الموسوعة
الفقهية الكويتية تَشْرِيقٌ
انْظُرْ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ.
تَشْرِيكٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّشْرِيكُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ شَرَّكَ. يُقَال: شَرَّكَ
فُلاَنٌ فُلاَنًا. إِِذَا أَدْخَلَهُ فِي الأَْمْرِ وَجَعَلَهُ شَرِيكًا
لَهُ فِيهِ. وَيُقَال: شَرَّكَ غَيْرَهُ فِي مَا اشْتَرَاهُ لِيَدْفَعَ
الْغَيْرُ بَعْضَ الثَّمَنِ، وَيَصِيرُ شَرِيكًا لَهُ فِي الْمَبِيعِ.
وَيُقَال أَيْضًا: شَرَّكَ نَعْلَهُ تَشْرِيكًا: إِِذَا حَمَل لَهُ
شِرَاكًا، وَالشِّرَاكُ: سَيْرُ النَّعْل الَّذِي عَلَى ظَهْرِهَا. (1)
وَالتَّشْرِيكُ فِي الاِصْطِلاَحِ الشَّرْعِيِّ: إِدْخَال الْغَيْرِ فِي
الاِسْمِ كَالشِّرَاءِ وَنَحْوِهِ، لِيَكُونَ شَرِيكًا لَهُ فِيهِ.
__________
(1) تاج العروس، ومتن اللغة مادة: " شرك ".
(12/22)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الإِِْشْرَاكُ:
2 - الإِِْشْرَاكُ بِمَعْنَى التَّشْرِيكِ. وَإِِذَا قِيل: أَشْرَكَ
الْكَافِرُ بِاللَّهِ، فَالْمُرَادُ أَنَّهُ جَعَل غَيْرَ اللَّهِ شَرِيكًا
لَهُ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. (ر: إِشْرَاكٌ) .
حُكْمُ التَّشْرِيكِ:
3 - التَّشْرِيكُ فِي الشِّرَاءِ وَنَحْوِهِ جَائِزٌ، وَتَشْرِيكُ غَيْرِ
عِبَادَةٍ فِي نِيَّةِ الْعِبَادَةِ أَوْ تَشْرِيكُ عِبَادَتَيْنِ فِي
نِيَّةٍ وَاحِدَةٍ جَائِزٌ عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي:
أ - تَشْرِيكُ مَا لاَ يَحْتَاجُ إِِلَى نِيَّةٍ فِي نِيَّةِ الْعِبَادَةِ:
4 - لاَ نَعْلَمُ خِلاَفًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ تَشْرِيكِ مَا
لاَ يَحْتَاجُ إِِلَى نِيَّةٍ فِي نِيَّةِ الْعِبَادَةِ، كَالتِّجَارَةِ
مَعَ الْحَجِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ
يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُل ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُل فَجٍّ عَمِيقٍ
لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ
مَعْلُومَاتٍ. . .} (1) وَقَوْلُهُ فِي شَأْنِ الْحَجِّ أَيْضًا: {لَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} (2) نَزَلَتْ
فِي التِّجَارَةِ مَعَ الْحَجِّ. وَالصَّوْمِ مَعَ قَصْدِ الصِّحَّةِ،
وَالْوُضُوءِ مَعَ نِيَّةِ التَّبَرُّدِ، وَالصَّلاَةِ مَعَ نِيَّةِ دَفْعِ
الْغَرِيمِ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ
__________
(1) سورة الحج / 28.
(2) سورة البقرة / 198.
(12/22)
تَحْصُل بِغَيْرِ نِيَّةٍ فَلَمْ يُؤَثِّرْ
تَشْرِيكُهَا فِي نِيَّةِ الْعِبَادَةِ، وَكَالْجِهَادِ مَعَ قَصْدِ حُصُول
الْغَنِيمَةِ. (1)
جَاءَ فِي مَوَاهِبِ الْجَلِيل نَقْلاً عَنْ الْفُرُوقِ لِلْقَرَافِيِّ:
مَنْ يُجَاهِدُ لِتَحْصِيل طَاعَةِ اللَّهِ بِالْجِهَادِ، وَلِيَحْصُل لَهُ
الْمَال مِنَ الْغَنِيمَةِ، فَهَذَا لاَ يَضُرُّهُ وَلاَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ
بِالإِِْجْمَاعِ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَل لَهُ هَذَا فِي هَذِهِ
الْعِبَادَةِ. فَفَرَّقَ بَيْنَ جِهَادِهِ لِيَقُول النَّاسُ: هَذَا
شُجَاعٌ، أَوْ لِيُعَظِّمَهُ الإِِْمَامُ، فَيُكْثِرُ عَطَاءَهُ مِنْ
بَيْتِ الْمَال. فَهَذَا وَنَحْوُهُ رِيَاءٌ حَرَامٌ.
وَبَيْنَ أَنْ يُجَاهِدَ لِتَحْصِيل الْغَنَائِمِ مِنْ جِهَةِ أَمْوَال
الْعَدُوِّ مَعَ أَنَّهُ قَدْ شَرَّكَ.
وَلاَ يُقَال لِهَذَا رِيَاءٌ، بِسَبَبِ أَنَّ الرِّيَاءَ أَنْ يَعْمَل
لِيَرَاهُ غَيْرُ اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُجَدِّدَ
وُضُوءًا لِيَحْصُل لَهُ التَّبَرُّدُ أَوِ التَّنَظُّفُ، وَجَمِيعُ هَذِهِ
الأَْغْرَاضِ لاَ يَدْخُل فِيهَا تَعْظِيمُ الْخَلْقِ، بَل هِيَ
لِتَشْرِيكِ أُمُورٍ مِنَ الْمَصَالِحِ لَيْسَ لَهَا إِدْرَاكٌ، وَلاَ
تَصْلُحُ لِلإِِْدْرَاكِ وَلاَ لِلتَّعْظِيمِ، ذَلِكَ لاَ يَقْدَحُ فِي
الْعِبَادَاتِ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الرِّيَاءِ فِي
الْعِبَادَاتِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ التَّشْرِيكِ فِيهَا. (2)
__________
(1) مواهب الجليل 2 / 532، وحاشية البجيرمي على المنهج 1 / 67، ومغني
المحتاج 1 / 49، 150، والمغني لابن قدامة 1 / 112.
(2) مواهب الجليل 2 / 533.
(12/23)
وَجَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: (1)
مَنْ نَوَى بِوُضُوئِهِ تَبَرُّدًا أَوْ شَيْئًا يَحْصُل بِدُونِ قَصْدٍ
كَتَنَظُّفٍ، وَلَوْ فِي أَثْنَاءِ وُضُوئِهِ (مَعَ نِيَّةٍ مُعْتَبَرَةٍ)
أَيْ مُسْتَحْضِرًا عِنْدَ نِيَّةِ التَّبَرُّدِ أَوْ نَحْوِهِ نِيَّةَ
الْوُضُوءِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ، لِحُصُول ذَلِكَ مِنْ
غَيْرِ نِيَّةٍ، كَمُصَلٍّ نَوَى الصَّلاَةَ وَدَفْعَ الْغَرِيمِ
فَإِِنَّهَا تُجْزِئُهُ؛ لأَِنَّ اشْتِغَالَهُ عَنِ الْغَرِيمِ لاَ
يَفْتَقِرُ إِِلَى نِيَّةٍ. وَالْقَوْل الثَّانِي يَضُرُّ، لِمَا فِي
ذَلِكَ مِنَ التَّشْرِيكِ بَيْنَ قُرْبَةٍ وَغَيْرِهَا، فَإِِنْ فَقَدَ
النِّيَّةَ الْمُعْتَبَرَةَ، كَأَنْ نَوَى التَّبَرُّدَ أَوْ نَحْوَهُ
وَقَدْ غَفَل عَنْهَا، لَمْ يَصِحَّ غَسْل مَا غَسَلَهُ بِنِيَّةِ
التَّبَرُّدِ وَنَحْوِهِ، وَيَلْزَمُهُ إِعَادَتُهُ دُونَ اسْتِئْنَافِ
الطَّهَارَةِ.
قَال الزَّرْكَشِيُّ: وَهَذَا الْخِلاَفُ فِي الصِّحَّةِ.
أَمَّا الثَّوَابُ فَالظَّاهِرُ عَدَمُ حُصُولِهِ، وَقَدْ اخْتَارَ
الْغَزَالِيُّ فِيمَا إِِذَا شَرَّكَ فِي الْعِبَادَةِ غَيْرَهَا مِنْ
أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ اعْتِبَارَ الْبَاعِثِ عَلَى الْعَمَل، فَإِِنْ كَانَ
الْقَصْدُ الدُّنْيَوِيُّ هُوَ الأَْغْلَبُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَجْرٌ، إِنْ
كَانَ الْقَصْدُ الدِّينِيُّ أَغْلَب فَلَهُ بِقَدْرِهِ، وَإِِنْ
تَسَاوَيَا تَسَاقَطَا. وَاخْتَارَ ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ أَنَّهُ لاَ
أَجْرَ فِيهِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَتَسَاوَى الْقَصْدَانِ أَمِ اخْتَلَفَا.
وَانْظُرْ أَيْضًا مُصْطَلَحَ: (نِيَّةٌ) .
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 49.
(12/23)
ب - تَشْرِيكُ عِبَادَتَيْنِ فِي نِيَّةٍ:
5 - إِنْ أَشْرَكَ عِبَادَتَيْنِ فِي النِّيَّةِ، فَإِِنْ كَانَ
مَبْنَاهُمَا عَلَى التَّدَاخُل كَغُسْلَيِ الْجُمُعَةِ وَالْجَنَابَةِ،
أَوِ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ، أَوْ غُسْل الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ، أَوْ
كَانَتْ إِحْدَاهُمَا غَيْرَ مَقْصُودَةٍ كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ مَعَ
فَرْضٍ أَوْ سُنَّةٍ أُخْرَى، فَلاَ يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي الْعِبَادَةِ؛
لأَِنَّ مَبْنَى الطَّهَارَةِ عَلَى التَّدَاخُل، وَالتَّحِيَّةُ
وَأَمْثَالُهَا غَيْرُ مَقْصُودَةٍ بِذَاتِهَا، بَل الْمَقْصُودُ شَغْل
الْمَكَانِ بِالصَّلاَةِ، فَيَنْدَرِجُ فِي غَيْرِهِ.
أَمَّا التَّشْرِيكُ بَيْنَ عِبَادَتَيْنِ مَقْصُودَتَيْنِ بِذَاتِهَا
كَالظُّهْرِ وَرَاتِبَتِهِ، فَلاَ يَصِحُّ تَشْرِيكُهُمَا فِي نِيَّةٍ
وَاحِدَةٍ؛ لأَِنَّهُمَا عِبَادَتَانِ مُسْتَقِلَّتَانِ لاَ تَنْدَرِجُ
إِحْدَاهُمَا فِي الأُْخْرَى. (1)
وَانْظُرْ أَيْضًا مُصْطَلَحَ: (نِيَّةٌ) .
ج - التَّشْرِيكُ فِي الْمَبِيعِ:
6 - يَجُوزُ التَّشْرِيكُ فِي الْعَقْدِ، كَأَنْ يَقُول الْمُشْتَرِي
لِعَالِمٍ بِالثَّمَنِ: أَشْرَكْتُكَ فِي هَذَا الْمَبِيعِ وَيَقْبَل
الآْخَرَ، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (2) فَإِِنْ
أَشْرَكَهُ فِي قَدْرٍ مَعْلُومٍ كَالنِّصْفِ وَالرُّبُعِ فَلَهُ ذَلِكَ
فِي الْمَبِيعِ، وَإِِنْ أَطْلَقَ فَلَهُ النِّصْفُ؛ لأَِنَّ
__________
(1) الإقناع على شرح الخطيب 2 / 6، ونهاية المحتاج 4 / 106، والمغني 1 /
221.
(2) البدائع 5 / 226، وحاشية الدسوقي 3 / 157، وأسنى المطالب 2 / 91 - 92،
ونهاية المحتاج 4 / 106، والمغني 4 / 131.
(12/24)
الشَّرِكَةَ الْمُطْلَقَةَ تَقْتَضِي
الْمُسَاوَاةَ، وَهُوَ كَالْبَيْعِ وَالتَّوْلِيَةِ فِي أَحْكَامِهِ
وَشُرُوطِهِ. (1)
د - التَّشْرِيكُ بَيْنَ نِسْوَةٍ فِي طَلْقَةٍ:
7 - إِِذَا قَال لِنِسَائِهِ الأَْرْبَعِ: أَوْقَعَتُ عَلَيْكُنَّ طَلْقَةً
وَقَعَ عَلَى كُل وَاحِدَةٍ طَلْقَةٌ؛ لأَِنَّ الطَّلْقَةَ لاَ
تَتَجَزَّأُ.
وَلَوْ قَال: طَلْقَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا أَوْ أَرْبَعًا، وَقَعَ عَلَى كُل
وَاحِدَةٍ طَلْقَةٌ فَقَطْ، إِلاَّ أَنْ يُرِيدَ تَوْزِيعَ كُل طَلْقَةٍ
عَلَيْهِنَّ، فَيَقَعُ فِي " طَلْقَتَيْنِ " عَلَى كُل وَاحِدَةٍ
طَلْقَتَانِ، وَفِي " ثَلاَثٍ وَأَرْبَعٍ "، ثَلاَثٌ. (2)
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) روضة الطالبين 7 / 88، وحاشية الطحطاوي 2 / 130، والمغني 7 / 244.
(12/24)
تَشْمِيتٌ
1 - مِنْ مَعَانِي التَّشْمِيتِ لُغَةً: الدُّعَاءُ بِالْخَيْرِ
وَالْبَرَكَةِ. وَكُل دَاعٍ لأَِحَدٍ بِخَيْرٍ فَهُوَ مُشَمِّتٌ
وَمُسَمِّتٌ بِالشِّينِ وَالسِّينِ، وَالشِّينُ أَعْلَى وَأَفْشَى فِي
كَلاَمِهِمْ. وَكُل دُعَاءٍ بِخَيْرٍ فَهُوَ تَشْمِيتٌ.
وَفِي حَدِيثِ تَزْوِيجِ عَلِيٍّ بِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
شَمَّتَ عَلَيْهِمَا: أَيْ دَعَا لَهُمَا بِالْبَرَكَةِ. (1)
وَفِي حَدِيثِ الْعُطَاسِ: فَشَمَّتَ أَحَدَهُمَا وَلَمْ يُشَمِّتِ
الآْخَرُ. فَالتَّشْمِيتُ وَالتَّسْمِيتُ: الدُّعَاءُ بِالْخَيْرِ
وَالْبَرَكَةِ. وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ أَوْ تَسْمِيَتُهُ: أَنْ يَقُول
لَهُ مَتَى كَانَ مُسْلِمًا: يَرْحَمُكَ اللَّهُ. (2)
وَهُوَ لاَ يَخْرُجُ فِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ عَنْ هَذَا
الْمَعْنَى.
__________
(1) حديث: " تشميت النبي صلى الله عليه
وسلم علي وفاطمة. . . " أورده أبو عبيد القاسم بن سلام في غريب الحديث (2 /
183 - 184 - ط دائرة المعارف العثمانية) . وانظر فتح الباري بشرح صحيح
البخاري لابن حجر (10 / 601) فقد ورد به، وقال القزاز: التشميت: التبريك
والعرب تقول: شمته إذا دعا له بالبركة. وشمت عليه إذ برك عليه. وفي الحديث
في قصة تزويج علي بفاطمة (شمت عليهما) أي دعا لهما بالبركة.
(2) لسان العرب، الصحاح، ومختار الصحاح مادة: " شمت ".
(12/25)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْرَعُ لِلْعَاطِسِ عَقِبَ
عُطَاسِهِ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ، فَيَقُول: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَوْ
زَادَ: رَبِّ الْعَالَمِينَ كَانَ أَحْسَن كَفِعْل ابْنِ مَسْعُودٍ. وَلَوْ
قَال: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُل حَالٍ كَانَ أَفْضَل كَفِعْل ابْنِ
عُمَرَ. وَقِيل يَقُول: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا
مُبَارَكًا فِيهِ، كَفِعْل غَيْرِهِمَا. وَرَوَى أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ
مِنْ حَدِيثِ سَالِمِ بْنِ عُبَيْدٍ مَرْفُوعًا إِِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ
فَلْيَقُل: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُل حَالٍ أَوِ الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ (1) وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِِذَا
عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُل: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُل حَالٍ (2)
وَمَتَى حَمِدَ اللَّهَ بَعْدَ عَطْسَتِهِ كَانَ حَقًّا عَلَى مَنْ
سَمِعَهُ مِنْ إِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ غَيْرِ الْمُصَلِّينَ أَنْ
يُشَمِّتَهُ " يَرْحَمُكَ اللَّهُ " فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ
حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَحَمِدَ اللَّهَ
فَحَقٌّ عَلَى كُل مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ
__________
(1) حديث: " إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله على كل حال. . . " أخرجه أحمد
(6 / 7 - ط الميمنية) من حديث سالم بن عبيد. وفي إسناده جهالة، ولكن ذكر له
ابن حجر شواهد تقويه. (الفتح 10 / 600 ط السلفية) .
(2) حديث: " إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله على كل حال. . . " من حديث أبي
هريرة. أخرجه أبو داود (5 / 290 - ط عزت عبيد دعاس) والحاكم (4 / 265 - 266
ط دائرة المعارف العثمانية) . وإسناده صحيح. فتح الباري (10 / 608 - ط
السلفية) .
(12/25)
يَقُول: يَرْحَمُكَ اللَّهُ (1) . وَفِي
صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِِذَا عَطَسَ
أَحَدُكُمْ فَلْيَقُل: الْحَمْدُ لِلَّهِ. وَلْيَقُل لَهُ أَخُوهُ أَوْ
صَاحِبُهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ. فَإِِذَا قَال لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ
فَلْيَقُل: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ. (2)
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: حَقُّ
الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلاَمِ، وَعِيَادَةُ
الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِِجَابَةُ الدَّعْوَةِ،
وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ حَقُّ الْمُسْلِمِ
عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ: إِِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِِذَا
دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِِذَا
عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى فَشَمِّتْهُ، وَإِِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ،
وَإِِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ. (3)
وَإِِنْ لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ بَعْدَ عَطْسَتِهِ فَلاَ يُشَمَّتُ.
فَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا
__________
(1) حديث: " إذا عطس أحدكم وحمد الله كان حقا على كل مسلم. . . " أخرجه
البخاري (10 / 611 - الفتح - ط السلفية) من حديث أبي هريرة.
(2) حديث: " إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل له أخوه أو صاحبه يرحمك
الله. . . " أخرجه البخاري (10 / 608 - الفتح - ط السلفية) من حديث أبي
هريرة.
(3) حديث: " حق المسلم على المسلم خمس. . . " أخرجه البخاري (3 / 112 -
الفتح - ط السلفية) . ومسلم (4 / 1705 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(12/26)
{إِِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَحَمِدَ
اللَّهَ فَشَمِّتُوهُ، فَإِِنْ لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ فَلاَ تُشَمِّتُوهُ.
(1)
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: عَطَسَ رَجُلاَنِ عِنْدَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَمَّتَ أَحَدُهُمَا
وَلَمْ يُشَمِّتِ الآْخَرَ. فَقَال الَّذِي لَمْ يُشَمِّتْهُ: عَطَسَ
فُلاَنٌ فَشَمَّتَّهُ، وَعَطَسْتُ فَلَمْ تُشَمِّتْنِي فَقَال: إِنَّ هَذَا
حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى، وَإِِنَّكَ لَمْ تَحْمَدِ اللَّهَ تَعَالَى (2)
وَهَذَا الْحُكْمُ عَامٌّ وَلَيْسَ مَخْصُوصًا بِالرَّجُل الَّذِي وَقَعَ
لَهُ ذَلِكَ.
يُؤَيِّدُ الْعُمُومَ مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى إِِذَا عَطَسَ
أَحَدُكُمْ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتُوهُ، وَإِِنْ لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ
فَلاَ تُشَمِّتُوهُ. (3)
فَالتَّشْمِيتُ قَدْ شُرِعَ لِمَنْ حَمِدَ اللَّهَ دُونَ مَنْ لَمْ
يَحْمَدْهُ، فَإِِذَا عَرَفَ السَّامِعُ أَنَّ الْعَاطِسَ حَمِدَ اللَّهَ
بَعْدَ عَطْسَتِهِ شَمَّتَهُ، كَأَنْ سَمِعَهُ يَحْمَدُ اللَّهَ، وَإِِنْ
سَمِعَ الْعَطْسَةَ وَلَمْ يَسْمَعْهُ يَحْمَدُ اللَّهَ، بَل سَمِعَ مَنْ
شَمَّتَ ذَلِكَ الْعَاطِسَ، فَإِِنَّهُ يُشْرَعُ لَهُ
__________
(1) حديث: " إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه فإن لم يحمد الله. . . " أخرجه
أحمد (4 / 412 - ط الميمنية) ومسلم (4 / 2292 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " إن هذا حمد الله وإنك لم تحمد الله " أخرجه البخاري (10 / 610
- الفتح - ط السلفية) ومسلم (4 / 2292 - ط الحلبي) واللفظ لمسلم.
(3) حديث: " إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه. . . " سبق تخريجه ف / 2.
(12/26)
التَّشْمِيتُ لِعُمُومِ الأَْمْرِ بِهِ
لِمَنْ عَطَسَ فَحَمِدَ، وَقَال النَّوَوِيُّ الْمُخْتَارُ أَنَّهُ
يُشَمِّتُهُ مَنْ سَمِعَهُ دُونَ غَيْرِهِ. وَهَذَا التَّشْمِيتُ سُنَّةٌ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَفِي قَوْلٍ لِلْحَنَابِلَةِ وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ وَاجِبٌ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
بِوُجُوبِهِ عَلَى الْكِفَايَةِ. (1) وَنُقِل عَنِ الْبَيَانِ أَنَّ
الأَْشْهَرَ أَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ، لِحَدِيثِ كَانَ حَقًّا عَلَى كُل
مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يَقُول لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ. (2)
فَإِِنْ عَطَسَ وَلَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ نِسْيَانًا اسْتُحِبَّ لِمَنْ
حَضَرَهُ أَنْ يُذَكِّرَهُ الْحَمْدَ لِيَحْمَدَ فَيُشَمِّتَهُ. وَقَدْ
ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ (3) .
3 - وَيُنْدَبُ لِلْعَاطِسِ أَنْ يَرُدَّ عَلَى مَنْ شَمَّتَهُ: فَيَقُول
لَهُ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ، أَوْ يَهْدِيكُمُ اللَّهُ
وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ، وَقِيل: يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، فَيَقُول:
يَرْحَمُنَا اللَّهُ وَإِِيَّاكُمْ وَيَغْفِرُ لَنَا وَلَكُمْ. فَقَدْ
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إِِذَا عَطَسَ فَقِيل لَهُ:
يَرْحَمُكَ اللَّهُ. قَال: يَرْحَمُنَا اللَّهُ وَإِِيَّاكُمْ وَيَغْفِرُ
اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ.
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 326، والاختيار شرح المختار 4 / 165 ط مصطفى
الحلبي 1959، وحاشية الجمل على شرح المنهج 2 / 32، والأذكار للنووي 240 -
241، والآداب الشرعية لابن مفلح 1 / 326، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري
لابن حجر 10 / 599، 600، 610، 611، وكفاية الطالب الرباني 2 / 340 - 399،
والشرح الصغير 4 / 764.
(2) فتح الباري 10 / 611.
(3) فتح الباري 10 / 611.
(12/27)
قَال ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: فِي الْحَدِيثِ
دَلِيلٌ عَلَى عَظِيمِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى الْعَاطِسِ. يُؤْخَذُ ذَلِكَ
مِمَّا رُتِّبَ عَلَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِِلَى عَظِيمِ
فَضْل اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ. فَإِِنَّهُ أَذْهَبَ عَنْهُ الضَّرَرَ
بِنِعْمَةِ الْعَطْسِ، ثُمَّ شَرَعَ لَهُ الْحَمْدَ الَّذِي يُثَابُ
عَلَيْهِ، ثُمَّ الدُّعَاءَ بِالْخَيْرِ بَعْدَ الدُّعَاءِ بِالْخَيْرِ
وَشَرَعَ هَذِهِ النِّعَمَ الْمُتَوَالِيَاتِ فِي زَمَنٍ يَسِيرٍ فَضْلاً
مِنْهُ وَإِِحْسَانًا. فَإِِذَا قِيل لِلْعَاطِسِ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ،
فَمَعْنَاهُ: جَعَل اللَّهُ لَكَ ذَلِكَ لِتَدُومَ لَكَ السَّلاَمَةَ،
وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِِلَى تَنْبِيهِ الْعَاطِسِ عَلَى طَلَبِ الرَّحْمَةِ
وَالتَّوْبَةِ مِنَ الذَّنْبِ، وَمِنْ ثَمَّ شُرِعَ بِهِ الْجَوَابُ
بِقَوْلِهِ: غَفَرَ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ وَقَوْلُهُ: وَيُصْلِحُ
بَالَكُمْ أَيْ شَأْنَكُمْ. (1) وقَوْله تَعَالَى: {سَيَهْدِيهِمْ
وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} (2) أَيْ شَأْنَهُمْ.
وَهَذَا مَا لَمْ يَكُنْ فِي صَلاَتِهِ أَوْ خَلاَئِهِ.
مَا يَنْبَغِي لِلْعَاطِسِ مُرَاعَاتُهُ:
4 - مِنْ آدَابِ الْعَاطِسِ: أَنْ يَخْفِضَ بِالْعَطْسِ صَوْتَهُ
وَيَرْفَعَهُ بِالْحَمْدِ. وَأَنْ يُغَطِّيَ وَجْهَهُ لِئَلاَّ
__________
(1) كفاية الطالب على شرح الرسالة 2 / 399 - 400 ط مصطفى الحلبي 1938،
والشرح الصغير 4 / 765، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر 10 / 609 -
610.
(2) سورة محمد / 5.
(12/27)
يَبْدُوَ مِنْ فِيهِ أَوْ أَنْفِهِ مَا
يُؤْذِي جَلِيسَهُ. وَلاَ يَلْوِي عُنُقَهُ يَمِينًا وَلاَ شِمَالاً
لِئَلاَّ يَتَضَرَّرَ بِذَلِكَ. قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْحِكْمَةُ فِي
خَفْضِ الصَّوْتِ بِالْعُطَاسِ: أَنَّ رَفْعَهُ إِزْعَاجًا لِلأَْعْضَاءِ.
وَفِي تَغْطِيَةِ الْوَجْهِ: أَنَّهُ لَوْ بَدَرَ مِنْهُ شَيْءٌ آذَى
جَلِيسَهُ. وَلَوْ لَوَى عُنُقَهُ صِيَانَةً لِجَلِيسِهِ لَمْ يَأْمَنْ
مِنَ الاِلْتِوَاءِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال:
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِِذَا عَطَسَ وَضَعَ
يَدَهُ أَوْ ثَوْبَهُ عَلَى فِيهِ، وَخَفَضَ أَوْ غَضَّ بِهَا صَوْتَهُ.
(1)
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ التَّشْمِيتِ:
5 - قَال ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: مِنْ فَوَائِدِ التَّشْمِيتِ تَحْصِيل
الْمَوَدَّةِ، وَالتَّأْلِيفُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَتَأْدِيبُ
الْعَاطِسِ بِكَسْرِ النَّفْسِ عَنِ الْكِبْرِ، وَالْحَمْل عَلَى
التَّوَاضُعِ لِمَا فِي ذِكْرِ الرَّحْمَةِ مِنَ الإِِْشْعَارِ بِالذَّنْبِ
الَّذِي لاَ يَعْرَى عَنْهُ أَكْثَرُ الْمُكَلَّفِينَ. (2)
التَّشْمِيتُ أَثْنَاءَ الْخُطْبَةِ:
6 - كَرِهَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ التَّشْمِيتَ أَثْنَاءَ
الْخُطْبَةِ، (3) وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْجَدِيدِ: أَنَّ
__________
(1) حديث: " كان إذا عطس وضع يده. . . " أخرجه أبو داود (5 / 288 - طبع عزت
عبيد دعاس) وجوده ابن حجر في الفتح (10 / 602 - ط السلفية) .
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر 10 / 602.
(3) ابن عابدين 1 / 551، والشرح الكبير 1 / 386.
(12/28)
الْكَلاَمَ عِنْدَ الْخُطْبَةِ لاَ
يَحْرُمُ، وَيُسَنُّ الإِِْنْصَاتُ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ
التَّشْمِيتِ وَغَيْرِهِ، وَاسْتَدَل بِمَا رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَال: دَخَل رَجُلٌ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَال: مَتَى السَّاعَةُ؟
فَأَشَارَ النَّاسُ إِلَيْهِ أَنِ اسْكُتْ فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الثَّالِثَةِ: مَا أَعْدَدْتَ
لَهَا؟ قَال: حُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَال: إِنَّكَ مَعَ مَنْ
أَحْبَبْتَ (1) وَإِِذْ جَازَ هَذَا فِي الْخُطْبَةِ جَازَ تَشْمِيتُ
الْعَاطِسِ أَثْنَاءَهَا.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْقَدِيمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ:
أَنَّ الإِِْنْصَاتَ لِسَمَاعِ الْخُطْبَةِ وَاجِبٌ. لِمَا رَوَى جَابِرٌ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: دَخَل ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فَجَلَسَ إِِلَى
أُبَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ فَلَمْ يَرُدَّ
عَلَيْهِ، فَسَكَتَ حَتَّى صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَال لَهُ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَرُدَّ عَلَيَّ؟ فَقَال:
إِنَّكَ لَمْ تَشْهَدْ مَعَنَا الْجُمُعَةَ. قَال: وَلِمَ؟ قَال: لأَِنَّكَ
تَكَلَّمْتَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ،
فَقَامَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَدَخَل عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَذَكَرَ لَهُ، فَقَال: صَدَقَ أُبَيٌّ (2) وَإِِذَا كَانَ
__________
(1) حديث: " دخل رجل والنبي صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر " أخرجه
البيهقي (3 / 221 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ابن خزيمة (3 / 149 -
ط المكتب الإسلامي) .
(2) حديث: " صدق أبي " عن جابر قال: دخل عبد الله بن مسعود المسجد والنبي
صلى الله عليه وسلم يخطب أورده الهيثمي في المجمع (2 / 185 - ط القدسي)
وقال: " رواه أبو يعلى والطبراني في الأوسط بنحوه، وفي الكبير باختصار،
ورجال أبي يعلى ثقات ".
(12/28)
الإِِْنْصَاتُ وَاجِبًا كَانَ مَا
خَالَفَهُ مِنْ تَشْمِيتِ الْعَاطِسِ أَثْنَاءَ الْخُطْبَةِ حَرَامًا. (1)
وَلِلْحَنَابِلَةِ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا:
الْجَوَازُ مُطْلَقًا أَخْذًا مِنْ قَوْل الأَْثْرَمِ: سَمِعْتُ أَبَا
عَبْدِ اللَّهِ أَيِ الإِِْمَامَ أَحْمَدَ - سُئِل: يَرُدُّ الرَّجُل
السَّلاَمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ؟ فَقَال: نَعَمْ. قَال: وَيُشَمِّتُ
الْعَاطِسَ؟ فَقَال: نَعَمْ.
وَالإِِْمَامُ يَخْطُبُ. وَقَال أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قَدْ فَعَلَهُ غَيْرُ
وَاحِدٍ. قَال ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَمِمَّنْ رَخَّصَ فِي ذَلِكَ
الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ وَالثَّوْرِيُّ
وَإِِسْحَاقُ.
وَالثَّانِيَةُ:
إِنْ كَانَ لاَ يَسْمَعُ الْخُطْبَةَ شَمَّتَ الْعَاطِسَ، وَإِِنْ كَانَ
يَسْمَعُ لَمْ يَفْعَل، قَال أَبُو طَالِبٍ: قَال أَحْمَدُ: إِِذَا
سَمِعْتَ الْخُطْبَةَ فَاسْتَمِعْ وَأَنْصِتْ وَلاَ تَقْرَأْ وَلاَ
تُشَمِّتْ، وَإِِذَا لَمْ تَسْمَعِ الْخُطْبَةَ فَاقْرَأْ وَشَمِّتْ
وَرُدَّ السَّلاَمَ. وَقَال أَبُو دَاوُدَ: قُلْتُ لأَِحْمَدَ: يُرَدُّ
السَّلاَمُ وَالإِِْمَامُ يَخْطُبُ وَيُشَمَّتُ الْعَاطِسُ؟ قَال: إِِذَا
كَانَ لَيْسَ يَسْمَعُ الْخُطْبَةَ فَيَرُدُّ، وَإِِذَا كَانَ يَسْمَعُ
فَلاَ (2) لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}
(3) وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
__________
(1) المهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 122، ومنهاج الطالبين بهامش قليوبي
وعميرة 1 / 280.
(2) المغني لابن قدامة 2 / 323 - 324 م الرياض الحديث، كشاف القناع عن متن
الإقناع 2 / 48 م النصر الحديثة.
(3) سورة الأعراف / 204.
(12/29)
تَشْمِيتُ مَنْ فِي الْخَلاَءِ لِقَضَاءِ
حَاجَتِهِ:
7 - يُكْرَهُ لِمَنْ فِي الْخَلاَءِ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ أَنْ يُشَمِّتَ
عَاطِسًا سَمِعَ عَطْسَتَهُ. بِذَلِكَ قَال فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ
الأَْرْبَعَةِ. كَمَا كَرِهُوا لَهُ إِنْ عَطَسَ فِي خَلاَئِهِ أَنْ
يَحْمَدَ اللَّهَ بِلِسَانِهِ، وَأَجَازُوا لَهُ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ دُونَ
أَنْ يُحَرِّكَ بِهِ لِسَانَهُ (1) وَعَنْ الْمُهَاجِرِ بْنِ قُنْفُذٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبُول فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ حَتَّى
تَوَضَّأَ، ثُمَّ اعْتَذَرَ إِِلَيَّ وَقَال: إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ
أَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى إِلاَّ عَلَى طُهْرٍ أَوْ قَال: عَلَى طَهَارَةٍ
(2)
تَشْمِيتُ الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ لِلرَّجُل وَالْعَكْسُ:
8 - إِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ شَابَّةً يُخْشَى الاِفْتِنَانُ بِهَا كُرِهَ
لَهَا أَنْ تُشَمِّتَ الرَّجُل إِِذَا عَطَسَ، كَمَا يُكْرَهُ لَهَا أَنْ
تَرُدَّ عَلَى مُشَمِّتٍ لَهَا لَوْ عَطَسَتْ هِيَ. بِخِلاَفِ لَوْ كَانَتْ
عَجُوزًا وَلاَ تَمِيل إِلَيْهَا النُّفُوسُ فَإِِنَّهَا تُشَمَّتُ
وَتُشَمِّتُ مَتَى حَمِدَتِ اللَّهَ، بِذَلِكَ قَال
__________
(1) ابن عابدين 1 / 230، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 33، والأذكار
للنووي 28، والشرح الكبير 1 / 106، وكشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 63 م
النصر الحديثة.
(2) حديث: " إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر أو قال: على طهارة " أخرجه
أبو داود (1 / 23 - ط عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 167 - ط دائرة المعارف
العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(12/29)
الْمَالِكِيَّةُ (1) وَمِثْلُهُمْ فِي
ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ.
جَاءَ فِي الآْدَابِ الشَّرْعِيَّةِ لاِبْنِ مُفْلِحٍ عَنْ ابْنِ تَمِيمٍ:
لاَ يُشَمِّتُ الرَّجُل الشَّابَّةَ وَلاَ تُشَمِّتُهُ.
وَقَال السَّامِرِيُّ: يُكْرَهُ أَنْ يُشَمِّتَ الرَّجُل الْمَرْأَةَ
إِِذَا عَطَسَتْ وَلاَ يُكْرَهُ ذَلِكَ لِلْعَجُوزِ. وَقَال ابْنُ
الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ رَجُلٌ مِنَ الْعُبَّادِ فَعَطَسَتِ
امْرَأَةُ أَحْمَدَ، فَقَال لَهَا الْعَابِدُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ. فَقَال
أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ. عَابِدٌ جَاهِلٌ.
وَقَال حَرْبٌ: قُلْتُ لأَِحْمَدَ: الرَّجُل يُشَمِّتُ الْمَرْأَةَ إِِذَا
عَطَسَتْ؟ فَقَال: إِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَنْطِقَهَا لِيَسْمَعَ
كَلاَمَهَا فَلاَ؛ لأَِنَّ الْكَلاَمَ فِتْنَةٌ، وَإِِنْ لَمْ يُرِدْ
ذَلِكَ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يُشَمِّتَهُنَّ. وَقَال أَبُو طَالِبٍ: إِنَّهُ
سَأَل أَبَا عَبْدِ اللَّهِ: يُشَمِّتُ الرَّجُل الْمَرْأَةَ إِِذَا
عَطَسَتْ؟ قَال: نَعَمْ قَدْ شَمَّتَ أَبُو مُوسَى امْرَأَتَهُ.
قُلْتُ: فَإِِنْ كَانَتِ امْرَأَةً تَمُرُّ أَوْ جَالِسَةً فَعَطَسَتْ
أُشَمِّتُهَا؟ قَال: نَعَمْ. وَقَال الْقَاضِي: وَيُشَمِّتُ الرَّجُل
الْمَرْأَةَ الْبَرْزَةَ وَيُكْرَهُ لِلشَّابَّةِ. وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ:
يُشَمِّتُ الْمَرْأَةَ الْبَرْزَةَ وَتُشَمِّتُهُ وَلاَ يُشَمِّتُ
الشَّابَّةَ وَلاَ تُشَمِّتُهُ، وَقَال الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ:
يَجُوزُ لِلرَّجُل تَشْمِيتُ الْمَرْأَةِ الْبَرْزَةِ وَالْعَجُوزِ،
وَيُكْرَهُ
__________
(1) حاشية العدوي على كفاية الطالب شرح الرسالة 2 / 399، والشرح الصغير 4 /
764.
(12/30)
لِلشَّابَّةِ، وَفِي هَذَا تَفْرِيقٌ
بَيْنَ الشَّابَّةِ وَغَيْرِهَا. (1)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ذَكَرَ صَاحِبُ الذَّخِيرَةِ: أَنَّهُ إِِذَا
عَطَسَ الرَّجُل فَشَمَّتَتْهُ الْمَرْأَةُ، فَإِِنْ عَجُوزًا رَدَّ
عَلَيْهَا وَإِِلاَّ رَدَّ فِي نَفْسِهِ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَكَذَا
لَوْ عَطَسَتْ هِيَ كَمَا فِي الْخُلاَصَةِ. (2)
تَشْمِيتُ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ:
9 - لَوْ عَطَسَ كَافِرٌ وَحَمِدَ اللَّهَ عُقَيْبَ عُطَاسِهِ وَسَمِعَهُ
مُسْلِمٌ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُشَمِّتَهُ بِقَوْلِهِ: هَدَاكَ اللَّهُ
أَوْ عَافَاكَ اللَّهُ، فَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي
مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ قَال: كَانَتِ الْيَهُودُ يَتَعَاطَسُونَ عِنْدَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَاءَ أَنْ يَقُول
يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ، فَكَانَ يَقُول: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ
بَالَكُمْ (3) . وَفِي قَوْلِهِ: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ
بَالَكُمْ. تَعْرِيضٌ لَهُمْ بِالإِِْسْلاَمِ: أَيِ اهْتَدُوا وَآمِنُوا
يُصْلِحِ اللَّهُ بَالَكُمْ. فَلَهُمْ تَشْمِيتٌ مَخْصُوصٌ، وَهُوَ
الدُّعَاءُ لَهُمْ بِالْهِدَايَةِ وَإِِصْلاَحِ الْبَال. بِخِلاَفِ
تَشْمِيتِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِِنَّهُمْ أَهْلٌ
__________
(1) الآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 352 - 353.
(2) الاختيار شرح المختار 3 / 119 ط مصطفى الحلبي 1936، وابن عابدين 5 /
236.
(3) حديث أبي موسى الأشعري: " كانت اليهود يتعاطسون. . . " أخرجه الترمذي
(5 / 82 - ط الحلبي) . وقال: " هذا حديث حسن صحيح ".
(12/30)
لِلدُّعَاءِ بِالرَّحْمَةِ بِخِلاَفِ
الْكُفَّارِ. (1) وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال:
اجْتَمَعَ الْيَهُودُ وَالْمُسْلِمُونَ فَعَطَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَمَّتَهُ الْفَرِيقَانِ جَمِيعًا، فَقَال
لِلْمُسْلِمِينَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَيَرْحَمُنَا وَإِِيَّاكُمْ.
وَقَال لِلْيَهُودِ: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ (2)
تَشْمِيتُ الْمُصَلِّي غَيْرَهُ:
10 - مَنْ كَانَ فِي الصَّلاَةِ وَسَمِعَ عَاطِسًا حَمِدَ اللَّهَ عَقِبَ
عُطَاسِهِ فَشَمَّتَهُ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ؛ لأَِنَّ تَشْمِيتَهُ لَهُ
بِقَوْلِهِ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ يَجْرِي فِي مُخَاطَبَاتِ النَّاسِ،
فَكَانَ مِنْ كَلاَمِهِمْ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: بَيْنَمَا أَنَا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلاَةِ إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ
الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَحَدَّقَنِي الْقَوْمُ
بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْل أُمَّاهُ، مَا لَكُمْ تَنْظُرُونَ
إِلَيَّ؟ فَضَرَبَ الْقَوْمُ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا
انْصَرَفَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَانِي
بِأَبِي وَأُمِّي هُوَ، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا أَحْسَنَ تَعْلِيمًا
__________
(1) الشرح الصغير 4 / 764، وحاشية العدوي على كفاية الطالب شرح الرسالة 2 /
399، والآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 352، والأذكار للنووي 243 - 244، وفتح
الباري بشرح صحيح البخاري 10 / 609.
