَ (1) .
وَالسُّنَّةُ الْفِعْلِيَّةُ أَيْضًا دَالَّةٌ عَلَى جَوَازِ التَّسَرِّي،
فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ لَهُ
سَرَارٌ: قَال ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ
أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ}
قَال: أَيْ وَأَبَاحَ لَكَ التَّسَرِّيَ مِمَّا أَخَذْتَ مِنَ
الْغَنَائِمِ، وَقَدْ مَلَكَ صَفِيَّةَ وَجُوَيْرِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا، فَأَعْتَقَهُمَا وَتَزَوَّجَهُمَا، وَمَلَكَ رَيْحَانَةَ بِنْتَ
شَمْعُونَ النَّصْرَانِيَّةَ وَمَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا، وَكَانَتَا مِنَ السَّرَارِيِّ. (2) أَيْ فَكَانَ يَطَؤُهُمَا
بِمِلْكِ الْيَمِينِ.
وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ اتَّخَذُوا
السَّرَارِيَّ، فَكَانَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُمَّهَاتُ
أَوْلاَدٍ أَوْصَى لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ،
وَكَانَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُمَّهَاتُ أَوْلاَدٍ، وَكَانَ
عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مِنْ أُمَّهَاتِ الأَْوْلاَدِ. وَرُوِيَ أَنَّ
النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَرْغَبُونَ فِي أُمَّهَاتِ الأَْوْلاَدِ حَتَّى
وُلِدَ هَؤُلاَءِ الثَّلاَثَةُ، فَرَغِبَ النَّاسُ فِيهِنَّ. (3)
__________
(1) قصة إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم إحدى الجواري لحسان. . . أخرجها
ابن سعد في طبقاته (1 / 135 - ط دار بيروت) ، وأوردها ابن هشام في السيرة
(2 / 306 - ط الحلبي) وابن حجر في الإصابة (4 / 339 - ط السعادة) .
(2) تفسير ابن كثير 3 / 499 بيروت، دار الفكر، طبعة مصورة عن الطبعة
المصرية القديمة.
(3) المغني 9 / 529، وابن عابدين 2 / 291، وشرح المنهاج 4 / 374.
(11/296)
وَأَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى ذَلِكَ،
وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ دُونَ نَكِيرٍ مِنْ أَحَدٍ
إِلَى حِينِ انْتِهَاءِ الرِّقِّ فِي الْعَصْرِ الْحَدِيثِ. وَقَدْ كَثُرَ
التَّسَرِّي فِي الْعَصْرِ الأُْمَوِيِّ وَالْعَصْرِ الْعَبَّاسِيِّ
لِكَثْرَةِ السَّبْيِ فِي الْفُتُوحِ، حَتَّى إِنَّ كَثِيرًا مِنْ نِسَاءِ
الْخُلَفَاءِ الْعَبَّاسِيِّينَ كُنَّ مِنَ السَّرَارِيِّ. وَكَثِيرًا
مِنْهُنَّ وَلَدْنَ الْخُلَفَاءَ. (1)
هَذَا وَلَيْسَ التَّسَرِّي خَاصًّا بِالأُْمَّةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ،
فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَسَرَّى بِهَاجَرَ
الَّتِي وَهَبَهُ إِيَّاهَا مَلِكُ مِصْرَ (2) ، فَوَلَدَتْ لَهُ
إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقِيل: كَانَ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ ثَلاَثُمِائَةِ سُرِّيَّةٍ، (3) وَكَانَ التَّسَرِّي فِي
الْجَاهِلِيَّةِ أَيْضًا.
مِلْكُ السَّيِّدِ لأَِمَتِهِ يُبِيحُ لَهُ وَطْأَهَا دُونَ عَقْدٍ:
7 - لاَ يَحْتَاجُ وَطْءُ السَّيِّدِ لأَِمَتِهِ إِلَى إِنْشَاءِ عَقْدِ
زَوَاجٍ، وَلَوْ عَقَدَ النِّكَاحَ لِنَفْسِهِ عَلَى مَمْلُوكَتِهِ لَمْ
يَصِحَّ النِّكَاحُ، وَلَمْ تَكُنْ بِذَلِكَ زَوْجَةً. قَال ابْنُ
قُدَامَةَ: لأَِنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ يُفِيدُ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ
وَإِبَاحَةَ الْبُضْعِ، فَلاَ يَجْتَمِعُ مَعَهُ عَقْدٌ أَضْعَفُ مِنْهُ.
وَلَوْ كَانَ الْحُرُّ مُتَزَوِّجًا بِأَمَةٍ، ثُمَّ مَلَكَ زَوْجَتَهُ
__________
(1) نساء الخلفاء المسمى جهات الأئمة الخلفاء من الحرائر والإماء، تحقيق د.
مصطفى جواد. القاهرة، دار المعارف بمصر.
(2) صحيح البخاري وفتح الباري، القاهرة، المكتبة السلفية، 1370 هـ.
(3) تفسير القرطبي 5 / 252، القاهرة، دار الكتب المصرية.
(11/297)
الأَْمَةَ انْفَسَخَ نِكَاحُهَا مِنْهُ.
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً لَهُ فِيهَا شِرْكٌ. (1)
حِكْمَةُ إِبَاحَةِ التَّسَرِّي:
8 - الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ - بِالإِْضَافَةِ إِلَى اسْتِعْفَافِ مَالِكِ
الأَْمَةِ بِهَا - أَنَّ فِي التَّسَرِّي تَحْصِينَ الإِْمَاءِ لَكَيْ لاَ
يَمِلْنَ إِلَى الْفُجُورِ، وَثُبُوتَ نَسَبِ أَوْلاَدِهِنَّ إِلَى
السَّيِّدِ، وَكَوْنَ الأَْوْلاَدِ أَحْرَارًا. وَإِذَا وَلَدَتِ الأَْمَةُ
مِنْ سَيِّدِهَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ، فَتَصِيرُ حُرَّةً عِنْدَ مَوْتِهِ
كَمَا يَأْتِي.
حُكْمُ السُّرِّيَّةِ إِذَا وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا
9 - إِذَا وَلَدَتِ السُّرِّيَّةُ لِسَيِّدِهَا اسْتَحَقَّتِ الْعِتْقَ
بِمَوْتِ سَيِّدِهَا بِحُكْمِ الشَّرْعِ، وَتُسَمَّى حِينَئِذٍ (أُمَّ
وَلَدٍ) وَلاَ يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنَ اسْتِمْرَارِ تَسَرِّي سَيِّدِهَا
بِهَا إِلَى أَنْ يَمُوتَ أَحَدُهُمَا، وَلاَ تُبَاعُ، وَلَهَا أَحْكَامٌ
خَاصَّةٌ (ر: أُمُّ وَلَدٍ) .
شُرُوطُ إِبَاحَةِ التَّسَرِّي
10 - يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ التَّسَرِّي مَا يَلِي:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: الْمِلْكُ. فَلاَ يَحِل لِرَجُلٍ أَنْ يَطَأَ
امْرَأَةً فِي غَيْرِ زَوَاجٍ إِلاَّ بِأَنْ يَكُونَ مَالِكًا لَهَا؛
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ
عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ
__________
(1) المغني 6 / 610، والفروق للقرافي 3 / 136، الفرق 153، وشرح المنهاج
وحاشية القليوبي 3 / 247.
(11/297)
مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (1) .
وَهَذَا الشَّرْطُ لاَ يُحِل لاِمْرَأَةٍ مَالِكَةٍ لِعَبْدٍ أَنْ
يَطَأَهَا عَبْدُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَلاَ يُعْلَمُ فِي ذَلِكَ
خِلاَفٌ.
وَسَوَاءٌ مَلَكَ السَّيِّدُ أَمَتَهُ بِالشِّرَاءِ أَوِ الْمِيرَاثِ أَوِ
الْهِبَةِ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وَسَائِل كَسْبِ الْمِلْكِيَّةِ
الْمَشْرُوعَةِ. أَمَّا إِنْ عَلِمَ أَنَّ الأَْمَةَ مَسْرُوقَةٌ أَوْ
مَغْصُوبَةٌ فَلاَ تَحِل لَهُ.
هَذَا، وَلاَ يَحِل لِلرَّجُل أَنْ يَطَأَ جَارِيَةً لَهُ فِيهَا شَرِيكٌ،
مَهْمَا قَلَّتْ نِسْبَةُ مِلْكِ ذَلِكَ الشَّرِيكِ فِيهَا. قَال ابْنُ
قُدَامَةَ: وَلاَ نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلاَفًا. وَكَذَا لاَ يَحِل وَطْءُ
الأَْمَةِ الْمُبَعَّضَةِ، وَهِيَ الَّتِي بَعْضُهَا مُعْتَقٌ وَبَعْضُهَا
رَقِيقٌ؛ لأَِنَّ الْمِلْكَ فِي الْحَالَيْنِ غَيْرُ تَامٍّ. وَمَعَ ذَلِكَ
فَإِذَا وَطِئَ جَارِيَةً لَهُ فِيهَا شِرْكٌ، فَإِنَّهُ لاَ يُحَدُّ
لِلشُّبْهَةِ، لَكِنْ يُعَزَّرُ، وَإِنْ وَلَدَتْ مِنْهُ لَحِقَهُ
النَّسَبُ. (2)
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْجَارِيَةُ مُسْلِمَةً أَوْ
كِتَابِيَّةً إِذَا كَانَ الْمُتَسَرِّي مُسْلِمًا. فَإِنْ كَانَتْ
مَجُوسِيَّةً أَوْ وَثَنِيَّةً لَمْ تَحِل لِسَيِّدِهَا الْمُسْلِمِ
بِمِلْكِ الْيَمِينِ، كَمَا لاَ تَحِل لَهُ بِالزَّوَاجِ لَوْ كَانَتْ
حُرَّةً، وَهَذَا قَوْل جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ
__________
(1) سورة المؤمنون / 5 - 7.
(2) المغني 9 / 353، 354.
(11/298)
تَعَالَى: {وَلاَ تَنْكِحُوا
الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} . (1)
ج - الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ لاَ تَكُونَ مِمَّنْ يَحْرُمْنَ مُؤَبَّدًا
أَوْ مُؤَقَّتًا، وَأَلاَّ تَكُونَ زَوْجَةَ غَيْرِهِ، أَوْ مُعْتَدَّتَهُ
أَوْ مُسْتَبْرَأَتَهُ، مَا عَدَا التَّحْرِيمَ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ.
وَلِمَعْرِفَةِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ غَيْرِهِنَّ عَلَى التَّفْصِيل
يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (نِكَاحٌ) .
وَبِهَذَا الشَّرْطِ يُعْلَمُ أَنَّهُ لاَ يَحِل لِلرَّجُل بِمِلْكِ
الْيَمِينِ عَمَّتُهُ أَوْ خَالَتُهُ أَوْ غَيْرُهُنَّ مِنْ مُحَرَّمَاتِ
النَّسَبِ، وَيُعْتَقْنَ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ الشِّرَاءِ. لِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ
مَحْرَمٍ فَهُوَ حُرٌّ (2) وَلاَ تَحِل لَهُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ أُمُّهُ
أَوْ أُخْتُهُ أَوْ خَالَتُهُ مِنَ الرَّضَاعِ لَوْ مَلَكَهُنَّ - وَإِنْ
لَمْ يُعْتَقْنَ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِنَّ مِنْ غَيْرِ ذَوِي الأَْرْحَامِ -
وَكَذَا سَائِرُ مَنْ يَحْرُمُ نِكَاحُهُنَّ بِالرَّضَاعَةِ.
وَإِذَا وَطِئَ الرَّجُل امْرَأَةً بِنِكَاحٍ أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ،
حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمَّهَاتُهَا وَبَنَاتُهَا. وَحَرُمَتِ الْمَرْأَةُ
عَلَى أَبِيهِ وَابْنِهِ، وَهُوَ تَحْرِيمُ الصِّهْرِ. وَيَشْمَل ذَلِكَ
التَّحْرِيمُ النِّكَاحَ وَالتَّسَرِّيَ (3)
أَمَّا سَائِرُ ذَوِي الأَْرْحَامِ مِنْ بِنْتِ عَمٍّ أَوْ بِنْتِ
__________
(1) سورة البقرة / 221.
(2) حديث: " من ملك ذا رحم محرم فهو حر " أخرجه أبو داود (4 / 260 - ط عزت
عبيد دعاس) وصححه ابن حزم وعبد الحق الأشبيلي كما في التلخيص لابن حجر (4 /
212 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) المغني 6 / 571، وجواهر الإكليل 1 / 289.
(11/298)
خَالٍ، وَسَائِرِ مَنْ يَحِل لِلرَّجُل
نِكَاحُهُنَّ مِنْ غَيْرِ الْمَحَارِمِ، فَيَجُوزُ إِذَا كُنَّ فِي
مِلْكِهِ أَنْ يَطَأَ مِنْهُنَّ عَلَى سَبِيل التَّسَرِّي.
التَّسَرِّي بِأُخْتَيْنِ وَنَحْوِهِمَا
11 - يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الأُْخْتَيْنِ أَوْ نَحْوِهِمَا -
كَالْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا - فِي مِلْكِ الْيَمِينِ،
لَكِنْ إِنْ وَطِئَ إِحْدَاهُمَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ الأُْخْرَى تَحْرِيمًا
مُؤَقَّتًا، فَلَوْ وَطِئَ الثَّانِيَةَ أَثِمَ، وَهَذَا قَوْل
الْجُمْهُورِ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ تَحْرِيمَ الأُْخْتَيْنِ
الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ
الأُْخْتَيْنِ} (1) مُطْلَقٌ، فَيَدْخُل فِيهِ التَّحْرِيمُ بِالزَّوَاجِ
وَبِمِلْكِ الْيَمِينِ.
وَعَلَى قَوْل الْجُمْهُورِ: تَحِل لَهُ الأُْخْرَى إِنْ حَرَّمَ الَّتِي
وَطِئَهَا بِإِعْتَاقِهَا وَبِإِخْرَاجِهَا عَنْ مِلْكِهِ بِبَيْعٍ أَوْ
نَحْوِهِ، أَوْ بِتَزْوِيجِهَا، وَلاَ يَكْفِي أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا مَعَ
بَقَائِهَا فِي مِلْكِهِ. وَنُقِل عَنْ قَتَادَةَ: يَكْفِيهِ
اسْتِبْرَاؤُهَا.
وَقَالُوا جَمِيعًا: فَإِنْ كَانَتْ حَامِلاً لَمْ تَحِل لَهُ الأُْخْرَى
حَتَّى تَضَعَ الْحَامِل حَمْلَهَا. (2)
الاِسْتِبْرَاءُ لِلأَْمَةِ الْمُتَمَلَّكَةِ:
12 - مَنْ تَمَلَّكَ جَارِيَةً غَيْرَ مُحَرَّمَةٍ عَلَيْهِ مُؤَقَّتًا
أَوْ
__________
(1) سورة النساء / 23.
(2) المغني 6 / 584، 587، وابن عابدين 2 / 284، 285، و 5 / 243 وجواهر
الإكليل 1 / 290.
(11/299)
مُؤَبَّدًا، لَمْ يَحِل لَهُ وَطْؤُهَا
قَبْل اسْتِبْرَائِهَا. فَلاَ يَطَؤُهَا إِنْ كَانَتْ حَامِلاً حَتَّى
تَضَعَ حَمْلَهَا، وَإِنْ كَانَتْ حَائِلاً فَحَتَّى تَحِيضَ عِنْدَهُ
حَيْضَةً كَامِلَةً، لِيَعْلَمَ بَرَاءَةَ رَحِمِهَا مِنَ الْحَمْل. (ر:
اسْتِبْرَاءٌ) .
وَإِنْ كَانَتْ آيِسَةً لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِبْرَاؤُهَا. وَيَرَى
الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ لاَ حَاجَةَ إِلَى الاِسْتِبْرَاءِ إِنْ غَلَبَ
عَلَى ظَنِّهِ بَرَاءَةُ رَحِمِهَا مِنَ الْحَمْل. وَيَكْفِي قَوْل
مَالِكِهَا أَنَّهُ قَدِ اسْتَبْرَأَهَا. (1)
عَدَدُ السَّرَارِيِّ وَالْقَسْمُ لَهُنَّ:
13 - لاَ يَتَحَدَّدُ مَا يَحِل لِلرَّجُل مِنَ السَّرَارِيِّ بِأَرْبَعٍ
وَلاَ بِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ. وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ مِنَ الزَّوْجَاتِ
وَاحِدَةٌ فَأَكْثَرَ إِلَى أَرْبَعٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ جَازَ لَهُ أَنْ
يَتَسَرَّى بِمَا شَاءَ مِنَ الْجَوَارِي؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ
خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ
مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ
تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى
أَلاَّ تَعُولُوا} (2)
وَإِذَا كَانَ عِنْدَهُ أَكْثَرُ مِنْ سُرِّيَّةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ
الْقَسْمُ بَيْنَهُنَّ فِي الْمَبِيتِ. (3)
__________
(1) المغني 7 / 506، وجواهر الإكليل 2 / 394، وابن عابدين 5 / 240.
(2) سورة النساء / 3.
(3) تفسير القرطبي 5 / 20 سورة النساء / 3، والشرح الكبير للدردير وحاشية
الدسوقي 2 / 339، والفروق للقرافي 3 / 111، 112، الفرق 144، وجواهر الإكليل
1 / 277، وشرح المنهاج 3 / 299، والمغني 7 / 36، 630.
(11/299)
تَخَيُّرُ السَّرَارِيِّ وَتَحْصِينُهُنَّ:
14 - يُسْتَحْسَنُ لِلرَّجُل إِنْ أَرَادَ التَّسَرِّيَ أَنْ يَتَخَيَّرَ
السُّرِّيَّةَ ذَاتَ دِينٍ غَيْرَ مَائِلَةٍ لِلْفُجُورِ، وَذَلِكَ
لِتَصُونَ عِرْضَهُ، وَأَنْ تَكُونَ ذَاتَ جَمَالٍ لأَِنَّهَا أَسْكُنُ
لِنَفْسِهِ وَأَغَضُّ لِبَصَرِهِ، وَأَنْ تَكُونَ ذَاتَ عَقْلٍ،
فَيَجْتَنِبَ الْحَمْقَاءَ لأَِنَّهَا لاَ تَصْلُحُ لِلْعِشْرَةِ؛
وَلأَِنَّهَا قَدْ تَحْمِل مِنْهُ فَيَنْتَقِل ذَلِكَ إِلَى وَلَدِهِ
مِنْهَا. وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ (1) وَكُل هَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ فَحْوَى مَا
يَذْكُرُهُ الْعُلَمَاءُ فِي تَخَيُّرِ الزَّوْجَاتِ. (2)
وَإِذَا اخْتَارَ السُّرِّيَّةَ وَجَبَ عَلَيْهِ قَبْل وَطْئِهَا - إِنْ
كَانَ قَدْ تَمَلَّكَهَا فِي الْحَال - اسْتِبْرَاؤُهَا، وَعَلَيْهِ أَنْ
يُحْصِنَهَا بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِئَلاَّ تُلْحِقَ بِهِ وَلَدًا لَيْسَ لَهُ.
قَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: حَصِّنُوا هَذِهِ
الْوَلاَئِدَ (3) .
آثَارُ التَّسَرِّي:
15 - إِذَا ثَبَتَ التَّسَرِّي تَبِعَهُ التَّحْرِيمُ بِالصِّهْرِ،
وَالْمَحْرَمِيَّةُ، وَلُحُوقُ النَّسَبِ الْمَوْلُودَ، عَلَى التَّفْصِيل
التَّالِي:
أَوَّلاً: التَّحْرِيمُ:
16 - إِذَا وَطِئَ الرَّجُل امْرَأَةً بِمِلْكِ الْيَمِينِ
__________
(1) حديث: " تخيروا لنطفكم. . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 633 - ط الحلبي) .
وحسنه ابن حجر في التلخيص (3 / 146 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) المغني 6 / 565، وابن عابدين 2 / 262.
(3) المغني 9 / 528.
(11/300)
حَرُمَتْ عَلَيْهِ إِلَى الأَْبَدِ
أُمَّهَاتُهَا وَبَنَاتُهَا، وَحَرُمَتْ هِيَ عَلَى آبَائِهِ
وَأَبْنَائِهِ؛ لأَِنَّ الْوَطْءَ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ يَنْزِل
مَنْزِلَةَ عَقْدِ النِّكَاحِ (1) . وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ أُخْتُهَا
وَعَمَّتُهَا وَخَالَتُهَا وَبِنْتُ أَخِيهَا وَبِنْتُ أُخْتِهَا
مُؤَقَّتًا كَمَا تَقَدَّمَ.
ثَانِيًا: الْمَحْرَمِيَّةُ:
17 - تَثْبُتُ الْمَحْرَمِيَّةُ بِالْوَطْءِ الْمَذْكُورِ بَيْنَ
الْوَاطِئِ وَبَيْنَ أُمَّهَاتِ الْمَوْطُوءَةِ وَبَنَاتِهَا، وَبَيْنَ
الْمَوْطُوءَةِ وَآبَائِهِ وَأَبْنَائِهِ. (2)
نَسَبُ وَلَدِ السُّرِّيَّةِ
18 - إِذَا وَطِئَ الرَّجُل سُرِّيَّتَهُ فَأَتَتْ بِوَلَدٍ
فَلِلْفُقَهَاءِ أَقْوَالٌ فِي لُحُوقِ نَسَبِ وَلَدِهَا بِهِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: أَنَّهُ يَلْحَقُهُ إِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ
مِنْهُ، بِأَنْ أَتَتْ بِهِ تَامًّا لأَِكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ
وَلأَِقَل مِنْ أَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَمْل مِنْ يَوْمِ وَطِئَهَا. وَهَذَا
قَوْل الْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ. فَإِنْ أَتَتْ بِهِ لأَِقَل مِنْ
سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَلْحَقْهُ؛ لأَِنَّ أَقَل مُدَّةِ الْحَمْل سِتَّةُ
أَشْهُرٍ. وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّ أَمَتَهُ صَارَتْ فِرَاشًا لَهُ
بِالْوَطْءِ، فَلَحِقَهُ وَلَدُهَا كَوَلَدِ الزَّوْجَةِ، لِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ (3)
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ
__________
(1) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 3 / 243.
(2) حاشية القليوبي على شرح المنهاج 3 / 243.
(3) حديث: " الولد للفراش ". أخرجه البخاري (الفتح 12 / 127 - ط السلفية)
من حديث عائشة رضي الله عنها.
(11/300)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال:
حَصِّنُوا هَذِهِ الْوَلاَئِدَ، فَلاَ يَطَأُ رَجُلٌ وَلِيدَتَهُ ثُمَّ
يُنْكِرُ وَلَدَهَا إِلاَّ أَلْزَمْتُهُ إِيَّاهُ. رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ
مَنْصُورٍ. وَرَوَى سَعِيدٌ أَيْضًا أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَال: أَيُّمَا رَجُلٍ غَشِيَ أَمَتَهُ ثُمَّ ضَيَّعَهَا فَالضَّيْعَةُ
عَلَيْهِ وَالْوَلَدُ وَلَدُهُ.
ثُمَّ قَال أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْل: إِنْ نَفَى الْوَلَدَ عَنْ نَفْسِهِ
مَعَ ثُبُوتِ الْوَطْءِ لَمْ يَنْتِفْ عَنْهُ، إِلاَّ أَنْ يَدَّعِيَ
أَنَّهُ اسْتَبْرَأَهَا بَعْدَ الْوَطْءِ، وَأَتَتْ بِالْوَلَدِ بَعْدَ
اسْتِبْرَائِهَا، بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ، فَيَنْتَفِي الْوَلَدُ
بِذَلِكَ. وَفِي تَحْلِيفِهِ عَلَى ذَلِكَ وَجْهَانِ.
الْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهُ لاَ يَلْحَقُهُ وَلَوْ أَقَرَّ بِالْوَطْءِ
إِلاَّ أَنْ يَسْتَلْحِقَهُ، وَلاَ تَصِيرُ الأَْمَةُ فِرَاشًا بِالْوَطْءِ
إِلاَّ بِالدَّعْوَةِ، أَيِ اسْتِلْحَاقِ نَسَبِ الْمَوْلُودِ. ثُمَّ إِذَا
اسْتَلْحَقَ أَحَدَ أَوْلاَدِ الأَْمَةِ لَحِقَهُ مَنْ تَلِدُهُمْ
بَعْدَهُ، لَكِنْ إِنِ انْتَفَى مِنْ نَسَبِ أَحَدِهِمْ لَمْ يَلْحَقْهُ.
وَلاَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الاِنْتِفَاءُ مِنْ نَسَبِ وَلَدِهَا إِنْ كَانَ
عَزَل عَنْهَا، وَهَذَا قَوْل الْحَنَفِيَّةِ.
الْقَوْل الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَلْحَقُهُ، لَكِنْ لَوْ نَفَاهُ لَمْ
يَلْحَقْهُ وَهُوَ قَوْل الْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ (1) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ
فِي مُصْطَلَحِ: (نَسَبٌ) .
__________
(1) المغني 9 / 529، 530، وجواهر الإكليل 2 / 312، 313، وابن عابدين 2 /
380، 630.
(11/301)
تَسْعِيرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّسْعِيرُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ تَقْدِيرُ السِّعْرِ. يُقَال:
سَعَّرْتُ الشَّيْءَ تَسْعِيرًا: أَيْ جَعَلْتُ لَهُ سِعْرًا مَعْلُومًا
يَنْتَهِي إِلَيْهِ. وَسَعَّرُوا تَسْعِيرًا: أَيِ: اتَّفَقُوا عَلَى
سِعْرٍ. وَالسِّعْرُ مَأْخُوذٌ مِنْ سَعَّرَ النَّارَ إِذَا رَفَعَهَا،
لأَِنَّ السِّعْرَ يُوصَفُ بِالاِرْتِفَاعِ. ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ (1)
. وَالتَّسْعِيرُ فِي الاِصْطِلاَحِ: تَقْدِيرُ السُّلْطَانِ أَوْ
نَائِبِهِ لِلنَّاسِ سِعْرًا، وَإِجْبَارُهُمْ عَلَى التَّبَايُعِ بِمَا
قَدَّرَهُ (2) .
وَقَال ابْنُ عَرَفَةَ: حَدُّ التَّسْعِيرِ: تَحْدِيدُ حَاكِمِ السُّوقِ
لِبَائِعِ الْمَأْكُول فِيهِ قَدْرًا لِلْمَبِيعِ بِدِرْهَمٍ مَعْلُومٍ (3)
.
__________
(1) المصباح المنير، ومختار الصحاح، والقاموس المحيط، ولسان العرب، وأساس
البلاغة مادة: " سعر "، والنظم المستعذب في شرح غريب المهذب 1 / 292 ط
مصطفى البابي الحلبي.
(2) مطالب أولي النهى 3 / 62، وأسنى المطالب 2 / 38 ط المكتبة الإسلامية.
(3) التيسير في أحكام التسعير تأليف
القاضي أحمد بن سعيد المجيلدي / 41 ط الشركة الوطنية للنشر والتوزيع -
الجزائر.
(11/301)
وَقَال الشَّوْكَانِيُّ: التَّسْعِيرُ أَنْ
يَأْمُرَ السُّلْطَانُ أَوْ نُوَّابُهُ أَوْ كُل مَنْ وَلِيَ مِنْ أُمُورِ
الْمُسْلِمِينَ أَمْرًا أَهْل السُّوقِ أَلاَّ يَبِيعُوا أَمْتِعَتَهُمْ
إِلاَّ بِسِعْرِ كَذَا، فَيَمْنَعُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ أَوِ
النُّقْصَانِ إِلاَّ لِمَصْلَحَةٍ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِحْتِكَارُ:
2 - الاِحْتِكَارُ لُغَةً: مِنَ الْحَكْرِ، وَهُوَ الظُّلْمُ
وَالاِلْتِوَاءُ وَالْعُسْرُ وَسُوءُ الْمُعَاشَرَةِ، وَاحْتِكَارُ
الطَّعَامِ: حَبْسُهُ تَرَبُّصًا لِغَلاَئِهِ، وَالْحُكْرَةُ: اسْمٌ مِنَ
الاِحْتِكَارِ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: اخْتَلَفَتْ تَعْرِيفَاتُ الْفُقَهَاءِ فِيهِ،
بِنَاءً عَلَى الْقُيُودِ الَّتِي وَضَعَهَا كُل مَذْهَبٍ وَتَرْجِعُ
كُلُّهَا إِلَى حَبْسِ السِّلَعِ انْتِظَارًا لاِرْتِفَاعِ أَثْمَانِهَا.
وَيُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ (احْتِكَارٌ)
فَالاِحْتِكَارُ مُبَايِنٌ لِلتَّسْعِيرِ. إِلاَّ أَنَّ وُجُودَ
الاِحْتِكَارِ مِمَّا يَسْتَدْعِي التَّسْعِيرَ لِمُقَاوَمَةِ الْغَلاَءِ.
ب - التَّثْمِينُ:
3 - التَّثْمِينُ: مَصْدَرُ ثَمَّنْتَ الشَّيْءَ أَيْ: جَعَلْتَ لَهُ
ثَمَنًا بِالْحَدْسِ وَالتَّخْمِينِ.
__________
(1) نيل الأوطار 5 / 220 ط المطبعة العثمانية المصرية، ومغني المحتاج 2 /
38 ط مصطفى البابي الحلبي.
(2) أساس البلاغة، والقاموس المحيط، والمصباح المنير مادة: " حكر "، وابن
عابدين 5 / 255 ط دار إحياء التراث العربي، والاختيار لتعليل المختار 4 /
160 ط دار المعرفة.
(11/302)
ج - التَّقْوِيمُ
4 - تَقْوِيمُ الشَّيْءِ: أَنْ يُجْعَل لَهُ قِيمَةٌ مَعْلُومَةٌ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلتَّسْعِيرِ:
5 - اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ عَلَى أَنَّ الأَْصْل
فِي التَّسْعِيرِ هُوَ الْحُرْمَةُ (2) . أَمَّا جَوَازُ التَّسْعِيرِ
فَمُقَيَّدٌ عِنْدَهُمْ بِشُرُوطٍ مُعَيَّنَةٍ يَأْتِي بَيَانُهَا.
6 - وَاسْتَدَل صَاحِبُ الْبَدَائِعِ لإِِثْبَاتِ الْحُرْمَةِ
بِالْمَنْقُول مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ:
أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ
تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (3) .
__________
(1) المصباح المنير.
(2) الهداية 4 / 93 ط مصطفى الحلبي، والبدائع 5 / 129 ط دار الكتاب العربي،
والجوهرة النيرة 2 / 387 ط مكتبة إمدادية، والزيلعي 6 / 28 ط دار المعرفة،
وكشف الحقائق 2 / 237 ط مطبعة الموسوعات، والاختيار 4 / 160 - 161، وابن
عابدين 5 / 256، والشرح الصغير 1 / 639، والمواق على هامش مواهب الجليل 4 /
380 ط دار الفكر، والقوانين الفقهية / 260 ط الدار العربية للكتاب،
والمنتقى 5 / 18 ط دار الكتاب العربي، والتحفة 2 / 109 ط المطبعة الأميرية
بمكة، ونهاية المحتاج 3 / 456، والقليوبي 2 / 186 ط دار إحياء الكتب
العربية، وأسنى المطالب 2 / 38، وحاشية الجمل ط دار إحياء التراث العربي،
وروضة الطالبين 3 / 411، 412، ومغني المحتاج 2 / 38، ومطالب أولي النهى 3 /
62، وكشاف القناع 4 / 44، والإنصاف 4 / 338 ط مطبعة السنة المحمدية.
والمغني 4 / 240، 244.
(3) سورة النساء / 29.
(11/302)
فَاشْتَرَطَتِ الآْيَةُ التَّرَاضِيَ،
وَالتَّسْعِيرُ لاَ يَتَحَقَّقُ بِهِ التَّرَاضِي.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لاَ
يَحِل مَال امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ (1) .
وَاسْتَدَل صَاحِبُ الْمُغْنِي بِمَا رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَال: غَلاَ السِّعْرُ فِي الْمَدِينَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال النَّاسُ: يَا رَسُول
اللَّهِ: غَلاَ السِّعْرُ فَسَعِّرْ لَنَا، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ
الْبَاسِطُ الرَّازِقُ، إِنِّي لأََرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ
أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ. (2)
قَال ابْنُ قُدَامَةَ وَالدَّلاَلَةُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
1 - أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُسَعِّرْ، وَقَدْ
سَأَلُوهُ ذَلِكَ، وَلَوْ جَازَ لأََجَابَهُمْ إِلَيْهِ.
2 - أَنَّهُ عَلَّل بِكَوْنِهِ مَظْلَمَةً وَالظُّلْمُ حَرَامٌ. وَبِمَا
رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ مَرَّ
بِحَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ يَبِيعُ
__________
(1) حديث: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه منه ". أخرجه أحمد (5 / 72
- ط الميمنية) من حديث أبي حرة الرقاشي، وهو حديث صحيح بطرقه. (التلخيص
لابن حجر 3 / 46 - 47 ط شركة الطباعة الفنية) . وانظر البدائع 5 / 129 ط
دار الكتاب العربي.
(2) حديث أنس: " إن الله هو المسعر القابض. . . " أخرجه أبو داود (3 / 731
- ط عزت عبيد دعاس) وقال ابن حجر: إسناده على شرط مسلم، (التلخيص 3 / 14 -
ط شركة الطباعة الفنية) .
(11/303)
زَبِيبًا لَهُ فِي السُّوقِ، فَقَال لَهُ:
إِمَّا أَنْ تَزِيدَ فِي السِّعْرِ، وَإِمَّا أَنْ تَرْفَعَ مِنْ سُوقِنَا،
فَلَمَّا رَجَعَ عُمَرُ حَاسَبَ نَفْسَهُ، ثُمَّ أَتَى حَاطِبًا فِي
دَارِهِ، فَقَال لَهُ: إِنَّ الَّذِي قُلْتُ لَكَ لَيْسَ بِعَزِيمَةٍ
مِنِّي وَلاَ قَضَاءٍ، إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ أَرَدْتُ بِهِ الْخَيْرَ
لأَِهْل الْبَلَدِ، فَحَيْثُ شِئْتَ فَبِعْ، وَكَيْفَ شِئْتَ فَبِعْ (1) .
7 - وَاسْتَدَلُّوا بِالْمَعْقُول:
وَهُوَ أَنَّ لِلنَّاسِ حُرِّيَّةَ التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِهِمْ،
وَالتَّسْعِيرُ حَجْرٌ عَلَيْهِمْ، وَالإِْمَامُ مَأْمُورٌ بِرِعَايَةِ
مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ نَظَرُهُ لِمَصْلَحَةِ الْمُشْتَرِي
بِرُخْصِ الثَّمَنِ أَوْلَى مِنْ نَظَرِهِ لِمَصْلَحَةِ الْبَائِعِ
بِتَوْفِيرِ الثَّمَنِ (2) .
وَالثَّمَنُ حَقُّ الْعَاقِدِ فَإِلَيْهِ تَقْدِيرُهُ (3) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 256، والاختيار لتعليل المختار 4 / 160، 161، والهداية
4 / 93 ط مصطفى البابي الحلبي، ومواهب الجليل 4 / 380 ط دار الفكر،
والقوانين الفقهية / 260، والمنتقى شرح الموطأ 5 / 18 ط دار الكتاب العربي،
والقليوبي 2 / 186 ط مطبعة دار إحياء الكتب العربية، وحاشية الجمل 3 / 93 ط
دار إحياء التراث العربي، وروضة الطالبين 3 / 411، 412 ط المكتب الإسلامي،
ومطالب أولي النهى 3 / 62 ط المكتب الإسلامي بدمشق، والمغني 4 / 241، وسبل
السلام 3 / 36 ط مطبعة مصطفى محمد.
(2) المغني 4 / 240، 241، ونيل الأوطار 5 / 220 ط المطبعة العثمانية
المصرية.
(3) الهداية 4 / 93، والزيلعي 6 / 28 ط دار المعرفة، والجوهرة النيرة 2 /
387، وكشف الحقائق 2 / 237، ومجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر والدر المنتقى
في شرح الملتقى 2 / 548 ط المطبعة العثمانية، والاختيار لتعليل المختار 4 /
161، ونيل الأوطار 5 / 220.
(11/303)
ثُمَّ إِنَّ التَّسْعِيرَ سَبَبُ
الْغَلاَءِ وَالتَّضْيِيقِ عَلَى النَّاسِ فِي أَمْوَالِهِمْ؛ لأَِنَّ
الْجَالِبِينَ إِذَا بَلَغَهُمْ ذَلِكَ لَمْ يَقْدُمُوا بِسِلَعِهِمْ
بَلَدًا يُكْرَهُونَ عَلَى بَيْعِهَا فِيهِ بِغَيْرِ مَا يُرِيدُونَ،
وَمَنْ عِنْدَهُ الْبِضَاعَةُ يَمْتَنِعُ مِنْ بَيْعِهَا وَيَكْتُمُهَا،
وَيَطْلُبُهَا أَهْل الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، فَلاَ يَجِدُونَهَا إِلاَّ
قَلِيلاً، فَيَرْفَعُونَ فِي ثَمَنِهَا لِيَصِلُوا إِلَيْهَا، فَتَغْلُو
الأَْسْعَارُ وَيَحْصُل الإِْضْرَارُ بِالْجَانِبَيْنِ، جَانِبِ
الْمُشْتَرِي فِي مَنْعِهِ مِنَ الْوُصُول إِلَى غَرَضِهِ، وَجَانِبِ
الْمُلاَّكِ فِي مَنْعِهِمْ مِنْ بَيْعِ أَمْلاَكِهِمْ، فَيَكُونُ حَرَامًا
(1) .
شُرُوطُ جَوَازِ التَّسْعِيرِ:
8 - تَقَدَّمَ أَنَّ الأَْصْل مَنْعُ التَّسْعِيرِ، وَمَنْعُ تَدَخُّل
وَلِيِّ الأَْمْرِ فِي أَسْعَارِ السِّلَعِ، إِلاَّ أَنَّ هُنَاكَ حَالاَتٍ
يَكُونُ لِلْحَاكِمِ بِمُقْتَضَاهَا حَقُّ التَّدَخُّل بِالتَّسْعِيرِ،
أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّدَخُّل عَلَى اخْتِلاَفِ الأَْقْوَال.
وَهَذِهِ الْحَالاَتُ هِيَ:
أ - تَعَدِّي أَرْبَابِ الطَّعَامِ عَنِ الْقِيمَةِ تَعَدِّيًا فَاحِشًا:
9 - وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ صَرَّحَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهُ
يَجُوزُ
__________
(1) المغني 4 / 240، وشرح الإقناع 3 / 150 ط مطبعة السنة المحمدية.
(11/304)
لِلْحَاكِمِ أَنْ يُسَعِّرَ عَلَى النَّاسِ
إِنْ تَعَدَّى أَرْبَابُ الطَّعَامِ عَنِ الْقِيمَةِ تَعَدِّيًا فَاحِشًا،
وَعَجَزَ عَنْ صِيَانَةِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ بِالتَّسْعِيرِ،
وَذَلِكَ بَعْدَ مَشُورَةِ أَهْل الرَّأْيِ وَالْبَصِيرَةِ، وَهُوَ
الْمُخْتَارُ، وَبِهِ يُفْتَى؛ لأَِنَّ فِيهِ صِيَانَةَ حُقُوقِ
الْمُسْلِمِينَ عَنِ الضَّيَاعِ، وَدَفْعَ الضَّرَرِ عَنِ الْعَامَّةِ (1)
.
وَالتَّعَدِّي الْفَاحِشُ كَمَا عَرَّفَهُ الزَّيْلَعِيُّ وَغَيْرُهُ هُوَ
الْبَيْعُ بِضِعْفِ الْقِيمَةِ (2) .
ب - حَاجَةُ النَّاسِ إِلَى السِّلْعَةِ:
10 - وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَنْبَغِي
لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُسَعِّرَ عَلَى النَّاسِ، إِلاَّ إِذَا تَعَلَّقَ بِهِ
دَفْعُ ضَرَرِ الْعَامَّةِ، كَمَا اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وُجُودَ
مَصْلَحَةٍ فِيهِ، وَنُسِبَ إِلَى الشَّافِعِيِّ مِثْل هَذَا الْمَعْنَى.
وَكَذَا إِذَا احْتَاجَ النَّاسُ إِلَى سِلاَحٍ لِلْجِهَادِ، فَعَلَى أَهْل
السِّلاَحِ بَيْعُهُ بِعِوَضِ الْمِثْل، وَلاَ يُمَكَّنُونَ مِنْ أَنْ
يَحْبِسُوا السِّلاَحَ حَتَّى يَتَسَلَّطَ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 256، والفتاوى الهندية 3 / 214 ط المطبعة الكبرى
الأميرية، والاختيار لتعليل المختار 4 / 161، والهداية 4 / 93، وكشف
الحقائق 2 / 237، والزيلعي 6 / 28.
(2) الزيلعي 6 / 28، والعناية، والكفاية المطبوعتان على هامش فتح القدير 8
/ 192 ط دار إحياء التراث العربي، وكشف الحقائق 2 / 237، وابن عابدين 5 /
256 نقلا عن الزيلعي.
(11/304)
الْعَدُوُّ، أَوْ يُبْذَل لَهُمْ مِنَ
الأَْمْوَال مَا يَخْتَارُونَ (1) .
وَيَقُول ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ أَنْ يُكْرِهَ
النَّاسَ عَلَى بَيْعِ مَا عِنْدَهُمْ بِقِيمَةِ الْمِثْل عِنْدَ ضَرُورَةِ
النَّاسِ إِلَيْهِ، مِثْل مَنْ عِنْدَهُ طَعَامٌ لاَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ،
وَالنَّاسُ فِي مَخْمَصَةٍ، فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ لِلنَّاسِ
بِقِيمَةِ الْمِثْل. وَلِهَذَا قَال الْفُقَهَاءُ: مَنْ اضْطُرَّ إِلَى
طَعَامِ الْغَيْرِ أَخَذَهُ مِنْهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ بِقِيمَةِ
مِثْلِهِ، وَلَوِ امْتَنَعَ مِنْ بَيْعِهِ إِلاَّ بِأَكْثَرَ مِنْ سِعْرِهِ
لَمْ يَسْتَحِقَّ إِلاَّ سِعْرَهُ (2) .
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ حَدِيثُ الْعِتْقِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، فَكَانَ
لَهُ مِنَ الْمَال يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ، قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ
الْعَدْل، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ
وَإِلاَّ فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ (3) وَيَقُول ابْنُ الْقَيِّمِ:
إِنَّ هَذَا الَّذِي أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ " صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ تَقْوِيمِ الْجَمِيعِ (أَيْ جَمِيعِ الْعَبْدِ) قِيمَةَ
الْمِثْل هُوَ حَقِيقَةُ التَّسْعِيرِ، فَإِذَا كَانَ الشَّارِعُ
__________
(1) الهداية 4 / 93، والحسبة في الإسلام لابن تيمية ص 27، 28، 41 ط المطبعة
العلمية، والطرق الحكمية / 253، 262، 263 ط مطبعة السنة المحمدية، والمواق
المطبوع مع الحطاب 4 / 380.
(2) الحسبة في الإسلام لابن تيمية / 17 و 41 ط المكتبة العلمية، والطرق
الحكمية في السياسة الشرعية لابن القيم / 262 ط مطبعة السنة المحمدية.
(3) حديث: " من أعتق شركا له في عبد. . . " أخرجه مسلم (2 / 1139 - ط
الحلبي) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وهو متفق عليه بألفاظ عدة.
(11/305)
يُوجِبُ إِخْرَاجَ الشَّيْءِ عَنْ مِلْكِ
مَالِكِهِ بِعِوَضِ الْمِثْل لِمَصْلَحَةِ تَكْمِيل الْعِتْقِ، وَلَمْ
يُمَكِّنِ الْمَالِكَ مِنَ الْمُطَالَبَةِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى
الْقِيمَةِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَتِ الْحَاجَةُ بِالنَّاسِ إِلَى
التَّمَلُّكِ أَعْظَمَ، مِثْل حَاجَةِ الْمُضْطَرِّ إِلَى الطَّعَامِ
وَالشَّرَابِ وَاللِّبَاسِ وَغَيْرِهِ (1) .
ج - احْتِكَارُ الْمُنْتِجِينَ أَوِ التُّجَّارِ:
11 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الاِحْتِكَارَ حَرَامٌ فِي
الأَْقْوَاتِ، كَمَا أَنَّهُ لاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ جَزَاءَ
الاِحْتِكَارِ هُوَ بَيْعُ السِّلَعِ الْمُحْتَكَرَةِ جَبْرًا عَلَى
صَاحِبِهَا بِالثَّمَنِ الْمَعْقُول مَعَ تَعْزِيرِهِ وَمُعَاقَبَتِهِ (2)
، عَلَى التَّفْصِيل الْمُتَقَدِّمِ بَيَانُهُ فِي مُصْطَلَحِ (احْتِكَارٌ)
. وَمَا تَحْدِيدُ الثَّمَنِ الْمَعْقُول مِنْ جَانِبِ وَلِيِّ الأَْمْرِ
إِلاَّ حَقِيقَةُ التَّسْعِيرِ، وَهَذَا تَوْجِيهٌ صَرَّحَ بِهِ ابْنُ
تَيْمِيَّةَ (3) . فِي حِينِ اعْتَبَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْمُحْتَكِرَ
مِمَّنْ لاَ يُسَعَّرُ عَلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي.
د - حَصْرُ الْبَيْعِ لأُِنَاسٍ مُعَيَّنِينَ:
12 - صَرَّحَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ بِأَنَّهُ لاَ تَرَدُّدَ عِنْدَ أَحَدٍ
مِنَ
__________
(1) الطرق الحكمية / 259 ط مطبعة السنة المحمدية.
(2) الاختيار 4 / 161، والفتاوى الهندية 3 / 214، وشرح الزرقاني 5 / 4،
والمنتقى شرح الموطأ 5 / 17، ونهاية المحتاج 3 / 456 ط مصطفى البابي
الحلبي، وكشاف القناع 2 / 36.
(3) الحسبة في الإسلام ص 17، 18.
(11/305)
الْعُلَمَاءِ فِي وُجُوبِ رَدِّ
التَّسْعِيرِ فِي حَالَةِ إِلْزَامِ النَّاسِ أَنْ لاَ يَبِيعَ الطَّعَامَ
أَوْ غَيْرَهُ إِلاَّ أُنَاسٌ مَعْرُوفُونَ، فَهُنَا يَجِبُ التَّسْعِيرُ
عَلَيْهِمْ بِحَيْثُ لاَ يَبِيعُونَ إِلاَّ بِقِيمَةِ الْمِثْل، وَلاَ
يَشْتَرُونَ إِلاَّ بِقِيمَةِ الْمِثْل. لأَِنَّهُ إِذَا كَانَ قَدْ مَنَعَ
غَيْرَهُمْ أَنْ يَبِيعَ ذَلِكَ النَّوْعَ أَوْ يَشْتَرِيَهُ، فَلَوْ
سَوَّغَ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوا بِمَا اخْتَارُوا، أَوْ يَشْتَرُوا بِمَا
اخْتَارُوا لَكَانَ ذَلِكَ ظُلْمًا لِلْبَائِعِينَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ
بَيْعَ تِلْكَ الأَْمْوَال، وَظُلْمًا لِلْمُشْتَرِينَ مِنْهُمْ.