(2) حديث ابن عمر: " اجتمع اليهود والمسلمون. . . " أخرجه البيهقي في
الشعب، وضعفه ابن حجر لضعف أحد رواته. (فتح الباري 15 / 609 - ط السلفية) .
(12/31)
مِنْهُ، وَاللَّهِ مَا ضَرَبَنِي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ كَهَرَنِي ثُمَّ قَال: إِنَّ صَلاَتَنَا
هَذِهِ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلاَمِ الآْدَمِيِّينَ، إِنَّمَا
هِيَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ (1) هَذَا قَوْل
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ، وَإِِنْ كَانَ تَعْبِيرُ الْحَنَفِيَّةِ بِالْفَسَادِ
وَتَعْبِيرُ غَيْرِهِمْ بِالْبُطْلاَنِ، إِلاَّ أَنَّ الْبُطْلاَنَ
وَالْفَسَادَ فِي ذَلِكَ بِمَعْنًى. (2)
فَإِِنْ عَطَسَ هُوَ فِي صَلاَتِهِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَشَمَّتَ نَفْسَهُ
فِي نَفْسِهِ دُونَ أَنْ يُحَرِّكَ بِذَلِكَ لِسَانَهُ بِأَنْ قَال:
يَرْحَمُكَ اللَّهُ يَا نَفْسِي لاَ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ؛ لأَِنَّهُ لَمَّا
لَمْ يَكُنْ خِطَابًا لِغَيْرِهِ لَمْ يُعْتَبَرْ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ
كَمَا إِِذَا قَال: يَرْحَمُنِي اللَّهُ. قَال بِهِ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ الْمَالِكِيَّةُ.
تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ فَوْقَ ثَلاَثٍ:
11 - مَنْ تَكَرَّرَ عُطَاسُهُ فَزَادَ عَلَى الثَّلاَثِ فَإِِنَّهُ لاَ
يُشَمَّتُ فِيمَا زَادَ عَنْهَا؛ إِذْ هُوَ بِمَا زَادَ عَنْهَا
__________
(1) حديث: " إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء. . " أخرجه مسلم (1 / 381 -
382 - ط الحلبي) من حديث معاوية بن الحكم.
(2) ابن عابدين 1 / 416 - 417، وفتح القدير 1 / 347 ط دار إحياء التراث
العربي، والشرح الصغير 4 / 764، وكفاية الطالب شرح الرسالة للقيرواني 2 /
399، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل 2 / 33 مكتبة النجاح ليبيا، والمهذب في
فقه الإمام الشافعي 1 / 94، وروضة الطالبين 1 / 292، وكشاف القناع عن متن
الإقناع 1 / 378 ط النصر الحديثة.
(12/31)
مَزْكُومٌ. فَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ
الأَْكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: شَمَّتَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلاً عَطَسَ مَرَّتَيْنِ بِقَوْلِهِ: يَرْحَمُكَ
اللَّهُ ثُمَّ قَال عَنْهُ فِي الثَّالِثَةِ: هَذَا رَجُلٌ مَزْكُومٌ. (1)
وَذَكَرَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ
قَال: يُكَرَّرُ التَّشْمِيتُ إِِذَا تَكَرَّرَ الْعُطَاسُ، إِلاَّ أَنْ
يُعْرَفَ أَنَّهُ مَزْكُومٌ فَيَدْعُوَ لَهُ بِالشِّفَاءِ. وَعِنْدَ هَذَا
سَقَطَ الأَْمْرُ بِالتَّشْمِيتِ عِنْدَ الْعِلْمِ بِالزُّكَامِ، لأَِنَّ
التَّعْلِيل بِهِ يَقْتَضِي أَنْ لاَ يُشَمَّتَ مَنْ عُلِمَ أَنَّ بِهِ
زُكَامًا أَصْلاً، لِكَوْنِهِ مَرَضًا، وَلَيْسَ عُطَاسًا مَحْمُودًا
نَاشِئًا عَنْ خِفَّةِ الْبَدَنِ وَانْفِتَاحِ الْمَسَامِّ وَعَدَمِ
الْغَايَةِ فِي الشِّبَعِ. (2)
__________
(1) حديث سلمة بن الأكوع: أخرجه الترمذي (5 / 95 ط الحلبي) وقال: حسن صحيح.
(2) الشرح الصغير 4 / 675، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر 10 /
604 - 607، والآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 354.
(12/32)
تَشْمِيرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - لِلتَّشْمِيرِ فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ: مِنْهَا: الرَّفْعُ يُقَال:
شَمَّرَ الإِِْزَارَ وَالثَّوْبَ تَشْمِيرًا: إِِذَا رَفَعَهُ، وَيُقَال:
شَمَّرَ عَنْ سَاقِهِ، وَشَمَّرَ فِي أَمْرِهِ: أَيْ خَفَّ فِيهِ
وَأَسْرَعَ، وَشَمَّرَ الشَّيْءَ فَتَشَمَّرَ: قَلَّصَهُ فَتَقَلَّصَ،
وَتَشَمَّرَ أَيْ: تَهَيَّأَ. (1) وَفِي الاِصْطِلاَحِ لاَ يَخْرُجُ عَنْ
مَعْنَى رَفْعِ الثَّوْبِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - السَّدْل:
2 - مِنْ مَعَانِي السَّدْل فِي اللُّغَةِ: إِرْخَاءُ الثَّوْبِ.
يُقَال: سَدَلْتُ الثَّوْبَ سَدْلاً: إِِذَا أَرْخَيْتَهُ وَأَرْسَلْتَهُ
مِنْ غَيْرِ ضَمِّ جَانِبَيْهِ. وَسَدَل الثَّوْبَ يَسْدِلُهُ وَيَسْدُلُهُ
سَدْلاً، وَأَسْدَلَهُ: أَرْخَاهُ وَأَرْسَلَهُ. (2)
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ خَرَجَ فَرَأَى قَوْمًا
يُصَلُّونَ قَدْ سَدَلُوا ثِيَابَهُمْ، فَقَال: كَأَنَّهُمْ الْيَهُودُ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، ومختار الصحاح. مادة: " شمر ".
(2) المصباح المنير، ولسان العرب. مادة " سدل ".
(12/32)
خَرَجُوا مِنْ فُهُورِهِمْ (1)
وَاصْطِلاَحًا: أَنْ يَجْعَل الشَّخْصُ ثَوْبَهُ عَلَى رَأْسِهِ، أَوْ
عَلَى كَتِفَيْهِ، وَيُرْسِل أَطْرَافَهُ مِنْ جَوَانِبِهِ مِنْ غَيْرِ
أَنْ يَضُمَّهَا، أَوْ يَرُدَّ أَحَدَ طَرَفَيْهِ عَلَى الْكَتِفِ
الأُْخْرَى. وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ مَكْرُوهٌ بِالاِتِّفَاقِ. (2) لِمَا
رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ السَّدْل فِي الصَّلاَةِ. .
(3)
ب - الإِِْسْبَال:
3 - الإِِْسْبَال فِي اللُّغَةِ: الإِِْرْخَاءُ وَالإِِْطَالَةُ.
يُقَال: أَسْبَل إِزَارَهُ: إِِذَا أَرْخَاهُ. وَأَسْبَل فُلاَنٌ
ثِيَابَهُ: إِِذَا طَوَّلَهَا وَأَرْسَلَهَا إِِلَى الأَْرْضِ، وَفِي
الْحَدِيثِ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يَنْظُرُ
إِلَيْهِمْ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ. قَال: قُلْتُ: وَمَنْ هُمْ؟ خَابُوا
__________
(1) الفهور: جمع فهر، وهو مدراس اليهود الذي يجتمعون فيه للصلاة أو في
الأعياد. (لسان العرب) .
(2) ابن عابدين 1 / 429، ومراقي الفلاح 192 - 193، وفتح القدير 1 / 359 دار
إحياء التراث العربي، والفتاوى الهندية 1 / 106، والاختيار شرح المختار 1 /
61 دار المعرفة، والخرشي على مختصر خليل 1 / 251، والمجموع شرح المهذب 3 /
176 - 177، وكشاف القناع 1 / 275 م النصر الحديثة، والمغني لابن قدامة 1 /
584 - 585 م الرياض الحديثة.
(3) حديث: " نهى عن السدل كل في الصلاة ". أخرجه أبو داود (1 / 423 ط عبيد
الدعاس) والترمذي (2 / 217 ط محمد الحلبي) . وصحح إسناده أحمد شاكر.
(12/33)
وَخَسِرُوا. فَأَعَادَهَا رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ: الْمُسْبِل،
وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ (1)
قَال ابْنُ الأَْعْرَابِيِّ وَغَيْرُهُ: الْمُسْبِل: الَّذِي يُطَوِّل
ثَوْبَهُ وَيُرْسِلُهُ إِِلَى الأَْرْضِ إِِذَا مَشَى، وَإِِنَّمَا يَفْعَل
ذَلِكَ كِبْرًا وَاخْتِيَالاً. (2)
وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ لاَ يَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.
وَحُكْمُهُ الْكَرَاهَةُ، (3) لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ مِنَ الْخُيَلاَءِ
لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ (4) وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَال: سَمِعْتُ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنْ أَسْبَل
إِزَارَهُ فِي صَلاَتِهِ خُيَلاَءَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ جَل ذِكْرُهُ فِي
حِلٍّ وَلاَ حَرَامٍ. (5) وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ يَرْفَعُهُ
لاَ يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ
__________
(1) حديث: " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا. . . "
أخرجه مسلم (1 / 102 ط عيسى البابي) وأحمد (5 / 148 ط المكتب الإسلامي) .
(2) لسان العرب.
(3) المغني لابن قدامة 1 / 585 م الرياض الحديثة، وكشاف القناع 1 / 77 م
النصر الحديثة، والدين الخالص 4 / 520 لصديق خان مطبعة المدني.
(4) حديث: " من جر ثوبه. . . " أخرجه مسلم (3 / 1653 ط عيسى البابي) .
(5) حديث: " من أسبل إزاره في صلاته خيلاء فليس من الله. . . ". أخرجه أبو
داود (1 / 423 ط عبيد الدعاس) . وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح. (شرح السنة
للبغوي 2 / 428 ط المكتب الإسلامي) .
(12/33)
بَطَرًا. (1) وَلِلتَّفْصِيل ر: (صَلاَةٌ -
عَوْرَةٌ - إِسْبَالٌ) .
الْحُكْمُ الإِِْجْمَالِيُّ:
4 - التَّشْمِيرُ فِي الصَّلاَةِ مَكْرُوهٌ اتِّفَاقًا، لِمَا وَرَدَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ كَفْتِ
الثِّيَابِ وَالشَّعْرِ. (2)
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا بِكَرَاهَتِهِ فِيهَا إِِذَا كَانَ
فِعْلُهُ لأَِجْلِهَا. وَأَمَّا فِعْلُهُ خَارِجَهَا، أَوْ فِيهَا لاَ
لأَِجْلِهَا، فَلاَ كَرَاهَةَ فِيهِ. وَمِثْل ذَلِكَ عِنْدَهُمْ تَشْمِيرُ
الذَّيْل عَنِ السَّاقِ: فَإِِنْ فَعَلَهُ لأَِجْل شُغْلٍ، فَحَضَرَتِ
الصَّلاَةُ، فَصَلَّى وَهُوَ كَذَلِكَ فَلاَ كَرَاهَةَ. وَظَاهِرُ
الْمُدَوَّنَةِ أَنَّهُ سَوَاءٌ عَادَ لِشُغْلِهِ، أَمْ لاَ. وَحَمَلَهَا
الشَّبِيبِيُّ عَلَى مَا إِِذَا عَادَ لِشُغْلِهِ، وَصَوَّبَهُ ابْنُ
نَاجِي (3) .
وَلِلتَّفْصِيل ر: (صَلاَةٌ، عَوْرَةٌ، لِبَاسٌ) .
__________
(1) حديث: " لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر. . . ". أخرجه البخاري
(الفتح 10 / 258 - 259 ط السلفية) .
(2) حديث: " نهى عن كفت الثياب. . . " أخرجه البخاري (2 / 295 ط السلفية) ،
ومسلم (1 / 354 ط عيسى الحلبي) .
(3) فتح القدير 1 / 359 دار إحياء التراث العربي، ومراقي الفلاح 192،
والفتاوى الهندية 1 / 106، ومنهاج الطالبين 1 / 193، ونهاية المحتاج للرملي
2 / 55، وحاشية الجمل على المنهج 1 / 442، والشرح الكبير 1 / 218، والخرشي
على مختصر خليل 1 / 250، وكشاف القناع 1 / 276، 373 م النصر الحديثة.
(12/34)
تَشَهُّدٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّشَهُّدُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ تَشَهَّدَ، أَيْ: تَكَلَّمَ
بِالشَّهَادَتَيْنِ. (1)
وَيُطْلَقُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ عَلَى قَوْل كَلِمَةِ
التَّوْحِيدِ، وَعَلَى التَّشَهُّدِ فِي الصَّلاَةِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ:
التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ. . إِِلَى آخِرِهِ فِي الصَّلاَةِ. (2) وَصَرَّحَ
ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنْ الْحِلْيَةِ: أَنَّ التَّشَهُّدَ اسْمٌ
لِمَجْمُوعِ الْكَلِمَاتِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ. سُمِّيَ بِهِ لاِشْتِمَالِهِ عَلَى
الشَّهَادَتَيْنِ. مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ جُزْئِهِ (3) .
الْحُكْمُ الإِِْجْمَالِيُّ:
2 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ، وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ،
وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِِلَى: أَنَّ التَّشَهُّدَ
__________
(1) متن اللغة مادة: " شهد ".
(2) الاختيار 1 / 53، ونهاية المحتاج 1 / 519 ط مصطفى البابي الحلبي،
والمغرب للمطرزي، ولسان العرب المحيط مادة: " شهد ".
(3) ابن عابدين 1 / 342 ط دار إحياء التراث العربي، ونهاية المحتاج 1 /
519.
(12/34)
وَاجِبٌ فِي الْقَعْدَةِ الَّتِي لاَ
يَعْقُبُهَا السَّلاَمُ؛ لأَِنَّهُ يَجِبُ بِتَرْكِهِ سُجُودُ السَّهْوِ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ،
وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ: سُنِّيَّةَ
التَّشَهُّدِ فِي هَذِهِ الْقَعْدَةِ؛ لأَِنَّهُ يَسْقُطُ بِالسَّهْوِ
فَأَشْبَهَ السُّنَنَ.
وَأَمَّا التَّشَهُّدُ فِي الْقَعْدَةِ الأَْخِيرَةِ فِي الصَّلاَةِ
فَوَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الأَْعْرَابِيِّ: إِِذَا رَفَعْتَ رَأْسَكَ مِنْ
آخِرِ سَجْدَةٍ، وَقَعَدْتَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ، فَقَدْ تَمَّتْ صَلاَتُكَ
(1) عَلَّقَ التَّمَامَ بِالْقَعْدَةِ دُونَ التَّشَهُّدِ، فَالْفَرْضُ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذِهِ الْقَعْدَةِ هُوَ الْجُلُوسُ فَقَطْ،
أَمَّا التَّشَهُّدُ فَوَاجِبٌ، يُجْبَرُ بِسُجُودِ السَّهْوِ إِنْ تَرَكَ
سَهْوًا، وَتُكْرَهُ الصَّلاَةُ بِتَرْكِهِ تَحْرِيمًا، فَتَجِبُ
إِعَادَتُهَا. (2)
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَفِي قَوْلٍ
وَاجِبٌ. (3)
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ
__________
(1) حديث: " إذا رفعت رأسك من آخر سجدة. . . " ذكره صاحب الاختيار (1 / 53
ط دار المعرفة) . ولم نعثر عليه فيما بين أيدينا من المصادر الحديثية.
(2) انظر الدر المختار ورد المحتار 1 / 307.
(3) الاختيار لتعليل المختار 1 / 53، 54، وابن عابدين 1 / 306، 313،
والقوانين الفقهية / 70، وجواهر الإكليل 1 / 49، وحاشية الدسوقي 1 / 243،
251، والزرقاني 1 / 205، ونهاية المحتاج 1 / 518، والأذكار / 60، وروضة
الطالبين 1 / 261، والمغني 1 / 532، 533، وكشاف القناع 1 / 389، 385.
(12/35)
الصَّلاَةِ، وَهَذَا مَا يُسَمِّيهِ
بَعْضُهُمْ فَرْضًا أَوْ وَاجِبًا وَبَعْضُهُمْ رُكْنًا، تَشْبِيهًا لَهُ
بِرُكْنِ الْبَيْتِ الَّذِي لاَ يَقُومُ إِلاَّ بِهِ (1)
وَفِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ،
وَمَعْنَى الْوُجُوبِ عِنْدَ غَيْرِهِمْ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِِلَى
مَظَانِّهِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَالأُْصُول. (2) وَانْظُرْ أَيْضًا:
(فَرْضٌ، وَوَاجِبٌ) .
أَلْفَاظُ التَّشَهُّدِ:
3 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ أَفْضَل التَّشَهُّدِ،
التَّشَهُّدُ الَّذِي عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا،
وَهُوَ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ،
السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ
وَبَرَكَاتُهُ، السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ
الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ
مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ (3) .
وَوَجْهُ اخْتِيَارِهِمْ لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا رُوِيَ: أَنَّ
حَمَّادًا أَخَذَ بِيَدِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ، وَقَال
أَخَذَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ بِيَدَيَّ وَعَلَّمَنِي، وَأَخَذَ
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) ابن عابدين 1 / 64، 1 / 306، وكشاف القناع 1 / 385.
(3) حديث: " تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم التشهد لعبد الله بن مسعود
". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 311 ط السلفية) . ومسلم (1 / 301 - 302 ط عيسى
الحلبي) .
(12/35)
عَلْقَمَةُ بِيَدِ إِبْرَاهِيمَ
وَعَلَّمَهُ، وَأَخَذَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ بِيَدِ عَلْقَمَةَ وَعَلَّمَهُ، وَأَخَذَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ وَعَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ فَقَال: قُل: التَّحِيَّاتُ
لِلَّهِ. . . إِِلَى آخِرِهِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ
مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: عَلَّمَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّشَهُّدَ - كَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ -
كَمَا يُعَلِّمُنِي سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ، التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ. . . .
(1)
لأَِنَّ فِيهِ زِيَادَةَ وَاوِ الْعَطْفِ، وَإِِنَّهُ يُوجِبُ تَعَدُّدَ
الثَّنَاءِ؛ لأَِنَّ الْمَعْطُوفَ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَبِهِ
يَقُول: الثَّوْرِيُّ، وَإِِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ (2) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ أَفْضَل التَّشَهُّدِ تَشَهُّدُ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ،
الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ، الطَّيِّبَاتُ الصَّلَوَاتُ لِلَّهِ، السَّلاَمُ
عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ،
السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ
أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
وَهَذَا لأَِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَهُ عَلَى
__________
(1) حديث عبد الله بن مسعود: " علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد
" كتاب الآثار لمحمد الشيباني (ص 146 - 147 ط المجلس العلمي) . والآثار
لأبي يوسف (ص 53 ط الاستقامة) . ويشهد للحديث ما قبله.
(2) الاختيار لتعليل المختار 1 / 53، والمغني 1 / 534، 535، 541 ط الرياض،
وكشاف القناع 1 / 388 ط عالم الكتب.
(12/36)
الْمِنْبَرِ، فَلَمْ يُنْكِرُوهُ، فَجَرَى
مَجْرَى الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ، وَكَانَ أَيْضًا إِجْمَاعًا. (1)
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَأَفْضَل التَّشَهُّدِ عِنْدَهُمْ مَا رُوِيَ
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ، كَمَا
يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَيَقُول: قُولُوا:
التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ، الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ،
السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ
وَبَرَكَاتُهُ، السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ
الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ
مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ، إِلاَّ
أَنَّهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ. (2)
وَالْخِلاَفُ بَيْنَ الأَْئِمَّةِ هُنَا خِلاَفٌ فِي الأَْوْلَوِيَّةِ،
فَبِأَيِّ تَشَهُّدٍ تَشَهَّدَ مِمَّا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَازَ (3) وَمِنَ النَّاسِ مَنِ اخْتَارَ
تَشَهُّدَ أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ، وَهُوَ أَنْ يَقُول: التَّحِيَّاتُ
لِلَّهِ، الطَّيِّبَاتُ، وَالصَّلَوَاتُ لِلَّهِ. . . وَالْبَاقِي
كَتَشَهُّدِ
__________
(1) القوانين الفقهية / 75، وحاشية الدسوقي 1 / 251 ط دار الفكر، وجواهر
الإكليل 1 / 52 دار المعرفة.
(2) الأذكار / 61، 62، وروضة الطالبين 1 / 263. وحديث ابن عباس رضي الله
عنهما: " كان يعلمنا التشهد. . . " أخرجه مسلم (1 / 302 - 303 ط عيسى
الحلبي) .
(3) ابن عابدين 1 / 313، وحاشية الدسوقي 1 / 251، والزرقاني 1 / 216 ط دار
الفكر، والأذكار / 62، وروضة الطالبين 1 / 263 ط المكتب الإسلامي، والمغني
1 / 536.
(12/36)
ابْنِ مَسْعُودٍ (1) وَذَكَرَ ابْنُ
عَابِدِينَ أَنَّ الْمُصَلِّيَ يَقْصِدُ بِأَلْفَاظِ التَّشَهُّدِ
مَعَانِيَهَا، مُرَادَةً لَهُ عَلَى وَجْهِ الإِِْنْشَاءِ، كَأَنَّهُ
يُحَيِّي اللَّهَ تَعَالَى وَيُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى نَفْسِهِ وَالأَْوْلِيَاءِ، وَلاَ يَقْصِدُ
الإِِْخْبَارَ وَالْحِكَايَةَ عَمَّا وَقَعَ فِي الْمِعْرَاجِ مِنْهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
وَمِنَ الْمَلاَئِكَةِ. (2)
الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ فِي أَلْفَاظِ التَّشَهُّدِ وَالتَّرْتِيبُ
بَيْنَهَا:
4 - اخْتَلَفَتْ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى
النَّحْوِ الآْتِي: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ
تَحْرِيمًا أَنْ يَزِيدَ فِي التَّشَهُّدِ حَرْفًا، أَوْ يَبْتَدِئَ
بِحَرْفٍ قَبْل حَرْفٍ.
قَال أَبُو حَنِيفَةَ: وَلَوْ نَقَصَ مِنْ تَشَهُّدِهِ أَوْ زَادَ فِيهِ.
كَانَ مَكْرُوهًا؛ لأَِنَّ أَذْكَارَ الصَّلاَةِ مَحْصُورَةٌ، فَلاَ
يُزَادُ عَلَيْهَا. ثُمَّ أَضَافَ ابْنُ عَابِدِينَ قَائِلاً:
وَالْكَرَاهَةُ عِنْدَ الإِِْطْلاَقِ لِلتَّحْرِيمِ. (3)
وَيُكْرَهُ كَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الزِّيَادَةُ عَلَى
التَّشَهُّدِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَرْكِ بَعْضِ التَّشَهُّدِ، فَالظَّاهِرُ
مِنْ كَلاَمِ بَعْضِ شُيُوخِهِمْ عَدَمُ حُصُول
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 212 ط دار الكتاب العربي. وحديث أبي موسى " التحيات
لله الطيبات. . . " أخرجه مسلم (1 / 303) .
(2) ابن عابدين 1 / 342.
(3) المرجع السابق نفسه.
(12/37)
السُّنَّةِ بِبَعْضِ التَّشَهُّدِ،
خِلاَفًا لاِبْنِ نَاجِي فِي كِفَايَةِ بَعْضِهِ، قِيَاسًا عَلَى
السُّورَةِ. (1)
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ فَصَّلُوا الْكَلاَمَ، وَقَالُوا: إِنَّ
لَفْظَ الْمُبَارَكَاتِ وَالصَّلَوَاتِ، وَالطَّيِّبَاتِ وَالزَّاكِيَاتِ
سُنَّةٌ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي التَّشَهُّدِ، فَلَوْ حَذَفَ كُلَّهَا
وَاقْتَصَرَ عَلَى الْبَاقِي أَجْزَأَهُ مِنْ غَيْرِ خِلاَفٍ عِنْدَهُمْ.
وَأَمَّا لَفْظُ: السَّلاَمُ عَلَيْكَ. . . إِلَخْ فَوَاجِبٌ لاَ يَجُوزُ
حَذْفُ شَيْءٍ مِنْهُ، إِلاَّ لَفْظُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ.
وَفِي هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا عَدَمُ
جَوَازِ حَذْفِهِمَا. وَالثَّانِي: جَوَازُ حَذْفِهِمَا. وَالثَّالِثُ:
يَجُوزُ حَذْفُ وَبَرَكَاتُهُ، دُونَ رَحْمَةُ اللَّهِ ". (2)
وَكَذَلِكَ التَّرْتِيبُ بَيْنَ أَلْفَاظِهَا مُسْتَحَبٌّ عِنْدَهُمْ عَلَى
الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، فَلَوْ قَدَّمَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ جَازَ،
وَفِي وَجْهٍ لاَ يَجُوزُ كَأَلْفَاظِ الْفَاتِحَةِ (3) .
وَالْحَنَابِلَةُ يَرَوْنَ أَنَّهُ إِِذَا أَسْقَطَ لَفْظَةً هِيَ
سَاقِطَةٌ فِي بِضْعِ التَّشَهُّدَاتِ الْمَرْوِيَّةِ صَحَّ تَشَهُّدُهُ
فِي الأَْصَحِّ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: لَوْ تَرَكَ وَاوًا أَوْ حَرْفًا
أَعَادَ الصَّلاَةَ، لِقَوْل الأَْسْوَدِ: فَكُنَّا نَتَحَفَّظُهُ عَنْ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا نَتَحَفَّظُ
حُرُوفَ الْقُرْآنِ. (4)
__________
(1) شرح الزرقاني 1 / 205، 216، والمغني 1 / 545، 1 / 537.
(2) الأذكار / 62.
(3) المرجع السابق نفسه.
(4) المغني 1 / 537، 538.
(12/37)
الْجُلُوسُ فِي التَّشَهُّدِ:
5 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ
قَوْل الطَّحَاوِيِّ وَالْكَرْخِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِِلَى: أَنَّ
الْجُلُوسَ فِي التَّشَهُّدِ الأَْوَّل سُنَّةٌ. وَالأَْصَحُّ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ - وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - أَنَّهُ وَاجِبٌ.
وَأَمَّا فِي التَّشَهُّدِ الثَّانِي فَالْجُلُوسُ بِقَدْرِ التَّشَهُّدِ
رُكْنٌ عِنْدَ الأَْرْبَعَةِ، وَهُوَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ الْحَنَفِيَّةُ
بِالْفَرْضِيَّةِ، وَغَيْرُهُمْ تَارَةً بِالْوُجُوبِ وَتَارَةً
بِالْفَرْضِيَّةِ. (1)
وَأَمَّا هَيْئَةُ الْجُلُوسِ فِي التَّشَهُّدِ، فَتَفْصِيلُهُ فِي
مُصْطَلَحِ: (جُلُوسٌ) .
التَّشَهُّدُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ التَّشَهُّدِ بِغَيْرِ
الْعَرَبِيَّةِ لِلْعَاجِزِ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ لِلْقَادِرِ عَلَيْهَا.
(2) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (تَرْجَمَةٌ) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 301، والاختيار 1 / 53، 54، والقوانين الفقهية / 69،
وجواهر الإكليل 1 / 48، وحاشية الدسوقي 1 / 249، ونهاية المحتاج 1 / 520،
521، والمغني 1 / 532، 533، 539، وكشاف القناع 1 / 385.
(2) ابن عابدين 1 / 325، والبدائع 1 / 113 ط دار الكتاب العربي، والمجموع 3
/ 299 وما بعدها ط المكتبة السلفية والقليوبي 1 / 151 ط مطبعة دار إحياء
الكتب العربية، وروضة الطالبين 1 / 226، 229، والمغني 1 / 545، وكشاف
القناع 2 / 34.
(12/38)
الإِِْسْرَارُ فِي التَّشَهُّدِ:
7 - السُّنَّةُ فِي التَّشَهُّدِ الإِِْسْرَارُ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَجْهَرُ بِهِ، إِذْ لَوْ جَهَرَ
بِهِ لَنُقِل كَمَا نُقِلَتِ الْقِرَاءَةُ، وَقَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ السُّنَّةِ إِخْفَاءُ التَّشَهُّدِ
(1) .
قَال صَاحِبُ الْمُغْنِي: وَلاَ نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلاَفًا. (2)
مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْكِ التَّشَهُّدِ:
8 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ سَجْدَةِ
السَّهْوِ بِتَرْكِ التَّشَهُّدِ فِي الْقَعْدَةِ الأُْولَى (قَبْل
الأَْخِيرَةِ) إِنْ كَانَ تَرْكُهُ سَهْوًا، عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَهُمْ فِي
الْحُكْمِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَرْكِهِ عَمْدًا: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ،
وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ إِِلَى: وُجُوبِ إِعَادَةِ الصَّلاَةِ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي
رِوَايَةٍ أُخْرَى، أَنَّ عَلَى الْمُصَلِّي أَنْ يَسْجُدَ لِلسَّهْوِ فِي
هَذِهِ الْحَالَةِ أَيْضًا.
وَأَمَّا تَرْكُ التَّشَهُّدِ فِي الْقَعْدَةِ الأَْخِيرَةِ إِنْ كَانَ
عَمْدًا: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي وَجْهٍ،
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى وُجُوبِ الإِِْعَادَةِ.
__________
(1) حديث: " من السنة إخفاء التشهد " أخرجه أبو داود (1 / 602 ط عبيد
الدعاس) والترمذي (2 / 84 - 85 ط مصطفى الحلبي) . وصححه أحمد شاكر.
(2) المبسوط للسرخسي 1 / 32، والأذكار / 63، والمغني 1 / 545.
(12/38)
وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ سَهْوًا عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ أَنَّ عَلَيْهِ سَجْدَةَ
السَّهْوِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. (1)
وَأَمَّا حُكْمُ الرُّجُوعِ إِِلَى التَّشَهُّدِ لِمَنْ قَامَ إِِلَى
الثَّالِثَةِ فِي ثُنَائِيَّةٍ أَوْ إِِلَى الرَّابِعَةِ فِي ثُلاَثِيَّةٍ،
أَوْ إِِلَى خَامِسَةٍ فِي رُبَاعِيَّةٍ، فَقَدْ فَصَّلَهُ الْفُقَهَاءُ
فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ سَجْدَةِ السَّهْوِ.
الصَّلاَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
التَّشَهُّدِ:
9 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمُصَلِّيَ لاَ يَزِيدُ عَلَى
التَّشَهُّدِ فِي الْقَعْدَةِ الأُْولَى بِالصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِهَذَا قَال النَّخَعِيُّ
وَالثَّوْرِيُّ وَإِِسْحَاقُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ مِنَ الأَْقْوَال إِِلَى
اسْتِحْبَابِ الصَّلاَةِ فِيهَا، وَبِهِ قَال الشَّعْبِيُّ.
وَأَمَّا إِِذَا جَلَسَ فِي آخِرِ صَلاَتِهِ فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ
الْفُقَهَاءِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ التَّشَهُّدِ (2) .
وَأَمَّا صِيغَةُ الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الْقَعْدَةِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 313، 501، والقوانين الفقهية / 83، وشرح الزرقاني 1 /
236، وروضة الطالبين 1 / 303، ونهاية المحتاج 2 / 74، 75، والأذكار / 60،
والمغني 2 / 6، 26، 27، 44، وكشاف القناع 1 / 389.
(2) الاختيار 1 / 53، 54، وابن عابدين 1 / 343، والقوانين / 70، وروضة
الطالبين 1 / 263، والمغني 1 / 537، 541، 542.
(12/39)
الأَْخِيرَةِ، وَمَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ
مِنَ الأَْدِلَّةِ، فَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ الْكَلاَمَ عَلَيْهِ فِي
مَوْطِنِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ. (1) وَانْظُرْ أَيْضًا: " الصَّلاَةُ
عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".
__________
(1) ابن عابدين 1 / 344، 345، وروضة الطالبين 1 / 265، والمغني 1 / 542.
(12/39)
تَشْهِيرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّشْهِيرُ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ شَهَّرَهُ، بِمَعْنَى:
أَعْلَنَهُ وَأَذَاعَهُ، وَشَهَّرَ بِهِ: أَذَاعَ عَنْهُ السُّوءَ،
وَشَهَّرَهُ تَشْهِيرًا فَاشْتَهَرَ. وَالشُّهْرَةُ: وُضُوحُ الأَْمْرِ.
(1) وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّعْزِيرُ:
2 - التَّعْزِيرُ: التَّأْدِيبُ وَالإِِْهَانَةُ دُونَ الْحَدِّ. وَهُوَ
أَعَمُّ مِنَ التَّشْهِيرِ، إِذْ يَكُونُ بِالتَّشْهِيرِ وَبِغَيْرِهِ.
فَالتَّشْهِيرُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعْزِيرِ (3) .
ب - السَّتْرُ:
3 - السَّتْرُ: الْمَنْعُ وَالتَّغْطِيَةُ. وَهُوَ ضِدُّ التَّشْهِيرِ.
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط، والصحاح للجوهري، وتاج
العروس مادة: " شهر ".
(2) المبسوط للسرخسي 16 / 145، ومنح الجليل 4 / 164، 234، ومغني المحتاج 4
/ 211، وكشاف القناع 6 / 127، والمهذب 2 / 330.
(3) المصباح المنير، والبدائع 7 / 58، 64.
(12/40)
الْحُكْمُ الإِِْجْمَالِيُّ:
3 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّشْهِيرِ بِاعْتِبَارِ مَنْ يَصْدُرُ مِنْهُ،
وَبِاعْتِبَارِ الْمُشَهَّرِ بِهِ. فَالتَّشْهِيرُ قَدْ يَكُونُ مِنَ
النَّاسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، عَلَى جِهَةِ الْعَدَاوَةِ أَوِ الْغِيبَةِ،
أَوْ عَلَى جِهَةِ النَّصِيحَةِ وَالتَّحْذِيرِ. وَقَدْ يَكُونُ مِنَ
الْحَاكِمِ فِي الْحُدُودِ أَوْ فِي التَّعَازِيرِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ
فِيمَا يَأْتِي:
أَوَّلاً: تَشْهِيرُ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ:
الأَْصْل أَنَّ تَشْهِيرَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ بِذِكْرِ
عُيُوبِهِمْ وَالتَّنَقُّصِ مِنْهُمْ حَرَامٌ.
وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا أَوْ وَاجِبًا. وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِِلَى مَا
يَتَّصِفُ بِهِ الْمُشَهَّرُ بِهِ.
4 - فَيَكُونُ حَرَامًا فِي الأَْحْوَال الآْتِيَةِ:
أ - إِِذَا كَانَ الْمُشَهَّرُ بِهِ بَرِيئًا مِمَّا يُشَاعُ عَنْهُ
وَيُقَال فِيهِ. وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ
يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} . (1)
وَقَوْل النَّبِيِّ: أَيُّمَا رَجُلٍ أَشَاعَ عَلَى رَجُلٍ مُسْلِمٍ
كَلِمَةً وَهُوَ مِنْهَا بَرِيءٌ، يَرَى أَنْ يَشِينَهُ بِهَا فِي
الدُّنْيَا، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَرْمِيَهُ بِهَا
فِي النَّارِ. ثُمَّ تَلاَ مِصْدَاقَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى:
__________
(1) سورة النور / 19.
(12/40)
{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ
الْفَاحِشَةُ} (1) .
وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ،
وَتَوَعَّدَهُمْ بِالْعَذَابِ الْعَظِيمِ، وَذَلِكَ فِي الآْيَاتِ الَّتِي
نَزَلَتْ فِي شَأْنِ السَّيِّدَةِ عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حِينَ
رَمَاهَا أَهْل الإِِْفْكِ وَالْبُهْتَانِ بِمَا قَالُوهُ مِنَ الْكَذِبِ
وَالاِفْتِرَاءِ، وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا
بِالإِِْفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ. . .} (2)
وَقَال ابْنُ كَثِيرٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ
احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِِثْمًا مُبِينًا} (3) أَيْ يَنْسُبُونَ
إِلَيْهِمْ مَا هُمْ بُرَآءُ مِنْهُ لَمْ يَعْمَلُوهُ وَلَمْ يَفْعَلُوهُ،
يَحْكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ذَلِكَ عَلَى سَبِيل
الْعَيْبِ وَالتَّنَقُّصِ مِنْهُمْ، وَقَدْ قَال رَسُول اللَّهِ فِيهِ:
أَرْبَى الرِّبَا عِنْدَ اللَّهِ اسْتِحْلاَل عِرْضِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ
ثُمَّ قَرَأَ: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}
(4) وَقَدْ قِيل فِي مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
مَنْ
__________
(1) حديث: " أيما رجل أشاع على رجل مسلم كلمة. . . . " أخرجه الطبراني بلفظ
مقارب وإسناده جيد كما في الترغيب والترهيب للمنذري (5 / 157 ط التجارية) .
(2) سورة النور / 11، وانظر الجامع لأحكام القرآن 12 / 206، ومختصر تفسير
ابن كثير 2 / 591، 592. وحديث الإفك. أخرجه البخاري (8 / 452 ط. السلفية) ،
ومسلم (4 / 2129 ط. عيسى الحلبي) .
(3) سورة الأحزاب / 58.
(4) حديث: " أربى الربا عند الله استحلال. . . ". أخرجه أبو يعلى بهذا
اللفظ، ورواته رواة الصحيح كما قال المنذري في الترغيب والترهيب (3 / 504 ط
مصطفى الحلبي) ، ورواه أبو داود (5 / 193 ط عزت عبيد الدعاس) ، وأحمد (1 /
190 المكتب الإسلامي) بلفظ مقارب، وحسن إسناده السيوطي (فيض القدير 2 /
531) .
(12/41)
سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ (1) أَيْ
مَنْ سَمَّعَ بِعُيُوبِ النَّاسِ وَأَذَاعَهَا أَظْهَرَ اللَّهُ عُيُوبَهُ.
وَمِنْ ذَلِكَ: الْهَجْوُ بِالشِّعْرِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: مَا كَانَ
مِنَ الشِّعْرِ يَتَضَمَّنُ هَجْوَ الْمُسْلِمِينَ وَالْقَدْحَ فِي،
أَعْرَاضِهِمْ فَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَى قَائِلِهِ. (2)
ب - إِِذَا كَانَ الْمُشَهَّرُ بِهِ يَتَّصِفُ بِمَا يُقَال عَنْهُ،
وَلَكِنَّهُ لاَ يُجَاهِرُ بِهِ، وَلاَ يَقَعُ بِهِ ضَرَرٌ عَلَى غَيْرِهِ.
فَالتَّشْهِيرُ بِهِ حَرَامٌ أَيْضًا؛ لأَِنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنَ
الْغِيبَةِ الَّتِي نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْهَا فِي
قَوْلِهِ: {وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} (3) . وَقَدْ رَوَى أَبُو
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟ قَالُوا: اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَال: ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ. قِيل:
أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُول؟ قَال: إِنْ كَانَ فِيهِ مَا
تَقُول فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُول فَقَدْ
بَهَتَّهُ. (4)
__________
(1) مختصر تفسير ابن كثير 3 / 114، وفتح الباري 11 / 337. وحديث: " من سمع
سمع الله به " أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 128 ط. السلفية) ، ومسلم (4
/ 2289 ط. عيسى الحلبي) .
(2) المغني 9 / 178، ومغني المحتاج 4 / 431.
(3) سورة الحجرات / 12.
(4) حديث: " أتدرون ما الغيبة؟ . . . " أخرجه مسلم (4 / 2001 ط. عيسى
الحلبي) .
(12/41)
وَمِنْ ذَلِكَ: قَوْل الْعَالِمِ: قَال
فُلاَنٌ كَذَا مُرِيدًا التَّشْنِيعَ عَلَيْهِ. أَوْ قَوْل الإِِْنْسَانِ:
فَعَل كَذَا بَعْضُ النَّاسِ، أَوْ بَعْضُ مَنْ يَدَّعِي الْعِلْمَ، أَوْ
بَعْضُ مَنْ يُنْسَبُ إِِلَى الصَّلاَحِ وَالزُّهْدِ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ
إِِذَا كَانَ الْمُخَاطَبُ يَفْهَمُهُ بِعَيْنِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَمِنَ الْمُقَرَّرِ شَرْعًا: أَنَّ السَّتْرَ عَلَى الْمُسْلِمِ وَاجِبٌ
لِمَنْ لَيْسَ مَعْرُوفًا بِالأَْذَى وَالْفَسَادِ. فَقَدْ قَال النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ
اللَّهُ عَزَّ وَجَل يَوْمَ الْقِيَامَةِ (1) قَال فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ:
وَهَذَا السَّتْرُ فِي غَيْرِ الْمُشْتَهِرِينَ. وَقَال ابْنُ
الْعَرَبِيِّ: إِِذَا رَأَيْتَ إِنْسَانًا عَلَى مَعْصِيَةٍ فَعِظْهُ
فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ. وَلاَ تَفْضَحْهُ. (2)
ج - وَيَحْرُمُ كَذَلِكَ تَشْهِيرُ الإِِْنْسَانِ بِنَفْسِهِ؛ إِذْ
الْمُسْلِمُ مُطَالَبٌ بِالسَّتْرِ عَلَى نَفْسِهِ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: كُل أُمَّتِي مُعَافًى
إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ، وَإِِنَّ مِنَ الإِِْجْهَارِ أَنْ يَعْمَل
الْعَبْدُ بِاللَّيْل عَمَلاً، ثُمَّ يُصْبِحُ وَقَدْ سَتَرَهُ عَلَيْهِ
اللَّهُ، فَيَقُول: يَا فُلاَنُ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا.
وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَل وَيُصْبِحُ
__________
(1) حديث: " من ستر مسلما ستره الله عز وجل. . . " أخرجه البخاري (فتح
الباري 5 / 197 ط. السلفية) ، ومسلم (4 / 1996 ط. عيسى الحلبي) .
(2) الأذكار ص 288 - 290، والآداب الشرعية لابن مفلح 1 / 266، والحطاب 6 /
164، والمواق بهامش الحطاب 6 / 166، والزواجر 2 / 6، والفواكه الدواني 2 /
369.
(12/42)
يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَل
عَنْهُ (1) وَالسَّتْرُ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ
إِِذَا أَتَى فَاحِشَةً، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا
فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ. (2)
5 - وَيَكُونُ التَّشْهِيرُ جَائِزًا لِمَنْ يُجَاهِرُ بِالْمَعْصِيَةِ فِي
الأَْحْوَال الآْتِيَةِ:
أ - بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يُجَاهِرُ بِالْمَعْصِيَةِ، فَيَجُوزُ ذِكْرُ
مَنْ يَتَجَاهَرُ بِفِسْقِهِ؛ لأَِنَّ الْمُجَاهِرَ بِالْفِسْقِ لاَ
يَسْتَنْكِفُ أَنْ يُذْكَرَ بِهِ، وَلاَ يُعْتَبَرُ هَذَا غِيبَةً فِي
حَقِّهِ؛ لأَِنَّ مَنْ أَلْقَى جِلْبَابَ الْحَيَاءِ لاَ غِيبَةَ لَهُ.
قَال الْقَرَافِيُّ: الْمُعْلِنُ بِالْفُسُوقِ - كَقَوْل امْرِئِ الْقِيسِ:
فَمِثْلُكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقَتْ وَمُرْضِعٌ
، فَإِِنَّهُ يَفْتَخِرُ بِالزِّنَا فِي شِعْرِهِ - فَلاَ يَضُرُّ أَنْ
يُحْكَى ذَلِكَ عَنْهُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَتَأَلَّمُ إِِذَا سَمِعَهُ، بَل
قَدْ يُسَرُّ بِتِلْكَ الْمَخَازِي، وَكَثِيرٌ مِنَ اللُّصُوصِ تَفْتَخِرُ
بِالسَّرِقَةِ وَالاِقْتِدَارِ عَلَى التَّسَوُّرِ عَلَى الدُّورِ
الْعِظَامِ وَالْحُصُونِ الْكِبَارِ، فَذِكْرُ مِثْل هَذَا عَنْ هَذِهِ
الطَّوَائِفِ لاَ يَحْرُمُ.
__________
(1) حديث: " كل أمتي معافى إلا المجاهرين. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري
10 / 486 ط. السلفية) ، ومسلم (4 / 2291 ط. عيسى الحلبي) .
(2) الآداب الشرعية 1 / 267، والمواق بهامش الحطاب 6 / 166، ومغني المحتاج
4 / 150. وحديث: " من أصاب من هذه القاذورات شيئا. . . " أخرجه مالك في
الموطأ (2 / 825 ط. فؤاد عبد الباقي) ، والبيهقي (8 / 330 ط. دار المعرفة)
، والحاكم (4 / 244 ط. دار الكتاب العربي) . وقال حديث صحيح على شرط
الشيخين، وأقره الذهبي.
(12/42)
وَفِي الإِِْكْمَال فِي شَرْحِ حَدِيثِ
مُسْلِمٍ: مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ (1) قَال: وَهَذَا
السَّتْرُ فِي غَيْرِ الْمُشْتَهِرِينَ. وَقَال الْخَلاَّل: أَخْبَرَنِي
حَرْبٌ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ يَقُول: إِِذَا كَانَ الرَّجُل مُعْلِنًا
بِفِسْقِهِ فَلَيْسَتْ لَهُ غِيبَةٌ.
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثَلاَثَةٌ لاَ غِيبَةَ
فِيهِمْ: الْفَاسِقُ الْمُعْلِنُ بِفِسْقِهِ، وَشَارِبُ الْخَمْرِ،
وَالسُّلْطَانُ الْجَائِرُ. (2)
6 - ب - إِِذَا كَانَ التَّشْهِيرُ عَلَى سَبِيل نَصِيحَةِ الْمُسْلِمِينَ
وَتَحْذِيرِهِمْ، وَذَلِكَ كَجَرْحِ الرُّوَاةِ وَالشُّهُودِ
وَالأُْمَنَاءِ عَلَى الصَّدَقَاتِ وَالأَْوْقَافِ وَالأَْيْتَامِ،
وَالتَّشْهِيرِ بِالْمُصَنَّفِينَ وَالْمُتَصَدِّينَ لإِِِفْتَاءٍ أَوْ
إِقْرَاءٍ مَعَ عَدَمِ أَهْلِيَّةٍ، أَوْ مَعَ نَحْوِ فِسْقٍ أَوْ بِدْعَةٍ
يُدْعَوْنَ إِلَيْهَا، وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَحَمَلَةِ الْعِلْمِ
الْمُقَلِّدِينَ، هَؤُلاَءِ يَجِبُ تَجْرِيحُهُمْ وَكَشْفُ أَحْوَالِهِمْ
__________
(1) حديث: " من ستر مسلما ستره الله " سبق تخريجه ف / 4.
(2) الفروق للقرافي 4 / 206، 207، والزواجر 2 / 13، والآداب الشرعية 1 /
276، 277، والفواكه الدواني 2 / 389، 390، والحطاب 6 / 164، والأذكار /
293. وحديث: " ثلاثة لا غيبة لهم. . . " عزاه السيوطي في جمع الجوامع (1 /
491 نسخة مصورة عن دار الكتب المصرية) إلى الديلمي عن الحسن عن أنس رضي
الله عنه. وفي فيض القدير (3 / 323 ط. المكتبة التجارية) بلفظ " ثلاثة لا
يحرم عليك أعراضهم: المجاهر بالفسق، والإمام الجائر، والمبتدع " وعزاه إلى
ابن أبي الدنيا في ذم الغيبة عن الحسن مرسلا.
(12/43)
السَّيِّئَةِ لِمَنْ عَرَفَهَا مِمَّنْ
يُقَلَّدُ فِي ذَلِكَ وَيُلْتَفَتُ إِِلَى قَوْلِهِ، لِئَلاَّ يَغْتَرَّ
بِهِمْ وَيُقَلَّدَ فِي دِينِ اللَّهِ مَنْ لاَ يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ،
وَلَيْسَ السَّتْرُ هُنَا بِمُرَغَّبٍ فِيهِ وَلاَ مُبَاحٍ. عَلَى هَذَا
اجْتَمَعَ رَأْيُ الأُْمَّةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا. (1)
يَقُول الْقَرَافِيُّ: أَرْبَابُ الْبِدَعِ وَالتَّصَانِيفِ الْمُضِلَّةِ
يَنْبَغِي أَنْ يُشَهِّرَ النَّاسُ فَسَادَهَا وَعَيْبَهَا.
وَأَنَّهُمْ عَلَى غَيْرِ الصَّوَابِ، لِيَحْذَرَهَا النَّاسُ الضُّعَفَاءُ
فَلاَ يَقَعُوا فِيهَا، وَيَنْفِرَ عَنْ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ مَا أَمْكَنَ،
بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَتَعَدَّى فِيهَا الصِّدْقَ، وَلاَ يَفْتَرِيَ عَلَى
أَهْلِهَا مِنَ الْفُسُوقِ وَالْفَوَاحِشِ مَا لَمْ يَفْعَلُوهُ، بَل
يَقْتَصِرُ عَلَى مَا فِيهِمْ مِنَ الْمُنَفِّرَاتِ خَاصَّةً، فَلاَ يُقَال
فِي الْمُبْتَدِعِ: إِنَّهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَلاَ أَنَّهُ يَزْنِي،
وَلاَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ.
وَيَجُوزُ وَضْعُ الْكُتُبِ فِي جَرْحِ الْمَجْرُوحِينَ مِنْ رُوَاةِ
الْحَدِيثِ وَالأَْخْبَارِ بِذَلِكَ لِطَلَبَةِ الْعِلْمِ الْحَامِلِينَ
لِذَلِكَ لِمَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ وَيَنْقُلُهُ، بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ
النِّيَّةُ خَالِصَةً لِلَّهِ تَعَالَى فِي نَصِيحَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي
ضَبْطِ الشَّرِيعَةِ.
أَمَّا إِِذَا كَانَ لأَِجْل عَدَاوَةٍ أَوْ تَفَكُّهٍ بِالأَْعْرَاضِ
وَجَرْيًا مَعَ الْهَوَى فَذَلِكَ حَرَامٌ، وَإِِنْ حَصَلَتْ بِهِ
الْمَصْلَحَةُ عِنْدَ الرُّوَاةِ. (2)
__________
(1) الزواجر 2 / 13، والحطاب 6 / 164، والآداب الشرعية 1 / 266.
(2) الفروق للقرافي 4 / 206، 207.
(12/43)
وَيَقُول الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: لَوْ
قَال الْعَالِمُ لِجَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ: لاَ تَسْمَعُوا الْحَدِيثَ
مِنْ فُلاَنٍ فَإِِنَّهُ يَخْلِطُ أَوْ لاَ تَسْتَفْتُوا مِنْهُ فَإِِنَّهُ
لاَ يُحْسِنُ الْفَتْوَى فَهَذَا نُصْحٌ لِلنَّاسِ. نَصَّ عَلَيْهِ فِي
الأُْمِّ.
قَال: وَلَيْسَ هَذَا بِغِيبَةٍ إِنْ كَانَ يَقُولُهُ لِمَنْ يَخَافُ أَنْ
يَتْبَعَهُ وَيُخْطِئَ بِاتِّبَاعِهِ. (1) وَمِثْلُهُ فِي الْفَوَاكِهِ
الدَّوَانِي. (2)
وَيَقُول النَّوَوِيُّ: يَجُوزُ تَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الشَّرِّ
وَنَصِيحَتُهُمْ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ مِنْهَا: جَرْحُ الْمَجْرُوحِينَ
مِنَ الرُّوَاةِ لِلْحَدِيثِ وَالشُّهُودِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ بِإِِجْمَاعِ
الْمُسْلِمِينَ، بَل وَاجِبٌ لِلْحَاجَةِ.
وَمِنْهَا: إِِذَا اسْتَشَارَكَ إِنْسَانٌ فِي مُصَاهَرَتِهِ أَوْ
مُشَارَكَتِهِ أَوْ إِيدَاعِهِ أَوِ الإِِْيدَاعِ عِنْدَهُ أَوْ
مُعَامَلَتِهِ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَجَبَ عَلَيْكَ أَنْ تَذْكُرَ لَهُ مَا
تَعْلَمُهُ مِنْهُ عَلَى جِهَةِ النَّصِيحَةِ. (3)
وَفِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: يُنْكَرُ عَلَى مَنْ تَصَدَّى لِلتَّدْرِيسِ
وَالْفَتْوَى وَالْوَعْظِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِهِ، وَيُشَهَّرُ
أَمْرُهُ لِئَلاَّ يُغْتَرَّ بِهِ. (4)
ثَانِيًا: التَّشْهِيرُ مِنْ الْحَاكِمِ:
تَشْهِيرُ الْحَاكِمِ لِبَعْضِ النَّاسِ يَكُونُ فِي الْحُدُودِ أَوْ فِي
التَّعْزِيرِ.
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 435.
(2) الفواكه الدواني 2 / 270.
(3) الأذكار للنووي / 292.
(4) مغني المحتاج 4 / 211.
(12/44)
أ - بِالنِّسْبَةِ لِلْحُدُودِ:
7 - قَال الْفُقَهَاءُ: يَنْبَغِي أَنْ تُقَامَ الْحُدُودُ فِي مَلأٍَ مِنَ
النَّاسِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ} (1) ، قَال الْكَاسَانِيُّ: وَالنَّصُّ وَإِِنْ وَرَدَ فِي
حَدِّ الزِّنَى، لَكِنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ فِيهِ يَكُونُ وَارِدًا فِي
سَائِرِ الْحُدُودِ دَلاَلَةً، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْحُدُودِ
كُلِّهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ زَجْرُ الْعَامَّةِ، وَذَلِكَ لاَ يَحْصُل إِلاَّ
وَأَنْ تَكُونَ الإِِْقَامَةُ عَلَى رَأْسِ الْعَامَّةِ؛ لأَِنَّ
الْحُضُورَ يَنْزَجِرُونَ بِأَنْفُسِهِمْ بِالْمُعَايَنَةِ،
وَالْغَائِبِينَ يَنْزَجِرُونَ بِإِِخْبَارِ الْحُضُورِ، فَيَحْصُل
الزَّجْرُ لِلْكُل. (2)
وَقَال عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إِقَامَةُ
الْحَدِّ عَلاَنِيَةً وَغَيْرَ سِرٍّ، لِيَتَنَاهَى النَّاسُ عَمَّا
حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. (3)
وَقَال مُطَرِّفٌ: وَمِنْ أَمْرِ النَّاسِ عِنْدَنَا الشَّهْرُ لأَِهْل
الْفِسْقِ رِجَالاً وَنِسَاءً، وَالإِِْعْلاَمُ بِجَلْدِهِمْ فِي
الْحُدُودِ وَمَا يَلْزَمُهُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَكَشْفُ وَجْهِ
الْمَرْأَةِ. (4)
وَسُئِل الإِِْمَامُ مَالِكٌ عَنْ الْمَجْلُودِ فِي الْخَمْرِ
وَالْفِرْيَةِ: أَتَرَى أَنْ يُطَافَ بِهِمْ وَبِشُرَّابِ الْخَمْرِ؟ قَال:
إِِذَا كَانَ فَاسِقًا مُدْمِنًا فَأَرَى أَنْ يُطَافَ بِهِمْ،
__________
(1) سورة النور / 2.
(2) بدائع الصنائع 7 / 60، 61.
(3) التبصرة بهامش فتح العلي المالك 2 / 269.
(4) التبصرة 2 / 183.
(12/44)
وَنُعْلِنُ أَمْرَهُمْ وَيُفْضَحُونَ. (1)
وَفِي حَدِّ السَّرِقَةِ قَال الْفُقَهَاءُ: يُنْدَبُ أَنْ يُعَلَّقَ
الْعُضْوُ الْمَقْطُوعُ فِي عُنُقِ الْمَحْدُودِ؛ لأَِنَّ فِي ذَلِكَ
رَدْعًا لِلنَّاسِ، وَقَدْ رَوَى فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ
بِسَارِقٍ قُطِعَتْ يَدُهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَعُلِّقَتْ فِي عُنُقِهِ
وَفَعَل ذَلِكَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. (2)
وَذَكَرَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ حَدِيثَ: مَا بَال الْعَامِل
نَبْعَثُهُ، فَيَأْتِي فَيَقُول: هَذَا لَكَ وَهَذَا لِي. فَهَلاَّ جَلَسَ
فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لاَ؟
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يَأْتِي بِشَيْءٍ إِلاَّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ
رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ. (3)
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ - كَمَا قَال
ابْنُ الْمُنِيرِ - أَنَّ الْحُكَّامَ أَخَذُوا بِالتَّجْرِيسِ
بِالسَّارِقِ وَنَحْوِهِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ. (4)
كَذَلِكَ قَال الْفُقَهَاءُ فِي قَاطِعِ الطَّرِيقِ إِِذَا صُلِبَ:
يُصْلَبُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ لِيَشْتَهِرَ الْحَال وَيَتِمَّ
__________
(1) التبصرة 2 / 177.
(2) المهذب 2 / 284، ومغني المحتاج 4 / 179، والمغني 8 / 261، وحديث فضالة
أخرجه أبو داود (4 / 567 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والنسائي (8 / 92 - ط
المكتبة التجارية) . وقال النسائي. الحجاج بن أرطأة - يعني الذي في إسناده
-: ضعيف، ولا يحتج بحديثه.
(3) حديث: " ما بال العامل نبعثه فيأتي فيقول. . . " أخرجه البخاري (فتح
الباري 13 / 164 ط. السلفية) ، ومسلم (3 / 1463 ط عيسى الحلبي) واللفظ
للبخاري.
(4) ابن عابدين 3 / 192. والتجريس بالسارق: التسميع به.
(12/45)
النَّكَال. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِنَّمَا
شُرِعَ الصَّلْبُ رَدْعًا لِغَيْرِهِ لِيَشْتَهِرَ أَمْرُهُ (1) .
ب - بِالنِّسْبَةِ لِلتَّعْزِيرِ:
8 - التَّشْهِيرُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعْزِيرِ، أَيْ أَنَّهُ
عُقُوبَةٌ تَعْزِيرِيَّةٌ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّعْزِيرَ يُرْجَعُ فِي تَحْدِيدِ جِنْسِهِ
وَقَدْرِهِ إِِلَى نَظَرِ الْحَاكِمِ، فَقَدْ يَكُونُ بِالضَّرْبِ أَوِ
الْحَبْسِ أَوِ التَّوْبِيخِ أَوِ التَّشْهِيرِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، حَسَبَ
اخْتِلاَفِ مَرَاتِبِ النَّاسِ، وَاخْتِلاَفِ الْمَعَاصِي، وَاخْتِلاَفِ
الأَْعْصَارِ وَالأَْمْصَارِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَالتَّعْزِيرُ بِالتَّشْهِيرِ جَائِزٌ إِِذَا عَلِمَ
الْحَاكِمُ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِيهِ، وَهَذَا الْحُكْمُ هُوَ
بِالنِّسْبَةِ لِكُل مَعْصِيَةٍ لاَ حَدَّ فِيهَا وَلاَ كَفَّارَةَ فِي
الْجُمْلَةِ.
يَقُول الْمَاوَرْدِيُّ: لِلأَْمِيرِ إِِذَا رَأَى مِنَ الصَّلاَحِ فِي
رَدْعِ السَّفَلَةِ: أَنْ يُشَهِّرَهُمْ وَيُنَادِيَ عَلَيْهِمْ
بِجَرَائِمِهِمْ، سَاغَ لَهُ ذَلِكَ. (2)
وَيَقُول: يَجُوزُ فِي نَكَال التَّعْزِيرِ أَنْ يُجَرَّدَ مِنْ ثِيَابِهِ،
إِلاَّ قَدْرَ مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ، وَيُشَهَّرَ فِي النَّاسِ،
وَيُنَادَى عَلَيْهِ بِذَنْبِهِ إِِذَا تَكَرَّرَ مِنْهُ وَلَمْ يَتُبْ.
(3)
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 182، والمغني 8 / 288، 291.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 221.
(3) المرجع السابق / 239.
(12/45)
وَفِي التَّبْصِرَةِ لاِبْنِ فَرْحُونَ:
إِنْ رَأَى الْقَاضِي الْمَصْلَحَةَ فِي قَمْعِ السَّفَلَةِ
بِإِِشْهَارِهِمْ بِجَرَائِمِهِمْ فَعَل. (1)
وَيَقُول ابْنُ فَرْحُونَ أَيْضًا: إِِذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِالْجَوْرِ،
وَثَبَتَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ، فَإِِنَّهُ يُعَاقَبُ
الْعُقُوبَةَ الْمُوجِعَةَ، وَعُزِل وَيُشَهَّرُ وَيُفْضَحُ. (2)
وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: الْقَوَّادَةُ - الَّتِي تُفْسِدُ النِّسَاءَ
وَالرِّجَال - أَقَل مَا يَجِبُ فِيهَا الضَّرْبُ الْبَلِيغُ، وَيَنْبَغِي
شُهْرَةُ ذَلِكَ بِحَيْثُ يَسْتَفِيضُ فِي الرِّجَال وَالنِّسَاءِ
لِتُجْتَنَبَ. (3)
غَيْرَ أَنَّهُ يُلاَحَظُ أَنَّ الْفُقَهَاءَ دَائِمًا يَذْكُرُونَ
التَّشْهِيرَ فِي تَعْزِيرِ شَاهِدِ الزُّورِ مِمَّا يُوحِي بِأَنَّ
التَّشْهِيرَ وَاجِبٌ بِالنِّسْبَةِ لِشَاهِدِ الزُّورِ، وَذَلِكَ
لاِعْتِبَارِ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ مِنَ الْكَبَائِرِ.
قَال الإِِْمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي شَاهِدِ الزُّورِ فِي الْمَشْهُورِ:
يُطَافُ بِهِ وَيُشَهَّرُ، وَلاَ يُضْرَبُ اسْتِنَادًا إِِلَى مَا فَعَلَهُ
الْقَاضِي شُرَيْحٌ، وَزَادَ الصَّاحِبَانِ ضَرْبَهُ وَحَبْسَهُ. (4)
وَيَذْكُرُ ابْنُ قُدَامَةَ حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قَالُوا: بَلَى
يَا رَسُول اللَّهِ قَال: الإِِْشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ
الْوَالِدَيْنِ، وَكَانَ
__________
(1) التبصرة بهامش فتح العلي 2 / 146.
(2) المرجع السابق 2 / 315.
(3) كشاف القناع 6 / 127.
(4) ابن عابدين 3 / 192، 4 / 395، والبدائع 6 / 289.
(12/46)
مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، فَقَال: أَلاَ
وَقَوْل الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ. فَمَا زَال يُكَرِّرُهَا حَتَّى
قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ. (1)
ثُمَّ يَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: فَمَتَى ثَبَتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ عَنْ
رَجُلٍ أَنَّهُ شَهِدَ بِزُورٍ عَمْدًا عَزَّرَهُ وَشَهَّرَهُ فِي قَوْل
أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ، وَبِهِ يَقُول شُرَيْحٌ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَسَالِمُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٌ
وَالشَّافِعِيُّ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ يَعْلَى قَاضِي الْبَصْرَةِ (2) .
وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: إِِذَا عُزِّرَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ
التَّعْزِيرُ وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يُشَهِّرَهُ لِمَصْلَحَةٍ
كَشَاهِدِ زُورٍ لِيُجْتَنَبَ. (3)
وَجَاءَ فِي التَّبْصِرَةِ: التَّعْزِيرُ لاَ يَخْتَصُّ بِالسَّوْطِ
وَالْيَدِ وَالْحَبْسِ، وَإِِنَّمَا ذَلِكَ مَوْكُولٌ إِِلَى اجْتِهَادِ
الإِِْمَامِ. قَال أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ فِي أَخْبَارِ
الْخُلَفَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يُعَامِلُونَ الرَّجُل
عَلَى قَدْرِهِ وَقَدْرِ جِنَايَتِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُضْرَبُ،
وَمِنْهُمْ مَنْ يُحْبَسُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَامُ وَاقِفًا عَلَى
قَدَمَيْهِ فِي الْمَحَافِل، وَمِنْهُمْ مَنْ تُنْزَعُ عِمَامَتُهُ.
__________
(1) حديث: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا. . . " أخرجه البخاري (فتح
الباري 10 / 405 ط. السلفية) ، ومسلم (1 / 91 ط. عيسى الحلبي) .
(2) المغني 9 / 261.
(3) كشاف القناع 6 / 125 - 127.
(12/46)
قَال الْقَرَافِيُّ: إِنَّ التَّعْزِيرَ
يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَْعْصَارِ وَالأَْمْصَارِ، فَرُبَّ تَعْزِيرٍ
فِي بَلَد يَكُونُ إِكْرَامًا فِي بَلَدٍ آخَرَ، كَقَطْعِ الطَّيْلَسَانِ
لَيْسَ تَعْزِيرًا فِي الشَّامِ فَإِِنَّهُ إِكْرَامٌ، وَكَشْفِ الرَّأْسِ
بِالأَْنْدَلُسِ لَيْسَ هَوَانًا وَبِمِصْرِ وَالْعِرَاقِ هَوَانٌ.
ثُمَّ قَال صَاحِبُ التَّبْصِرَةِ: وَالتَّعْزِيرُ لاَ يَخْتَصُّ بِفِعْلٍ
مُعَيَّنٍ وَلاَ قَوْلٍ مُعَيَّنٍ، فَقَدْ عَزَّرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهَجْرِ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ الثَّلاَثَةِ
الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ،
فَهُجِرُوا خَمْسِينَ يَوْمًا لاَ يُكَلِّمُهُمْ أَحَدٌ. (1)
وَعَزَّرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّفْيِ،
فَأَمَرَ بِإِِخْرَاجِ الْمُخَنَّثِينَ مِنْ الْمَدِينَةِ وَنَفْيِهِمْ.
(2)
وَفِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: يَجْتَهِدُ الإِِْمَامُ فِي جِنْسِ
التَّعْزِيرِ وَقَدْرِهِ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ شَرْعًا،
فَيَجْتَهِدُ فِي سُلُوكِ الأَْصَحِّ، فَلَهُ أَنْ يُشَهِّرَ فِي النَّاسِ
مَنْ أَدَّى اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ. وَيَجُوزُ لَهُ حَلْقُ رَأْسِهِ،
وَيَجُوزُ أَنْ يُصْلَبَ حَيًّا، وَهُوَ رَبْطُهُ فِي مَكَان عَالٍ لِمَا
لاَ يَزِيدُ عَنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ثُمَّ يُرْسَل، وَلاَ يُمْنَعُ فِي
تِلْكَ الْمُدَّةِ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالصَّلاَةِ. (3)
__________
(1) التبصرة 2 / 295، 296. وحديث: " هجر الثلاثة الذين تخلفوا. . . " أخرجه
البخاري (فتح الباري 8 / 342 ط. السلفية) . ومسلم (4 / 2120 ط. عيسى
الحلبي) .
(2) حديث: " الأمر بإخراج المخنثين من المدينة ونفيهم " أخرجه البخاري (فتح
الباري 10 / 333 ط. السلفية) .
(3) مغني المحتاج 4 / 192.
(12/47)
وَهَذِهِ النُّصُوصُ تَدُل عَلَى أَنَّهُ
يَجُوزُ أَنْ يُكْتَفَى بِالتَّشْهِيرِ كَعُقُوبَةٍ تَعْزِيرِيَّةٍ إِِذَا
رَأَى الإِِْمَامُ ذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُضَمَّ إِلَيْهِ عُقُوبَةٌ
أُخْرَى كَالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ.
وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ الْبُحْتُرِيُّ - وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ -
إِِذَا أُتِيَ بِرَجُلٍ، قَدْ أَخَذَ مَعَهُ الْجَرَّةَ مِنَ الْمُسْكِرِ،
أُمِرَ بِهِ فَصُبَّ عَلَى رَأْسِهِ عِنْدَ بَابِهِ، كَيْمَا يُعْرَفُ
بِذَلِكَ وَيُشَهَّرُ بِهِ. (1)
__________
(1) التبصرة 2 / 183.
(12/47)
تَشَوُّفٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّشَوُّفُ لُغَةً: مَصْدَرُ تَشَوَّفَ. يُقَال: تَشَوَّفَتِ
الأَْوْعَال: إِِذَا عَلَتْ رُءُوسَ الْجِبَال تَنْظُرُ السَّهْل
وَخُلُوَّهُ مِمَّا تَخَافُهُ لِتَرِدَ الْمَاءَ. وَمِنْهُ قِيل تَشَوَّفَ
فُلاَنٌ لِكَذَا: إِِذَا طَمَحَ بَصَرُهُ إِلَيْهِ. ثُمَّ اسْتُعْمِل فِي
تَعَلُّقِ الآْمَال، وَالتَّطَلُّبِ.
وَالْمُشَوِّفَةُ مِنَ النِّسَاءِ: الَّتِي تُظْهِرُ نَفْسَهَا لِيَرَاهَا
النَّاسُ.
وَتَشَوَّفَتِ الْمَرْأَةُ: تَزَيَّنَتْ وَتَطَلَّعَتْ لِلْخِطَابِ (1) -
مِنْ شفتُ الدِّرْهَمَ: إِِذَا جَلَوْتَهُ.
وَدِينَارٌ مُشَوَّفٌ: أَيْ مَجْلُوٌّ - وَهُوَ أَنْ تَجْلُوَ الْمَرْأَةُ
وَجْهَهَا وَتَصْقُل خَدَّيْهَا. (2)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِلَفْظِ تَشَوُّفٍ عَنْ
مَعَانِيهِ الْوَارِدَةِ فِي اللُّغَةِ.
وَقِيل: التَّشَوُّفُ بِمَعْنَى التَّزَيُّنِ خَاصٌّ بِالْوَجْهِ،
وَالتَّزَيُّنُ عَامٌّ يُسْتَعْمَل فِي الْوَجْهِ وَغَيْرِهِ (3) .
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب، ومحيط المحيط، ومعجم متن اللغة مادة: "
شوف ".
(2) فتح القدير 3 / 172 والعناية عليه.
(3) شرح فتح القدير 3 / 172 ط دار صادر.
(12/48)
الْحُكْمُ الإِِْجْمَالِيُّ:
أ - تَشَوُّفُ الشَّارِعِ لإِِِثْبَاتِ النَّسَبِ:
2 - مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ فِي الشَّرِيعَةِ
الإِِْسْلاَمِيَّةِ: أَنَّ الشَّارِعَ مُتَشَوِّفٌ لِلَحَاقِ النَّسَبِ،
(1) لأَِنَّ النَّسَبَ أَقْوَى الدَّعَائِمِ الَّتِي تَقُومُ عَلَيْهَا
الأُْسْرَةُ، وَيَرْتَبِطُ بِهِ أَفْرَادُهَا، قَال تَعَالَى: {وَهُوَ
الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا
وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} . (2)
وَلاِعْتِنَاءِ الشَّرِيعَةِ بِحِفْظِ النَّسَبِ وَتَشَوُّفِهَا
لإِِِثْبَاتِهِ تَكَرَّرَ فِيهَا الأَْمْرُ بِحِفْظِهِ عَنْ تَطَرُّقِ
الشَّكِّ إِلَيْهِ، وَالتَّحْذِيرُ مِنْ ذَرَائِعِ التَّهَاوُنِ بِهِ.
وَلِمُرَاعَاةِ هَذَا الْمَقْصِدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اعْتِبَارِ
الأَْحْوَال النَّادِرَةِ فِي إِلْحَاقِ النَّسَبِ، لِتَشَوُّفِ الشَّارِعِ
لإِِِثْبَاتِهِ. (3)
وَلِلتَّفْصِيل (ر: نَسَبٌ) .
ب - التَّشَوُّفُ إِِلَى الْعِتْقِ:
3 - مِنْ مَحَاسِنِ الإِِْعْتَاقِ أَنَّهُ إِحْيَاءٌ حُكْمِيٌّ، يَخْرُجُ
الْعَبْدُ مِنْ كَوْنِهِ مُلْحَقًا بِالْجَمَادَاتِ إِِلَى كَوْنِهِ
أَهْلاً لِلْكَرَامَاتِ الْبَشَرِيَّةِ، مِنْ قَبُول الشَّهَادَةِ
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 4 / 444، 624، 627، والبدائع 4 / 329،
وحاشية الدسوقي 3 / 412، وشرح الزرفاني 6 / 105، والكافي لابن عبد البر 2 /
916 وما بعدها.
(2) سورة الفرقان / 54.
(3) القرافي في الفروق - الفرق 175، 239.
(12/48)
وَالْوِلاَيَةِ وَالْقَضَاءِ. وَيَقَعُ
الْعِتْقُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مِنْ كُل: مُكَلَّفٍ مُسْلِمٍ - وَلَوْ
سَكْرَانَ أَوْ هَازِلاً وَلَوْ دُونَ نِيَّةٍ - لِتَشَوُّفِ الشَّارِعِ
إِِلَى الْحُرِّيَّةِ بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. وَقَدْ
أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ الأَْصْل تَصَرُّفٌ مَنْدُوبٌ
إِلَيْهِ، وَيَجِبُ لِعَارِضٍ، وَيَحْصُل بِهِ الْقُرْبَةُ (1) لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (2) وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَل
{فَكُّ رَقَبَةٍ} (3) .
وَلِخَبَرِ أَيُّمَا مُسْلِمٍ أَعْتَقَ مُؤْمِنًا أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُل
عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنَ النَّارِ (4) (ر: عِتْقٌ، إِعْتَاقٌ) .
ج - التَّشَوُّفُ فِي الْعِدَّةِ:
4 - الْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ لَهَا أَنْ تَتَزَيَّنَ؛ لأَِنَّهَا
حَلاَلٌ لِلزَّوْجِ، لِقِيَامِ نِكَاحِهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ،
وَالرَّجْعَةُ مُسْتَحَبَّةٌ، وَالتَّزَيُّنُ حَامِلٌ عَلَيْهَا فَيَكُونُ
مَشْرُوعًا. وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ،
وَالْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ: فَيَرَوْنَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهَا
الإِِْحْدَادُ. فَلاَ يُسْتَحَبُّ لَهَا التَّزَيُّنُ. وَمِنْهُمْ مَنْ
__________
(1) شرح فتح القدير 5 / 439، 442 ط دار صادر، وحاشية الدسوقي 4 / 59 وشرح
الزرقاني وحاشية البناني عليه 7 / 120 ط دار الفكر، وحواشي الشرواني وابن
قاسم العبادي على تحفة المحتاج 10 / 356 ط دار صادر، ونهاية المحتاج 8 /
356، 357 ط الحلبي بمصر، ومطالب أولي النهى 4 / 691 وما بعدها.
(2) سورة النساء / 92.
(3) سورة البلد / 13
(4) متفق عليه.
(12/49)
قَال: الأَْوْلَى أَنْ تَتَزَيَّنَ بِمَا
يَدْعُو الزَّوْجَ إِِلَى رَجْعَتِهَا (1) . (ر: عِدَّةٌ) وَلاَ خِلاَفَ
بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي تَحْرِيمِ الزِّينَةِ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا
زَوْجُهَا مُدَّةَ عِدَّتِهَا؛ لِوُجُوبِ الإِِْحْدَادِ عَلَيْهَا.
وَأَمَّا الْمُبَانَةُ فِي الْحَيَاةِ بَيْنُونَةً كُبْرَى، فَقَدِ
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا عَلَى أَقْوَالٍ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ،
وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهَا
الزِّينَةُ، حِدَادًا وَأَسَفًا عَلَى زَوْجِهَا، وَإِِظْهَارًا
لِلتَّأَسُّفِ عَلَى فَوْتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ، الَّذِي هُوَ سَبَبٌ
لِصَوْنِهَا وَكِفَايَةِ مَئُونَتِهَا، وَلِحُرْمَةِ النَّظَرِ إِلَيْهَا،
وَعَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ الرَّجْعَةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ لَهَا الإِِْحْدَادُ. وَفِي قَوْلٍ:
الإِِْحْدَادُ وَاجِبٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ
فَقَالُوا: لاَ إِحْدَادَ إِلاَّ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا
فَقَطْ. وَمُفَادُهُ: لاَ إِحْدَادَ عَلَى الْمُبَانَةِ وَإِِنِ اسْتُحِبَّ
لَهَا فِي عِدَّتِهَا.
وَلاَ يُسَنُّ لَهَا الإِِْحْدَادُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَلِهَذَا لاَ
يَلْزَمُهَا أَنْ تَتَجَنَّبَ مَا يُرَغِّبُ فِي النَّظَرِ إِلَيْهَا مِنَ
الزِّينَةِ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: عِدَّةٌ) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 536، 616 - 618 ط بيروت، وبدائع الصنائع 3 / 180 ط
أولى، وشرح فتح القدير 3 / 172 ط دار صادر، وحاشية الجمل على شرح المنهج 4
/ 457 - 459، ونهاية المحتاج 7 / 140 وما بعدها، وروضة الطالبين 8 / 405 -
407، والشرح الكبير 2 / 478 - 479، والمغني 7 / 279، 517 - 519.
(2) المراجع السابقة.
(12/49)
د - التَّشَوُّفُ لِلْخِطَابِ:
5 - يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلَّتِي تَكُونُ صَالِحَةً
لِلْخُطْبَةِ وَالزَّوَاجِ أَنْ تَتَزَيَّنَ اسْتِعْدَادًا لِرُؤْيَةِ مَنْ
يَرْغَبُ فِي خِطْبَتِهَا وَالزَّوَاجِ بِهَا.
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْخَاطِبِ أَنْ يَرَى بِنَفْسِهِ
مَنْ يَرْغَبُ فِي زَوَاجِهَا لِكَيْ يَقْدَمَ عَلَى الْعَقْدِ إِنْ
أَعْجَبَتْهُ، وَيَحْجُمَ عَنْهُ إِنْ لَمْ تُعْجِبْهُ، لِخَبَرِ إِِذَا
خَطَبَ أَحَدُكُمُ امْرَأَةً، فَإِِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ مِنْهَا
إِِلَى مَا يَدْعُوهُ إِِلَى نِكَاحِهَا فَلْيَفْعَل (1) وَذَلِكَ
لأَِنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الأُْلْفَةِ وَالْوِئَامِ.
وَعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ خَطَبَ
امْرَأَةً، فَقَال لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَنَظَرْتَ إِلَيْهَا؟ قَال: لاَ. فَقَال: اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا،
فَإِِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا. (2)
وَيَرَى أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ لِلْخَاطِبِ أَنْ يَنْظُرَ إِِلَى
الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ فَقَطْ، لأَِنَّ رُؤْيَتَهُمَا تُحَقِّقُ
الْمَطْلُوبَ مِنَ الْجَمَال وَخُصُوبَةِ الْجَسَدِ وَعَدَمِهَا. فَيَدُل
الْوَجْهُ عَلَى الْجَمَال أَوْ ضِدُّهُ لأَِنَّهُ مَجْمَعُ الْمَحَاسِنِ،
وَالْكَفَّانِ عَلَى خُصُوبَةِ الْبَدَنِ.
وَأَجَازَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ النَّظَرَ إِِلَى الرَّقَبَةِ
__________
(1) حديث: " إذا خطب أحدكم امرأة فإن. . . " أخرجه أبو داود (2 / 565 - 566
- ط عزت عبيد دعاس) وحسنه ابن حجر في الفتح (9 / 181 - ط السلفية) .
(2) حديث: " اذهب فانظر إليها فإنه أحرى. . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 600 -
ط الحلبي) وقال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح.
(12/50)
وَالْقَدَمَيْنِ. وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ
النَّظَرَ إِِلَى مَا يَظْهَرُ عِنْدَ الْقِيَامِ بِالأَْعْمَال، وَهِيَ
سِتَّةُ أَعْضَاءٍ: الْوَجْهُ، وَالرَّأْسُ، وَالرَّقَبَةُ، وَالْيَدُ،
وَالْقَدَمُ، وَالسَّاقُ؛ لأَِنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِِلَى ذَلِكَ،
وَلإِِِطْلاَقِ الأَْحَادِيثِ السَّابِقَةِ. (1)
وَلِلتَّفْصِيل (ر: نِكَاحٌ، خِطْبَةٌ) .
تَشْيِيعُ الْجِنَازَةِ
انْظُرْ: جِنَازَةٌ
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 4 ط م الكليات الأزهرية، وحاشية ابن عابدين 3 / 8
وما بعدها ط مصطفى الحلبي بمصر، وحاشية الدسوقي 2 / 215، ونهاية المحتاج 6
/ 183، والمغني 6 / 553 وما بعدها، والمبدع في شرح المقنع 7 / 7 وما بعدها.
(12/50)
تَصَادُقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّصَادُقُ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا: ضِدُّ التَّكَاذُبِ يُقَال:
تَصَادَقَا فِي الْحَدِيثِ وَالْمَوَدَّةِ ضِدُّ تَكَاذَبَا وَمَادَّةُ
تَفَاعَل لاَ تَكُونُ غَالِبًا إِلاَّ بَيْنَ اثْنَيْنِ يُقَال: تَحَابَّا
وَتَخَاصَمَا، أَيْ أَحَبَّ أَوْ خَاصَمَ كُلٌّ مِنْهُمَا الآْخَرَ
وَاسْتَعْمَل الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا (التَّقَارُرَ) بِمَعْنَى
التَّصَادُقِ (1) .
حُكْمُ التَّصَادُقِ:
2 - حُكْمُ التَّصَادُقِ فِي الْجُمْلَةِ - فِي حَقِّ الْمُتَصَادِقِينَ
إِِذَا تَعَلَّقَتْ بِهِ حُقُوقُ الْعِبَادِ، أَوْ كَانَ فِي حُقُوقِ
اللَّهِ الَّتِي لاَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ - اللُّزُومُ، وَهُوَ
أَبْلَغُ مِنَ الشَّهَادَةِ؛ لأَِنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الإِِْقْرَارِ.
قَال أَشْهَبُ: قَوْل كُل أَحَدٍ عَلَى نَفْسِهِ أَوْجَبُ مِنْ دَعْوَاهُ
عَلَى غَيْرِهِ.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي تُدْرَأُ
بِالشُّبُهَاتِ فَلَيْسَ بِلاَزِمٍ. (2)
__________
(1) تاج العروس، والدسوقي 2 / 331، وحاشية القليوبي 2 / 309، وتبصرة الحكام
2 / 36.