فَالتَّسْعِيرُ فِي مِثْل هَذِهِ الْحَالَةِ وَاجِبٌ بِلاَ نِزَاعٍ،
وَحَقِيقَةُ إِلْزَامِهِمْ أَنْ لاَ يَبِيعُوا أَوْ لاَ يَشْتَرُوا إِلاَّ
بِثَمَنِ الْمِثْل (1) .
هـ - تَوَاطُؤُ الْبَائِعِينَ ضِدَّ الْمُشْتَرِينَ أَوِ الْعَكْسِ:
13 - إِذَا تَوَاطَأَ التُّجَّارُ أَوْ أَرْبَابُ السِّلَعِ عَلَى سِعْرٍ
يُحَقِّقُ لَهُمْ رِبْحًا فَاحِشًا، أَوْ تَوَاطَأَ مُشْتَرُونَ عَلَى أَنْ
يَشْتَرِكُوا فِيمَا يَشْتَرِيهِ أَحَدُهُمْ حَتَّى يَهْضِمُوا سِلَعَ
النَّاسِ يَجِبُ التَّسْعِيرُ، وَهَذَا مَا اخْتَارَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ،
وَأَضَافَ قَائِلاً:
وَلِهَذَا مَنَعَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ - كَأَبِي حَنِيفَةَ
وَأَصْحَابِهِ - الْقُسَّامَ الَّذِينَ يَقْسِمُونَ بِالأَْجْرِ أَنْ
يَشْتَرِكُوا، فَإِنَّهُمْ إِذَا اشْتَرَكُوا، وَالنَّاسُ مُحْتَاجُونَ
إِلَيْهِمْ أَغَلَوْا عَلَيْهِمُ الأَْجْرَ، فَمَنْعُ الْبَائِعِينَ -
الَّذِينَ تَوَاطَئُوا عَلَى أَنْ لاَ يَبِيعُوا إِلاَّ بِثَمَنٍ
__________
(1) الحسبة في الإسلام ص 18، 19، والطرق الحكمية ص 245.
(11/306)
قَدَّرُوهُ - أَوْلَى، وَكَذَلِكَ مَنْعُ
الْمُشْتَرِينَ إِذَا تَوَاطَئُوا عَلَى أَنْ يَشْتَرِكُوا فِيمَا
يَشْتَرِيهِ أَحَدُهُمْ، حَتَّى يَهْضِمُوا سِلَعَ النَّاسِ أَوْلَى (1) .
لأَِنَّ إِقْرَارَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مُعَاوَنَةٌ لَهُمْ عَلَى الظُّلْمِ
وَالْعُدْوَانِ (2) . وَقَدْ قَال تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ
وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ} . (3)
و احْتِيَاجُ النَّاسِ إِلَى صِنَاعَةِ طَائِفَةٍ:
14 - وَهَذَا مَا يُقَال لَهُ التَّسْعِيرُ فِي الأَْعْمَال: وَهُوَ أَنْ
يَحْتَاجَ النَّاسُ إِلَى صِنَاعَةِ طَائِفَةٍ كَالْفِلاَحَةِ
وَالنِّسَاجَةِ وَالْبِنَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلِوَلِيِّ الأَْمْرِ أَنْ
يُلْزِمَهُمْ بِذَلِكَ بِأُجْرَةِ الْمِثْل إِذَا امْتَنَعُوا عَنْهُ،
وَلاَ يُمَكِّنُهُمْ مِنْ مُطَالَبَةِ النَّاسِ بِزِيَادَةٍ عَنْ عِوَضِ
الْمِثْل، وَلاَ يُمَكِّنُ النَّاسَ مِنْ ظُلْمِهِمْ بِأَنْ يُعْطُوهُمْ
دُونَ حَقِّهِمْ (4) .
15 - وَخُلاَصَةُ رَأْيِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ وَابْنِ الْقَيِّمِ أَنَّهُ
إِذَا لَمْ تَتِمَّ مَصْلَحَةٌ إِلاَّ بِالتَّسْعِيرِ سَعَّرَ عَلَيْهِمُ
السُّلْطَانُ تَسْعِيرَ عَدْلٍ بِلاَ وَكْسٍ وَلاَ شَطَطٍ، وَإِذَا
انْدَفَعَتْ حَاجَتُهُمْ، وَقَامَتْ مَصْلَحَتُهُمْ بِدُونِهِ لَمْ يَفْعَل
(5) .
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) الطرق الحكمية / 247.
(3) سورة المائدة / 2.
(4) الطرق الحكمية ص 247.
(5) الحسبة في الإسلام ص 44، 45، والطرق الحكمية ص 264.
(11/306)
وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّ الْحَالاَتِ
الْمَذْكُورَةَ لَيْسَتْ حَصْرًا لِلْحَالاَتِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا
التَّسْعِيرُ، بَل كُلَّمَا كَانَتْ حَاجَةُ النَّاسِ لاَ تَنْدَفِعُ
إِلاَّ بِالتَّسْعِيرِ، وَلاَ تَتَحَقَّقُ مَصْلَحَتُهُمْ إِلاَّ بِهِ
كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْحَاكِمِ حَقًّا لِلْعَامَّةِ، مِثْل وُجُوبِ
التَّسْعِيرِ عَلَى الْوَالِي عَامَ الْغَلاَءِ كَمَا قَال بِهِ مَالِكٌ،
وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا. (1)
الصِّفَةُ الْوَاجِبُ تَوَافُرُهَا فِي التَّسْعِيرِ:
16 - إِنَّ الْمُتَتَبِّعَ لِلنُّصُوصِ الْفِقْهِيَّةِ وَآرَاءِ
الْفُقَهَاءِ يَجِدُ أَنَّهُ لاَ بُدَّ لِفَرْضِ التَّسْعِيرِ مِنْ
تَحَقُّقِ صِفَةِ الْعَدْل؛ إِذْ لاَ يَكُونُ التَّسْعِيرُ مُحَقِّقًا
لِلْمَصْلَحَةِ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ فِيهِ الْمَصْلَحَةُ لِلْبَائِعِ
وَالْمُبْتَاعِ، وَلاَ يَمْنَعُ الْبَائِعَ رِبْحًا، وَلاَ يُسَوِّغُ لَهُ
مِنْهُ مَا يَضُرُّ بِالنَّاسِ (2) .
وَلِهَذَا اشْتَرَطَ مَالِكٌ عِنْدَمَا رَأَى التَّسْعِيرَ عَلَى
الْجَزَّارِينَ أَنْ يَكُونَ التَّسْعِيرُ مَنْسُوبًا إِلَى قَدْرِ
شِرَائِهِمْ، أَيْ أَنْ تُرَاعَى فِيهِ ظُرُوفُ شِرَاءِ الذَّبَائِحِ،
وَنَفَقَةُ الْجِزَارَةِ، وَإِلاَّ فَإِنَّهُ يُخْشَى أَنْ يُقْلِعُوا عَنْ
تِجَارَتِهِمْ، وَيَقُومُوا مِنَ السُّوقِ.
وَهَذَا مَا أَعْرَبَ عَنْهُ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ مِنْ
أَنَّ التَّسْعِيرَ بِمَا لاَ رِبْحَ فِيهِ لِلتُّجَّارِ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 256، والزيلعي 6 / 28، والأحكام السلطانية للماوردي ص
256 ط مصطفى البابي الحلبي، ونيل الأوطار 5 / 220.
(2) المنتقى شرح الموطأ 5 / 19، ومواهب الجليل 4 / 380.
(11/307)
يُؤَدِّي إِلَى فَسَادِ الأَْسْعَارِ،
وَإِخْفَاءِ الأَْقْوَاتِ وَإِتْلاَفِ أَمْوَال النَّاسِ (1) .
كَيْفِيَّةُ التَّسْعِيرِ:
17 - تَعَرَّضَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ
التَّسْعِيرِ لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ تَعْيِينِ الأَْسْعَارِ، وَقَالُوا:
يَنْبَغِي لِلإِْمَامِ أَنْ يَجْمَعَ وُجُوهَ أَهْل سُوقِ ذَلِكَ
الشَّيْءِ، وَيُحْضِرَ غَيْرَهُمُ اسْتِظْهَارًا عَلَى صِدْقِهِمْ، وَأَنْ
يُسَعِّرَ بِمَشُورَةِ أَهْل الرَّأْيِ وَالْبَصِيرَةِ، فَيَسْأَلَهُمْ
كَيْفَ يَشْتَرُونَ وَكَيْفَ يَبِيعُونَ؟ فَيُنَازِلُهُمْ إِلَى مَا فِيهِ
لَهُمْ وَلِلْعَامَّةِ سَدَادٌ حَتَّى يَرْضَوْا بِهِ. (2)
قَال أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ بِهَذَا
يُتَوَصَّل إِلَى مَعْرِفَةِ مَصَالِحِ الْبَاعَةِ وَالْمُشْتَرِينَ،
وَيَجْعَل لِلْبَاعَةِ فِي ذَلِكَ مِنَ الرِّبْحِ مَا يَقُومُ بِهِمْ،
وَلاَ يَكُونُ فِيهِ إِجْحَافٌ بِالنَّاسِ (3) .
وَلاَ يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَقُول لَهُمْ: لاَ
تَبِيعُوا إِلاَّ بِكَذَا رَبِحْتُمْ أَوْ خَسِرْتُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ
يُنْظَرَ إِلَى مَا يَشْتَرُونَ بِهِ. وَكَذَلِكَ لاَ يَقُول لَهُمْ: لاَ
تَبِيعُوا إِلاَّ بِمِثْل الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَيْتُمْ بِهِ (4) .
__________
(1) المنتقى شرح الموطأ 5 / 19.
(2) ابن عابدين 5 / 256، والاختيار 4 / 161، والهداية 4 / 93، وكشف الحقائق
2 / 237، والفتاوى الهندية 3 / 214، والمنتقى للباجي 5 / 18، والمواق بهامش
الحطاب 4 / 380.
(3) المنتقى 5 / 19.
(4) الطرق الحكمية ص 255.
(11/307)
مَا يَدْخُلُهُ التَّسْعِيرُ
18 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ الأَْشْيَاءِ الَّتِي يَجْرِي
فِيهَا التَّسْعِيرُ عَلَى الأَْصْل الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي حُكْمِهِ
التَّكْلِيفِيِّ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ - وَهُوَ قَوْل
الْقُهُسْتَانِيِّ الْحَنَفِيِّ - إِلَى أَنَّ التَّسْعِيرَ يَجْرِي فِي
الْقُوتَيْنِ (قُوتِ الْبَشَرِ، وَقُوتِ الْبَهَائِمِ) وَغَيْرِهِمَا،
وَلاَ يَخْتَصُّ بِالأَْطْعِمَةِ وَعَلَفِ الدَّوَابِّ. (1)
وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَابِدِينَ - بِنَاءً عَلَى قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ فِي
الْحَجْرِ لِلضَّرَرِ، وَقَوْل أَبِي يُوسُفَ فِي الاِحْتِكَارِ - جَوَازَ
تَسْعِيرِ مَا عَدَا الْقُوتَيْنِ أَيْضًا كَاللَّحْمِ وَالسَّمْنِ
رِعَايَةً لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ.
وَهُنَاكَ قَوْلٌ آخَرُ لِلْحَنَفِيَّةِ صَرَّحَ بِهِ الْعَتَّابِيُّ
وَالْحَسَّاسُ وَغَيْرُهُمَا، وَهُوَ أَنَّ التَّسْعِيرَ يَكُونُ فِي
الْقُوتَيْنِ فَقَطْ. (2) وَعَلَيْهِ اخْتِيَارُ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، فَلَمْ
يَقْصُرِ التَّسْعِيرَ عَلَى الطَّعَامِ، بَل ذَكَرَهُ كَمِثَالٍ كَمَا
سَبَقَ.
وَانْتَهَجَ ابْنُ الْقَيِّمِ مَنْهَجَ ابْنِ تَيْمِيَّةَ فِي هَذَا
الْبَابِ، وَأَطْلَقَ جَوَازَ التَّسْعِيرِ لِلسِّلَعِ أَيًّا كَانَتْ، مَا
دَامَتْ لاَ تُبَاعُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ وَبِقِيمَةِ الْمِثْل.
__________
(1) ابن عابدين 5 / 256، 257، وروضة الطالبين 3 / 411، 412، وأسنى المطالب
2 / 38.
(2) ابن عابدين 5 / 257، والدر المنتقى 2 / 548.
(11/308)
وَأَوْجَبَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ
إِلْزَامَ أَهْل السُّوقِ الْمُعَاوَضَةَ بِثَمَنِ الْمِثْل، وَقَال:
إِنَّهُ لاَ نِزَاعَ فِيهِ؛ لأَِنَّهُ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ لِحَقِّ اللَّهِ
تَعَالَى، وَلاَ تَتِمُّ مَصْلَحَةُ النَّاسِ إِلاَّ بِهَا كَالْجِهَادِ.
ثُمَّ يَقُول صَاحِبُ مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى: وَهُوَ إِلْزَامٌ حَسَنٌ
فِي مَبِيعٍ ثَمَنُهُ مَعْلُومٌ بَيْنَ النَّاسِ لاَ يَتَفَاوَتُ
كَمَوْزُونٍ وَنَحْوِهِ. (1)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلاَنِ كَذَلِكَ:
الْقَوْل الأَْوَّل: يَكُونُ التَّسْعِيرُ فِي الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ
فَقَطْ طَعَامًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمَكِيل
وَالْمَوْزُونِ فَلاَ يُمْكِنُ تَسْعِيرُهُ لِعَدَمِ التَّمَاثُل فِيهِ،
وَهُوَ قَوْل ابْنِ حَبِيبٍ. قَال أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: هَذَا
إِذَا كَانَ الْمَكِيل وَالْمَوْزُونُ مُتَسَاوِيَيْنِ، أَمَّا إِذَا
اخْتَلَفَا لَمْ يُؤْمَرْ صَاحِبُ الْجَيِّدِ أَنْ يَبِيعَهُ بِمِثْل
سِعْرِ مَا هُوَ أَدْوَنُ، لأَِنَّ الْجَوْدَةَ لَهَا حِصَّةٌ مِنَ
الثَّمَنِ كَالْمِقْدَارِ.
الْقَوْل الثَّانِي: يَكُونُ التَّسْعِيرُ فِي الْمَأْكُول فَقَطْ وَهُوَ
قَوْل ابْنِ عَرَفَةَ (2) .
مَنْ يُسَعَّرُ عَلَيْهِ وَمَنْ لاَ يُسَعَّرُ عَلَيْهِ
19 - مَنْ يُسَعَّرُ عَلَيْهِمْ هُمْ أَهْل الأَْسْوَاقِ.
وَأَمَّا مَنْ لاَ يُسَعَّرُ عَلَيْهِمْ فَهُمْ:
__________
(1) الحسبة في الإسلام ص 17، والطرق الحكمية ص 245، ومطالب أولي النهى 3 /
162.
(2) المنتقى للباجي 5 / 18، 19، والطرق الحكمية ص 257.
(11/308)
أَوَّلاً: الْجَالِبُ:
20 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ،
وَهُوَ قَوْلٌ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا إِلَى: أَنَّ الْجَالِبَ لاَ
يُسَعَّرُ عَلَيْهِ إِلاَّ إِذَا خِيفَ الْهَلاَكُ عَلَى النَّاسِ،
فَيُؤْمَرُ الْجَالِبُ أَنْ يَبِيعَ طَعَامَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ،
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
عَدَمُ جَوَازِ التَّسْعِيرِ عَلَى الْجَالِبِ.
وَقَال ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ يُسَعَّرُ عَلَيْهِ فِيمَا
عَدَا الْقَمْحَ وَالشَّعِيرَ، وَأَمَّا جَالِبُهُمَا فَيَبِيعُ كَيْفَ
شَاءَ (1) .
وَكَذَلِكَ جَالِبُ الزَّيْتِ وَالسَّمْنِ وَاللَّحْمِ وَالْبَقْل
وَالْفَوَاكِهِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَشْتَرِيهِ أَهْل السُّوقِ
مِنَ الْجَالِبِينَ، فَهَذَا أَيْضًا لاَ يُسَعَّرُ عَلَى الْجَالِبِ وَلاَ
يُقْصَدُ بِالتَّسْعِيرِ، وَلَكِنَّهُ إِذَا اسْتَقَرَّ أَمْرُ أَهْل
السُّوقِ عَلَى سِعْرٍ قِيل لَهُ: إِمَّا أَنْ تَلْحَقَ بِهِ، وَإِلاَّ
فَاخْرُجْ (2) .
ثَانِيًا: الْمُحْتَكِرُ:
21 - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يُسَعَّرُ عَلَى الْمُحْتَكِرِ
بَل يُؤْمَرُ بِإِخْرَاجِ طَعَامِهِ إِلَى السُّوقِ، وَيَبِيعُ مَا فَضَل
عَنْ قُوتِ سَنَةٍ لِعِيَالِهِ كَيْفَ شَاءَ،
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 214، والمنتقى 5 / 18، والطرق الحكمية / 254، 255،
ومواهب الجليل 4 / 380، والمعيار المغرب 5 / 84 ط دار الغرب الإسلامي.
(2) المنتقى 5 / 19.
(11/309)
وَلاَ يُسَعَّرُ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ
أَكَانُوا تُجَّارًا، أَمْ زُرَّاعًا لأَِنْفُسِهِمْ (1) .
وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يُجْبَرُ الْمُحْتَكِرُ عَلَى بَيْعِ مَا
احْتَكَرَ وَلاَ يُسَعَّرُ عَلَيْهِ، وَيُقَال لَهُ: بِعْ كَمَا يَبِيعُ
النَّاسُ، وَبِزِيَادَةٍ يُتَغَابَنُ فِي مِثْلِهَا، وَلاَ أَتْرُكُهُ
يَبِيعُ بِأَكْثَرَ (2) .
ثَالِثًا: مَنْ يَبِيعُ فِي غَيْرِ دُكَّانٍ:
22 - قَال صَاحِبُ التَّيْسِيرِ: لاَ يُسَعَّرُ عَلَى مَنْ يَبِيعُ فِي
غَيْرِ دُكَّانٍ وَلاَ حَانُوتٍ يَعْرِضُ لِلْخَاصِّ وَالْعَامِّ، وَلاَ
عَلَى بَائِعِ الْفَوَاكِهِ وَالذَّبَائِحِ وَجَمِيعِ أَهْل الْحِرَفِ
وَالصَّنَائِعِ، وَالْمُتَسَبَّبِينَ مِنْ حَمَّالٍ وَدَلاَّلٍ وَسِمْسَارٍ
وَغَيْرِهِمْ، وَلَكِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْوَالِي أَنْ يَقْبِضَ مِنْ أَهْل
كُل صَنْعَةٍ ضَامِنًا أَمِينًا، وَثِقَةً، وَعَارِفًا بِصَنْعَتِهِ
خَبِيرًا بِالْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ مِنْ حِرْفَتِهِ يَحْفَظُ
لِجَمَاعَتِهِ مَا يَجِبُ أَنْ يَحْفَظَ مِنْ أُمُورِهِمْ، وَيُجْرِيَ
أُمُورَهُمْ عَلَى مَا يَجِبُ أَنْ تَجْرِيَ، وَلاَ يَخْرُجُونَ عَنِ
الْعَادَةِ فِيمَا جَرَتْ فِيهِ الْعَادَةُ فِي صَنْعَتِهِمْ (3) .
أَمْرُ الْحَاكِمِ بِخَفْضِ السِّعْرِ وَرَفْعِهِ مُجَارَاةً لأَِغْلَبِ
التُّجَّارِ:
23 - قَال الْبَاجِيُّ: السِّعْرُ الَّذِي يُؤْمَرُ مَنْ حَطَّ
__________
(1) الزيلعي 6 / 28، والمنتقى للباجي 5 / 17.
(2) الاختيار 4 / 161، والهداية 4 / 93.
(3) كتاب التيسير في أحكام التسعير ص 55، 56.
(11/309)
عَنْهُ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ هُوَ السِّعْرُ
الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ النَّاسِ، فَإِذَا انْفَرَدَ عَنْهُمُ
الْوَاحِدُ أَوِ الْعَدَدُ الْيَسِيرُ بِحَطِّ السِّعْرِ، أُمِرَ مَنْ
حَطَّهُ بِاللَّحَاقِ بِسِعْرِ النَّاسِ أَوْ تَرَكَ الْبَيْعَ، وَإِنْ
زَادَ فِي السِّعْرِ وَاحِدٌ أَوْ عَدَدٌ يَسِيرٌ لَمْ يُؤْمَرِ
الْجُمْهُورُ بِاللَّحَاقِ بِسِعْرِهِ، أَوِ الاِمْتِنَاعِ مِنَ الْبَيْعِ؛
لأَِنَّ مَنْ بَاعَ بِهِ مِنَ الزِّيَادَةِ لَيْسَ بِالسِّعْرِ
الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَلاَ بِمَا تُقَامُ بِهِ الْمَبِيعَاتُ،
وَإِنَّمَا يُرَاعِي فِي ذَلِكَ حَال الْجُمْهُورِ وَمُعْظَمَ النَّاسِ (1)
.
مُخَالَفَةُ التَّسْعِيرِ
أ - حُكْمُ الْبَيْعِ مَعَ مُخَالَفَةِ التَّسْعِيرِ:
24 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي
الأَْصَحِّ - إِلَى أَنَّ مَنْ خَالَفَ التَّسْعِيرَ صَحَّ بَيْعُهُ؛ إِذْ
لَمْ يُعْهَدِ الْحَجْرُ عَلَى الشَّخْصِ فِي مِلْكِهِ أَنْ يَبِيعَ
بِثَمَنٍ مُعَيَّنٍ. وَلَكِنْ إِذَا سَعَّرَ الإِْمَامُ وَخَافَ الْبَائِعُ
أَنْ يُعَزِّرَهُ الإِْمَامُ لَوْ نَقَصَ عَمَّا سَعَّرَهُ، فَصَرَّحَ
الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لاَ يَحِل لِلْمُشْتَرِي الشِّرَاءُ بِمَا
سَعَّرَهُ الإِْمَامُ؛ لأَِنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُكْرِهِ، وَيَنْبَغِي
أَنْ يَقُول: بِعْنِي بِمَا تُحِبُّ، لِيَصِحَّ الْبَيْعُ (2) .
وَصِحَّةُ الْبَيْعِ مَعَ مُخَالَفَةِ التَّسْعِيرِ مُتَبَادَرٌ مِنْ
__________
(1) المنتقى شرح الموطأ 5 / 17.
(2) ابن عابدين 5 / 265، والاختيار 4 / 161، والفتاوى الهندية 3 / 214،
والهداية 4 / 93، وأسنى المطالب 2 / 38، ومطالب أولي النهى 3 / 62، ونهاية
المحتاج 3 / 473 ط مصطفى البابي، وروضة الطالبين 3 / 411 - 412، ومغني
المحتاج 2 / 38 ط مصطفى البابي الحلبي.
(11/310)
كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا؛
لأَِنَّهُمْ يَقُولُونَ: وَمَنْ زَادَ فِي سِعْرٍ أَوْ نَقَصَ مِنْهُ
أُمِرَ بِإِلْحَاقِهِ بِسِعْرِ النَّاسِ، فَإِنْ أَبَى أُخْرِجَ مِنَ
السُّوقِ (1) .
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بُطْلاَنُ الْبَيْعِ. لَكِنْ
عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِنْ هَدَّدَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ الْمُخَالِفَ
لِلتَّسْعِيرِ بَطَل الْبَيْعُ؛ لأَِنَّهُ صَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ
لِنَوْعِ مَصْلَحَةٍ؛ وَلأَِنَّ الْوَعِيدَ إِكْرَاهٌ. (2)
ب - عُقُوبَةُ الْمُخَالِفِ:
25 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ
الإِْمَامَ لَهُ أَنْ يُعَزِّرَ مَنْ خَالَفَ التَّسْعِيرَ الَّذِي
رَسَمَهُ؛ لِمَا فِيهِ مُجَاهَرَةُ الإِْمَامِ بِالْمُخَالَفَةِ.
وَسُئِل أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ مُتَوَلِّي الْحِسْبَةِ إِذَا سَعَّرَ
الْبَضَائِعَ بِالْقِيمَةِ، وَتَعَدَّى بَعْضُ السُّوقِيَّةِ، فَبَاعَ
بِأَكْثَرَ مِنَ الْقِيمَةِ، هَل لَهُ أَنْ يُعَزِّرَهُ عَلَى ذَلِكَ؟
فَأَجَابَ: إِذَا تَعَدَّى السُّوقِيُّ وَبَاعَ بِأَكْثَرَ مِنَ الْقِيمَةِ
يُعَزِّرُهُ عَلَى ذَلِكَ. (3)
وَأَمَّا قَدْرُ التَّعْزِيرِ، وَكَيْفِيَّتُهُ، فَمُفَوَّضٌ إِلَى
الإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، وَقَدْ يَكُونُ الْحَبْسَ أَوِ الضَّرْبَ،
__________
(1) القوانين الفقهية ص 260.
(2) أسنى المطالب 2 / 38، ومطالب أولي النهى 3 / 62، وكشاف القناع 3 / 187
ط عالم الكتب.
(3) الفتاوى الأنقروية 1 / 147 ط آستانة، والقوانين الفقهية ص 260، وأسنى
المطالب 2 / 38، وروضة الطالبين 3 / 411، 412، والقليوبي 2 / 186، وحاشية
الجمل 3 / 93، ومغني المحتاج 2 / 38.
(11/310)
أَوِ الْعُقُوبَةَ الْمَالِيَّةَ، أَوِ
الطَّرْدَ مِنَ السُّوقِ وَغَيْرَ ذَلِكَ. (1)
هَذَا كُلُّهُ فِي الْحَالاَتِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا التَّسْعِيرُ.
أَمَّا حَيْثُ لاَ يَجُوزُ التَّسْعِيرُ عِنْدَ مَنْ لاَ يَرَاهُ فَلاَ
عُقُوبَةَ عَلَى مُخَالِفِ التَّسْعِيرِ. (2)
تَسَلُّمٌ
انْظُرْ: تَسْلِيمٌ
__________
(1) القوانين الفقهية ص 260.
(2) مطالب أولي النهى 3 / 62، وكشاف القناع 3 / 187.
(11/311)
تَسْلِيفٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي التَّسْلِيفِ فِي اللُّغَةِ: التَّقْدِيمُ، وَهُوَ
مَصْدَرُ سَلَّفَ. يُقَال: سَلَّفْتَ إِلَيْهِ وَتَسَلَّفَ مِنْهُ كَذَا
وَاسْتَسْلَفَ: اقْتَرَضَ أَوْ أَخَذَ السَّلَفَ، وَالسَّلَفُ: الْقَرْضُ
وَالسَّلَمُ. (1)
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال:
مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ،
إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ. (2) وَالسَّلَفُ فِي الْمُعَامَلاَتِ: الْقَرْضُ
الَّذِي لاَ مَنْفَعَةَ فِيهِ لِلْمُقْرِضِ غَيْرِ الأَْجْرِ وَالشُّكْرِ،
وَعَلَى الْمُقْتَرِضِ رَدُّهُ كَمَا أَخَذَهُ.
وَالسَّلَفُ: نَوْعٌ مِنَ الْبُيُوعِ يُعَجَّل فِيهِ الثَّمَنُ وَتُضْبَطُ
السِّلْعَةُ بِالْوَصْفِ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب، والصحاح، ومحيط المحيط، ومعجم متن اللغة
مادة: " سلف ".
(2) حديث: " من أسلف فليسلف. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 429 - ط
السلفية) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(11/311)
اللُّغَوِيِّ الْمُتَقَدِّمِ. فَقَدْ
وَرَدَ أَنَّ السَّلَفَ أَوِ السَّلَمَ: بَيْعُ شَيْءٍ مَوْصُوفٍ فِي
الذِّمَّةِ، يَتَقَدَّمُ فِيهِ رَأْسُ الْمَال، وَيَتَأَخَّرُ الْمُثَمَّنُ
لأَِجَلٍ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - السَّلَفُ جَائِزٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ. أَمَّا
الْكِتَابُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (2) قَال
ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَشْهَدُ أَنَّ السَّلَفَ
الْمَضْمُونَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَدْ أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي
كِتَابِهِ وَأَذِنَ فِيهِ، ثُمَّ قَرَأَ الآْيَةَ (3) .
وَأَمَّا السَّلَفُ الَّذِي بِمَعْنَى السَّلَمِ فَقَدْ ثَبَتَ
بِالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ، فَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، وَهُمْ
يُسْلِفُونَ فِي الثِّمَارِ، السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ وَالثَّلاَثَ،
فَقَال: مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ
وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ. (4)
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ، فَقَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُل مَنْ
__________
(1) المغني لابن قدامة 4 / 304، 305، والمبدع في شرح المقنع 4 / 177،
والمبسوط 12 / 124، وفتح القدير 5 / 323.
(2) سورة البقرة / 282.
(3) أثر ابن عباس: أشهد أن السلف المضمون. أخرجه الحاكم (2 / 286 ط دائرة
المعارف العثمانية) ، وصححه ووافقه الذهبي. رواه الشافعي والطبراني
والبيهقي. (نصب الراية 4 / 44) .
(4) حديث: " قدم المدينة وهم يسلفون. . . " تقدم تخريجه (ف / 1) .
(11/312)
نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ
عَلَى أَنَّ السَّلَمَ جَائِزٌ، وَلأَِنَّ الْمُثَمَّنَ فِي الْبَيْعِ
أَحَدُ عِوَضَيِ الْعَقْدِ فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ فِي الذِّمَّةِ
كَالثَّمَنِ؛ وَلأَِنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً إِلَيْهِ - لأَِنَّ أَرْبَابَ
الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَالتِّجَارَاتِ يَحْتَاجُونَ إِلَى النَّفَقَةِ
عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَوْ عَلَى الزُّرُوعِ وَنَحْوِهَا حَتَّى تَنْضَجَ -
فَجُوِّزَ لَهُمُ السَّلَمُ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ.
وَقَدِ اسْتُثْنِيَ عَقْدُ السَّلَمِ مِنْ قَاعِدَةِ عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ
الْمَعْدُومِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَصْلَحَةٍ لِلنَّاسِ، رُخْصَةً لَهُمْ
وَتَيْسِيرًا عَلَيْهِمْ (1) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (سَلَمٌ) .
3 - وَالسَّلَفُ - بِمَعْنَى الْقَرْضِ - ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ فِي آيَةِ
الْمُدَايَنَةِ السَّابِقَةِ، وَبِالسُّنَّةِ فِيمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال: مَنْ أَقْرَضَ مَرَّتَيْنِ كَانَ لَهُ مِثْل أَجْرِ أَحَدِهِمَا لَوْ
تَصَدَّقَ بِهِ (2) .
وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ الْقَرْضِ، وَهُوَ قُرْبَةٌ
مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا، مُبَاحٌ لِلْمُقْتَرِضِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ
__________
(1) المبسوط 12 / 124 ط السعادة بمصر، وفتح القدير 6 / 204 - 206 ط بيروت /
لبنان، ورد المحتار 4 / 202، وبداية المجتهد 2 / 217، ومغني المحتاج 2 /
102 ط بيروت / لبنان، والمغني لابن قدامة 4 / 304، 305 ط الرياض، والمبدع
في شرح المقنع 4 / 77 ط المكتب الإسلامي.
(2) حديث: " من أقرض مرتين. . . " أخرجه ابن حبان في صحيحه (ص 281 - موارد
الظمآن - ط السلفية) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(11/312)
نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ
كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ
الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي
الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ. . وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ
الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ. (1) وَالتَّفْصِيل مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ
(قَرْضٌ) .
__________
(1) الدر المختار 4 / 179، وحاشية الدسوقي 3 / 322، والمغني لابن قدامة 4 /
346 - 348 ط الرياض، ومغني المحتاج 2 / 117، والمهذب 1 / 309، 310. وحديث
أبي هريرة: " من نفس عن مؤمن كربة. . . " أخرجه مسلم (4 / 2074 - ط الحلبي)
مرفوعا.
(11/313)
تَسْلِيمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي التَّسْلِيمِ فِي اللُّغَةِ: التَّوْصِيل، يُقَال
سَلَّمَ الْوَدِيعَةَ لِصَاحِبِهَا: إِذَا أَوْصَلَهَا فَتَسَلَّمَ ذَلِكَ،
وَأَسْلَمَ إِلَيْهِ الشَّيْءَ: دَفَعَهُ. وَمِنْهُ السَّلَمُ، وَتَسَلَّمَ
الشَّيْءَ: قَبَضَهُ وَتَنَاوَلَهُ. وَسَلَّمْتُ إِلَيْهِ الشَّيْءَ
فَتَسَلَّمَهُ: أَيْ أَخَذَهُ. وَسَلَّمَ الشَّيْءَ لِفُلاَنٍ: أَيْ
خَلَّصَهُ. وَسَلَّمَهُ إِلَيْهِ: أَعْطَاهُ إِيَّاهُ. وَسَلَّمَ
الأَْجِيرُ نَفْسَهُ لِلْمُسْتَأْجِرِ: مَكَّنَهُ مِنْ مَنْفَعَةِ نَفْسِهِ
حَيْثُ لاَ مَانِعَ. وَالتَّسْلِيمُ بَذْل الرِّضَى بِالْحُكْمِ.
وَالتَّسْلِيمُ: السَّلاَمُ، وَسَلَّمَ الْمُصَلِّي: خَرَجَ مِنَ
الصَّلاَةِ بِقَوْلِهِ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ. وَسَلَّمَ عَلَى الْقَوْمِ:
حَيَّاهُمْ بِالسَّلاَمِ، وَسَلَّمَ: أَلْقَى التَّحِيَّةَ، وَسَلَّمَ
عَلَيْهِ: قَال لَهُ: سَلاَمٌ عَلَيْكَ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَى التَّسْلِيمِ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ عَنِ
الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ.
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب المحيط، ومعجم متن اللغة والصحاح مادة: "
سلم ".
(11/313)
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّسْلِيمِ بِاخْتِلاَفِ أَنْوَاعِهِ. (1)
أ - التَّسْلِيمُ بِمَعْنَى التَّحِيَّةِ:
2 - ابْتِدَاءُ السَّلاَمِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ (2) وَيُسْتَحَبُّ
مُرَاعَاةُ صِيغَةِ الْجَمْعِ، وَإِنْ كَانَ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ
وَاحِدًا، أَخْذًا بِالنَّصِّ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ؛ وَلأَِنَّهُ يَقْصِدُ
مَعَ الْوَاحِدِ الْمَلاَئِكَةَ. (3)
وَيَجِبُ الرَّدُّ إِنْ كَانَ السَّلاَمُ عَلَى وَاحِدٍ. وَإِنْ سَلَّمَ
عَلَى جَمَاعَةٍ فَالرَّدُّ فِي حَقِّهِمْ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَإِنْ رَدَّ
أَحَدُهُمْ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِنْ رَدَّ الْجَمِيعُ
كَانُوا مُؤَدِّينَ لِلْفَرْضِ، سَوَاءٌ رَدُّوا مَعًا أَوْ
مُتَعَاقِبِينَ، فَإِنِ امْتَنَعُوا كُلُّهُمْ أَثِمُوا لِخَبَرِ؛ حَقُّ
الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلاَمِ. . . (4)
وَيُشْتَرَطُ فِي ابْتِدَاءِ السَّلاَمِ رَفْعُ الصَّوْتِ بِقَدْرِ مَا
يَحْصُل بِهِ الإِْسْمَاعُ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الرَّدُّ
__________
(1) فتح القدير 5 / 469، وابن عابدين 5 / 265، ومواهب الجليل 3 / 348،
وحاشية الجمل 5 / 184 - 188، وكشاف القناع 2 / 152، 153.
(2) حديث: " أفشوا السلام بينكم ". أخرجه مسلم (1 / 74 - ط الحلبي) من حديث
أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) الأذكار ص 218، والجمل 5 / 184.
(4) حديث: " حق المسلم على المسلم خمس رد السلام. . . " أخرجه البخاري
(الفتح 3 / 112 - ط السلفية) ومسلم (4 / 1705 - ط الحلبي) من حديث أبي
هريرة رضي الله عنه.
(11/314)
مُتَّصِلاً بِالسَّلاَمِ، وَالزِّيَادَةُ
عَلَى صِيغَةِ ابْتِدَاءِ السَّلاَمِ فِي الرَّدِّ أَفْضَل، وَيُسَنُّ
ابْتِدَاءُ السَّلاَمِ عِنْدَ الإِْقْبَال وَالاِنْصِرَافِ، (1) لِخَبَرِ:
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِاللَّهِ مَنْ بَدَأَهُمْ بِالسَّلاَمِ (2)
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا لَقِيَ أَحَدُكُمْ
أَخَاهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ حَالَتْ بَيْنَهُمَا شَجَرَةٌ أَوْ
جِدَارٌ أَوْ حَجَرٌ، ثُمَّ لَقِيَهُ، فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ (3) (ر:
سَلاَمٌ وَتَحِيَّةٌ) .
ب - التَّسْلِيمُ لِلْخُرُوجِ مِنَ الصَّلاَةِ:
3 - التَّسْلِيمَةُ الأُْولَى لِلْخُرُوجِ مِنَ الصَّلاَةِ حَال الْقُعُودِ
فَرْضٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ فَرْضِيَّةَ الثَّانِيَةِ أَيْضًا إِلاَّ فِي
صَلاَةِ جِنَازَةٍ وَنَافِلَةٍ؛ لأَِنَّ الْجُزْءَ الأَْخِيرَ مِنَ
الْجُلُوسِ الَّذِي يُوقَعُ فِيهِ السَّلاَمُ فَرْضٌ.
وَلاَ بُدَّ مِنْ نُطْقِ: " السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ " بِالْعَرَبِيَّةِ
بِتَقْدِيمِ " السَّلاَمِ " وَتَأْخِيرِ " عَلَيْكُمْ " وَهَذَا
لِلْقَادِرِ
__________
(1) فتح القدير 5 / 469 وما بعدها ط دار صادر، ورد المحتار على الدر
المختار 5 / 265 وما بعدها، ومواهب الجليل 3 / 348 ط دار الفكر، وحاشية
الجمل على شرح المنهج 5 / 184 - 188، وكشاف القناع 2 / 152 - 154.
(2) حديث: " إن أولى الناس بالله. . . " أخرجه أبو داود (5 / 380 - تحقيق
عزت عبيد دعاس) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه وحسنه ابن حجر كما في
الفتوحات (5 / 327 - ط المنيرية) .
(3) حديث: " إذا لقي أحدكم. . . " أخرجه أبو داود (5 / 381 - تحقيق عزت
عبيد دعاس) وصححه ابن حجر كما في الفتوحات الربانية (5 / 318 - ط المنيرية)
(11/314)
عَلَى الْعَرَبِيَّةِ، وَلاَ يَكْفِي
الْخُرُوجُ بِالنِّيَّةِ وَلاَ بِمُرَادِفِهَا مِنْ لُغَةٍ أُخْرَى،
وَأَمَّا الْعَاجِزُ عَنِ الْعَرَبِيَّةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ
بِالنِّيَّةِ قَطْعًا، وَإِنْ أَتَى بِمُرَادِفِهَا بِالْعَجَمِيَّةِ صَحَّ
عَلَى الأَْظْهَرِ، قِيَاسًا عَلَى الدُّعَاءِ بِالْعَجَمِيَّةِ
لِلْقَادِرِ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ. وَالأَْفْضَل كَوْنُ السَّلاَمِ
مُعَرَّفًا بِأَل. (1) لِخَبَرِ تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا
التَّسْلِيمُ (2) فَقَوْلُهُ: تَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ أَيْ لاَ يَخْرُجُ
مِنَ الصَّلاَةِ إِلاَّ بِهِ، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسَلِّمُ مِنْ صَلاَتِهِ عَنْ يَمِينِهِ:
السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ
الأَْيْمَنِ، وَعَنْ يَسَارِهِ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ
حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الأَْيْسَرِ. (3)
وَلِحَدِيثِ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَال: كُنْتُ أَرَى
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ
وَعَنْ يَسَارِهِ حَتَّى
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 240 وما بعدها، والشرح الصغير 1 / 315، 321، ومغني
المحتاج 1 / 177، 178 وما بعدها، وحاشية الباجوري 1 / 163، 164 ط الحلبي
بمصر، وكشاف القناع 1 / 388 وما بعدها، والمغني لابن قدامة 1 / 551 - 558.
(2) حديث: " تحريمها التكبير. . . " أخرجه الترمذي (1 / 9 - ط الحلبي) من
حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وصححه ابن حجر في الفتح (2 / 322 - ط
السلفية) .
(3) حديث: " كان يسلم من صلاته عن يمينه يقول:. . . ". أخرجه النسائي (3 /
64 - ط المكتبة التجارية) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(11/315)
أَرَى بَيَاضَ خَدِّهِ (1) وَلأَِنَّهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُدِيمُ ذَلِكَ وَلاَ يُخِل بِهِ
وَقَال: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي. (2)
وَأَقَل مَا يُجْزِئُ فِي التَّسْلِيمِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ قَوْلُهُ: " السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ " مَرَّةً عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ، وَمَرَّتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ كَمَا سَبَقَ،
وَأَكْمَلُهُ " السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ " يَمِينًا
وَشِمَالاً مُلْتَفِتًا فِي الأُْولَى حَتَّى يُرَى خَدُّهُ الأَْيْمَنُ،
وَفِي الثَّانِيَةِ حَتَّى يُرَى خَدُّهُ الأَْيْسَرُ، نَاوِيًا السَّلاَمَ
عَمَّنْ عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ مِنْ مَلاَئِكَةٍ وَإِنْسٍ وَصَالِحِ
الْجِنِّ.
وَيَنْوِي الإِْمَامُ أَيْضًا - زِيَادَةً عَلَى مَا سَبَقَ - السَّلاَمُ
عَلَى الْمُقْتَدِينَ، وَهُمْ يَنْوُونَ الرَّدَّ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ
سَلَّمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَنْوِيهِ الْمُقْتَدُونَ عَنْ
يَمِينِ الإِْمَامِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِالتَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ،
وَعَنْ يَسَارِهِ بِالتَّسْلِيمَةِ الأُْولَى. (3) وَلِحَدِيثِ سَمُرَةَ
بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: أَمَرَنَا رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَرُدَّ عَلَى
__________
(1) حديث سعد: " كنت أرى النبي صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه مسلم (1 /
409 - ط الحلبي) .
(2) المغني لابن قدامة 1 / 558 - 559، ومراقي الفلاح ص 149، 150. وحديث: "
صلوا كما رأيتموني أصلي " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 111 - ط السلفية) من
حديث مالك بن الحويرث.
(3) مغني المحتاج 1 / 178.
(11/315)
الإِْمَامِ، وَأَنْ نَتَحَابَّ، وَأَنْ
يُسَلِّمَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ (1)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الْخُرُوجُ مِنَ الصَّلاَةِ بِلَفْظِ السَّلاَمِ
لَيْسَ فَرْضًا، بَل هُوَ وَاجِبٌ. لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عَلَّمَ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
التَّشَهُّدَ قَال لَهُ: إِذَا قُلْتَ هَذَا فَقَدْ قَضَيْتَ صَلاَتَكَ،
إِنْ شِئْتَ أَنْ تَقُومَ فَقُمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقْعُدَ فَاقْعُدْ
(2) فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْخُرُوجِ مِنَ الصَّلاَةِ بِالسَّلاَمِ،
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفَرْضَ فِي آخِرِ الصَّلاَةِ هُوَ الْقُعُودُ
بِمِقْدَارِ التَّشَهُّدِ عِنْدَهُمْ. (3) لِخَبَرِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا أَحْدَثَ - يَعْنِي
الرَّجُل - وَقَدْ جَلَسَ فِي آخِرِ صَلاَتِهِ قَبْل أَنْ يُسَلِّمَ فَقَدْ
جَازَتْ صَلاَتُهُ. (4) وَالْوَاجِبُ عِنْدَهُمْ تَسْلِيمَتَانِ: الأُْولَى
عَنْ يَمِينِهِ، فَيَقُول: " السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ "
وَيُسَلِّمُ عَنْ يَسَارِهِ كَذَلِكَ؛ لِمَا
__________
(1) حديث سمرة بن جندب: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نرد على
الإمام. . . " أخرجه أبو داود (1 / 609 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وإسناده
ضعيف (ميزان الاعتدال للذهبي 2 / 128 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " إذا قلت هذا فقد. . . " أخرجه أبو داود (1 / 593 - تحقيق عزت
عبيد دعاس) .
(3) رد المحتار على الدر المختار 1 / 314، 352 - 356، 5 / 467، والبدائع 1
/ 113، 163 الطبعة الأولى، وفتح القدير 1 / 275 - 280، وتبيين الحقائق 1 /
104، 106، 124، 126 ط دار المعرفة.
(4) حديث: " إذا أحدث - يعني الرجل - وقد جلس. . . ". أخرجه الترمذي (2 /
261 - ط الحلبي) وقال: هذا حديث ليس إسناده بالقوي، وقد اضطربوا في إسناده.
(11/316)
رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ حَتَّى يَبْدُوَ بَيَاضُ خَدِّهِ وَعَنْ
يَسَارِهِ حَتَّى يَبْدُوَ بَيَاضُ خَدِّهِ. (1) وَيَنْوِي فِي
التَّسْلِيمَةِ الأُْولَى التَّسْلِيمَ عَلَى مَنْ عَلَى يَمِينِهِ مِنَ
الرِّجَال وَالنِّسَاءِ وَالْحَفَظَةِ، وَكَذَلِكَ فِي الثَّانِيَةِ.
وَأَقَل مَا يُجْزِئُ فِي لَفْظِ السَّلاَمِ مَرَّتَيْنِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ " السَّلاَمُ " دُونَ قَوْلِهِ " عَلَيْكُمْ ".
وَأَكْمَلُهُ وَهُوَ السُّنَّةُ أَنْ يَقُول: " السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَةُ اللَّهِ " مَرَّتَيْنِ. وَتَنْقَضِي الصَّلاَةُ بِالسَّلاَمِ
الأَْوَّل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَةٌ) .
ج - التَّسْلِيمُ بِمَعْنَى التَّمْكِينِ مِنَ الْقَبْضِ:
4 - التَّسْلِيمُ، أَوِ الْقَبْضُ مَعْنَاهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
التَّخْلِيَةُ أَوِ التَّخَلِّي، وَهُوَ أَنْ يُخَلِّيَ الْبَائِعُ بَيْنَ
الْمَبِيعِ وَالْمُشْتَرِي بِرَفْعِ الْحَائِل بَيْنَهُمَا عَلَى وَجْهٍ
يَتَمَكَّنُ الْمُشْتَرِي مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، بِحَيْثُ لاَ
يُنَازِعُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَهَذَا يَحْصُل بِالتَّخْلِيَةِ، فَيُجْعَل
الْبَائِعُ مُسَلِّمًا لِلْمَبِيعِ وَالْمُشْتَرِي قَابِضًا لَهُ،
فَكَانَتِ التَّخْلِيَةُ تَسْلِيمًا مِنَ الْبَائِعِ، وَالتَّخَلِّي
قَبْضًا مِنَ الْمُشْتَرِي. وَكَذَا هَذَا فِي تَسْلِيمِ الثَّمَنِ إِلَى
__________
(1) حديث: " كان يسلم عن يمينه حتى يبدوا. . . " أخرجه النسائي (3 / 63 ط
المكتبة التجارية) من حديث ابن مسعود وإسناده صحيح (الفتوحات الربانية 3 /
20 - ط المنيرية) .