(2) تبصرة الحكام 2 / 36.
(12/51)
مَنْ يُعْتَبَرُ تَصَادُقُهُ:
3 - التَّصَادُقُ الَّذِي يُعْتَدُّ بِهِ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ
يَكُونُ مِنَ الْبَالِغِ الْعَاقِل الْمُخْتَارِ، فَلاَ يُعْتَبَرُ
تَصْدِيقُ الصَّغِيرِ وَغَيْرُ الْعَاقِل.
صِفَةُ التَّصَادُقِ:
4 - صِفَةُ التَّصْدِيقِ لَفْظٌ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ يَدُل عَلَى
تَوَجُّهِ الْحَقِّ قَبْل الْمُقِرِّ (الْمُصَدِّق) .
وَيَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ: الإِِْشَارَةُ وَالْكِتَابَةُ وَالسُّكُوتُ.
فَالإِِْشَارَةُ مِنَ الأَْبْكَمِ وَمِنَ الْمَرِيضِ.
فَإِِذَا قِيل لِلْمَرِيضِ: لِفُلاَنٍ عِنْدَكَ كَذَا، فَأَشَارَ
بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ، فَهَذَا تَصْدِيقٌ إِِذَا فُهِمَ عَنْهُ
مُرَادُهُ. (1)
مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُصَادَقِ:
5 - يُشْتَرَطُ فِي الْمُصَادِقِ أَنْ يَكُونَ أَهْلاً لِلاِسْتِحْقَاقِ،
وَأَلاَّ يُكَذِّبَهُ الْمُصَادِقُ، فَإِِذَا كَذَّبَ الْمُصَادِقُ
الْمُصَادَقَ ثُمَّ رَجَعَ لَمْ يُفِدْ رُجُوعُهُ، إِلاَّ أَنْ يَرْجِعَ
الْمُصَادَقُ إِِلَى مَا أَقَرَّ بِهِ.
مَحَل التَّصَادُقِ:
6 - يَكُونُ التَّصْدِيقُ فِي النَّسَبِ وَالْمَال.
وَالتَّصْدِيقُ فِي النَّسَبِ يُنْظَرُ تَحْتَ عِنْوَانِ (نَسَبٌ) .
__________
(1) تبصرة الحكام 2 / 36، 38.
(12/51)
وَالتَّصْدِيقُ فِي الْمَال نَوْعَانِ:
مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ.
فَالْمُطْلَقُ: مَا صَدَرَ غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِمَا يُقَيِّدُهُ أَوْ
يُرْفَعُ حُكْمُهُ أَوْ حُكْمُ بَعْضِهِ، فَإِِذَا كَانَ التَّصْدِيقُ
عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَهُوَ مُلْزِمٌ لِمَنْ صَدَّقَ، وَعَلَيْهِ أَدَاءُ
مَا صَدَّقَ فِيهِ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ.
وَإِِذَا كَانَ التَّصْدِيقُ مُقَيَّدًا بِقَيْدٍ فَفِي لُزُومِهِ أَوْ
عَدَمِهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِقْرَارٌ) .
التَّصَادُقُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى:
7 - إِِذَا تَصَادَقَ اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ عَلَى إِسْقَاطِ حَقٍّ مِنْ
حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَلاَ عِبْرَةَ بِتَصَادُقِهِمْ، وَلاَ
يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ، إِلاَّ إِِذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى هَذَا
التَّصَادُقِ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْحَال ثَابِتًا
بِالْبَيِّنَةِ لاَ بِالتَّصَادُقِ، وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ مِنَ الأَْمْثِلَةِ
الآْتِيَةِ:
إِنْ طَلَّقَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ قَبْل الدُّخُول، وَكَانَ قَدْ خَلاَ
بِهَا، لَزِمَتْهَا الْعِدَّةُ إِنْ كَانَ الزَّوْجُ بَالِغًا، وَكَانَتِ
الْمَرْأَةُ مُطِيقَةً لِلْوَطْءِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ خَلْوَةَ اهْتِدَاءٍ
أَمْ خَلْوَةَ زِيَارَةٍ. وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ. وَتَجِبُ الْعِدَّةُ حِينَئِذٍ وَلَوْ تَصَادَقَا عَلَى
نَفْيِ الْوَطْءِ؛ لأَِنَّ الْعِدَّةَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، فَلاَ
تَسْقُطُ بِالتَّصَادُقِ.
وَيُؤْخَذُ بِتَصَادُقِهِمَا عَلَى نَفْيِ الْوَطْءِ فِيمَا هُوَ حَقٌّ
لَهُمَا: فَلاَ نَفَقَةَ لَهَا، وَلاَ يَتَكَمَّل لَهَا الصَّدَاقُ، وَلاَ
رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا. أَيْ كُل مَنْ أَقَرَّ مِنْهُمَا أُخِذَ
(12/52)
بِإِِقْرَارِهِ اجْتِمَاعًا أَوِ
انْفِرَادًا. وَيَتَرَتَّبُ عَلَى قَبُول التَّصَادُقِ أَوْ رَدِّهِ
أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ، كَثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْ تَارِيخِ الْخَلْوَةِ،
وَتَأْكِيدِ الْمَهْرِ، وَالنَّفَقَةِ وَالسَّكَنِ وَالْعِدَّةِ،
وَحُرْمَةِ نِكَاحِ أُخْتِهَا فِي عِدَّتِهَا وَأَرْبَعٍ سِوَاهَا. وَفِي
هَذِهِ الْمَذَاهِبِ اخْتِلاَفٌ فِي الْحُقُوقِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى
الْخَلْوَةِ. تَفْصِيلُهُ فِي بَابِ: (النِّكَاحِ) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْقَدِيمِ قَوْلاَنِ أَحَدُهُمَا:
الْخَلْوَةُ مُؤَثِّرَةٌ، وَتُصَدَّقُ الْمَرْأَةُ فِي ادِّعَاءِ
الإِِْصَابَةِ (الْوَطْءِ) وَالْقَوْل الثَّانِي أَنَّهَا كَالْوَطْءِ.
وَفِي الْجَدِيدِ: أَنَّ الْخَلْوَةَ وَحْدَهَا لاَ تُؤَثِّرُ فِي
الْمَهْرِ.
وَعَلَى هَذَا لَوِ اتَّفَقَا عَلَى حُصُول الْخَلْوَةِ، وَادَّعَتِ
الإِِْصَابَةَ لَمْ يَتَرَجَّحْ جَانِبُهَا، بَل الْقَوْل قَوْلُهُ
بِيَمِينِهِ.
وَيُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ صَدَّقَهَا يَتَقَرَّرُ الْمَهْرُ
كُلُّهُ (1) .
التَّصَادُقُ فِي النِّكَاحِ:
8 - لاَ يَثْبُتُ النِّكَاحُ بِالتَّصَادُقِ؛ لأَِنَّ الشَّهَادَةَ شَرْطٌ
فِيهِ، وَوَقْتُهَا عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ وَقْتُ الْعَقْدِ،
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُنْدَبُ الإِِْشْهَادُ وَقْتَ الْعَقْدِ،
فَإِِنْ لَمْ يَشْهَدْ عِنْدَ الْعَقْدِ اشْتُرِطَ وُجُوبًا عِنْدَ
الدُّخُول، وَلاَ حَدَّ عِنْدَهُمْ إِنْ فَشَا النِّكَاحُ بِوَلِيمَةٍ أَوْ
ضَرْبِ دُفٍّ أَوْ دُخَانٍ، أَوْ كَانَ عَلَى الْعَقْدِ أَوِ الدُّخُول
__________
(1) ابن عابدين 2 / 338 - 341، والشرح الكبير 2 / 468، والمغني 6 / 704 ط
الرياض، والروضة 7 / 263.
(12/52)
شَاهِدٌ وَاحِدٌ غَيْرُ الْوَلِيِّ،
لِصِحَّةِ النِّكَاحِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: تَثْبُتُ الزَّوْجِيَّةُ بِالتَّقَارُرِ (أَيِ
التَّصَادُقِ) حَقُّ الزَّوْجَيْنِ إِِذَا كَانَا بَلَدِيَّيْنِ، أَوْ
كَانَ أَحَدُهُمَا بَلَدِيًّا، وَأَمَّا الطَّارِئَانِ (أَيْ مَنْ لَمْ
يَكُونَا مِنْ أَهْل الْبَلَدِ، سَوَاءٌ قَدِمَا مَعًا أَوْ
مُفْتَرِقَيْنِ) فَلاَ تَثْبُتُ الزَّوْجِيَّةُ بَيْنَهُمَا بِمُجَرَّدِ
التَّصَادُقِ. (2)
حُكْمُ تَصَادُقِ الزَّوْجَيْنِ عَلَى طَلاَقٍ سَابِقٍ:
9 - إِِذَا أَقَرَّ رَجُلٌ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ بِطَلاَقٍ بَائِنٍ أَوْ
رَجْعِيٍّ مُتَقَدِّمٍ عَلَى وَقْتِ إِقْرَارِهِ، وَلاَ بَيِّنَةَ لَهُ،
اسْتَأْنَفَتِ امْرَأَتُهُ الْعِدَّةَ مِنْ وَقْتِ إِقْرَارِهِ،
فَيُصَدَّقُ فِي الطَّلاَقِ، لاَ فِي إِسْنَادِهِ لِلْوَقْتِ السَّابِقِ
وَلَوْ صَدَّقَتْهُ؛ لأَِنَّهُ يُتَّهَمُ عَلَى إِسْقَاطِ الْعِدَّةِ
وَهِيَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى. فَإِِنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ،
فَالْعِدَّةُ مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي أُسْنِدَتْ إِلَيْهِ الْبَيِّنَةُ.
هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْعِدَّةِ لأَِنَّهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِحُقُوقِ الزَّوْجَيْنِ فَيُعَامَل كُلٌّ حَسَبَ
إِقْرَارِهِ، فَلَوْ مَاتَتِ الزَّوْجَةُ، وَكَانَتِ الْعِدَّةُ قَدِ
انْقَضَتْ بِحَسَبِ إِقْرَارِهِ، فَلاَ يَرِثُهَا لأَِنَّهَا صَارَتْ
أَجْنَبِيَّةً عَلَى مُقْتَضَى دَعْوَاهُ، وَلاَ رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا
إِنْ كَانَ الطَّلاَقُ رَجْعِيًّا، وَوَرِثَتْهُ إِنْ مَاتَ فِي الْعِدَّةِ
__________
(1) البدائع 2 / 256، والشرح الكبير 2 / 217، ونهاية المحتاج 6 / 213، 7 /
45.
(2) الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 331 - 332.
(12/53)
الْمُسْتَأْنَفَةِ، حَيْثُ كَانَ
الطَّلاَقُ رَجْعِيًّا إِنْ لَمْ تُصَدِّقْهُ. وَلاَ يَتَزَوَّجُ أُخْتَهَا
وَلاَ أَرْبَعًا سِوَاهَا فِي الْعِدَّةِ، وَلَوْ صَادَقَتْهُ عَلَى حُصُول
الطَّلاَقِ فِي الْمَاضِي نَفْيًا لِتُهْمَةِ التَّوَاطُؤِ بَيْنَهُمَا.
وَإِِنْ صَدَّقَتْهُ فَلاَ نَفَقَةَ لَهَا مُعَامَلَةً لَهَا
بِتَصْدِيقِهَا إِيَّاهُ. وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ. (1)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لَوْ أَسْنَدَ الزَّوْجُ الطَّلاَقَ
إِِلَى زَمَنٍ مَاضٍ، وَصَدَّقَتِ الزَّوْجَةُ الزَّوْجَ فِي
الإِِْسْنَادِ، فَالْعِدَّةُ مِنَ التَّارِيخِ الَّذِي أُسْنِدَ إِلَيْهِ
الطَّلاَقُ، وَلَوْ لَمْ يَقُمْ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةٌ. (2)
وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلاَمِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَهُمْ
كَذَلِكَ. فَقَدْ جَاءَ فِي شَرْحِ منتهى الإرادات: لَوْ جَاءَتِ امْرَأَةٌ
حَاكِمًا وَادَّعَتْ أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا وَانْتَهَتْ عِدَّتُهَا،
فَلَهُ تَزْوِيجُهَا بِشَرْطِهِ إِنْ ظَنَّ صِدْقَهَا، وَلاَ سِيَّمَا إِنْ
كَانَ الزَّوْجُ لاَ يَعْرِفُ؛ لأَِنَّ الإِِْقْرَارَ (أَيْ
بِالزَّوْجِيَّةِ) لِمَجْهُولٍ لاَ يَصِحُّ. وَأَيْضًا الأَْصْل صِدْقُهَا
(أَيْ فِيمَا ادَّعَتْهُ مِنْ خُلُوِّهَا عَنِ الزَّوْجِيَّةِ) وَلاَ
مُنَازِعَ. (3)
حُكْمُ مُصَادَقَةِ الزَّوْجَةِ عَلَى إِعْسَارِ الزَّوْجِ:
10 - يُكْتَفَى بِتَصْدِيقِ الزَّوْجَةِ زَوْجَهَا فِي دَعْوَاهُ
الإِِْعْسَارَ، وَتَصْدِيقُهَا يَقُومُ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ،
وَيَتَرَتَّبُ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 610، والشرح الكبير 2 / 477.
(2) نهاية المحتاج 7 / 18.
(3) شرح منتهى الإرادات 3 / 188، والمغني 6 / 450 - 451، وكشاف القناع 5 /
424.
(12/53)
عَلَيْهِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ثُبُوتِ
الإِِْعْسَارِ بِالْبَيِّنَةِ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ بِالتَّطْلِيقِ
بِشُرُوطِهِ الْمُفَصَّلَةِ فِي أَبْوَابِهَا (1) وَيُنْظَرُ (إِعْسَارٌ،
نَفَقَةٌ، مَهْرٌ) .
الرُّجُوعُ فِي التَّصْدِيقِ:
11 - تَقَدَّمَ أَنَّ التَّصْدِيقَ مُلْزِمٌ لِمَنْ صَدَّقَ، وَعَلَى
ذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ لِحُقُوقِ الْعِبَادِ
وَحُقُوقِ اللَّهِ الَّتِي لاَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، كَالزَّكَاةِ،
فَمَنْ صَدَّقَ الْمُدَّعِيَ فِيمَا ادَّعَاهُ عَلَيْهِ مِنْ حَقٍّ فَلاَ
يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ مَتَى تَوَافَرَتْ شُرُوطُ التَّصْدِيقِ.
وَلَوْ أَقَرَّ بِنَسَبٍ، وَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، ثُمَّ رَجَعَ
الْمُقِرُّ عَنْ إِقْرَارِهِ لاَ يُقْبَل مِنْهُ الرُّجُوعُ.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي تُدْرَأُ
بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ فَإِِنَّهُ إِِذَا ثَبَتَ الْحَدُّ
بِالإِِْقْرَارِ فَقَطْ، فَإِِنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُقِرِّ الرُّجُوعُ،
سَوَاءٌ أَكَانَ الرُّجُوعُ قَبْل الْحَدِّ أَمْ بَعْدَهُ، وَسَقَطَ
الْحَدُّ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَّضَ
لِمَاعِزٍ بِالرُّجُوعِ، فَلَوْلاَ أَنَّهُ يُفِيدُ لَمَا عَرَّضَ لَهُ
بِهِ.
وَعَلَّل الْفُقَهَاءُ عَدَمَ جَوَازِ الرُّجُوعِ فِي التَّصْدِيقِ
بِحُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ وَحُقُوقِ اللَّهِ الَّتِي لاَ تُدْرَأُ
بِالشُّبُهَاتِ: بِأَنَّ رُجُوعَهُ نَقْضٌ لِمَا صَدَرَ مِنْهُ وَتَعَلَّقَ
بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ، فَإِِذَا قَال: هَذِهِ الدَّارُ لِزَيْدٍ، لاَ بَل
لِعَمْرٍو، أَوِ ادَّعَى زَيْدٌ عَلَى مَيِّتٍ
__________
(1) الشرح الكبير 2 / 299، 519، وقليوبي مع عميرة 4 / 83، والمغني 7 / 573،
والدر وابن عابدين 2 / 656.
(12/54)
شَيْئًا مُعَيَّنًا مِنْ تَرِكَتِهِ
فَصَدَّقَهُ ابْنُهُ، ثُمَّ ادَّعَاهُ عَمْرٌو فَصَدَّقَهُ، حُكِمَ بِهِ
لِزَيْدٍ، وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ غَرَامَتُهُ لِعَمْرٍو، وَهَذَا ظَاهِرُ
أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ.
وَفِي الْقَوْل الآْخَرِ: لاَ يَغْرَمُ لِعَمْرٍو شَيْئًا، وَهُوَ قَوْل
أَبِي حَنِيفَةَ؛ لأَِنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِمَا عَلَيْهِ الإِِْقْرَارُ
بِهِ وَإِِنَّمَا مَنَعَهُ الْحُكْمُ مِنْ قَبُولِهِ وَذَلِكَ لاَ يُوجِبُ
الضَّمَانَ. (1)
__________
(1) المغني 5 / 164 ط الرياض، ونهاية المحتاج 7 / 43، والشرح الكبير 4 /
318، والبدائع 7 / 61.
(12/54)
تَصْحِيحٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّصْحِيحُ لُغَةً: مَصْدَرُ صَحَّحَ، يُقَال: صَحَّحْتُ الْكِتَابَ
وَالْحِسَابَ تَصْحِيحًا: إِِذَا أَصْلَحْتَ خَطَأَهُ، وَصَحَّحْتَهُ
فَصَحَّ. (1)
وَالتَّصْحِيحُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ هُوَ: الْحُكْمُ عَلَى الْحَدِيثِ
بِالصِّحَّةِ، إِِذَا اسْتَوْفَى شَرَائِطَ الصِّحَّةِ الَّتِي وَضَعَهَا
الْمُحَدِّثُونَ (2) .
وَيُطْلَقُ التَّصْحِيحُ أَيْضًا عِنْدَهُمْ عَلَى كِتَابَةِ (صَحَّ) عَلَى
كَلاَمٍ يَحْتَمِل الشَّكَّ بِأَنْ كُرِّرَ لَفْظٌ مَثَلاً لاَ يُخِل
تَرْكُهُ (3) .
وَالتَّصْحِيحُ عِنْدَ أَهْل الْفَرَائِضِ: إِزَالَةُ الْكُسُورِ
الْوَاقِعَةِ بَيْنَ السِّهَامِ وَالرُّءُوسِ. (4)
وَالتَّصْحِيحُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ: رَفْعُ أَوْ حَذْفُ مَا يُفْسِدُ
الْعِبَادَةَ أَوِ الْعَقْدَ (5) .
__________
(1) لسان العرب مادة: " صحح ".
(2) تدريب الراوي / 24.
(3) كشاف اصطلاحات الفنون 3 / 819.
(4) التعريفات للجرجاني.
(5) البدائع 5 / 139، 178، والاختيار 2 / 26، ومغني المحتاج 2 / 40، ومنح
الجليل 2 / 570 - 571، وبداية المجتهد 2 / 162 ط عيسى الحلبي.
(12/55)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّعْدِيل:
2 - التَّعْدِيل: مَصْدَرُ عَدَّل، يُقَال: عَدَّلْتُ الشَّيْءَ تَعْدِيلاً
فَاعْتَدَل: إِِذَا سَوَّيْتَهُ فَاسْتَوَى. وَمِنْهُ قِسْمَةُ
التَّعْدِيل. وَعَدَّلْتُ الشَّاهِدَ: نَسَبْتَهُ إِِلَى الْعَدَالَةِ.
وَتَعْدِيل الشَّيْءِ: تَقْوِيمُهُ (1) .
ب - التَّصْوِيبُ:
3 - التَّصْوِيبُ: مَصْدَرُ صَوَّبَ مِنَ الصَّوَابِ، الَّذِي هُوَ ضِدُّ
الْخَطَأِ، وَالتَّصْوِيبُ بِهَذَا الْمَعْنَى يُرَادِفُ التَّصْحِيحَ،
وَصَوَّبْتَ قَوْلَهُ: قُلْتَ: إِنَّهُ صَوَابٌ (2) .
ج - التَّهْذِيبُ:
4 - التَّهْذِيبُ كَالتَّنْقِيَةِ، يُقَال: هَذَّبَ الشَّيْءَ، إِِذَا
نَقَّاهُ وَأَخْلَصَهُ. وَقِيل: أَصْلَحَهُ (3) .
د - الإِِْصْلاَحُ:
5 - الإِِْصْلاَحُ ضِدُّ الإِِْفْسَادِ، وَأَصْلَحَ الشَّيْءَ بَعْدَ
فَسَادِهِ: أَقَامَهُ، وَأَصْلَحَ الدَّابَّةَ: أَحْسَنَ إِلَيْهَا (4) .
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " عدل ".
(2) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " صوب ".
(3) لسان العرب مادة: " هذب ".
(4) لسان العرب مادة: " صلح ".
(12/55)
هـ - التَّحْرِيرُ:
6 - تَحْرِيرُ الْكِتَابَةِ: إِقَامَةُ حُرُوفِهَا وَإِِصْلاَحُ السَّقْطِ
وَتَحْرِيرُ الْحِسَابِ: إِثْبَاتُهُ مُسْتَوِيًا لاَ غَلَتَ فِيهِ، (1)
وَلاَ سَقْطَ وَلاَ مَحْوَ. وَتَحْرِيرُ الرَّقَبَةِ: عِتْقُهَا (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
7 - تَصْحِيحُ الْفَسَادِ وَالْخَطَأِ أَمْرٌ وَاجِبٌ شَرْعًا مَتَى
عَرَفَهُ الإِِْنْسَانُ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ: كَمَنْ
اجْتَهَدَ فِي مَعْرِفَةِ الْقِبْلَةِ وَصَلَّى، ثُمَّ تَبَيَّنَ الْخَطَأُ
أَثْنَاءَ الصَّلاَةِ، فَيَجِبُ تَصْحِيحُ هَذَا الْخَطَأِ بِالاِتِّجَاهِ
إِِلَى الْقِبْلَةِ، وَإِِلاَّ فَسَدَتِ الصَّلاَةُ. أَمْ كَانَ ذَلِكَ فِي
الْمُعَامَلاَتِ: كَالْبَيْعِ بِشَرْطٍ مُفْسِدٍ لِلْعَقْدِ، فَيَجِبُ
إِسْقَاطُ هَذَا الشَّرْطِ لِيَصِحَّ الْبَيْعُ، وَإِِلاَّ وَجَبَ فَسْخُ
الْبَيْعِ دَفْعًا لِلْفَسَادِ (3) .
مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّصْحِيحِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أَوَّلاً: تَصْحِيحُ الْحَدِيثِ:
8 - تَصْحِيحُ الْحَدِيثِ هُوَ: الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِالصِّحَّةِ
لِتَوَافُرِ شُرُوطٍ خَاصَّةٍ اشْتَرَطَهَا عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ. وَقَدْ
يَخْتَلِفُ الْمُحَدِّثُونَ فِي صِحَّةِ بَعْضِ الأَْحَادِيثِ
__________
(1) الغلت: الغلط في الحساب (القاموس المحيط) .
(2) لسان العرب مادة: " شهد ".
(3) الهداية 1 / 45، وابن عابدين 4 / 133، والزيلعي 4 / 64.
(12/56)
لاِخْتِلاَفِهِمْ فِي بَعْضِ الشُّرُوطِ،
وَفِي تَقْدِيمِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ.
فَقَدْ قَرَّرَ ابْنُ الصَّلاَحِ وَالنَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُ
يُحْكَمُ بِصِحَّةِ الْحَدِيثِ الْمُسْنَدِ الَّذِي يَتَّصِل إِسْنَادُهُ
بِنَقْل الْعَدْل الضَّابِطِ عَنِ الْعَدْل الضَّابِطِ إِِلَى مُنْتَهَاهُ،
وَلاَ يَكُونُ شَاذًّا وَلاَ مُعَلَّلاً.
قَال ابْنُ الصَّلاَحِ: فَهَذَا هُوَ الْحَدِيثُ الَّذِي يُحْكَمُ لَهُ
بِالصِّحَّةِ بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ أَهْل الْحَدِيثِ. فَإِِذَا وُجِدَتِ
الشُّرُوطُ الْمَذْكُورَةُ حُكِمَ لِلْحَدِيثِ بِالصِّحَّةِ، مَا لَمْ
يَظْهَرْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ فِيهِ شُذُوذًا. وَالْحُكْمُ بِتَوَاتُرِ
الْحَدِيثِ حُكْمٌ بِصِحَّتِهِ.
وَقَال بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ: يُحْكَمُ لِلْحَدِيثِ بِالصِّحَّةِ إِِذَا
تَلَقَّاهُ النَّاسُ بِالْقَبُول، وَإِِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِسْنَادٌ
صَحِيحٌ. قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ - لَمَّا حَكَى عَنِ التِّرْمِذِيِّ
أَنَّ الْبُخَارِيَّ صَحَّحَ حَدِيثَ الْبَحْرِ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ
الْحِل مَيْتَتُهُ (1) وَأَهْل الْحَدِيثِ لاَ يُصَحِّحُونَ مِثْل
إِسْنَادِهِ - لَكِنَّ الْحَدِيثَ عِنْدِي صَحِيحٌ، لأَِنَّ الْعُلَمَاءَ
تَلَقَّوْهُ بِالْقَبُول.
وَقَال الأُْسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الإِْسْفَرايِينِيُّ: تُعْرَفُ
صِحَّةِ الْحَدِيثِ إِِذَا اشْتَهَرَ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ بِغَيْرِ
__________
(1) حديث: " هو الطهور ماؤه والحل ميتته ". أخرجه مالك (الموطأ 1 / 22 - ط
عيسى الحلبي) وعنه الترمذي (1 / 101 - ط مصطفى الحلبي) وصححه البخاري.
(التلخيص الحبير 1 / 9 - شركة الطباعة الفنية المتحدة) .
(12/56)
نَكِيرٍ مِنْهُمْ. وَقَال نَحْوَهُ ابْنُ
فُورَكٍ (1) .
عَلَى أَنَّ هُنَاكَ مَنِ اشْتَرَطَ غَيْرَ ذَلِكَ لِلْحُكْمِ
بِالصِّحَّةِ، كَاشْتِرَاطِ الْحَاكِمِ أَنْ يَكُونَ رَاوِي الْحَدِيثِ
مَشْهُورًا بِالطَّلَبِ (أَيْ طَلَبِ الْحَدِيثِ وَتَتَبُّعِ رِوَايَاتِهِ)
وَعَنْ مَالِكٍ نَحْوُهُ، وَكَاشْتِرَاطِ أَبِي حَنِيفَةَ فِقْهَ
الرَّاوِي، وَكَاشْتِرَاطِ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ الْعِلْمَ بِمَعَانِي
الْحَدِيثِ، حَيْثُ يُرْوَى بِالْمَعْنَى، قَال السُّيُوطِيُّ: وَهُوَ
شَرْطٌ لاَ بُدَّ مِنْهُ، لَكِنَّهُ دَاخِلٌ فِي الضَّبْطِ، وَكَاشْتِرَاطِ
الْبُخَارِيِّ ثُبُوتَ السَّمَاعِ لِكُل رَاوٍ مِنْ شَيْخِهِ، وَلَمْ
يَكْتَفِ بِإِِمْكَانِ اللِّقَاءِ وَالْمُعَاصَرَةِ (2) .
أَثَرُ عَمَل الْعَالِمِ وَفُتْيَاهُ فِي التَّصْحِيحِ:
9 - قَال النَّوَوِيُّ وَالسُّيُوطِيُّ: عَمَل الْعَالِمِ وَفُتْيَاهُ
عَلَى وَفْقِ حَدِيثٍ رَوَاهُ لَيْسَ حُكْمًا مِنْهُ بِصِحَّةِ الْحَدِيثِ
وَلاَ بِتَعْدِيل رُوَاتِهِ، لإِِِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ
احْتِيَاطًا، أَوْ لِدَلِيلٍ آخَرَ وَافَقَ ذَلِكَ الْخَبَرَ. وَصَحَّحَ
الآْمِدِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الأُْصُولِيِّينَ أَنَّهُ حُكْمٌ بِذَلِكَ.
وَقَال إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَسَالِكِ
الاِحْتِيَاطِ (أَيْ لَمْ تَكُنِ الْفُتْيَا بِمُقْتَضَى صِحَّةِ
الْحَدِيثِ، بَل لِلاِحْتِيَاطِ) . وَفَرَّقَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ بَيْنَ
أَنْ يَعْمَل بِهِ فِي التَّرْغِيبِ وَغَيْرِهِ.
__________
(1) تدريب الراوي ص 22 - 25.
(2) تدريب الراوي ص 26.
(12/57)
كَمَا أَنَّ مُخَالَفَةَ الْعَالِمِ
لِلْحَدِيثِ لاَ تُعْتَبَرُ قَدْحًا مِنْهُ فِي صِحَّتِهِ وَلاَ فِي
رُوَاتِهِ، لإِِِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِمَانِعٍ مِنْ مُعَارِضٍ
أَوْ غَيْرِهِ.
وَقَدْ رَوَى الإِِْمَامُ مَالِكٌ حَدِيثَ الْخِيَارِ، وَلَمْ يَعْمَل بِهِ
لِعَمَل أَهْل الْمَدِينَةِ بِخِلاَفِهِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَدْحًا فِي
نَافِعٍ رَاوِيهِ.
وَمِمَّا لاَ يَدُل عَلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ أَيْضًا - كَمَا ذَكَرَ أَهْل
الأُْصُول - مُوَافَقَةُ الإِِْجْمَاعِ لَهُ عَلَى الأَْصَحِّ، لِجَوَازِ
أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَنَدُ غَيْرَهُ. وَقِيل: يَدُل عَلَى صِحَّةِ
الْحَدِيثِ. (1)
تَصْحِيحُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ:
10 - يَرَى الشَّيْخُ ابْنُ الصَّلاَحِ أَنَّهُ قَدِ انْقَطَعَ
التَّصْحِيحُ فِي هَذِهِ الأَْعْصَارِ، فَلَيْسَ لأَِحَدٍ أَنْ يُصَحِّحَ،
بَل يَقْتَصِرُ فِي الْحُكْمِ بِصِحَّةِ الْحَدِيثِ عَلَى مَا اعْتَمَدَهُ
السَّابِقُونَ، كَمَا يَرَى عَدَمَ اعْتِبَارِ الْحَدِيثِ صَحِيحًا
بِمُجَرَّدِ صِحَّةِ إِسْنَادِهِ مَا لَمْ يُوجَدْ فِي مُصَنَّفَاتِ
أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ الْمُعْتَمَدَةِ الْمَشْهُورَةِ، فَأَغْلَبُ الظَّنِّ
أَنَّهُ لَوْ صَحَّ عِنْدَهُمْ لِمَا أَهْمَلُوهُ لِشِدَّةِ فَحْصِهِمْ
وَاجْتِهَادِهِمْ. (2)
وَقَدْ خَالَفَ الإِِْمَامُ النَّوَوِيُّ ابْنَ الصَّلاَحِ فِي ذَلِكَ،
فَقَال: وَالأَْظْهَرُ عِنْدِي جَوَازُهُ لِمَنْ تَمَكَّنَ وَقَوِيَتْ
مَعْرِفَتُهُ.
__________
(1) تدريب الراوي ص 209.
(2) تدريب الراوي ص 51 - 53، 79، وعلوم الحديث ص 13.
(12/57)
قَال الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ: وَهُوَ
الَّذِي عَلَيْهِ عَمَل أَهْل الْحَدِيثِ.
وَقَدْ صَحَّحَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَحَادِيثَ
لَمْ يُعْرَفْ تَصْحِيحُهُمَا عَنِ الأَْقْدَمِينَ. (1)
ثَانِيًا: تَصْحِيحُ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ:
11 - الْفُقَهَاءُ عَدَا الْحَنَفِيَّةَ لاَ يُفَرِّقُونَ فِي الْجُمْلَةِ
بَيْنَ الْعَقْدِ الْبَاطِل وَالْعَقْدِ الْفَاسِدِ، فَالْحُكْمُ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْعَقْدَ لاَ يَنْقَلِبُ
صَحِيحًا بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ. فَفِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ حَذَفَ
الْعَاقِدَانِ الْمُفْسِدَ لِلْعَقْدِ - وَلَوْ فِي مَجْلِسِ الْخِيَارِ -
لَمْ يَنْقَلِبِ الْعَقْدُ صَحِيحًا، إِذْ لاَ عِبْرَةَ بِالْفَاسِدِ. (2)
وَفِي الْمُغْنِي لاِبْنِ قُدَامَةَ: لَوْ بَاعَهُ بِشَرْطِ أَنْ
يُسْلِفَهُ أَوْ يُقْرِضَهُ، أَوْ شَرَطَ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ عَلَيْهِ،
فَهُوَ مُحَرَّمٌ وَالْعَقْدُ بَاطِلٌ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَعَنْ بَيْعِ
مَا لَمْ يُقْبَضْ، وَعَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ، وَعَنْ شَرْطَيْنِ
فِي بَيْعٍ، وَعَنْ بَيْعٍ
__________
(1) تدريب الراوي ص 78 وما بعدها.
(2) أسنى المطالب 2 / 37، ومغني المحتاج 2 / 40، وروضة الطالبين 3 / 410،
وحاشية الجمل 3 / 84 - 115، والمنثور في القواعد 2 / 150.
(12/58)
وَسَلَفٍ. (1) وَلأَِنَّهُ اشْتَرَطَ
عَقْدًا فِي عَقْدٍ فَفَسَدَ كَبَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ؛ وَلأَِنَّهُ
إِِذَا اشْتَرَطَ الْقَرْضَ زَادَ فِي الثَّمَنِ لأَِجْلِهِ، فَتَصِيرُ
الزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ عِوَضًا عَنِ الْقَرْضِ وَرِبْحًا لَهُ،
وَذَلِكَ رِبًا مُحَرَّمٌ، فَفَسَدَ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ؛ وَلأَِنَّهُ
بَيْعٌ فَاسِدٌ فَلاَ يَعُودُ صَحِيحًا كَمَا لَوْ بَاعَ دِرْهَمًا
بِدِرْهَمَيْنِ ثُمَّ تَرَكَ أَحَدَهُمَا (2) .
وَفِي بَابِ الرَّهْنِ قَال: لَوْ بَطَل الْعَقْدُ لَمَا عَادَ صَحِيحًا
(3) .
وَفِي شَرْحِ منتهى الإرادات: الْعَقْدُ الْفَاسِدُ لاَ يَنْقَلِبُ
صَحِيحًا (4) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَصِحُّ الْعَقْدُ إِِذَا حُذِفَ الشَّرْطُ
الْمُفْسِدُ لِلْعَقْدِ، سَوَاءٌ أَكَانَ شَرْطًا يُنَافِي مُقْتَضَى
الْعَقْدِ، أَمْ كَانَ شَرْطًا يُخِل بِالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ، إِلاَّ
أَرْبَعَةَ شُرُوطٍ فَلاَ يَصِحُّ الْبَيْعُ مَعَهَا وَلَوْ حُذِفَ
الشَّرْطُ، وَهِيَ:
__________
(1) حديث: " نهى عن ربح ما لم يضمن وعن بيع ما لم يقبض. . . ". رواه
الطبراني من حديث حكيم بن حزام قال في مجمع الزوائد (4 / 85) وروى النسائي
بعضه، وفي سنده عند الطبراني العلاء بن خالد الواسطي وثقه ابن حبان، وضعفه
موسى بن إسماعيل. وروي بلفظ " لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح
ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك ". أخرجه الترمذي (3 / 535 - 536 - ط
الحلبي) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال: حديث حسن صحيح.
(2) المغني 4 / 259 - 260.
(3) المغني 4 / 379.
(4) شرح منتهى الإرادات 2 / 250.
(12/58)
أ - مَنِ ابْتَاعَ سِلْعَةً بِثَمَنٍ
مُؤَجَّلٍ عَلَى أَنَّهُ إِنْ مَاتَ فَالثَّمَنُ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ،
فَإِِنَّهُ يَفْسَخُ الْبَيْعَ وَلَوْ أَسْقَطَ هَذَا الشَّرْطَ لأَِنَّهُ
غَرَرٌ، وَكَذَا لَوْ شَرَطَ: إِنْ مَاتَ فَلاَ يُطَالِبُ الْبَائِعُ
وَرَثَتَهُ بِالثَّمَنِ.
ب - شَرْطُ مَا لاَ يَجُوزُ مِنْ أَمَدِ الْخِيَارِ، فَيَلْزَمُ فَسْخُهُ
وَإِِنْ أَسْقَطَ لِجَوَازِ كَوْنِ إِسْقَاطِهِ أَخْذًا بِهِ.
ج - مَنْ بَاعَ أَمَةً وَشَرَطَ عَلَى الْمُبْتَاعِ أَنْ لاَ يَطَأَهَا،
وَأَنَّهُ إِنْ فَعَل فَهِيَ حُرَّةٌ، أَوْ عَلَيْهِ دِينَارٌ مَثَلاً،
فَيُفْسَخُ وَلَوْ أَسْقَطَ الشَّرْطَ لأَِنَّهُ يَمِينٌ.
د - شَرْطُ الثُّنْيَا يُفْسِدُ الْبَيْعَ وَلَوْ أَسْقَطَ الشَّرْطَ.
وَزَادَ ابْنُ الْحَاجِبِ شَرْطًا خَامِسًا وَهُوَ:
هـ - شَرْطُ النَّقْدِ (أَيْ تَعْجِيل الثَّمَنِ) فِي بَيْعِ الْخِيَارِ
قَال ابْنُ الْحَاجِبِ: لَوْ أَسْقَطَ شَرْطَ النَّقْدِ فَلاَ يَصِحُّ (1)
.
وَفِي الإِِْجَارَةِ جَاءَ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: تَفْسُدُ
الإِِْجَارَةُ بِالشَّرْطِ الَّذِي يُنَاقِضُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَمَحَل
الْفَسَادِ إِنْ لَمْ يُسْقِطَ الشَّرْطَ، فَإِِنْ أَسْقَطَ الشَّرْطَ
صَحَّتْ (2) .
وَيُوَضِّحُ ابْنُ رُشْدٍ سَبَبَ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي صِحَّةِ
الْعَقْدِ بِارْتِفَاعِ الْمُفْسِدِ أَوْ عَدَمِ صِحَّتِهِ. فَيَقُول: هَل
إِِذَا لَحِقَ الْفَسَادُ بِالْبَيْعِ مِنْ قِبَل الشَّرْطِ يَرْتَفِعُ
الْفَسَادُ إِِذَا ارْتَفَعَ الشَّرْطُ، أَوْ لاَ
__________
(1) منح الجليل 2 / 570 - 571.
(2) الشرح الصغير 2 / 277 ط الحلبي.
(12/59)
يَرْتَفِعُ؟ كَمَا لاَ يَرْتَفِعُ
الْفَسَادُ اللاَّحِقُ لِلْبَيْعِ الْحَلاَل مِنْ أَجْل اقْتِرَانِ
الْمُحَرَّمِ الْعَيْنَ بِهِ، كَمَنْ بَاعَ غُلاَمًا بِمِائَةِ دِينَارٍ
وَزِقِّ خَمْرٍ، فَلَمَّا عَقَدَ الْبَيْعَ قَال: أَدَّعِ الزِّقَّ.
وَهَذَا الْبَيْعُ مَفْسُوخٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِإِِجْمَاعٍ.
وَهَذَا أَيْضًا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ آخَرَ. هُوَ: هَل هَذَا الْفَسَادُ
مَعْقُول الْمَعْنَى أَوْ غَيْرُ مَعْقُولٍ؟ فَإِِنْ قُلْنَا: هُوَ غَيْرُ
مَعْقُول الْمَعْنَى، لَمْ يَرْتَفِعِ الْفَسَادُ بِارْتِفَاعِ الشَّرْطِ.
وَإِِنْ قُلْنَا: مَعْقُولٌ، ارْتَفَعَ الْفَسَادُ بِارْتِفَاعِ الشَّرْطِ.
فَمَالِكٌ رَآهُ مَعْقُولاً، وَالْجُمْهُورُ رَأَوْهُ غَيْرَ مَعْقُولٍ،
وَالْفَسَادُ الَّذِي يُوجَدُ فِي بُيُوعِ الرِّبَا وَالْغَرَرِ هُوَ
أَكْثَرُ ذَلِكَ غَيْرُ مَعْقُول الْمَعْنَى، وَلِذَلِكَ لَيْسَ يَنْعَقِدُ
عِنْدَهُمْ أَصْلاً، وَإِِنْ تُرِكَ الرِّبَا بَعْدَ الْبَيْعِ وَارْتَفَعَ
الْغَرَرُ (1) .
12 - وَيُفَرِّقُ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الْعَقْدِ الْبَاطِل وَالْعَقْدِ
الْفَاسِدِ فَيَصِحُّ عِنْدَهُمْ - خِلاَفًا لِزُفَرَ - تَصْحِيحُ
الْعَقْدِ الْفَاسِدِ، بِارْتِفَاعِ الْمُفْسِدِ دُونَ الْبَاطِل،
وَيَقُولُونَ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ: إِنَّ ارْتِفَاعَ الْمُفْسِدِ فِي
الْفَاسِدِ يَرُدُّهُ صَحِيحًا، لأَِنَّ الْبَيْعَ قَائِمٌ مَعَ
الْفَسَادِ، وَمَعَ الْبُطْلاَنِ لَمْ يَكُنْ قَائِمًا بِصِفَةِ
الْبُطْلاَنِ، بَل كَانَ مَعْدُومًا.