(11/316)
الْبَائِعِ؛ لأَِنَّ التَّسْلِيمَ وَاجِبٌ،
وَمَنْ عَلَيْهِ الْوَاجِبُ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ سَبِيل الْخُرُوجِ
مِنْ عُهْدَةِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَالَّذِي فِي وُسْعِهِ هُوَ
التَّخْلِيَةُ وَرَفْعُ الْمَوَانِعِ. (1)
وَالْقَبْضُ يَتِمُّ بِطَرِيقِ التَّخْلِيَةِ، وَهِيَ أَنْ يَتَمَكَّنَ
الْمُشْتَرِي مِنَ الْمَبِيعِ بِلاَ مَانِعٍ - أَيْ بِأَنْ يَكُونَ
مُفْرَزًا وَلاَ حَائِل - فِي حَضْرَةِ الْبَائِعِ مَعَ الإِْذْنِ لَهُ
بِالْقَبْضِ (2) .
فَقَبْضُ الْعَقَارِ عِنْدَ الْجَمِيعِ - كَالأَْرْضِ وَمَا فِيهَا مِنْ
بِنَاءٍ وَنَخْلٍ وَنَحْوِهِمَا - يَكُونُ بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَ
الْمَبِيعِ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي وَتَمْكِينِهِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ،
وَذَلِكَ بِتَسْلِيمِ الْمَفَاتِيحِ إِنْ وُجِدَتْ بِشَرْطِ الْفَرَاغِ
مِنَ الأَْمْتِعَةِ، إِنْ كَانَ شِرَاءُ الْعَقَارِ لِلسَّكَنِ - عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ - وَقَبْضُ الْمَنْقُول كَالأَْمْتِعَةِ،
وَالأَْنْعَامُ وَالدَّوَابُّ بِحَسَبِ الْعُرْفِ الْجَارِي بَيْنَ
النَّاسِ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ، فَالثَّوْبُ قَبْضُهُ بِاحْتِيَازِهِ،
وَالْحَيَوَانُ بِتَمْشِيَتِهِ مِنْ مَكَانِهِ، وَقَبْضُ الْمَوْزُونِ
بِوَزْنِهِ، وَقَبْضُ الْمَكِيل بِكَيْلِهِ، إِذَا بِيعَا كَيْلاً
وَوَزْنًا. وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ: تَفْرِيغُهُ فِي أَوْعِيَةِ
الْمُشْتَرِي، حَتَّى لَوْ هَلَكَ قَبْل التَّفْرِيغِ فِي أَوْعِيَةِ
__________
(1) البدائع 5 / 244.
(2) من قواعد الحنفية: التخلية بين المشتري والمبيع قبض، إذ يعد ذلك قبضا،
وإن لم يتم القبض حقيقة، فإذا هلك المبيع بعد التخلية يهلك على المشتري (ر:
الفوائد البهية في القواعد الفقهية ص 63، وبدائع الصنائع 5 / 244 - الطبعة
الأولى، ورد المحتار 4 / 43 ط بيروت. لبنان) .
(11/317)
الْمُشْتَرِي كَانَ الضَّمَانُ عَلَى
الْبَائِعِ عِنْدَهُمْ. (1)
وَهَذَا: لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا بِعْتَ فَكِل،
وَإِذَا ابْتَعْتَ فَاكْتَل (2) وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يُجْرَى فِيهِ
الصَّاعَانِ: صَاعُ الْبَائِعِ وَصَاعُ الْمُشْتَرِي. (3) وَإِنْ بِيعَ
جُزَافًا فَقَبْضُهُ نَقْلُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَعِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ قَبْضُهُ بِالتَّخْلِيَةِ. (4) (ر: قَبْضٌ) .
التَّسْلِيمُ فِي الْعُقُودِ يَشْمَل مَا يَلِي:
أ - التَّسْلِيمُ فِي الْبَيْعِ:
5 - التَّسْلِيمُ فِي الْبَيْعِ يَكُونُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ
وَالثَّمَنِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْبَيْعِ لاَ يَتَحَقَّقُ إِلاَّ
بِذَلِكَ. (5)
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 144، ونهاية المحتاج 4 / 90 - 95 ط
المكتبة الإسلامية، والمغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 4 / 220 وما بعدها
ط مطبعة المنار بمصر.
(2) حديث: " إذا بعت فكل. . . " أخرجه البخاري (الفتح - 4 / 344 - ط
السلفية) من حديث عثمان رضي الله عنه.
(3) حديث: " نهى عن بيع الطعام حتى. . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 741 - ط
الحلبي) وقال عبد الحق الأشبيلي: إسناده لا يحتج به (نصب الراية 4 / 15 - ط
المجلس العلمي) .
(4) المغني والشرح الكبير 4 / 220 ط المنار بمصر.
(5) البدائع 5 / 243 وما بعدها، ورد المحتار على الدر المختار 4 / 42 - 43
وما بعدها، والمبسوط للسرخسي 13 / 192 وما بعدها، والقوانين الفقهية لابن
جزي ص 164.
(11/317)
وَمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّسْلِيمُ
أَوَّلاً، يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ نَوْعِ الْبَدَلَيْنِ، وَهُوَ كَالآْتِي:
إِنْ كَانَ الْبَيْعُ بَيْعَ عَيْنٍ بِعَيْنٍ، وَاخْتَلَفَا فِيمَنْ
يُسَلِّمُ أَوَّلاً، يَجِبُ عَلَى الْعَاقِدَيْنِ التَّسْلِيمُ مَعًا
تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ فِي الْمُعَاوَضَةِ الْمُقْتَضِيَةِ
لِلْمُسَاوَاةِ عَادَةً الْمَطْلُوبَةِ بَيْنَ الْعَاقِدَيْنِ؛ إِذْ لَيْسَ
أَحَدُهُمَا بِالتَّقْدِيمِ أَوْلَى مِنَ الآْخَرِ، فَيُجْعَل بَيْنَهُمَا
عَدْلٌ يَقْبِضُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا وَيُسَلِّمُ الآْخَرَ.
وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ إِنْ تَبَايَعَا دَيْنًا بِدَيْنٍ، كَمَا فِي عَقْدِ
الصَّرْفِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ، وَأَحَدِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ. (1)
وَإِنْ كَانَ بَيْعَ عَيْنٍ بِدَيْنٍ، فَيَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْقَوْل الثَّانِي عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ (2) تَسْلِيمُ الثَّمَنِ - أَيِ الدَّيْنِ أَوَّلاً -
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: وُجُوبُ تَسْلِيمِ
الْمَبِيعِ أَوَّلاً، وَاسْتَثْنَى الْجَمِيعُ مِنْ ذَلِكَ أَمْرَيْنِ: (3)
أَوَّلُهُمَا: الْمُسْلَمُ فِيهِ لأَِنَّهُ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ. وَالثَّانِي:
الثَّمَنُ الْمُؤَجَّل، فَإِنْ كَانَ عَيْنًا أَوْ
__________
(1) الدر المختار 4 / 42، وحاشية الدسوقي 3 / 147، والمغني مع الشرح الكبير
4 / 270.
(2) البدائع 5 / 243، وابن عابدين 4 / 42، 43، والمبسوط للسرخسي 13 / 292،
والقوانين الفقهية لابن جزي ص 164.
(3) نهاية المحتاج 4 / 100، 101، ومغني المحتاج 2 / 74، والدر المختار 4 /
43، والمغني مع الشرح الكبير 4 / 270 ط المنار بمصر.
(11/318)
عَرَضًا بِعَرَضٍ جُعِل بَيْنَهُمَا عَدْلٌ
- عِنْدَ الْجُمْهُورِ -، فَيَقْبِضُ مِنْهُمَا، ثُمَّ يُسَلِّمُ
إِلَيْهِمَا، وَهَذَا قَوْل الثَّوْرِيِّ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ،
لأَِنَّ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ يَتَعَلَّقُ بِهِ اسْتِقْرَارُ الْبَيْعِ
وَتَمَامُهُ، فَكَانَ تَقْدِيمُهُ أَوْلَى، سِيَّمَا مَعَ تَعَلُّقِ
الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ، وَتَعَلُّقِ حَقِّ الْبَائِعِ بِالذِّمَّةِ،
وَتَقْدِيمُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ أَوْلَى لِتَأَكُّدِهِ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُمَا يُسَلَّمَانِ مَعًا. (1)
ب - تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ
6 - تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ حَرَامٌ؛ لأَِنَّ
" عَقْدَ الرِّبَا حَرَامٌ. (2)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (رِبًا) .
ج - التَّسْلِيمُ فِي السَّلَمِ:
7 - اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى
أَنَّ الثَّمَنَ فِي السَّلَمِ إِنْ كَانَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ -
سَوَاءٌ أَكَانَ عَيْنًا (سِلْعَةً مُعَيَّنَةً) أَمْ نُقُودًا - فَلاَ
بُدَّ مِنْ
__________
(1) الدسوقي 3 / 147، والمغني والشرح الكبير 4 / 270، والدر المختار 4 /
42.
(2) البدائع 5 / 183، وابن عابدين 4 / 184، والمبسوط للسرخسي 12 / 109، 112
ط دار المعرفة - بيروت لبنان، وفتح القدير 6 / 146 وما بعدها، والموافقات
للشاطبي 4 / 42 ط المكتبة التجارية بمصر، وحاشية الدسوقي 3 / 47 وما بعدها،
ومغني المحتاج 2 / 21 وما بعدها، والمغني لابن قدامة 4 / 1 ط الرياض.
(11/318)
تَسْلِيمِهِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ قَبْل
التَّفَرُّقِ، وَلَوْ طَال الْمَجْلِسُ. وَإِذَا قَامَا مِنَ الْمَجْلِسِ
يَمْشِيَانِ، ثُمَّ قَبَضَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ رَأْسَ السَّلَمِ بَعْدَ
مَسَافَةٍ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ إِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا. وَكَذَا إِذَا
تَعَاقَدَا ثُمَّ قَامَ رَبُّ السَّلَمِ - الْمُشْتَرِي - لِيُحْضِرَ
الثَّمَنَ مِنْ دَارِهِ، فَإِنْ لَمْ يَغِبْ شَخْصُهُ عَنِ الْمُسْلَمِ
إِلَيْهِ - الْبَائِعِ - يَصِحُّ وَإِلاَّ فَلاَ؛ لأَِنَّ الْمُسْلَمَ
فِيهِ دَيْنٌ فِي الذِّمَّةِ، فَلَوْ أُخِّرَ تَسْلِيمُ رَأْسِ مَال
السَّلَمِ عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ لَكَانَ التَّسْلِيمُ فِي مَعْنَى
مُبَادَلَةِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَقَدْ نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ (1)
وَلأَِنَّ تَسْمِيَةَ هَذَا الْعَقْدِ دَلِيلٌ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ،
فَإِنَّهُ يُسَمَّى سَلَمًا وَسَلَفًا، وَالسَّلَمُ يُنْبِئُ عَنِ
التَّسْلِيمِ، وَالسَّلَفُ يُنْبِئُ عَنِ التَّقَدُّمِ، فَيَقْتَضِي
لُزُومَ تَقْدِيمِ رَأْسِ الْمَال، وَيُقَدَّمُ قَبْضُهُ عَلَى قَبْضِ
الْمُسْلَمِ فِيهِ؛ وَلأَِنَّ فِي السَّلَمِ غَرَرًا - أَيْ تَعْرِيضًا
لِلْهَلاَكِ أَوْ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ - فَلاَ يُضَمُّ إِلَيْهِ غَرَرُ
تَأْخِيرِ رَأْسِ الْمَال.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَقُومُ مَقَامَ الْقَبْضِ مَا كَانَ فِي
مَعْنَاهُ، كَمَا إِذَا كَانَ عِنْدَ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ أَمَانَةٌ أَوْ
عَيْنٌ مَغْصُوبَةٌ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَجْعَلَهَا صَاحِبُ السَّلَمِ
رَأْسَ مَالٍ مَا دَامَتْ مِلْكًا لَهُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى
الْقَبْضِ.
__________
(1) حديث: " نهى عن بيع الكالئ بالكالئ " أخرجه الدارقطني (3 / 71 - ط دار
المحاسن) وأعله الشافعي كما في التلخيص (3 / 26 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(11/319)
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ أَنْ يَكُونَ
قَبْضُ رَأْسِ الْمَال فِي الْمَجْلِسِ قَبْضًا حَقِيقِيًّا، فَلاَ
تَنْفَعُ فِيهِ الْحَوَالَةُ، وَلَوْ قَبَضَهُ مِنَ الْمُحَال عَلَيْهِ فِي
الْمَجْلِسِ، لأَِنَّ الْمُحَال عَلَيْهِ مَا دَفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ
إِلاَّ إِذَا قَبَضَهُ رَبُّ السَّلَمِ وَسَلَّمَهُ بِنَفْسِهِ
لِلْمُسْلَمِ إِلَيْهِ. (1)
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ اشْتِرَاطُ قَبْضِ رَأْسِ الْمَال كُلِّهِ،
وَيَجُوزُ تَأْخِيرُ قَبْضِهِ إِلَى ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فَأَقَل، وَلَوْ
بِشَرْطٍ فِي الْعَقْدِ سَوَاءٌ أَكَانَ رَأْسُ الْمَال عَيْنًا أَوْ
دَيْنًا؛ لأَِنَّ السَّلَمَ مُعَاوَضَةٌ لاَ يَخْرُجُ بِتَأْخِيرِ قَبْضِ
رَأْسِ الْمَال عَنْ أَنْ يَكُونَ سَلَمًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَأَخَّرَ
إِلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ، وَكُل مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يُعْطَى حُكْمَهُ،
وَلاَ يَكُونُ لَهُ بِذَلِكَ حُكْمُ الْكَالِئِ، فَإِنْ أَخَّرَ رَأْسَ
الْمَال عَنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ: فَإِنْ كَانَ التَّأْخِيرُ بِشَرْطٍ
فَسَدَ السَّلَمُ اتِّفَاقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ التَّأْخِيرُ كَثِيرًا
جِدًّا، بِأَنْ حَل أَجَل الْمُسْلَمِ فِيهِ، أَوْ لَمْ يَكْثُرْ جِدًّا
بِأَنْ لَمْ يَحِل أَجَلُهُ. وَإِنْ كَانَ التَّأْخِيرُ بِلاَ شَرْطٍ
فَقَوْلاَنِ فِي الْمُدَوَّنَةِ الْكُبْرَى لِمَالِكٍ بِفَسَادِ السَّلَمِ
وَعَدَمِ فَسَادِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ التَّأْخِيرُ كَثِيرًا جِدًّا أَمْ
لاَ. وَالْمُعْتَمَدُ الْفَسَادُ بِالزِّيَادَةِ عَنِ الثَّلاَثَةِ
__________
(1) البدائع 5 / 202 - 203 - الطبعة الأولى، ورد المحتار على الدر المختار
4 / 208 ط بيروت - لبنان، ومغني المحتاج 2 / 102 - 103، والمهذب 1 / 304،
307، والمغني لابن قدامة 4 / 328، وكشاف القناع 3 / 304 ط الرياض، وغاية
المنتهى 2 / 79.
(11/319)
الأَْيَّامِ وَلَوْ قَلَّتْ مُدَّةُ
الزِّيَادَةِ بِغَيْرِ شَرْطٍ. (1) (ر: سَلَمٌ)
. د - قَبْضُ الْمَرْهُونِ:
8 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى:
أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ فِي الرَّهْنِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ نَوْعِ
الشَّرْطِ. هَل هُوَ شَرْطُ لُزُومٍ أَوْ شَرْطُ تَمَامٍ؟ فَقَال جُمْهُورُ
الْفُقَهَاءِ: الْقَبْضُ لَيْسَ شَرْطَ صِحَّةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ شَرْطُ
لُزُومِ الرَّهْنِ، فَلاَ يَتِمُّ الرَّهْنُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ (2)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (3) فَقَدْ عَلَّقَهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْقَبْضِ، فَلاَ يَتِمُّ إِلاَّ بِهِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَتِمُّ الرَّهْنُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، أَوِ
الْحَوْزِ، وَهُوَ شَرْطُ تَمَامٍ وَلَيْسَ شَرْطَ صِحَّةٍ أَوْ لُزُومٍ،
فَإِذَا عُقِدَ الرَّهْنُ بِالْقَوْل (الإِْيجَابِ وَالْقَبُول) لَزِمَ
الْعَقْدُ، وَأُجْبِرَ الرَّاهِنُ عَلَى إِقْبَاضِهِ لِلْمُرْتَهِنِ
بِالْمُطَالَبَةِ بِهِ، فَإِنْ تَرَاضَى الْمُرْتَهِنُ فِي الْمُطَالَبَةِ
بِهِ، أَوْ رَضِيَ بِتَرْكِهِ فِي يَدِ الرَّاهِنِ بَطَل
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 195، 196 ط دار الفكر، والمنتقى
على الموطأ 4 / 300 ط السعادة بمصر، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 177 وما
بعدها ط دار القلم - بيروت - لبنان.
(2) الدر المختار 5 / 308 وما بعدها، والبدائع 6 / 137 وما بعدها، ومغني
المحتاج 2 / 128 والمهذب 1 / 312 وما بعدها، وكشاف القناع 3 / 330 وما
بعدها، والمغني لابن قدامة 4 / 364 وما بعدها ط الرياض.
(3) سورة البقرة / 283.
(11/320)
الرَّهْنُ. وَدَلِيلُهُمْ قِيَاسُ
الرَّهْنِ عَلَى سَائِرِ الْعُقُودِ الْمَالِيَّةِ اللاَّزِمَةِ
بِالْقَوْل. (1) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، (2)
وَالرَّهْنُ عَقْدٌ فَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ.
(ر: رَهْنٌ) .
هـ - تَسْلِيمُ الْمَرْهُونِ:
9 - لِلْمُرْتَهِنِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - مَا عَدَا
الشَّافِعِيَّةَ - حَقُّ الْحَبْسِ الدَّائِمِ لِلْمَرْهُونِ حَتَّى
يَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ؛ لِيَضْطَرَّ الْمَدِينُ إِلَى تَسْلِيمِ دَيْنِهِ،
لِيَتَمَكَّنَ مِنَ اسْتِرْدَادِ الْمَرْهُونِ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ
وَالاِنْتِفَاعِ بِهِ، وَلِلْمُرْتَهِنِ أَيْضًا عِنْدَ حُلُول أَجَل
الدَّيْنِ الْمُطَالَبَةُ بِدَيْنِهِ مَعَ بَقَاءِ الرَّهْنِ تَحْتَ
يَدِهِ، وَعَلَى الْمُرْتَهِنِ تَسْلِيمُ الْمَرْهُونِ لِصَاحِبِهِ، إِمَّا
بِانْتِهَاءِ أَجَل الدَّيْنِ، أَوْ بِانْتِهَاءِ عَقْدِ الرَّهْنِ.
وَانْتِهَاءُ الدَّيْنِ يَكُونُ بِأَسْبَابٍ كَالإِْبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ
أَوْ هِبَتِهِ، أَوْ وَفَاءِ الدَّيْنِ، أَوْ شِرَاءِ سِلْعَةٍ مِنَ
الرَّاهِنِ بِالدَّيْنِ، أَوْ إِحَالَةِ الرَّاهِنِ الْمُرْتَهِنَ عَلَى
غَيْرِهِ.
وَانْقِضَاءُ عَقْدِ الرَّهْنِ أَوِ انْتِهَاؤُهُ يَكُونُ بِأَسْبَابٍ
كَالإِْبْرَاءِ وَالْهِبَةِ وَوَفَاءِ الدَّيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ،
كَالْبَيْعِ الْجَبْرِيِّ الصَّادِرِ مِنَ الرَّاهِنِ بِأَمْرِ الْقَاضِي،
أَوْ مِنَ الْقَاضِي إِذَا أَبَى الرَّاهِنُ الْبَيْعَ. (3) وَالتَّفْصِيل
فِي (رَهْنٌ) .
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 271، والشرح الصغير 3 / 313.
(2) سورة المائدة / 1.
(3) البدائع 6 / 142 وما بعدها، وبداية المجتهد 2 / 297 وما بعدها،
والقوانين الفقهية لابن جزي ص 213، والمغني لابن قدامة 2 / 128 وما بعدها.
(11/320)
وَالشَّافِعِيَّةُ مَعَ الْجُمْهُورِ فِي
اشْتِرَاطِ اسْتِدَامَةِ الْقَبْضِ، لَكِنَّهُمْ قَالُوا: قَدْ يَتَخَلَّفُ
هَذَا الشَّرْطُ لِمَانِعٍ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمَرْهُونُ مُصْحَفًا
وَالْمُرْتَهِنُ كَافِرٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ. (1)
مَا يَتِمُّ بِهِ تَسْلِيمُ الْمَرْهُونِ:
10 - يُسَلِّمُ الرَّاهِنُ الدَّيْنَ أَوَّلاً، ثُمَّ يُسَلِّمُ
الْمُرْتَهِنُ الْمَرْهُونَ؛ لأَِنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ يَتَعَيَّنُ
بِتَسْلِيمِ الدَّيْنِ، وَحَقُّ الرَّاهِنِ مُتَعَيِّنٌ فِي تَسَلُّمِ
الْمَرْهُونِ، فَيَتِمُّ التَّسْلِيمُ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ تَحْقِيقًا
لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ. وَإِذَا سَلَّمَ
الرَّاهِنُ بَعْضَ الدَّيْنِ يَظَل الْمَرْهُونُ كُلُّهُ رَهْنًا بِحَالِهِ
عَلَى مَا بَقِيَ مِنَ الدَّيْنِ بِلاَ خِلاَفٍ؛ لأَِنَّ الرَّهْنَ كُلَّهُ
وَثِيقَةٌ بِالدَّيْنِ كُلِّهِ، وَهُوَ مَحْبُوسٌ بِكُل الْحَقِّ،
وَالْحَبْسُ بِالدَّيْنِ الَّذِي هُوَ مُوجِبُ الرَّهْنِ لاَ يَتَجَزَّأُ،
فَيَكُونُ مَحْبُوسًا بِكُل جُزْءٍ مِنَ الدَّيْنِ لاَ يَنْفَكُّ مِنْهُ
شَيْءٌ حَتَّى يَقْضِيَ جَمِيعَ الدَّيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الرَّهْنُ
مِمَّا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ أَمْ لاَ يُمْكِنُ. (2) ر: (رَهْنٌ) .
و تَسْلِيمُ ثَمَنِ الْمَرْهُونِ عِنْدَ الْبَيْعِ:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرْهُونَ يَظَل مِلْكًا
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 263.
(2) الدر المختار 5 / 309، والبدائع 6 / 153، وبداية المجتهد 2 / 298 وما
بعدها، ومغني المحتاج 2 / 141، والمغني لابن قدامة 4 / 374 وما بعدها.
(11/321)
لِلرَّاهِنِ بَعْدَ تَسْلِيمِهِ
لِلْمُرْتَهِنِ، كَمَا دَلَّتِ السُّنَّةُ لاَ يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ
صَاحِبِهِ (1) وَلَكِنْ تَعَلَّقَ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ بِعَيْنِ
الرَّهْنِ، فَاسْتَحَقَّ الْمُرْتَهِنُ حَبْسَهُ وَثِيقَةً بِالدَّيْنِ
إِلَى أَنْ يُوَفِّيَ الدَّيْنَ، وَلاَ يَجُوزُ لِلرَّاهِنِ أَنْ
يَتَصَرَّفَ فِي الرَّهْنِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِهِ إِلاَّ بِإِذْنِ
الْمُرْتَهِنِ، فَيُعْتَبَرُ مُتَنَازِلاً عَنْ حَقِّهِ فِي حَبْسِ
الرَّهْنِ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَبِيعَ
الرَّهْنَ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، وَهَذَا يُسَمَّى الْبَيْعُ
الاِخْتِيَارِيُّ بَعْدَ الإِْذْنِ، وَحِينَئِذٍ فَالْمُرْتَهِنُ أَوْلَى
وَأَحَقُّ بِثَمَنِ الْمَرْهُونِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ الدَّائِنِينَ،
حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ، حَيًّا كَانَ أَوْ مَيِّتًا. وَيَثْبُتُ
هَذَا الْحَقُّ لِلْمُرْتَهِنِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. (2)
وَإِذَا لَمْ يَتِمَّ الْبَيْعُ لِلْمَرْهُونِ اخْتِيَارِيًّا، وَحَل أَجَل
الدَّيْنِ طَالَبَ الْمُرْتَهِنُ الرَّاهِنَ بِوَفَاءِ الدَّيْنِ، فَإِنِ
اسْتَجَابَ وَوَفَّى سُلِّمَ الْمَرْهُونُ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَجِبْ
لِمَطْلٍ أَوْ إِعْسَارٍ، رُفِعَ أَمْرُهُ إِلَى الْقَاضِي. وَيَطْلُبُ
الْقَاضِي أَوَّلاً مِنَ الرَّاهِنِ
__________
(1) حديث: " لا يغلق الرهن من صاحبه " أخرجه الشافعي (بدائع المنن 2 / 189
- ط دار الأنوار) من حديث سعيد بن المسيب مرسلا وصحح أبو داود والدارقطني
إرساله. (التلخيص لابن حجر 3 / 36 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) البدائع 6 / 153، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 244، ومغني المحتاج 2 /
134، والمغني مع الشرح الكبير 4 / 450 وما بعدها.
(11/321)
الْحَاضِرِ بَيْعَ الْمَرْهُونِ، فَإِنِ
امْتَثَل تَمَّ الْمَقْصُودُ، وَإِنِ امْتَنَعَ بَاعَهُ الْقَاضِي عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَصَاحِبَيْ أَبِي
حَنِيفَةَ، بِدُونِ حَاجَةٍ إِلَى إِجْبَارِهِ بِحَبْسٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ
تَهْدِيدٍ، وَيُسَلَّمُ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُرْتَهِنُ مِنْ دَيْنِهِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَبِيعَ الرَّهْنَ بِيَدِ
الْمُرْتَهِنِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الرَّاهِنِ، لَكِنَّهُ يَحْبِسُ
الرَّاهِنَ حَتَّى يَبِيعَهُ بِنَفْسِهِ. وَإِذَا وُجِدَ فِي مَال
الْمَدِينِ الرَّاهِنِ مَالٌ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ، وَفَّى الدَّيْنَ
مِنْهُ، وَلاَ حَاجَةَ حِينَئِذٍ إِلَى الْبَيْعِ جَبْرًا. (1)
وَالتَّفْصِيل مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ: (رَهْنٌ) .
ز - تَسْلِيمُ الْمَال لِلْمَحْجُورِ عَلَيْهِ:
12 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّغِيرَ لاَ يُسَلَّمُ إِلَيْهِ
مَالُهُ إِلاَّ بَعْدَ مَعْرِفَةِ رُشْدِهِ، وَذَلِكَ بِاخْتِبَارِ
الصَّغِيرِ الْمُمَيِّزِ فِي التَّصَرُّفَاتِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} (2) أَيِ اخْتَبِرُوهُمْ، وَاخْتِبَارُ
الصَّغِيرِ الْمُمَيِّزِ يَحْصُل بِتَفْوِيضِ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي
يَتَصَرَّفُ فِيهَا أَمْثَالُهُ إِلَيْهِ؛ لِيُتَبَيَّنَ مَدَى إِدْرَاكِهِ
وَحُسْنُ تَصَرُّفِهِ. (3)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (حَجْرٌ) .
__________
(1) البدائع 6 / 148 وما بعدها، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 251،
والقوانين الفقهية ص 212 وما بعدها، ومغني المحتاج 2 / 134، وكشاف القناع 3
/ 330.
(2) سورة النساء / 6.
(3) رد المحتار على الدر المختار 5 / 95، والبدائع 7 / 193 وما بعدها،
وحاشية الدسوقي 3 / 294 وما بعدها، وكشاف القناع 3 / 443 - 445، والمغني 4
/ 505 وما بعدها، ومغني المحتاج 2 / 169، 170.
(11/322)
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ
أَمْوَال الصَّغِيرِ لاَ تُسَلَّمُ إِلَيْهِ حَتَّى يَبْلُغَ رَاشِدًا؛ (1)
لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ دَفْعَ الْمَال إِلَيْهِ عَلَى
شَرْطَيْنِ هُمَا الْبُلُوغُ وَالرُّشْدُ فِي قَوْله تَعَالَى:
{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ
آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} ، (2)
وَالْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ عَلَى شَرْطَيْنِ لاَ يَثْبُتُ بِدُونِهِمَا،
فَإِذَا بَلَغَ الصَّغِيرُ رَشِيدًا مُصْلِحًا لِلْمَال، وَجَبَ دَفْعُ
مَالِهِ إِلَيْهِ وَفَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ. وَإِذَا دَفَعَ إِلَيْهِ
مَالَهُ أَشْهَدَ عِنْدَ الدَّفْعِ. (3) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا
دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} (4)
وَفِي هَذِهِ الْمَسَائِل تَفْصِيلاَتٌ مَوْطِنُهَا بَابُ الْحَجْرِ.
ح - التَّسْلِيمُ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ:
13 - الْكَفَالَةُ تَكُونُ بِالنَّفْسِ، وَتَكُونُ بِالْفِعْل،
__________
(1) البدائع 7 / 170، وبداية المجتهد 2 / 302 وما بعدها، والمغني 4 / 506
وما بعدها، والمهذب 1 / 335 وما بعدها.
(2) سورة النساء / 6.
(3) تبيين الحقائق 5 / 195، والبدائع 7 / 170 وما بعدها، وبداية المجتهد 2
/ 302 وما بعدها، ومغني المحتاج 2 / 166، 170، والمهذب 1 / 335 وما بعدها،
والمغني 4 / 506، 516، 517 وما بعدها، وكشاف القناع 3 / 443 - 445.
(4) سورة النساء / 7.
(11/322)
وَالْمُرَادُ بِالْفِعْل الْمَكْفُول بِهِ
فِعْل التَّسْلِيمِ، وَعَلَى هَذَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِنَفْسِ مَنْ
عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَتُسَمَّى الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ كَمَا تُسَمَّى
الْكَفَالَةَ بِالْوَجْهِ: وَهِيَ الْتِزَامُ إِحْضَارِ الْمَكْفُول إِلَى
الْمَكْفُول لَهُ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهَا؛ ذَلِكَ لأَِنَّ الْكَفَالَةَ
بِالنَّفْسِ كَفَالَةٌ بِالْفِعْل، وَهُوَ تَسْلِيمُ النَّفْسِ، وَفِعْل
التَّسْلِيمِ مَضْمُونٌ عَلَى الأَْصِيل فَجَازَتِ الْكَفَالَةُ بِهِ.
وَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ جَوَازَ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ إِذَا
كَانَتْ بِسَبَبِ الْمَال؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ: الزَّعِيمُ غَارِمٌ (1) وَهَذَا يَشْمَل الْكَفَالَةَ
بِنَوْعَيْهَا؛ وَلأَِنَّ مَا وَجَبَ تَسْلِيمُهُ بِعَقْدٍ وَجَبَ
تَسْلِيمُهُ بِعَقْدِ الْكَفَالَةِ كَالْمَال؛ وَلأَِنَّ الْكَفِيل
يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِ الأَْصِيل، بِأَنْ يُعْلِمَ مَنْ يَطْلُبُهُ
مَكَانَهُ فَيُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، أَوْ يَسْتَعِينُ بِأَعْوَانِ
الْقَاضِي فِي التَّسْلِيمِ. (2)
وَإِذَا اشْتَرَطَ الأَْصِيل فِي الْكَفَالَةِ تَسْلِيمَ الْمَكْفُول بِهِ
فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ لَزِمَ الْكَفِيل إِحْضَارَ الْمَكْفُول بِهِ إِذَا
طَالَبَهُ بِهِ فِي الْوَقْتِ، وَفَاءً بِمَا الْتَزَمَهُ
__________
(1) حديث: " الزعيم غارم " أخرجه أحمد (5 / 293 ط الميمنية) وقال الهيثمي
في المجمع (4 / 145 - ط القدسي) " رجاله ثقات ".
(2) البدائع 6 - 8 وما بعدها، والمبسوط 19 / 162، وحاشية الدسوقي 2 / 344 -
436، ومغني المحتاج 2 / 203 وما بعدها، والمهذب 1 / 349 - 351، والمغني 4 /
556، 557، وكشاف القناع 3 / 62.
(11/323)
كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّل، فَإِنْ
أَحْضَرَهُ فَبِهَا، وَإِنْ لَمْ يُحْضِرْهُ حَبَسَهُ الْحَاكِمُ
لاِمْتِنَاعِهِ عَنْ إِيفَاءِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ. وَإِنْ
أَحْضَرَهُ وَسَلَّمَهُ إِلَى الْمُطَالِبِ بِهِ فِي مَوْضِعٍ يَقْدِرُ
عَلَى إِحْضَارِهِ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ، مِثْل أَنْ يَكُونَ فِي مِصْرٍ
مِنَ الأَْمْصَارِ بَرِئَ مِنَ الْكَفَالَةِ؛ لأَِنَّ التَّسْلِيمَ
يَتَحَقَّقُ بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْمَكْفُول بِنَفْسِهِ وَالْمَكْفُول
لَهُ؛ وَلأَِنَّهُ أَتَى بِمَا الْتَزَمَهُ وَحَصَل الْمَقْصُودُ مِنَ
الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ، وَهُوَ إِمْكَانُ الْمُحَاكَمَةِ عِنْدَ
الْقَاضِي. (1)
وَيَتَعَيَّنُ مَحَل التَّسْلِيمِ بِالتَّعْيِينِ، وَإِنْ أُطْلِقَ وَلَمْ
يُعَيَّنْ، وَجَبَ التَّسْلِيمُ فِي مَكَانِ الْكَفَالَةِ؛ لأَِنَّ
الْعُرْفَ يَقْتَضِي ذَلِكَ. (2)
ط - التَّسْلِيمُ فِي الْوَكَالَةِ:
14 - الْوَكَالَةُ بِأَجْرٍ (بِجُعْلٍ) حُكْمُهَا حُكْمُ الإِْجَارَاتِ،
فَيَسْتَحِقُّ الْوَكِيل الْجُعْل بِتَسْلِيمِ مَا وُكِّل فِيهِ إِلَى
الْمُوَكِّل - إِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ - كَثَوْبٍ
يَخِيطُهُ فَمَتَى سَلَّمَهُ مَخِيطًا فَلَهُ الأَْجْرُ. وَإِنْ وَكَّلَهُ
فِي بَيْعٍ، وَقَال: إِذَا بِعْتَ الثَّوْبَ وَقَبَضْتَ ثَمَنَهُ
وَسَلَّمْتَهُ إِلَيَّ فَلَكَ الأَْجْرُ، لَمْ يَسْتَحِقَّ مِنَ
الأُْجْرَةِ شَيْئًا حَتَّى يُسَلِّمَهُ إِلَيْهِ. فَإِنْ فَاتَ
التَّسْلِيمُ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا لِفَوَاتِ الشَّرْطِ.
__________
(1) البدائع 6 / 10 - 12، والمبسوط 19 / 165، 166، 175، والدر المختار 4 /
253، 256، وما بعدها، وحاشية الدسوقي 3 / 349، والمغني لابن قدامة 4 / 557.
(2) كفاية الأخيار 1 / 173.
(11/323)
وَالْوَكِيل فِي بَيْعِ شَيْءٍ يَمْلِكُ
تَسْلِيمَهُ لِلْمُشْتَرِي؛ لأَِنَّ إِطْلاَقَ الْوَكَالَةِ فِي الْبَيْعِ
يَقْتَضِي التَّسْلِيمَ، وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْوَكِيل فِي الْبَيْعِ
طَلَبُ الثَّمَنِ مِنَ الْمُشْتَرِي وَقَبْضُهُ؛ لأَِنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ
الْبَيْعِ، وَكَذَا الْوَكِيل بِالشِّرَاءِ، لَهُ قَبْضُ الْمَبِيعِ مِنَ
الْبَائِعِ وَتَسْلِيمُهُ لِمَنْ وَكَّلَهُ بِالشِّرَاءِ، وَهَذَا بِلاَ
خِلاَفٍ.
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمَقْبُوضَ فِي يَدِ
الْوَكِيل يُعْتَبَرُ أَمَانَةً؛ لأَِنَّ يَدَهُ يَدُ نِيَابَةٍ عَنِ
الْمُوَكِّل، وَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ الْمَقْبُوضِ عِنْدَ طَلَبِ
الْمُوَكِّل مَعَ الإِْمْكَانِ، وَيَضْمَنُ بِالتَّعَدِّي أَوِ
التَّقْصِيرِ كَمَا يَضْمَنُ فِي الْوَدَائِعِ، وَيَبْرَأُ بِمَا يَبْرَأُ
فِيهَا. (1) (ر: وَكَالَةٌ) .
ي - التَّسْلِيمُ فِي الإِْجَارَةِ:
15 - إِذَا كَانَ الْعَمَل يَجْرِي فِي عَيْنٍ تُسَلَّمُ لِلأَْجِيرِ
الْمُشْتَرَكِ، كَانَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ بَعْدَ قِيَامِهِ
بِالْعَمَل فِيهَا. وَإِنْ كَانَ الْعَمَل لاَ يَجْرِي فِي عَيْنٍ
تُسَلَّمُ لِلأَْجِيرِ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ قِيَامِهِ بِالْعَمَل
الْمَطْلُوبِ يُعْتَبَرُ تَسْلِيمًا كَالطَّبِيبِ أَوِ السِّمْسَارِ.
وَإِنْ كَانَ الأَْجِيرُ خَاصًّا كَانَ تَسْلِيمُ نَفْسِهِ لِلْعَمَل فِي
مَحَل
__________
(1) البدائع 6 / 34، وتكملة فتح القدير 6 / 2، والشرح الصغير 3 / 507، 519،
والدسوقي 3 / 381، 397، ومغني المحتاج 2 / 230 وما بعدها، والجمل على شرح
المنهج 3 / 424، ونهاية المحتاج 5 / 36، والمغني لابن قدامة 5 / 194 وما
بعدها، وكشاف القناع 3 / 480، 484، 489.
(11/324)
الْعَمَل تَسْلِيمًا مُعْتَبَرًا، (1)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (إِجَارَةٌ) .
ك - تَسْلِيمُ اللُّقَطَةِ (2) :
16 - لِلإِْمَامِ، أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ، أَنْ يَتَسَلَّمَ اللُّقَطَةَ
مِنَ الْمُلْتَقِطِ إِنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ. (3)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُبَاحُ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَدْفَعَ اللُّقَطَةَ
لِلإِْمَامِ إِنْ كَانَ عَدْلاً، وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي ذَلِكَ. (4)
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ: أَنَّ الْمُلْتَقِطَ إِنْ دَفَعَ اللُّقَطَةَ
إِلَى الْقَاضِي لَزِمَ الْقَاضِيَ الْقَبُول حِفْظًا لَهَا عَلَى
صَاحِبِهَا. (5) وَالتَّفْصِيل فِي (لُقَطَةٌ) .
ل - تَسْلِيمُ اللَّقِيطِ (6) لِلْقَاضِي:
17 - يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَتَسَلَّمَ اللَّقِيطَ مِنْ مُلْتَقِطِهِ
إِذَا عَلِمَ عَجْزَهُ عَنْ حِفْظِهِ بِنَفْسِهِ وَأَتَى بِهِ إِلَيْهِ،
__________
(1) الفتاوى الهندية 4 / 413، 437، 438، ومنهاج الطالبين وحاشية القليوبي
وعميرة 3 / 78، 79، وكشاف القناع 4 / 14.
(2) اللقطة لغة: اسم للمال الملتقط، وشرعا: مال يوجد ولا يعرف مالكه وليس
بمباح كمال الحربي (حاشية الطحطاوي 2 / 500) .
(3) المبسوط للسرخسي 11 / 4، 5 ط السعادة بمصر.
(4) مواهب الجليل للحطاب 6 / 73 ط النجاح - ليبيا.
(5) مغني المحتاج 2 / 411، ونهاية المحتاج 5 / 434، 435.
(6) اللقيط لغة: ما يلقط مطلقا، وشرعا: اسم لحي مولود من صغار بني آدم طرحه
أهله خوفا من العيلة، أو فرارا من تهمة الزنا (حاشية الطحطاوي 2 / 497) .
(11/324)
وَالأَْوْلَى لِلْقَاضِي أَنْ يَقْبَلَهُ.
(1) وَتَفْصِيلُهُ فِي بَحْثِ (لَقِيطٌ) .
م - تَسْلِيمُ الصَّدَاقِ لِلزَّوْجَةِ:
18 - إِذَا طَالَبَتِ الزَّوْجَةُ بِالْمَهْرِ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ
تَسْلِيمُهُ أَوَّلاً؛ لأَِنَّ حَقَّ الزَّوْجِ فِي الْمَرْأَةِ
مُتَعَيِّنٌ، وَحَقَّ الْمَرْأَةِ فِي الْمَهْرِ لَمْ يَتَعَيَّنْ
بِالْعَقْدِ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ، فَوَجَبَ عَلَى
الزَّوْجِ التَّسْلِيمُ عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ، وَهَذَا عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: وَالْبَعْضُ الآْخَرُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ:
يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ تَسْلِيمُ الصَّدَاقِ لِزَوْجَتِهِ، أَوْ
لِوَلِيِّهَا الْمُجْبِرِ؛ لأَِنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهُ إِجْبَارُهَا عَلَى
النِّكَاحِ كَانَ لَهُ تَسَلُّمُ صَدَاقِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا
كَالصَّغِيرَةِ (2) .
ن - تَسْلِيمُ الزَّوْجَةِ نَفْسَهَا:
19 - يَجُوزُ لِلزَّوْجَةِ قَبْل دُخُول الزَّوْجِ بِهَا أَنْ لاَ
تُسَلِّمَ نَفْسَهَا إِلَى زَوْجِهَا، حَتَّى تَقْبِضَ جَمِيعَ
__________
(1) البحر الرائق 5 / 156 ط أولى، والفتاوى الهندية 3 / 286 ط السعادة
بمصر، وحاشية الدسوقي 2 / 126، 127، وجواهر الإكليل 2 / 220، وحاشية
الباجوري 2 / 62، والإقناع للشربيني 2 / 41، وروضة الطالبين 5 / 419،
ومطالب أولي النهى 4 / 248 - 251، وكشاف القناع 4 / 228 - 230 ط الرياض.
(2) البدائع 2 / 287، 288، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 297 - 300
وما بعدها، والمهذب 2 / 58، وكشاف القناع 5 / 138 - 140.
(11/325)
مَهْرِهَا الْمُعَيَّنِ الْحَال، سَوَاءٌ
أَكَانَ بَعْضَهُ أَمْ كُلَّهُ. وَإِنِ انْتَقَلَتْ إِلَى بَيْتِ زَوْجِهَا
فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ لِتَعَيُّنِ حَقِّهَا فِي الْبَدَل، كَمَا
يَتَعَيَّنُ حَقُّهُ فِي الْمُبْدَل.
وَلاَ يَتَعَيَّنُ حَقُّهَا إِلاَّ بِالتَّسْلِيمِ وَالاِنْتِقَال إِلَى
حَيْثُ يُرِيدُ زَوْجُهَا إِنْ أَرَادَ، وَهَذَا بِلاَ خِلاَفٍ. (1)
فَإِنْ سَلَّمَتْ نَفْسَهَا بِالدُّخُول، أَوْ بِالْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ،
فَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا؛
لأَِنَّهَا بِالدُّخُول أَوْ بِالْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ سَلَّمَتْ جَمِيعَ
الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِرِضَاهَا، وَهِيَ مِنْ أَهْل التَّسْلِيمِ،
فَبَطَل حَقُّهَا فِي الْمَنْعِ.
وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ: أَنَّ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْ
زَوْجِهَا حَتَّى تَأْخُذَ الْمُعَجَّل لَهَا مِنَ الْمَهْرِ، وَلَوْ دَخَل
بِهَا بِرِضَاهَا وَهِيَ مُكَلَّفَةٌ؛ لأَِنَّ الْمَهْرَ مُقَابَلٌ
بِجَمِيعِ مَا يُسْتَوْفَى مِنْ مَنَافِعِ الْبُضْعِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ
الاِسْتِمْتَاعِ الَّتِي تُوجَدُ فِي هَذَا الْمِلْكِ، وَيَكُونُ رِضَاهَا
بِالدُّخُول أَوِ الْخَلْوَةِ قَبْل قَبْضِ مُعَجَّل مَهْرِهَا إِسْقَاطًا
لِحَقِّهَا فِي مَنْعِ نَفْسِهَا فِي الْمَاضِي، وَلَيْسَ لِحَقِّهَا فِي
الْمُسْتَقْبَل، عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
__________
(1) فتح القدير 3 / 215، 216، 248 ط دار إحياء التراث العربي / بيروت -
لبنان، والبدائع 2 / 288، 298، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 297،
398، وشرح المنهاج بحاشية القليوبي 3 / 277، 278، ونهاية المحتاج 6 / 331
وما بعدها، والمغني لابن قدامة 6 / 737، 738 ط الرياض.
(11/325)
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ أَنَّ
لَهَا الاِمْتِنَاعَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ مَهْرَهَا، كَمَا لَوْ كَانَ
حَالًّا ابْتِدَاءً. (1)
20 - وَالتَّسْلِيمُ الْوَاجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ يَحْصُل فِي الْمَكَانِ
الَّذِي يَتَمَكَّنُ فِيهِ زَوْجُهَا مِنَ اسْتِمْتَاعِهِ بِهَا، سَوَاءٌ
أَكَانَ الْمَكَانُ بَيْتَ أَبِيهَا إِنْ رَضِيَا مَعًا بِالإِْقَامَةِ
فِيهِ، أَمْ كَانَ مَسْكَنًا شَرْعِيًّا أَعَدَّهُ لَهَا زَوْجُهَا.
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى تَسْلِيمِ نَفْسِهَا لِزَوْجِهَا وُجُوبُ نَفَقَتِهَا
عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهَا مَحْبُوسَةٌ لِحَقِّهِ، وَهَذَا بِلاَ خِلاَفٍ. (2)
تَسْلِيمُ النَّفَقَةِ:
21 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ حَقٌّ
أَصِيلٌ مِنْ حُقُوقِهَا الْوَاجِبَةِ عَلَى زَوْجِهَا، وَأَنَّهَا تَجِبُ
عَلَى الزَّوْجِ الْحَاضِرِ، إِذَا سَلَّمَتِ الزَّوْجَةُ نَفْسَهَا إِلَى
الزَّوْجِ وَقْتَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ.
وَإِذَا امْتَنَعَ الزَّوْجُ عَنِ الإِْنْفَاقِ عَلَى زَوْجَتِهِ بَعْدَمَا
فَرَضَهُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ بَعْدَ فَرْضِ الْقَاضِي بَاعَ الْقَاضِي
مِنْ مَالِهِ، إِنْ كَانَ مُوسِرًا وَلَهُ مَالٌ
__________
(1) فتح القدير 3 / 215، 216، 248، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 /
297، 298 ط عيسى الحلبي بمصر، ومغني المحتاج 3 / 222 وما بعدها، ونهاية
المحتاج 6 / 331 - 333، والمغني 6 / 737، 738.
(2) فتح القدير 4 / 192، وحاشية الدسوقي 2 / 508، ونهاية المحتاج 7 / 191
وما بعدها، والمغني لابن قدامة 6 / 737، 738، 7 / 564.
(11/326)
ظَاهِرٌ، وَأَعْطَى لِزَوْجَتِهِ مَا
يَكْفِي النَّفَقَةَ. (1)
وَلِلتَّفْصِيل: (ر: نَفَقَةٌ) .
تَسَمُّعٌ
انْظُرْ: اسْتِمَاعٌ.
__________
(1) البدائع 4 / 38، والبحر الرائق 4 / 194 - الطبعة الأولى، وحاشية
الدسوقي 2 / 508 وما بعدها، والمهذب 2 / 363 وما بعدها، والمغني لابن قدامة
7 / 564 وما بعدها ط الرياض.
(11/326)
تَسْمِيَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّسْمِيَةُ: مَصْدَرُ سَمَّى بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ، وَمَادَّةُ:
(سَمَا) لَهَا فِي اللُّغَةِ عِدَّةُ مَعَانٍ:
فَمِنْهَا: سَمَا يَسْمُو سُمُوًّا أَيْ عَلاَ. يُقَال: سَمَتْ هِمَّتُهُ
إِلَى مَعَالِي الأُْمُورِ: إِذَا طَلَبَ الْعِزَّ وَالشَّرَفَ، وَكُل
عَالٍ: سَمَاءٌ.
(وَالاِسْمُ) مِنَ السُّمُوِّ وَهُوَ الْعُلُوُّ، وَقِيل: الاِسْمُ مِنَ
الْوَسْمِ، وَهُوَ الْعَلاَمَةُ. (1)
وَقَال فِي الصِّحَاحِ: وَسَمَّيْتُ فُلاَنًا زَيْدًا وَسَمَّيْتُهُ
بِزَيْدٍ بِمَعْنًى وَأَسْمَيْتُهُ مِثْلُهُ، فَتَسَمَّى بِهِ. وَتَقُول:
هَذَا سَمِيُّ فُلاَنٍ، إِذَا وَافَقَ اسْمُهُ اسْمَهُ، كَمَا تَقُول: هُوَ
كَنِيُّهُ، وقَوْله تَعَالَى: {هَل تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (2) أَيْ:
نَظِيرًا يَسْتَحِقُّ مِثْل اسْمِهِ، وَيُقَال: مُسَامِيًا يُسَامِيهِ. (3)
وَتُسْتَعْمَل التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِمَعْنَى قَوْل: بِسْمِ
اللَّهِ، وَبِمَعْنَى: وَضْعِ الاِسْمِ الْعَلَمِ لِلْمَوْلُودِ
وَغَيْرِهِ، وَبِمَعْنَى: تَحْدِيدِ الْعِوَضِ فِي الْعُقُودِ،
__________
(1) المصباح المنير مادة: " سمو ".
(2) سورة مريم / 65.
(3) الصحاح للجوهري، نفس المادة.
(11/327)
كَالْمَهْرِ وَالأُْجْرَةِ وَالثَّمَنِ،
وَبِمَعْنَى: التَّعْيِينِ بِالاِسْمِ مُقَابِل الإِْبْهَامِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّكْنِيَةُ:
2 - التَّكْنِيَةُ مَصْدَرُ: كَنَّى بِتَشْدِيدِ النُّونِ، أَيْ: جَعَل
لَهُ كُنْيَةً، كَأَبِي فُلاَنٍ وَأُمِّ فُلاَنٍ (1)
وَتَفْصِيل الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالتَّكْنِيَةِ يُنْظَرُ فِي
مُصْطَلَحِ (كُنْيَةٌ) .
ب - التَّلْقِيبُ:
3 - التَّلْقِيبُ: مَصْدَرُ لَقَّبَ بِتَشْدِيدِ الْقَافِ. وَاللَّقَبُ
وَاحِدُ الأَْلْقَابِ، وَهُوَ مَا كَانَ مُشْعِرًا بِمَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ.
وَمَعْنَاهُ: النَّبْزُ بِالتَّمْيِيزِ (2) . وَالنَّبْزُ بِالأَْلْقَابِ
الْمَكْرُوهَةِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَنَابَزُوا
بِالأَْلْقَابِ} . (3)
فَإِنْ قَصَدَ بِهِ التَّعْرِيفَ فَلاَ يَدْخُل تَحْتَ النَّهْيِ، وَمِنْ
ذَلِكَ تَعْرِيفُ بَعْضِ الأَْئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ، كَالأَْعْمَشِ
وَالأَْخْفَشِ وَالأَْعْرَجِ. (4)
هَذَا وَالنُّحَاةُ فِي كُتُبِهِمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْكُنْيَةِ
وَاللَّقَبِ وَالاِسْمِ.
فَالْكُنْيَةُ عِنْدَهُمْ: كُل مُرَكَّبٍ إِضَافِيٍّ فِي صَدْرِهِ
__________
(1) القاموس المحيط مادة: " كنى ".
(2) المصباح مادة: " لقب ".
(3) سورة الحجرات / 11.
(4) المصباح المنير مادة: " لقب ".
(11/327)
أَبٌ أَوْ أُمٌّ، كَأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، وَأُمِّ كُلْثُومٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِنْتِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفَرَّقَ الأَْبْهَرِيُّ فِي حَوَاشِي الْعَضُدِ بَيْنَ الاِسْمِ
وَاللَّقَبِ، فَقَال: الاِسْمُ يُقْصَدُ بِدَلاَلَتِهِ الذَّاتُ
الْمُعَيَّنَةُ، وَاللَّقَبُ يُقْصَدُ بِهِ الذَّاتُ مَعَ الْوَصْفِ،
وَلِذَلِكَ يُخْتَارُ اللَّقَبُ عِنْدَ إِرَادَةِ التَّعْظِيمِ أَوِ
الإِْهَانَةِ. (1)
هَذَا وَسَيَأْتِي حُكْمُ الْكُنْيَةِ وَاللَّقَبِ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَلَى
التَّسْمِيَةِ بِمَعْنَى وَضْعِ الاِسْمِ الْعَلَمِ لِلْمَوْلُودِ.
أَحْكَامُ التَّسْمِيَةِ:
أَوَّلاً: التَّسْمِيَةُ أَوِ الْبَسْمَلَةُ: قَوْل: (بِسْمِ اللَّهِ) :
4 - أَكْمَلُهَا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَيَتَعَلَّقُ
بِهَا عَدَدٌ مِنَ الأَْحْكَامِ، كَالتَّسْمِيَةِ فِي ابْتِدَاءِ
الْوُضُوءِ، وَعِنْدَ الْغُسْل، وَفِي الصَّلاَةِ، وَعِنْدَ الذَّبْحِ،
وَفِي الصَّيْدِ عِنْدَ إِرْسَال الْكَلْبِ أَوِ السَّهْمِ، وَعِنْدَ
الطَّعَامِ أَوِ الْجِمَاعِ أَوْ دُخُول الْخَلاَءِ. وَيُنْظَرُ
التَّفْصِيل فِي: (بَسْمَلَةٌ) .
ثَانِيًا: التَّسْمِيَةُ بِمَعْنَى وَضْعِ الاِسْمِ الْعَلَمِ
لِلْمَوْلُودِ وَغَيْرِهِ:
5 - الْفُقَهَاءُ يَذْكُرُونَ التَّسْمِيَةَ وَيُرِيدُونَ بِهَا وَضْعَ
الاِسْمِ الْعَلَمِ لِلْمَوْلُودِ وَغَيْرِهِ، وَهِيَ بِهَذَا الْمَعْنَى
تَعْرِيفُ الشَّيْءِ الْمُسَمَّى؛ لأَِنَّهُ إِذَا وُجِدَ وَهُوَ
__________
(1) التصريح على التوضيح 1 / 120 ط الحلبي.
(11/328)
مَجْهُول الاِسْمِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا
يَقَعُ تَعْرِيفُهُ بِهِ. (1)
وَيَتَعَلَّقُ بِهَا عَدَدٌ مِنَ الأَْحْكَامِ:
أ - تَسْمِيَةُ الْمَوْلُودِ:
6 - ذَكَرَ ابْنُ عَرَفَةَ أَنَّ مُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ وُجُوبُ
التَّسْمِيَةِ، وَمِمَّا لاَ نِزَاعَ فِيهِ أَنَّ الأَْبَ أَوْلَى بِهَا
مِنَ الأُْمِّ، فَإِنِ اخْتَلَفَ الأَْبَوَانِ فِي التَّسْمِيَةِ
فَيُقَدَّمُ الأَْبُ. (2)
ب - وَقْتُ التَّسْمِيَةِ:
7 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ وَقْتَ تَسْمِيَةِ الْمَوْلُودِ هُوَ
الْيَوْمُ السَّابِعُ مِنْ وِلاَدَتِهِ بَعْدَ ذَبْحِ الْعَقِيقَةِ، هَذَا
إِذَا كَانَ الْمَوْلُودُ مِمَّنْ يُعَقُّ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ
لاَ يُعَقُّ عَنْهُ لِفَقْرِ وَلِيِّهِ فَيَجُوزُ أَنْ يُسَمُّوهُ مَتَى
شَاءُوا.
قَال الْحَطَّابُ: قَال فِي الْمَدْخَل فِي فَصْل ذِكْرِ النِّفَاسِ:
وَيَنْبَغِي إِذَا كَانَ الْمَوْلُودُ مِمَّنْ يُعَقُّ عَنْهُ فَلاَ
يُوقَعُ عَلَيْهِ الاِسْمُ الآْنَ حَتَّى تُذْبَحَ الْعَقِيقَةُ،
وَيُتَخَيَّرَ لَهُ فِي الاِسْمِ مُدَّةَ السَّابِعِ، وَإِذَا ذَبَحَ
الْعَقِيقَةَ أَوْقَعَ عَلَيْهِ الاِسْمَ.
وَإِنْ كَانَ الْمَوْلُودُ لاَ يُعَقُّ عَنْهُ لِفَقْرِ وَلِيِّهِ
فَيُسَمُّونَهُ مَتَى شَاءُوا. انْتَهَى.
ثُمَّ قَال: وَنَقَلَهُ بَعْضُ شُرَّاحِ الرِّسَالَةِ عَنِ التَّادَلِيِّ،
وَأَصْلُهُ لِلنَّوَادِرِ فِي بَابِ الْعَقِيقَةِ.
__________
(1) تحفة المودود ص 88 ط. المدني.
(2) مواهب الجليل 3 / 256 ط. النجاح، وتحفة المودود ص 106.
(11/328)
قَال ابْنُ عَرَفَةَ: وَمُقْتَضَى
الْقَوَاعِدِ وُجُوبُ التَّسْمِيَةِ، سُمِعَ ابْنُ الْقَاسِمِ يُسَمَّى
يَوْمَ سَابِعِهِ.
قَال ابْنُ رُشْدٍ: لِحَدِيثِ: يُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ
وَيُحْلَقُ وَيُسَمَّى (1) وَفِيهِ سَعَةٌ لِحَدِيثِ وُلِدَ لِي
اللَّيْلَةَ غُلاَمٌ، فَسَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ (2)
وَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَبْدِ اللَّهِ
بْنِ أَبِي طَلْحَةَ صَبِيحَةَ وُلِدَ فَحَنَّكَهُ وَدَعَا لَهُ
وَسَمَّاهُ. (3)
وَيُحْتَمَل حَمْل الأَْوَّل عَلَى مَنْعِ تَأْخِيرِ التَّسْمِيَةِ عَنْ
سَابِعِهِ فَتَتَّفِقُ الأَْخْبَارُ، وَعَلَى قَوْل مَالِكٍ قَال ابْنُ
حَبِيبٍ: لاَ بَأْسَ أَنْ تُتَخَيَّرَ لَهُ الأَْسْمَاءُ قَبْل سَابِعِهِ،
وَلاَ يُسَمَّى إِلاَّ فِيهِ. (4)
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَسْمِيَةُ الْمَوْلُودِ فِي
الْيَوْمِ السَّابِعِ كَمَا ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ، وَلاَ
بَأْسَ أَنْ يُسَمَّى قَبْلَهُ، وَاسْتَحَبَّ بَعْضُهُمْ أَنْ
__________
(1) حديث: " يذبح عنه يوم سابعه، ويحلق ويسمى " عن عبد الله بن عمرو بن
العاص رضي الله عنهما " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتسمية المولود
يوم سابعه ووضع الأذى عنه والعق " أخرجه الترمذي (5 / 132 ط الحلبي) وحسنه.
(2) حديث: " ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم ". أخرجه مسلم (4
/ 1807 - ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(3) حديث: " تسمية عبد الله بن طلحة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 587 -
ط السلفية) ومسلم (3 / 1689 - ط الحلبي) .
(4) مواهب الجليل 3 / 256 ط النجاح، وحاشية العدوي على شرح أبي الحسن
لرسالة ابن أبي زيد 1 / 525 ط دار المعرفة.
(11/329)
لاَ يَفْعَلَهُ. وَلاَ يُتْرَكُ تَسْمِيَةُ
السِّقْطِ، وَلاَ مَنْ مَاتَ قَبْل تَمَامِ السَّبْعَةِ. (1)
هَذَا وَأَمَّا الأَْخْبَارُ الصَّحِيحَةُ الْوَارِدَةُ فِي تَسْمِيَةِ
يَوْمِ الْوِلاَدَةِ، فَقَدْ حَمَلَهَا الْبُخَارِيُّ عَلَى مَنْ لَمْ
يُرِدِ الْعَقَّ، وَالأَْخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي تَسْمِيَتِهِ فِي
الْيَوْمِ السَّابِعِ عَلَى مَنْ أَرَادَهُ. (2)
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلَهُمْ فِي وَقْتِ التَّسْمِيَةِ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ يُسَمَّى فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ. وَالثَّانِيَةُ:
أَنَّهُ يُسَمَّى فِي يَوْمِ الْوِلاَدَةِ.
قَال صَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ: وَيُسَمَّى الْمَوْلُودُ فِيهِ أَيْ:
فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ، لِحَدِيثِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُل غُلاَمٍ رَهِينَةٌ
بِعَقِيقَتِهِ، تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ، وَيُسَمَّى فِيهِ،
وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ. (3)
وَالتَّسْمِيَةُ لِلأَْبِ فَلاَ يُسَمِّيهِ غَيْرُهُ مَعَ وُجُودِهِ. (4)
وَفِي الرِّعَايَةِ: يُسَمَّى يَوْمَ الْوِلاَدَةِ؛ لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ فِي
قِصَّةِ وِلاَدَةِ إِبْرَاهِيمَ ابْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: وُلِدَ لِي
__________
(1) روضة الطالبين 3 / 232 ط المكتب الإسلامي، وحاشية قليوبي 4 / 256 ط
الحلبي.
(2) تحفة المحتاج 9 / 373 ط دار صادر، ومغني المحتاج 4 / 294 ط دار إحياء
التراث العربي، ونهاية المحتاج 8 / 139 ط المكتبة الإسلامية.
(3) حديث: " كل غلام رهينة بعقيقة تذبح. . . " أخرجه النسائي (8 / 166 - ط
المكتبة التجارية) ، والحاكم (4 / 237 ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه
الذهبي.
(4) كشاف القناع 3 / 25، 26 ط النصر.
(11/329)
اللَّيْلَةَ مَوْلُودٌ فَسَمَّيْتُهُ
إِبْرَاهِيمَ بِاسْمِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ (1) هَذَا وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ
عَابِدِينَ وَلاَ صَاحِبُ الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
عِنْدَ الْكَلاَمِ عَلَى التَّسْمِيَةِ الْوَقْتَ الَّذِي تَكُونُ فِيهِ.
(2)
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّ التَّسْمِيَةَ لَمَّا كَانَتْ حَقِيقَتُهَا
تَعْرِيفَ الشَّيْءِ الْمُسَمَّى؛ لأَِنَّهُ إِذَا وُجِدَ وَهُوَ مَجْهُول
الاِسْمِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يَقَعُ تَعْرِيفُهُ بِهِ، فَجَازَ
تَعْرِيفُهُ يَوْمَ وُجُودِهِ، وَجَازَ تَأْخِيرُ التَّعْرِيفِ إِلَى
ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، وَجَازَ إِلَى يَوْمِ الْعَقِيقَةِ عَنْهُ، وَيَجُوزُ
قَبْل ذَلِكَ وَبَعْدَهُ، وَالأَْمْرُ فِيهِ وَاسِعٌ. (3)
ج - تَسْمِيَةُ السِّقْطِ:
8 - الْمُرَادُ بِالسِّقْطِ هُنَا الْوَلَدُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى
يَخْرُجُ مَيِّتًا مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ قَبْل تَمَامِهِ وَهُوَ مُسْتَبِينُ
الْخَلْقِ. يُقَال: سَقَطَ الْوَلَدُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ سُقُوطًا فَهُوَ
سِقْطٌ بِالْكَسْرِ، وَالتَّثْلِيثُ لُغَةٌ، وَلاَ يُقَال: وَقَعَ،
وَأَسْقَطَتِ الْحَامِل بِالأَْلِفِ: أَلْقَتْ سِقْطًا (4) .
هَذَا، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَسْمِيَةِ السِّقْطِ.
__________
(1) الحديث: تقدم تخريجه ف / 7.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 268، 269 ط الأميرية، والفتاوى الهندية 5 / 362 ط
المكتبة الإسلامية.
(3) تحفة المودود ص 88.
(4) المصباح المنير.
(11/330)
قَال صَاحِبُ الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ:
مَنْ وُلِدَ مَيِّتًا لاَ يُسَمَّى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلاَفًا
لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى.
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ السِّقْطَ لاَ يُسَمَّى.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ، كَمَا قَال النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ: أَنَّ
تَسْمِيَةَ السِّقْطِ لاَ تُتْرَكُ. وَفِي النِّهَايَةِ: يُنْدَبُ
تَسْمِيَةُ سِقْطٍ نُفِخَتْ فِيهِ الرُّوحُ. (1)
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ، فَقَدْ قَال ابْنُ قُدَامَةَ: فَإِنْ لَمْ
يَتَبَيَّنْ أَذَكَرٌ هُوَ أَمْ أُنْثَى؟ سُمِّيَ اسْمًا يَصْلُحُ
لِلذَّكَرِ وَالأُْنْثَى، هَذَا عَلَى سَبِيل الاِسْتِحْبَابِ؛ لأَِنَّهُ
يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال:
سَمُّوا أَسْقَاطَكُمْ، فَإِنَّهُمْ أَسْلاَفُكُمْ (2)
قِيل: إِنَّهُمْ إِنَّمَا يُسَمَّوْنَ لِيُدْعَوْا يَوْمَ الْقِيَامَةِ
بِأَسْمَائِهِمْ، فَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ هَل السِّقْطُ ذَكَرٌ أَوْ
أُنْثَى، سُمِّيَ اسْمًا يَصْلُحُ لَهُمَا جَمِيعًا، كَسَلَمَةَ
وَقَتَادَةَ وَسُعَادَ وَهِنْدٍ. وَنَحْوِ ذَلِكَ (3) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 362، وحاشية العدوي على شرح أبي الحسن لرسالة ابن
أبي زيد 1 / 525، وروضة الطالبين 3 / 232، وحاشية قليوبي 4 / 256، وتحفة
المحتاج 9 / 372، ومغني المحتاج 4 / 294 ط دار إحياء التراث العربي، ونهاية
المحتاج 8 / 139.
(2) حديث: " سموا أسقاطكم فإنهم. . . " ورد بلفظ: " سموا أسقاطكم فإنهم من
أفراطكم " ذكره صاحب كنز العمال وقال: ابن عساكر عن البختري بن عبيد عن
أبيه عن أبي هريرة، والبختري ضعيف. (الكنز 16 / 423 - ط الرسالة) .
(3) المغني لابن قدامة 2 / 523 ط الرياض.
(11/330)
د - تَسْمِيَةُ مَنْ مَاتَ بَعْدَ
الْوِلاَدَةِ
9 - يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّ مَنْ مَاتَ بَعْدَ الْوِلاَدَةِ، وَقَبْل
أَنْ يُسَمَّى، فَإِنَّهُ يُسَمَّى.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا: إِذَا اسْتَهَل صَارِخًا
فَإِنَّهُ يُعْطَى حُكْمَ الْكَبِيرِ، وَتَثْبُتُ لَهُ كَافَّةُ
الْحُقُوقِ. (1) وَتَسْمِيَةُ مَنْ مَاتَ بَعْدَ الْوِلاَدَةِ جَائِزَةٌ
عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. (2)
وَالشَّافِعِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّهُ يُسَمَّى إِذَا مَاتَ قَبْل تَمَامِ
السَّبْعِ، كَمَا قَال النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ.
وَقَال صَاحِبُ مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: لَوْ مَاتَ قَبْل التَّسْمِيَةِ
اسْتُحِبَّ تَسْمِيَتُهُ. (3)
وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُمْ يُجِيزُونَ تَسْمِيَةَ مَنْ
مَاتَ بَعْدَ الْوِلاَدَةِ؛ لأَِنَّهُمْ يُجِيزُونَ تَسْمِيَةَ السِّقْطِ،
وَيَقُولُونَ: إِنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ، فَعَلَى هَذَا تَسْمِيَةُ مَنْ
مَاتَ بَعْدَ الْوِلاَدَةِ جَائِزَةٌ عِنْدَهُمْ، بَل أَوْلَى (4) .
مَا تُسْتَحَبُّ التَّسْمِيَةُ بِهِ مِنَ الأَْسْمَاءِ:
10 - الأَْصْل جَوَازُ التَّسْمِيَةِ بِأَيِّ اسْمٍ إِلاَّ مَا وَرَدَ
النَّهْيُ عَنْهُ مِمَّا سَيَأْتِي.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 141، 5 / 268.
(2) مواهب الجليل 3 / 256، وجواهر الإكليل 1 / 224 ط دار المعرفة، وحاشية
العدوي على شرح الرسالة 1 / 525.
(3) روضة الطالبين 3 / 232، ومغني المحتاج 4 / 294.
(4) المغني لابن قدامة 2 / 523.
(11/331)
وَتُسْتَحَبُّ التَّسْمِيَةُ بِكُل اسْمٍ
مُعَبَّدٍ مُضَافٍ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أَوْ إِلَى أَيِّ
اسْمٍ مِنَ الأَْسْمَاءِ الْخَاصَّةِ بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأَِنَّ
الْفُقَهَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى اسْتِحْسَانِ التَّسْمِيَةِ بِهِ.
وَأَحَبُّ الأَْسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ
الرَّحْمَنِ.
وَقَال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: أَحَبُّهَا إِلَى اللَّهِ أَسْمَاءُ
الأَْنْبِيَاءِ. (1)
وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ يَدُل عَلَى أَنَّ أَحَبَّ الأَْسْمَاءِ إِلَيْهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ. وَيَدُل
لِذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِنَّ أَحَبَّ أَسْمَائِكُمْ إِلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ. (2)
وَلِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي الْجُشَمِيِّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: تَسَمُّوا بِأَسْمَاءِ الأَْنْبِيَاءِ، وَأَحَبُّ الأَْسْمَاءِ
إِلَى اللَّهِ: عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَصْدَقُهَا:
حَارِثٌ وَهَمَّامٌ، وَأَقْبَحُهَا: حَرْبٌ وَمُرَّةٌ. (3)
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ فِي حَاشِيَتِهِ نَقْلاً عَنِ الْمُنَاوِيِّ:
إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ أَفْضَل مُطْلَقًا حَتَّى مِنْ
__________
(1) تحفة المودود ص 89.
(2) حديث: " أحب أسمائكم إلى الله. . . " أخرجه مسلم (3 / 1682 - ط الحلبي)
.
(3) حديث: " تسموا بأسماء الأنبياء. . . " أخرجه أبو داود (5 / 237 - تحقيق
عزت عبيد دعاس) وأعله ابن القطان كما في فيض القدير للمناوي (3 / 246 - ط
المكتبة التجارية) .
(11/331)
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَفْضَل
الأَْسْمَاءِ بَعْدَهُمَا مُحَمَّدٌ ثُمَّ أَحْمَدُ ثُمَّ إِبْرَاهِيمُ.
(1)
وَالْجُمْهُورُ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّسْمِيَةِ بِكُل مُعَبَّدٍ مُضَافٍ
إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَعَبْدِ اللَّهِ، أَوْ مُضَافٍ
إِلَى اسْمٍ خَاصٍّ بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ
وَعَبْدِ الْغَفُورِ. (2)
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَهُمْ مَعَ الْجُمْهُورِ فِي أَنَّ أَحَبَّ
الأَْسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ: عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، إِلاَّ
أَنَّ صَاحِبَ الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ قَال: وَلَكِنَّ التَّسْمِيَةَ
بِغَيْرِ هَذِهِ الأَْسْمَاءِ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَوْلَى؛ لأَِنَّ
الْعَوَامَّ يُصَغِّرُونَهَا لِلنِّدَاءِ. (3)
وَذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الدُّرِّ الْمُخْتَارِ
أَنَّ أَفْضَلِيَّةَ التَّسْمِيَةِ بِعَبْدِ اللَّهِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ
لَيْسَتْ مُطْلَقَةً فَإِنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ أَرَادَ
التَّسْمِيَةَ بِالْعُبُودِيَّةِ؛ لأَِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ عَبْدَ
شَمْسٍ وَعَبْدَ الدَّارِ، فَجَاءَتِ الأَْفْضَلِيَّةُ، فَهَذَا لاَ
يُنَافِي أَنَّ اسْمَ مُحَمَّدٍ وَأَحْمَدَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى
مِنْ جَمِيعِ الأَْسْمَاءِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَخْتَرْ لِنَبِيِّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلاَّ مَا هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ، هَذَا هُوَ
الصَّوَابُ. (4)
وَلاَ يَجُوزُ تَغْيِيرُ اسْمِ اللَّهِ بِالتَّصْغِيرِ فِيمَا هُوَ
مُضَافٌ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَهَذَا مُشْتَهَرٌ فِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 268.
(2) مواهب الجليل 3 / 256، وتحفة المحتاج 9 / 373، وكشاف القناع 3 / 26.
(3) الفتاوى الهندية 5 / 362.
(4) حاشية ابن عابدين 5 / 268.
(11/332)
زَمَانِنَا حَيْثُ يُنَادُونَ مَنِ اسْمُهُ
عَبْدُ الرَّحِيمِ وَعَبْدُ الْكَرِيمِ أَوْ عَبْدُ الْعَزِيزِ مَثَلاً،
فَيَقُولُونَ: رُحَيِّمٌ وَكُرَيِّمٌ وَعُزَيِّزٌ بِتَشْدِيدِ يَاءِ
التَّصْغِيرِ، وَمَنِ اسْمُهُ عَبْدُ الْقَادِرِ قُوَيْدِرٌ وَهَذَا مَعَ
قَصْدِهِ كُفْرٌ.
فَفِي الْمُنْيَةِ: مَنْ أَلْحَقَ التَّصْغِيرَ فِي آخِرِ اسْمِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ أَوْ نَحْوِهِ - مِمَّا أُضِيفَ إِلَى وَاحِدٍ مِنَ
الأَْسْمَاءِ الْحُسْنَى - إِنْ قَال ذَلِكَ عَمْدًا قَاصِدًا التَّحْقِيرَ
كَفَرَ، وَإِنْ لَمْ يَدْرِ مَا يَقُول وَلاَ قَصْدَ لَهُ لَمْ يُحْكَمْ
بِكُفْرِهِ، وَمَنْ سَمِعَ مِنْهُ ذَلِكَ يَحِقُّ عَلَيْهِ أَنْ
يُعَلِّمَهُ، وَبَعْضُهُمْ يَقُول: رَحْمُونٌ لِمَنِ اسْمُهُ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ. (1)
11 - وَأَمَّا التَّسْمِيَةُ بِأَسْمَاءِ الأَْنْبِيَاءِ فَقَدِ اخْتَلَفَ،
الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهَا، فَذَهَبَ الأَْكْثَرُونَ إِلَى عَدَمِ
الْكَرَاهَةِ، وَهُوَ الصَّوَابُ.
قَال صَاحِبُ تُحْفَةِ الْمُحْتَاجِ: وَلاَ تُكْرَهُ التَّسْمِيَةُ بِاسْمِ
نَبِيٍّ أَوْ مَلَكٍ، بَل جَاءَ فِي التَّسْمِيَةِ بِاسْمِ نَبِيِّنَا
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَضَائِل. (2) وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ
الْعُتْبِيُّ أَنَّ أَهْل مَكَّةَ يَتَحَدَّثُونَ: مَا مِنْ بَيْتٍ فِيهِ
اسْمُ مُحَمَّدٍ إِلاَّ رَأَوْا خَيْرًا وَرُزِقُوا. (3)
وَذَكَرَ صَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ
يَحْسُنُ التَّسْمِيَةُ بِأَسْمَاءِ الأَْنْبِيَاءِ. (4)
__________
(1) نفس المرجع.
(2) تحفة المحتاج 9 / 373.
(3) مواهب الجليل 3 / 256.
(4) كشاف القناع 3 / 26، وتحفة المودود ص 100.
(11/332)
بَل قَال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، كَمَا
تَقَدَّمَ النَّقْل عَنْهُ: إِنَّهَا أَحَبُّ الأَْسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ.
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى كَرَاهَةِ التَّسْمِيَةِ بِأَسْمَاءِ
الأَْنْبِيَاءِ، وَقَدْ نُسِبَ هَذَا الْقَوْل إِلَى عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَال صَاحِبُ تُحْفَةِ الْمَوْدُودِ: وَلَعَل صَاحِبَ هَذَا الْقَوْل
قَصَدَ صِيَانَةَ أَسْمَائِهِمْ عَنِ الاِبْتِذَال وَمَا يَعْرِضُ لَهَا
مِنْ سُوءِ الْخِطَابِ، عِنْدَ الْغَضَبِ وَغَيْرِهِ.
وَقَال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: أَحَبُّ الأَْسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ
أَسْمَاءُ الأَْنْبِيَاءِ. وَفِي تَارِيخِ ابْنِ خَيْثَمَةَ: أَنَّ
طَلْحَةَ كَانَ لَهُ عَشَرَةٌ مِنَ الْوَلَدِ، كُلٌّ مِنْهُمُ اسْمُهُ
اسْمُ نَبِيٍّ، وَكَانَ لِلزُّبَيْرِ عَشَرَةٌ كُلُّهُمْ تَسَمَّى بِاسْمِ
شَهِيدٍ، فَقَال لَهُ طَلْحَةُ: أَنَا سَمَّيْتُهُمْ بِأَسْمَاءِ
الأَْنْبِيَاءِ، وَأَنْتَ تُسَمِّيهِمْ بِأَسْمَاءِ الشُّهَدَاءِ، فَقَال
لَهُ الزُّبَيْرُ: فَإِنِّي أَطْمَعُ أَنْ يَكُونَ بَنِيَّ شُهَدَاءَ،
وَلاَ تَطْمَعُ أَنْ يَكُونَ بَنُوكَ أَنْبِيَاءَ (1) .
وَيَدُل عَلَى جَوَازِ التَّسْمِيَةِ بِأَسْمَاءِ الأَْنْبِيَاءِ مَا
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي الْجُشَمِيِّ قَال: قَال
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَسَمُّوا بِأَسْمَاءِ
الأَْنْبِيَاءِ. (2) وَيَدُل عَلَى جَوَازِ التَّسْمِيَةِ بِاسْمِ
نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) تحفة المودود ص 100 - 101.
(2) حديث: " تسموا بأسماء الأنبياء. . . " تقدم تخريجه ف / 10.
(11/333)
مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي
صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: وُلِدَ لِرَجُلٍ
مِنَّا غُلاَمٌ فَسَمَّاهُ الْقَاسِمُ، فَقَالُوا: لاَ نُكَنِّيهِ حَتَّى
نَسْأَل النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: سَمُّوا
بِاسْمِي وَلاَ تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي (1) .
مَا تُكْرَهُ التَّسْمِيَةُ بِهِ مِنَ الأَْسْمَاءِ:
12 - تُكْرَهُ تَنْزِيهًا التَّسْمِيَةُ بِكُل اسْمٍ يُتَطَيَّرُ
بِنَفْيِهِ، كَرَبَاحٍ وَأَفْلَحَ وَنَجَاحٍ وَيَسَارٍ وَمَا أَشْبَهَ
ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذِهِ الأَْسْمَاءَ وَمَا أَشْبَهَهَا يُتَطَيَّرُ
بِنَفْيِهَا، فِيمَا لَوْ سُئِل شَخْصٌ سَمَّى ابْنَهُ رَبَاحًا:
أَعِنْدَكَ رَبَاحٌ؟ فَيَقُول: لَيْسَ فِي الْبَيْتِ رَبَاحٌ، فَإِنَّ
ذَلِكَ يَكُونُ طَرِيقًا لِلتَّشَاؤُمِ. (2)
هَذَا وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: لاَ تُسَمِّينَ غُلاَمَكِ يَسَارًا وَلاَ رَبَاحًا وَلاَ
نَجِيحًا وَلاَ أَفْلَحَ، فَإِنَّكَ تَقُول: أَثَمَّ هُوَ؟ فَلاَ يَكُونُ،
فَيَقُول: لاَ (3)
إِلاَّ أَنَّ ذَلِكَ لاَ يَحْرُمُ لِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) فتح الباري 10 / 571.
(2) الفتوحات الربانية شرح الأذكار النواوية 6 / 110 ط المكتبة الإسلامية،
وابن عابدين 5 / 268، ونهاية المحتاج 8 / 139، ومطالب أولي النهى 2 / 494.
(3) حديث: " لا تسمين غلامك يسارا. . . " أخرجه مسلم (3 / 1685 - ط الحلبي)
.
(11/333)
إِنَّ الآْذِنَ عَلَى مَشْرَبَةِ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدٌ يُقَال لَهُ: رَبَاحٌ
(1)
وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرَادَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ يَنْهَى عَنْ أَنْ يُسَمَّى بِيَعْلَى وَبِبَرَكَةٍ
وَبِأَفْلَحَ وَبِيَسَارٍ وَبِنَافِعٍ وَبِنَحْوِ ذَلِكَ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ
بَعْدُ سَكَتَ عَنْهَا، فَلَمْ يَقُل شَيْئًا، ثُمَّ قُبِضَ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَنْهَ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ
أَرَادَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ ثُمَّ
تَرَكَهُ.
وَتُكْرَهُ التَّسْمِيَةُ أَيْضًا بِالأَْسْمَاءِ الَّتِي تَكْرَهُهَا
النُّفُوسُ وَتَشْمَئِزُّ مِنْهَا كَحَرْبٍ وَمُرَّةَ وَكَلْبٍ وَحَيَّةَ
(2) .
وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِمَنْعِ التَّسْمِيَةِ بِكُل اسْمٍ
قَبِيحٍ.
قَال صَاحِبُ مَوَاهِبِ الْجَلِيل: يُمْنَعُ بِمَا قَبُحَ كَحَرْبٍ
وَحُزْنٍ وَضِرَارٍ. (3)
وَقَال صَاحِبُ مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: تُكْرَهُ الأَْسْمَاءُ الْقَبِيحَةُ،
كَشَيْطَانٍ وَظَالِمٍ وَشِهَابٍ وَحِمَارٍ وَكَلْبٍ. إِلَخْ. (4)
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ تُكْرَهُ تَسْمِيَتُهُ بِأَسْمَاءِ
الْجَبَابِرَةِ كَفِرْعَوْنَ وَأَسْمَاءِ الشَّيَاطِينِ. وَجَاءَ فِي
مَطَالِبِ
__________
(1) حديث: " إن الآذن. . . " أخرجه مسلم (2 / 1106 - ط الحلبي) من حديث عمر
بن الخطاب رضي الله عنه. وانظر مطالب أولي النهى 2 / 494، 495.
(2) شرح الأذكار 6 / 111.
(3) مواهب الجليل 3 / 256.
(4) مغني المحتاج 4 / 294.
(11/334)
أُولِي النُّهَى كَرَاهِيَةُ التَّسْمِيَةِ
بِحَرْبٍ (1) .
هَذَا، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَكْرَهُ
الاِسْمَ الْقَبِيحَ لِلأَْشْخَاصِ وَالأَْمَاكِنِ وَالْقَبَائِل
وَالْجِبَال.
أَخْرَجَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِلِقْحَةٍ تُحْلَبُ: مَنْ
يَحْلُبُ هَذِهِ؟ فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا اسْمُكَ، فَقَال لَهُ الرَّجُل: مُرَّةُ.
فَقَال لَهُ رَسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْلِسْ. ثُمَّ
قَال: مَنْ يَحْلُبُ هَذِهِ؟ فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا اسْمُكَ؟ ، فَقَال: حَرْبٌ. فَقَال
لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْلِسْ. ثُمَّ
قَال: مَنْ يَحْلُبُ هَذِهِ؟ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا اسْمُكَ؟ فَقَال: يَعِيشُ، فَقَال
لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: احْلُبْ. (2)
: التَّسْمِيَةُ بِأَسْمَاءِ الْمَلاَئِكَةِ
13 - ذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ بِأَسْمَاءِ
الْمَلاَئِكَةِ كَجِبْرِيل وَمِيكَائِيل لاَ تُكْرَهُ.
وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى كَرَاهَةِ التَّسْمِيَةِ بِذَلِكَ، قَال
__________
(1) مطالب أولي النهى 2 / 494، 495، وكشاف القناع 3 / 28.
(2) حديث: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للقحة تحلب. . . " أخرجه
مالك في الموطأ (2 / 973 - ط الحلبي) مرسلا، وله شاهد من حديث يعيش
الغفاري، وإسناده صحيح. (الإصابة لابن حجر 3 / 669 - ط مطبعة السعادة) .
وانظر تنوير الحوالك شرح موطأ مالك 3 / 140، 141، ط المشهد الحسيني
(11/334)
أَشْهَبُ: سُئِل مَالِكٌ عَنِ التَّسَمِّي
بِجِبْرِيل، فَكَرِهَ ذَلِكَ وَلَمْ يُعْجِبْهُ. وَقَال الْقَاضِي عِيَاضٌ:
قَدِ اسْتَظْهَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ التَّسَمِّيَ بِأَسْمَاءِ
الْمَلاَئِكَةِ، وَهُوَ قَوْل الْحَارِثِ بْنِ مِسْكِينٍ، وَأَبَاحَ ذَلِكَ
غَيْرُهُ. (1)
مَا تَحْرُمُ التَّسْمِيَةُ بِهِ مِنَ الأَْسْمَاءِ:
14 - تَحْرُمُ التَّسْمِيَةُ بِكُل اسْمٍ خَاصٍّ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى، كَالْخَالِقِ وَالْقُدُّوسِ، أَوْ بِمَا لاَ يَلِيقُ إِلاَّ
بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَمَلِكِ الْمُلُوكِ وَسُلْطَانِ
السَّلاَطِينِ وَحَاكِمِ الْحُكَّامِ، وَهَذَا كُلُّهُ مَحَل اتِّفَاقٍ
بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. (2)
وَأَوْرَدَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِيمَا هُوَ خَاصٌّ بِاللَّهِ تَعَالَى:
الأَْحَدُ، وَالصَّمَدُ، وَالْخَالِقُ، وَالرَّازِقُ، وَالْجَبَّارُ،
وَالْمُتَكَبِّرُ، وَالأَْوَّل، وَالآْخِرُ، وَالْبَاطِنُ، وَعَلاَّمُ
الْغُيُوبِ. (3)
هَذَا، وَمِمَّا يَدُل عَلَى حُرْمَةِ التَّسْمِيَةِ بِالأَْسْمَاءِ
الْخَاصَّةِ بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَمَلِكِ الْمُلُوكِ مَثَلاً: مَا
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - وَلَفْظُهُ فِي الْبُخَارِيِّ - قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَخْنَى الأَْسْمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
__________
(1) تحفة المودود ص 94، ومغني المحتاج 4 / 259.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 268، ومواهب الجليل 3 / 256، ومغني المحتاج 4 /
294، 295، وكشاف القناع 3 / 26، 27.
(3) تحفة المودود ص 98.
(11/335)
عِنْدَ اللَّهِ رَجُلٌ تَسَمَّى مَلِكَ
الأَْمْلاَكِ (1)
وَلَفْظُهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَغْيَظُ رَجُلٍ عَلَى اللَّهِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، أَخْبَثُهُ وَأَغْيَظُهُ عَلَيْهِ: رَجُلٌ كَانَ يُسَمَّى
مَلِكَ الأَْمْلاَكِ، لاَ مَلِكَ إِلاَّ اللَّهُ (2)
وَأَمَّا التَّسْمِيَةُ بِالأَْسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ الَّتِي تُطْلَقُ
عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَعَلَى غَيْرِهِ فَيَجُوزُ التَّسَمِّي
بِهَا كَعَلِيٍّ وَرَشِيدٍ وَبَدِيعٍ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَظَاهِرُهُ الْجَوَازُ وَلَوْ مُعَرَّفًا بِأَل.
قَال الْحَصْكَفِيُّ: وَيُرَادُ فِي حَقِّنَا غَيْرُ مَا يُرَادُ فِي حَقِّ
اللَّهِ تَعَالَى. (3)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: تَحْرُمُ التَّسْمِيَةُ بِالأَْسْمَاءِ الَّتِي لاَ
تَلِيقُ إِلاَّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَسَيِّدِ
وَلَدِ آدَمَ، وَسَيِّدِ النَّاسِ، وَسَيِّدِ الْكُل؛ لأَِنَّ هَذِهِ
الأَْسْمَاءَ كَمَا ذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ لاَ تَلِيقُ إِلاَّ بِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (4)
وَتَحْرُمُ التَّسْمِيَةُ بِكُل اسْمٍ مُعَبَّدٍ مُضَافٍ إِلَى غَيْرِ
اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَعَبْدِ الْعُزَّى، وَعَبْدِ الْكَعْبَةِ،
وَعَبْدِ الدَّارِ، وَعَبْدِ عَلِيٍّ، وَعَبْدِ الْحُسَيْنِ، أَوْ عَبْدِ
فُلاَنٍ. إِلَخْ.
كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
__________
(1) حديث: " أخنى الأسماء يوم القيامة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 /
588 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1688 - ط الحلبي) ولفظ مسلم: " أخنع اسم ".
(2) حديث: " أغيظ رجل على الله يوم القيامة. . . " أخرجه مسلم (3 / 1688 -
ط الحلبي) .
(3) تحفة المودود ص 100، وحاشية ابن عابدين 5 / 268، والفتاوى الهندية 5 /
362، ومواهب الجليل 3 / 257.
(4) كشاف القناع 3 / 27، ومطالب أولي النهى 2 / 494.
(11/335)
فَقَدْ جَاءَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ
عَابِدِينَ: بِأَنَّهُ لاَ يُسَمِّيهِ عَبْدَ فُلاَنٍ.
وَجَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ التَّسَمِّي
بِعَبْدِ الْكَعْبَةِ وَعَبْدِ الْعُزَّى.
وَجَاءَ فِي تُحْفَةِ الْمُحْتَاجِ حُرْمَةُ التَّسْمِيَةِ بِعَبْدِ
النَّبِيِّ أَوْ عَبْدِ الْكَعْبَةِ أَوْ عَبْدِ الدَّارِ أَوْ عَبْدِ
عَلِيٍّ أَوْ عَبْدِ الْحُسَيْنِ لإِِيهَامِ التَّشْرِيكِ. وَمِنْهُ
يُؤْخَذُ حُرْمَةُ التَّسْمِيَةِ بِجَارِ اللَّهِ وَرَفِيقِ اللَّهِ
وَنَحْوِهِمَا لإِِيهَامِهِ الْمَحْذُورَ.
وَجَاءَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ مَا نَصُّهُ: اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ
كُل اسْمٍ مُعَبَّدٍ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَعَبْدِ الْعُزَّى،
وَعَبْدِ عَمْرٍو، وَعَبْدِ عَلِيٍّ، وَعَبْدِ الْكَعْبَةِ، وَمَا أَشْبَهَ
ذَلِكَ، وَمِثْلُهُ عَبْدُ النَّبِيِّ، وَعَبْدُ الْحُسَيْنِ، وَعَبْدُ
الْمَسِيحِ (1) .
هَذَا، وَالدَّلِيل عَلَى تَحْرِيمِ التَّسْمِيَةِ بِكُل مُعَبَّدٍ مُضَافٍ
إِلَى غَيْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي
شَيْبَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْمِقْدَامِ بْنِ شُرَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
جَدِّهِ هَانِئِ بْنِ يَزِيدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: وَفَدَ عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمٌ، فَسَمِعَهُمْ
يُسَمُّونَ: عَبْدَ الْحَجَرِ، فَقَال لَهُ: مَا اسْمُكَ؟ فَقَال: عَبْدُ
الْحَجَرِ، فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنَّمَا أَنْتَ عَبْدُ اللَّهِ. (2)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 268، ومغني المحتاج 4 / 295، وتحفة المحتاج 10 /
373، وكشاف القناع 3 / 27، وتحفة المودود ص 90.
(2) حديث: " إنما أنت عبد الله. . . " أخرجه ابن أبي شيبة (8 / 665 - ط دار
السلفية - بمبي) وإسناده صحيح. (الإصابة لابن حجر 3 / 596 - ط مطبعة
السعادة) .
(11/336)
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: فَإِنْ قِيل:
كَيْفَ يَتَّفِقُونَ عَلَى تَحْرِيمِ الاِسْمِ الْمُعَبَّدِ لِغَيْرِ
اللَّهِ، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَال: تَعِسَ
عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ،
تَعِسَ عَبْدُ الْقَطِيفَةِ (1) وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: أَنَا
النَّبِيُّ لاَ كَذِبَ. . . أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ (2)
فَالْجَوَابُ: أَمَّا قَوْلُهُ: تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، فَلَمْ يُرِدْ
بِهِ الاِسْمَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْوَصْفَ وَالدُّعَاءَ عَلَى مَنْ
تَعَبَّدَ قَلْبُهُ لِلدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، فَرَضِيَ
بِعُبُودِيَّتِهِمَا عَنْ عُبُودِيَّةِ رَبِّهِ تَعَالَى، وَذَكَرَ
الأَْثْمَانَ وَالْمَلاَبِسَ وَهُمَا جَمَال الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَهَذَا لَيْسَ مِنْ
بَابِ إِنْشَاءِ التَّسْمِيَةِ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ
الإِْخْبَارِ بِالاِسْمِ الَّذِي عُرِفَ بِهِ الْمُسَمَّى دُونِ غَيْرِهِ،
وَالإِْخْبَارُ بِمِثْل ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ تَعْرِيفِ الْمُسَمَّى لاَ
يَحْرُمُ فَبَابُ الإِْخْبَارِ أَوْسَعُ مِنْ بَابِ الإِْنْشَاءِ. (3)
__________
(1) حديث: " تعس عبد الدينار. . . " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 253 - ط
السلفية) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) حديث: " أنا النبي لا كذب. . . " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 69 - ط
السلفية) ومسلم (3 / 2400 - ط الحلبي) من حديث البراء بن عازب رضي الله
عنه.
(3) تحفة المودود ص 90، 91، وكشاف القناع 3 / 27.