وَعِنْدَ زُفَرَ: الْعَقْدُ الْفَاسِدُ لاَ يَحْتَمِل الْجَوَازَ بِرَفْعِ
الْمُفْسِدِ.
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 162 ط عيسى الحلبي.
(12/59)
لَكِنَّ تَصْحِيحَ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُقَيَّدٌ بِمَا إِِذَا كَانَ الْفَسَادُ ضَعِيفًا.
يَقُول الْكَاسَانِيُّ: الأَْصْل عِنْدَنَا أَنَّهُ يُنْظَرُ إِِلَى
الْفَسَادِ، فَإِِنْ كَانَ قَوِيًّا بِأَنْ دَخَل فِي صُلْبِ الْعَقْدِ -
وَهُوَ الْبَدَل أَوِ الْمُبْدَل - لاَ يَحْتَمِل الْجَوَازَ بِرَفْعِ
الْمُفْسِدِ، كَمَا إِِذَا بَاعَ عَبْدًا بأَلْفِ دِرْهَمٍ وَرِطْلٍ مِنْ
خَمْرٍ، فَحَطَّ الْخَمْرَ عَنِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ فَاسِدٌ وَلاَ
يَنْقَلِبُ صَحِيحًا.
وَإِِنْ كَانَ الْفَسَادُ ضَعِيفًا، وَهُوَ مَا لَمْ يَدْخُل فِي صُلْبِ
الْعَقْدِ، بَل فِي شَرْطٍ جَائِزٍ يَحْتَمِل الْجَوَازَ بِرَفْعِ
الْمُفْسِدِ، كَمَا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ خِيَارٍ لَمْ يُوَقَّتْ، أَوْ
وُقِّتَ إِِلَى وَقْتٍ مَجْهُولٍ كَالْحَصَادِ، أَوْ لَمْ يُذْكُرِ
الْوَقْتُ، وَكَمَا فِي الْبَيْعِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ إِِلَى أَجَلٍ
مَجْهُولٍ، فَإِِذَا أَسْقَطَ الأَْجَل مَنْ لَهُ الْحَقُّ فِيهِ قَبْل
حُلُولِهِ وَقَبْل فَسْخِهِ جَازَ الْبَيْعُ لِزَوَال الْمُفْسِدِ، وَلَوْ
كَانَ إِسْقَاطُ الأَْجَل بَعْدَ الاِفْتِرَاقِ عَلَى مَا حَرَّرَهُ ابْنُ
عَابِدِينَ.
وَعَلَى هَذَا سَائِرُ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ بِسَبَبِ ضَرَرٍ
يَلْحَقُ بِالْبَائِعِ فِي التَّسْلِيمِ إِِذَا سَلَّمَ الْبَائِعَ
بِرِضَاهُ وَاخْتِيَارِهِ - كَمَا إِِذَا بَاعَ جِذْعًا لَهُ فِي سَقْفٍ،
أَوْ آجُرًّا لَهُ فِي حَائِطٍ، أَوْ ذِرَاعًا فِي دِيبَاجٍ - أَنَّهُ لاَ
يَجُوزُ لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُهُ إِلاَّ بِالنَّزْعِ
وَالْقَطْعِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ بِالْبَائِعِ، وَالضَّرَرُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ
بِالْعَقْدِ، فَكَانَ هَذَا عَلَى التَّقْدِيرِ بَيْعُ مَا لاَ يَجِبُ
تَسْلِيمُهُ شَرْعًا، فَيَكُونُ فَاسِدًا. فَإِِنْ نَزَعَهُ الْبَائِعُ
(12/60)
أَوْ قَطَعَهُ وَسَلَّمَهُ إِِلَى
الْمُشْتَرِي قَبْل أَنْ يَفْسَخَ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ جَازَ الْبَيْعُ؛
لأَِنَّ الْمَانِعَ مِنَ الْجَوَازِ ضَرَرُ الْبَائِعِ بِالتَّسْلِيمِ،
فَإِِذَا سَلَّمَ بِاخْتِيَارِهِ وَرِضَاهُ فَقَدْ زَال الْمَانِعُ،
فَجَازَ الْبَيْعُ وَلَزِمَ (1) .
وَعَلَى هَذَا سَائِرُ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
طِبْقًا لِقَاعِدَةِ: إِِذَا زَال الْمَانِعُ مَعَ وُجُودِ الْمُقْتَضِي
عَادَ الْحُكْمُ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ هِبَةَ الْمُشَاعِ فَاسِدَةٌ، فَإِِنْ قَسَّمَهُ
وَسَلَّمَهُ جَازَ. وَاللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ، وَالصُّوفُ عَلَى ظَهْرِ
الْغَنَمِ، وَالزَّرْعُ وَالنَّخْل فِي الأَْرْضِ، وَالتَّمْرُ فِي
النَّخِيل بِمَنْزِلَةِ الْمُشَاعِ؛ لأَِنَّهَا مَوْجُودَةٌ، وَامْتِنَاعُ
الْجَوَازِ لِلاِتِّصَال، فَإِِذَا فَصَّلَهَا وَسَلَّمَهَا جَازَ لِزَوَال
الْمَانِعِ (2) .
وَمِثْل ذَلِكَ: إِِذَا رَهَنَ الأَْرْضَ بِدُونِ الْبِنَاءِ، أَوْ بِدُونِ
الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ، أَوْ رَهَنَ الزَّرْعَ وَالشَّجَرَ بِدُونِ
الأَْرْضِ، أَوْ رَهَنَ الشَّجَرَ بِدُونِ الثَّمَرِ، أَوْ رَهَنَ
الثَّمَرَ بِدُونِ الشَّجَرِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّ الْمَرْهُونَ
مُتَّصِلٌ بِمَا لَيْسَ بِمَرْهُونٍ، وَهَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ.
وَلَوْ جُذَّ الثَّمَرُ وَحُصِدَ الزَّرْعُ وَسُلِّمَ مُنْفَصِلاً جَازَ
لِزَوَال الْمَانِعِ (3) .
__________
(1) البدائع 5 / 168، 178 - 179، وابن عابدين 4 / 119، والاختيار 2 / 25 -
26.
(2) البدائع 6 / 119، والزيلعي 5 / 94.
(3) البدائع 6 / 140.
(12/60)
تَصْحِيحُ الْعَقْدِ بِاعْتِبَارِهِ
عَقْدًا آخَرَ:
13 - هَذَا، وَيُمْكِنُ تَصْحِيحُ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ إِِذَا أَمْكَنَ
تَحْوِيلُهُ إِِلَى عَقْدٍ آخَرَ صَحِيحٍ لِتَوَافُرِ أَسْبَابِ الصِّحَّةِ
فِيهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الصِّحَّةُ عَنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى عِنْدَ
بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، أَمْ عَنْ طَرِيقِ اللَّفْظِ عِنْدَ الْبَعْضِ
الآْخَرِ نَظَرًا لاِخْتِلاَفِهِمْ فِي قَاعِدَةِ (هَل الْعِبْرَةُ
بِصِيَغِ الْعُقُودِ أَوْ مَعَانِيهَا) . (1) وَنُوَضِّحُ ذَلِكَ
بِالأَْمْثِلَةِ الآْتِيَةِ:
14 - فِي الأَْشْبَاهِ لاِبْنِ نُجَيْمٍ: الاِعْتِبَارُ لِلْمَعْنَى لاَ
لِلأَْلْفَاظِ، صَرَّحُوا بِهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا: الْكَفَالَةُ،
فَهِيَ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الأَْصِيل حَوَالَةً، وَهِيَ بِشَرْطِ عَدَمِ
بَرَاءَتِهِ كَفَالَةً. (2)
وَفِي الاِخْتِيَارِ: شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ
يَتَسَاوَى الشَّرِيكَانِ فِي التَّصَرُّفِ وَالدَّيْنِ وَالْمَال الَّذِي
تَصِحُّ فِيهِ الشَّرِكَةُ. . فَلاَ تَنْعَقِدُ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَ
الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، فَإِِذَا
عَقَدَ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ الْمُفَاوَضَةَ صَارَتْ عِنَانًا
عِنْدَهُمَا، لِفَوَاتِ شَرْطِ الْمُفَاوَضَةِ وَوُجُودِ شَرْطِ
الْعِنَانِ، وَكَذَلِكَ كُل مَا فَاتَ مِنْ شَرَائِطِ الْمُفَاوَضَةِ
__________
(1) درر الحكام 1 / 18، 19 مادة (3) ، وأشباه ابن نجيم ص 270، وأشباه
السيوطي ص 184، والمنثور 2 / 371، وإعلام الموقعين 3 / 95، والقواعد لابن
رجب ص 49.
(2) الأشباه لابن نجيم ص 207، وابن عابدين 4 / 246، وانظر درر الحكام 1 /
18، 19، شرح المادة (3) .
(12/61)
يُجْعَل عِنَانًا إِِذَا أَمْكَنَ،
تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِمَا بِقَدْرِ الإِِْمْكَانِ. (1)
وَفِي الاِخْتِيَارِ أَيْضًا: عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ، إِنْ شُرِطَ فِيهِ
الرِّبْحُ لِلْمُضَارِبِ فَهُوَ قَرْضٌ؛ لأَِنَّ كُل رِبْحٍ لاَ يُمْلَكُ
إِلاَّ بِمِلْكِ رَأْسِ الْمَال، فَلَمَّا شُرِطَ لَهُ جَمِيعُ الرِّبْحِ
فَقَدْ مَلَّكَهُ رَأْسَ الْمَال، وَإِِنْ شُرِطَ الرِّبْحُ لِرَبِّ
الْمَال كَانَ إِبْضَاعًا، وَهَذَا مَعْنَاهُ عُرْفًا وَشَرْعًا. (2)
وَجَاءَ فِي مِنَحِ الْجَلِيل: مَنْ أَحَال عَلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ
عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَأَعْلَمَ الْمُحَال، صَحَّ عَقْدُ الْحَوَالَةِ،
فَإِِنْ لَمْ يُعْلِمْهُ لَمْ تَصِحَّ، وَتَنْقَلِبُ حَمَالَةً أَيْ
كَفَالَةً. (3)
وَفِي أَشْبَاهِ السُّيُوطِيِّ: هَل الْعِبْرَةُ بِصِيَغِ الْعُقُودِ أَوْ
مَعَانِيهَا؟ خِلاَفٌ. التَّرْجِيحُ مُخْتَلِفٌ فِي الْفُرُوعِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: إِِذَا قَال: أَنْتَ حُرٌّ غَدًا عَلَى أَلْفٍ. إِنْ
قُلْنَا: بَيْعٌ فَسَدَ وَلاَ تَجِبُ قِيمَةُ الْعَبْدِ، وَإِِنْ قُلْنَا:
عِتْقٌ بِعِوَضٍ، صَحَّ وَوَجَبَ الْمُسَمَّى. وَمِنْهَا: لَوْ بَاعَ
الْمَبِيعَ لِلْبَائِعِ قَبْل قَبْضِهِ بِمِثْل الثَّمَنِ الأَْوَّل،
فَهُوَ إِقَالَةٌ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، وَخَرَّجَهُ السُّبْكِيُّ عَلَى
الْقَاعِدَةِ، وَالتَّخْرِيجُ لِلْقَاضِي حُسَيْنٍ قَال: إِنِ اعْتَبَرْنَا
اللَّفْظَ لَمْ يَصِحَّ، وَإِِنْ
__________
(1) الاختيار 3 / 12 - 13.
(2) الاختيار 3 / 20، والمغني 5 / 35.
(3) منح الجليل 3 / 232.
(12/61)
اعْتَبَرْنَا الْمَعْنَى فَإِِقَالَةٌ. (1)
ثَالِثًا - تَصْحِيحُ الْعِبَادَةِ إِِذَا طَرَأَ عَلَيْهَا مَا
يُفْسِدُهَا:
15 - مِنَ الأُْمُورِ الَّتِي تَطْرَأُ عَلَى الْعِبَادَةِ مَا لاَ
يُمْكِنُ إِزَالَتُهُ أَوْ تَلاَفِيهِ كَالأَْكْل وَالشُّرْبِ وَالْكَلاَمِ
وَالْحَدَثِ وَالْجِمَاعِ، فَهَذِهِ الأُْمُورُ لاَ يُمْكِنُ تَلاَفِيهَا،
وَهِيَ تُعْتَبَرُ مِنْ مُفْسِدَاتِ الْعِبَادَةِ فِي الْجُمْلَةِ. هَذَا
مَعَ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي التَّفْصِيل فِيهَا بَيْنَ الْقَلِيل
وَالْكَثِيرِ، وَبَيْنَ الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ وَالْجَهْل، وَمَا هُوَ
مَعْفُوٌّ عَنْهُ أَوْ غَيْرُ مَعْفُوٍّ عَنْهُ.
فَإِِذَا طَرَأَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْعِبَادَةِ فَفَسَدَتْ فِعْلاً
- عِنْدَ مَنْ يَعْتَبِرُ ذَلِكَ مُفْسِدًا - فَلاَ مَجَال لِتَصْحِيحِ
هَذِهِ الْعِبَادَةِ، وَيَلْزَمُ إِعَادَتُهَا إِنِ اتَّسَعَ وَقْتُهَا،
أَوْ قَضَاؤُهَا إِنْ خَرَجَ الْوَقْتُ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (إِعَادَةٌ - قَضَاءٌ) .
وَالْكَلاَمُ هُنَا إِنَّمَا هُوَ فِيمَا يَطْرَأُ عَلَى الْعِبَادَةِ
مِمَّا يُعْتَبَرُ مِنَ الْمُفْسِدَاتِ مَعَ إِمْكَانِ إِزَالَةِ
الْمُفْسِدِ أَوْ تَلاَفِيهِ لِتَصِحَّ الْعِبَادَةُ، مِثْل طُرُوءِ
النَّجَاسَةِ أَوْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ وَمَا شَابَهُ ذَلِكَ.
وَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى: أَنَّهُ إِِذَا طَرَأَ
عَلَى الْعِبَادَةِ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُفْسِدَهَا لَوِ اسْتَمَرَّ
وَأَمْكَنَ تَلاَفِيهِ وَإِِزَالَتُهُ وَجَبَ فِعْل ذَلِكَ لِتَصْحِيحِ
الْعِبَادَةِ.
__________
(1) الأشباه للسيوطي ص 183 - 184، 185 ط عيسى الحلبي.
(12/62)
وَنَظَرًا لِتَعَذُّرِ حَصْرِ مِثْل هَذِهِ
الْمَسَائِل لِكَثْرَةِ فُرُوعِهَا فِي أَبْوَابِ الْعِبَادَةِ
الْمُخْتَلِفَةِ، فَيُكْتَفَى بِذِكْرِ بَعْضِ الأَْمْثِلَةِ الَّتِي
تُوَضِّحُ ذَلِكَ:
16 - مَنِ اجْتَهَدَ فِي مَعْرِفَةِ الْقِبْلَةِ، وَتَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ
أَثْنَاءَ الصَّلاَةِ اسْتَدَارَ إِِلَى الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي
تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهَا، وَبَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ
صَلاَتِهِ.
وَكَذَلِكَ إِِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ، وَبَانَ لَهُ يَقِينُ الْخَطَأِ
وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ، بِمُشَاهَدَةٍ أَوْ خَبَرٍ عَنْ يَقِينٍ فَإِِنَّهُ
يَسْتَدِيرُ إِِلَى جِهَةِ الصَّوَابِ وَيَبْنِي عَلَى مَا مَضَى.
وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ أَنَّ أَهْل قُبَاءَ لَمَّا بَلَغَهُمْ نَسْخُ
الْقِبْلَةِ وَهُمْ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ اسْتَدَارُوا إِلَيْهَا،
وَاسْتَحْسَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْل أَهْل
قُبَاءَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالإِِْعَادَةِ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (اسْتِقْبَالٌ - قِبْلَةٌ - صَلاَةٌ) .
17 - مَنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ يَابِسَةٌ - وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ
- فَأَزَالَهَا سَرِيعًا صَحَّتْ صَلاَتُهُ، لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: بَيْنَمَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ، إِذْ خَلَعَ
نَعْلَيْهِ
__________
(1) الاختيار 1 / 47، وابن عابدين 1 / 291، وجواهر الإكليل 1 / 45، وأسنى
المطالب 1 / 139، والمغني 1 / 445. وحديث: " نسخ القبلة " أخرجه البخاري
(فتح الباري 1 / 506 - ط السلفية) ومسلم (1 / 375 - ط عيسى الحلبي) من حديث
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(12/62)
فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ، فَلَمَّا
رَأَى الْقَوْمُ ذَلِكَ أَلْقَوْا نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا قَضَى رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاَتَهُ قَال: مَا حَمَلَكُمْ
عَلَى إِلْقَاءِ نِعَالِكُمْ؟ . قَالُوا: رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ
نَعْلَيْكَ فَأَلْقَيْنَا نِعَالَنَا. فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِنَّ جِبْرِيل أَتَانِي، فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا
قَذَرًا. (1)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (نَجَاسَةٌ - صَلاَةٌ) .
18 - مَنْ انْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ - بِأَنْ
أَطَارَتِ الرِّيحُ سُتْرَتَهُ فَانْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ - فَإِِنْ
أَعَادَهَا سَرِيعًا صَحَّتْ صَلاَتُهُ. (2)
وَلَوْ صَلَّى عُرْيَانًا لِعَدَمِ وُجُودِ سُتْرَةٍ، ثُمَّ وَجَدَ
سُتْرَةً قَرِيبَةً مِنْهُ سَتَرَ بِهَا مَا وَجَبَ سَتْرُهُ، وَبَنَى
عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلاَتِهِ، قِيَاسًا عَلَى أَهْل قُبَاءَ لَمَّا
عَلِمُوا بِتَحْوِيل الْقِبْلَةِ اسْتَدَارُوا إِلَيْهَا وَأَتَمُّوا
صَلاَتَهُمْ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (عَوْرَةٌ - صَلاَةٌ) .
19 - إِنْ خَفَّ فِي الصَّلاَةِ مَعْذُورٌ بِعُذْرٍ مُسَوِّغٍ
لِلاِسْتِنَادِ أَوِ الْجُلُوسِ أَوِ الاِضْطِجَاعِ انْتَقَل لِلأَْعْلَى،
كَمُسْتَنِدٍ قَدَرَ عَلَى الاِسْتِقْلاَل،
__________
(1) البدائع 1 / 221، والدسوقي 1 / 70، والمهذب 1 / 94، وشرح منتهى
الإرادات 1 / 153. وحديث أبي سعيد الخدري: " إن جبريل أتاني فأخبرني. . . "
أخرجه أبو داود (1 / 426 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 260 - 4
دائرة المعارف العثمانية) وصححه.
(2) ابن عابدين 1 / 273، والبدائع 1 / 239، والدسوقي 1 / 22، والمهذب 1 /
73، 94، وشرح منتهى الإرادات 1 / 143 - 144، 146.
(12/63)
وَجَالِسٍ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ
انْتَقَل وُجُوبًا، فَإِِنْ تَرَكَهُ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (عُذْرٌ - صَلاَةٌ) .
20 - مَنْ عَلِمَ فِي أَثْنَاءِ طَوَافِهِ بِنَجَسٍ فِي بَدَنِهِ أَوْ
ثَوْبِهِ طَرَحَهُ أَوْ غَسَلَهُمَا، وَبَنَى عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ
طَوَافِهِ إِنْ لَمْ يُطِل، وَإِِلاَّ بَطَل طَوَافُهُ لِعَدَمِ
الْمُوَالاَةِ. (2)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (طَوَافٌ) .
21 - هَذَا، وَمِنْ تَصْحِيحِ الْعِبَادَةِ مَا يَدْخُل تَحْتَ قَاعِدَةِ:
بُطْلاَنُ الْخُصُوصِ لاَ يُبْطِل الْعُمُومَ.
جَاءَ فِي الْمَنْثُورِ: لَوْ تَحَرَّمَ بِالْفَرْضِ مُنْفَرِدًا
فَحَضَرَتْ جَمَاعَةٌ، قَال الشَّافِعِيُّ: أَحْبَبْتُ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ
رَكْعَتَيْنِ وَتَكُونُ نَافِلَةً، وَيُصَلِّي الْفَرْضَ، فَصَحَّحَ
النَّفَل مَعَ إِبْطَال الْفَرْضِ.
وَإِِذَا تَحَرَّمَ بِالصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ قَبْل وَقْتِهَا ظَانًّا
دُخُولَهُ بَطَل خُصُوصُ كَوْنِهَا ظُهْرًا، وَيَبْقَى عُمُومُ كَوْنِهَا
نَفْلاً فِي الأَْصَحِّ.
وَإِِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْل أَشْهُرِهِ فَفِي انْعِقَادِهِ
عُمْرَةً قَوْلاَنِ أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ. (3) وَحَكَاهُ فِي الْمُهَذَّبِ
قَوْلاً وَاحِدًا، قَال: لأَِنَّهَا عِبَادَةٌ مُؤَقَّتَةٌ، فَإِِذَا
عَقَدَهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا انْعَقَدَ غَيْرُهَا مِنْ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 511، وجواهر الإكليل 1 / 56، والمنثور في القواعد 1 /
117، وشرح منتهى الإرادات 1 / 272.
(2) جواهر الإكليل 1 / 174.
(3) المنثور في القواعد 1 / 113، 114، 115.
(12/63)
جِنْسِهَا، كَصَلاَةِ الظُّهْرِ إِِذَا
أَحْرَمَ بِهَا قَبْل الزَّوَال، فَإِِنَّهُ يَنْعَقِدُ إِحْرَامُهُ
بِالنَّفْل. (1)
22 - وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ تَكَادُ تَكُونُ مُطَّرِدَةً فِي بَقِيَّةِ
الْمَذَاهِبِ فِي الْجُمْلَةِ، فَفِي شَرْحِ منتهى الإرادات: مَنْ أَتَى
بِمَا يُفْسِدُ الْفَرْضَ فِي الصَّلاَةِ - كَتَرْكِ الْقِيَامِ بِلاَ
عُذْرٍ - انْقَلَبَ فَرْضُهُ نَفْلاً؛ لأَِنَّهُ كَقَطْعِ نِيَّةِ
الْفَرْضِيَّةِ، فَتَبْقَى نِيَّةُ الصَّلاَةِ. وَيَنْقَلِبُ نَفْلاً
كَذَلِكَ مَنْ أَحْرَمَ بِفَرْضٍ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ لَمْ
يَدْخُل وَقْتُهُ؛ لأَِنَّ الْفَرْضَ لَمْ يَصِحَّ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا
يُبْطِل النَّفَل. (2)
23 - وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ قَبِيل مَا
ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّهُ: لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ بُطْلاَنِ الْوَصْفِ
بُطْلاَنُ الأَْصْل.
جَاءَ فِي الْهِدَايَةِ: مَنْ صَلَّى الْعَصْرَ وَهُوَ ذَاكِرٌ أَنَّهُ
لَمْ يُصَل الظُّهْرَ فَهِيَ فَاسِدَةٌ، إِلاَّ إِِذَا كَانَ فِي آخِرِ
الْوَقْتِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ التَّرْتِيبِ.
وَإِِذَا فَسَدَتِ الْفَرْضِيَّةُ لاَ يَبْطُل أَصْل الصَّلاَةِ عِنْدَ
أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى؛ لأَِنَّ
التَّحْرِيمَةَ عُقِدَتْ لأَِصْل الصَّلاَةِ بِوَصْفِ الْفَرْضِيَّةِ،
فَلَمْ يَكُنْ مِنْ ضَرُورَةِ بُطْلاَنِ الْوَصْفِ بُطْلاَنُ الأَْصْل (3)
.
__________
(1) المهذب 1 / 207.
(2) شرح منتهى الإرادات 1 / 169.
(3) الهداية 1 / 73.
(12/64)
وَقَال الْكَاسَانِيُّ فِي بَابِ
الزَّكَاةِ: حُكْمُ الْمُعَجَّل مِنَ الزَّكَاةِ، إِِذَا لَمْ يَقَعْ
زَكَاةً أَنَّهُ إِنْ وَصَل إِِلَى يَدِ الْفَقِيرِ يَكُونُ تَطَوُّعًا،
سَوَاءٌ وَصَل إِِلَى يَدِهِ مِنْ يَدِ رَبِّ الْمَال، أَوْ مِنْ يَدِ
الإِِْمَامِ، أَوْ نَائِبِهِ وَهُوَ السَّاعِي؛ لأَِنَّهُ حَصَل أَصْل
الْقُرْبَةِ، وَصَدَقَةُ التَّطَوُّعِ لاَ يُحْتَمَل الرُّجُوعُ فِيهَا
بَعْدَ وُصُولِهَا إِِلَى يَدِ الْفَقِيرِ. (1)
رَابِعًا - تَصْحِيحُ الْمَسَائِل فِي الْمِيرَاثِ:
24 - تَصْحِيحُ مَسَائِل الْفَرَائِضِ: أَنْ تُؤْخَذَ السِّهَامُ مِنْ
أَقَل عَدَدٍ يُمْكِنُ عَلَى وَجْهٍ لاَ يَقَعُ الْكَسْرُ عَلَى وَاحِدٍ
مِنَ الْوَرَثَةِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِدُونِ الضَّرْبِ - كَمَا فِي
صُورَةِ الاِسْتِقَامَةِ - أَوْ بَعْدَ ضَرْبِ بَعْضِ الرُّءُوسِ - كَمَا
فِي صُورَةِ الْمُوَافَقَةِ - أَوْ فِي كُل الرُّءُوسِ - كَمَا فِي صُورَةِ
الْمُبَايَنَةِ. (2)
مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي تَصْحِيحِ الْمَسَائِل الْفَرْضِيَّةِ:
25 - لِتَصْحِيحِ الْمَسَائِل الْفَرْضِيَّةِ قَوَاعِدُ يُكْتَفَى مِنْهَا
بِمَا أَوْرَدَهُ عَنْهَا شَارِحُ السِّرَاجِيَّةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ،
قَال: يَحْتَاجُ ذَلِكَ إِِلَى سَبْعَةِ أُصُولٍ:
__________
(1) البدائع 2 / 50 - 52.
(2) شرح السراجية للشريف الجرجاني 213 ط الكردي بمصر وحاشية الفناري عليه.
(12/64)
ثَلاَثَةٍ مِنْهَا بَيْنَ السِّهَامِ
الْمَأْخُوذَةِ مِنْ مَخَارِجِهَا (1) وَبَيْنَ الرُّءُوسِ مِنَ
الْوَرَثَةِ. وَأَرْبَعَةٍ مِنْهَا بَيْنَ الرُّءُوسِ وَالرُّءُوسِ.
أَمَّا الأُْصُول الثَّلاَثَةُ:
26 - فَأَحَدُهَا: إِنْ كَانَتْ سِهَامُ كُل فَرِيقٍ مِنَ الْوَرَثَةِ
مُنْقَسِمَةً عَلَيْهِمْ بِلاَ كَسْرٍ، فَلاَ حَاجَةَ إِِلَى الضَّرْبِ،
كَأَبَوَيْنِ وَبِنْتَيْنِ. فَإِِنَّ الْمَسْأَلَةَ حِينَئِذٍ مِنْ
سِتَّةٍ، فَلِكُلٍّ مِنَ الأَْبَوَيْنِ سُدُسُهَا وَهُوَ وَاحِدٌ،
وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ أَعْنِي أَرْبَعَةً، فَلِكُل وَاحِدَةٍ
مِنْهُمَا اثْنَانِ، فَاسْتَقَامَتِ السِّهَامُ عَلَى رُءُوسِ الْوَرَثَةِ
بِلاَ انْكِسَارٍ، فَلاَ يَحْتَاجُ إِِلَى التَّصْحِيحِ، إِذِ التَّصْحِيحُ
إِنَّمَا يَكُونُ إِِذَا انْكَسَرَتِ السِّهَامُ بِقِسْمَتِهَا عَلَى
الرُّءُوسِ.
27 - وَالثَّانِي مِنَ الأُْصُول الثَّلاَثَةِ:
أَنْ يَكُونَ الْكَسْرُ عَلَى طَائِفَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَكِنْ بَيْنَ
سِهَامِهِمْ وَرُءُوسِهِمْ مُوَافَقَةً بِكَسْرٍ مِنَ الْكُسُورِ،
فَيُضْرَبُ وَفْقَ عَدَدِ رُءُوسِهِمْ - أَيْ عَدَدِ رُءُوسِ مَنِ
انْكَسَرَتْ عَلَيْهِمُ السِّهَامُ، وَهُمْ تِلْكَ الطَّائِفَةُ
الْوَاحِدَةُ - فِي أَصْل الْمَسْأَلَةِ إِنْ لَمْ تَكُنْ عَائِلَةً، وَفِي
أَصْلِهَا وَعَوْلِهَا مَعًا إِنْ كَانَتْ عَائِلَةً، كَأَبَوَيْنِ
وَعَشْرِ بَنَاتٍ، أَوْ زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ وَسِتِّ بَنَاتٍ.
فَالأَْوَّل: مِثَال مَا لَيْسَ فِيهَا عَوْلٌ. إِذْ أَصْل
__________
(1) ورد بحاشية ابن عابدين 5 / 512: المخارج: جمع مخرج وهو أقل عدد يمكن أن
يؤخذ منه كل فرض بانفراده صحيحا.
(12/65)
الْمَسْأَلَةِ مِنْ سِتَّةٍ. السُّدُسَانِ
وَهُمَا اثْنَانِ لِلأَْبَوَيْنِ وَيَسْتَقِيمَانِ عَلَيْهِمَا،
وَالثُّلُثَانِ وَهُمَا أَرْبَعَةٌ لِلْبَنَاتِ الْعَشَرَةِ وَلاَ
يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِنَّ، لَكِنْ بَيْنَ الأَْرْبَعَةِ وَالْعَشَرَةِ
مُوَافَقَةٌ بِالنِّصْفِ، فَإِِنَّ الْعَدَدَ الْعَادَّ لَهُمَا هُوَ
الاِثْنَانِ، فَرَدَدْنَا عَدَدَ الرُّءُوسِ أَعْنِي الْعَشَرَةَ إِِلَى
نِصْفِهَا وَهُوَ خَمْسَةٌ، وَضَرَبْنَاهَا فِي السِّتَّةِ الَّتِي هِيَ
أَصْل الْمَسْأَلَةِ فَصَارَ الْحَاصِل ثَلاَثِينَ، وَمِنْهُ تَصِحُّ
الْمَسْأَلَةُ.
إِذْ قَدْ كَانَ لِلأَْبَوَيْنِ مِنْ أَصْل الْمَسْأَلَةِ سَهْمَانِ،
وَقَدْ ضَرَبْنَاهُمَا فِي الْمَضْرُوبِ الَّذِي هُوَ خَمْسَةٌ فَصَارَ
عَشْرَةً، لِكُلٍّ مِنْهُمَا خَمْسَةٌ، وَكَانَ لِلْبَنَاتِ الْعَشْرِ،
مِنْهُ أَرْبَعَةٌ، وَقَدْ ضَرَبْنَاهَا أَيْضًا فِي خَمْسَةٍ فَصَارَ
عِشْرِينَ، لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ اثْنَانِ.
وَالثَّانِي: مِثَال مَا فِيهَا عَوْلٌ. فَإِِنَّ أَصْلَهَا مِنِ اثْنَيْ
عَشَرَ لاِجْتِمَاعِ الرُّبُعِ وَالسُّدُسَيْنِ وَالثُّلُثَيْنِ.
فَلِلزَّوْجِ رُبُعُهَا وَهُوَ ثَلاَثَةٌ، وَلِلأَْبَوَيْنِ سُدُسَاهَا
وَهُمَا أَرْبَعَةٌ، وَلِلْبَنَاتِ السِّتِّ ثُلُثَاهَا وَهُمَا
ثَمَانِيَةٌ. فَقَدْ عَالَتِ الْمَسْأَلَةُ إِِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ،
وَانْكَسَرَتْ سِهَامُ الْبَنَاتِ - أَعْنِي الثَّمَانِيَةَ - عَلَى عَدَدِ
رُءُوسِهِنَّ فَقَطْ. لَكِنْ بَيْنَ عَدَدِ السِّهَامِ وَعَدَدِ الرُّءُوسِ
تَوَافُقٌ بِالنِّصْفِ، فَرَدَدْنَا عَدَدَ رُءُوسِهِنَّ إِِلَى نِصْفِهِ
وَهُوَ ثَلاَثَةٌ، ثُمَّ ضَرَبْنَاهَا فِي أَصْل الْمَسْأَلَةِ مَعَ
عَوْلِهَا وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَحَصَل خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ،
فَاسْتَقَامَتْ مِنْهَا الْمَسْأَلَةُ.
إِذْ قَدْ كَانَ لِلزَّوْجِ مِنْ أَصْل الْمَسْأَلَةِ ثَلاَثَةٌ،
(12/65)
وَقَدْ ضَرَبْنَاهَا فِي الْمَضْرُوبِ
الَّذِي هُوَ ثَلاَثَةٌ فَصَارَ تِسْعَةً فَهِيَ لَهُ، وَكَانَ
لِلأَْبَوَيْنِ أَرْبَعَةٌ وَقَدْ ضَرَبْنَاهَا فِي ثَلاَثَةٍ فَصَارَ
اثْنَيْ عَشَرَ فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا سِتَّةٌ، وَكَانَ لِلْبَنَاتِ
ثَمَانِيَةٌ فَضَرَبْنَاهَا فِي ثَلاَثَةٍ فَحَصَل أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ،
فَلِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَرْبَعَةٌ.
28 - وَالثَّالِثُ مِنَ الأُْصُول الثَّلاَثَةِ:
أَنْ تَنْكَسِرَ السِّهَامُ أَيْضًا عَلَى طَائِفَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَطْ،
وَلاَ يَكُونُ بَيْنَ سِهَامِهِمْ وَعَدَدِ رُءُوسِهِمْ مُوَافَقَةً، بَل
مُبَايَنَةً، فَيُضْرَبُ حِينَئِذٍ عَدَدُ رُءُوسِ مَنِ انْكَسَرَتْ
عَلَيْهِمُ السِّهَامُ فِي أَصْل الْمَسْأَلَةِ إِنْ لَمْ تَكُنْ
عَائِلَةً، وَفِي أَصْلِهَا مَعَ عَوْلِهَا إِنْ كَانَتْ عَائِلَةً،
كَزَوْجٍ وَخَمْسِ أَخَوَاتٍ لأَِبٍ وَأُمٍّ، فَأَصْل الْمَسْأَلَةِ مِنْ
سِتَّةٍ: النِّصْفُ وَهُوَ ثَلاَثَةٌ لِلزَّوْجِ، وَالثُّلُثَانِ وَهُوَ
أَرْبَعَةٌ لِلأَْخَوَاتِ، فَقَدْ عَالَتْ إِِلَى سَبْعَةٍ، وَانْكَسَرَتْ
سِهَامُ الأَْخَوَاتِ فَقَطْ عَلَيْهِنَّ، وَبَيْنَ عَدَدِ سِهَامِهِنَّ
وَعَدَدِ رُءُوسِهِنَّ مُبَايَنَةً، فَضَرَبْنَا عَدَدَ رُءُوسِهِنَّ فِي
أَصْل الْمَسْأَلَةِ مَعَ عَوْلِهَا وَهُوَ سَبْعَةٌ، فَصَارَ الْحَاصِل
خَمْسَةً وَثَلاَثِينَ، وَمِنْهُ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ.
وَقَدْ كَانَ لِلزَّوْجِ ثَلاَثَةٌ، وَقَدْ ضَرَبْنَاهَا فِي الْمَضْرُوبِ
وَهُوَ خَمْسَةٌ فَصَارَ خَمْسَةَ عَشَرَ فَهِيَ لَهُ، وَكَانَ
لِلأَْخَوَاتِ الْخَمْسِ أَرْبَعَةٌ، وَقَدْ ضَرَبْنَاهَا أَيْضًا فِي
خَمْسَةٍ فَصَارَ عِشْرِينَ، فَلِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَرْبَعَةٌ.
(12/66)
وَمِثَال غَيْرِ الْمَسَائِل الْعَائِلَةِ:
زَوْجٌ وَجَدَّةٌ وَثَلاَثُ أَخَوَاتٍ لأُِمٍّ. فَالْمَسْأَلَةُ مِنْ
سِتَّةٍ، لِلزَّوْجِ مِنْهَا نِصْفُهَا وَهُوَ ثَلاَثَةٌ، وَلِلْجَدَّةِ
سُدُسُهَا وَهُوَ وَاحِدٌ، وَلِلأَْخَوَاتِ لأُِمٍّ ثُلُثُهَا وَهُوَ
اثْنَانِ، وَلاَ يَسْتَقِيمَانِ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِنَّ، بَل
بَيْنَهُمَا تَبَايُنُ، فَضَرَبْنَا عَدَدَ رُءُوسِ الأَْخَوَاتِ فِي أَصْل
الْمَسْأَلَةِ فَصَارَ الْحَاصِل ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، فَتَصِحُّ
الْمَسْأَلَةُ مِنْهَا.
وَقَدْ كَانَ لِلزَّوْجِ ثَلاَثَةٌ فَضَرَبْنَاهَا فِي الْمَضْرُوبِ
الَّذِي هُوَ ثَلاَثَةٌ فَصَارَ تِسْعَةً، وَضَرَبْنَا نَصِيبَ الْجَدَّةِ
فِي الْمَضْرُوبِ أَيْضًا فَكَانَ ثَلاَثَةً، وَضَرَبْنَا نَصِيبَ
الأَْخَوَاتِ لأُِمٍّ فِي الْمَضْرُوبِ فَصَارَ سِتَّةً، فَأَعْطَيْنَا كُل
وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ اثْنَيْنِ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ مَتَى كَانَتِ الطَّائِفَةُ
الْمُنْكَسِرَةُ عَلَيْهِمْ ذُكُورًا وَإِِنَاثًا - مِمَّنْ يَكُونُ
لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ، كَالْبَنَاتِ وَبَنَاتِ الاِبْنِ
الأَْخَوَاتِ لأَِبٍ وَأُمٍّ أَوْ لأَِبٍ - يَنْبَغِي أَنْ يُضَعَّفَ
عَدَدُ الذُّكُورِ، وَيُضَمَّ إِِلَى عَدَدِ الإِِْنَاثِ، ثُمَّ تَصِحُّ
الْمَسْأَلَةُ عَلَى هَذَا الاِعْتِبَارِ، كَزَوْجٍ وَابْنٍ وَثَلاَثِ
بَنَاتٍ. أَصْل الْمَسْأَلَةِ مِنْ أَرْبَعَةٍ: لِلزَّوْجِ سَهْمٌ عَلَيْهِ
يَسْتَقِيمُ، وَالْبَاقِي ثَلاَثَةٌ، لِلأَْوْلاَدِ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ
الأُْنْثَيَيْنِ، فَيُجْعَل عَدَدُ رُءُوسِهِمْ خَمْسَةً بِأَنْ يُنَزَّل
الاِبْنُ مَنْزِلَةَ بِنْتَيْنِ، وَلاَ تَسْتَقِيمُ الثَّلاَثَةُ عَلَى
الْخَمْسَةِ، فَتُضْرَبُ الْخَمْسَةُ فِي أَصْل الْمَسْأَلَةِ، فَتَبْلُغُ
عِشْرِينَ، وَمِنْهَا تَصِحُّ.
(12/66)
وَأَمَّا الأُْصُول الأَْرْبَعَةُ الَّتِي
بَيْنَ الرُّءُوسِ وَالرُّءُوسِ:
29 - فَأَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ انْكِسَارُ السِّهَامِ عَلَى طَائِفَتَيْنِ
مِنَ الْوَرَثَةِ أَوْ أَكْثَرَ، وَلَكِنْ بَيْنَ أَعْدَادِ رُءُوسِ مَنِ
انْكَسَرَ عَلَيْهِمْ مُمَاثَلَةٌ، فَالْحُكْمُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَنْ
يُضْرَبَ أَحَدُ الأَْعْدَادِ الْمُمَاثَلَةِ فِي أَصْل الْمَسْأَلَةِ،
فَيَحْصُل مَا تَصِحُّ بِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى جَمِيعِ الْفِرَقِ. مِثْل:
سِتُّ بَنَاتٍ، وَثَلاَثُ جَدَّاتٍ: أُمُّ أُمِّ أُمٍّ، وَأُمُّ أُمِّ
أَبٍ، وَأُمُّ أَبِ أَبٍ مَثَلاً عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُوَرِّثُ أَكْثَرَ
مِنْ جَدَّتَيْنِ، وَثَلاَثَةِ أَعْمَامٍ. الْمَسْأَلَةُ مِنْ سِتَّةٍ:
لِلْبَنَاتِ السِّتِّ الثُّلُثَانِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ، وَلاَ يَسْتَقِيمُ
عَلَيْهِنَّ، لَكِنْ بَيْنَ الأَْرْبَعَةِ وَعَدَدِ رُءُوسِهِنَّ
مُوَافَقَةٌ بِالنِّصْفِ، فَأَخَذْنَا نِصْفَ عَدَدِ رُءُوسِهِنَّ وَهُوَ
ثَلاَثَةٌ. وَلِلْجَدَّاتِ الثَّلاَثِ السُّدُسُ وَهُوَ وَاحِدٌ، فَلاَ
يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِنَّ وَلاَ مُوَافَقَةَ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَعَدَدِ
رُءُوسِهِنَّ، فَأَخَذْنَا جَمِيعَ عَدَدِ رُءُوسِهِنَّ وَهُوَ أَيْضًا
ثَلاَثَةٌ. وَلِلأَْعْمَامِ الثَّلاَثَةِ الْبَاقِي وَهُوَ وَاحِدٌ
أَيْضًا، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدَدِ رُءُوسِهِمْ مُبَايَنَةٌ، فَأَخَذْنَا
جَمِيعَ عَدَدِ رُءُوسِهِمْ. ثُمَّ نَسَبْنَا هَذِهِ الأَْعْدَادَ
الْمَأْخُوذَةَ بَعْضَهَا إِِلَى بَعْضٍ فَوَجَدْنَاهَا مُتَمَاثِلَةً،
فَضَرَبْنَا أَحَدَهَا وَهُوَ ثَلاَثَةٌ فِي أَصْل الْمَسْأَلَةِ - أَعْنِي
السِّتَّةَ - فَصَارَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، فَمِنْهَا تَسْتَقِيمُ
الْمَسْأَلَةُ. وَكَانَ لِلْبَنَاتِ أَرْبَعَةُ سِهَامٍ ضَرَبْنَاهَا فِي
الْمَضْرُوبِ الَّذِي هُوَ ثَلاَثَةٌ، فَصَارَ اثْنَيْ عَشَرَ، فَلِكُل
وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ اثْنَانِ. وَلِلْجَدَّاتِ سَهْمٌ وَاحِدٌ ضَرَبْنَاهُ
أَيْضًا فِي ثَلاَثَةٍ فَكَانَ ثَلاَثَةً،
(12/67)
فَلِكُل وَاحِدَةٍ وَاحِدٌ.