(11/336)
تَغْيِيرُ الاِسْمِ وَتَحْسِينُهُ
15 - يَجُوزُ تَغْيِيرُ الاِسْمِ عُمُومًا وَيُسَنُّ تَحْسِينُهُ،
وَيُسَنُّ تَغْيِيرُ الاِسْمِ الْقَبِيحِ إِلَى الْحَسَنِ، فَقَدْ أَخْرَجَ
أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكُمْ
تُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَسْمَائِكُمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِكُمْ
فَأَحْسِنُوا أَسْمَاءَكُمْ (1)
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ: أَنَّ ابْنَةً لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَتْ يُقَال
لَهَا: عَاصِيَةٌ، فَسَمَّاهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ جَمِيلَةً. (2)
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ
جُبَيْرِ بْنِ شَيْبَةَ قَال: " جَلَسْتُ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ
فَحَدَّثَنِي أَنَّ جَدَّهُ حَزَنًا قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: مَا اسْمُكَ؟ قَال: اسْمِي حَزْنٌ،
قَال: بَل أَنْتَ سَهْلٌ، قَال: مَا أَنَا بِمُغَيِّرٍ اسْمًا سَمَّانِيهِ
أَبِي. قَال ابْنُ الْمُسَيِّبِ: فَمَا زَالَتْ فِينَا الْحُزُونَةُ بَعْدُ
(3)
وَقَدْ غَيَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الاِسْمَ
الَّذِي يَدُل عَلَى
__________
(1) حديث: " إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم. . . " أخرجه أبو داود (5 /
236 تحقيق عزت عبيد دعاس) وفي إسناده انقطاع بين أبي الدرداء وبين الراوي
عنه. (مختصر السنن للمنذري 7 / 251 - نشر دار المعرفة) .
(2) حديث: " إن ابنة لعمر. . . " أخرجه مسلم (3 / 1687 - ط الحلبي) .
(3) حديث: " بل أنت سهل " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 575 - ط السلفية) .
(11/337)
التَّزْكِيَةِ إِلَى غَيْرِهِ، فَقَدْ
غَيَّرَ اسْمَ بَرَّةٍ إِلَى جُوَيْرِيَةَ أَوْ زَيْنَبَ. (1)
وَقَال أَبُو دَاوُدَ: وَغَيَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ اسْمَ الْعَاصِ وَعَزِيزٍ وَعَتَلَةَ وَشَيْطَانٍ وَالْحَكَمِ
وَغُرَابٍ وَحُبَابٍ وَشِهَابٍ فَسَمَّاهُ: هِشَامًا، وَسَمَّى حَرْبًا:
سِلْمًا، وَسَمَّى الْمُضْطَجِعَ: الْمُنْبَعِثَ، وَأَرْضًا تُسَمَّى
عَفْرَةً سَمَّاهَا: خَضِرَةً، وَشِعْبُ الضَّلاَلَةِ سَمَّاهُ: شِعْبَ
الْهُدَى، وَبَنُو الزِّنْيَةِ سَمَّاهُمْ: بَنِي الرِّشْدَةِ، وَسَمَّى
بَنِي مَغْوِيَّةَ: بَنِي رِشْدَةَ. (2)
هَذَا وَالْفُقَهَاءُ لاَ يَخْتَلِفُونَ فِي جَوَازِ تَغْيِيرِ الاِسْمِ
إِلَى اسْمٍ آخَرَ، وَفِي أَنَّ تَغْيِيرَ الاِسْمِ الْقَبِيحِ إِلَى
الْحَسَنِ هُوَ مِنَ الأُْمُورِ الْمَطْلُوبَةِ الَّتِي حَثَّ عَلَيْهَا
الشَّرْعُ.
وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ التَّسْمِيَةَ بِأَكْثَرَ مِنَ اسْمٍ (3) .
نِدَاءُ الزَّوْجِ وَالأَْبِ وَنَحْوِهِمَا بِالاِسْمِ الْمُجَرَّدِ:
16 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَدْعُوَ الرَّجُل
أَبَاهُ،
__________
(1) حديث: " أنه غير اسم برة إلى جويرية " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 575 -
ط السلفية) ومسلم (3 / 1687 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " تغييره لعدة أسماء. . . " ذكره أبو داود في سننه (5 / 241 -
تحقيق عزت عبيد دعاس) وقال تركت أسانيدها للاختصار. وتنظر شروح أبي داود
مثل عون المعبود (13 / 298 - 299 - ط السلفية) .
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 268، ومواهب الجليل 3 / 256، ومغني المحتاج 4 /
294، وكشاف القناع 3 / 26 - 28.
(11/337)
وَأَنْ تَدْعُوَ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا
بِاسْمِهِ، بَل لاَ بُدَّ مِنْ لَفْظٍ يُفِيدُ التَّعْظِيمَ لِمَزِيدِ
حَقِّهِمَا عَلَى الْوَلَدِ وَالزَّوْجَةِ. وَلَيْسَ هَذَا مِنَ
التَّزْكِيَةِ؛ لأَِنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى الْمَدْعُوِّ بِأَنْ يَصِفَ
نَفْسَهُ بِمَا يُفِيدُهَا، لاَ إِلَى الدَّاعِي الْمَطْلُوبِ مِنْهُ
التَّأَدُّبُ مَعَ مَنْ هُوَ فَوْقَهُ. (1)
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ كَمَا جَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ وَغَيْرِهِ
مِنْ كُتُبِهِمْ: أَنَّهُ يُسَنُّ لِوَلَدِ الشَّخْصِ وَتِلْمِيذِهِ
وَغُلاَمِهِ أَنْ لاَ يُسَمِّيَهُ بِاسْمِهِ. (2)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ - كَمَا جَاءَ فِي مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى -
إِلَى أَنَّهُ لاَ يَقُول السَّيِّدُ لِرَقِيقِهِ: يَا عَبْدِي،
وَلأَِمَتِهِ يَا أَمَتِي، لإِِشْعَارِهِ بِالتَّكَبُّرِ وَالاِفْتِخَارِ
الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ لاَ يَقُول الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ: يَا
رَبِّي، وَلاَ يَا مَوْلاَيَ لِمَا فِيهِ مِنَ الإِْيهَامِ. (3)
تَسْمِيَةُ الأَْشْيَاءِ بِأَسْمَاءِ الْحَيَوَانِ:
17 - قَال الرَّحِيبَانِيُّ: وَلاَ بَأْسَ بِتَسْمِيَةِ النُّجُومِ
بِالأَْسْمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ نَحْوُ: حَمَلٍ وَثَوْرٍ وَجَدْيٍ؛
لأَِنَّهَا أَسْمَاءُ أَعْلاَمٍ، وَاللُّغَةُ وَضْعُ لَفْظٍ دَلِيلاً عَلَى
مَعْنًى، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهَا هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ حَتَّى
يَكُونَ ذَلِكَ كَذِبًا، بَل وَضْعُ هَذِهِ الأَْلْفَاظِ لِتِلْكَ
الْمَعَانِي تَوَسُّعٌ وَمَجَازٌ، كَمَا سَمَّوْا فِي اللُّغَةِ الْكَرِيمَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 269.
(2) مغني المحتاج 4 / 295، وحاشية الشرواني على تحفة المحتاج 9 / 374،
وروضة الطالبين 3 / 235.
(3) مطالب أولي النهى 2 / 496.
(11/338)
بَحْرًا، لَكِنِ اسْتِعْمَال الْبَحْرِ
لِلْكَرِيمِ مَجَازٌ، بِخِلاَفِ اسْتِعْمَال تِلْكَ الأَْسْمَاءِ فِي
النُّجُومِ، فَإِنَّهَا حَقِيقَةٌ، وَالتَّوَسُّعُ فِي التَّسْمِيَةِ
فَقَطْ.
وَلاَ يَخْفَى أَنَّ مِثْل تَسْمِيَةِ النُّجُومِ فِي الْحُكْمِ تَسْمِيَةُ
النَّاسِ بِأَسْمَاءِ الْحَيَوَانِ، مَا لَمْ يَكُنْ قَبِيحًا فَقَدْ
تَقَدَّمَ حُكْمُهُ. (1)
تَسْمِيَةُ الأَْدَوَاتِ وَالدَّوَابِّ وَالْمَلاَبِسِ
18 - ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّهُ يَجُوزُ تَسْمِيَةُ الأَْدَوَاتِ
وَالدَّوَابِّ وَالْمَلاَبِسِ بِأَسْمَاءٍ خَاصَّةٍ بِهَا تُمَيِّزُهَا
عَنْ مَثِيلاَتِهَا أُسْوَةً بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَدْ كَانَ لِسُيُوفِهِ وَدُرُوعِهِ وَرِمَاحِهِ وَقِسِيِّهِ
وَحِرَابِهِ وَبَعْضِ أَدَوَاتِهِ وَدَوَابِّهِ وَمَلاَبِسِهِ أَسْمَاءٌ
خَاصَّةٌ: فَمِنْ أَسْمَاءِ سُيُوفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(مَأْثُورٌ) وَهُوَ أَوَّل سَيْفٍ مَلَكَهُ، وَرِثَهُ مِنْ أَبِيهِ، وَ
(ذُو الْفِقَارِ) بِكَسْرِ الْفَاءِ وَفَتْحِهَا وَهُوَ سَيْفٌ تَنَفَّلَهُ
يَوْمَ بَدْرٍ. وَمِنْ أَسْمَاءِ دُرُوعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (ذَاتُ الْفُضُول) وَهِيَ الَّتِي رَهَنَهَا عِنْدَ أَبِي
الشَّحْمِ الْيَهُودِيِّ عَلَى شَعِيرٍ لِعِيَالِهِ (وَذَاتُ الْوِشَاحِ)
(وَذَاتُ الْحَوَاشِي) . إِلَخْ.
وَمِنْ أَسْمَاءِ قِسِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(الزَّوْرَاءُ) (وَالرَّوْحَاءُ) . وَمِنْ أَسْمَاءِ تُرُوسِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الزُّلُوقُ) (وَالْفَتْقُ) . وَمِنْ أَسْمَاءِ
رِمَاحِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْمَثْوَى) . وَ
(الْمُثَنَّى) وَمِنْ أَسْمَاءِ حِرَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (النَّبْعَةُ) (وَالْبَيْضَاءُ) . وَكَانَتْ لَهُ رَايَةٌ
سَوْدَاءُ يُقَال لَهَا:
__________
(1) مطالب أولي النهى 2 / 495، وكشاف القناع 3 / 28.
(11/338)
الْعِقَابُ) وَفُسْطَاطٌ يُسَمَّى
(الْكِنَّ) وَمِخْصَرَةٌ تُسَمَّى (الْعُرْجُونَ) وَقَضِيبٌ مِنَ
الشَّوْحَطِ يُسَمَّى (الْمَمْشُوقَ) قِيل: وَهُوَ الَّذِي كَانَ
يَتَدَاوَلُهُ الْخُلَفَاءُ. وَمِنْ أَسْمَاءِ أَدَوَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي كَانَ يَسْتَعْمِلُهَا فِي بَيْتِهِ:
(الرَّيَّانُ) وَهُوَ اسْمٌ لِقَدَحٍ، (وَالصَّادِرُ) وَهُوَ اسْمٌ
لِرَكْوَةٍ، (وَتَوْرٌ) وَهُوَ إِنَاءٌ يَشْرَبُ فِيهِ، (وَالسَّعَةُ)
وَهُوَ اسْمٌ لِقَعْبٍ، (وَالْغَرَّاءُ) وَهُوَ اسْمٌ لِقَصْعَةٍ.
وَمِنْ أَسْمَاءِ دَوَابِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ
الْخَيْل (السَّكْبُ) (وَالْمُرْتَجِزُ) (وَاللَّحِيفُ) ، وَمِنَ الْبِغَال
(دُلْدُلٌ) (وَفِضَّةٌ) ، وَمِنَ الْحَمِيرِ (عَفِيرٌ) ، وَمِنَ الإِْبِل
(الْقَصْوَاءُ) (وَالْعَضْبَاءُ) .
وَمِنْ أَسْمَاءِ مَلاَبِسِهِ (السَّحَابُ) وَهُوَ اسْمٌ لِعِمَامَةٍ. (1)
تَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى بِغَيْرِ مَا وَرَدَ:
19 - يَقُول اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الأَْسْمَاءُ الْحُسْنَى
فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ
سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) فَهَذِهِ الآْيَةُ تَدُل عَلَى
أَنَّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَسْمَاءً خَاصَّةً يُسَمَّى بِهَا؛
لأَِنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {فَادْعُوهُ بِهَا} أَيْ سَمُّوهُ بِهَا
أَوْ نَادُوهُ بِتِلْكَ الأَْسْمَاءِ، فَالدُّعَاءُ الْمَذْكُورُ فِي
هَذِهِ الآْيَةِ كَمَا قَال صَاحِبُ رُوحِ الْمَعَانِي: إِمَّا مِنَ
الدَّعْوَةِ بِمَعْنَى
__________
(1) زاد المعاد 1 / 130 - 135 ط. المنار.
(2) سورة الأعراف / 180.
(11/339)
التَّسْمِيَةِ، كَقَوْلِهِمْ: دَعَوْتُهُ
زَيْدًا أَوْ بِزَيْدٍ أَيْ: سَمَّيْتُهُ. أَوْ مِنَ الدُّعَاءِ بِمَعْنَى
النِّدَاءِ كَقَوْلِهِمْ: دَعَوْتُ زَيْدًا أَيْ: نَادَيْتُهُ. (1)
قَال الأَْلُوسِيُّ: الإِْلْحَادُ فِي أَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
أَنْ يُسَمَّى بِمَا لاَ تَوْقِيفَ فِيهِ، أَوْ بِمَا يُوهِمَ مَعْنًى
فَاسِدًا، كَمَا فِي قَوْل أَهْل الْبَدْوِ فِي دُعَاءِ اللَّهِ: يَا أَبَا
الْمَكَارِمِ، يَا أَبْيَضَ الْوَجْهِ يَا سَخِيُّ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَنُقِل عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الأَْسْمَاءَ تَوْقِيفِيَّةٌ يُرَاعَى
فِيهَا مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ، وَأَنَّ
كُل اسْمٍ وَرَدَ فِي هَذِهِ الأُْصُول جَازَ إِطْلاَقُهُ عَلَيْهِ جَل
شَأْنُهُ، وَمَا لَمْ يَرِدْ فِيهَا لَمْ يَجُزْ وَإِنْ صَحَّ مَعْنَاهُ.
وَنُقِل ذَلِكَ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيِّ وَالآْمِدِيِّ (2) .
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّ الإِْلْحَادَ فِي أَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى يَكُونُ بِثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: بِالتَّغْيِيرِ فِيهَا كَمَا فَعَلَهُ الْمُشْرِكُونَ، وَذَلِكَ
أَنَّهُمْ عَدَلُوا بِهَا عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ، فَسَمُّوا بِهَا
أَوْثَانَهُمْ، فَاشْتَقُّوا اللاَّتَ مِنَ اللَّهِ، وَالْعُزَّى مِنَ
الْعَزِيزِ، وَمَنَاةَ مِنَ الْمَنَّانِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَقَتَادَةُ.
الثَّانِي: بِالزِّيَادَةِ فِيهَا.
الثَّالِثُ: بِالنُّقْصَانِ مِنْهَا، كَمَا يَفْعَلُهُ الْجُهَّال
__________
(1) روح المعاني 9 / 121، ط المنيرية.
(2) المرجع السابق.
(11/339)
الَّذِينَ يَخْتَرِعُونَ أَدْعِيَةً
يُسَمُّونَ فِيهَا اللَّهَ تَعَالَى بِغَيْرِ أَسْمَائِهِ، وَيَذْكُرُونَهُ
بِغَيْرِ مَا يُذْكَرُ مِنْ أَفْعَالِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لاَ
يَلِيقُ بِهِ.
وَنُقِل عَنِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ: أَنَّهُ لاَ يُدْعَى اللَّهُ إِلاَّ
بِمَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. (1)
وَقَال صَاحِبُ رُوحِ الْمَعَانِي: اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الإِْسْلاَمِ عَلَى
جَوَازِ إِطْلاَقِ الأَْسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَلَى الْبَارِي تَعَالَى
إِذَا وَرَدَ بِهِمَا الإِْذْنُ مِنَ الشَّارِعِ، وَعَلَى امْتِنَاعِهِ
إِذَا وَرَدَ الْمَنْعُ عَنْهُ. وَاخْتَلَفُوا حَيْثُ لاَ إِذْنَ وَلاَ
مَنْعَ فِي جَوَازِ إِطْلاَقِ مَا كَانَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُتَّصِفًا
بِمَعْنَاهُ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الأَْسْمَاءِ الأَْعْلاَمِ الْمَوْضُوعَةِ
فِي سَائِرِ اللُّغَاتِ، إِذْ لَيْسَ جَوَازُ إِطْلاَقِهَا عَلَيْهِ
تَعَالَى مَحَل نِزَاعٍ لأَِحَدٍ، وَلَمْ يَكُنْ إِطْلاَقُهُ مُوهِمًا
نَقْصًا، بَل كَانَ مُشْعِرًا بِالْمَدْحِ، فَمَنَعَهُ جُمْهُورُ أَهْل
الْحَقِّ مُطْلَقًا لِلْخَطَرِ، وَجَوَّزَهُ الْمُعْتَزِلَةُ مُطْلَقًا.
(2)
تَسْمِيَةُ الْمُحَرَّمَاتِ بِغَيْرِ أَسْمَائِهَا:
20 - إِذَا سُمِّيَتِ الْمُحَرَّمَاتُ بِغَيْرِ أَسْمَائِهَا
الْمَعْرُوفَةِ، وَهِيَ الَّتِي اقْتَرَنَ بِهَا التَّحْرِيمُ، بِأَنْ
سُمِّيَتْ بِأَسْمَاءَ أُخْرَى لَمْ يَقْتَرِنِ التَّحْرِيمُ بِهَا:
فَإِنَّ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ لاَ تُزِيل عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ صِفَةَ
الْحُرْمَةِ. مِثَال ذَلِكَ: الْخَمْرُ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى حَرَّمَهَا بِنَفْسِ هَذَا الاِسْمِ حَيْثُ قَال
__________
(1) القرطبي 7 / 328 ط. دار الكتب المصرية.
(2) روح المعاني 9 / 121.
(11/340)
سُبْحَانَهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَْنْصَابُ وَالأَْزْلاَمُ
رِجْسٌ مِنْ عَمَل الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
(1) فَلَوْ سُمِّيَتْ بِاسْمٍ آخَرَ مِنْ أَسْمَاءِ الأَْشْرِبَةِ
الْمُبَاحَةِ، فَإِنَّ تِلْكَ التَّسْمِيَةَ لاَ تُزِيل عَنْهَا صِفَةَ
الْحُرْمَةِ، لأَِنَّ الْعِلَّةَ - وَهِيَ الإِْسْكَارُ - لاَ تَزُول
بِتِلْكَ التَّسْمِيَةِ، وَهَذَا تَلاَعُبٌ بِالدِّينِ وَاحْتِيَالٌ
يَزِيدُ فِي إِثْمِ مُرْتَكِبِ الْحَرَامِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَبِي
مَرْيَمَ قَال: دَخَل عَلَيْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ
فَتَذَاكَرْنَا الطِّلاَءَ فَقَال: حَدَّثَنِي أَبُو مَالِكٍ
الأَْشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ
أُمَّتِي الْخَمْرَ، يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا. (2) وَالطِّلاَءُ
بِالْكَسْرِ وَالْمَدِّ: هُوَ الشَّرَابُ الَّذِي يُطْبَخُ حَتَّى يَذْهَبَ
ثُلُثَاهُ، وَكَانَ الْبَعْضُ يُسَمِّي الْخَمْرَ طِلاَءً. وَالْمُرَادُ
بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ
اسْمِهَا أَيْ: يَتَسَتَّرُونَ بِشُرْبِهَا بِأَسْمَاءِ الأَْنْبِذَةِ
الْمُبَاحَةِ كَمَاءِ الْعَسَل وَمَاءِ الذُّرَةِ
__________
(1) سورة المائدة / 90.
(2) حديث: " ليشربن أناس. . . " أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث
أبي مالك الأشعري مرفوعا، وفي إسناده مقال، وذكر له ابن حجر شواهد جيدة في
الفتح (عون المعبود 3 / 379) ط الهند وسنن ابن ماجه (2 / 1333 ط عيسى
الحلبي) ، ومسند أحمد بن حنبل (5 / 342 ط الميمنية) ، وفتح الباري (10 / 51
- 52 ط السلفية) .
(11/340)
وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ
غَيْرُ مُحَرَّمٍ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَهُمْ
فِيهِ كَاذِبُونَ؛ لأَِنَّ كُل مُسْكِرٍ حَرَامٌ، فَإِنَّ الْمَدَارَ عَلَى
حُرْمَةِ الْمُسْكِرِ، وَلِهَذَا لاَ يَضُرُّ شُرْبُ الْقَهْوَةِ
الْمَأْخُوذَةِ مِنَ الْبُنِّ حَيْثُ لاَ سُكْرَ فِيهَا مَعَ الإِْكْثَارِ
مِنْهَا، وَإِنْ كَانَتِ الْقَهْوَةُ مِنْ أَسْمَاءِ الْخَمْرِ
فَالاِعْتِبَارُ بِالْمُسَمَّى. (1)
ثَالِثًا: التَّسْمِيَةُ بِمَعْنَى تَحْدِيدِ الْعِوَضِ فِي الْعُقُودِ:
21 - مِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الْمَعْنَى عِنْدَهُمْ: الْمَهْرُ، فَإِنَّهُ
لاَ تُشْتَرَطُ تَسْمِيَتُهُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ فَيَصِحُّ النِّكَاحُ
وَيَثْبُتُ مَهْرُ الْمِثْل بِالدُّخُول أَوِ الْمَوْتِ.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ أَيْضًا: الأُْجْرَةُ، فَإِنَّ الْجُمْهُورَ
يَشْتَرِطُونَ فِيهَا مَا يُشْتَرَطُ فِي الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ،
فَيَجِبُ الْعِلْمُ بِالأَْجْرِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: مَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ (2) فَإِنْ
كَانَ الأَْجْرُ دَيْنًا ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ مِمَّا يَصِحُّ ثُبُوتُهُ
فِيهَا فَلاَ بُدَّ مِنْ بَيَانِ جِنْسِهِ وَنَوْعِهِ وَصِفَتِهِ
وَقَدْرِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي الأَْجْرِ جَهَالَةٌ
__________
(1) عون المعبود 3 / 329، وبدائع الصنائع 2 / 277، ومواهب الجليل 3 / 499،
وحاشية الدسوقي 2 / 294، وحاشية قليوبي وعميرة 3 / 275، وكشاف القناع 5 /
129.
(2) حديث: " من استأجر. . . " أخرجه البيهقي 6 / 120 ط دائرة المعارف
العثمانية من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعا، وأعله البيهقي
بالإرسال بين إبراهيم النخعي وابن سعيد.
(11/341)
مُفْضِيَةٌ لِلنِّزَاعِ فَسَدَ الْعَقْدُ،
وَيَجِبُ أَجْرُ الْمِثْل عِنْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ. (1)
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ أَيْضًا: الثَّمَنُ، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ
مُتَّفِقُونَ عَلَى وُجُوبِ تَسْمِيَتِهِ فِي الْعَقْدِ بِجَوَازِ
الْبَيْعِ. (2) عَلَى تَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (ثَمَنٌ،
وَبَيْعٌ) .
رَابِعًا: التَّسْمِيَةُ بِمَعْنَى التَّعَيُّنِ بِالاِسْمِ مُقَابِل
الإِْبْهَامِ:
22 - مِنْ أَمْثِلَتِهِ: تَسْمِيَةُ الشُّهُودِ، أَوْ تَرْكُ
تَسْمِيَتِهِمْ لإِِثْبَاتِ عَدَالَتِهِمْ. فَالْحَنَفِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يَرَوْنَ أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ
تَسْمِيَةِ الشُّهُودِ وَبَيَانِ أَنْسَابِهِمْ وَحِلاَهُمْ
وَقَبَائِلِهِمْ وَمَحَالِّهِمْ وَأَسْوَاقِهِمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ
الأُْمُورِ، وَذَلِكَ لإِِثْبَاتِ عَدَالَتِهِمْ.
وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُل أَنْ
يُعَدِّل آخَرُ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفِ اسْمَهُ وَلاَ كُنْيَتَهُ
الْمَشْهُورَ بِهَا وَلاَ اللَّقَبَ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ سَبَبَ
عَدَالَتِهِ، لأَِنَّ أَسْبَابَ الْعَدَالَةِ كَثِيرَةٌ بِخِلاَفِ
الْجَرْحِ. (3)
__________
(1) انظر مصطلح: (إجارة) وما قيل في الأجرة في الموسوعة الفقهية 1 / 263 ط
الأولي.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 122، والدسوقي 3 / 15، ومغني المحتاج 2 / 16، وكشف
القناع 3 / 173.
(3) الفتاوى الهندية 3 / 372، وروضة الطالبين 11 / 168، 169، وكشف القناع 6
/ 353، وحاشية العدوي على الرسالة 2 / 319.
(11/341)
تَسْنِيمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّسْنِيمُ فِي اللُّغَةِ: رَفْعُ الشَّيْءِ، يُقَال سَنَّمَ
الإِْنَاءَ: إِذَا مَلأََهُ حَتَّى صَارَ الْحَبُّ فَوْقَهُ كَالسَّنَامِ،
وَكُل شَيْءٍ عَلاَ شَيْئًا فَقَدْ تَسَنَّمَهُ. وَسَنَامُ الْبَعِيرِ
وَالنَّاقَةِ: أَعْلَى ظَهْرِهَا، وَالْجَمْعُ أَسْنِمَةٌ، وَفِي
الْحَدِيثِ: نِسَاءٌ عَلَى رُءُوسِهِنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ (1)
وقَوْله تَعَالَى {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ} (2) قَالُوا: هُوَ مَاءٌ
فِي الْجَنَّةِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لأَِنَّهُ يَجْرِي فَوْقَ الْغُرَفِ
وَالْقُصُورِ. (3)
وَالتَّسْنِيمُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: رَفْعُ الْقَبْرِ عَنِ
الأَْرْضِ مِقْدَارَ شِبْرٍ أَوْ أَكْثَرَ قَلِيلاً. (4)
وَفِي النَّظْمِ الْمُسْتَعْذَبِ: التَّسْنِيمُ أَنْ يَجْعَل
__________
(1) حديث: " نساء على رءوسهن. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1680 ط عيسى الحلبي)
.
(2) سورة المطففين / 27.
(3) لسان العرب، المصباح المنير، مختار الصحاح مادة: " سنم ".
(4) ابن عابدين 1 / 61، والعناية بهامش فتح القدير 2 / 101 ط دار إحياء
التراث العربي.
(11/342)
أَعْلَى الْقَبْرِ مُرْتَفِعًا، وَيَجْعَل
جَانِبَاهُ مَمْسُوحَيْنِ مُسْنَدَيْنِ، مَأْخُوذٌ مِنْ سَنَامِ
الْبَعِيرِ. (1) وَيُقَابِلُهُ تَسْطِيحُ الْقَبْرِ، وَهُوَ: أَنْ يُجْعَل
مُنْبَسِطًا مُتَسَاوِيَ الأَْجْزَاءِ، لاَ ارْتِفَاعَ فِيهِ وَلاَ
انْخِفَاضَ كَسَطْحِ الْبَيْتِ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي اسْتِحْبَابِ رَفْعِ التُّرَابِ
فَوْقَ الْقَبْرِ قَدْرَ شِبْرٍ (3) ، وَلاَ بَأْسَ بِزِيَادَتِهِ عَنْ
ذَلِكَ قَلِيلاً عَلَى مَا عَلَيْهِ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ؛ (4)
لِيُعْرَفَ أَنَّهُ قَبْرٌ، فَيُتَوَقَّى وَيُتَرَحَّمَ عَلَى صَاحِبِهِ.
فَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَفَعَ قَبْرَهُ عَنِ الأَْرْضِ قَدْرَ شِبْرٍ. (5)
وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَال لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا: " اكْشِفِي لِي عَنْ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ، فَكَشَفَتْ عَنْ ثَلاَثَةِ قُبُورٍ، لاَ
مُشْرِفَةٍ
__________
(1) النظم المستعذب في شرح غريب المهذب للركبي بذيل المهذب في فقه الإمام
الشافعي 1 / 145، والقواعد الفقهية للمجددي البركتي الرسالة الرابعة ص 228.
(2) المصباح المنير، ولسان العرب، والصحاح للمرعشلي.
(3) الفتاوى الهندية 1 / 166، والاختيار شرح المختار 1 / 96 ن دار المعرفة،
وجواهر الإكليل 1 / 111، والشرح الكبير 1 / 418، والمهذب في فقه الإمام
الشافعي 1 / 145. وشرح روض الطالب من أسنى المطالب 1 / 327.
(4) العناية بهامش فتح القدير 2 / 101، ومراقي الفلاح 335.
(5) حديث " عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع قبره. . . " رواه
البيهقي (3 / 410 ط دار المعرفة) موصولا ومرسلا، ورجح إرساله. وعزاه
الزيلعي في نصب الراية (2 / 303) إلى ابن حبان في صحيحه.
(11/342)
وَلاَ لاَطِئَةٍ، مَبْطُوحَةٍ بِبَطْحَاءِ
الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ " (1) .
وَاخْتَلَفُوا هَل يُسَنَّمُ الْقَبْرُ أَوْ يُسَطَّحُ؟ فَذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ:
يُنْدَبُ تَسْنِيمُهُ كَسَنَامِ الْبَعِيرِ؛ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ
عَنْ سُفْيَانَ التَّمَّارِ أَنَّهُ رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسَنَّمًا (2) .
وَعَنِ الْحَسَنِ مِثْلُهُ. وَمَا رُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ
أَنَّهُ قَال: أَخْبَرَنِي مَنْ رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا أَنَّهَا مُسَنَّمَةٌ عَلَيْهَا فَلْقُ مَدَرٍ بِيضٍ (3) وَمَا
رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا أَنَّ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ صَلَّى بِالْمَلاَئِكَةِ
عَلَى آدَمَ وَجَعَل قَبْرَهُ مُسَنَّمًا. (4)
وَكَرِهُوا تَسْطِيحَ الْقَبْرِ؛ لأَِنَّ التَّسْطِيحَ يُشْبِهُ أَبْنِيَةَ
أَهْل الدُّنْيَا، وَهُوَ أَشْبَهُ بِشِعَارِ أَهْل الْبِدَعِ،
__________
(1) حديث عن القاسم بن محمد قال لعائشة: " اكشفي لي عن قبر. . . " أخرجه
أبو داود (3 / 549 / 3220 ط عبيد الدعاس) والحاكم (1 / 369 ط الكتاب
العربي) . وقال: هذا حديث صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي.
(2) حديث عن سفيان التمار أنه " رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنما "
أخرجه البخاري (الفتح 3 / 350 ط السلفية) .
(3) حديث " أخبرني من رأي قبر النبي صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه محمد
بن الحسن الشيباني في كتاب الآثار (ص 80) قال التهانوي في إعلاء السنن (8 /
271) . فيه مجهول.
(4) حديث " أن جبريل عليه السلام صلى بالملائكة على آدم. . . " أخرجه
الدارقطني (2 / 71 ط المدني) في سنده عبد الرحمن بن مالك بن مغول. قال
الدارقطني: متروك. وانظر الكلام عليه في الكامل لابن عدي (4 / 1598 ط دار
الفكر) .
(11/343)
فَكَانَ مَكْرُوهًا لِذَلِكَ عِنْدَهُمْ.
وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى
عَنْ تَرْبِيعِ الْقُبُورِ. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ تَسْطِيحُهُ (أَيْ
تَرْبِيعُهُ) وَأَنَّهُ أَفْضَل مِنْ تَسْنِيمِهِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ
إِبْرَاهِيمَ ابْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا
تُوُفِّيَ جَعَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَبْرَهُ مُسَطَّحًا. (2)
وَلاَ يُخَالِفُ ذَلِكَ قَوْل عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَمَرَنِي
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لاَ تَدَعَ
تِمْثَالاً إِلاَّ طَمَسْتَهُ، وَلاَ قَبْرًا مُشْرِفًا إِلاَّ سَوَّيْتَهُ
(3) لأَِنَّهُ لَمْ يُرِدْ تَسْوِيَتَهُ بِالأَْرْضِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ
تَسْطِيحَهُ جَمْعًا بَيْنَ الأَْخْبَارِ. (4)
__________
(1) ابن عابدين 1 / 601، وفتح القدير 2 / 100 - 102 دار إحياء التراث
العربي، والاختيار شرح المختار 1 / 96 ن دار المعرفة، والفتاوى الهندية 1 /
166، ومراقي الفلاح 335، وجواهر الإكليل 1 / 111، والشرح الكبير 1 / 418،
ومواهب الجليل بشرح مختصر خليل 2 / 242، وكشاف القناع 2 / 138 م النصر
الحديثة، والمغني لابن قدامة 2 / 505 م الرياض الحديثة. وحديث: " نهى عن
تربيع. . " أورده الزيلعي في نصب الراية (1 / 403) وعزاه إلى كتاب الآثار
لمحمد بن الحسن الشيباني ولم يتكلم عليه في شيء.
(2) حديث: " أن إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم. . . " بمعناه أن
النبي صلى الله عليه وسلم رش على قبر ابنه إبراهيم ووضع عليه حصباء. أخرجه
الشافعي (1 / 215) ط دار الكتب الملكية المصرية واللفظ له. والبيهقي (3 /
411) ط دار المعرفة. وقال الحافظ في التلخيص الحبير (2 / 133 ط المدني) :
رجاله ثقات مع إرساله. وفي سند الشافعي إبراهيم بن محمد. قال عنه الحافظ في
التقريب (1 / 42 ط المكتبة العلمية) : متروك.
(3) حديث: أن لا تدع تمثالا إلا. . . " أخرجه مسلم (2 / 666 ط عيسى البابي
الحلبي) .
(4) شرح روض الطالب من أسنى المطالب 1 / 327 - 328 ن المكتبة الإسلامية،
والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 145.
(11/343)
هَذَا إِذَا دُفِنَ الْمُسْلِمُ فِي دَارِ
الإِْسْلاَمِ.
3 - أَمَّا إِنْ دُفِنَ الْمُسْلِمُ فِي غَيْرِ دَارِ الإِْسْلاَمِ، بِأَنْ
دُفِنَ فِي بَلَدِ الْكُفَّارِ أَوْ دَارِ حَرْبٍ، وَتَعَذَّرَ نَقْلُهُ
إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ، فَالأَْوْلَى تَسْوِيَةُ قَبْرِهِ بِالأَْرْضِ،
وَإِخْفَاؤُهُ أَوْلَى مِنْ إِظْهَارِهِ وَتَسْنِيمِهِ خَوْفًا مِنْ أَنْ
يُنْبَشَ فَيُمَثَّل بِهِ، وَفِي ذَلِكَ صِيَانَةٌ لَهُ عَنْهُمْ.
وَأَلْحَقَ بِهِ الأَْذْرَعِيُّ: الأَْمْكِنَةَ الَّتِي يُخَافُ نَبْشُهَا
لِسَرِقَةِ كَفَنِهِ أَوْ لِعَدَاوَةٍ وَنَحْوِهِمَا. (1)
وَانْظُرْ بَاقِيَ الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْقَبْرِ فِي
مُصْطَلَحِ (قَبْرٌ) .
تَسَوُّكٌ
انْظُرْ: اسْتِيَاكٌ
تَسَوُّلٌ
انْظُرْ. شِحَاذَةٌ
__________
(1) شرح روض الطالب من أسنى المطالب 1 / 328 ن المكتبة الإسلامية، وكشاف
القناع 2 / 38 م النصر الحديثة.
(11/344)
تَسْوِيدٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّسْوِيدُ مَصْدَرُ سَوَّدَ، يُقَال: سَوَّدَ تَسْوِيدًا.
وَالتَّسْوِيدُ يَأْتِي بِمَعْنَى التَّلْوِينِ بِالسَّوَادِ - وَهُوَ
ضِدُّ الْبَيَاضِ - يُقَال: سَوَّدَ الشَّيْءَ أَيْ: جَعَلَهُ أَسْوَدَ.
وَيَأْتِي التَّسْوِيدُ مِنَ السِّيَادَةِ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى:
التَّشْرِيفِ، يُقَال: سَوَّدَهُ قَوْمُهُ تَسْوِيدًا أَيْ: جَعَلُوهُ
سَيِّدًا عَلَيْهِمْ.
وَفِي الْمِصْبَاحِ: سَادَ يَسُودُ سِيَادَةً، وَالاِسْمُ السُّؤْدُدُ،
وَهُوَ: الْمَجْدُ وَالشَّرَفُ، فَهُوَ سَيِّدٌ وَالأُْنْثَى سَيِّدَةٌ.
وَالسَّيِّدُ: الْمُتَوَلِّي لِلسَّوَادِ أَيِ الْجَمَاعَةِ، وَيُنْسَبُ
إِلَى ذَلِكَ فَيُقَال: سَيِّدُ الْقَوْمِ. وَلَمَّا كَانَ مِنْ شَرْطِ
الْمُتَوَلِّي لِلْجَمَاعَةِ أَنْ يَكُونَ مُهَذَّبَ النَّفْسِ، قِيل لِكُل
مَنْ كَانَ فَاضِلاً فِي نَفْسِهِ: سَيِّدٌ.
وَيُطْلَقُ السَّيِّدُ عَلَى الرَّبِّ، وَالْمَالِكِ، وَالْحَلِيمِ،
وَمُحْتَمِل أَذَى قَوْمِهِ، وَالزَّوْجِ، وَالرَّئِيسِ، وَالْمُقَدَّمِ.
وَيَأْتِي التَّسْوِيدُ - أَيْضًا - لِنَوْعٍ مِنَ الْمُدَاوَاةِ، قَال فِي
اللِّسَانِ نَقْلاً عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ: وَيُقَال: سَوَّدَ
(11/344)
الإِْبِل تَسْوِيدًا: إِذَا دَقَّ
الْمِسْحَ الْبَالِيَ مِنْ شَعْرٍ فَدَاوَى بِهِ أَدْبَارَهَا. (1)
وَالتَّسْوِيدُ فِي الاِصْطِلاَحِ يُرِيدُ بِهِ الْفُقَهَاءُ
الْمَعْنَيَيْنِ الأَْوَّلَيْنِ غَالِبًا.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّبْيِيضُ:
2 - التَّبْيِيضُ: مَصْدَرُ بَيَّضَ، يُقَال: بَيَّضَ الشَّيْءَ أَيْ
جَعَلَهُ أَبْيَضَ، ضِدُّ سَوَّدَهُ.
وَالْبَيَاضُ ضِدُّ السَّوَادِ، وَالْبَيَّاضُ: الرَّجُل الَّذِي يُبَيِّضُ
الثِّيَابَ.
وَالْمُبَيِّضَةُ: أَصْحَابُ الْبَيَاضِ، وَهُمْ فِرْقَةٌ مِنَ
الثَّنَوِيَّةِ سُمُّوا كَذَلِكَ لِتَبْيِيضِهِمُ الثِّيَابَ، مُخَالَفَةً
لِلْمُسَوِّدَةِ مِنَ الْعَبَّاسِيِّينَ (2) .
ب - التَّعْظِيمُ:
3 - التَّعْظِيمُ: مَصْدَرُ عَظَّمَ، يُقَال: عَظَّمَهُ تَعْظِيمًا أَيْ:
كَبَّرَهُ وَفَخَّمَهُ. وَالتَّعْظِيمُ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْوَصْفِ
وَالْكَيْفِيَّةِ، وَيُقَابِلُهُ التَّحْقِيرُ فِيهِمَا بِحَسَبِ
الْمَنْزِلَةِ وَالرُّتْبَةِ (3) .
__________
(1) المصباح المنير 1 / 294، ولسان العرب 2 / 235 - 236، وتاج العروس 2 /
384 - 386، والمفردات في غريب القرآن 247.
(2) القاموس المحيط، ولسان العرب.
(3) القاموس المحيط، ولسان العرب، والمصباح المنير، والكليات 1 / 95.
(11/345)
ج - التَّفْضِيل:
4 - التَّفْضِيل: مَصْدَرُ فَضَّل، يُقَال: فَضَّلْتُهُ عَلَى غَيْرِهِ
تَفْضِيلاً أَيْ: صَيَّرْتُهُ أَفْضَل مِنْهُ، وَفَضَّلَهُ أَيْ مَزَّاهُ.
وَالتَّفْضِيل دُونَ التَّسْوِيدِ - بِمَعْنَى السِّيَادَةِ - لَكِنَّهُ
سَبَبٌ لَهُ وَطَرِيقٌ إِلَيْهِ (1) .
د - التَّكْرِيمُ:
5 - التَّكْرِيمُ: أَنْ يُوصَل إِلَى الإِْنْسَانِ نَفْعٌ لاَ يَلْحَقُهُ
فِيهِ غَضَاضَةٌ، أَوْ أَنْ يَجْعَل مَا يُوصَل إِلَى الإِْنْسَانِ شَيْئًا
كَرِيمًا أَيْ شَرِيفًا. وَهُوَ مَصْدَرُ كَرَّمَ، يُقَال: كَرَّمَهُ
تَكْرِيمًا أَيْ عَظَّمَهُ وَنَزَّهَهُ.
وَالإِْكْرَامُ وَالتَّكْرِيمُ بِمَعْنًى، وَالْكَرَمُ ضِدُّ اللُّؤْمِ (2)
.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّسْوِيدِ بِاخْتِلاَفِ مَعْنَاهُ وَمَبْحَثِهِ
الْفِقْهِيِّ.
فَالتَّسْوِيدُ يَأْتِي بِمَعْنَى: السِّيَادَةِ، وَيُبْحَثُ حُكْمُهُ فِي
مَوَاطِنَ مِنْهَا: تَسْوِيدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الصَّلاَةِ وَفِي غَيْرِهَا، وَتَسْوِيدُ غَيْرِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَسْوِيدُ الْمُنَافِقِ.
__________
(1) القاموس المحيط، والمصباح المنير، ولسان العرب، والمفردات في غريب
القرآن مادة: " فضل ".
(2) القاموس المحيط، والمصباح المنير، ولسان العرب، والمفردات في غريب
القرآن مادة: " كرم ".
(11/345)
وَيَأْتِي التَّسْوِيدُ بِمَعْنَى:
التَّلْوِينِ بِالسَّوَادِ، وَيُبْحَثُ حُكْمُهُ فِي مَوَاطِنَ مِنْهَا:
التَّعْزِيرُ، وَالْخِضَابُ، وَالْحِدَادُ، وَالتَّعْزِيَةُ، وَاللِّبَاسُ
وَالْعِمَامَةُ، وَشَعْرُ الْمَبِيعِ.
(أَوَّلاً)
التَّسْوِيدُ مِنَ السِّيَادَةِ
تَسْوِيدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَسْوِيدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلاَةِ، وَحُكْمِ تَسْوِيدِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ.
أ - فِي الصَّلاَةِ:
7 - وَرَدَ لَفْظُ الصَّلَوَاتِ الإِْبْرَاهِيمِيَّةِ فِي كُتُبِ
الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ مَأْثُورًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ (سَيِّدِنَا) قَبْل اسْمِهِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَأَمَّا إِضَافَةُ لَفْظِ (سَيِّدِنَا)
فَرَأَى مَنْ لَمْ يَقُل بِزِيَادَتِهَا الاِلْتِزَامَ بِمَا وَرَدَ عَنْهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِنَّ فِيهِ امْتِثَالاً لِمَا وَرَدَ
عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فِي
الأَْذْكَارِ وَالأَْلْفَاظِ الْمَأْثُورَةِ عَنْهُ، كَالأَْذَانِ
وَالإِْقَامَةِ وَالتَّشَهُّدِ وَالصَّلاَةِ الإِْبْرَاهِيمِيَّةِ.
وَأَمَّا بِخُصُوصِ زِيَادَةِ (سَيِّدِنَا) فِي الصَّلاَةِ
الإِْبْرَاهِيمِيَّةِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ، فَقَدْ ذَهَبَ إِلَى
اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ كَالْعِزِّ
بْنِ عَبْدِ السَّلاَمِ وَالرَّمْلِيِّ وَالْقَلْيُوبِيِّ
وَالشَّرْقَاوِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَصْكَفِيِّ وَابْنِ
عَابِدِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ مُتَابَعَةً لِلرَّمْلِيِّ
(11/346)
الشَّافِعِيِّ، كَمَا صَرَّحَ
بِاسْتِحْبَابِهِ النَّفَرَاوِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَقَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ قَبِيل الأَْدَبِ، وَرِعَايَةُ الأَْدَبِ
خَيْرٌ مِنَ الاِمْتِثَال، كَمَا قَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ (1)
.
ب - فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ:
8 - أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ثُبُوتِ السِّيَادَةِ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى عَلَمِيَّتِهِ فِي
السِّيَادَةِ. قَال الشَّرْقَاوِيُّ: فَلَفْظُ (سَيِّدِنَا) عَلَمٌ
عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمَعَ ذَلِكَ خَالَفَ بَعْضُهُمْ وَقَالُوا: إِنَّ لَفْظَ السَّيِّدِ لاَ
يُطْلَقُ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ
عَنْ مُطَرِّفٍ قَال: قَال أَبِي: انْطَلَقْتُ فِي وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ
إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا: أَنْتَ
سَيِّدُنَا، فَقَال: السَّيِّدُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. قُلْنَا:
وَأَفْضَلُنَا فَضْلاً وَأَعْظَمُنَا طَوْلاً، قَال: قُولُوا بِقَوْلِكُمْ
أَوْ بَعْضِ قَوْلِكُمْ، وَلاَ يَسْخَرْ بِكُمُ الشَّيْطَانُ. (2) وَفِي
حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّهُ جَاءَهُ رَجُلٌ
__________
(1) رد المحتار على الدار المختار 11 / 345، والفواكه الدواني على رسالة
القيرواني 2 / 464، والقليوبي 1 / 167، وشرح الروض 1 / 166، وحاشية
الشرقاوي على تحفة الطلاب 1 / 21، 193، والمغني لابن قدامة 1 / 541 - 542 -
543 - ونيل الأوطار 2 / 326، والقول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع ص
101، وفتاوى ابن حجر العسقلاني نقلا عن " إصلاح المساجد من البدع والعوائد
" للقاسمي 140 ط (5) والمكتب الإسلامي.
(2) حديث: " قولوا بقولكم أو بعض قولكم. . . " أخرجه أبو داود (5 / 155 - ط
عزت عبيد دعاس) . وقال ابن حجر في الفتح (5 / 179 - ط السلفية) : رجاله
ثقات.
(11/346)
فَقَال: أَنْتَ سَيِّدُ قُرَيْشٍ، فَقَال
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: السَّيِّدُ اللَّهُ. (1)
قَال ابْنُ الأَْثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: أَيْ هُوَ الَّذِي يَحِقُّ لَهُ
السِّيَادَةُ، كَأَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُحْمَدَ فِي وَجْهِهِ، وَأَحَبَّ
التَّوَاضُعَ. وَمِنْهُ الْحَدِيثُ لَمَّا قَالُوا: أَنْتَ سَيِّدُنَا،
قَال: قُولُوا بِقَوْلِكُمْ أَيِ ادْعُونِي نَبِيًّا وَرَسُولاً كَمَا
سَمَّانِي اللَّهُ، وَلاَ تُسَمُّونِي سَيِّدًا كَمَا تُسَمُّونَ
رُؤَسَاءَكُمْ، فَإِنِّي لَسْتُ كَأَحَدِهِمْ مِمَّنْ يَسُودُكُمْ فِي
أَسْبَابِ الدُّنْيَا.
وَأَضَافَ ابْنُ مُفْلِحٍ إِلَى مَا سَبَقَ: وَالسَّيِّدُ يُطْلَقُ عَلَى
الرَّبِّ، وَالْمَالِكِ، وَالشَّرِيفِ، وَالْفَاضِل، وَالْحَكِيمِ،
وَمُتَحَمِّل أَذَى قَوْمِهِ، وَالزَّوْجِ، وَالرَّئِيسِ، وَالْمُقَدَّمِ.
وَقَال أَبُو مَنْصُورٍ: كَرِهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ يُمْدَحَ فِي وَجْهِهِ وَأَحَبَّ التَّوَاضُعَ لِلَّهِ
تَعَالَى، وَجَعَل السِّيَادَةَ لِلَّذِي سَادَ الْخَلْقَ أَجْمَعِينَ.
وَلَيْسَ هَذَا بِمُخَالِفٍ لِقَوْلِهِ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ حِينَ قَال لِقَوْمِهِ الأَْنْصَارِ: قُومُوا إِلَى
سَيِّدِكُمْ (2) أَرَادَ أَنَّهُ أَفْضَلُكُمْ رَجُلاً وَأَكْرَمُكُمْ.
وَأَمَّا صِفَةُ اللَّهِ جَل
__________
(1) حديث: " السيد الله " أخرجه أحمد (4 / 24 - ط الميمنية) . من حديث مطرف
بن عبد الله بن الشخير وإسناده صحيح.
(2) حديث: " قوموا إلى سيدكم " أخرجه البخاري (6 / 165 - الفتح - ط
السلفية) .
(11/347)
ذِكْرُهُ بِالسَّيِّدِ فَمَعْنَاهُ:
أَنَّهُ مَالِكُ الْخَلْقِ، وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَبِيدُهُ (أَيْ فَلاَ
يُطْلَقُ لَفْظُ السَّيِّدِ بِهَذَا الْمَعْنَى عَلَى غَيْرِ اللَّهِ
تَعَالَى) وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا
سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ فَخْرَ (1) أَرَادَ
أَنَّهُ أَوَّل شَفِيعٍ، وَأَوَّل مَنْ يُفْتَحُ لَهُ بَابُ الْجَنَّةِ،
قَال ذَلِكَ إِخْبَارًا عَمَّا أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْفَضْل
وَالسُّؤْدُدِ، وَتَحَدُّثًا بِنِعْمَةِ اللَّهِ عِنْدَهُ، وَإِعْلاَمًا
مِنْهُ؛ لِيَكُونَ إِيمَانُهُمْ بِهِ عَلَى حَسَبِهِ وَمُوجِبِهِ،
وَلِهَذَا أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: وَلاَ فَخْرَ أَيْ أَنَّ هَذِهِ
الْفَضِيلَةَ الَّتِي نِلْتُهَا كَرَامَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، لَمْ
أَنَلْهَا مِنْ قِبَل نَفْسِي، وَلاَ بَلَغْتُهَا بِقُوَّتِي، فَلَيْسَ لِي
أَنْ أَفْتَخِرَ بِهَا
وَقَال السَّخَاوِيُّ: إِنْكَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ تَوَاضُعًا مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَكَرَاهَةً مِنْهُ أَنْ يُحْمَدَ وَيُمْدَحَ مُشَافَهَةً، أَوْ
لأَِنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ تَحِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ
لِمُبَالَغَتِهِمْ فِي الْمَدْحِ، وَقَدْ صَحَّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَقَوْلُهُ لِلْحَسَنِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ (2) وَوَرَدَ قَوْل
سَهْل بْنِ حُنَيْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا سَيِّدِي " فِي حَدِيثٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ
فِي عَمَل الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ،
__________
(1) حديث: " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر " أخرجه مسلم (3 / 1782 -
ط الحلبي) دون قوله " ولا فخر "، فهي في الترمذي (5 / 308 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " إن ابني هذا سيد " يأتي مطولا ويأتي تخرجه في (ف 9) .
(11/347)
وَقَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ: " اللَّهُمَّ صَل
عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ. وَفِي كُل هَذَا دَلاَلَةٌ وَاضِحَةٌ
وَبَرَاهِينُ لاَئِحَةٌ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ، وَالْمَانِعُ يَحْتَاجُ
إِلَى إِقَامَةِ دَلِيلٍ، سِوَى مَا تَقَدَّمَ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَنْهَضُ
دَلِيلاً مَعَ الاِحْتِمَالاَتِ السَّابِقَةِ. (1)
تَسْوِيدُ غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: 9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ إِطْلاَقِ لَفْظِ السَّيِّدِ
عَلَى غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَذَهَبَ
جُمْهُورُهُمْ إِلَى جَوَازِ إِطْلاَقِ لَفْظِ السَّيِّدِ عَلَى غَيْرِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل
اللَّهِ تَعَالَى فِي يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا
وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} (2) أَيْ أَنَّهُ فَاقَ غَيْرَهُ عِفَّةً
وَنَزَاهَةً عَنِ الذُّنُوبِ. وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل فِي امْرَأَةِ
الْعَزِيزِ: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} (3) أَيْ زَوْجَهَا
وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل:
مَنِ السَّيِّدُ؟ قَال: يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ قَالُوا: فَمَا فِي أُمَّتِكَ مِنْ
سَيِّدٍ؟ قَال: بَلَى، مَنْ
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 11 / 345، والفواكه الدواني على رسالة
القيرواني 2 / 464، وحاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب 1 / 21، والآداب
الشرعية والمنح المرعية 3 / 464 - 465، والقول البديع في الصلاة على الحبيب
الشفيع ص 101، ولسان العرب 2 / 235.
(2) من الآية 39 من سورة آل عمران.
(3) من الآية 25 من سورة يوسف.
(11/348)
آتَاهُ اللَّهُ مَالاً، وَرُزِقَ
سَمَاحَةً، فَأَدَّى شُكْرَهُ، وَقَلَّتْ شِكَايَتُهُ فِي النَّاسِ (1)
وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلأَْنْصَارِ وَبَنِي
قُرَيْظَةَ: قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ (2) يَعْنِي سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ.
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ - إِنَّ
ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَل اللَّهَ يُصْلِحُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ
عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (3) وَكَذَلِكَ كَانَ.
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلأَْنْصَارِ: مَنْ
سَيِّدُكُمْ؟ قَالُوا: الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ عَلَى أَنَّا نُبَخِّلُهُ،
قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنَ
الْبُخْل (4) . وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُل بَنِي
آدَمَ سَيِّدٌ، فَالرَّجُل سَيِّدُ أَهْلِهِ، وَالْمَرْأَةُ سَيِّدَةُ
بَيْتِهَا. (5)
وَمِنْهُ حَدِيثُ أُمِّ الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: حَدَّثَنِي
سَيِّدِي أَبُو الدَّرْدَاءِ. وَبِقَوْل عُمَرَ
__________
(1) حديث: " سئل من السيد؟ قال: يوسف. . . " قال الهيثمي: رواه الطبراني في
الأوسط، وفيه نافع أبو هرمز وهو متروك (مجمع الزوائد 8 / 202 - ط القدسي) .
(2) حديث: " قوموا إلى سيدكم " سبق تخرجه ف 8.
(3) حديث: " إن ابني هذا سيد، ولعل الله يصلح. . . " أخرجه البخاري (الفتح
5 / 307 - ط السلفية) .
(4) حديث: " من سيدكم. . . " أخرجه أبو الشيخ في الأمثال من حديث كعب بن
مالك كما في الفتح (5 / 179 وكتاب الأمثال ط السلفية) وقال: رجال هذا
الإسناد ثقات.
(5) حديث: " كل بني آدم سيد فالرجل. . . " أخرجه ابن عدي في الكامل (4 /
1521 - ط دار الفكر) . وإسناده حسن.
(11/348)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا سُئِل: مَنِ
الَّذِي إِلَى جَانِبِكَ، فَأَجَابَ: هَذَا سَيِّدُ الْمُسْلِمِينَ أُبَيُّ
بْنُ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالُوا: إِنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَلاَ فِي
حَدِيثٍ مُتَوَاتِرٍ أَنَّ السَّيِّدَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى؛
وَلأَِنَّ إِطْلاَقَ لَفْظِ السَّيِّدِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَل
لِكَوْنِهِ سُبْحَانَهُ مَالِكَ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، وَلاَ مَالِكَ
لَهُمْ سِوَاهُ، وَإِطْلاَقُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ
تَعَالَى لاَ يَكُونُ بِهَذَا الْمَعْنَى الْجَامِعِ الْكَامِل، بَل
بِمَعَانٍ قَاصِرَةٍ عَنْ ذَلِكَ.
وَقَال بَعْضُهُمْ: إِنَّ لَفْظَ السَّيِّدِ لاَ يُطْلَقُ إِلاَّ عَلَى
اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ مُطَرِّفٍ
الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ.
وَقَال الْخَطَّابِيُّ: لاَ يُقَال السَّيِّدُ وَلاَ الْمَوْلَى عَلَى
الإِْطْلاَقِ مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ إِلاَّ فِي صِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَال بَعْضُهُمْ: إِنَّ لَفْظَ السَّيِّدِ يَجُوزُ إِطْلاَقُهُ عَلَى
مَالِكِ الْعَبْدِ أَوْ مَالِكَتِهِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال: لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي وَأَمَتِي، وَلاَ
يَقُولَنَّ الْمَمْلُوكُ: رَبِّي وَرَبَّتِي، وَلْيَقُل الْمَالِكُ:
فَتَايَ وَفَتَاتِي. وَلْيَقُل الْمَمْلُوكُ: سَيِّدِي وَسَيِّدَتِي،
فَإِنَّهُمُ الْمَمْلُوكُونَ، وَالرَّبُّ: اللَّهُ تَعَالَى (1) قَال
__________
(1) حديث: " لا يقولن أحدكم: عبدي وأمتي. . . " أخرجه أبو داود (5 / 257 -
ط عزت عبيد دعاس) وأصله في مسلم (3 / 1764 - ط الحلبي) .
(11/349)
صَاحِبُ عَوْنِ الْمَعْبُودِ: كَانَ بَعْضُ
أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ يَأْخُذُ بِهَذَا، وَيَكْرَهُ أَنْ يُخَاطِبَ
أَحَدًا بِلَفْظِهِ أَوْ كِتَابَتِهِ بِالسَّيِّدِ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا
إِذَا كَانَ الْمُخَاطَبُ غَيْرَ تَقِيٍّ. (1)
مَنْ يَسْتَحِقُّ التَّسْوِيدَ:
10 - لَفْظُ السَّيِّدِ مُشْتَقٌّ مِنَ السُّؤْدُدِ، وَهُوَ: الْمَجْدُ
وَالشَّرَفُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمُتَوَلِّي لِلْجَمَاعَةِ. وَمِنْ
شَرْطِهِ وَشَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ مُهَذَّبَ النَّفْسِ شَرِيفًا. وَعَلَى
مَنْ قَامَ بِهِ بَعْضُ خِصَال الْخَيْرِ مِنَ الْفَضْل وَالشَّرَفِ
وَالْعِبَادَةِ وَالْوَرَعِ وَالْحِلْمِ وَالْعَقْل وَالنَّزَاهَةِ
وَالْعِفَّةِ وَالْكَرَمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
إِطْلاَقُ لَفْظِ السَّيِّدِ عَلَى الْمُنَافِقِ
11 - الْمُنَافِقُ لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْخِصَال فِي شَيْءٍ؛ لأَِنَّهُ
كَاذِبٌ مُدَلِّسٌ خَائِنٌ، لاَ تُوَافِقُ سَرِيرَتُهُ عَلاَنِيَتَهُ.
وَفِي الْعَقِيدَةِ: يُبْطِنُ الْكُفْرَ وَيُظْهِرُ الإِْسْلاَمَ. وَقَدْ
وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ إِطْلاَقِ لَفْظِ السَّيِّدِ عَلَى الْمُنَافِقِ
فِيمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَال:
قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَقُولُوا
لِلْمُنَافِقِ سَيِّدٌ، (2) فَإِنَّهُ إِنْ يَكُ سَيِّدُكُمْ فَقَدْ
__________
(1) تفسير القرطبي 4 / 76 - 77، صحيح البخاري 7 / 130 ط. استنبول، وعون
المعبود 13 / 321 - 324، والكامل في ضعفاء الرجال 4 / 1521 وحاشية الشرقاوي
1 / 21، والآداب الشرعية 3 / 465 - 467.
(2) في بعض الرواية " سيدا " بالنصب.
(11/349)
أَسْخَطْتُمْ رَبَّكُمْ عَزَّ وَجَل (1)
وَذَلِكَ لأَِنَّ السَّيِّدَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلسُّؤْدُدِ، أَيْ
لِلأَْسْبَابِ الْعَالِيَةِ الَّتِي تُؤَهِّلُهُ لِذَلِكَ، فَأَمَّا
الْمُنَافِقُ فَإِنَّهُ مَوْصُوفٌ بِالنَّقَائِصِ، فَوَصْفُهُ بِذَلِكَ
وَضْعٌ لَهُ فِي مَكَانٍ لَمْ يَضَعْهُ اللَّهُ فِيهِ، فَلاَ يَبْعُدُ أَنْ
يَسْتَحِقَّ وَاضِعُهُ بِذَلِكَ سُخْطَ اللَّهِ. وَقِيل مَعْنَاهُ: إِنْ
يَكُ سَيِّدًا لَكُمْ فَتَجِبْ عَلَيْكُمْ طَاعَتُهُ، فَإِذَا
أَطَعْتُمُوهُ فِي نِفَاقٍ فَقَدْ أَسْخَطْتُمْ رَبَّكُمْ. وَقَال ابْنُ
الأَْثِيرِ: لاَ تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ سَيِّدٌ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ
سَيَّدَكُمْ وَهُوَ مُنَافِقٌ فَحَالُكُمْ دُونَ حَالِهِ، وَاللَّهُ لاَ
يَرْضَى لَكُمْ ذَلِكَ. (2)
(ثَانِيًا)
التَّسْوِيدُ مِنَ السَّوَادِ
أ - التَّسْوِيدُ بِالْخِضَابِ:
12 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
أَنَّ خِضَابَ الرَّجُل بِالسَّوَادِ مَكْرُوهٌ فِي غَيْرِ الْجِهَادِ فِي
الْجُمْلَةِ.
وَلِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: يُكْرَهُ الْخِضَابُ بِالسَّوَادِ أَيْ
__________
(1) حديث: " لا تقولوا للمنافق سيد، فإنه. . . " أخرجه أبو داود (5 / 257 -
ط عزت عبيد دعاس) وصححه النووي في رياض الصالحين (ص 606 - ط المكتب
الإسلامي) .
(2) عون المعبود 1313 ? / 324، وفضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد 2 /
230، والآداب الشرعية 3 / 465، ولسان العرب 2 / 235.
(11/350)
لِغَيْرِ الْحَرْبِ، قَال فِي
الذَّخِيرَةِ: أَمَّا الْخِضَابُ بِالسَّوَادِ لِلْغَزْوِ - لِيَكُونَ
أَهْيَبَ فِي عَيْنِ الْعَدُوِّ - فَهُوَ مَحْمُودٌ بِالاِتِّفَاقِ. وَإِنْ
كَانَ لِيُزَيِّنَ نَفْسَهُ لِلنِّسَاءِ فَمَكْرُوهٌ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ
الْمَشَايِخِ. وَبَعْضُهُمْ جَوَّزَهُ بِلاَ كَرَاهَةٍ. رُوِيَ عَنْ أَبِي
يُوسُفَ أَنَّهُ قَال: كَمَا يُعْجِبُنِي أَنْ تَتَزَيَّنَ لِي يُعْجِبُهَا
أَنْ أَتَزَيَّنَ لَهَا.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْخِضَابُ بِالسَّوَادِ إِذَا كَانَ
لِلتَّغْرِيرِ فَهُوَ حَرَامٌ. كَمَنْ أَرَادَ نِكَاحَ امْرَأَةٍ فَصَبَغَ
شَعْرَ لِحْيَتِهِ الأَْبْيَضَ، بِالسَّوَادِ. وَإِنْ كَانَ لِلْجِهَادِ
حَتَّى يُوهِمَ الْعَدُوَّ الشَّبَابَ نُدِبَ. وَإِنْ كَانَ لِلتَّشَابِّ
كُرِهَ. وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا فَقَوْلاَنِ: بِالْكَرَاهَةِ وَالْجَوَازِ.
(1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْخِضَابَ بِالسَّوَادِ حَرَامٌ فِي
الْجُمْلَةِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ. قَال النَّوَوِيُّ
فِي الْمَجْمُوعِ: اتَّفَقُوا عَلَى ذَمِّ خِضَابِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ
بِالسَّوَادِ، ثُمَّ قَال: قَال: الْغَزَالِيُّ فِي الإِْحْيَاءِ،
وَالْبَغَوِيُّ فِي التَّهْذِيبِ، وَآخَرُونَ مِنَ الأَْصْحَابِ: هُوَ
مَكْرُوهٌ. وَظَاهِرُ عِبَارَتِهِمْ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ
تَنْزِيهٍ، وَالصَّحِيحُ - بَل الصَّوَابُ - أَنَّهُ حَرَامٌ. وَمِمَّنْ
صَرَّحَ بِتَحْرِيمِهِ صَاحِبُ الْحَاوِي فِي بَابِ الصَّلاَةِ
بِالنَّجَاسَةِ، قَال: إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي الْجِهَادِ، وَقَال فِي
آخِرِ كِتَابِ الأَْحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 271 - 481، وكفاية الطالب الرباني 2 / 356، وكشاف
القناع 1 / 77، والآداب الشرعية 3 / 351 - 354.
(11/350)
يَمْنَعُ الْمُحْتَسِبُ النَّاسَ مِنْ
خِضَابِ الشَّيْبِ بِالسَّوَادِ إِلاَّ الْمُجَاهِدَ، وَدَلِيل تَحْرِيمِهِ
حَدِيثُ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: أُتِيَ بِأَبِي قُحَافَةَ
وَالِدِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَوْمَ فَتْحِ
مَكَّةَ وَرَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ كَالثَّغَامَةِ بَيَاضًا (1) فَقَال
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غَيِّرُوا هَذَا،
وَاجْتَنِبُوا السَّوَادَ، (2) وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
يَكُونُ قَوْمٌ يُخَضِّبُونَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ بِالسَّوَادِ كَحَوَاصِل
الْحَمَامِ، لاَ يَرِيحُونَ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، (3) وَلاَ فَرْقَ فِي
الْمَنْعِ مِنَ الْخِضَابِ بِالسَّوَادِ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ. .
هَذَا مَذْهَبُنَا، وَحُكِيَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهُوَيْهِ أَنَّهُ
رَخَّصَ فِيهِ لِلْمَرْأَةِ تَتَزَيَّنُ بِهِ لِزَوْجِهَا.
وَقَال النَّوَوِيُّ فِي رَوْضَةِ الطَّالِبِينَ: خِضَابُ الْمَرْأَةِ
بِالسَّوَادِ إِنْ كَانَتْ خَلِيَّةً مِنَ الزَّوْجِ وَفَعَلَتْهُ فَهُوَ
حَرَامٌ، وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَةً وَفَعَلَتْهُ بِإِذْنِهِ فَجَائِزٌ عَلَى
الْمَذْهَبِ، وَقِيل: وَجْهَانِ كَوَصْل الشَّعْرِ.
وَقَال الرَّمْلِيُّ: يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْخِضَابُ بِالسَّوَادِ،
فَإِنْ أَذِنَ لَهَا زَوْجُهَا فِي ذَلِكَ جَازَ؛ لأَِنَّ
__________
(1) نبت يكون بالجبال غالبا إذا يبس ابيض، ويشبه به الشيب.
(2) حديث: " غيروا هذا. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1663 - ط الحلبي) .
(3) حديث: " يكون قوم يخضبون في. . . " أخرجه أبو داود (4 / 419 - ط عزت
عبيد دعاس) . وقال ابن حجر في الفتح (10 / 499 - ط السلفية) : إسناده قوي.
(11/351)
لَهُ غَرَضًا فِي تَزَيُّنِهَا لَهُ، كَمَا
فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا، وَهُوَ الأَْوْجَهُ. (1)
هَذَا فِي خَضْبِ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ الشَّعْرَ بِالسَّوَادِ، أَمَّا
خَضْبُهُمَا الشَّعْرَ بِغَيْرِ السَّوَادِ، كَالْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ
مَثَلاً، وَخَضْبُهُمَا غَيْرَ الشَّعْرِ كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ
فَفِيهِ تَفْصِيلٌ يُذْكَرُ فِي مَوْطِنِهِ.
وَقَال الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: إِنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ رَخَّصَ
فِي الاِخْتِضَابِ بِالسَّوَادِ مُطْلَقًا، وَمِنْهُمْ مَنْ رَخَّصَ فِيهِ
لِلرِّجَال دُونَ النِّسَاءِ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ:
(اخْتِضَابٌ) .
ب - لُبْسُ السَّوَادِ فِي الْحِدَادِ
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا
زَوْجُهَا لُبْسُ السَّوَادِ مِنَ الثِّيَابِ. . . وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهَا
ذَلِكَ، بَل لَهَا أَنْ تَلْبَسَ غَيْرَهُ.
وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي يَجُوزُ
لَهَا أَنْ تَلْبَسَ فِيهَا السَّوَادَ، فَقَال بَعْضُهُمْ: لاَ تُجَاوِزُ
ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ. وَلَكِنَّ فُقَهَاءَ الْمَذْهَبِ - وَمِنْهُمْ ابْنُ
عَابِدِينَ - حَمَلُوا ذَلِكَ عَلَى مَا تَصْبُغُهُ الزَّوْجَةُ
بِالسَّوَادِ وَتَلْبَسُهُ تَأَسُّفًا عَلَى زَوْجِهَا، أَمَّا مَا كَانَ
مَصْبُوغًا بِالسَّوَادِ قَبْل مَوْتِ زَوْجِهَا، فَيَجُوزُ لَهَا أَنْ
تَلْبَسَهُ مُدَّةَ الْحِدَادِ كُلَّهَا. وَمَنَعَ الْحَنَفِيَّةُ لُبْسَ
السَّوَادِ فِي الْحِدَادِ عَلَى غَيْرِ الزَّوْجِ.
__________
(1) المجموع 1 / 294، وروضة الطالبين 1 / 276، ونهاية المحتاج 2 / 23.
(11/351)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْمُحِدَّ
يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَلْبَسَ الأَْسْوَدَ، إِلاَّ إِذَا كَانَتْ نَاصِعَةَ
الْبَيَاضِ، أَوْ كَانَ الأَْسْوَدُ زِينَةَ قَوْمِهَا.
وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِذَا كَانَ الأَْسْوَدُ
عَادَةَ قَوْمِهَا فِي التَّزَيُّنِ بِهِ حَرُمَ لُبْسُهُ، وَنَقَل
النَّوَوِيُّ عَنِ الْمَاوَرْدِيِّ أَنَّهُ أَوْرَدَ فِي " الْحَاوِي "
وَجْهًا يَلْزَمُهَا السَّوَادُ فِي الْحِدَادِ. (1)
ج - لُبْسُ السَّوَادِ فِي التَّعْزِيَةِ:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَسْوِيدَ الْوَجْهِ حُزْنًا عَلَى
الْمَيِّتِ - مِنْ أَهْلِهِ أَوْ مِنَ الْمُعَزِّينَ لاَ يَجُوزُ - لِمَا
فِيهِ مِنْ إِظْهَارٍ لِلْجَزَعِ وَعَدَمِ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ
وَعَلَى السُّخْطِ مِنْ فِعْلِهِ، مِمَّا وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ فِي
الأَْحَادِيثِ.
وَتَسْوِيدُ الثِّيَابِ لِلتَّعْزِيَةِ مَكْرُوهٌ لِلرِّجَال، وَلاَ بَأْسَ
بِهِ لِلنِّسَاءِ، أَمَّا صَبْغُ الثِّيَابِ أَسْوَدَ أَوْ أَكْهَبَ (2)
تَأَسُّفًا عَلَى الْمَيِّتِ فَلاَ يَجُوزُ (3) عَلَى التَّفْصِيل
السَّابِقِ.
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 2 / 617 - 619، والشرح الكبير 2 / 478،
والخرشي 4 / 148، وجواهر الإكليل 1 / 389، وحاشية قليوبي وعميرة 4 / 52،
وروضة الطالبين 8 / 406، والمغني لابن قدامة 7 / 520، والمحلى لابن حزم 10
/ 276، والروض النضير 4 / 125.
(2) الأكهب: الأغبر المشرب بالسواد.
(3) الفتاوى الهندية 1 / 167، 5 / 333، وحاشية الجمل 5 / 315، وأسنى
المطالب 1 / 336 والإقناع 1 / 181، وكشاف القناع 2 / 163، ومطالب أولي
النهى 1 / 925.
(11/352)
د - السَّوَادُ فِي اللِّبَاسِ
وَالْعِمَامَةِ:
15 - يُنْدَبُ لُبْسُ السَّوَادِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، قَال ابْنُ
عَابِدِينَ: نُدِبَ لُبْسُ السَّوَادِ، لأَِنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ فِي
السِّيَرِ الْكَبِيرِ فِي بَابِ الْغَنَائِمِ حَدِيثًا يَدُل عَلَى أَنَّ
لُبْسَ السَّوَادِ مُسْتَحَبٌّ. (1)
أَمَّا الصَّبْغُ بِالأَْسْوَدِ، وَلُبْسُ الْمَصْبُوغِ بِهِ فَنُقِل عَنْ
أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِهِ. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُنْدَبُ لإِِمَامِ الْجُمُعَةِ أَنْ يَزِيدَ فِي
حُسْنِ الْهَيْئَةِ وَالْعِمَّةِ وَالاِرْتِدَاءِ، وَتَرْكُ لُبْسِ
السَّوَادِ لَهُ أَوْلَى مِنْ لُبْسِهِ، إِلاَّ إِنْ خَشِيَ مَفْسَدَةً
تَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْكِهِ مِنْ سُلْطَانٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَقَال ابْنُ
عَبْدِ السَّلاَمِ فِي فَتَاوِيهِ: الْمُوَاظَبَةُ عَلَى لُبْسِهِ
بِدْعَةٌ، فَإِنْ مُنِعَ الْخَطِيبُ أَنْ يَخْطُبَ إِلاَّ بِهِ فَلْيَفْعَل
(3)
وَقَالُوا: نُقِل أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَبِسَ الْعِمَامَةَ الْبَيْضَاءَ وَالْعِمَامَةَ السَّوْدَاءَ (4) ،
وَلَكِنَّ الأَْفْضَل فِي
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 330، وابن عابدين 5 / 481.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 332.
(3) نهاية المحتاج 22 / 329، وأسنى المطالب 1 / 267، وحاشية القليوبي
وعميرة 4 / 301.
(4) حديث: " لبس العمامة البيضاء " قال المحدث الشيخ محمد بن جعفر الكتابي
في كتابه " الدعامة في أحكام سنة العمامة " (ص 85) : لم أر في شيء من
الأحاديث التي وقفت عليها الآن ما يصرح بلبسه عليه الصلاة والسلام للعمامة
البيضاء، إلا أن المتبادر من كلامهم، ومن إيث
(11/352)
لَوْنِهَا الْبَيَاضُ لِعُمُومِ الْخَبَرِ
الصَّحِيحِ الآْمِرِ بِلُبْسِ الْبَيَاضِ، وَأَنَّهُ خَيْرُ الأَْلْوَانِ
فِي الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ. (1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُبَاحُ السَّوَادُ وَلَوْ لِلْجُنْدِ؛ لأَِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل مَكَّةَ عَامَ
الْفَتْحِ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ. (2)
هـ - تَسْوِيدُ الْوَجْهِ فِي التَّعْزِيرِ
16 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ
فِي التَّعْزِيرِ تَسْخِيمُ الْوَجْهِ، أَيْ دَهْنُ وَجْهِ الْمُعَزَّرِ
بِالسُّخَامِ، وَهُوَ السَّوَادُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِأَسْفَل الْقِدْرِ
وَمُحِيطِهِ مِنْ كَثْرَةِ الدُّخَانِ. (3)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ
تَسْوِيدُ الْوَجْهِ فِي التَّعْزِيرِ؛ لأَِنَّ الإِْمَامَ يَجْتَهِدُ فِي
جِنْسِ مَا يُعَزَّرُ بِهِ وَفِي قَدْرِهِ، وَيَفْعَل بِكُل مُعَزَّرٍ مَا
يَلِيقُ بِهِ وَبِجِنَايَتِهِ، مَعَ مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ
وَالتَّدْرِيجِ، فَلاَ يَرْقَى لِمَرْتَبَةٍ وَهُوَ يَرَى مَا دُونَهَا
كَافِيًا. (4)
__________
(1) حاشية الجمل 5 / 88 - 89.
(2) كشاف القناع 1 / 286. وحديث: " إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة
عام الفتح. . . . . . " أخرجه مسلم (2 / 990 - ط الحلبي) .
(3) المبسوط للسرخسي 16 / 145، وجواهر الإكليل 2 / 225.
(4) نهاية المحتاج 8 / 16، وأسنى المطالب 4 / 162، وحاشية الجمل على شرح
المنهج 5 / 164 ومطالب أولي النهى 6 / 223.
(11/353)
تَسْوِيَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّسْوِيَةُ لُغَةً: الْعَدْل وَالنَّصَفَةُ، وَالْجَوْرُ أَوِ
الظُّلْمُ ضِدُّ الْعَدْل، وَاسْتَوَى الْقَوْمُ فِي الْمَال مَثَلاً:
إِذَا لَمْ يَفْضُل أَحَدٌ مِنْهُمْ غَيْرَهُ فِي الْمَال.
وَسَوَاءُ الشَّيْءِ: غَيْرُهُ وَمِثْلُهُ - مِنَ الأَْضْدَادِ -
وَتَسَاوَتِ الأُْمُورُ: تَمَاثَلَتْ، وَاسْتَوَى الشَّيْئَانِ
وَتَسَاوَيَا: تَمَاثَلاَ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْقَسْمُ:
2 - وَهُوَ مَصْدَرُ قَسَمَ الشَّيْءَ يَقْسِمُهُ قَسْمًا: جَزَّأَهُ،
وَالْقَسْمُ: نَصِيبُ الإِْنْسَانِ مِنَ الشَّيْءِ وَيُقَال: قَسَمْتُ
الشَّيْءَ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ، وَأَعْطَيْتُ كُل شَرِيكٍ قَسْمَهُ.
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.
(11/353)
وَمِنْهُ التَّقْسِيمُ (1) وَالْقِسْمَةُ
قَدْ تَكُونُ بِالتَّسَاوِي، وَقَدْ تَكُونُ بِالتَّفَاضُل.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّسْوِيَةِ بِاعْتِبَارِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَلَى
الْوَجْهِ الآْتِي:
تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ فِي الصَّلاَةِ:
3 - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مِنَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ
تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ فِي صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ، بِحَيْثُ لاَ يَتَقَدَّمُ
بَعْضُ الْمُصَلِّينَ عَلَى الْبَعْضِ الآْخَرِ، وَالتَّرَاصُّ فِي
الصُّفُوفِ، بِحَيْثُ لاَ يَكُونُ فِيهَا فُرْجَةٌ، (2) لِلأَْحَادِيثِ
الْكَثِيرَةِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الْحَثِّ عَلَيْهَا: مِنْهَا قَوْلُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَوُّوا صُفُوفَكُمْ، فَإِنَّ
تَسْوِيَةَ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلاَةِ وَفِي رِوَايَةٍ فَإِنَّ
تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلاَةِ. (3)
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ
وَتَرَاصُّوا، فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي (4)
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " قسم ".
(2) مغني المحتاج 1 / 248، والقوانين الفقهية ص 74، وسبل السلام 2 / 29.
(3) حديث: " سووا صفوفكم، فإن تسوية الصف. . . . . . " وفي رواية " فإن
تسوية. . . . " أخرجه البخاري (الفتح - 2 / 209 ط السلفية) ومسلم (1 / 324
ط عيسى البابي) .
(4) حديث: " أقيموا صفوفكم وتراصوا، فإني. . . . . . . . " أخرجه البخاري
(الفتح 2 / 208 ط السلفية) ومسلم (1 / 334 عيسى البابي) .
(11/354)
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ
وُجُوهِكُمْ (1) .
وَبَيَانُ مَا تَتَحَقَّقُ بِهِ التَّسْوِيَةُ فِي الصُّفُوفِ يُنْظَرُ فِي
مُصْطَلَحِ (صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ) .
تَسْوِيَةُ الظَّهْرِ فِي الرُّكُوعِ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَكْمَل الرُّكُوعِ هُوَ أَنْ
يَنْحَنِيَ الْمُصَلِّي، بِحَيْثُ يَسْتَوِي ظَهْرُهُ وَعُنُقُهُ، بِأَنْ
يَمُدَّهُمَا حَتَّى يَصِيرَا كَالصَّحِيفَةِ الْوَاحِدَةِ، وَيَنْصِبَ
سَاقَيْهِ وَفَخِذَيْهِ إِلَى الْحِقْوِ، وَلاَ يَثْنِيَ رُكْبَتَيْهِ
حَتَّى لاَ يَفُوتَ اسْتِوَاءُ الظَّهْرِ بِهِ. (2) لأَِنَّ ذَلِكَ ثَبَتَ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ
السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَبَّرَ جَعَل يَدَيْهِ حَذْوَ
مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ أَمْكَنَ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ
هَصَرَ ظَهْرَهُ وَفِي رِوَايَةٍ ثُمَّ حَنَى غَيْرَ مُقَنِّعٍ رَأْسَهُ
وَلاَ مُصَوِّبِهِ (3) وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:
كَانَ
__________
(1) حديث: " لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله. . . . . " أخرجه البخاري (2 /
206 ط السلفية) ، ومسلم (1 / 324 ط عيسى البابي) .
(2) جواهر الإكليل 1 / 48، وتحفة المحتاج 2 / 60، وكشف المخدرات ص 71،
وكفاية الأخبار 1 / 67، وسبل السلام 1 / 161.
(3) حديث أبي حميد الساعدي " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا كبر
جعل يديه حذو. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 305 ط السلفية) .
(11/354)
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَفْتَتِحُ الصَّلاَةَ بِالتَّكْبِيرِ إِلَى أَنْ قَالَتْ:
وَكَانَ إِذَا رَكَعَ لَمْ يُشْخِصْ رَأْسَهُ وَلَمْ يُصَوِّبْهُ، وَلَكِنْ
بَيْنَ ذَلِكَ (1) .
وَفِي حَدِيثِ الْمُسِيءِ صَلاَتَهُ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ: فَإِذَا رَكَعْتَ فَاجْعَل رَاحَتَيْكَ عَلَى
رُكْبَتَيْكَ، وَامْدُدْ ظَهْرَكَ، وَمَكِّنْ رُكُوعَكَ (2) .
قَال الإِْمَامُ الْبَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: السُّنَّةُ فِي الرُّكُوعِ
عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ: أَنْ يَضَعَ رَاحَتَيْهِ عَلَى
رُكْبَتَيْهِ، وَيُفَرِّجَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَيُجَافِيَ مِرْفَقَيْهِ
عَنْ جَنْبَيْهِ، وَيُسَوِّيَ ظَهْرَهُ وَعُنُقَهُ وَرَأْسَهُ (3)
التَّسْوِيَةُ فِي إِعْطَاءِ الزَّكَاةِ بَيْنَ الأَْصْنَافِ
الثَّمَانِيَةِ
5 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ التَّسْوِيَةِ فِي الزَّكَاةِ
بَيْنَ الأَْصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ الاِقْتِصَارِ عَلَى
صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنَ الأَْصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، وَإِلَى جَوَازِ أَنْ
يُعْطِيَهَا شَخْصًا وَاحِدًا مِنَ الصِّنْفِ الْوَاحِدِ، فَلاَ يَجِبُ
عَلَى الإِْمَامِ - إِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي يُوَزِّعُ - وَلاَ عَلَى
الْمَالِكِ أَنْ يَسْتَوْعِبَ جَمِيعَ الأَْصْنَافِ، وَلاَ آحَادَ
__________
(1) حديث عائشة رضي الله عنها: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح
الصلاة بالتكبير. . . . . " أخرجه مسلم (1 / 357 ط عيسى البابي) .
(2) حديث المسيء صلاته " فإذا ركعت فاجعل. . . . . " أخرجه البخاري (2 /
277 ط السلفية) . وأحمد (4 / 640 ط المكتب الإسلامي) واللفظ له.
(3) شرح السنة للبغوي 3 / 94.
(11/355)
كُل صِنْفٍ. وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ
بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا: {
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ: أَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ
أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ (1) فَفِيهِ الأَْمْرُ
بِرَدِّ جُمْلَتِهَا فِي الْفُقَرَاءِ، وَهُمْ صِنْفٌ وَاحِدٌ، وَلَمْ
يَذْكُرْ سِوَاهُمْ. ثُمَّ أَتَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَالٌ فَجَعَلَهُ فِي
صِنْفٍ ثَانٍ غَيْرِ الْفُقَرَاءِ، وَهُمُ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ:
الأَْقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ
عِلاَقَةَ، وَزَيْدُ الْخَيْرِ. حَيْثُ قَسَمَ فِيهِمُ الذُّهَيْبَةَ
الَّتِي بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ مِنَ الْيَمَنِ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَهْل الْيَمَنِ
الصَّدَقَةُ. وَفِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْبَيَاضِيِّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ لَهُ
بِصَدَقَةِ قَوْمِهِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
فَانْطَلِقْ إِلَى صَاحِبِ صَدَقَةِ بَنِي زُرَيْقٍ فَلْيَدْفَعْهَا
إِلَيْكَ (2) . لَكِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنَ الأَْفْضَل
فِي الْقِسْمَةِ أَنْ يُقَدَّمَ الأَْكْثَرُ حَاجَةً، فَالَّذِي يَلِيهِ.
(3)
__________
(1) حديث معاذ: " أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ. . . . " أخرجه البخاري (الفتح
3 / 322 ط السلفية) ومسلم (1 / 50 ط عيسى البابي) .
(2) حديث: " فانطلق إلى صاحب. . . " أخرجه أبو داود (2 / 661 ط عبيد
الدعاس) . والترمذي (3 / 503 ط الحلبي) وقال: حديث حسن. وأخرجه الحاكم (2 /
203) وقال حديث صحيح على شرط مسلم.
(3) البدائع 2 / 46، وجواهر الإكليل 1 / 140، والقوانين الفقهية ص 116،
والمغني لابن قدامة 2 / 668، وروضة الطالبين 2 / 331.
(11/355)
فَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّهُ كَانَ إِذَا جَمَعَ صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي مِنَ الْبَقَرِ
وَالْغَنَمِ، نَظَرَ مِنْهَا مَا كَانَ مَنِيحَةَ اللَّبَنِ، فَيُعْطِيهَا
لأَِهْل بَيْتٍ وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِ مَا يَكْفِيهِمْ، وَكَانَ يُعْطِي
الْعَشَرَةَ لِلْبَيْتِ الْوَاحِدِ ثُمَّ يَقُول: عَطِيَّةٌ تَكْفِي خَيْرٌ
مِنْ عَطِيَّةٍ لاَ تَكْفِي (1) .
وَذَهَبَ الإِْمَامُ النَّخَعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ
كَانَ الْمَال كَثِيرًا يَحْتَمِل الأَْصْنَافَ قَسَمَهُ عَلَيْهِمْ،
وَإِنْ كَانَ قَلِيلاً جَازَ وَضْعُهُ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ. وَذَهَبَ
الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ قَوْل عِكْرِمَةَ إِلَى وُجُوبِ اسْتِيعَابِ
الأَْصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ إِنْ كَانَ الإِْمَامُ أَوْ نَائِبُهُ هُوَ
الَّذِي يَقْسِمُ، فَإِنْ فُقِدَ بَعْضُ الأَْصْنَافِ فَعَلَى
الْمَوْجُودِينَ. وَكَذَا يَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ إِنْ تَوَلَّى
بِنَفْسِهِ الْقِسْمَةَ أَنْ يَسْتَوْعِبَ الأَْصْنَافَ السَّبْعَةَ غَيْرَ
الْعَامِل إِنِ انْحَصَرَ الْمُسْتَحِقُّونَ فِي الْبَلَدِ، بِأَنْ سَهُل
عَادَةً ضَبْطُهُمْ وَمَعْرِفَةُ عَدَدِهِمْ. وَإِنْ لَمْ يَنْحَصِرُوا
فَيَجِبُ إِعْطَاءُ ثَلاَثَةٍ فَأَكْثَرَ مِنْ كُل صِنْفٍ؛ لأَِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى أَضَافَ إِلَيْهِمُ الزَّكَوَاتِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَأَقَلُّهُ
ثَلاَثَةٌ. (2)
6 - وَتَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الأَْصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ سَوَاءٌ
قَسَّمَ الإِْمَامُ أَوِ الْمَالِكُ، وَإِنْ كَانَتْ حَاجَةُ
__________
(1) البدائع 2 / 46.
(2) تحفة المحتاج 7 / 169، ومغني المحتاج 3 / 116، وروضة الطالبين 2 / 331.
(11/356)
بَعْضِهِمْ أَشَدَّ؛ لأَِنَّ اللَّهَ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَمَعَ بَيْنَهُمْ بِوَاوِ التَّشْرِيكِ،
فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونُوا سَوَاءً. (1)
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ سَأَلَهُ مِنَ
الزَّكَاةِ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ وَلاَ غَيْرِهِ فِي
الصَّدَقَاتِ، حَتَّى حَكَمَ هُوَ فِيهَا، فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ
أَجْزَاءٍ، فَإِنْ كُنْتَ مِنْ تِلْكَ الأَْجْزَاءِ أَعْطَيْتُكَ. (2)
7 - كَمَا يَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ آحَادِ الصِّنْفِ
الْوَاحِدِ، إِذَا كَانَتْ حَاجَاتُهُمْ مُتَسَاوِيَةً، لأَِنَّ عَلَيْهِ
التَّعْمِيمَ فَتَلْزَمُهُ التَّسْوِيَةُ؛ وَلأَِنَّهُ نَائِبُهُمْ
فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّفْضِيل. أَمَّا إِذَا اخْتَلَفَتْ حَاجَاتُهُمْ
فَعَلَيْهِ أَنْ يُرَاعِيَهَا.
وَلاَ يَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ آحَادِ الصِّنْفِ
الْوَاحِدِ لِعَدَمِ انْضِبَاطِ الْحَاجَاتِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا
التَّفَاوُتُ، لَكِنْ يُسَنُّ لَهُ التَّسْوِيَةُ إِنْ تَسَاوَتْ
حَاجَاتُهُمْ، فَإِنْ تَفَاوَتَتِ اسْتُحِبَّ التَّفَاوُتُ بِقَدْرِهَا.
(3)
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) حديث: " إن الله لم يرض بحكم نبي. . . . " أخرجه أبو داود (2 / 281 ط
عبيد الدعاس) . قال الهيثمي: فيه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم وهو ضعيف، وقد
وثقه أحمد بن صالح ورد على من تكلم فيه. وبقية رجاله ثقات. (مجمع الزوائد 5
/ 204 ط دار الكتاب العربي) وضعفه السيوطي (فيض القدير 2 / 253 ط المكتبة
التجارية) .
(3) المغني لابن قدامة 2 / 669، وتحفة المحتاج 7 / 172، ومغني المحتاج 3 /
117، وروضة الطالبين 2 / 330.
(11/356)
التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي
الْقَسْمِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقَسْمَ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ
وَاجِبٌ عَلَى الرَّجُل وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ مَجْبُوبًا أَوْ
عِنِّينًا، لأَِنَّ مِنْ مَقَاصِدِ الْقَسْمِ الأُْنْسَ، وَهُوَ حَاصِلٌ
مِمَّنْ لاَ يَطَأُ. فَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَانَ فِي
مَرَضِهِ جَعَل يَدُورُ عَلَى نِسَائِهِ، وَيَقُول: أَيْنَ أَنَا غَدًا؟
أَيْنَ أَنَا غَدًا؟ (1) .
وَيَقْسِمُ لِلْمَرِيضَةِ، وَالْحَائِضِ، وَالنُّفَسَاءِ، وَالرَّتْقَاءِ،
وَالْقَرْنَاءِ، وَالْمُحْرِمَةِ، وَمَنْ آلَى مِنْهَا أَوْ ظَاهَرَ،
وَالشَّابَّةِ، وَالْعَجُوزِ، وَالْقَدِيمَةِ، وَالْحَدِيثَةِ. (2)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً}
(3) الآْيَةَ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
يَعْدِل بَيْنَ نِسَائِهِ فِي الْقَسْمِ وَيَقُول: اللَّهُمَّ هَذَا
قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلاَ تُؤَاخِذُنِي فِيمَا تَمْلِكُ أَنْتَ وَلاَ
أَمْلِكُ. (4)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) حديث: " أين أنا غدا " أخرجه البخاري (الفتح 8 / 144 ط السلفية) .
(2) البدائع 2 / 332، وجواهر الإكليل 1 / 326، والمغني لابن قدامة 7 / 28،
ومغني المحتاج 3 / 252.
(3) سورة النساء / 3.
(4) حديث: " كان يعدل بين نسائه في القسمة ويقول:. . . . " أخرجه أبو داود
(2 / 600 ط عبيد الدعاس) والترمذي (3 / 437 ط مصطفى البابي) وهو مرسل كما
قال الترمذي والبغوي في شرح السنة (9 / 151 ط المكتب الإسلامي) .
(11/357)
أَنَّهُ قَال: مَنْ كَانَ لَهُ
امْرَأَتَانِ، فَمَال إِلَى إِحْدَاهُمَا دُونَ الأُْخْرَى، جَاءَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ. (1)
وَيُسَوِّي فِي الْقَسْمِ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ لِمَا
ذَكَرْنَا مِنَ الدَّلاَئِل مِنْ غَيْرِ فَضْلٍ، وَلأَِنَّهُمَا
يَسْتَوِيَانِ فِي سَبَبِ وُجُوبِ الْقَسْمِ وَهُوَ النِّكَاحُ،
فَيَسْتَوِيَانِ فِي الْقَسْمِ. (2)
وَتَفْصِيل الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ،
وَفِي بَدْءِ الْقَسْمِ، وَمَا يَخْتَصُّ بِهِ الْعَرُوسُ عِنْدَ الدُّخُول
وَغَيْرِ ذَلِكَ، يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ (الْقَسْمُ بَيْنَ
الزَّوْجَاتِ) .
التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ فِي التَّقَاضِي:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ عَلَى الْقَاضِي الْعَدْل بَيْنَ
الْخَصْمَيْنِ فِي كُل شَيْءٍ مِنَ الْمَجْلِسِ، وَالْخِطَابِ،
وَاللَّحْظِ، وَاللَّفْظِ، وَالإِْشَارَةِ، وَالإِْقْبَال، وَالدُّخُول
عَلَيْهِ، وَالإِْنْصَاتِ إِلَيْهِمَا، وَالاِسْتِمَاعِ مِنْهُمَا،
وَالْقِيَامِ لَهُمَا، وَرَدِّ التَّحِيَّةِ عَلَيْهِمَا، وَطَلاَقَةِ
الْوَجْهِ لَهُمَا؛ لِلأَْحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي ثَبَتَتْ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ مِنْهَا:
__________
(1) حديث: " من كان له امرأتان فمال إلى. . . . " أخرجه أبو داود (2 / 600
ط عبيد الدعاس) والترمذي (3 / 438 ط مصطفى البابي) وصحح ابن حجر إسناده
(التلخيص الحبير 3 / 201 ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) البدائع 2 / 332، وجواهر الإكليل 1 / 327، ومغني المحتاج 3 / 254،
والمغني لابن قدامة 7 / 35.