وَلِلأَْعْمَامِ وَاحِدٌ أَيْضًا ضَرَبْنَاهُ أَيْضًا فِي الثَّلاَثَةِ،
وَأَعْطَيْنَا كُل وَاحِدٍ سَهْمًا وَاحِدًا.
وَلَوْ فَرَضْنَا فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ عَمًّا وَاحِدًا بَدَل
الأَْعْمَامِ الثَّلاَثَةِ، كَانَ الاِنْكِسَارُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ
فَقَطْ، وَكَانَ وَفْقُ عَدَدِ رُءُوسِ الْبَنَاتِ مُمَاثِلاً لِعَدَدِ
رُءُوسِ الْجَدَّاتِ، إِذْ كُلٌّ مِنْهُمَا ثَلاَثَةٌ، فَيُضْرَبُ
الثَّلاَثَةُ فِي أَصْل الْمَسْأَلَةِ، فَيَصِيرُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ،
وَتَصِحُّ السِّهَامُ عَلَى الْكُل كَمَا مَرَّ.
30 - وَالأَْصْل الثَّانِي مِنَ الأُْصُول الأَْرْبَعَةِ: أَنْ يَكُونَ
بَعْضُ الأَْعْدَادِ - أَيْ بَعْضُ أَعْدَادِ رُءُوسِ الْوَرَثَةِ
الْمُنْكَسِرَةِ عَلَيْهِمْ سِهَامُهُمْ مِنْ طَائِفَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ
- مُتَدَاخِلاً فِي الْبَعْضِ، فَالْحُكْمُ فِيهَا أَنْ يُضْرَبَ مَا هُوَ
أَكْثَرُ تِلْكَ الأَْعْدَادِ فِي أَصْل الْمَسْأَلَةِ، كَأَرْبَعِ
زَوْجَاتٍ وَثَلاَثِ جَدَّاتٍ وَاثْنَيْ عَشَرَ عَمًّا. فَأَصْل
الْمَسْأَلَةِ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ: لِلْجَدَّاتِ الثَّلاَثِ السُّدُسُ
وَهُوَ اثْنَانِ، فَلاَ يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِنَّ، وَبَيْنَ رُءُوسِهِنَّ
وَسِهَامِهِنَّ مُبَايَنَةٌ، فَأَخَذْنَا مَجْمُوعَ عَدَدِ رُءُوسِهِنَّ
وَهُوَ ثَلاَثَةٌ. وَلِلزَّوْجَاتِ الأَْرْبَعِ الرُّبُعُ وَهُوَ
ثَلاَثَةٌ، فَبَيْنَ عَدَدِ رُءُوسِهِنَّ وَعَدَدِ سِهَامِهِنَّ
مُبَايَنَةٌ، فَأَخَذْنَا عَدَدَ الرُّءُوسِ بِتَمَامِهِ. وَلِلأَْعْمَامِ
الاِثْنَيْ عَشَرَ الْبَاقِي وَهُوَ سَبْعَةٌ، فَلاَ يَسْتَقِيمُ
عَلَيْهِمْ بَل بَيْنَهُمَا تَبَايُنٌ، فَأَخَذْنَا عَدَدَ الرُّءُوسِ
بِأَسْرِهِ. فَنَجِدُ الثَّلاَثَةَ وَالأَْرْبَعَةَ مُتَدَاخِلَيْنِ فِي
الاِثْنَيْ عَشَرَ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ أَعْدَادِ الرُّءُوسِ،
فَضَرَبْنَاهُ فِي أَصْل الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ
(12/67)
أَيْضًا اثْنَا عَشَرَ فَصَارَ مِائَةً
وَأَرْبَعَةً وَأَرْبَعِينَ، فَتَصِحُّ مِنْهَا الْمَسْأَلَةُ.
وَقَدْ كَانَ لِلْجَدَّاتِ مِنْ أَصْل الْمَسْأَلَةِ اثْنَانِ،
ضَرَبْنَاهُمَا فِي الْمَضْرُوبِ - الَّذِي هُوَ اثْنَا عَشَرَ - فَصَارَ
أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، فَلِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَمَانِيَةٌ.
وَلِلزَّوْجَاتِ مِنْ أَصْلِهَا ثَلاَثَةٌ ضَرَبْنَاهَا فِي الْمَضْرُوبِ
الْمَذْكُورِ فَصَارَ سِتَّةً وَثَلاَثِينَ، فَلِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ
تِسْعَةٌ. وَلِلأَْعْمَامِ سَبْعَةٌ ضَرَبْنَاهَا فِي اثْنَيْ عَشَرَ
أَيْضًا فَحَصَل أَرْبَعَةٌ وَثَمَانُونَ، فَلِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ
سَبْعَةٌ.
وَلَوْ فَرَضْنَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ زَوْجَةً وَاحِدَةً بَدَل
الزَّوْجَاتِ الأَْرْبَعِ، كَانَ الاِنْكِسَارُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ
فَقَطْ، أَعْنِي الْجَدَّاتِ الثَّلاَثَ وَالأَْعْمَامَ الاِثْنَيْ عَشَرَ،
وَكَانَ عَدَدُ رُءُوسِ الْجَدَّاتِ مُتَدَاخِلاً فِي عَدَدِ رُءُوسِ
الأَْعْمَامِ، فَيُضْرَبُ أَكْثَرُ هَذَيْنِ الْعَدَدَيْنِ
الْمُتَدَاخِلَيْنِ، أَيِ الاِثْنَيْ عَشَرَ فِي أَصْل الْمَسْأَلَةِ،
فَيَحْصُل مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ، فَيُقْسَمُ عَلَى الْكُل
قِيَاسُ مَا سَبَقَ.
31 - وَالأَْصْل الثَّالِثُ مِنَ الأُْصُول الأَْرْبَعَةِ:
أَنْ يُوَافِقَ بَعْضُ أَعْدَادِ رُءُوسِ مَنِ انْكَسَرَتْ عَلَيْهِمْ
سِهَامُهُمْ مِنْ طَائِفَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ بَعْضًا. وَالْحُكْمُ فِي
هَذِهِ الصُّورَةِ أَنْ يُضْرَبَ وَفْقُ أَحَدِ أَعْدَادِ رُءُوسِهِمْ فِي
جَمِيعِ الْعَدَدِ الثَّانِي، ثُمَّ يُضْرَبُ جَمِيعُ مَا بَلَغَ فِي
وَفْقِ الْعَدَدِ الثَّالِثِ - إِنْ وَافَقَ ذَلِكَ الْمَبْلَغُ الْعَدَدَ
الثَّالِثَ - وَإِِنْ لَمْ يُوَافِقِ الْمَبْلَغَ الثَّالِثَ فَحِينَئِذٍ
يُضْرَبُ الْمَبْلَغُ فِي جَمِيعِ الْعَدَدِ الثَّالِثِ. ثُمَّ يُضْرَبُ
(12/68)
الْمَبْلَغُ الثَّانِي فِي الْعَدَدِ
الرَّابِعِ كَذَلِكَ، أَيْ فِي وَفْقِهِ إِنْ وَافَقَهُ الْمَبْلَغُ
الثَّانِي، أَوْ فِي جَمِيعِهِ إِنْ لَمْ يُوَافِقْهُ. ثُمَّ يُضْرَبُ
الْمَبْلَغُ الثَّالِثُ فِي أَصْل الْمَسْأَلَةِ، كَأَرْبَعِ زَوْجَاتٍ
وَثَمَانِي عَشْرَةَ بِنْتًا وَخَمْسَ عَشْرَةَ جَدَّةً وَسِتَّةِ
أَعْمَامٍ. أَصْل الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ: لِلزَّوْجَاتِ
الأَْرْبَعِ الثُّمُنُ وَهُوَ ثَلاَثَةٌ، فَلاَ يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِنَّ
وَبَيْنَ عَدَدِ سِهَامِهِنَّ وَعَدَدِ رُءُوسِهِنَّ مُبَايَنَةٌ،
فَحَفِظْنَا جَمِيعَ عَدَدِ رُءُوسِهِنَّ. وَلِلْبَنَاتِ الثَّمَانِيَ
عَشْرَةَ: الثُّلُثَانِ وَهُوَ سِتَّةَ عَشَرَ فَلاَ يَسْتَقِيمُ
عَلَيْهِنَّ، وَبَيْنَ رُءُوسِهِنَّ وَسِهَامِهِنَّ مُوَافَقَةٌ
بِالنِّصْفِ، فَأَخَذْنَا نِصْفَ عَدَدِ رُءُوسِهِنَّ وَهُوَ تِسْعَةٌ
وَحَفِظْنَاهُ. وَلِلْجَدَّاتِ الْخَمْسَ عَشْرَةَ السُّدُسُ وَهُوَ
أَرْبَعَةٌ فَلاَ يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِنَّ، وَبَيْنَ عَدَدِ رُءُوسِهِنَّ
وَعَدَدِ سِهَامِهِنَّ مُبَايَنَةٌ، فَحَفِظْنَا جَمِيعَ عَدَدِ
رُءُوسِهِنَّ. وَلِلأَْعْمَامِ السِّتَّةِ الْبَاقِي وَهُوَ وَاحِدٌ لاَ
يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِمْ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدَدِ رُءُوسِهِمْ
مُبَايَنَةٌ، فَحَفِظْنَا عَدَدَ رُءُوسِهِمْ. فَحَصَل لَنَا مِنْ
أَعْدَادِ الرُّءُوسِ الْمَحْفُوظَةِ: أَرْبَعَةٌ وَسِتَّةٌ وَتِسْعَةٌ
وَخَمْسَةَ عَشَرَ. وَالأَْرْبَعَةُ مُوَافِقَةٌ لِلسِّتَّةِ بِالنِّصْفِ
فَرَدَدْنَا إِحْدَاهُمَا إِِلَى نِصْفِهَا وَضَرَبْنَاهُ فِي الأُْخْرَى،
فَحَصَل اثْنَا عَشَرَ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلتِّسْعَةِ بِالثُّلُثِ،
فَضَرَبْنَا ثُلُثَ أَحَدِهِمَا فِي جَمِيعِ الآْخَرِ فَحَصَل سِتَّةٌ
وَثَلاَثُونَ، وَبَيْنَ هَذَا الْمَبْلَغِ الثَّانِي وَبَيْنَ خَمْسَةَ
عَشَرَ مُوَافَقَةٌ بِالثُّلُثِ أَيْضًا، فَضَرَبْنَا ثُلُثَ خَمْسَةَ
عَشَرَ - وَهُوَ خَمْسَةٌ - فِي سِتَّةٍ وَثَلاَثِينَ فَحَصَل مِائَةٌ
وَثَمَانُونَ، ثُمَّ ضَرَبْنَا هَذَا الْمَبْلَغَ
(12/68)
الثَّالِثُ فِي أَصْل الْمَسْأَلَةِ -
أَعْنِي أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ - فَحَصَل أَرْبَعَةُ آلاَفٍ
وَثَلاَثُمِائَةٍ وَعِشْرُونَ، وَمِنْهَا تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ.
كَانَ لِلزَّوْجَاتِ مِنْ أَصْل الْمَسْأَلَةِ ثَلاَثَةٌ، ضَرَبْنَاهَا فِي
الْمَضْرُوبِ - وَهُوَ مِائَةٌ وَثَمَانُونَ - فَحَصَل خَمْسُمِائَةٍ
وَأَرْبَعُونَ، فَلِكُلٍّ مِنَ الزَّوْجَاتِ الأَْرْبَعِ مِائَةٌ
وَخَمْسَةٌ وَثَلاَثُونَ. وَكَانَ لِلْبَنَاتِ الثَّمَانِيَ عَشْرَةَ
سِتَّةَ عَشَرَ، وَقَدْ ضَرَبْنَاهَا فِي ذَلِكَ الْمَضْرُوبِ، فَصَارَ
أَلْفَيْنِ وَثَمَانَمِائَةٍ وَثَمَانِينَ، لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ
مِائَةٌ وَسِتُّونَ. وَكَانَ لِلْجَدَّاتِ الْخَمْسَ عَشْرَةَ أَرْبَعَةٌ،
وَقَدْ ضَرَبْنَاهَا فِي الْمَضْرُوبِ الْمَذْكُورِ فَصَارَ سَبْعَمِائَةٍ
وَعِشْرِينَ، لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ.
وَكَانَ لِلأَْعْمَامِ السِّتَّةِ وَاحِدٌ ضَرَبْنَاهُ فِي الْمَضْرُوبِ،
فَكَانَ مِائَةً وَثَمَانِينَ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَلاَثُونَ.
وَإِِذَا جَمَعْتَ جَمِيعَ أَنْصِبَاءِ الْوَرَثَةِ بَلَغَ أَرْبَعَةَ
آلاَفٍ وَثَلاَثَمِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا.
32 - وَالأَْصْل الرَّابِعُ مِنَ الأُْصُول الأَْرْبَعَةِ:
أَنْ يَكُونَ أَعْدَادُ رُءُوسِ مَنِ انْكَسَرَ عَلَيْهِمْ سِهَامُهُمْ
مِنْ طَائِفَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مُتَبَايِنَةً لاَ يُوَافِقُ بَعْضُهَا
بَعْضًا. وَالْحُكْمُ فِيهَا: أَنْ يُضْرَبَ أَحَدُ الأَْعْدَادِ فِي
جَمِيعِ الثَّانِي، ثُمَّ يُضْرَبُ مَا بَلَغَ فِي جَمِيعِ الثَّالِثِ،
ثُمَّ مَا بَلَغَ فِي جَمِيعِ الرَّابِعِ، ثُمَّ يُضْرَبُ مَا اجْتَمَعَ
فِي أَصْل الْمَسْأَلَةِ. كَزَوْجَتَيْنِ وَسِتِّ جَدَّاتٍ وَعَشْرِ
بَنَاتٍ وَسَبْعَةِ أَعْمَامٍ. أَصْل الْمَسْأَلَةِ: أَرْبَعَةٌ
وَعِشْرُونَ. لِلزَّوْجَتَيْنِ الثُّمُنُ وَهُوَ
(12/69)
ثَلاَثَةٌ لاَ يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِمَا،
وَبَيْنَ عَدَدِ رُءُوسِهِمَا وَعَدَدِ سِهَامِهِمَا مُبَايَنَةٌ،
فَأَخَذْنَا عَدَدَ رُءُوسِهِمَا وَهُوَ اثْنَانِ. وَلِلْجَدَّاتِ
السِّتِّ: السُّدُسُ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ لاَ يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِنَّ،
وَبَيْنَ عَدَدِ رُءُوسِهِنَّ وَعَدَدِ سِهَامِهِنَّ مُوَافَقَةٌ
بِالنِّصْفِ، فَأَخَذْنَا نِصْفَ عَدَدِ رُءُوسِهِنَّ وَهُوَ ثَلاَثَةٌ،
وَلِلْبَنَاتِ الْعَشْرِ: الثُّلُثَانِ هُوَ سِتَّةَ عَشَرَ فَلاَ
يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِنَّ، وَبَيْنَ عَدَدِ رُءُوسِهِنَّ وَعَدَدِ
سِهَامِهِنَّ مُوَافَقَةٌ بِالنِّصْفِ، فَأَخَذْنَا نِصْفَ عَدَدِ
رُءُوسِهِنَّ وَهُوَ خَمْسَةٌ. وَلِلأَْعْمَامِ السَّبْعَةِ الْبَاقِي
وَهُوَ وَاحِدٌ، لاَ يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِمْ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدَدِ
رُءُوسِهِمْ مُبَايَنَةٌ فَأَخَذْنَا عَدَدَ رُءُوسِهِمْ وَهُوَ سَبْعَةٌ.
فَصَارَ مَعَنَا مِنَ الأَْعْدَادِ الْمَأْخُوذَةِ لِلرُّءُوسِ: اثْنَانِ
وَثَلاَثَةٌ وَخَمْسَةٌ وَسَبْعَةٌ. وَهَذِهِ كُلُّهَا أَعْدَادٌ
مُتَبَايِنَةٌ. فَضَرَبْنَا الاِثْنَيْنِ فِي الثَّلاَثَةِ فَحَصَل
سِتَّةٌ، ثُمَّ ضَرَبْنَا السِّتَّةَ فِي خَمْسَةٍ فَحَصَل ثَلاَثُونَ،
ثُمَّ ضَرَبْنَا هَذَا الْمَبْلَغَ فِي سَبْعَةٍ فَصَارَ مِائَتَيْنِ
وَعَشَرَةً، ثُمَّ ضَرَبْنَا هَذَا الْمَبْلَغَ فِي أَصْل الْمَسْأَلَةِ -
وَهُوَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ - فَصَارَ الْمَجْمُوعُ خَمْسَةَ آلاَفٍ
وَأَرْبَعِينَ. وَمِنْهَا تَسْتَقِيمُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى جَمِيعِ
الطَّوَائِفِ.
إِذْ كَانَ لِلزَّوْجَتَيْنِ مِنْ أَصْل الْمَسْأَلَةِ ثَلاَثَةٌ،
فَضَرَبْنَاهَا فِي الْمَضْرُوبِ - الَّذِي هُوَ مِائَتَانِ وَعَشَرَةٌ -
فَحَصَل سِتُّمِائَةٍ وَثَلاَثُونَ، لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا
ثَلاَثُمِائَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ. وَكَانَ لِلْجَدَّاتِ السِّتِّ
أَرْبَعَةٌ، فَضَرَبْنَاهَا فِي ذَلِكَ الْمَضْرُوبِ الْمَذْكُورِ فَصَارَ
ثَمَانَمِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ، لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمْ مِائَةٌ
(12/69)
وَأَرْبَعُونَ. وَكَانَ لِلْبَنَاتِ
الْعَشْرِ سِتَّةَ عَشَرَ، ضَرَبْنَاهَا فِي الْمَضْرُوبِ الْمَذْكُورِ
فَبَلَغَ ثَلاَثَةَ آلاَفٍ وَثَلاَثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ، لِكُل وَاحِدَةٍ
مِنْهُنَّ ثَلاَثُمِائَةٍ وَسِتَّةٌ وَثَلاَثُونَ. وَكَانَ لِلأَْعْمَامِ
السَّبْعَةِ وَاحِدٌ، ضَرَبْنَاهُ فِي ذَلِكَ الْمَضْرُوبِ فَكَانَ
مِائَتَيْنِ وَعَشَرَةً، لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَلاَثُونَ. وَمَجْمُوعُ
هَذِهِ الأَْنْصِبَاءِ خَمْسَةُ آلاَفٍ وَأَرْبَعُونَ.
وَذَكَرَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ
بِالاِسْتِقْرَاءِ أَنَّ انْكِسَارَ السِّهَامِ لاَ يَقَعُ عَلَى أَكْثَرَ
مِنْ أَرْبَعِ طَوَائِفَ. (1)
33 - هَذَا وَلاَ يَخْتَلِفُ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى عَنِ
الْحَنَفِيَّةِ، فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ فِي تَصْحِيحِ الْمَسَائِل
الْفَرْضِيَّةِ، تَوَصُّلاً إِِلَى مَعْرِفَةِ نَصِيبِ كُل وَارِثٍ عَلَى
نَحْوِ مَا ذُكِرَ. (2)
__________
(1) شرح السراجية للشريف الجرجاني وحاشية الفناري عليه 213 - 221 ط الكردي
بمصر، ونهاية المحتاج للرملي 6 / 37 م مصطفى الحلبي، وكشاف القناع 4 / 438
م النصر الحديثة.
(2) نهاية المحتاج للرملي 6 / 36 - 37 م مصطفى الحلبي، والشرح الكبير 4 /
472 - 477، وكشاف القناع 4 / 437 - 443 م النصر الحديثة.
(12/70)
تَصْحِيفٌ
انْظُرْ: تَحْرِيفٌ
تَصَدُّقٌ
انْظُرْ: صَدَقَةٌ
تَصْدِيقٌ
انْظُرْ: تَصَادُقٌ
(12/70)
تَصَرُّفٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّصَرُّفُ لُغَةً: التَّقَلُّبُ فِي الأُْمُورِ وَالسَّعْيُ فِي
طَلَبِ الْكَسْبِ (1) . وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَلَمْ يَذْكُرِ
الْفُقَهَاءُ فِي كُتُبِهِمْ تَعْرِيفًا لِلتَّصَرُّفِ، وَلَكِنْ يُفْهَمُ
مِنْ كَلاَمِهِمْ أَنَّ التَّصَرُّفَ هُوَ: مَا يَصْدُرُ عَنِ الشَّخْصِ
بِإِِرَادَتِهِ، وَيُرَتِّبُ الشَّرْعُ عَلَيْهِ أَحْكَامًا مُخْتَلِفَةً.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِلْتِزَامُ:
2 - الاِلْتِزَامُ مَصْدَرُ الْتَزَمَ. وَمَادَّةُ لَزِمَ تَأْتِي فِي
اللُّغَةِ بِمَعْنَى: الثُّبُوتِ وَالدَّوَامِ وَالْوُجُوبِ وَالتَّعَلُّقِ
بِالشَّيْءِ أَوِ اعْتِنَاقِهِ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: إِلْزَامُ الشَّخْصِ نَفْسَهُ مَا لَمْ يَكُنْ
لاَزِمًا لَهُ، أَيْ مَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ قَبْل (3)
__________
(1) القاموس المحيط، واللسان، والصحاح، والمصباح المنير مادة " صرف ".
(2) المصباح المنير مادة " لزم ".
(3) تحرير الكلام للحطاب ضمن فتح العلي المالك 1 / 217 دار المعرفة.
(12/71)
فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّصَرُّفِ؛ لأَِنَّ
التَّصَرُّفَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالاِخْتِيَارِ وَالإِِْرَادَةِ.
ب - الْعَقْدُ:
3 - الْعَقْدُ فِي اللُّغَةِ: الضَّمَانُ وَالْعَهْدُ. (1)
وَاصْطِلاَحًا: ارْتِبَاطُ الإِِْيجَابِ بِالْقَبُول الاِلْتِزَامِيِّ،
كَعَقْدِ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهِمَا عَلَى وَجْهٍ تَتَرَتَّبُ
عَلَيْهِ آثَارُهُ.
وَذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ أَنَّ الْعَقْدَ بِاعْتِبَارِ الاِسْتِقْلاَل بِهِ
وَعَدَمِهِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: ضَرْبٌ يَنْفَرِدُ بِهِ الْعَاقِدُ،
كَالتَّدْبِيرِ وَالنُّذُورِ وَغَيْرِهَا. وَضَرْبٌ لاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ
مُتَعَاقِدَيْنِ كَالْبَيْعِ وَالإِِْجَارَةِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهَا.
(2)
الْفَرْقُ بَيْنَ التَّصَرُّفِ وَالاِلْتِزَامِ وَالْعَقْدِ:
4 - يَتَّضِحُ مِمَّا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ فِي مَعْنَى الاِلْتِزَامِ
وَالْعَقْدِ وَالتَّصَرُّفِ: أَنَّ التَّصَرُّفَ أَعَمُّ مِنَ الْعَقْدِ
بِمَعْنَيَيْهِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ؛ لأَِنَّ التَّصَرُّفَ قَدْ يَكُونُ
فِي تَصَرُّفٍ لاَ الْتِزَامَ فِيهِ كَالسَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ
وَنَحْوِهِمَا، وَهُوَ كَذَلِكَ أَعَمُّ مِنَ الاِلْتِزَامِ.
أَنْوَاعُ التَّصَرُّفِ:
5 - التَّصَرُّفُ نَوْعَانِ: تَصَرُّفٌ فِعْلِيٌّ وَتَصَرُّفٌ قَوْلِيٌّ.
__________
(1) القاموس المحيط، والمصباح المنير، والكليات للكفوي مادة " عقد ".
(2) المنثور للزركشي 2 / 397، 398 ط الفليج.
(12/71)
النَّوْعُ الأَْوَّل: التَّصَرُّفُ
الْفِعْلِيُّ:
6 - هُوَ مَا كَانَ مَصْدَرُهُ عَمَلاً فِعْلِيًّا غَيْرَ اللِّسَانِ،
بِمَعْنَى أَنَّهُ يَحْصُل بِالأَْفْعَال لاَ بِالأَْقْوَال. وَمِنْ
أَمْثِلَتِهِ.
أ - الْغَصْبُ: وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: أَخْذُ الشَّيْءِ قَهْرًا وَظُلْمًا.
(1) وَاصْطِلاَحًا: أَخْذُ مَالٍ قَهْرًا تَعَدِّيًا بِلاَ حِرَابَةٍ (2) .
فَالْغَصْبُ فِعْلٌ وَلَيْسَ قَوْلاً.
ب - قَبْضُ الْبَائِعِ الثَّمَنَ مِنَ الْمُشْتَرِي، وَتَسَلُّمُ
الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ مِنَ الْبَائِعِ. وَهَكَذَا سَائِرُ
التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَعْتَمِدُ الْمُتَصَرِّفُ فِي مُبَاشَرَتِهَا
عَلَى الأَْفْعَال دُونَ الأَْقْوَال.
النَّوْعُ الثَّانِي: التَّصَرُّفُ الْقَوْلِيُّ:
7 - وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ مَنْشَؤُهُ اللَّفْظُ دُونَ الْفِعْل،
وَيَدْخُل فِيهِ الْكِتَابَةُ وَالإِِْشَارَةُ، وَهُوَ نَوْعَانِ:
تَصَرُّفٌ قَوْلِيٌّ عَقْدِيٌّ، وَتَصَرُّفٌ قَوْلِيٌّ غَيْرُ عَقْدِيٍّ.
أ - التَّصَرُّفُ الْقَوْلِيُّ الْعَقْدِيُّ:
8 - وَهُوَ الَّذِي يَتِمُّ بِاتِّفَاقِ إِرَادَتَيْنِ، أَيْ أَنَّهُ
يَحْتَاجُ إِِلَى صِيغَةٍ تَصْدُرُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ وَتُبَيِّنُ
اتِّفَاقَهُمَا عَلَى أَمْرٍ مَا، وَمِثَال هَذَا النَّوْعِ: سَائِرُ
الْعُقُودِ الَّتِي
__________
(1) المصباح مادة " غصب ".
(2) جواهر الإكليل 2 / 148 ط دار المعرفة.
(12/72)
لاَ تَتِمُّ إِلاَّ بِوُجُودِ طَرَفَيْنِ
أَيِ الْمُوجِبِ وَالْقَابِل، كَالإِِْجَارَةِ وَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ
وَالْوَكَالَةِ، فَإِِنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ لاَ تَتِمُّ إِلاَّ بِرِضَا
الطَّرَفَيْنِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ مَحَلُّهُ الْمُصْطَلَحَاتُ الْخَاصَّةُ بِتِلْكَ
الْعُقُودِ.
ب - التَّصَرُّفُ الْقَوْلِيُّ غَيْرُ الْعَقْدِيِّ. وَهُوَ ضَرْبَانِ:
9 - أَحَدُهُمَا: مَا يَتَضَمَّنُ إِرَادَةً إِنْشَائِيَّةً وَعَزِيمَةً
مُبْرَمَةً مِنْ صَاحِبِهِ عَلَى إِنْشَاءِ حَقٍّ أَوْ إِنْهَائِهِ أَوْ
إِسْقَاطِهِ، وَقَدْ يُسَمَّى هَذَا الضَّرْبُ تَصَرُّفًا عَقْدِيًّا لِمَا
فِيهِ مِنَ الْعَزِيمَةِ وَالإِِْرَادَةِ الْمُنْشِئَةِ أَوِ الْمُسْقِطَةِ
لِلْحُقُوقِ، وَهَذَا عَلَى قَوْل مَنْ يَرَى أَنَّ الْعَقْدَ بِمَعْنَاهُ
الْعَامِّ يَتَنَاوَل الْعُقُودَ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ طَرَفَيْنِ
كَالْبَيْعِ وَالإِِْجَارَةِ، وَالْعُقُودَ الَّتِي يَنْفَرِدُ بِهَا
الْمُتَصَرِّفُ كَالْوَقْفِ وَالطَّلاَقِ وَالإِِْبْرَاءِ وَالْحَلِفِ
وَغَيْرِهَا كَمَا سَبَقَ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ الْوَقْفُ وَالطَّلاَقُ،
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُصْطَلَحَاتِ الْخَاصَّةِ بِهِمَا.
10 - الضَّرْبُ الثَّانِي: تَصَرُّفٌ قَوْلِيٌّ لاَ يَتَضَمَّنُ إِرَادَةً
مُنْشِئَةً، أَوْ مُنْهِيَةً، أَوْ مُسْقِطَةً لِلْحُقُوقِ، بَل هُوَ
صِنْفٌ آخَرُ مِنَ الأَْقْوَال الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَحْكَامٌ
شَرْعِيَّةٌ، وَهَذَا الضَّرْبُ تَصَرُّفٌ قَوْلِيٌّ مَحْضٌ لَيْسَ لَهُ
شَبَهٌ بِالْعُقُودِ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: الدَّعْوَى، وَالإِِْقْرَارُ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُصْطَلَحَاتِ الْخَاصَّةِ بِهِمَا.
11 - هَذَا وَالْعِبْرَةُ فِي تَمَيُّزِ التَّصَرُّفِ الْقَوْلِيِّ عَنِ
الْفِعْلِيِّ مَرْجِعُهَا مَوْضُوعُ التَّصَرُّفِ وَصُورَتُهُ،
(12/72)
لاَ مَبْنَاهُ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ.
12 - وَالتَّصَرُّفُ بِنَوْعَيْهِ الْقَوْلِيِّ وَالْفِعْلِيِّ يَنْدَرِجُ
فِيهِ جَمِيعُ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ تِلْكَ
التَّصَرُّفَاتُ عِبَادَاتٍ كَالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ
وَالْحَجِّ.
أَمْ تَمْلِيكَاتٍ وَمُعَاوَضَاتٍ كَالْبَيْعِ، وَالإِِْقَالَةِ،
وَالصُّلْحِ وَالْقِسْمَةِ، وَالإِِْجَارَةِ، وَالْمُزَارَعَةِ،
وَالْمُسَاقَاةِ، وَالنِّكَاحِ، وَالْخُلْعِ، وَالإِِْجَازَةِ،
وَالْقِرَاضِ.
أَمْ تَبَرُّعَاتٍ كَالْوَقْفِ، وَالْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ،
وَالإِِْبْرَاءِ عَنِ الدَّيْنِ.
أَمْ تَقْيِيدَاتٍ كَالْحَجْرِ، وَالرَّجْعَةِ، وَعَزْل الْوَكِيل.
أَمِ الْتِزَامَاتٍ كَالضَّمَانِ، وَالْكَفَالَةِ، وَالْحَوَالَةِ،
وَالاِلْتِزَامِ بِبَعْضِ الطَّاعَاتِ.
أَمْ إِسْقَاطَاتٍ كَالطَّلاَقِ، وَالْخُلْعِ، وَالتَّدْبِيرِ،
وَالإِِْبْرَاءِ عَنِ الدَّيْنِ.
أَمْ إِطْلاَقَاتٍ كَالإِِْذْنِ لِلْعَبْدِ بِالتِّجَارَةِ، وَالإِِْذْنِ
الْمُطْلَقِ لِلْوَكِيل بِالتَّصَرُّفِ.
أَمْ وِلاَيَاتٍ كَالْقَضَاءِ، وَالإِِْمَارَةِ، وَالإِِْمَامَةِ،
وَالإِِْيصَاءِ.
أَمْ إِثْبَاتَاتٍ كَالإِِْقْرَارِ، وَالشَّهَادَةِ، وَالْيَمِينِ،
وَالرَّهْنِ.
أَمِ اعْتِدَاءَاتٍ عَلَى حُقُوقِ الْغَيْرِ الْمَالِيَّةِ وَغَيْرِهَا
كَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ.
(12/73)
أَمْ جِنَايَاتٍ عَلَى النَّفْسِ
وَالأَْطْرَافِ وَالأَْمْوَال أَيْضًا.
لأَِنَّ تِلْكَ التَّصَرُّفَاتِ عَلَى اخْتِلاَفِ أَنْوَاعِهَا لاَ
تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا أَقْوَالاً أَوْ أَفْعَالاً فَيَكُونُ
التَّصَرُّفُ بِنَوْعَيْهِ الْقَوْلِيِّ وَالْفِعْلِيِّ شَامِلاً لَهَا.
هَذَا، وَأَمَّا شُرُوطُ صِحَّةِ التَّصَرُّفِ وَنَفَاذُهُ فَلَيْسَ هَذَا
الْبَحْثُ مَحَل ذِكْرِهَا، سَوَاءٌ مَا كَانَ مِنْهَا يَرْجِعُ إِِلَى
الْمُتَصَرِّفِ أَمْ إِِلَى نَفْسِ التَّصَرُّفِ؛ لأَِنَّ مَحَل ذِكْرِ
تِلْكَ الشُّرُوطِ الْمُصْطَلَحَاتُ الْخَاصَّةُ بِكُلٍّ مِنْ هَذِهِ
التَّصَرُّفَاتِ.
تَصْرِيحٌ
انْظُرْ: صَرِيحٌ
(12/73)
تَصْرِيَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّصْرِيَةُ لُغَةً: مَصْدَرُ صَرَّى، يُقَال: صَرَّ النَّاقَةَ أَوْ
غَيْرَهَا تَصْرِيَةً: إِِذَا تَرَكَ حَلْبَهَا، فَاجْتَمَعَ لَبَنُهَا فِي
ضَرْعِهَا (1) . وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تَرْكُ الْبَائِعِ حَلْبَ النَّاقَةِ
أَوْ غَيْرِهَا عَمْدًا مُدَّةً قَبْل بَيْعِهَا، لِيُوهِمَ الْمُشْتَرِيَ
كَثْرَةَ اللَّبَنِ (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - التَّصْرِيَةُ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، إِِذَا قَصَدَ
الْبَائِعُ بِذَلِكَ إِيهَامَ الْمُشْتَرِي كَثْرَةَ اللَّبَنِ، لِحَدِيثِ:
مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا (3) وَحَدِيثِ: بَيْعُ الْمُحَفَّلاَتِ
خِلاَبَةٌ، وَلاَ تَحِل الْخِلاَبَةُ لِمُسْلِمٍ. (4) وَلِمَا فِيهِ مِنَ
التَّدْلِيسِ وَالإِِْضْرَارِ (5) .
__________
(1) المصباح المنير مادة: " صرى ".
(2) روض الطالب شرح أسنى المطالب 2 / 61، وابن عابدين 4 / 99، وشرح
الزرقاني 5 / 133.
(3) حديث: " من غشنا فليس منا " أخرجه مسلم (1 / 99 ط الحلبي) من حديث أبي
هريرة رضي الله عنه.
(4) حديث: " بيع المحفلات خلابة، ولا تحل الخلابة لمسلم " أخرجه ابن ماجه
(2 / 753 ط الحلبي) وقال البوصيري: في إسناده جابر الجعفي، وهو متهم.
(5) المغني 4 / 149.
(12/74)
الْحُكْمُ الْوَضْعِيُّ (الأَْثَرُ) :
3 - ذَهَبَ الأَْئِمَّةُ: مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، وَأَبُو
يُوسُفَ إِِلَى أَنَّ تَصْرِيَةَ الْحَيَوَانِ عَيْبٌ يُثْبِتُ الْخِيَارَ
لِلْمُشْتَرِي. وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الأَْنْعَامُ وَغَيْرُهَا مِمَّا
يُقْصَدُ إِِلَى لَبَنِهِ. وَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْغِشِّ
وَالتَّغْرِيرِ الْفِعْلِيِّ، (1) وَلِحَدِيثِ: لاَ تُصَرُّوا الإِِْبِل
وَالْغَنَمَ، فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدُ فَإِِنَّهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ
بَعْدَ أَنْ يَحْتَلِبَهَا: إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ، وَإِِنْ شَاءَ رَدَّهَا
وَرَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ (2) وَيَرُدُّ مَعَهَا عِوَضًا عَنْ
لَبَنِهَا إِنِ احْتَلَبَ، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ هَؤُلاَءِ
الأَْئِمَّةِ، وَإِِنِ اخْتَلَفُوا فِي نَوْعِ الْعِوَضِ كَمَا سَيَأْتِي.
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْعِوَضَ خَاصٌّ بِالأَْنْعَامِ (3) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِِلَى أَنَّهُ لاَ يُرَدُّ الْحَيَوَانُ
بِالتَّصْرِيَةِ، وَلاَ يَثْبُتُ الْخِيَارُ بِهَا؛ لأَِنَّ التَّصْرِيَةَ
لَيْسَتْ بِعَيْبٍ، بِدَلِيل أَنَّهُ لَوْ لَمْ تَكُنْ مُصَرَّاةً
فَوَجَدَهَا أَقَل لَبَنًا مِنْ أَمْثَالِهَا لَمْ يَمْلِكْ رَدَّهَا،
وَالتَّدْلِيسُ بِمَا لَيْسَ بِعَيْبٍ لاَ يُثْبِتُ الْخِيَارَ. وَلاَ
يَرُدُّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ؛ لأَِنَّ ضَمَانَ الْعُدْوَانِ
بِالْمِثْل أَوِ الْقِيمَةِ، وَالتَّمْرُ لَيْسَ مِثْلاً وَلاَ قِيمَةً،
بَل يَرْجِعُ
__________
(1) أسنى المطالب 2 / 61، 62، والمغني 4 / 149، والزرقاني 5 / 133.
(2) حديث: " لا تصروا الإبل والغنم. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 361 ط
السلفية) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه مسلم (3 / 1158 ط الحلبي)
بألفاظ متقاربة.
(3) نفس المراجع.
(12/74)
الْمُشْتَرِي بِأَرْشِ النُّقْصَانِ عَلَى
الْبَائِعِ (وَالأَْرْشُ هُنَا: هُوَ التَّعْوِيضُ عَنْ نُقْصَانِ
الْمَبِيعِ) . (1)
نَوْعُ الْعِوَضِ عَنِ اللَّبَنِ:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي رَدِّ الْعِوَضِ، وَفِي نَوْعِهِ. فَذَهَبَ
الإِِْمَامُ أَحْمَدُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِِلَى
أَنَّ الْعِوَضَ هُوَ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ (2) ، وَذَلِكَ لِلْحَدِيثِ
السَّابِقِ، وَقَدْ نَصَّ فِيهِ عَلَى التَّمْرِ: وَإِِنْ شَاءَ رَدَّهَا
وَرَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ. وَذَهَبَ الإِِْمَامُ مَالِكٌ إِِلَى
أَنَّ الْعِوَضَ هُوَ صَاعٌ مِنْ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ، وَهُوَ الْقَوْل
الآْخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ. وَقَال مَالِكٌ: إِنَّ بَعْضَ أَلْفَاظِ
الْحَدِيثِ جَاءَ فِيهَا: فَإِِنْ رَدَّهَا رَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ
طَعَامٍ (3) وَتَنْصِيصُ التَّمْرِ فِي الْحَدِيثِ لَيْسَ لِخُصُوصِهِ،
وَإِِنَّمَا كَانَ غَالِبَ قُوتِ الْمَدِينَةِ آنَذَاكَ (4) .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَرُدُّ قِيمَةَ اللَّبَنِ الْمُحْتَلَبِ؛
لأَِنَّهُ ضَمَانُ مُتْلَفٍ، فَكَانَ مُقَدَّرًا بِقِيمَتِهِ كَسَائِرِ
الْمُتْلَفَاتِ (5) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 96 - 97.
(2) أسنى المطالب 2 / 61 - 62، والمغني 4 / 151.
(3) حديث: " فإن ردها رد معها صاعا من طعام " أخرجه مسلم (3 / 1158 ط
الحلبي) .
(4) الزرقاني 5 / 134، والتدليل لم يأت فيه وإنما نقلناه من المغني 4 /
151.
(5) حاشية ابن عابدين 4 / 96 - 97.