(11/357)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: مَنِ ابْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ،
فَلْيَعْدِل بَيْنَهُمْ فِي لَفْظِهِ وَإِشَارَتِهِ وَمَقْعَدِهِ، وَلاَ
يَرْفَعْ صَوْتَهُ عَلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ مَا لاَ يَرْفَعُهُ عَلَى
الآْخَرِ وَفِي رِوَايَةٍ: فَلْيُسَوِّ بَيْنَهُمْ فِي النَّظَرِ
وَالْمَجْلِسِ وَالإِْشَارَةِ (1)
وَكَتَبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ آسِ بَيْنَ النَّاسِ فِي وَجْهِكَ وَعَدْلِكَ
وَمَجْلِسِكَ، حَتَّى لاَ يَطْمَعَ شَرِيفٌ فِي حَيْفِكَ، وَلاَ يَيْأَسَ
ضَعِيفٌ مِنْ عَدْلِكَ.
وَلأَِنَّ مُخَالَفَةَ ذَلِكَ يُوهِمُ الْخَصْمَ الآْخَرَ مَيْل الْقَاضِي
إِلَى خَصْمِهِ، فَيُضْعِفُهُ ذَلِكَ عَنِ الْقِيَامِ بِحُجَّتِهِ، وَلاَ
يُسَارُّ أَحَدَهُمَا دُونَ الآْخَرِ، وَلاَ يُلَقِّنُهُ حُجَّتَهُ، وَلاَ
يَضْحَكُ فِي وَجْهِهِ؛ لأَِنَّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مُخَالَفَةً
لِلْمُسَاوَاةِ الْمَطْلُوبَةِ.
وَيَشْمَل هَذَا الشَّرِيفَ وَالْوَضِيعَ وَالأَْبَ وَالاِبْنَ،
وَالصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ وَالرَّجُل وَالْمَرْأَةَ (2)
__________
(1) حديث: " من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل. . . " أخرجه البيهقي
(10 / 135 ط دار المعرفة) والدارقطني (4 / 502 ط المدني) . وقال البيهقي:
إسناده فيه ضعف (10 / 135 ط دار المعرفة) . ولفظ الرواية الأخرى قال
الهيثمي (مجمع الزوائد 4 / 197) : رواه أبو يعلى والطبراني في الكبير
باختصار، وفيه عماد بن كثير الثقفي وهو ضعيف.
(2) فتح القدير 6 / 373، والقوانين الفقهية ص 300، مغني المحتاج 4 / 400،
وروضة الطالبين 11 / 161، والمغني لابن قدامة 9 / 80، وحاشية الطحطاوي على
الدر 3 / 184.
(11/358)
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى تَقْدِيمِ
الأَْوَّل فَالأَْوَّل، إِذَا حَضَرَ الْقَاضِي خُصُومٌ وَازْدَحَمُوا؛
لأَِنَّ الْحَقَّ لِلسَّابِقِ، فَإِنْ جَهِل الأَْسْبَقَ مِنْهُمْ، أَوْ
جَاءُوا مَعًا أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، وَقَدَّمَ مَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ؛
إِذْ لاَ مُرَجِّحَ إِلاَّ بِهَا. فَإِنْ حَضَرَ مُسَافِرُونَ
وَمُقِيمُونَ: فَإِنْ كَانَ الْمُسَافِرُونَ قَلِيلاً، بِحَيْثُ لاَ
يَضُرُّ تَقْدِيمُهُمْ عَلَى الْمُقِيمِينَ قَدَّمَهُمْ؛ لأَِنَّهُمْ عَلَى
جَنَاحِ السَّفَرِ؛ وَلِئَلاَّ يَتَضَرَّرُوا بِالتَّخَلُّفِ. وَكَذَلِكَ
النِّسْوَةُ يُقَدَّمْنَ عَلَى الرِّجَال طَلَبًا لِسَتْرِهِنَّ مَا لَمْ
يَكْثُرْ عَدَدُهُنَّ أَيْضًا.
10 - وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ تَسْوِيَةِ الْمُسْلِمِ مَعَ
خَصْمِهِ الْكَافِرِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِلَى وُجُوبِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي كُل
الأُْمُورِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا؛ لأَِنَّ تَفْضِيل الْمُسْلِمِ عَلَى
الْكَافِرِ وَرَفْعَهُ عَلَيْهِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ كَسْرٌ
لِقَلْبِهِ، وَتَرْكٌ لِلْعَدْل الْوَاجِبِ التَّطْبِيقِ بَيْنَ النَّاسِ
جَمِيعًا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ، وَالْحَنَابِلَةُ:
إِلَى جَوَازِ رَفْعِ الْمُسْلِمِ عَلَى خَصْمِهِ الْكَافِرِ، لِمَا رُوِيَ
عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى السُّوقِ،
فَوَجَدَ دِرْعَهُ مَعَ يَهُودِيٍّ، فَعَرَفَهَا فَقَال: دِرْعِي سَقَطَتْ
وَقْتَ كَذَا فَقَال الْيَهُودِيُّ: دِرْعِي وَفِي يَدَيَّ بَيْنِي
وَبَيْنَكَ قَاضِي الْمُسْلِمِينَ. فَارْتَفَعَا إِلَى شُرَيْحٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، فَلَمَّا رَآهُ شُرَيْحٌ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ،
وَأَجْلَسَهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَجَلَسَ مَعَ الْيَهُودِيِّ بَيْنَ
يَدَيْهِ، فَقَال
(11/358)
عَلِيٌّ: إِنَّ خَصْمِيَ لَوْ كَانَ
مُسْلِمًا لَجَلَسْتُ مَعَهُ بَيْنَ يَدَيْكَ، (1) وَلَكِنِّي سَمِعْتُ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: لاَ
تُسَاوُوهُمْ فِي الْمَجَالِسِ (2) اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَهُ يَا شُرَيْحٌ.
وَلِحَدِيثِ: الإِْسْلاَمُ يَعْلُو وَلاَ يُعْلَى (3)
التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الأَْوْلاَدِ فِي الْعَطِيَّةِ
11 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ
الأَْوْلاَدِ فِي الْعَطِيَّةِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ
التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ فِي الْعَطَايَا مُسْتَحَبَّةٌ، وَلَيْسَتْ
وَاجِبَةً.
لأَِنَّ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَضَّل عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا عَلَى غَيْرِهَا مِنْ أَوْلاَدِهِ فِي هِبَةٍ، وَفَضَّل
عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ابْنَهُ عَاصِمًا بِشَيْءٍ مِنَ الْعَطِيَّةِ
عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَوْلاَدِهِ.
وَلأَِنَّ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ
رِوَايَاتِ حَدِيثِ
__________
(1) حاشية الطحطاوي على الدر المختار 3 / 184، وجواهر الإكليل 2 / 225،
ومغني المحتاج 4 / 400، والمغني لابن قدامة 9 / 82.
(2) حديث: " لا تساووهم في المجالس " أخرجه البيهقي (10 / 136 ط دار
المعرفة) وضعفه. وكذلك ابن حجر في تلخيص الحبير (4 / 192 ط المدني) .
(3) حديث: " الإسلام يعلو ولا يعلى " أخرجه الدارقطني (3 / 252 ط المدني)
والبيهقي (6 / 205 ط دار المعرفة) . وعلقه البخاري (3 / 218 ط السلفية)
وحسن ابن حجر إسناده.
(11/359)
النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا: فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي (1) مَا يَدُل عَلَى
الْجَوَازِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ
قَوْل ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَطَاوُسٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ
مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِلَى وُجُوبِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ
الأَْوْلاَدِ فِي الْهِبَةِ. فَإِنْ خَصَّ بَعْضَهُمْ بِعَطِيَّةٍ، أَوْ
فَاضَل بَيْنَهُمْ فِيهَا أَثِمَ، وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ
بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا رَدُّ مَا فَضَّل بِهِ الْبَعْضَ، وَإِمَّا
إِتْمَامُ نَصِيبِ الآْخَرِ، لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النُّعْمَانِ
بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: وَهَبَنِي أَبِي هِبَةً.
فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: لاَ
أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَتَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا
رَسُول اللَّهِ: إِنَّ أُمَّ هَذَا أَعْجَبَهَا أَنْ أُشْهِدَكَ عَلَى
الَّذِي وَهَبْتُ لاِبْنِهَا، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَا بَشِيرُ أَلَكَ وَلَدٌ سِوَى هَذَا؟ قَال: نَعَمْ. قَال: كُلُّهُمْ
وَهَبْتَ لَهُ مِثْل هَذَا؟ قَال: لاَ. قَال: فَأَرْجِعْهُ. وَفِي
رِوَايَةٍ قَال: اتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ وَفِي
رِوَايَةٍ أُخْرَى لاَ تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ. إِنَّ لِبَنِيكَ مِنَ
الْحَقِّ أَنْ تَعْدِل بَيْنَهُمْ وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا
غَيْرِي (2) .
__________
(1) حديث: " فأشهد على هذا غيري " أخرجه مسلم (3 / 1243 ط الحلبي) .
(2) حديث: " فأرجعه " وفي رواية " اتقوا الله واعدلوا " أخرجه البخاري (5 /
211 ط السلفية) . ومسلم (3 / 1241 ط عيسى الحلبي) . والرواية الثانية
والرابعة عند مسلم (3 / 1243 ط الحلبي) ، والرواية الثالثة عند البخاري
(الفتح 5 / 211 ط السلفية) . والحديث عند أحمد (4 / 269 ط المكتب الإسلامي)
بلفظ: " قال: لا. قال: فلا تشهدني إذا. إني لا أشهد على جور، إن لبنيك عليك
من الحق أن تعدل بينهم ".
(11/359)
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: سَوُّوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ فِي
الْعَطِيَّةِ، وَلَوْ كُنْتُ مُؤْثِرًا أَحَدًا لآَثَرْتُ النِّسَاءَ عَلَى
الرِّجَال. (1)
12 - وَاخْتَلَفُوا كَذَلِكَ فِي مَعْنَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الذَّكَرِ
وَالأُْنْثَى مِنَ الأَْوْلاَدِ. فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى
أَنَّ مَعْنَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى مِنَ
الأَْوْلاَدِ: الْعَدْل بَيْنَهُمْ فِي الْعَطِيَّةِ بِدُونِ تَفْضِيلٍ؛
لأَِنَّ الأَْحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ
الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، وَالإِْمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى
أَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي عَطِيَّةِ الأَْوْلاَدِ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمْ
عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمْ: أَيْ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ؛
لأَِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَسَمَ لَهُمْ فِي الإِْرْثِ
هَكَذَا، وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ، وَهُوَ الْعَدْل الْمَطْلُوبُ
بَيْنَ الأَْوْلاَدِ فِي الْهِبَاتِ وَالْعَطَايَا. (2)
__________
(1) حديث: " سووا بين أولادكم. . . " قال الهيثمي: فيه عبد الله بن صالح
كاتب الليث. قال عبد الملك بن شعيب: ثقة مأمون ورفع من شأنه، وضعفه أحمد
وغيره (مجمع الزوائد 4 / 153 ط دار الكتاب العربي) .
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 422، والقوانين الفقهية ص 372، ومغني المحتاج 2 /
401، والمغني لابن قدامة 5 / 614، والإنصاف 7 / 136.
(11/360)
وَإِنْ سَوَّى بَيْنَ الذَّكَرِ
وَالأُْنْثَى، أَوْ فَضَّلَهَا عَلَيْهِ، أَوْ فَضَّل بَعْضَ الْبَنِينَ
أَوْ بَعْضَ الْبَنَاتِ عَلَى بَعْضٍ، أَوْ خَصَّ بَعْضَهُمْ بِالْوَقْفِ
دُونَ بَعْضٍ، فَقَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ:
إِنْ كَانَ عَلَى طَرِيقِ الأَْثَرَةِ فَأَكْرَهُهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى
أَنَّ بَعْضَهُمْ لَهُ عِيَالٌ وَبِهِ حَاجَةٌ يَعْنِي فَلاَ بَأْسَ بِهِ.
وَعَلَى قِيَاسِ قَوْل الإِْمَامِ أَحْمَدَ: لَوْ خَصَّ الْمُشْتَغِلِينَ
بِالْعِلْمِ مِنْ أَوْلاَدِهِ بِوَقْفِهِ تَحْرِيضًا لَهُمْ عَلَى طَلَبِ
الْعِلْمِ، أَوْ ذَا الدِّينِ دُونَ الْفُسَّاقِ، أَوِ الْمَرِيضِ، أَوْ
مَنْ لَهُ فَضْلٌ مِنْ أَجْل فَضِيلَتِهِ فَلاَ بَأْسَ. (1)
التَّسْوِيَةُ فِي الشُّفْعَةِ بَيْنَ الْمُسْتَحِقِّينَ
13 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي التَّسْوِيَةِ فِي الشُّفْعَةِ بَيْنَ
الْمُسْتَحِقِّينَ لَهَا.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى
أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ بِالشُّفْعَةِ عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمْ مِنَ
الْمِلْكِ؛ لأَِنَّهُ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ بِالْمِلْكِ عَلَى قَدْرِهِ،
فَلَوْ كَانَتْ أَرْضٌ بَيْنَ ثَلاَثَةٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ مَثَلاً:
لِوَاحِدٍ نِصْفُهَا، وَلآِخَرَ ثُلُثُهَا، وَلِثَالِثٍ سُدُسُهَا، فَبَاعَ
الأَْوَّل - وَهُوَ صَاحِبُ النِّصْفِ - حِصَّتَهُ أَخَذَ الثَّانِي
سَهْمَيْنِ، وَالثَّالِثُ سَهْمًا وَاحِدًا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ عِنْدَ
__________
(1) المغني 5 / 619 ط الرياض.
(11/360)
الشَّافِعِيَّةِ، وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ،
وَاخْتَارَهُ جَمْعٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ: إِلَى أَنَّ الشُّرَكَاءَ
يَقْتَسِمُونَ الشِّقْصَ عَلَى قَدْرِ رُءُوسِهِمْ، وَعَلَى هَذَا يُقْسَمُ
النِّصْفُ فِي الْمِثَال السَّابِقِ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ سَوَاءً
بِسَوَاءٍ؛ لأَِنَّ سَبَبَ الشُّفْعَةِ هُوَ أَصْل الشَّرِكَةِ، وَهُمْ
مُسْتَوُونَ فِيهَا، فَيَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ فِي اقْتِسَامِ
الْمَشْرُوعِ فِيهِ. (1)
التَّسْوِيَةُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْمَرَافِقِ الْعَامَّةِ:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرَافِقَ الْعَامَّةَ - مِنَ
الشَّوَارِعِ وَالطُّرُقِ، وَأَفْنِيَةِ الأَْمْلاَكِ، وَالرِّحَابِ بَيْنَ
الْعُمْرَانِ، وَحَرِيمِ الأَْمْصَارِ، وَمَنَازِل الأَْسْفَارِ،
وَمَقَاعِدِ الأَْسْوَاقِ، وَالْجَوَامِعِ وَالْمَسَاجِدِ، وَالأَْنْهَارِ
الَّتِي أَجْرَاهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالْعُيُونِ الَّتِي
أَنْبَعَ اللَّهُ مَاءَهَا، وَالْمَعَادِنَ الظَّاهِرَةَ وَهِيَ الَّتِي
خَرَجَتْ بِدُونِ عَمَل النَّاسِ كَالْمِلْحِ وَالْمَاءِ وَالْكِبْرِيتِ
وَالْكُحْل وَغَيْرِهَا وَالْكَلأَِ - اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ
الأَْشْيَاءَ مِنَ الْمَنَافِعِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ النَّاسِ، فَهُمْ
فِيهَا سَوَاسِيَةٌ، فَيَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِهَا لِلْمُرُورِ
وَالاِسْتِرَاحَةِ وَالْجُلُوسِ وَالْمُعَامَلَةِ وَالْقِرَاءَةِ
وَالدِّرَاسَةِ وَالشُّرْبِ وَالسِّقَايَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ
الاِنْتِفَاعِ.
وَلَكِنْ لاَ يَجُوزُ اقْتِطَاعُهَا لأَِحَدٍ مِنَ النَّاسِ،
__________
(1) ابن عابدين 5 / 139، والقوانين الفقهية ص 292، وتحفة المحتاج 6 / 75،
ومغني المحتاج 2 / 305 والإنصاف 6 / 275.
(11/361)
وَلاَ احْتِجَازُهَا دُونَ الْمُسْلِمِينَ؛
لأَِنَّ فِيهِ ضَرَرًا بِالْمُسْلِمِينَ وَتَضْيِيقًا عَلَيْهِمْ.
وَيَكُونُ الْحَقُّ فِيهَا لِلسَّابِقِ حَتَّى يَرْتَحِل عَنْهَا،
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ
إِلَيْهَا. (1)
وَيُشْتَرَطُ عَدَمُ الإِْضْرَارِ، فَإِذَا تَضَرَّرَ بِهِ النَّاسُ لَمْ
يَجُزْ ذَلِكَ بِأَيِّ حَالٍ، (2) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ. (3)
تَسْوِيَةُ الْقَبْرِ:
15 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ رَفْعِ الْقَبْرِ مِقْدَارَ شِبْرٍ
مِنَ الأَْرْضِ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ بِقَلِيلٍ إِنْ لَمْ يُخْشَ نَبْشُهُ
مِنْ كَافِرٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَذَلِكَ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ قَبْرٌ
فَيُزَارَ، وَيُتَرَحَّمَ عَلَى صَاحِبِهِ، وَيُحْتَرَمَ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا صَحَّ مِنْ أَنَّ قَبْرَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُفِعَ نَحْوَ شِبْرٍ (4) فَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ
__________
(1) حديث: " منى مناخ من سبق إليها " أخرجه الترمذي (3 / 219 ط مصطفى
الحلبي) . وقال حديث حسن صحيح، والحاكم (1 / 467 ط دار الكتاب العربي)
وقال: صحيح على شرط مسلم.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 177 - 198، مغني المحتاج 2 / 361، المغني
لابن قدامة 5 / 570.
(3) حديث: " لا ضرر ولا ضرار " أخرجه البيهقي (6 / 69 - 70 ط دار المعرفة)
، والحاكم (2 / 57 - 58، ط دار الكتاب العربي) وقال: هذا صحيح الإسناد على
شرط مسلم.
(4) حديث: " رفع قبره عن الأرض قدر شبر. . . " أخرجه البيهقي (3 / 410 ط
دار المعرفة) . موصولا ومرسلا ورجح إرساله. وعزاه الزيلعي في نصب الراية (2
/ 303) إلى ابن حبان في صحيحه.
(11/361)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُفِعَ
قَبْرُهُ عَنِ الأَْرْضِ قَدْرَ شِبْرٍ. وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَال: قُلْتُ لِعَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: يَا أُمَّهُ اكْشِفِي لِي عَنْ قَبْرِ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ، فَكَشَفَتْ لِي
عَنْ ثَلاَثَةِ قُبُورٍ، لاَ مُشْرِفَةً وَلاَ لاَطِئَةً (1) مَبْطُوحَةً
بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ (2) . وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ
النَّخَعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَال: أَخْبَرَنِي مَنْ رَأَى
قَبْرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبْرَ أَبِي
بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهَا مُسَنَّمَةٌ (3) .
وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا لَمَّا مَاتَ بِالطَّائِفِ، صَلَّى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ
الْحَنَفِيَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا، وَجَعَل
لَهُ لَحْدًا، وَأَدْخَلَهُ الْقَبْرَ مِنْ قِبَل الْقِبْلَةِ، وَجَعَل
قَبْرَهُ مُسَنَّمًا، وَضَرَبَ عَلَيْهِ فُسْطَاطًا (4) .
__________
(1) اللاطئة: هي الملتصقة بالأرض.
(2) حديث: " يا أمه اكشفي لي عن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . "
أخرجه أبو داود (3 / 549 ط عبيد الدعاس) والحاكم (1 / 369 ط الكتاب العربي)
وقال حديث صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي.
(3) الأثر عن إبراهيم النخعي " أخبرني من رأى قبر رسول الله صلى الله عليه
وسلم. . . . " أخرجه محمد بن الحسن الشيباني في كتاب الآثار (ص 80) قال
التهانوي في إعلاء السنن (8 / 271) : فيه مجهول.
(4) البدائع 1 / 320، وجواهر الإكليل 1 / 111، وتحفة المحتاج 3 / 173،
والمغني لابن قدامة 2 / 504.
(11/362)
وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ تَسْطِيحَ الْقَبْرِ وَتَسْوِيَتَهُ بِالأَْرْضِ
أَوْلَى مِنْ تَسْنِيمِهِ، لِمَا صَحَّ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ
مِنْ أَنَّ عَمَّتَهُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَشَفَتْ لَهُ عَنْ
قَبْرِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبْرِ
صَاحِبَيْهِ فَإِذَا هِيَ مُسَطَّحَةٌ مَبْطُوحَةٌ بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ
الْحَمْرَاءِ. (1)
16 - وَيُكْرَهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مَا زَادَ عَنْ مِقْدَارِ الشِّبْرِ
زِيَادَةً كَبِيرَةً، إِنْ لَمْ يَكُنْ لِحَاجَةٍ كَخَوْفِ نَبْشِ قَبْرِ
الْمُؤْمِنِ مِنْ نَحْوِ كَافِرٍ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لاَ تَدَعْ تِمْثَالاً
إِلاَّ طَمَسْتَهُ، وَلاَ قَبْرًا مُشْرِفًا إِلاَّ سَوَّيْتَهُ. (2)
وَالْمُشْرِفُ مَا رُفِعَ كَثِيرًا بِدَلِيل قَوْل الْقَاسِمِ فِي صِفَةِ
قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ: لاَ
مُشْرِفَةً وَلاَ لاَطِئَةً. (3)
__________
(1) تحفة المحتاج 3 / 173.
(2) حديث علي رضي الله عنه: " لا تدع تمثالا. . . " أخرجه مسلم (2 / 666 ط
عيسى الحلبي) .
(3) المغني لابن قدامة 2 / 504، والفروع 2 / 271.
(11/362)
تَشَبُّهٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّشَبُّهُ لُغَةً: مَصْدَرُ تَشَبَّهَ، يُقَال: تَشَبَّهَ فُلاَنٌ:
بِفُلاَنٍ إِِذَا تَكَلَّفَ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ وَالْمُشَابَهَةُ بَيْنَ
الشَّيْئَيْنِ: الاِشْتِرَاكُ بَيْنَهُمَا فِي مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي،
وَمِنْهُ: أَشْبَهَ الْوَلَدُ أَبَاهُ: إِِذَا شَارَكَهُ فِي صِفَةٍ مِنْ
صِفَاتِهِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ
الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - مِنْهَا:
الاِتِّبَاعُ
وَالتَّأَسِّي
وَالتَّقْلِيدُ
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلاَمُ فِيهَا تَحْتَ عِنْوَانٍ: (اتِّبَاعٌ) .
3 - وَمِنْهَا:
الْمُوَافَقَةُ،
وَهِيَ: مُشَارَكَةُ أَحَدِ الشَّخْصَيْنِ لِلآْخَرِ فِي صُورَةِ قَوْلٍ
أَوْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ أَوِ اعْتِقَادٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، سَوَاءٌ
أَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَجْل ذَلِكَ الآْخَرِ أَمْ لاَ لأَِجْلِهِ (3) .
فَالْمُوَافَقَةُ أَعَمُّ مِنَ التَّشَبُّهِ.
__________
(1) معجم متن اللغة، والمعجم الوسيط مادة: " شبه ".
(2) ابن عابدين 1 / 419 ط بولاق، وروضة الطالبين 2 / 263، والزرقاني 5 /
130، وكشاف القناع 2 / 239.
(3) الأحكام للآمدي 1 / 172.
(12/5)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ
بِالتَّشَبُّهِ:
أَوَّلاً - التَّشَبُّهُ بِالْكُفَّارِ فِي اللِّبَاسِ:
4 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ، وَالْمَالِكِيَّةُ
عَلَى الْمَذْهَبِ، وَجُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ إِِلَى: أَنَّ
التَّشَبُّهَ بِالْكُفَّارِ فِي اللِّبَاسِ - الَّذِي هُوَ شِعَارٌ لَهُمْ
بِهِ يَتَمَيَّزُونَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ - يُحْكَمُ بِكُفْرِ فَاعِلِهِ
ظَاهِرًا، أَيْ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، فَمَنْ وَضَعَ قَلَنْسُوَةَ
الْمَجُوسِ عَلَى رَأْسِهِ يَكْفُرُ، إِلاَّ إِِذَا فَعَلَهُ لِضَرُورَةِ
الإِِْكْرَاهِ أَوْ لِدَفْعِ الْحَرِّ أَوِ الْبَرْدِ. وَكَذَا إِِذَا
لَبِسَ زُنَّارَ النَّصَارَى إِلاَّ إِِذَا فَعَل ذَلِكَ خَدِيعَةً فِي
الْحَرْبِ وَطَلِيعَةً لِلْمُسْلِمِينَ. (1) أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ لِحَدِيثِ:
مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ (2) لأَِنَّ اللِّبَاسَ الْخَاصَّ
بِالْكُفَّارِ عَلاَمَةُ الْكُفْرِ، وَلاَ يَلْبَسُهُ إِلاَّ مَنِ
الْتَزَمَ الْكُفْرَ، وَالاِسْتِدْلاَل بِالْعَلاَمَةِ وَالْحُكْمُ بِمَا
دَلَّتْ عَلَيْهِ مُقَرَّرٌ فِي الْعَقْل وَالشَّرْعِ. (3)
فَلَوْ عُلِمَ أَنَّهُ شَدَّ الزُّنَّارَ لاَ لاِعْتِقَادِ حَقِيقَةِ
الْكُفْرِ، بَل لِدُخُول دَارِ الْحَرْبِ لِتَخْلِيصِ الأَْسَارَى مَثَلاً
لَمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ. (4)
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 276، والاختيار 4 / 150، وجواهر الإكليل 2 / 278،
والتاج والإكليل بهامش الحطاب 6 /، وتحفة المحتاج 9 / 91، 92 ط دار صادر،
وأسنى المطالب وحاشية الرملي عليه 4 / 11.
(2) حديث: " من تشبه بقوم فهو منهم. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 314 - ط
عزت عبيد دعاس) وجوده ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (1 / 236 - ط
العبيكان) .
(3) البزازية بهامش الهندية 6 / 332.
(4) تحفة المحتاج لابن حجر 9 / 91، 92.
(12/5)
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ -
وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ الشَّاطِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ
- أَنَّ مَنْ يَتَشَبَّهُ بِالْكَافِرِ فِي الْمَلْبُوسِ الْخَاصِّ بِهِ
لاَ يُعْتَبَرُ كَافِرًا، إِلاَّ أَنْ يَعْتَقِدَ مُعْتَقَدَهُمْ؛
لأَِنَّهُ مُوَحِّدٌ بِلِسَانِهِ مُصَدِّقٌ بِجَنَانِهِ.
وَقَدْ قَال الإِِْمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لاَ يَخْرُجُ
أَحَدٌ مِنَ الإِِْيمَانِ إِلاَّ مِنَ الْبَابِ الَّذِي دَخَل فِيهِ،
وَالدُّخُول بِالإِِْقْرَارِ وَالتَّصْدِيقِ، وَهُمَا قَائِمَانِ. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِِلَى حُرْمَةِ التَّشَبُّهِ بِالْكُفَّارِ فِي
اللِّبَاسِ الَّذِي هُوَ شِعَارٌ لَهُمْ. قَال الْبُهُوتِيُّ: إِنْ
تَزَيَّا مُسْلِمٌ بِمَا صَارَ شِعَارًا لأَِهْل ذِمَّةٍ، أَوْ عَلَّقَ
صَلِيبًا بِصَدْرِهِ حَرُمَ، وَلَمْ يَكْفُرْ بِذَلِكَ كَسَائِرِ
الْمَعَاصِي. (2)
وَيَرَى النَّوَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مَنْ لَبِسَ الزُّنَّارَ
وَنَحْوَهُ لاَ يَكْفُرُ إِِذَا لَمْ تَكُنْ نِيَّةٌ. (3)
أَحْوَال تَحْرِيمِ التَّشَبُّهِ:
وَبِتَتَبُّعِ عِبَارَاتِ الْفُقَهَاءِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُمْ يُقَيِّدُونَ
كُفْرَ مَنْ يَتَشَبَّهُ بِالْكُفَّارِ فِي اللِّبَاسِ الْخَاصِّ بِهِمْ
بِقُيُودٍ مِنْهَا:
5 - أَنْ يَفْعَلَهُ فِي بِلاَدِ الإِِْسْلاَمِ (4) ، قَال أَحْمَدُ
الرَّمْلِيُّ: كَوْنُ التَّزَيِّي بِزِيِّ الْكُفَّارِ رِدَّةً مَحَلُّهُ
إِِذَا كَانَ
__________
(1) الفتاوى البزازية بهامش الهندية 6 / 332، ودار الشروق مع الفروق 4 /
116.
(2) كشاف القناع 3 / 128.
(3) روضة الطالبين 10 / 69.
(4) الزرقاني 8 / 63.
(12/6)
فِي دَارِ الإِِْسْلاَمِ. أَمَّا فِي دَارِ
الْحَرْبِ فَلاَ يُمْكِنُ الْقَوْل بِكَوْنِهِ رِدَّةً؛ لاِحْتِمَال
أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ، أَوْ أَنْ يُكْرَهَ
عَلَى ذَلِكَ. (1)
قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: لَوْ أَنَّ الْمُسْلِمَ بِدَارِ حَرْبٍ أَوْ دَارِ
كُفْرٍ غَيْرِ حَرْبٍ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِالْمُخَالَفَةِ لَهُمْ
(لِلْكُفَّارِ) فِي الْهَدْيِ الظَّاهِرِ؛ لِمَا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنَ
الضَّرَرِ بَل قَدْ يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُل أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ
يُشَارِكَهُمْ أَحْيَانًا فِي هَدْيِهِمُ الظَّاهِرِ، إِِذَا كَانَ فِي
ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ، مِنْ دَعْوَتِهِمْ إِِلَى الدِّينِ
وَالاِطِّلاَعِ عَلَى بَاطِنِ أُمُورِهِمْ لإِِِخْبَارِ الْمُسْلِمِينَ
بِذَلِكَ، أَوْ دَفْعِ ضَرَرِهِمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ
مِنَ الْمَقَاصِدِ الْحَسَنَةِ. فَأَمَّا فِي دَارِ الإِِْسْلاَمِ
وَالْهِجْرَةِ الَّتِي أَعَزَّ اللَّهُ فِيهَا دِينَهُ، وَجَعَل عَلَى
الْكَافِرِينَ فِيهَا الصَّغَارَ وَالْجِزْيَةَ فَفِيهَا شُرِعَتِ
الْمُخَالَفَةُ. (2)
6 - أَنْ يَكُونَ التَّشَبُّهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، فَمَنْ فَعَل ذَلِكَ
لِلضَّرُورَةِ لاَ يَكْفُرُ، فَمَنْ شَدَّ عَلَى وَسَطِهِ زُنَّارًا
وَدَخَل دَارَ الْحَرْبِ لِتَخْلِيصِ الأَْسْرَى، أَوْ فَعَل ذَلِكَ
خَدِيعَةً فِي الْحَرْبِ وَطَلِيعَةً لِلْمُسْلِمِينَ لاَ يَكْفُرُ. (3)
وَكَذَلِكَ إِنْ وَضَعَ قَلَنْسُوَةَ الْمَجُوسِ
__________
(1) أسنى المطالب 4 / 11، وانظر أصول الدين لأبي منصور عبد القاهر التميمي
البغدادي ص 266 ط استانبول.
(2) اقتضاء الصراط المستقيم بتحقيق د. ناصر العقل 1 / 418.
(3) الفتاوى الهندية 2 / 276، والفتاوى البزازية بهامش الهندية 6 / 332،
وأسنى المطالب 4 / 119.
(12/6)
عَلَى رَأْسِهِ لِضَرُورَةِ دَفْعِ
الْحَرِّ وَالْبَرْدِ لاَ يَكْفُرُ. (1)
7 - أَنْ يَكُونَ التَّشَبُّهُ فِيمَا يَخْتَصُّ بِالْكَافِرِ،
كَبُرْنِيطَةِ النَّصْرَانِيِّ وَطُرْطُورِ الْيَهُودِيِّ. وَيَشْتَرِطُ
الْمَالِكِيَّةُ لِتَحَقُّقِ الرِّدَّةِ بِجَانِبِ ذَلِكَ: أَنْ يَكُونَ
الْمُتَشَبِّهُ قَدْ سَعَى بِذَلِكَ لِلْكَنِيسَةِ وَنَحْوِهَا. (2)
8 - أَنْ يَكُونَ التَّشَبُّهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَكُونُ اللِّبَاسُ
الْمُعَيَّنُ شِعَارًا لِلْكُفَّارِ، وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ حَجَرٍ حَدِيثَ
أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ رَأَى قَوْمًا عَلَيْهِمُ
الطَّيَالِسَةُ، فَقَال: كَأَنَّهُمْ يَهُودُ خَيْبَرَ (3) ثُمَّ قَال
ابْنُ حَجَرٍ: وَإِِنَّمَا يَصْلُحُ الاِسْتِدْلاَل بِقِصَّةِ الْيَهُودِ
فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَكُونُ الطَّيَالِسَةُ مِنْ شِعَارِهِمْ، وَقَدِ
ارْتَفَعَ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ، فَصَارَ دَاخِلاً فِي عُمُومِ الْمُبَاحِ.
(4)
9 - أَنْ يَكُونَ التَّشَبُّهُ مَيْلاً لِلْكُفْرِ، فَمَنْ تَشَبَّهَ عَلَى
وَجْهِ اللَّعِبِ وَالسُّخْرِيَةِ لَمْ يَرْتَدَّ، بَل يَكُونُ فَاسِقًا
يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. (5)
10 - هَذَا، وَالتَّشَبُّهُ فِي غَيْرِ الْمَذْمُومِ وَفِيمَا لَمْ
يُقْصَدْ بِهِ التَّشَبُّهُ لاَ بَأْسَ بِهِ.
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 276.
(2) الزرقاني 8 / 63، والشرح الصغير 4 / 433، وجواهر الإكليل 2 / 288.
(3) الأثر عن أنس أنه رأى قوما عليهم الطيالسة. أورده ابن القيم في كتابيه
زاد المعاد (1 / 142) وأحكام أهل الذمة (2 / 754) .
(4) فتح الباري 10 / 275 ط السلفية.
(5) الشرح الصغير 4 / 433، والزرقاني 8 / 63.
(12/7)
قَال صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: إِنَّ
التَّشَبُّهَ (بِأَهْل الْكِتَابِ) لاَ يُكْرَهُ فِي كُل شَيْءٍ، بَل فِي
الْمَذْمُومِ وَفِيمَا يُقْصَدُ بِهِ التَّشَبُّهُ.
قَال هِشَامٌ: رَأَيْتُ أَبَا يُوسُفَ لاَبِسًا نَعْلَيْنِ مَخْصُوفَيْنِ
بِمَسَامِيرَ فَقُلْتُ أَتَرَى بِهَذَا الْحَدِيدِ بَأْسًا؟ قَال: لاَ،
قُلْتُ: سُفْيَانُ وَثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ كَرِهَا ذَلِكَ لأَِنَّ فِيهِ
تَشَبُّهًا بِالرُّهْبَانِ، فَقَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُ النِّعَال الَّتِي لَهَا شَعْرٌ وَإِِنَّهَا
مِنْ لِبَاسِ الرُّهْبَانِ. فَقَدْ أَشَارَ إِِلَى أَنَّ صُورَةَ
الْمُشَابَهَةِ فِيمَا تَعَلَّقَ بِهِ صَلاَحُ الْعِبَادِ لاَ يَضُرُّ،
فَإِِنَّ الأَْرْضَ مِمَّا لاَ يُمْكِنُ قَطْعُ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ
فِيهَا إِلاَّ بِهَذَا النَّوْعِ. (1)
وَلِلتَّفْصِيل ر: (رِدَّةٌ، كُفْرٌ) .
ثَانِيًا - التَّشَبُّهُ بِالْكُفَّارِ فِي أَعْيَادِهِمْ:
11 - لاَ يَجُوزُ التَّشَبُّهُ بِالْكُفَّارِ فِي أَعْيَادِهِمْ، لِمَا
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ، وَمَعْنَى
ذَلِكَ تَنْفِيرُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ مُوَافَقَةِ الْكُفَّارِ فِي كُل مَا
اخْتَصُّوا بِهِ. (2) قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ
الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُل إِنَّ
هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ
الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 419، والفتاوى الهندية 5 / 333.
(2) أحكام أهل الذمة 2 / 722، نشر دار العلم للملايين، والمدخل لابن الحاج
2 / 46 - 48، والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 441، وكشاف القناع 3 / 131.
(12/7)
مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}
(1) وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ
قَال: لاَ تَعَلَّمُوا رَطَانَةَ الأَْعَاجِمِ، وَلاَ تَدْخُلُوا عَلَى
الْمُشْرِكِينَ فِي كَنَائِسِهِمْ يَوْمَ عِيدِهِمْ، فَإِِنَّ السُّخْطَةَ
تَنْزِل عَلَيْهِمْ.
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
أَنَّهُ قَال: مَنْ مَرَّ بِبِلاَدِ الأَْعَاجِمِ فَصَنَعَ نَيْرُوزَهُمْ
وَمِهْرَجَانَهُمْ وَتَشَبَّهَ بِهِمْ حَتَّى يَمُوتَ وَهُوَ كَذَلِكَ،
حُشِرَ مَعَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (2) .
وَلأَِنَّ الأَْعْيَادَ مِنْ جُمْلَةِ الشَّرْعِ وَالْمَنَاهِجِ
وَالْمَنَاسِكِ الَّتِي قَال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لِكُل
أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} (3) كَالْقِبْلَةِ
وَالصَّلاَةِ، وَالصِّيَامِ فَلاَ فَرْقَ بَيْنَ مُشَارَكَتِهِمْ فِي
الْعِيدِ وَبَيْنَ مُشَارَكَتِهِمْ فِي سَائِرِ الْمَبَاهِجِ، فَإِِنَّ
الْمُوَافَقَةَ فِي جَمِيعِ الْعِيدِ مُوَافَقَةٌ فِي الْكُفْرِ،
وَالْمُوَافَقَةُ فِي بَعْضِ فُرُوعِهِ مُوَافَقَةٌ فِي بَعْضِ شُعَبِ
الْكُفْرِ، بَل الأَْعْيَادُ مِنْ أَخَصِّ مَا تَتَمَيَّزُ بِهِ
الشَّرَائِعُ وَمِنْ أَظْهَرِ مَا لَهَا مِنَ الشَّعَائِرِ،
فَالْمُوَافَقَةُ فِيهَا مُوَافَقَةٌ فِي أَخَصِّ شَرَائِعِ الْكُفْرِ
وَأَظْهَرِ شَعَائِرِهِ. (4)
قَال قَاضِي خَانْ: رَجُلٌ اشْتَرَى يَوْمَ النَّيْرُوزِ شَيْئًا لَمْ
يَشْتَرِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ: إنْ أَرَادَ بِهِ
__________
(1) سورة البقرة / 120.
(2) أحكام أهل الذمة 2 / 723.
(3) سورة الحج / 67.
(4) اقتضاء الصراط المستقيم 1 / 471.
(12/8)
تَعْظِيمَ ذَلِكَ الْيَوْمِ كَمَا
يُعَظِّمُهُ الْكَفَرَةُ يَكُونُ كُفْرًا، وَإِِنْ فَعَل ذَلِكَ لأَِجْل
السَّرَفِ وَالتَّنَعُّمِ لاَ لِتَعْظِيمِ الْيَوْمِ لاَ يَكُونُ كُفْرًا.
وَإِِنْ أَهْدَى يَوْمَ النَّيْرُوزِ إِِلَى إِنْسَانٍ شَيْئًا وَلَمْ
يُرِدْ بِهِ تَعْظِيمَ الْيَوْمِ، إِنَّمَا فَعَل ذَلِكَ عَلَى عَادَةِ
النَّاسِ لاَ يَكُونُ كُفْرًا.
وَيَنْبَغِي أَنْ لاَ يَفْعَل فِي هَذَا الْيَوْمِ مَا لاَ يَفْعَلُهُ
قَبْل ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلاَ بَعْدَهُ، وَأَنْ يَحْتَرِزَ عَنِ
التَّشَبُّهِ بِالْكَفَرَةِ. (1)
وَكَرِهَ ابْنُ الْقَاسِمِ (مِنَ الْمَالِكِيَّةِ) لِلْمُسْلِمِ أَنْ
يُهْدِيَ إِِلَى النَّصْرَانِيِّ فِي عِيدِهِ مُكَافَأَةً، وَرَآهُ مِنْ
تَعْظِيمِ عِيدِهِ وَعَوْنًا لَهُ عَلَى كُفْرِهِ. (2) وَكَمَا لاَ يَجُوزُ
التَّشَبُّهُ بِالْكُفَّارِ فِي الأَْعْيَادِ لاَ يُعَانُ الْمُسْلِمُ
الْمُتَشَبِّهُ بِهِمْ فِي ذَلِكَ بَل يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ، فَمَنْ صَنَعَ
دَعْوَةً مُخَالِفَةً لِلْعَادَةِ فِي أَعْيَادِهِمْ لَمْ تُجَبْ
دَعْوَتُهُ، وَمَنْ أَهْدَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ هَدِيَّةً فِي هَذِهِ
الأَْعْيَادِ، مُخَالِفَةً لِلْعَادَةِ فِي سَائِرِ الأَْوْقَاتِ غَيْرِ
هَذَا الْعِيدِ لَمْ تُقْبَل هَدِيَّتُهُ، خُصُوصًا إِنْ كَانَتِ
الْهَدِيَّةُ مِمَّا يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى التَّشَبُّهِ بِهِمْ، مِثْل
إِهْدَاءِ الشَّمْعِ وَنَحْوِهِ فِي عِيدِ الْمِيلاَدِ (3) .
__________
(1) الفتاوى الخانية بهامش الهندية 3 / 577، وانظر الفتاوى الهندية 2 / 276
- 277، والفتاوى البزازية بهامش الهندية 6 / 333، 334، وحاشية ابن عابدين 5
/ 481، والفتاوى الأنقروية 1 / 164، وبذل المجهود في حل أبي داود 6 / 160
نشر دار الكتب العلمية.
(2) المدخل لابن الحاج 2 / 47، وأحكام أهل الذمة 2 / 725.
(3) اقتضاء الصراط المستقيم 2 / 517.
(12/8)
هَذَا وَتَجِبُ عُقُوبَةُ مَنْ يَتَشَبَّهُ
بِالْكُفَّارِ فِي أَعْيَادِهِمْ (1) .
وَأَمَّا مَا يَبِيعُهُ الْكُفَّارُ فِي الأَْسْوَاقِ فِي أَعْيَادِهِمْ
فَلاَ بَأْسَ بِحُضُورِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ
مُهَنَّا. وَقَال: إِنَّمَا يُمْنَعُونَ أَنْ يَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ
بِيَعَهُمْ وَكَنَائِسَهُمْ، فَأَمَّا مَا يُبَاعُ فِي الأَْسْوَاقِ مِنَ
الْمَأْكَل فَلاَ، وَإِِنْ قَصَدَ إِِلَى تَوْفِيرِ ذَلِكَ وَتَحْسِينِهِ
لأَِجْلِهِمْ. (2)
وَلِلتَّفْصِيل (ر: عِيدٌ)
ثَالِثًا - التَّشَبُّهُ بِالْكُفَّارِ فِي الْعِبَادَاتِ:
يُكْرَهُ التَّشَبُّهُ بِالْكُفَّارِ فِي الْعِبَادَاتِ فِي الْجُمْلَةِ،
وَمِنْ أَمْثِلَةِ التَّشَبُّهِ بِهِمْ فِي هَذَا الْمَجَال:
أ - الصَّلاَةُ فِي أَوْقَاتِ الْكَرَاهَةِ:
12 - نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلاَةِ
فِي أَوْقَاتِ الْكَرَاهَةِ مِنْهَا لِلتَّشَبُّهِ بِعِبَادَةِ
الْكُفَّارِ. (3)
فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَنْبَسَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
صَل صَلاَةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلاَةِ حَتَّى تَطْلُعَ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 131، وقليوبي وعميرة 4 / 205.
(2) الآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 441، واقتضاء الصراط المستقيم 2 / 518.
(3) اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية 1 / 190، وفتح القدير 1 / 202 ط دار
إحياء التراث العربي، والكافي لابن عبد البر 1 / 195، والبجيرمي على الخطيب
2 / 101 نشر دار المعرفة، والمغني 2 / 107 ط الرياض.
(12/9)
الشَّمْسُ حَتَّى تَرْتَفِعَ، فَإِِنَّهَا
تَطْلُعُ حِينَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ
لَهَا الْكُفَّارُ. ثُمَّ صَل فَإِِنَّ الصَّلاَةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ
حَتَّى يَسْتَقِل الظِّل بِالرُّمْحِ. ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلاَةِ
فَإِِنَّ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ، فَإِِذَا أَقْبَل الْفَيْءُ فَصَل
فَإِِنَّ الصَّلاَةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى تُصَلِّيَ الْعَصْرَ.
ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلاَةِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَإِِنَّهَا
تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا
الْكُفَّارُ. (1)
وَلِلتَّفْصِيل فِي الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَوْقَاتِ
الْكَرَاهَةِ (ر: الْمَوْسُوعَةَ الْفِقْهِيَّةَ 7 180 أَوْقَاتُ
الصَّلاَةِ ف 23)
ب - الاِخْتِصَارُ فِي الصَّلاَةِ:
13 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي كَرَاهَةِ الاِخْتِصَارِ (2) فِي
الصَّلاَةِ لأَِنَّ الْيَهُودَ تُكْثِرُ مِنْ فِعْلِهِ، فَنُهِيَ عَنْهُ
كَرَاهَةً لِلتَّشَبُّهِ بِهِمْ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ
وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَهَى
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّيَ
__________
(1) حديث: " صل صلاة الصبح. . . " أخرجه مسلم (1 / 570 - ط الحلبي) .
(2) اختلف العلماء في معنى الاختصار فالصحيح الذي عليه المحققون والأكثرون
من أهل اللغة والغريب والمحدثين أن المختصر هو الذي يصلي ويده على خاصرته
(صحيح مسلم بشرح النووي 5 / 36 ط المطبعة المصرية بالأزهر) .
(12/9)
الرَّجُل مُخْتَصِرًا (1) وَأَخْرَجَ
الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيل مِنْ رِوَايَةِ أَبِي
الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا
كَانَتْ تَكْرَهُ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى خَاصِرَتِهِ، تَقُول: إِنَّ
الْيَهُودَ تَفْعَلُهُ زَادَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي رِوَايَةٍ لَهُ: "
فِي الصَّلاَةِ (2) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لاَ تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ
(3) وَلِلتَّفْصِيل (ر: صَلاَةٌ) .
ج - وِصَال الصَّوْمِ:
14 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَجُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ،
وَالشَّافِعِيَّةُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى
كَرَاهَةِ وِصَال الصَّوْمِ، (4) لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ
أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال لاَ تُوَاصِلُوا، (5) قَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِل، قَال
لَسْتُ كَأَحَدٍ مِنْكُمْ، إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى أَوْ إِنِّي
__________
(1) حديث: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل مختصرا "
أخرجه البخاري (الفتح 3 / 88 - ط السلفية) ومسلم (1 / 387 - ط الحلبي) .
(2) أخرجه البخاري أيضا في ذكر بني إسرائيل من رواية أبي الضحى. (الفتح 6 /
495 - ط السلفية) .
(3) عمدة القاري 7 / 297 ط المنيرية، وصحيح مسلم بشرح النووي 5 / 36،
والمغني 2 / 9 ط الرياض، والشرح الصغير 1 / 340.
(4) فسر أبو يوسف ومحمد الوصال بصوم يومين لا فطر بينهما. (حاشية ابن
عابدين 2 / 84، وانظر المغني 3 / 171 ط الرياض) .
(5) حديث: " لا تواصلوا، لست كأحد منكم " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 202 - ط
السلفية) .
(12/10)
أَبَيْتُ أُطْعَمُ وَأُسْقَى. وَقَوْلُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لاَ تُوَاصِلُوا " نَهْيٌ وَأَدْنَاهُ
يَقْتَضِي الْكَرَاهَةَ.
وَعِلَّةُ النَّهْيِ التَّشَبُّهُ بِالنَّصَارَى كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي
حَدِيثِ بَشِيرِ بْنِ الْخَصَاصِيَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الَّذِي
أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ
بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِمَا بِإِِسْنَادٍ
صَحِيحٍ إِِلَى لَيْلَى امْرَأَةِ بَشِيرِ بْنِ الْخَصَاصِيَةِ قَالَتْ:
أَرَدْت أَنْ أَصُومَ يَوْمَيْنِ مُوَاصَلَةً، فَمَنَعَنِي بَشِيرٌ وَقَال:
إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ هَذَا، (1)
وَقَال: يَفْعَل ذَلِكَ النَّصَارَى، وَلَكِنْ صُومُوا كَمَا أَمَرَكُمُ
اللَّهُ، أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِِلَى اللَّيْل، فَإِِذَا كَانَ اللَّيْل
فَأَفْطِرُوا وَذَهَبَ أَحْمَدُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِِلَى
جَوَازِ الْوِصَال إِِلَى السَّحَرِ، وَبِهَذَا قَال إِسْحَاقُ وَابْنُ
الْمُنْذِرِ وَابْنُ خُزَيْمَةَ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي الْوَجْهِ الآْخَرِ، وَهُوَ مَا صَحَّحَهُ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: تَحْرِيمُ وِصَال الصَّوْمِ. (2)
وَلِلتَّفْصِيل (ر: صَوْمٌ) .
__________
(1) حديث ليلى امرأة بشير بن الخصاصية. أخرجه أحمد (5 / 224 - 225 - ط
الميمنية) وصححه ابن حجر في الفتح (4 / 202 ط السلفية) .
(2) فتح الباري 4 / 202 - 204 ط السلفية، وعمدة القاري 11 / 71، 72، وحاشية
ابن عابدين 2 / 84، وجواهر الإكليل 1 / 274، والمغني 3 / 171 ط الرياض.
(12/10)
د - إِفْرَادُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ
بِالصَّوْمِ:
15 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ مُقْتَضَى كَلاَمِ أَحْمَدَ كَمَا
يَقُول ابْنُ تَيْمِيَّةَ - إِِلَى كَرَاهَةِ إِفْرَادِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ
بِالصَّوْمِ لِلتَّشَبُّهِ بِالْيَهُودِ (1) .
فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
أَنَّهُ قَال: حِينَ صَامَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا: يَا رَسُول
اللَّهِ، إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. فَقَال
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِِذَا كَانَ
الْعَامُ الْمُقْبِل إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ (2)
قَال: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِل حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَال النَّوَوِيُّ، نَقْلاً عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ فِي تَعْلِيقِهِ
عَلَى الْحَدِيثِ: لَعَل السَّبَبَ فِي صَوْمِ التَّاسِعِ مَعَ الْعَاشِرِ
أَنْ لاَ يَتَشَبَّهَ بِالْيَهُودِ فِي إِفْرَادِ الْعَاشِرِ، وَفِي
الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِِلَى هَذَا. (3)
هَذَا، وَاسْتَحَبَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ صَوْمَ عَاشُورَاءَ
- وَهُوَ الْعَاشِرُ مِنَ الْمُحَرَّمِ - وَتَاسُوعَاءَ - وَهُوَ
التَّاسِعُ مِنْهُ (4) -
__________
(1) فتح القدير 2 / 78 ط الأميرية وعمدة القاري 11 / 119، وكشاف القناع 2 /
339.
(2) حديث: " فإذا كان العام المقبل - إن شاء الله - صمنا اليوم التاسع "
أخرجه مسلم (2 / 798 - ط الحلبي) .
(3) صحيح مسلم بشرح النووي 8 / 12، 13.
(4) شرح المحلي على المنهاج 2 / 73، والمغني 3 / 174.
(12/11)
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ
يُسْتَحَبُّ أَنْ يَصُومَ قَبْل عَاشُورَاءَ يَوْمًا وَبَعْدَهُ يَوْمًا.
(1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: نَدْبُ صَوْمِ عَاشُورَاءَ وَتَاسُوعَاءَ
وَالثَّمَانِيَةِ قَبْلَهُ (2) . وَتَفْصِيل ر: (صَوْمٌ، وَعَاشُورَاءُ) .
رَابِعًا: التَّشَبُّهُ بِالْفَسَقَةِ:
16 - قَال الْقُرْطُبِيُّ: لَوْ خُصَّ أَهْل الْفُسُوقِ وَالْمُجُونِ
بِلِبَاسٍ مُنِعَ لُبْسُهُ لِغَيْرِهِمْ، فَقَدْ يَظُنُّ بِهِ مَنْ لاَ
يَعْرِفُهُ أَنَّهُ مِنْهُمْ، فَيُظَنُّ بِهِ ظَنُّ السَّوْءِ فَيَأْثَمُ
الظَّانُّ وَالْمَظْنُونُ فِيهِ بِسَبَبِ الْعَوْنِ عَلَيْهِ.
وَلِلتَّفْصِيل ر: (شَهَادَةٌ، فِسْقٌ) .
خَامِسًا - تَشَبُّهُ الرِّجَال بِالنِّسَاءِ وَعَكْسُهُ:
17 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِِلَى تَحْرِيمِ تَشَبُّهِ النِّسَاءِ
بِالرِّجَال وَالرِّجَال بِالنِّسَاءِ. (3)
فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
__________
(1) فتح القدير 2 / 78 ط الأميرية.
(2) الشرح الصغير 1 / 691، 692.
(3) نيل الأوطار 2 / 117 ط دار الجيل، وعمدة القاري 22 / 41 ط المنيرية،
وعون المعبود 11 / 156 ط دار الفكر، ونهاية المحتاج 2 / 362، وروضة
الطالبين 2 / 263، والزواجز 1 / 144 ط مصطفى الحلبي، والكبائر ص 134 ط
المكتبة الأميرية، وكشاف القناع 1 / 283، 2 / 239، وإعلام الموقعين 4 / 402
نشر مكتبة الكليات الأزهرية.
(12/11)
أَنَّهُ قَال: لَعَنَ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَال
بِالنِّسَاءِ، وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَال (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْحَنَابِلَةِ
إِِلَى كَرَاهَةِ تَشَبُّهِ الرِّجَال بِالنِّسَاءِ وَعَكْسِهِ. (2)
وَالتَّشَبُّهُ يَكُونُ فِي اللِّبَاسِ وَالْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ
وَالتَّصَنُّعِ بِالأَْعْضَاءِ وَالأَْصْوَاتِ. (3)
وَمِثَال ذَلِكَ: تَشَبُّهُ الرِّجَال بِالنِّسَاءِ فِي اللِّبَاسِ
وَالزِّينَةِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ، مِثْل لُبْسِ الْمَقَانِعِ
وَالْقَلاَئِدِ وَالْمَخَانِقِ وَالأَْسْوِرَةِ وَالْخَلاَخِل وَالْقُرْطِ
وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ لِلرِّجَال لُبْسُهُ. وَكَذَلِكَ
التَّشَبُّهُ بِهِنَّ فِي الأَْفْعَال الَّتِي هِيَ مَخْصُوصَةٌ بِهَا
كَالاِنْخِنَاثِ فِي الأَْجْسَامِ وَالتَّأَنُّثِ فِي الْكَلاَمِ
وَالْمَشْيِ. (4)
كَذَلِكَ تَشَبُّهُ النِّسَاءِ بِالرِّجَال فِي زِيِّهِمْ أَوْ مَشْيِهِمْ
أَوْ رَفْعِ صَوْتِهِمْ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. (5)
وَهَيْئَةُ اللِّبَاسِ قَدْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ عَادَةِ كُل بَلَدٍ،
فَقَدْ لاَ يَفْتَرِقُ زِيُّ نِسَائِهِمْ عَنْ زِيِّ رِجَالِهِمْ
__________
(1) حديث: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء
". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 332 - ط السلفية)
(2) الزواجر 1 / 144، وكشاف القناع 2 / 239، والآداب الشرعية 3 / 540.
(3) فيض القدير 5 / 269.
(4) عمدة القاري 22 / 41.
(5) فيض القدير 5 / 269.
(12/12)
لَكِنْ تَمْتَازُ النِّسَاءُ
بِالاِحْتِجَابِ وَالاِسْتِتَارِ. (1)
قَال الإِِْسْنَوِيُّ: إِنَّ الْعِبْرَةَ فِي لِبَاسِ وَزِيِّ كُلٍّ مِنَ
النَّوْعَيْنِ - حَتَّى يَحْرُمَ التَّشَبُّهُ بِهِ فِيهِ - بِعُرْفِ كُل
نَاحِيَةٍ. (2)
وَأَمَّا ذَمُّ التَّشَبُّهِ بِالْكَلاَمِ وَالْمَشْيِ فَمُخْتَصٌّ بِمَنْ
تَعَمَّدَ ذَلِكَ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَصْل خِلْقَتِهِ
فَإِِنَّمَا يُؤْمَرُ بِتَكَلُّفِ تَرْكِهِ وَالإِِْدْمَانِ عَلَى ذَلِكَ
بِالتَّدْرِيجِ، فَإِِنْ لَمْ يَفْعَل وَتَمَادَى دَخَلَهُ الذَّمُّ، وَلاَ
سِيَّمَا إِنْ بَدَا مِنْهُ مَا يَدُل عَلَى الرِّضَا بِهِ. (3)
هَذَا وَيَجِبُ إِنْكَارُ التَّشَبُّهِ بِالْيَدِ، فَإِِنْ عَجَزَ
فَبِاللِّسَانِ مَعَ أَمْنِ الْعَاقِبَةِ، فَإِِنْ عَجَزَ فَبِقَلْبِهِ
كَسَائِرِ الْمُنْكَرَاتِ. (4)
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَ
زَوْجَتَهُ مِمَّا تَقَعُ فِيهِ مِنَ التَّشَبُّهِ بِالرِّجَال فِي
لِبْسَةٍ أَوْ مِشْيَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، امْتِثَالاً لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} (5) أَيْ
بِتَعْلِيمِهِمْ وَتَأْدِيبِهِمْ وَأَمْرِهِمْ بِطَاعَةِ رَبِّهِمْ
وَنَهْيِهِمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ. (6)
__________
(1) عمدة القاري 22 / 41.
(2) نهاية المحتاج 2 / 362.
(3) فتح الباري 10 / 332، وفيض القدير 5 / 271.
(4) كشاف القناع 2 / 239.
(5) سورة التحريم / 6.
(6) الزواجر 1 / 145 ط مصطفى الحلبي، والكبائر ص 134.
(12/12)
سَادِسًا: تَشَبُّهُ أَهْل الذِّمَّةِ
بِالْمُسْلِمِينَ:
18 - يُؤْخَذُ أَهْل الذِّمَّةِ بِإِِظْهَارِ عَلاَمَاتٍ يُعْرَفُونَ
بِهَا، وَلاَ يُتْرَكُونَ يَتَشَبَّهُونَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي لِبَاسِهِمْ
وَمَرَاكِبِهِمْ وَهَيْئَاتِهِمْ. وَالأَْصْل فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ
عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرَّ عَلَى رِجَالٍ
رُكُوبٍ ذَوِي هَيْئَةٍ، فَظَنَّهُمْ مُسْلِمِينَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ،
فَقَال لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ تَدْرِي مَنْ
هَؤُلاَءِ؟ فَقَال: مَنْ هُمْ؟ فَقَال: نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ. فَلَمَّا
أَتَى مَنْزِلَهُ أَمَرَ أَنْ يُنَادَى فِي النَّاسِ أَنْ لاَ يَبْقَى
نَصْرَانِيٌّ إِلاَّ عَقَدَ نَاصِيَتَهُ وَرَكِبَ الإِِْكَافَ. وَلَمْ
يُنْقَل أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَيَكُونُ كَالإِِْجْمَاعِ.
وَلأَِنَّ السَّلاَمَ مِنْ شَعَائِرِ الإِِْسْلاَمِ فَيَحْتَاجُ
الْمُسْلِمُونَ إِِلَى إِظْهَارِ هَذِهِ الشَّعَائِرِ عِنْدَ
الاِلْتِقَاءِ، وَلاَ يُمْكِنُهُمْ ذَلِكَ إِلاَّ بِتَمْيِيزِ أَهْل
الذِّمَّةِ بِالْعَلاَمَةِ.
هَذَا، وَإِِذَا وَجَبَ التَّمْيِيزُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ صَغَارٌ
لاَ إِعْزَازٌ؛ لأَِنَّ إِذْلاَلَهُمْ وَاجِبٌ بِغَيْرِ أَذًى مِنْ ضَرْبٍ
أَوْ صَفْعٍ بِلاَ سَبَبٍ يَكُونُ مِنْهُ، بَل الْمُرَادُ اتِّصَافُهُ
بِهَيْئَةٍ خَاصَّةٍ.
وَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَتَمَيَّزَ نِسَاءُ أَهْل الذِّمَّةِ عَنْ نِسَاءِ
الْمُسْلِمِينَ فِي حَال الْمَشْيِ فِي الطَّرِيقِ، وَتُجْعَل عَلَى
دُورِهِمْ عَلاَمَةٌ كَيْ لاَ يُعَامَلُوا بِمَا يَخْتَصُّ بِهِ
الْمُسْلِمُونَ، وَلاَ يُمْنَعُونَ مِنْ أَنْ يَسْكُنُوا فِي أَمْصَارِ
الْمُسْلِمِينَ فِي غَيْرِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ؛
لأَِنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ شُرِعَ لِيَكُونَ وَسِيلَةً لَهُمْ إِِلَى
الإِِْسْلاَمِ. وَتَمْكِينُهُمْ مِنَ الْمَقَامِ أَبْلَغُ إِِلَى
(12/13)
هَذَا الْمَقْصُودِ. (1)
وَلِلتَّفْصِيل فِي الأُْمُورِ الَّتِي يُمْنَعُ تَشَبُّهُ أَهْل
الذِّمَّةِ فِيهِ بِالْمُسْلِمِينَ تُنْظَرُ أَبْوَابُ الْجِزْيَةِ
وَعَقْدُ الذِّمَّةِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 113، وتبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه 3 / 280،
281، وابن عابدين 3 / 273، وجواهر الإكليل 1 / 268، والمعيار المعرب 6 /
421 ط دار المعرب الإسلامي - بيروت، ونهاية المحتاج 8 / 97، وكشاف القناع 3
/ 127، والمغني 8 / 528، 529 وانظر الموسوعة الفقهية الكويتية مصطلح "
ألبسة " ف 23 ج 6 ومصطلح " أهل الذمة " ف 36 ج 7.
(12/13)
تَشْبِيبٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّشْبِيبُ مَصْدَرُ شَبَّبَ. وَمِنْ مَعَانِيهِ: تَرْقِيقُ أَوَّل
الشِّعْرِ بِذِكْرِ النِّسَاءِ، وَشَبَّبَ بِالْمَرْأَةِ: قَال فِيهَا
الْغَزْل أَوِ النَّسِيبَ. (1) وَالاِصْطِلاَحُ الْفِقْهِيُّ لاَ يَخْرُجُ
عَنْ هَذَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّشْبِيبُ، وَالنَّسِيبُ، وَالْغَزَل أَلْفَاظٌ مُتَرَادِفَةٌ،
الْمُرَادُ مِنْهَا: ذِكْرُ مَحَاسِنِ النِّسَاءِ (2) .
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - يَحْرُمُ التَّشْبِيبُ بِامْرَأَةٍ مُعَيَّنَةٍ مُحَرَّمَةٍ عَلَى
الْمُشَبِّبِ أَوْ بِغُلاَمٍ أَمْرَدَ.
وَلاَ يُعْرَفُ خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي حُرْمَةِ ذِكْرِ
الْمُثِيرِ عَلَى الْفُحْشِ مِنَ الصِّفَاتِ الْحِسِّيَّةِ
وَالْمَعْنَوِيَّةِ لاِمْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ مُحَرَّمَةٍ عَلَيْهِ،
وَيَسْتَوِي فِي
__________
(1) لسان العرب.
(2) حاشية الجمل 5 / 382.
(12/14)
ذَلِكَ ذِكْرُ الصِّفَاتِ الظَّاهِرَةِ
وَالْبَاطِنَةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الإِِْيذَاءِ لَهَا وَلِذَوِيهَا،
وَهَتْكِ السِّتْرِ وَالتَّشْهِيرِ بِمُسْلِمَةٍ.
أَمَّا التَّشَبُّبُ بِزَوْجَتِهِ أَوْ جَارِيَتِهِ فَهُوَ جَائِزٌ مَا
لَمْ يَصِفْ أَعْضَاءَهَا الْبَاطِنَةَ، أَوْ يَذْكُرَ مَا مِنْ حَقِّهِ
الإِِْخْفَاءُ فَإِِنَّهُ يُسْقِطُ مُرُوءَتَهُ، وَيَكُونُ حَرَامًا أَوْ
مَكْرُوهًا، عَلَى خِلاَفٍ فِي ذَلِكَ. (1)
وَكَذَا يَجُوزُ التَّشْبِيبُ بِامْرَأَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ، مَا لَمْ
يَقُل فُحْشًا أَوْ يَنْصِبُ قَرِينَةً تَدُل عَلَى التَّعْيِينِ؛ لأَِنَّ
الْغَرَضَ مِنْ ذَلِكَ هُوَ تَحْسِينُ الْكَلاَمِ وَتَرْقِيقُهُ لاَ
تَحْقِيقُ الْمَذْكُورِ، فَإِِنْ نَصَبَ قَرِينَةً تَدُل عَلَى
التَّعْيِينِ فَهُوَ فِي حُكْمِ التَّعْيِينِ. وَلَيْسَ ذِكْرُ اسْمِ
امْرَأَةٍ مَجْهُولَةٍ كَلَيْلَى وَسُعَادَ تَعْيِينًا، لِحَدِيثِ: كَعْبِ
بْنِ زُهَيْرٍ: وَإِِنْشَادُهُ قَصِيدَتَهُ الْمَشْهُورَةَ " بَانَتْ
سُعَادُ. . بَيْنَ يَدَيِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(2)
(التَّشَبُّبُ بِغُلاَمٍ:
3 - يَحْرُمُ التَّشْبِيبُ بِغُلاَمٍ - إِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ يَعْشَقُهُ
__________
(1) حاشية الجمل 5 / 382، ومغني المحتاج 4 / 431، وفتح القدير 6 / 36،
والإنصاف 12 / 52 ط القاهرة 1377 ط السنة المحمدية.
(2) مغني المحتاج 4 / 431، وتحفة المحتاج 8 / 434، والدسوقي 4 / 166 - 167
وحديث كعب بن زهير في إنشاده قصيدته المشهورة: " بانت سعاد " أخرجه ابن
إسحاق كما في سيرة ابن هشام (2 / 501 - 515 - ط الحلبي) .
(12/14)
وَإِِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا، لأَِنَّهُ
لاَ يَحِل بِحَالٍ. وَقِيل: إِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا فَهُوَ
كَالْمَرْأَةِ غَيْرِ الْمُعَيَّنَةِ. (1)
هَذَا فِي إِنْشَاءِ الْقَوْل مِنْ شِعْرٍ أَوْ نَثْرٍ. أَمَّا رِوَايَةُ
ذَلِكَ أَوْ إِنْشَادُهُ فَإِِنَّهُ إِِذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْحَضَّ
عَلَى الْمُحَرَّمِ فَهُوَ مُبَاحٌ لِنَحْوِ الاِسْتِشْهَادِ أَوْ
تَعَلُّمِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلاَغَةِ.
وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ تَحْرِيمَ التَّشْبِيبِ بِالْمَرْأَةِ
بِكَوْنِهَا مُعَيَّنَةً حَيَّةً. فَلَوْ شَبَّبَ بِامْرَأَةٍ غَيْرِ
حَيَّةٍ لَمْ يَحْرُمْ. (2)
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) المراجع السابقة، والمغني 9 / 178، وفتح القدير 6 / 36.
(12/15)
تَشْبِيكٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّشْبِيكُ فِي اللُّغَةِ: الْمُدَاخَلَةُ، فَيُقَال لِكُل
مُتَدَاخِلَيْنِ أَنَّهُمَا مُشْتَبِكَانِ. وَمِنْهُ: شُبَّاكُ الْحَدِيدِ،
وَتَشْبِيكُ الأَْصَابِعِ (وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا) لِدُخُول بَعْضِهَا
فِي بَعْضٍ. وَالشَّبْكُ: الْخَلْطُ وَالتَّدَاخُل، فَيُقَال: شَبَكَ
الشَّيْءَ يَشْبِكُهُ شَبْكًا: إِِذَا خَلَطَهُ وَأَنْشَبَ بَعْضَهُ فِي
بَعْضٍ (1) .
وَتَشْبِيكُ الأَْصَابِعِ لاَ يَخْرُجُ فِي مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيِّ
عَنْ هَذَا، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: تَشْبِيكُ الأَْصَابِعِ: أَنْ يُدْخِل
الشَّخْصُ أَصَابِعَ إِحْدَى يَدَيْهِ بَيْنَ أَصَابِعَ الأُْخْرَى (2) .
الْحُكْمُ الإِِْجْمَالِيُّ:
2 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَشْبِيكَ الأَْصَابِعِ فِي
الصَّلاَةِ مَكْرُوهٌ، لِمَا رُوِيَ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
رَأَى رَجُلاً قَدْ شَبَّكَ أَصَابِعَهُ فِي الصَّلاَةِ، فَفَرَّجَ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) المصباح المنير، ومحيط المحيط، ومختار الصحاح مادة: " شبك ".
(2) ابن عابدين 1 / 431، وقواعد الفقه للبركتي / 228.
(12/15)
بَيْنَ أَصَابِعِهِ. (1) وَقَال ابْنُ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي الَّذِي يُصَلِّي وَهُوَ يُشَبِّكُ
أَصَابِعَهُ تِلْكَ صَلاَةُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ (2)
وَأَمَّا تَشْبِيكُهَا فِي الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ صَلاَةٍ، وَفِي
انْتِظَارِهَا أَيْ حَيْثُ جَلَسَ يَنْتَظِرُهَا، أَوْ مَاشِيًا إِلَيْهَا،
فَقَدْ قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
بِكَرَاهَةِ التَّشْبِيكِ حِينَئِذٍ، لأَِنَّ انْتِظَارَ الصَّلاَةِ هُوَ
فِي حُكْمِ الصَّلاَةِ (3) لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ لاَ يَزَال أَحَدُكُمْ
فِي صَلاَةٍ مَا دَامَتِ الصَّلاَةُ تَحْبِسُهُ (4) وَلِمَا رَوَى أَحْمَدُ
وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمَا مَرْفُوعًا إِِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ
فَأَحْسَن وُضُوءَهُ ثُمَّ خَرَجَ عَامِدًا إِِلَى
__________
(1) حديث: " رأى رجلا قد شبك أصابعه. . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 310 - ط
عيسى البابي) . قال المنذري: رواه أحمد وأبو داود بإسناد جيد. الترغيب
والترهيب) (1 / 170 - 171 ط المكتبة التجارية) .
(2) أثر " تلك صلاة المغضوب عليهم. . . " أخرجه أبو داود (1 / 605) ط
الدعاس.
(3) ابن عابدين 1 / 431، 432، ومراقي الفلاح 190، وجواهر الإكليل 1 / 54،
والشرح الكبير 1 / 254، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل 1 / 550، وشرح
الزرقاني على مختصر خليل 1 / 219 دار الفكر، وشرح روض الطالب من أسنى
المطالب 1 / 183 م. المكتبة الإسلامية، ونهاية المحتاج للرملي 2 / 59،
والمغني لابن قدامة 2 / 10 م الرياض الحديثة، وكشاف القناع 1 / 372 م النصر
الحديثة، ومطالب أولي النهى 1 / 476 - 477 منشورات المكتب الإسلامي.
(4) حديث: " لا يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه. . . " أخرجه
البخاري (1 / 538 ط السلفية) . ومسلم (1 / 460 ط عيسى البابي) .
(12/16)
الْمَسْجِدِ، فَلاَ يُشَبِّكُ بَيْنَ
يَدَيْهِ فَإِِنَّهُ فِي صَلاَةٍ (1) وَمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ
الْخُدْرِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
إِِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي الْمَسْجِدِ فَلاَ يُشَبِّكَنَّ، فَإِِنَّ
التَّشْبِيكَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِِنَّ أَحَدَكُمْ لاَ يَزَال فِي
صَلاَةٍ مَا دَامَ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ (2) وَعَنْ
كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول إِِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ
ثُمَّ خَرَجَ عَامِدًا إِِلَى الصَّلاَةِ، فَلاَ يُشَبِّكَنَّ بَيْنَ
يَدَيْهِ، فَإِِنَّهُ فِي صَلاَةٍ (3)
3 - وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْحِكْمَةِ فِي النَّهْيِ عَنِ التَّشْبِيكِ فِي
الْمَسْجِدِ، فَقِيل: إِنَّ النَّهْيَ عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْعَبَثِ.
وَقِيل: لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشَبُّهِ بِالشَّيْطَانِ. وَقِيل:
لِدَلاَلَةِ الشَّيْطَانِ عَلَى ذَلِكَ. (4)
وَفِي حَاشِيَةِ الطَّحَاوِيِّ عَلَى مَرَاقِي الْفَلاَحِ: حِكْمَةُ
النَّهْيِ عَنِ التَّشْبِيكِ: أَنَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَأَنَّهُ
يَجْلِبُ النَّوْمَ، وَالنَّوْمُ مِنْ مَظَانِّ الْحَدَثِ، وَلِمَا نَبَّهَ
عَلَيْهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ
__________
(1) حديث: " إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه. . . " أخرجه أبو داود (1 / 380 ط
عبيد الدعاس) . والترمذي (2 / 228 ط مصطفى الحلبي) وصحح إسناده أحمد شاكر.
(2) حديث: " إذا كان أحدكم في المسجد فلا يشبكن. . . " أخرجه أحمد (3 / 43
ط المكتب الإسلامي) . قال الهيثمي: إسناده حسن. (مجمع الزوائد 2 / 25 ط
القدسي) .
(3) حديث: " إذا توضأ أحدكم ثم خرج عامدا إلى الصلاة فلا. . . " أخرجه بهذا
اللفظ أحمد (4 / 240 ط المكتب الإسلامي) . وقد سبق تخريجه.
(4) نيل الأوطار للشوكاني 2 / 380، 381.
(12/16)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي الَّذِي
يُصَلِّي وَهُوَ يُشَبِّكُ أَصَابِعَهُ تِلْكَ صَلاَةُ الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ فَكَرِهَ ذَلِكَ لِمَا هُوَ فِي حُكْمِ الصَّلاَةِ، حَتَّى لاَ
يَقَعَ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. (1) وَكَرَاهَتُهُ فِي الصَّلاَةِ
أَشَدُّ. (2)
وَلاَ يُكْرَهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ التَّشْبِيكُ بَعْدَ الْفَرَاغِ وَلَوْ
كَانَ فِي الْمَسْجِدِ، لِحَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
الَّذِي رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال صَلَّى
بِنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْدَى صَلاَتَيِ
الْعَشِيِّ - قَال ابْنُ سِيرِينَ: سَمَّاهَا أَبُو هُرَيْرَةَ، وَلَكِنْ
نَسِيتُ أَنَا - قَال: فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ،
فَقَامَ إِِلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا
كَأَنَّهُ غَضْبَانُ، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى،
وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَوَضَعَ خَدَّهُ الأَْيْمَنَ عَلَى ظَهْرِ
كَفِّهِ الْيُسْرَى، وَخَرَجَتِ السَّرَعَانُ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ،
فَقَالُوا: قَصُرَتِ الصَّلاَةُ، وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ
فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ، وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ فِي يَدَيْهِ طُولٌ
يُقَال لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ قَال: يَا رَسُول اللَّهِ أَنَسِيتَ أَمْ
قَصُرَتِ الصَّلاَةُ؟ قَال لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تَقْصُرْ فَقَال: أَكَمَا
يَقُول ذُو الْيَدَيْنِ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ. فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى مَا
تَرَكَ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْل سُجُودِهِ أَوْ
أَطْوَل ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْل
سُجُودِهِ - أَوْ أَطْوَل، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ. فَرُبَّمَا
سَأَلُوهُ: ثُمَّ
__________
(1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 190.
(2) كشاف القناع 1 / 325 م النصر الحديثة.
(12/17)
سَلَّمَ؟ فَيَقُول: نُبِّئْتُ أَنَّ
عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ قَال: ثُمَّ سَلَّمَ. (1)
وَلاَ بَأْسَ بِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي غَيْرِ صَلاَةٍ حَتَّى
وَلَوْ فِي الْمَسْجِدِ، لأَِنَّ كَرَاهَتَهُ عِنْدَهُمْ إِنَّمَا هِيَ فِي
الصَّلاَةِ فَقَطْ، إِلاَّ أَنَّهُ خِلاَفُ الأَْوْلَى عَلَى نَحْوِ مَا
وَرَدَ بِالشَّرْحِ الْكَبِيرِ وَجواهر الإكليل. (2)
وَفِي مَوَاهِبِ الْجَلِيل مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ
الصَّلاَةِ فَالتَّشْبِيكُ لاَ بَأْسَ بِهِ حَتَّى فِي الْمَسْجِدِ. قَال
ابْنُ عَرَفَةَ: وَسَمِعَ ابْنُ الْقَاسِمِ (أَيْ مِنْ مَالِكٍ) : لاَ
بَأْسَ بِتَشْبِيكِ الأَْصَابِعِ يَعْنِي فِي الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ
صَلاَةٍ. وَأَوْمَأَ دَاوُد بْنُ قَيْسٍ لِيَدِ مَالِكٍ مُشَبِّكًا
أَصَابِعَهُ بِهِ (أَيْ بِالْمَسْجِدِ) لِيُطْلِقَهُ وَقَال: مَا هَذَا؟
فَقَال مَالِكٌ: إِنَّمَا يُكْرَهُ فِي الصَّلاَةِ. وَقَال ابْنُ رُشْدٍ:
صَحَّ فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ تَشْبِيكُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ فِي الْمَسْجِدِ. (3)
4 - وَأَمَّا تَشْبِيكُهَا خَارِجَ الصَّلاَةِ فِيمَا لَيْسَ مِنْ
تَوَابِعِهَا: بِأَنْ لَمْ يَكُنْ فِي حَال سَعْيٍ إِلَيْهَا، أَوْ جُلُوسٍ
فِي الْمَسْجِدِ لأَِجْلِهَا، فَإِِنْ كَانَ لِحَاجَةٍ نَحْوِ إِرَاحَةِ
الأَْصَابِعِ - وَلَيْسَ لِعَبَثٍ بَل لِغَرَضٍ
__________
(1) حديث: " ذي اليدين. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 555 - 566 - ط
السلفية) . ومسلم (1 / 403 ط عيسى البابي) . واللفظ للبخاري.
(2) الشرح الكبير 1 / 254، وجواهر الإكليل 1 / 54.
(3) مواهب الجليل لشرح مختصر خليل 1 / 550 م النجاح - ليبيا.
(12/17)
صَحِيحٍ - فَإِِنَّهُ فِي هَذِهِ
الْحَالَةِ لاَ يُكْرَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَقَدْ صَحَّ عَنْهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ
كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا (1) وَشَبَّكَ بَيْنَ
أَصَابِعِهِ. فَإِِنَّهُ لإِِِفَادَةِ تَمْثِيل الْمَعْنَى، وَهُوَ
التَّعَاضُدُ وَالتَّنَاصُرُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ الْحِسِّيَّةِ. فَلَوْ
شَبَّكَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ عَلَى سَبِيل الْعَبَثِ كُرِهَ تَنْزِيهًا. (2)
وَفِي حَاشِيَةِ الشبراملسي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ إِِذَا جَلَسَ
فِي الْمَسْجِدِ لاَ لِلصَّلاَةِ بَل لِغَيْرِهَا، كَحُضُورِ دَرْسٍ أَوْ
كِتَابَةٍ، فَلاَ يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ لأَِنَّهُ لَمْ يَصْدُقْ
عَلَيْهِ أَنَّهُ يَنْتَظِرُ الصَّلاَةَ. وَأَمَّا إِِذَا انْتَظَرَهُمَا
مَعًا فَيَنْبَغِي الْكَرَاهَةُ؛ لأَِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ
يَنْتَظِرُ الصَّلاَةَ. (3)
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ رَأَوْا كَرَاهَةَ التَّشْبِيكِ
لِلْمُصَلِّي خَاصَّةً وَلَوْ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ، وَلاَ بَأْسَ بِهِ
عِنْدَهُمْ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ وَلَوْ فِي الْمَسْجِدِ، لِقَوْل
مَالِكٍ: يُكْرَهُ فِي الصَّلاَةِ حِينَ أَوْمَأَ دَاوُد بْنُ قَيْسٍ
لِيَدِهِ مُشَبِّكًا أَصَابِعَهُ لِيُطْلِقَهُ وَقَال: مَا هَذَا؟ (4)
__________
(1) حديث: " المؤمن للمؤمن كالبنيان. . . " أخرجه البخاري (5 / 99 ط
السلفية) . ومسلم (4 / 1999 ط عيسى البابي) .
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 432.
(3) حاشية الشبراملسي القاهري على نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي 2
/ 331 ط مصطفى الحلبي.
(4) مواهب الجليل لشرح مختصر خليل 1 / 550 م النجاح - ليبيا، شرح الزرقاني
على مختصر خليل 1 / 219 ط دار الفكر.
(12/18)
5 - وَالتَّشْبِيكُ حَال خُطْبَةِ
الْجُمُعَةِ يُكْرَهُ عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ مِنَ الأَْئِمَّةِ،
لأَِنَّ مُسْتَمِعَ الْخُطْبَةِ فِي انْتِظَارِ الصَّلاَةِ، فَهُوَ كَمَنْ
فِي الصَّلاَةِ لِمَا سَبَقَ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: غَيْرُ مَكْرُوهٍ؛ لأَِنَّ الْكَرَاهَةَ
عِنْدَهُمْ فِي الصَّلاَةِ فَقَطْ وَلَوْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ، وَإِِنْ
كَانَ هَذَا هُوَ خِلاَفُ الأَْوْلَى كَمَا تَقَدَّمَ. (1)
__________
(1) الشرح الكبير 1 / 254، وجواهر الإكليل 1 / 54.
(12/18)
تَشْبِيهٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّشْبِيهُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ شَبَّهْتُ الشَّيْءَ
بِالشَّيْءِ: إِِذَا أَقَمْتَه مَقَامَهُ بِصِفَةٍ جَامِعَةٍ بَيْنَهُمَا.
وَتَكُونُ الصِّفَةُ ذَاتِيَّةً وَمَعْنَوِيَّةً: فَالذَّاتِيَّةُ نَحْوُ
هَذَا الدِّرْهَمُ كَهَذَا الدِّرْهَمِ أَيْ فِي الْقَدْرِ،
وَالْمَعْنَوِيَّةُ نَحْوُ زَيْدٌ كَالأَْسَدِ. (1)
وَفِي اصْطِلاَحِ عُلَمَاءِ الْبَيَانِ: هُوَ الدَّلاَلَةُ عَلَى
اشْتِرَاكِ شَيْئَيْنِ فِي وَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ،
كَالشَّجَاعَةِ فِي الأَْسَدِ وَالنُّورِ فِي الشَّمْسِ.
وَهُوَ إِمَّا تَشْبِيهٌ مُفْرَدٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ
بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} (2) أَوْ تَشْبِيهُ مُفْرَدَاتٍ بِمُفْرَدَاتٍ،
كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا مَثَل مَا
بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَل الْغَيْثِ
الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ
فَأَنْبَتَتِ الْكَلأََ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ
أَمْسَكَتِ الْمَاءَ - فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا
وَسَقَوْا وَزَرَعُوا،
__________
(1) المصباح مادة: " شبه ".
(2) سورة الصف / 4.
(12/19)
وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى
إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً وَلاَ تُنْبِتُ كَلأًَ.
فَذَلِكَ مَثَل مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي
اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثْل مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ
رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَل هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ. (1)
فَقَدْ شَبَّهَ الْعِلْمَ بِالْغَيْثِ، وَشَبَّهَ مَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ
بِالأَْرْضِ الطَّيِّبَةِ، وَمَنْ لاَ يَنْتَفِعُ بِهِ بِالْقِيعَانِ.
فَهِيَ تَشْبِيهَاتٌ مُجْتَمِعَةٌ، أَوْ تَشْبِيهٌ مُرَكَّبٌ، كَقَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مَثَلِي مَثَل الأَْنْبِيَاءِ
مِنْ قَبْلِي: كَمِثْل رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ،
إِلاَّ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَل النَّاسُ يَطُوفُونَ
بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ: هَلاَّ وُضِعَتْ، هَذِهِ
اللَّبِنَةُ؟ قَال: فَأَنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ.
(2)
فَهَذَا تَشْبِيهُ الْمَجْمُوعِ بِالْمَجْمُوعِ؛ لأَِنَّ وَجْهَ الشَّبَهِ
عَقْلِيٌّ مُنْتَزَعٌ مِنْ عِدَّةِ أُمُورٍ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْقِيَاسُ:
2 - الْقِيَاسُ هُوَ: إِلْحَاقُ فَرْعٍ بِأَصْلٍ فِي الْحُكْمِ لِعِلَّةٍ
جَامِعَةٍ بَيْنَهُمَا.
__________
(1) حديث: " إنما مثل ما بعثني الله به. . . " أخرجه البخاري (1 / 175 -
الفتح - ط السلفية) . ومسلم (4 / 1787 - 1788 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " إن مثلي ومثل الأنبياء. . . . " أخرجه البخاري (6 / 558 -
الفتح - ط السلفية) .
(3) التعريفات للجرجاني.
(12/19)
حُكْمُ التَّشْبِيهِ
يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّشْبِيهِ بِحَسَبِ مَوْقِعِهِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ
عَلَى مَا سَيَأْتِي.
أ - التَّشْبِيهُ فِي الظِّهَارِ:
3 - الظِّهَارُ شَرْعًا: تَشْبِيهُ الْمُسْلِمِ زَوْجَتَهُ أَوْ جُزْءًا
شَائِعًا مِنْهَا بِمُحَرَّمٍ عَلَيْهِ تَأْبِيدًا، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ
عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ نَحْوِهِ، أَوْ كَبَطْنِهَا أَوْ
كَفَخِذِهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّشْبِيهِ حَرَامٌ نَصًّا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ
أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ
وَإِِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْل وَزُورًا} . (1)
وَإِِذَا وَقَعَ مِنَ الزَّوْجِ التَّشْبِيهُ، مِمَّا يُعْتَبَرُ ظِهَارًا،
يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَطْءُ امْرَأَتِهِ قَبْل أَنْ يُكَفِّرَ بِاتِّفَاقِ
الْفُقَهَاءِ.
وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ التَّلَذُّذُ بِمَا دُونَ الْجِمَاعِ عَنْ جُمْهُورِ
الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ
بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ
شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا} (2)
وَالتَّمَاسُّ شَامِلٌ لِلْوَطْءِ وَدَوَاعِيهِ.
__________
(1) سورة المجادلة / 2.
(2) سورة المجادلة / 3، 4.
(12/20)
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ،
وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ يَحْرُمُ إِلاَّ
الْوَطْءُ. (1)
وَهَذَا فِي صَرِيحِ أَلْفَاظِ الظِّهَارِ. أَمَّا فِي كِنَايَاتِهِ،
كَقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ مِثَل أُمِّي صَحَّتْ نِيَّتُهُ بِرًّا أَوْ
ظِهَارًا أَوْ طَلاَقًا. (2)
وَفِي الْمَوْضُوعِ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا مَعَ
اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي مُصْطَلَحِ (ظِهَارٌ) .
ب - التَّشْبِيهُ فِي الْقَذْفِ:
4 - أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِِذَا صَرَّحَ الْقَاذِفُ
بِالزِّنَى كَانَ قَذْفًا وَرَمْيًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ، فَإِِنْ عَرَّضَ
وَلَمْ يُصَرِّحْ، فَقَال مَالِكٌ: هُوَ قَذْفٌ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ
وَالشَّافِعِيُّ: لاَ يَكُونُ قَذْفًا حَتَّى يَقُول: أَرَدْتُ بِهِ
الْقَذْفَ. وَالدَّلِيل لِمَا قَالَهُ مَالِكٌ هُوَ أَنَّ مَوْضُوعَ
الْحَدِّ فِي الْقَذْفِ إِنَّمَا هُوَ لإِِِزَالَةِ الْمَعَرَّةِ الَّتِي
أَوْقَعَهَا الْقَاذِفُ بِالْمَقْذُوفِ، فَإِِذَا حَصَلَتِ الْمَعَرَّةُ
بِالتَّعْرِيضِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا كَالتَّصْرِيحِ، وَذَلِكَ
رَاجِعٌ إِِلَى الْفَهْمِ، وَقَدْ قَال تَعَالَى عَلَى لِسَانِ قَوْمِ
شُعَيْبٍ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ {إِنَّكَ لأََنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}
(3) أَيِ السَّفِيهُ الضَّال، فَعَرَّضُوا
__________
(1) ابن عابدين 2 / 574، 575، وجواهر الإكليل 1 / 371، و 372، والمهذب 2 /
113، 114، والمغني 7 / 347، 348.
(2) ابن عابدين 2 / 576، والمغني 7 / 345، وجواهر الإكليل 1 / 372.
(3) سورة هود / 87.
(12/20)
لَهُ بِالسَّبِّ بِكَلاَمٍ ظَاهِرُهُ
الْمَدْحُ فِي أَحَدِ التَّأْوِيلاَتِ.
وَقَدْ حَبَسَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْحُطَيْئَةَ لَمَّا قَال
لأَِحَدِهِمْ:
دَعِ الْمَكَارِمَ لاَ تَرْحَل لِبُغْيَتِهَا
وَاقْعُدْ فَإِِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِي
لأَِنَّهُ شَبَّهَهُ بِالنِّسَاءِ فِي أَنَّهُنَّ يُطْعَمْنَ وَيُسْقَيْنَ
وَيُكْسَيْنَ. (1)
وَعَلَى ذَلِكَ فَإِِذَا فُهِمَ مِنْ تَشْبِيهِ الْمَرْأَةِ أَوِ الرَّجُل
بِالْعَفِيفَةِ أَوِ الْعَفِيفِ اسْتِهْزَاءً، كَانَ كَالرَّمْيِ
الصَّرِيحِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ.
ج - تَشْبِيهُ الرَّجُل غَيْرَهُ بِمَا يَكْرَهُ:
5 - لاَ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُشَبِّهَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ بِمَا
يَكْرَهُهُ، قَال تَعَالَى: {وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَْلْقَابِ بِئْسَ
الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِِْيمَانِ} (2) وَسَوَاءٌ أَكَانَ
التَّشْبِيهُ بِذِكْرِ أَدَاةِ التَّشْبِيهِ أَوْ بِحَذْفِهَا كَقَوْلِهِ:
يَا مُخَنَّثُ، يَا أَعْمَى (3)
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُعَزَّرُ بِقَوْلِهِ: يَا كَافِرُ
يَا مُنَافِقُ يَا أَعْوَرُ يَا نَمَّامُ يَا كَذَّابُ يَا خَبِيثُ يَا
مُخَنَّثُ يَا ابْنَ الْفَاسِقَةِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ كُل مَا فِيهِ
__________
(1) تفسير القرطبي 8 / 87.
(2) سورة الحجرات / 11.
(3) انظر في أقسام التشبيه مختصر المعاني ص 125.
(12/21)
إِيذَاءٌ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلَوْ بِغَمْزِ
الْعَيْنِ أَوْ إِشَارَةِ الْيَدِ، لاِرْتِكَابِهِ مَعْصِيَةً لاَ حَدَّ
فِيهَا، وَكُل مَعْصِيَةٍ لاَ حَدَّ فِيهَا فِيهَا التَّعْزِيرُ (1) .
وَكَذَلِكَ يُعَزَّرُ إِِذَا شَبَّهَهُ بِالْحَيَوَانَاتِ الدَّنِيئَةِ
كَقَوْلِهِ: يَا حِمَارُ، يَا كَلْبُ، يَا قِرْدُ، يَا بَقَرُ وَنَحْوُ
ذَلِكَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ)
لأَِنَّ كُل مَنِ ارْتَكَبَ مُنْكَرًا أَوْ آذَى مُسْلِمًا بِغَيْرِ حَقٍّ
بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ إِشَارَةٍ يَسْتَحِقُّ التَّعْزِيرَ.
وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يُعَزَّرُ
بِقَوْلِهِ: يَا حِمَارُ، يَا كَلْبُ وَنَحْوُ ذَلِكَ لِظُهُورِ كَذِبِهِ.
وَفَرَّقَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ مَا إِِذَا كَانَ الْمَسْبُوبُ
مِنَ الأَْشْرَافِ فَيُعَزَّرُ، أَوْ مِنَ الْعَامَّةِ فَلاَ يُعَزَّرُ،
كَمَا اسْتَحْسَنَهُ فِي الْهِدَايَةِ وَالزَّيْلَعِيُّ (2) .
وَهَذَا كُلُّهُ إِِذَا لَمْ يَصِل الشَّتْمُ وَالسَّبُّ إِِلَى حَدِّ
الْقَذْفِ، أَمَّا إِِذَا كَانَ مِنْ أَنْوَاعِ الْقَذْفِ: كَالرَّمْيِ
بِالزِّنَا مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ، فَإِِنَّهُ يُحَدُّ عَلَى تَفْصِيلٍ
يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَذْفٌ) . (3)
__________
(1) ابن عابدين 3 / 182، وجواهر الإكليل 2 / 288، وحاشية الجمل على شرح
المنهج 5 / 162، وكشاف القناع 6 / 112، والمغني 8 / 220، وحاشية القليوبي 4
/ 184.
(2) ابن عابدين 3 / 185.
(3) مختصر المعاني ص 125، وتفسير الكشاف 2 / 179، والقرطبي 7 / 325.
(12/21)
|