(12/75)
ثُمَّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: هَل يَجِبُ
رَدُّ اللَّبَنِ نَفْسِهِ إِِذَا كَانَ مَوْجُودًا؟
ذَهَبَ أَحْمَدُ إِِلَى أَنَّ لِلْمُشْتَرِي رَدَّ اللَّبَنِ إِِذَا لَمْ
يَتَغَيَّرْ، وَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ، وَلاَ يَجُوزُ لِلْبَائِعِ
رَفْضُهُ. (1)
الْوَاجِبُ عِنْدَ انْعِدَامِ التَّمْرِ:
5 - ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي هَذَا الْحَال
قِيمَةُ التَّمْرِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْعَقْدُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - فِي الْوَجْهِ الأَْصَحِّ - إِِلَى أَنَّ
عَلَيْهِ قِيمَةَ التَّمْرِ فِي أَقْرَبِ الْبِلاَدِ الَّتِي فِيهَا
تَمْرٌ، وَفِي الْوَجْهِ الآْخَرِ عَلَيْهِ قِيمَةُ التَّمْرِ
بِالْحِجَازِ. وَلاَ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ عِنْدَ مَالِكٍ بِانْعِدَامِ
التَّمْرِ؛ لأَِنَّ الْوَاجِبَ عِنْدَهُ مُطْلَقًا صَاعٌ مِنْ غَالِبِ
قُوتِ أَهْل الْبَلَدِ. (2)
هَل يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بَيْنَ كَثْرَةِ اللَّبَنِ وَقِلَّتِهِ؟
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ مَنْ يَرَى رَدَّ صَاعٍ مَعَ الْمُصَرَّاةِ فِي
أَنَّهُ لاَ عِبْرَةَ بِكَثْرَةِ اللَّبَنِ وَقِلَّتِهِ، وَلاَ بَيْنَ أَنْ
يَكُونَ الصَّاعُ مِثْل قِيمَةِ لَبَنِ الْحَيَوَانِ أَوْ أَقَل أَوْ
أَكْثَرَ؛ لأَِنَّهُ بَدَلٌ قَدَّرَهُ الشَّرْعُ. (3)
__________
(1) المغني 4 / 151.
(2) الزرقاني 5 / 134، 135، وشرح الروض 2 / 63، والمغني 4 / 151.
(3) شرح الزرقاني 5 / 133 - 134، وأسنى المطالب 2 / 62، والمغني 4 / 152،
153، ونهاية المحتاج 4 / 73 - 74.
(12/75)
وَيُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ رَدِّ
الْمُصَرَّاةِ:
أ - أَنْ لاَ يَعْلَمَ الْمُشْتَرِي أَنَّهَا مُصَرَّاةٌ، فَإِِنْ عَلِمَ
قَبْل الشِّرَاءِ وَقَبْل حَلْبِهَا فَلاَ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ.
ب - أَنْ يَقْصِدَ الْبَائِعُ التَّصْرِيَةَ، فَإِِنْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ
كَأَنْ تَرَكَ حَلْبَهَا نَاسِيًا أَوْ لِشُغْلٍ، أَوْ تَصَرَّتْ
بِنَفْسِهَا فَوَجْهَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ.
(1) وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ
اللاَّحِقِ بِالْمُشْتَرِي، وَالضَّرَرُ وَاجِبُ الدَّفْعِ شَرْعًا، قُصِدَ
أَمْ لَمْ يُقْصَدْ، فَأَشْبَهَ الْعَيْبَ. (2)
ج - وَأَنْ يَرُدَّهَا بَعْدَ الْحَلْبِ، فَإِِنْ رَدَّهَا قَبْل الْحَلْبِ
فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ بِالاِتِّفَاقِ؛ لأَِنَّ الصَّاعَ إِنَّمَا وَجَبَ
عِوَضًا عَنِ اللَّبَنِ الْمَحْلُوبِ وَلَمْ يَحْلِبْ.
وَلِلْخَبَرِ الَّذِي قَيَّدَ رَدَّ الصَّاعِ بِالاِحْتِلاَبِ، وَلَمْ
يُوجَدْ.
وَإِِذَا أَرَادَ الْمُشْتَرِي إِمْسَاكَ الْمُصَرَّاةِ وَطَلَبَ الأَْرْشَ
لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمْ يَجْعَل لِلْمُصَرَّاةِ أَرْشًا، وَإِِنَّمَا خَيَّرَ
الْمُشْتَرِيَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ: إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ، وَإِِنْ شَاءَ
رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ وَلأَِنَّ التَّصْرِيَةَ لَيْسَتْ بِعَيْبٍ،
فَلَمْ يَسْتَحِقَّ مِنْ أَجْلِهَا عِوَضًا. (3)
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 72، وروض الطالب 2 / 61 - 62.
(2) المغني 4 / 157.
(3) روض الطالب 2 / 62، والمغني 4 / 153، وشرح الزرقاني 5 / 133.
(12/76)
7 - وَإِِذَا اشْتَرَى مُصَرَّاتَيْنِ أَوْ
أَكْثَرَ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ فَرَدَّهُنَّ، رَدَّ مَعَ كُل مُصَرَّاةٍ
صَاعًا، وَبِهَذَا قَال الشَّافِعِيُّ وَبَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَقَال
بَعْضُهُمْ: فِي الْجَمِيعِ صَاعٌ وَاحِدٌ، لأَِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ اشْتَرَى غَنَمًا مُصَرَّاةً
فَاحْتَلَبَهَا، فَإِِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِِنْ سَخِطَهَا فَفِي
حَلْبَتِهَا صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ. (1)
وَلِلْحَنَابِلَةِ عُمُومُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَنِ اشْتَرَى مُصَرَّاةً وَمَنِ اشْتَرَى مُحَفَّلَةً " وَهَذَا
يَتَنَاوَل الْوَاحِدَةَ؛ وَلأَِنَّ مَا جُعِل عِوَضًا عَنِ الشَّيْئَيْنِ
فِي صَفْقَتَيْنِ، وَجَبَ إِِذَا كَانَا فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ كَأَرْشِ
الْعَيْبِ.
مُدَّةُ الْخِيَارِ:
8 - الرَّدُّ يَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ كَالرَّدِّ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَلِلْحَنَابِلَةِ فِي الْمُدَّةِ ثَلاَثَةُ
أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، وَلَيْسَ لَهُ
الرَّدُّ قَبْل مُضِيِّهَا، وَلاَ إِمْسَاكُهَا بَعْدَهَا، وَهُوَ ظَاهِرُ
قَوْل أَحْمَدَ. لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ: فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلاَثَةَ
أَيَّامٍ. (2)
__________
(1) المغني 4 / 156 ط الرياض. وحديث: " من اشترى غنما مصراة. . . " أخرجه
البخاري (الفتح 4 / 368 ط السلفية) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) حديث: " فهو بالخيار ثلاثة أيام " أخرجه مسلم (3 / 1558 ط الحلبي) .
(12/76)
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَتَى ثَبَتَتِ
التَّصْرِيَةُ جَازَ لَهُ الرَّدُّ قَبْل الثَّلاَثَةِ وَبَعْدَهَا؛
لأَِنَّهُ تَدْلِيسٌ يُثْبِتُ الْخِيَارَ، فَمِلْكُ الرَّدِّ إِِذَا
تَبَيَّنَهُ كَسَائِرِ التَّدْلِيسِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مَتَى عَلِمَ التَّصْرِيَةَ ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ
فِي الأَْيَّامِ الثَّلاَثَةِ إِِلَى تَمَامِهَا. (1)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ يَرُدُّ إِنْ حَلَبَهَا فِي الْيَوْمِ
الثَّالِثِ إِنْ حَصَل الاِخْتِيَارُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي. (2)
__________
(1) أسنى المطالب 2 / 61، والمغني 4 / 154 - 155.
(2) الزرقاني 5 / 135.
(12/77)
تَصْفِيقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - لِلتَّصْفِيقِ فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ، مِنْهَا: الضَّرْبُ الَّذِي
يُسْمَعُ لَهُ صَوْتٌ. وَهُوَ كَالصَّفْقِ فِي ذَلِكَ.
يُقَال: صَفَّقَ بِيَدَيْهِ وَصَفَّحَ سَوَاءٌ. وَفِي الْحَدِيثِ:
التَّسْبِيحُ لِلرِّجَال، وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ (1) وَالْمَعْنَى:
إِِذَا نَابَ الْمُصَلِّيَ شَيْءٌ فِي صَلاَتِهِ فَأَرَادَ تَنْبِيهَ مَنْ
بِجِوَارِهِ صَفَّقَتِ الْمَرْأَةُ بِيَدَيْهَا، وَسَبَّحَ الرَّجُل
بِلِسَانِهِ.
وَالتَّصْفِيقُ بِالْيَدِ: التَّصْوِيتُ بِهَا. كَأَنَّهُ أَرَادَ مَعْنَى
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ
مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} . (2) كَانُوا يُصَفِّقُونَ وَيُصَفِّرُونَ وَقَدْ
كَانَ ذَلِكَ عِبَادَةً فِي ظَنِّهِمْ. وَقِيل فِي تَفْسِيرِهَا أَيْضًا:
إِنَّهُمْ أَرَادُوا بِذَلِكَ أَنْ يَشْغَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ فِي الْقِرَاءَةِ وَالصَّلاَةِ. (3)
__________
(1) حديث: " التسبيح للرجال والتصفيق
للنساء " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 77 - ط السلفية) . ومسلم (1 / 318 - ط
الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) سورة الأنفال / 35.
(3) لسان العرب مادة: " صفق "، والقرطبي 7 / 400 - 401.
(12/77)
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ الصَّفْقَ
عَلَى وَجْهِ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ.
وَيُقَال: صَفَّقَ لَهُ بِالْبَيْعِ وَالْبَيْعَةِ: أَيْ ضَرَبَ يَدَهُ
عَلَى يَدِهِ عِنْدَ وُجُوبِ الْبَيْعِ، ثُمَّ اسْتُعْمِل وَلَوْ لَمْ
يَكُنْ هُنَاكَ ضَرْبُ يَدٍ عَلَى يَدٍ.
وَرَبِحَتْ صَفْقَتُكَ لِلشِّرَاءِ. وَصَفْقَةٌ رَابِحَةٌ وَصَفْقَةٌ
خَاسِرَةٌ.
وَصَفَّقَ بِيَدَيْهِ بِالتَّثْقِيل: ضَرَبَ إِحْدَاهُمَا عَلَى
الأُْخْرَى. (1)
وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ: لاَ يَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى. وَسَوَاءٌ
كَانَ مِنَ الْمَرْأَةِ فِي الصَّلاَةِ، بِضَرْبِ كَفٍّ عَلَى كَفٍّ عَلَى
نَحْوِ مَا سَيَأْتِي فِي بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ. أَوْ كَانَ مِنْهَا
وَمِنَ الرَّجُل بِضَرْبِ بَاطِنِ كَفٍّ بِبَاطِنِ الْكَفِّ الأُْخْرَى،
كَمَا هُوَ الْحَال فِي الْمَحَافِل وَالأَْفْرَاحِ (2) .
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - قَدْ يَكُونُ التَّصْفِيقُ مِنْ مُصَلٍّ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ
غَيْرِهِ. فَمَا كَانَ مِنْ مُصَلٍّ: فَإِِمَّا أَنْ يَكُونَ لِتَنْبِيهِ
إِمَامِهِ عَلَى سَهْوٍ فِي صَلاَتِهِ، أَوْ لِدَرْءِ مَارٍّ أَمَامَهُ
لِتَنْبِيهِهِ عَلَى أَنَّهُ فِي صَلاَةٍ، وَمَنْعِهِ عَنِ الْمُرُورِ
__________
(1) مختار الصحاح، المصباح المنير مادة: " صفق ".
(2) الفتاوى الهندية 1 / 99، ونهاية المحتاج للرملي 2 / 44، والمهذب في فقه
الإمام الشافعي 1 / 95، وحاشية العدوي بهامش الخرشي على مختصر خليل 1 /
321، وكشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 380 م النصر الحديثة.
(12/78)
أَمَامَهُ. أَوْ يَكُونُ مِنْهُ فِيهَا
عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ.
وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ الْمُصَلِّي: فَإِِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي
الْمَحَافِل كَالْمَوَالِدِ وَالأَْفْرَاحِ، أَوْ فِي أَثْنَاءِ خُطْبَةِ
الْجُمُعَةِ، أَوْ لِطَلَبِ الإِِْذْنِ لَهُ مِنْ مُصَلٍّ بِالدُّخُول،
أَوْ لِلنِّدَاءِ. وَلِكُلٍّ مِنْ ذَلِكَ حُكْمُهُ.
تَصْفِيقُ الْمُصَلِّي لِتَنْبِيهِ إِمَامِهِ عَلَى سَهْوٍ فِي صَلاَتِهِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ عَرَضَ لِلإِِْمَامِ شَيْءٌ
فِي صَلاَتِهِ سَهْوًا مِنْهُ اسْتُحِبَّ لِمَنْ هُمْ مُقْتَدُونَ بِهِ
تَنْبِيهُهُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي طَرِيقَتِهِ بِالنِّسْبَةِ لِكُلٍّ مِنَ الرَّجُل
وَالْمَرْأَةِ. هَل يَكُونُ بِالتَّسْبِيحِ أَوْ بِالتَّصْفِيقِ؟
فَاتَّفَقُوا عَلَى اسْتِحْبَابِهِ بِالتَّسْبِيحِ بِالنِّسْبَةِ
لِلرَّجُل، وَاخْتَلَفُوا فِي التَّصْفِيقِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ
يَكُونُ مِنْهَا بِالتَّصْفِيقِ. لِمَا رَوَى سَهْل بْنُ سَعْدٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِِذَا نَابَكُمْ شَيْءٌ فِي صَلاَتِكُمْ فَلْيُسَبِّحِ
الرِّجَال وَلْتُصَفِّقِ النِّسَاءُ (1) وَلِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: التَّسْبِيحُ لِلرِّجَال وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ (2)
وَمِثْلُهُنَّ الْخَنَاثَى فِي
__________
(1) حديث: " إذا نابكم شيء في صلاتكم. . . " أخرجه أبو داود (1 / 580 -
تحقيق عزت عبيد الدعاس) والدارمي (1 / 317 - نشر دار إحياء السنة النبوية)
. وأصله في الصحيحين كما تقدم.
(2) حديث: " التسبيح للرجال والتصفيق للنساء " تقدم تخريجه.
(12/78)
ذَلِكَ. (1)
وَكَرِهَ الْمَالِكِيَّةُ تَصْفِيقَ الْمَرْأَةِ فِي الصَّلاَةِ لِقَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاَتِهِ
فَلْيَقُل سُبْحَانَ اللَّهِ (2) (وَمَنْ) مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ
فَشَمِلَتِ النِّسَاءَ فِي التَّنْبِيهِ بِالتَّسْبِيحِ. وَلِذَا قَال
خَلِيلٌ: وَلاَ يُصَفِّقْنَ. أَيِ النِّسَاءُ فِي صَلاَتِهِنَّ لِحَاجَةٍ.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ
ذَمٌّ لَهُ، لاَ إِذْنَ لَهُنَّ فِيهِ بِدَلِيل عَدَمِ عَمَلِهِنَّ بِهِ.
(3)
تَصْفِيقُ الْمُصَلِّي لِمَنْعِ الْمَارِّ أَمَامَهُ:
4 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ دَرْءِ الْمَارِّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي بَيْنَ
كَوْنِهِ رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً. فَإِِذَا كَانَ الْمُصَلِّي رَجُلاً
كَانَ دَرْؤُهُ لِلْمَارِّ أَمَامَهُ بِالتَّسْبِيحِ أَوْ بِالإِِْشَارَةِ
بِالرَّأْسِ أَوِ الْعَيْنِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
التَّسْبِيحُ لِلرِّجَال وَعَنْ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 99، 104، ابن عابدين 1 / 417، والمهذب في فقه
الإمام الشافعي 1 / 94 - 95، وروضة الطالبين 1 / 291، ونهاية المحتاج
للرملي 2 / 44، وشرح منهاج الطالبين وحاشية قليوبي عليه 1 / 189 - 190،
والمغني لابن قدامة 2 / 19، 54 م الرياض الحديثة، وكشاف القناع 1 / 380 -
381 م النصر الحديثة.
(2) حديث: " من نابه شيء في صلاته فليقل: سبحان الله " أخرجه البخاري في
(الفتح 3 / 107 - ط السلفية) . ومسلم (1 / 317 - ط الحلبي) .
(3) جواهر الإكليل 1 / 62 - 63، والشرح الكبير 1 / 85، ومواهب الجليل لشرح
مختصر خليل والتاج والإكليل بهامشه 2 / 29 م النجاح بليبيا، والخرشي على
مختصر خليل 1 / 321.
(12/79)
سَهْل بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِِذَا
نَابَكُمْ فِي صَلاَتِكُمْ شَيْءٌ فَلْيُسَبِّحِ الرِّجَال. (1)
وَكَمَا فَعَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَلَدَيْ
أُمِّ سَلَمَةَ وَهُمَا عُمَرُ وَزَيْنَبُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حَيْثُ
كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي بَيْتِهَا فَقَامَ
وَلَدُهَا عُمَرُ لِيَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ أَنْ قِفْ
فَوَقَفَ. ثُمَّ قَامَتْ بِنْتُهَا زَيْنَبُ لِتَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ،
فَأَشَارَ إِلَيْهَا أَنْ قِفِي فَأَبَتْ وَمَرَّتْ، فَلَمَّا فَرَغَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صَلاَتِهِ قَال: هُنَّ أَغْلَبُ
(2) وَإِِنْ كَانَ الْمُصَلِّي امْرَأَةً كَانَ دَرْؤُهَا لِلْمَارِّ
بِالإِِْشَارَةِ أَوْ بِالتَّصْفِيقِ بِبَطْنِ كَفِّهَا الْيُمْنَى عَلَى
ظَهْرِ أَصَابِعِ كَفِّهَا الْيُسْرَى؛ لأَِنَّ لَهَا التَّصْفِيقَ.
لاَ تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِالْقِرَاءَةِ وَالتَّسْبِيحِ؛ لأَِنَّ مَبْنَى
حَال النِّسَاءِ عَلَى السَّتْرِ، وَلاَ يُطْلَبُ مِنْهَا الدَّرْءُ بِهِ
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ
وَقَوْلُهُ: وَلْيُصَفِّقِ النِّسَاءُ وَهَذَا هُوَ الْمَسْنُونُ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ. (3)
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَلَمْ يَقُولُوا بِالتَّسْبِيحِ
لِلرَّجُل، وَلاَ بِالتَّصْفِيقِ لِلْمَرْأَةِ فِي دَفْعِ الْمَارِّ، بَل
__________
(1) تقدم تخريج هذين الحديثين (ف 3) .
(2) حديث: " هن أغلب " عن أم سلمة رضي الله عنها أخرجه ابن ماجه (1 / 305 -
ط الحلبي) وقال البوصيري في الزوائد: في إسناده ضعف.
(3) الفتاوى الهندية 1 / 104، وابن عابدين 1 / 429، ومراقي الفلاح وحاشية
الطحطاوي عليه ص 201 - 202، وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي وحاشية
الشلبي بهامشه 1 / 161 - 162.
(12/79)
قَالُوا: يَدْفَعُهُ الْمُصَلِّي بِمَا
يَسْتَطِيعُهُ وَيُقَدِّمُ فِي ذَلِكَ الأَْسْهَل فَالأَْسْهَل.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُنْدَبُ لِلْمُصَلِّي دَفْعُ الْمَارِّ بَيْنَ
يَدَيْهِ دَفْعًا خَفِيفًا لاَ يَتْلَفُ لَهُ شَيْءٌ وَلاَ يَشْغَلُهُ،
فَإِِنْ كَثُرَ مِنْهُ ذَلِكَ أَبْطَل صَلاَتَهُ. (1) وَتَفْصِيل ذَلِكَ
فِي الْكَلاَمِ عَلَى (سُتْرَةِ الصَّلاَةِ) .
تَصْفِيقُ الرَّجُل فِي الصَّلاَةِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ تَصْفِيقِ الرَّجُل فِي
الصَّلاَةِ مُطْلَقًا لِمَا رُوِيَ عَنْ سَهْل بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَلَغَهُ أَنَّ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ كَانَ بَيْنَهُمْ
شَيْءٌ، فَخَرَجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ فِي أُنَاسٍ مَعَهُ، فَحُبِسَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَانَتِ الصَّلاَةُ، فَجَاءَ بِلاَلٌ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ إِِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَال: يَا
أَبَا بَكْرٍ إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ
حُبِسَ، وَقَدْ حَانَتِ الصَّلاَةُ، فَهَل لَكَ أَنْ تَؤُمَّ النَّاسَ؟
قَال: نَعَمْ إِنْ شِئْتَ. فَأَقَامَ بِلاَلٌ وَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَكَبَّرَ لِلنَّاسِ. وَجَاءَ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي فِي الصُّفُوفِ، حَتَّى قَامَ
فِي الصَّفِّ فَأَخَذَ النَّاسُ فِي التَّصْفِيقِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لاَ يَلْتَفِتُ فِي صَلاَتِهِ، فَلَمَّا
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 246، والمهذب في فقه الإمام
الشافعي 1 / 76، 95، وكشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 375 م النصر الحديثة.
(12/80)
أَكْثَرَ النَّاسُ الْتَفَتَ فَإِِذَا
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَشَارَ إِلَيْهِ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُهُ أَنْ
يُصَلِّيَ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدَيْهِ،
فَحَمِدَ اللَّهَ وَرَجَعَ الْقَهْقَرَى وَرَاءَهُ حَتَّى قَامَ فِي
الصَّفِّ. فَتَقَدَّمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَصَلَّى لِلنَّاسِ. فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَل عَلَى النَّاسِ فَقَال: يَا
أَيُّهَا النَّاسُ مَا لَكُمْ حِينَ نَابَكُمْ شَيْءٌ فِي الصَّلاَةِ
أَخَذْتُمْ فِي التَّصْفِيقِ؟ إِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ. مَنْ
نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاَتِهِ فَلْيَقُل: سُبْحَانَ اللَّهِ، فَإِِنَّهُ
لاَ يَسْمَعُهُ أَحَدٌ حِينَ يَقُول: سُبْحَانَ اللَّهِ إِلاَّ الْتَفَتَ.
يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ لِلنَّاسِ حِينَ أَشَرْتُ
إِلَيْكَ؟ فَقَال أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا كَانَ يَنْبَغِي
لاِبْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (1) " فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْكَرَ عَلَيْهِمُ
التَّصْفِيقَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِِعَادَةِ الصَّلاَةِ. وَفِيهِ
الدَّلِيل عَلَى كَرَاهَةِ التَّصْفِيقِ لِلرَّجُل فِي الصَّلاَةِ (2) .
التَّصْفِيقُ مِنْ مُصَلٍّ لِلإِِْذْنِ لِلْغَيْرِ بِالدُّخُول:
6 - أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ تَنْبِيهَ الْمُصَلِّي
غَيْرَهُ.
__________
(1) حديث: " يا أيها الناس ما لكم حين نابكم شيء. . . " أخرجه البخاري (فتح
الباري 3 / 107 - ط السلفية) . ومسلم (1 / 316 - 317 ط الحلبي) .
(2) نهاية المحتاج 2 / 45، والفتاوى الهندية 1 / 99، 104، والمغني لابن
قدامة 2 / 19 م الرياض الحديثة، وجواهر الإكليل 1 / 62 - 63، وفتح الباري
بشرح صحيح البخاري 3 / 107.
(12/80)
وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
بِالتَّسْبِيحِ مُطْلَقًا، وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَالتَّسْبِيحُ
لِلرِّجَال وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ لِمَا سَبَقَ بَيَانُهُ، وَكَرِهَهُ
الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ. (1)
التَّصْفِيقُ فِي الصَّلاَةِ عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ:
7 - قَال الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ
التَّصْفِيقَ فِي الصَّلاَةِ عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ يُبْطِلُهَا وَإِِنْ
كَانَ قَلِيلاً، لِمُنَافَاةِ اللَّعِبِ لِلصَّلاَةِ. وَالأَْصْل فِي
ذَلِكَ حَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ: مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاَتِهِ
فَلْيُسَبِّحْ، وَإِِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ. وَلِمُنَافَاتِهِ
لِلصَّلاَةِ.
وَالْقَوْل الآْخَرُ لِلْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لاَ يُبْطِلُهَا إِنْ قَل،
وَإِِنْ كَثُرَ أَبْطَلَهَا؛ لأَِنَّهُ عَمَلٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا،
فَأَبْطَلَهَا كَثِيرُهُ عَمْدًا كَانَ أَوْ سَهْوًا. (2)
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ قَالُوا: إِنَّ مَا يُعْمَل عَادَةً
بِالْيَدَيْنِ يَكُونُ كَثِيرًا، بِخِلاَفِ مَا يُعْمَل بِالْيَدِ
الْوَاحِدَةِ فَقَدْ يَكُونُ قَلِيلاً، وَالْعَمَل الْكَثِيرُ الَّذِي
لَيْسَ مِنْ أَفْعَال الصَّلاَةِ وَلاَ لإِِِصْلاَحِهَا يُفْسِدُهَا.
وَالتَّصْفِيقُ لاَ يَتَأَتَّى عَادَةً إِلاَّ بِالْيَدَيْنِ
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 62 - 63، والشرح الكبير 1 / 85، ومواهب الجليل لشرح
مختصر خليل والتاج والإكليل بهامشه 2 / 29 م النجاح بليبيا، والخرشي على
مختصر خليل 1 / 321.
(2) شرح منهاج الطالبين وحاشية قليوبي عليه 1 / 190، وكشاف القناع عن متن
الإقناع 1 / 380 - 381 م النصر الحديثة.
(12/81)
كِلْتَيْهِمَا، فَإِِنَّهُ وَالْحَالَةُ
هَذِهِ يَكُونُ عَمَلاً كَثِيرًا فِي الصَّلاَةِ تَبْطُل بِهِ؛
لِمُنَافَاتِهِ لأَِفْعَالِهَا. (1)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ يَخْلُو عَنْ كَوْنِهِ عَبَثًا فِيهَا،
وَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْفِعْل الْكَثِيرِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ
جِنْسِ أَفْعَال الصَّلاَةِ كَالنَّفْخِ مِنَ الْفَمِ فِيهَا فَإِِنَّهُ
يُبْطِلُهَا، كَالْكَلاَمِ فِيهَا، يَدُل عَلَيْهِ قَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: النَّفْخُ فِي الصَّلاَةِ كَالْكَلاَمِ.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَبَاحٍ وَهُوَ يَنْفُخُ
فِي التُّرَابِ: مَنْ نَفَخَ فِي الصَّلاَةِ فَقَدْ تَكَلَّمَ (2) وَإِِذْ
جَرَى عَلَى التَّصْفِيقِ فِي الصَّلاَةِ عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ حُكْمُ
الْفِعْل الْكَثِيرِ فِيهَا كَانَ مُبْطِلاً لَهَا. (3)
كَيْفِيَّةُ التَّصْفِيقِ:
8 - لِلْمَرْأَةِ فِي كَيْفِيَّةِ تَصْفِيقِهَا فِي الصَّلاَةِ
طَرِيقَتَانِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.
إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَضْرِبَ بِظُهُورِ أَصَابِعِ الْيَدِ الْيُمْنَى عَلَى
صَفْحَةِ الْكَفِّ الْيُسْرَى.
ثَانِيَتُهُمَا: أَنْ تَضْرِبَ بِبَطْنِ كَفِّهَا الْيُمْنَى عَلَى
__________
(1) رد المحتار وحاشية ابن عابدين 1 / 419 - 420، والفتاوى الهندية 1 / 101
- 102، وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 177.
(2) حديث " من نفخ في الصلاة فقد تكلم ". ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما
موقوفا عليه: أنه كان يخشى أن يكون كلاما يعني النفخ في الصلاة. أخرجه
البيهقي 21 / 252 ط دائرة المعارف العثمانية. وصحه الشوكاني كما في النيل
(2 / 318 ط المطبعة العثمانية المصرية) .
(3) الفواكه الدواني 1 / 268 دار المعرفة.
(12/81)
ظَهْرِ كَفِّهَا الْيُسْرَى، وَهُوَ
الأَْيْسَرُ وَالأَْقَل عَمَلاً، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ.
(1)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْقَوْل بِهِ أَنْ تَضْرِبَ بِظَهْرِ
أُصْبُعَيْنِ مِنْ يَمِينِهَا عَلَى بَاطِنِ كَفِّهَا الْيُسْرَى. (2)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنْ تَضْرِبَ بِبَطْنِ كَفٍّ عَلَى ظَهْرِ
الأُْخْرَى. (3)
التَّصْفِيقُ أَثْنَاءَ الْخُطْبَةِ:
9 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِِلَى وُجُوبِ الإِِْنْصَاتِ
لِلْخَطِيبِ - وَهُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مُسْتَحَبٌّ - وَعَلَيْهِ
يَحْرُمُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كُل مَا يُنَافِي الإِِْنْصَاتَ إِِلَى
الْخَطِيبِ، مِنْ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَتَحْرِيكِ شَيْءٍ يَحْصُل مِنْهُ
صَوْتٌ كَوَرَقٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ سِبْحَةٍ أَوْ فَتْحِ بَابٍ أَوْ
مُطَالَعَةٍ فِي كُرَّاسٍ. وَالتَّصْفِيقُ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ
يُحْدِثُ صَوْتًا يُشَوِّشُ عَلَى الْخَطِيبِ وَالسَّامِعِينَ
لِخُطْبَتِهِ، وَلِذَا كَانَ حَرَامًا لإِِِخْلاَلِهِ بِآدَابِ
الاِسْتِمَاعِ وَانْتِهَاكِهِ لِحُرْمَةِ الْمَسْجِدِ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 429، ومراقي الفلاح وحاشية الطحطاوي عليه ص 202،
والفتاوى الهندية 1 / 99، 104، ومنهاج الطالبين 1 / 190، وروضة الطالبين 1
/ 291، ونهاية المحتاج للرملي 2 / 44، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 /
95.
(2) حاشية العدوي بهامش الخرشي على مختصر خليل 1 / 321، ومواهب الجليل لشرح
مختصر خليل والتاج والإكليل بهامشه 2 / 29 مكتبة النجاح بليبيا.
(3) كشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 380 م النصر الحديثة، والمغني لابن
قدامة 2 / 19 م الرياض الحديثة.
(12/82)
وَالْحُرْمَةُ عَلَى مَنْ صَفَّقَ
بِالْمَسْجِدِ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ أَوْ فِي رَحْبَتِهِ آكَدُ
مِمَّنْ فَعَل ذَلِكَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ مِمَّنْ لاَ يَسْمَعُونَ
الْخَطِيبَ. (1)
التَّصْفِيقُ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ وَالْخُطْبَةِ:
10 - التَّصْفِيقُ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ وَالْخُطْبَةِ جَائِزٌ إِِذَا
كَانَ لِحَاجَةٍ مُعْتَبَرَةٍ كَالاِسْتِئْذَانِ وَالتَّنْبِيهِ، أَوْ
تَحْسِينِ صِنَاعَةِ الإِِْنْشَادِ، أَوْ مُلاَعَبَةِ النِّسَاءِ
لأَِطْفَالِهِنَّ.
أَمَّا إِِذَا كَانَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، فَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ
بِحُرْمَتِهِ، وَبَعْضُهُمْ بِكَرَاهَتِهِ. وَقَالُوا: إِنَّهُ مِنَ
اللَّهْوِ الْبَاطِل، أَوْ مِنَ التَّشَبُّهِ بِعِبَادَةِ أَهْل
الْجَاهِلِيَّةِ عِنْدَ الْبَيْتِ كَمَا قَال تَعَالَى: {وَمَا كَانَ
صَلاَتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} . (2)
أَوْ هُوَ مِنَ التَّشَبُّهِ بِالنِّسَاءِ، لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ
مِنِ اخْتِصَاصِ النِّسَاءِ بِالتَّصْفِيقِ إِِذَا نَابَ الإِِْمَامَ
__________
(1) المدخل لابن الحاج 2 / 227 - 228، والفواكه الدواني 1 / 309 - 310 دار
المعرفة، والشرح الكبير 1 / 387 - 388، وفتح القدير 2 / 37 - 38، ورد
المحتار على الدر المختار 1 / 551، والفتاوى الهندية 1 / 147، ونيل المآرب
بشرح دليل الطالب 1 / 200 - 201 م الفلاح، ومنار السبيل في شرح الدليل 1 /
147 المكتب الإسلامي، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري 2 / 407، 414، والجامع
لأحكام القرآن للقرطبي 7 / 353 - 354، وشرح الروض 1 / 258، والمهذب 1 /
122.
(2) سورة الأنفال / 35.
(12/82)
شَيْءٌ فِي الصَّلاَةِ، فِي حِينِ أَنَّ
التَّسْبِيحَ لِلرِّجَال. (1) () (2)
__________
(1) ابن عابدين 5 / 253، والمدخل لابن الحاج 2 / 12، 13، وحاشية قليوبي على
منهاج الطالبين 1 / 190، ونهاية المحتاج للرملي 2 / 44، والجامع لأحكام
القرآن للقرطبي 7 / 400، والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 391، وكف الرعاع عن
محرمات اللهو والسماع 1 / 100، ونهاية المحتاج للرملي 2 / 44 - 45، والجامع
لأحكام القرآن للقرطبي 2 / 212 - 213.
(2) لا يخفى ما في هذه الاستدلالات من المآخذ، لأن كونه من اللهو الباطل
معناه أنه لا ثواب له (تحفة الأحوذي 5 / 266) وليس كل ما خلا من الثواب
حراما، ولأن التشبه بعبادة أهل الجاهلية لم يبق له وجود. وذم التصفيق في
الآية إنما هو لكونه عند البيت (في المسجد الح
(12/83)
تَصْفِيَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّصْفِيَةُ لُغَةً: مَأْخُوذٌ مِنْ صَفَّى الشَّيْءَ: إِِذَا أَخَذَ
خُلاَصَتَهُ. وَمِنْهُ: صَفَّيْتُ الْمَاءَ مِنَ الْقَذَى تَصْفِيَةً:
أَزَلْتُه عَنْهُ. كَمَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَالْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ
وَيُرَادُ بِالتَّصْفِيَةِ فِي الاِصْطِلاَحِ: مَجْمُوعُ الأَْعْمَال
الَّتِي غَايَتُهَا حَصْرُ حُقُوقِ الْمُتَوَفَّى وَالْتِزَامَاتِهِ
وَأَدَاءُ الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالتَّرِكَةِ لأَِصْحَابِهَا مِنَ
الدَّائِنِينَ وَالْمُوصَى لَهُمْ وَالْوَرَثَةِ.
الْحُكْمُ الإِِْجْمَالِيُّ:
2 - التَّصْفِيَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى اصْطِلاَحٌ حَدِيثٌ تَعَارَفَ
عَلَيْهِ أَهْل الْقَانُونِ. وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَنْهُ الْفُقَهَاءُ
بِالْعِنْوَانِ الْمَذْكُورِ، وَإِِنْ كَانُوا قَدْ عَنَوْا عِنَايَةً
شَدِيدَةً بِبَيَانِ أَحْكَامِ الْحُقُوقِ الَّتِي لِلتَّرِكَةِ أَوْ
عَلَيْهَا وَحُقُوقِ الْقُصَّرِ ضَمَانًا لأَِصْحَابِ تِلْكَ الْحُقُوقِ
حَتَّى لاَ يَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَضَمَانًا بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ
لِحُقُوقِ الدَّائِنِينَ وَالْمُوصَى لَهُمْ بِشَيْءٍ مِنَ التَّرِكَةِ.
وَهَذِهِ الأَْحْكَامُ مُفَصَّلَةٌ فِي مُصْطَلَحِ: (تَرِكَةٌ، إِرْثٌ،
وَصِيَّةٌ، وَإِِيصَاءٌ) .
(12/83)
تَصْلِيبٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّصْلِيبُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ صَلَّبَ، وَهُوَ يَأْتِي
لِمَعَانٍ: مِنْهَا:
أ - الْقِتْلَةُ الْمَعْرُوفَةُ يُقَال: صُلِبَ فُلاَنٌ صَلْبًا، وَصُلِّبَ
تَصْلِيبًا. فَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيزِ: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا
صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} (1) وَفِيهِ حِكَايَةُ قَوْل
فِرْعَوْنَ: {وَلأَِصْلُبَنكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْل} (2) وَأَصْلُهُ
عَلَى مَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ " الصَّلِيبُ " وَهُوَ فِي اللُّغَةِ
دُهْنُ الإِِْنْسَانِ أَوِ الْحَيَوَانِ، قَال: وَالصَّلْبُ هَذِهِ
الْقِتْلَةُ الْمَعْرُوفَةُ، مُشْتَقٌّ مِنْ ذَلِكَ، لأَِنَّ وَدَكَ
الْمَصْلُوبِ (أَيْ دُهْنَهُ) يَسِيل. (3)
وَمِنْهُ سُمِّيَ الصَّلِيبُ. وَهُوَ الْخَشَبَةُ الَّتِي يُصْلَبُ
عَلَيْهَا مَنْ يُقْتَل كَذَلِكَ ثُمَّ اسْتُعْمِل لِمَا يَتَّخِذُهُ
النَّصَارَى عَلَى ذَلِكَ الشَّكْل وَجَمْعُهُ الصُّلْبَانُ، وَالصُّلُبُ.
ب - وَالتَّصْلِيبُ أَيْضًا صِنَاعَةُ الصَّلِيبِ، أَوْ
__________
(1) سورة النساء / 157.
(2) سورة طه / 71.
(3) لسان العرب مادة: " صلب ".
(12/84)
عَمَل نَقْشٍ فِي ثَوْبٍ أَوْ جِدَارٍ أَوْ
قِرْطَاسٍ أَوْ غَيْرِهَا بِشَكْل الصَّلِيبِ، أَوِ التَّصْلِيبُ
بِالإِِْشَارَةِ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالصَّلِيبُ خَطَّانِ
مُتَقَاطِعَانِ (1) . وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَتْرُكُ
فِي بَيْتِهِ شَيْئًا فِيهِ تَصَالِيبُ إِلاَّ نَقَضَهُ (2) أَيْ قَطَعَ
مَوْضِعَ التَّصْلِيبِ فِيهِ، وَفِي رِوَايَةٍ نَهَى عَنِ الصَّلاَةِ فِي
الثَّوْبِ الْمُصَلَّبِ. (3) وَهُوَ الَّذِي فِيهِ نَقْشٌ كَالصُّلْبَانِ
(4) .
ج - وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلْبِ فِي الصَّلاَةِ (5) وَهَيْئَةُ الصَّلْبِ فِي
الصَّلاَةِ أَنْ يَضَعَ الْمُصَلِّي يَدَيْهِ عَلَى خَاصِرَتَيْهِ،
وَيُجَافِيَ عَضُدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ فِي الْقِيَامِ. وَإِِنَّمَا نَهَى
عَنْهُ لِمُشَابَهَتِهِ شَكْل الْمَصْلُوبِ. وَتُنْظَرُ أَحْكَامُ ذَلِكَ
فِي الصَّلاَةِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 199.
(2) حديث: " إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يترك في بيته شيئا فيه. .
. " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 385 ط السلفية) وأخرجه أبو داود (4 / 383 ط
عزت عبيد الدعاس) . وأحمد (6 / 52 ط المكتب الإسلامي) بنحوه.
(3) حديث: " نهى عن الصلاة في الثوب المصلب " أورده صاحب لسان العرب (2 /
461) ولم نجده فيما بين أيدينا من كتب السنة.
(4) لسان العرب.
(5) حديث: " نهى عن الصلب في الصلاة " أخرجه أحمد (2 / 30 ط المكتب
الإسلامي) . وأبو داود (1 / 556 ط عزت عبيد الدعاس) . بمعناه. وقال الحافظ
العراقي: إسناده صحيح (تخريج إحياء علوم الدين 1 / 162 ط مصطفى الحلبي) .
(12/84)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّمْثِيل:
2 - التَّمْثِيل: مَصْدَرُ مَثَّل مِنْ مَثَّلْتُ بِالْقَتِيل مَثْلاً:
إِِذَا جَدَعْتَهُ وَظَهَرَتْ آثَارُ فِعْلِكَ عَلَيْهِ تَنْكِيلاً،
وَالتَّشْدِيدُ فِي مَثَّل لِلْمُبَالَغَةِ (1) فَبَيْنَ التَّصْلِيبِ
وَالتَّمْثِيل مُبَايَنَةٌ؛ لأَِنَّ التَّصْلِيبَ رَبْطٌ لِلْعُقُوبَةِ،
أَمَّا التَّمْثِيل فَهُوَ مُجَرَّدُ الْجَدْعِ وَالتَّقْطِيعِ.
ب - الصَّبْرُ:
3 - الصَّبْرُ مِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ: نَصْبُ الإِِْنْسَانِ
لِلْقَتْل، أَوْ أَنْ يُمْسِكَ الطَّائِرُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ ذَوَاتِ
الرُّوحِ يُصْبِرُ حَيًّا، ثُمَّ يُرْمَى بِشَيْءٍ حَتَّى يُقْتَل (2) .
فَالصَّبْرُ أَعَمُّ مِنَ التَّصْلِيبِ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِلاَ
صَلْبٍ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
يَتَنَاوَل الْحُكْمُ أَمْرَيْنِ:
أ - الصَّلْبُ، وَهُوَ الْقِتْلَةُ الْمَعْرُوفَةُ.
ب - الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالصَّلِيبِ.
أَوَّلاً: حُكْمُ التَّصْلِيبِ (بِمَعْنَى الْقِتْلَةِ الْمَعْرُوفَةِ)
4 - الصَّلْبُ قِتْلَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَهِيَ أَنْ يُرْفَعَ الْمُرَادُ
قَتْلُهُ عَلَى جِذْعٍ أَوْ شَجَرَةٍ أَوْ خَشَبَةٍ قَائِمَةٍ، وَتُمَدُّ
__________
(1) لسان العرب مادة: " مثل ".
(2) لسان العرب.
(12/85)
يَدَاهُ عَلَى خَشَبَةٍ مُعْتَرِضَةٍ،
وَتُرْبَطُ رِجْلاَهُ بِالْخَشَبَةِ الْقَائِمَةِ، وَيُتْرَكُ عَلَيْهَا
هَكَذَا حَتَّى يَمُوتَ. وَقَدْ تَسَمَّرَ يَدَاهُ وَرِجْلاَهُ
بِالْخَشَبِ. وَقَدْ يُقْتَل أَوَّلاً، وَيُصْلَبُ بَعْدَ زُهُوقِ رُوحِهِ
عَلَى الْخَشَبَةِ لِلتَّشْهِيرِ بِهِ.
وَكَانَتْ هَذِهِ الْقِتْلَةُ شَائِعَةً فِي الأُْمَمِ السَّابِقَةِ
كَالْفُرْسِ وَالرُّومَانِ وَمَنْ قَبْلَهُمْ. وَنَصَّ الْقُرْآنُ عَلَى
أَنَّهَا كَانَتْ مِنْ فِعْل فِرْعَوْنَ بِأَعْدَائِهِ. وَفِي قِصَّةِ
يُوسُفَ {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ
خَمْرًا وَأَمَّا الآْخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُل الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ}
(1)
وَقَدْ حَرَّمَ الإِِْسْلاَمُ هَذِهِ الْقِتْلَةَ لِمَا فِيهَا مِنَ
التَّعْذِيبِ الشَّدِيدِ وَالْمُثْلَةِ وَالتَّشْهِيرِ، فَقَال النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِِْحْسَانَ
عَلَى كُل شَيْءٍ، فَإِِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِِذَا
ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ،
وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ (2) وَنَهَى عَنِ الْمُثْلَةِ وَلَوْ بِالْكَلْبِ
الْعَقُورِ (3)
__________
(1) سورة يوسف / 41.
(2) حديث: " إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم. . . " أخرجه مسلم
(3 / 1548 ط عيسى الحلبي) . وأحمد (4 / 124 ط المكتب الإسلامي) . واللفظ
له.
(3) حديث: " نهى عن المثلة، ولو بالكلب العقور " قال الهيثمي: رواه
الطبراني وإسناده منقطع. (مجمع الزوائد 6 / 249 ط دار الكتاب العربي) .
ولكنه ثبت بلفظ أنه " نهى عن النهبة والمثلة " دون الزيادة، أخرجه البخاري
(الفتح 9 / 643 ط السلفية) .
(12/85)
5 - وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الأَْصْل
جَرَائِمُ مُحَدَّدَةٌ جُعِلَتْ عُقُوبَتُهَا الصَّلْبَ بَعْدَ الْقَتْل
لِعَوَارِضَ خَاصَّةٍ اقْتَضَتْهَا. وَهَذِهِ الْجَرَائِمُ هِيَ مَا يَلِي:
أ - الإِِْفْسَادُ فِي الأَْرْضِ:
جُعِلَتْ عُقُوبَةُ الإِِْفْسَادِ فِي الأَْرْضِ بِالْمُحَارَبَةِ (قَطْعِ
الطَّرِيقِ) الصَّلْبَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ
يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَْرْضِ فَسَادًا
أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ
وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَْرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ
خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآْخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلاَّ
الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْل أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . (1)
وَإِِنَّمَا كَانَ الصَّلْبُ عُقُوبَةً فِي هَذِهِ الْجَرِيمَةِ؛ لأَِنَّ
قُطَّاعَ الطُّرُقِ يَسْتَأْسِدُونَ عَلَى النَّاسِ، فَيُرَوِّعُونَ
الآْمَنِينَ، وَيُظْهِرُونَ الْفَسَادَ، فَجُعِل الصَّلْبُ عُقُوبَةً
لَهُمْ؛ لِيَرْتَدِعَ بِهِ مَنْ سِوَاهُمْ مِنَ الْمُفْسِدِينَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الصَّلْبِ:
فَقِيل: هُوَ حَدٌّ لاَ بُدَّ مِنْ إِقَامَتِهِ.
وَقِيل: الإِِْمَامُ مُخَيَّرٌ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ مِنَ
__________
(1) سورة المائدة / 32، 33.
(12/86)
الْعُقُوبَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي
الآْيَةِ. (1) عَلَى تَرْتِيبٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ:
(حِرَابَةٌ) .
كَيْفِيَّةُ تَنْفِيذِ عُقُوبَةِ الصَّلْبِ فِي قَاطِعِ الطَّرِيقِ:
6 - بِاسْتِقْرَاءِ كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ يَتَبَيَّنُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى
أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِصَلْبِ قَاطِعِ الطَّرِيقِ: أَنْ يُحْمَل
عَلَى الْخَشَبَةِ حَيًّا، ثُمَّ يُتْرَكَ عَلَيْهَا حَتَّى يَمُوتَ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا: فَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالأَْوْزَاعِيُّ:
يُصْلَبُ حَيًّا، ثُمَّ يُقْتَل مَصْلُوبًا بِطَعْنِهِ بِحَرْبَةٍ؛ لأَِنَّ
الصَّلْبَ عُقُوبَةٌ، وَإِِنَّمَا يُعَاقَبُ الْحَيُّ لاَ الْمَيِّتُ؛
وَلأَِنَّهُ جَزَاءٌ عَلَى الْمُحَارَبَةِ، فَيُشْرَعُ فِي الْحَيَاةِ
كَسَائِرِ الْجَزَاءَاتِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: يُقْتَل أَوَّلاً، ثُمَّ يُصْلَبُ بَعْدَ
قَتْلِهِ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَ ذِكْرَ الْقَتْل عَلَى ذِكْرِ
الصَّلْبِ، فَيُلْتَزَمُ هَذَا التَّرْتِيبُ حَيْثُ اجْتَمَعَا؛ وَلأَِنَّ
الْقَتْل إِِذَا أُطْلِقَ فِي الشَّرْعِ كَانَ قَتْلاً بِالسَّيْفِ؛
وَلأَِنَّ فِي قَتْلِهِ بِالصَّلْبِ تَعْذِيبًا لَهُ وَمُثْلَةً، وَقَدْ
نَهَى الشَّرْعُ عَنِ الْمُثْلَةِ.
أَمَّا الْمُدَّةُ الَّتِي يَبْقَى فِيهَا الْمَصْلُوبُ عَلَى الْخَشَبَةِ
بَعْدَ قَتْلِهِ، فَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: يُصْلَبُ
ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُصْلَبُ قَدْرَ
__________
(1) المغني لابن قدامة 8 / 290، ط 3. القاهرة مكتبة المنار 1367 هـ، والدر
وحاشية ابن عابدين 3 / 213، وشرح المنهاج بحاشية القليوبي وعميرة 4 / 199،
200.
(2) لم يذكروا التسمير، والظاهر أنه لا ينبغي استعماله، لما تقدم من النهي
من المثلة، بل يكتفى بالربط.
(12/86)
مَا يَشْتَهِرُ أَمْرُهُ، دُونَ تَحْدِيدٍ
بِمُدَّةٍ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُنْزَل إِِذَا خِيفَ تَغَيُّرُهُ.
(1)
ب - مَنْ قَتَل غَيْرَهُ عَمْدًا بِالصَّلْبِ حَتَّى مَاتَ:
7 - مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ:
أَنَّ لِوَلِيِّ الْمَقْتُول أَنْ يُطَالِبَ بِقَتْل الْجَانِي قِصَاصًا
بِمِثْل مَا قَتَل بِهِ. قَالُوا: وَهَذَا مَعْنَى الْقِصَاصِ، وَهُوَ
الْمُسَاوَاةُ وَالْمُمَاثَلَةُ، وَلَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ بِالسَّيْفِ.
فَإِِنْ قُتِل بِالسَّيْفِ، وَكَانَ الْجَانِي قَدْ قَتَل بِأَشَدَّ مِنْهُ
كَانَ الْوَلِيُّ قَدْ تَرَكَ الْمُمَاثَلَةَ، وَهِيَ شَيْءٌ مِنْ حَقِّهِ.
وَمُقْتَضَى هَذَا الْقَوْل: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ صَلْبُ الْقَاتِل
حَتَّى الْمَوْتِ، إِنْ كَانَتْ جِنَايَتُهُ بِالصَّلْبِ.
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لاَ
قَوَدَ إِلاَّ بِالسَّيْفِ، فَعَلَى هَذَا لاَ يَتَأَتَّى عُقُوبَةُ
الصَّلْبِ قِصَاصًا. وَمَعَ ذَلِكَ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ
الْوَلِيَّ إِِذَا اقْتَصَّ بِغَيْرِ السَّيْفِ عُزِّرَ، وَوَقَعَ
الْقِصَاصُ مَوْقِعَهُ. (2)
ج - التَّصْلِيبُ فِي عُقُوبَةِ التَّعْزِيرِ:
8 - قَال الْمَاوَرْدِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: يَجُوزُ صَلْبُ
الْمُعَزَّرِ حَيًّا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَقَطْ (أَيْ وَيُطْلَقُ
بَعْدَهَا)
__________
(1) الدر بحاشية ابن عابدين 3 / 213، والشرح الكبير بهامش الدسوقي 4 / 349،
وقليوبي 4 / 200، والمغني 8 / 90، 291.
(2) الدر بحاشية ابن عابدين 5 / 346، والمغني 7 / 688.
(12/87)
فَقَدْ صَلَبَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلاً عَلَى جَبَلٍ يُقَال لَهُ أَبُو نَابٍ
(1) قَال: وَلاَ يُمْنَعُ مُدَّةَ صَلْبِهِ مِنْ طَعَامٍ وَلاَ شَرَابٍ
وَلاَ وُضُوءٍ لِصَلاَةٍ. وَيُصَلِّي مُومِئًا، وَيُعِيدُ الصَّلاَةَ
بَعْدَ أَنْ يُطْلَقَ سَرَاحُهُ. وَنَقَل ذَلِكَ مُتَأَخِّرُو
الشَّافِعِيَّةِ وَأَقَرُّوهُ. وَقَال صَاحِبُ مُغْنِي الْمُحْتَاجِ:
يَنْبَغِي أَنْ يُقَال بِتَمْكِينِ الْمَصْلُوبِ فِي هَذِهِ الْحَال مِنَ
الصَّلاَةِ مُطْمَئِنًّا، يَعْنِي أَنْ يُصَلِّيَ مُرْسَلاً صَلاَةً
تَامَّةً، ثُمَّ يُعَادُ صَلْبُهُ. وَنَقَل ابْنُ فَرْحُونَ مِنَ
الْمَالِكِيَّةِ فِي التَّبْصِرَةِ قَوْل الْمَاوَرْدِيُّ وَأَقَرَّهُ.
وَيَجُوزُ التَّعْزِيرُ بِالصَّلْبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَيُرَاعَى مَا
ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقَالُوا: يُصَلِّي الْمَصْلُوبُ حِينَئِذٍ
بِالإِِْيمَاءِ إِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إِلاَّ ذَلِكَ، وَلاَ إِعَادَةَ
عَلَيْهِ بَعْدَ إِطْلاَقِهِ. (2)
__________
(1) حديث: " صلب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا على. . . . ". لم نعثر
عليه في المصادر التي بين أيدينا من كتب الحديث، وإنما أورده الماوردي في
الأحكام السلطانية (ص 237 ط مصطفى الحلبي) . وأصل فعل التصليب ورد في شأن
الرعاة العرنيين فيما أخرجه النسائي (7 / 95 ط التجارية) . وأصله في
البخاري.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 239 القاهرة ط مصطفى الحلبي 1327 هـ،
ومغني المحتاج 4 / 192، والتبصرة لابن فرحون بهامش فتح العلي المالك 2 /
304 القاهرة ط مصطفى الحلبي 1378 هـ، وكشاف القناع عن متن الإقناع 6 / 125
الرياض، مكتبة النصر.
(12/87)
ثَانِيًا: الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ
بِالصُّلْبَانِ
صِنَاعَةُ الصَّلِيبِ وَاتِّخَاذُهُ:
9 - لاَ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَصْنَعَ صَلِيبًا، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ
أَنْ يَأْمُرَ بِصِنَاعَتِهِ، (1) وَالْمُرَادُ صِنَاعَةُ مَا يُرْمَزُ
بِهِ إِِلَى التَّصْلِيبِ. وَلَيْسَ لَهُ اتِّخَاذُهُ، وَسَوَاءٌ عَلَّقَهُ
أَوْ نَصَبَهُ أَوْ لَمْ يُعَلِّقْهُ وَلَمْ يَنْصِبْهُ. وَلاَ يَجُوزُ
لَهُ إِظْهَارُ هَذَا الشِّعَارِ فِي طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ
وَأَمَاكِنِهِمُ الْعَامَّةِ أَوِ الْخَاصَّةِ، وَلاَ جَعْلُهُ فِي
ثِيَابِهِ، لِمَا رَوَى عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال:
أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عُنُقِي
صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ. فَقَال: يَا عَدِيُّ، اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الْوَثَنَ
(2) وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: " قَال رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي
رَحْمَةً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، وَأَمَرَنِي بِمَحْقِ الْمَزَامِيرِ
وَالْمَعَازِفِ وَالأَْوْثَانِ وَالصُّلُبِ وَأَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ. (3)
10 - يُكْرَهُ الصَّلِيبُ فِي الثَّوْبِ وَنَحْوِهِ كَالْقَلَنْسُوَةِ
وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْخَوَاتِمِ. قَال ابْنُ حَمْدَانَ:
وَيُحْتَمَل التَّحْرِيمُ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا نَقَلَهُ صَالِحٌ عَنِ
__________
(1) الآداب الشرعية 3 / 513.
(2) حديث: " أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب. . . " أخرجه
الترمذي (5 / 278 ط مصطفى الحلبي) . وقال: هذا حديث غريب.
(3) حديث: " إن الله بعثني رحمة وهدى للعالمين وأمرني بمحق. . . " أخرجه
أحمد (5 / 268 ط المكتب الإسلامي) . والطبراني في المعجم الكبير (8 / 232 ط
الوطن العربي) . وقال الهيثمي وفيه علي بن يزيد وهو ضعيف (مجمع الزوائد 5 /
69) ط الكتاب العربي.
(12/88)
الإِِْمَامِ أَحْمَدَ، وَصَوَّبَهُ صَاحِبُ
الإِِْنْصَافِ. (1)
وَدَلِيل ذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الَّذِي يُفِيدُ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْطَعُ
صُورَةَ الصَّلِيبِ مِنَ الثَّوْبِ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ عِنْدَ
أَحْمَدَ عَنْ أُمِّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أُذَيْنَةَ قَالَتْ: كُنَّا
نَطُوفُ مَعَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
فَرَأَتْ عَلَى امْرَأَةٍ بُرْدًا فِيهِ تَصْلِيبٌ، فَقَالَتْ أُمُّ
الْمُؤْمِنِينَ: اطْرَحِيهِ. اطْرَحِيهِ. فَإِِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِِذَا رَأَى نَحْوَ هَذَا فِي الثَّوْبِ
قَضَبَهُ. (2) وَقَال إِبْرَاهِيمُ: أَصَابَ أَصْحَابُنَا خَمَائِصَ فِيهَا
صُلُبٌ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهَا بِالسُّلُوكِ يَمْحُونَهَا بِذَلِكَ.
الْمُصَلِّي وَالصَّلِيبُ:
11 - يُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَكُونَ فِي قِبْلَتِهِ صَلِيبٌ؛ لأَِنَّ
فِيهِ تَشَبُّهًا بِالنَّصَارَى فِي عِبَادَتِهِمْ، وَالتَّشَبُّهُ بِهِمْ
فِي الْمَذْمُومِ مَكْرُوهٌ، وَإِِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ.
وَلَمْ نَجِدْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
نَصًّا فِي ذَلِكَ. (3)
__________
(1) الآداب الشرعية 3 / 512، 513، وكشاف القناع 1 / 280، والإنصاف 1 / 474،
والمغني 1 / 590.
(2) حديث: " كان إذا رأى نحو هذا في الثوب قضبه " أخرجه أحمد (6 / 140 ط
المكتب الإسلامي) . قال الساعاتي: لم أقف عليه لغير الإمام أحمد وسنده جيد.
(الفتح الرباني 17 / 285 ط دار الشهاب) .
(3) ابن عابدين 1 / 435. واللجنة ترى أن هذه المسألة لا ينبغي أن يكون في
حظرها خلاف.
(12/88)
الْقَطْعُ فِي سَرِقَةِ الصَّلِيبِ:
12 - لاَ قَطْعَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي سَرِقَةِ
الصَّلِيبِ وَلَوْ كَانَ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، وَلَوْ جَاوَزَتْ
قِيمَتُهُ نِصَابًا. وَذَلِكَ لأَِنَّهُ مُنْكَرٌ، فَتُتَأَوَّل
الإِِْبَاحَةُ لِلسَّارِقِ بِتَأْوِيل نِيَّةِ الْكَسْرِ نَهْيًا عَنِ
الْمُنْكَرِ. قَال فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: بِخِلاَفِ الدِّرْهَمِ الَّذِي
عَلَيْهِ الصُّورَةُ، فَإِِنَّهُ مَا أُعِدَّ لِلْعِبَادَةِ، فَلاَ
تَثْبُتُ شُبْهَةُ إِبَاحَةِ الْكَسْرِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يُقْطَعُ بِهِ إِنْ كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ فِي حِرْزٍ
لاَ شُبْهَةَ فِيهِ؛ لِكَمَال الْمَالِيَّةِ وَلِوُجُودِ الْحِرْزِ. أَمَّا
إِنْ كَانَ فِي مُصَلاَّهُمْ فَسَرَقَهُ، فَلاَ قَطْعَ لِعَدَمِ الْحِرْزِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَعَلَى الأَْوَّل لَوْ كَانَ السَّارِقُ ذِمِّيًّا
وَسَرَقَ مِنْ حِرْزٍ فَيُقْطَعُ؛ لأَِنَّ الذِّمِّيَّ لاَ تَأْوِيل لَهُ.
قَال: إِلاَّ أَنْ يُقَال تَأْوِيل غَيْرِهِ يَكْفِي فِي وُجُودِ
الشُّبْهَةِ فَلاَ يُقْطَعُ (1) وَيَظْهَرُ أَنَّ مَذْهَبَ الْمَالِكِيَّةِ
جَارٍ عَلَى مِثْل مَا قَال ابْنُ عَابِدِينَ فِي آخِرِ كَلاَمِهِ،
فَإِِنَّهُ لاَ قَطْعَ عِنْدَهُمْ فِي سَرِقَةِ الْخَمْرِ، وَلَوْ
سَرَقَهَا ذِمِّيٌّ مِنْ ذِمِّيٍّ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِي سَرِقَةِ
الصَّلِيبِ كَذَلِكَ (2) .
وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ فِي سَرِقَةِ الْمُحَرَّمِ مِنْ صَلِيبٍ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 198، 199، وفتح القدير / 133، وكشاف القناع 6 / 131.
(2) الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 336.
(12/89)
وَغَيْرِهِ بَيْنَ حَالَتَيْنِ، فَقَالُوا:
إِنْ سَرَقَهُ بِقَصْدِ الإِِْنْكَارِ فَلاَ قَطْعَ، وَإِِلاَّ
فَالأَْصَحُّ - عَلَى مَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ - أَنَّهُ يُقْطَعُ بِهِ
إِنْ بَلَغَ مَكْسُورُهُ نِصَابًا. (1)
إِتْلاَفُ الصَّلِيبِ:
13 - مَنْ كَسَرَ صَلِيبًا لِمُسْلِمٍ فَلاَ ضَمَانَ فِيهِ اتِّفَاقًا.
وَإِِنْ كَانَ لأَِهْل الذِّمَّةِ، فَإِِنْ أَظْهَرُوهُ كَانَتْ
إِزَالَتُهُ وَاجِبَةً، وَلاَ ضَمَانَ أَيْضًا.
وَإِِنْ كَانَ اقْتِنَاؤُهُمْ لَهُ عَلَى وَجْهٍ يُقَرُّونَ عَلَيْهِ،
كَالَّذِي يَجْعَلُونَهُ فِي دَاخِل كَنَائِسِهِمْ أَوْ بُيُوتِهِمْ،
يُسِرُّونَهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ وَلاَ يُظْهِرُونَهُ، فَإِِنْ غَصَبَهُ
غَاصِبٌ وَجَبَ رَدُّهُ اتِّفَاقًا. أَمَّا إِنْ أَتْلَفَهُ مُتْلِفٌ،
فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ بِذَلِكَ: فَعِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ: فِيهِ الضَّمَانُ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِي ضَمَانِ
الْمُسْلِمِ خَمْرَ الذِّمِّيِّ؛ لأَِنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي
حَقِّهِمْ كَتَقَوُّمِ الْخَل فِي حَقِّنَا. وَقَدْ أُمِرْنَا بِتَرْكِهِمْ
وَمَا يَدِينُونَ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: لاَ يَضْمَنُ الْمُسْلِمُ
الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ لِمُسْلِمٍ وَلاَ لِذِمِّيٍّ، وَهَكَذَا إِِذَا
أَتْلَفَهُمَا ذِمِّيٌّ عَلَى ذِمِّيٍّ؛ لأَِنَّهُ سَقَطَ تَقَوُّمُهُمَا
فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَكَذَا فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ؛ لأَِنَّهُمْ تَبَعٌ
لَنَا
__________
(1) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 4 / 187.
(12/89)
فِي الأَْحْكَامِ، فَلاَ يَجِبُ
بِإِِتْلاَفِهِمَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، وَهُوَ الضَّمَانُ، فَكَذَا
يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي الصَّلِيبِ؛ وَلأَِنَّ الْكُفَّارَ
مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، فَالتَّحْرِيمُ ثَابِتٌ فِي
حَقِّهِمْ، لَكِنَّا أُمِرْنَا بِتَرْكِ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِيمَا لاَ
يُظْهِرُونَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا لاَ يَقْتَضِي الضَّمَانَ نَظَرًا
إِِلَى أَصْل التَّحْرِيمِ. وَفِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ: إِنَّ الأَْصْنَامَ
وَالصُّلْبَانَ لاَ يَجِبُ فِي إِبْطَالِهَا شَيْءٌ، لأَِنَّهَا
مُحَرَّمَةُ الاِسْتِعْمَال، وَلاَ حُرْمَةَ لِصَنْعَتِهَا (أَيْ لَيْسَتْ
مُحْتَرَمَةً) وَإِِنَّ الأَْصَحَّ أَنَّهَا لاَ تُكْسَرُ الْكَسْرَ
الْفَاحِشَ، بَل تُفْصَل لِتَعُودَ كَمَا كَانَتْ قَبْل التَّأْلِيفِ،
لِزَوَال الاِسْمِ بِذَلِكَ. وَالْقَوْل الثَّانِي: تُكْسَرُ وَتُرَضَّضُ
حَتَّى تَنْتَهِيَ إِِلَى حَدٍّ لاَ يُمْكِنُ إِعَادَتُهُ صَنَمًا أَوْ
صَلِيبًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ.
وَنَقَل صَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ عَنِ الْقَاضِي
ابْنِ عَقِيلٍ أَنَّ الصَّلِيبَ إِنْ كَانَ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ
فَلاَ يُضْمَنُ إِِذَا كُسِرَ، أَمَّا إِِذَا أُتْلِفَ فَيُضْمَنُ
مَكْسُورًا.
وَفُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلِيبِ مِنَ الْخَشَبِ بِأَنَّ
الصَّنْعَةَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ تَابِعَةٌ؛ لأَِنَّهَا أَقَل
قِيمَةً، وَفِي الْخَشَبِ أَوِ الْحَجَرِ هِيَ الأَْصْل فَلاَ يُضْمَنُ.
فَعَلَيْهِ يُضْمَنُ الصَّلِيبُ الْمَسْتُورُ لِلذِّمِّيِّ إِنْ كَانَ مِنْ
ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ إِِذَا أَتْلَفَ بِمِثْلِهِ ذَهَبًا بِالْوَزْنِ،
وَتُلْغَى صَنْعَتُهُ. قَال الْحَارِثِيُّ: وَلاَ
(12/90)
خِلاَفَ (1) فِيهِ.
أَهْل الذِّمَّةِ وَالصُّلْبَانِ:
14 - يَجُوزُ إِقْرَارُ أَهْل الذِّمَّةِ وَالصُّلْحُ مَعَهُمْ عَلَى
إِبْقَاءِ صُلْبَانِهِمْ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ عَلَيْهِمْ أَنْ لاَ
يُظْهِرُوهَا، بَل تَكُونُ فِي كَنَائِسِهِمْ وَمَنَازِلِهِمُ الْخَاصَّةِ.
وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِكَنَائِسِهِمْ كَنَائِسُهُمُ
الْقَدِيمَةُ الَّتِي أُقِرُّوا عَلَيْهَا. وَفِي عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى نَصَارَى الشَّامِ " بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. هَذَا كِتَابٌ لِعُمَرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
مِنْ نَصَارَى الشَّامِ: لمَّا قَدِمْتُمْ عَلَيْنَا سَأَلْنَاكُمُ
الأَْمَانَ. إِِلَى أَنْ قَالُوا: وَشَرَطْنَا لَكُمْ عَلَى أَنْفُسِنَا
أَنْ لاَ نُظْهِرَ صَلِيبًا وَلاَ كِتَابًا (أَيْ مِنْ كُتُبِ دِينِهِمْ)
فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ وَلاَ أَسْوَاقِهِمْ، وَلاَ
نُظْهِرُ الصَّلِيبَ فِي كَنَائِسِنَا إِلَخْ " وَقَوْلُهُمْ: " فِي
كَنَائِسِنَا " الْمُرَادُ بِهِ خَارِجَهَا مِمَّا يَرَاهُ الْمُسْلِمُ.
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: لاَ يُمَكَّنُونَ مِنَ التَّصْلِيبِ عَلَى
أَبْوَابِ كَنَائِسِهِمْ وَظَوَاهِرِ حِيطَانِهَا، وَلاَ يُتَعَرَّضُ
لَهُمْ إِِذَا نَقَشُوا دَاخِلَهَا.
وَعَنْ مَيْمُونَ بْنِ مِهْرَانَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ
كَتَبَ: أَنْ يُمْنَعَ نَصَارَى الشَّامِ أَنْ يَضْرِبُوا
__________
(1) ابن عابدين 5 / 133، وتكملة فتح القدير لقاضي زاده 8 / 284 - 286، وشرح
العناية بهامشه 8 / 287، والمغني 5 / 276، وشرح المنهاج بحاشية القليوبي 3
/ 33، وكشاف القناع 4 / 78، 116، 132، 133.
(12/90)
نَاقُوسًا، وَلاَ يَرْفَعُوا صَلِيبَهُمْ
فَوْقَ كَنَائِسِهِمْ، فَإِِنْ قُدِرَ عَلَى مَنْ فَعَل ذَلِكَ مِنْهُمْ
فَإِِنَّ سَلَبَهُ لِمَنْ وَجَدَهُ. (1)
وَكَذَا لَوْ جَعَلُوا ذَلِكَ فِي مَنَازِلِهِمْ وَأَمَاكِنِهِمُ
الْخَاصَّةِ لاَ يُمْنَعُونَ مِنْهُ. (2)
وَيُمْنَعُونَ مِنْ لُبْسِ الصَّلِيبِ وَتَعْلِيقِهِ فِي رِقَابِهِمْ أَوْ
أَيْدِيهِمْ، وَلاَ يُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ بِذَلِكَ الإِِْظْهَارِ،
وَلَكِنْ يُؤَدَّبُ مَنْ فَعَلَهُ مِنْهُمْ. (3)
وَيُلاَحَظُونَ فِي مَوَاسِمِ أَعْيَادِهِمْ بِالذَّاتِ، إِذْ قَدْ
يُحَاوِلُونَ إِظْهَارَ الصَّلِيبِ فَيُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ، لِمَا فِي
عَهْدِ عُمَرَ عَلَيْهِمْ عَدَمَ إِظْهَارِهِ فِي أَسْوَاقِ
الْمُسْلِمِينَ.
وَيُؤَدَّبُ مَنْ فَعَلَهُ مِنْهُمْ، وَيُكْسَرُ الصَّلِيبُ الَّذِي
يُظْهِرُونَهُ، وَلاَ شَيْءَ عَلَى مَنْ كَسَرَهُ (4) .
__________
(1) في الأصل: فإن سكنه. وما ذكرناه هو الصواب.
(2) الطحطاوي على الدر المختار 4 / 196، وفتح القدير 5 / 300، وأحكام أهل
الذمة لابن القيم ص 719 - 721.
(3) كشاف القناع 3 / 129، 133، 144.
(4) جواهر الإكليل 1 / 268، ومواهب الجليل ومعه التاج والإكليل 3 / 385،
والدسوقي على الشرح الكبير 3 / 204. ترى اللجنة أنه ينبغي أن يرجع إلى عهد
سيدنا عمر، وأن تنفذ العهود التي قطعت لهم عند استسلامهم له، تطبيقا لقوله
تعإلى: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) (سورة المائدة / 1) وقوله:
(وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم)
(12/91)
الصَّلِيبُ فِي الْمُعَامَلاَتِ
الْمَالِيَّةِ:
15 - لاَ يَصِحُّ لِمُسْلِمٍ بَيْعُ الصَّلِيبِ شَرْعًا، وَلاَ
الإِِْجَارَةُ عَلَى عَمَلِهِ. وَلَوِ اسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ فَلاَ
يَسْتَحِقُّ صَانِعُهُ أُجْرَةً، وَذَلِكَ بِمُوجِبِ الْقَاعِدَةِ
الشَّرْعِيَّةِ الْعَامَّةِ فِي حَظْرِ بَيْعِ الْمُحَرَّمَاتِ،
إِجَارَتُهَا، وَالاِسْتِئْجَارُ عَلَى عَمَلِهَا. (1)
وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ: لاَ يَصِحُّ بَيْعُ الصُّوَرِ وَالصُّلْبَانِ
وَلَوْ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ حَلْوَى. (2)
وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْخَشَبَةِ لِمَنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ يَتَّخِذُهَا
صَلِيبًا. (3)
وَسُئِل ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَنْ خَيَّاطٍ خَاطَ لِلنَّصَارَى سَيْرَ
حَرِيرٍ فِيهِ صَلِيبٌ ذَهَبٌ فَهَل عَلَيْهِ إِثْمٌ فِي خِيَاطَتِهِ؟
وَهَل تَكُونُ أُجْرَتُهُ حَلاَلاً أَمْ لاَ؟ فَقَال: إِِذَا أَعَانَ
الرَّجُل عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ كَانَ آثِمًا. . . ثُمَّ قَال:
وَالصَّلِيبُ لاَ يَجُوزُ عَمَلُهُ بِأُجْرَةٍ وَلاَ غَيْرِ أُجْرَةٍ،
كَمَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الأَْصْنَامِ وَلاَ عَمَلُهَا. كَمَا ثَبَتَ فِي
الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَال: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ
وَالْخِنْزِيرِ
__________
(1) الطحطاوي على الدر المختار 4 / 196، وفتح القدير وحواشيه 6 / 41 - 44،
وكشاف القناع 3 / 156، وزاد المعاد 4 / 245 ط مصطفى الحلبي.
(2) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 2 / 158، والفتاوى الهندية 4 / 450.
(3) منح الجليل 2 / 469، وشرح منتهى الإدارات 2 / 155 ط دار أنصار السنة
بمصر، والحطاب 4 / 254.
(12/91)
وَالأَْصْنَامِ (1) ". وَثَبَتَ أَنَّهُ
لَعَنَ الْمُصَوِّرِينَ (2) . وَصَانِعُ الصَّلِيبِ مَلْعُونٌ لَعَنَهُ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَمَنْ أَخَذَ عِوَضًا عَنْ عَيْنٍ مُحَرَّمَةٍ مِثْل
أُجْرَةِ حَامِل الْخَمْرِ وَأُجْرَةِ صَانِعِ الصَّلِيبِ وَأُجْرَةِ
الْبَغِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلْيَتَصَدَّقْ بِهِ، وَلْيَتُبْ مِنْ ذَلِكَ
الْعَمَل الْمُحَرَّمِ، وَتَكُونُ صَدَقَتُهُ بِالْعِوَضِ كَفَّارَةً لِمَا
فَعَلَهُ، فَإِِنَّ هَذَا الْعِوَضَ لاَ يَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ؛
لأَِنَّهُ عِوَضٌ خَبِيثٌ. نَصَّ عَلَيْهِ الإِِْمَامُ أَحْمَدُ فِي مِثْل
حَامِل الْخَمْرِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَصْحَابُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُمْ. (3)
__________
(1) حديث: " إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام " أخرجه
البخاري (فتح الباري 4 / 424 ط السلفية) . ومسلم (3 / 1207 ط عيسى الحلبي)
.
(2) حديث: " لعن المصورين " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 314 ط السلفية) .
(3) مجموع الفتاوى الكبرى لابن تيمية 22 / 141.
(12/92)
تَصْوِيرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّصْوِيرُ لُغَةً: صُنْعُ الصُّورَةِ. وَصُورَةُ الشَّيْءِ هِيَ
هَيْئَتُهُ الْخَاصَّةُ الَّتِي يَتَمَيَّزُ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ. وَفِي
أَسْمَائِهِ تَعَالَى: الْمُصَوِّرُ، وَمَعْنَاهُ: الَّذِي صَوَّرَ جَمِيعَ
الْمَوْجُودَاتِ وَرَتَّبَهَا، فَأَعْطَى كُل شَيْءٍ مِنْهَا صُورَتَهُ
الْخَاصَّةَ وَهَيْئَتَهُ الْمُفْرَدَةَ، عَلَى اخْتِلاَفِهَا
وَكَثْرَتِهَا (1) .
وَوَرَدَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ تَسْمِيَةُ الْوَجْهِ صُورَةً، قَال
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ تُضْرَبَ الصُّورَةُ، أَوْ نَهَى عَنِ الْوَسْمِ فِي
الْوَجْهِ (2) أَيْ: أَنْ يُضْرَبَ الْوَجْهُ أَوْ يُوسَمَ الْحَيَوَانُ
فِي وَجْهِهِ.
وَالتَّصْوِيرُ أَيْضًا: ذِكْرُ صُورَةِ الشَّيْءِ، أَيْ: صِفَتُهُ،
يُقَال: صَوَّرْتُ لِفُلاَنٍ الأَْمْرَ، أَيْ: وَصَفْتُهُ لَهُ.
وَالتَّصْوِيرُ أَيْضًا: صُنْعُ الصُّورَةِ الَّتِي هِيَ تِمْثَال
__________
(1) لسان العرب مادة: " صور ".
(2) حديث: " نهى أن تضرب الصورة. . . " أخرجه البخاري - (الفتح 9 / 670 - ط
السلفية) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وأخرجه مسلم (3 / 1673 -
ط الحلبي) .
(12/92)
الشَّيْءِ، أَيْ: مَا يُمَاثِل الشَّيْءَ
وَيَحْكِي هَيْئَتَهُ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتِ
الصُّورَةُ مُجَسَّمَةً أَوْ غَيْرَ مُجَسَّمَةٍ، أَوْ كَمَا يُعَبِّرُ
بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: ذَاتُ ظِلٍّ أَوْ غَيْرُ ذَاتِ ظِلٍّ.
وَالْمُرَادُ بِالصُّورَةِ الْمُجَسَّمَةِ أَوْ ذَاتُ الظِّل مَا كَانَتْ
ذَاتَ ثَلاَثَةِ أَبْعَادٍ، أَيْ لَهَا حَجْمٌ، بِحَيْثُ تَكُونُ
أَعْضَاؤُهَا نَافِرَةً يُمْكِنُ أَنْ تَتَمَيَّزَ بِاللَّمْسِ،
بِالإِِْضَافَةِ إِِلَى تَمَيُّزِهَا بِالنَّظَرِ.
وَأَمَّا غَيْرُ الْمُجَسَّمَةِ، أَوِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا ظِلٌّ، فَهِيَ
الْمُسَطَّحَةُ، أَوْ ذَاتُ الْبُعْدَيْنِ، وَتَتَمَيَّزُ أَعْضَاؤُهَا
بِالنَّظَرِ فَقَطْ، دُونَ اللَّمْسِ؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ نَافِرَةً،
كَالصُّوَرِ الَّتِي عَلَى الْوَرَقِ، أَوِ الْقُمَاشِ، أَوِ السُّطُوحِ
الْمَلْسَاءِ.
وَالتَّصْوِيرُ وَالصُّورَةُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ يَجْرِي عَلَى
مَا جَرَى عَلَيْهِ فِي اللُّغَةِ.
وَقَدْ تُسَمَّى الصُّورَةُ تَصْوِيرَةً، وَجَمْعُهَا تَصَاوِيرُ، وَقَدْ
وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ فِي السُّنَّةِ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا فِي شَأْنِ السَّتْرِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَمِيطِي عَنَّا قِرَامَكِ هَذَا، فَإِِنَّهُ لاَ تَزَال تَصَاوِيرُهُ
تَعْرِضُ فِي صَلاَتِي. (1)
أَنْوَاعُ الصُّوَرِ:
2 - إِنَّ الصُّورَةَ - بِالإِِْضَافَةِ إِِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ
__________
(1) حديث " أميطي عنا قرامك هذا. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 484 - ط
السلفية) .
(12/93)
الصُّوَرِ الثَّابِتَةِ - قَدْ تَكُونُ
صُورَةً مُؤَقَّتَةً كَصُورَةِ الشَّيْءِ فِي الْمِرْآةِ، وَصُورَتُهُ فِي
الْمَاءِ وَالسُّطُوحِ اللاَّمِعَةِ، فَإِِنَّهَا تَدُومُ مَا دَامَ
الشَّيْءُ مُقَابِلاً لِلسَّطْحِ، فَإِِنِ انْتَقَل الشَّيْءُ عَنِ
الْمُقَابَلَةِ انْتَهَتْ صُورَتُهُ.
وَمِنَ الصُّوَرِ غَيْرِ الدَّائِمَةِ: ظِل الشَّيْءِ إِِذَا قَابَل أَحَدَ
مَصَادِرِ الضَّوْءِ. وَمِنْهُ مَا كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَهُ فِي بَعْضِ
الْعُصُورِ الإِِْسْلاَمِيَّةِ، وَيُسَمُّونَهُ: صُوَرَ الْخَيَال، أَوْ
صُوَرَ خَيَال الظِّل. (1) فَإِِنَّهُمْ كَانُوا يَقْطَعُونَ مِنَ
الْوَرَقِ صُوَرًا لِلأَْشْخَاصِ، ثُمَّ يُمْسِكُونَهَا بِعِصِيٍّ
صَغِيرَةٍ، وَيُحَرِّكُونَهَا أَمَامَ السِّرَاجِ، فَتَنْطَبِعُ ظِلاَلُهَا
عَلَى شَاشَةٍ بَيْضَاءِ يَقِف خَلْفَهَا الْمُتَفَرِّجُونَ، فَيَرَوْنَ
مَا هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ صُورَةُ الصُّورَةِ.
وَمِنَ الصُّوَرِ غَيْرِ الدَّائِمَةِ: الصُّوَرُ التِّلِيفِزْيُونِيّة،
فَإِِنَّهَا تَدُومُ مَا دَامَ الشَّرِيطُ مُتَحَرِّكًا فَإِِذَا وَقَفَ
انْتَهَتِ الصُّورَةُ.
3 - ثُمَّ إِنَّ الصُّورَةَ قَدْ تَكُونُ لِشَيْءٍ حَيٍّ عَاقِلٍ ذِي
رُوحٍ، كَصُورَةِ الإِِْنْسَانِ. أَوْ غَيْرِ عَاقِلٍ، كَصُورَةِ
الطَّائِرِ أَوِ الأَْسَدِ. أَوْ لِحَيٍّ غَيْرِ الْحَيَوَانِ كَصُوَرِ
الأَْشْجَارِ وَالزُّهُورِ وَالأَْعْشَابِ. أَوْ لِلْجَمَادَاتِ كَصُوَرِ
الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَالْجِبَال، أَوْ صُوَرِ
الْمَصْنُوعَاتِ الإِِْنْسَانِيَّةِ كَصُورَةِ مَنْزِلٍ أَوْ سَيَّارَةٍ
أَوْ مَنَارَةٍ أَوْ سَفِينَةٍ.
__________
(1) انظر فقرة 48.
(12/93)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّمَاثِيل:
4 - التَّمَاثِيل جَمْعُ تِمْثَالٍ " بِكَسْرِ التَّاءِ " وَتِمْثَال
الشَّيْءِ: صُورَتُهُ فِي شَيْءٍ آخَرَ. وَهُوَ مِنَ الْمُمَاثَلَةِ،
وَهِيَ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ. وَالتَّمْثِيل: التَّصْوِيرُ.
يُقَال: مَثَّل لَهُ الشَّيْءَ إِِذَا صَوَّرَهُ لَهُ كَأَنَّهُ يَنْظُرُ
إِلَيْهِ، وَمَثَّلْتَ لَهُ كَذَا: إِِذَا صَوَّرْتَ لَهُ مِثَالَهُ
بِكِتَابَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَفِي الْحَدِيثِ: أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا
مُمَثِّلٌ مِنَ الْمُمَثِّلِينَ (1) أَيْ مُصَوِّرٌ. وَظِل كُل شَيْءٍ
تِمْثَالُهُ. (2)
فَالْفَرْقُ بَيْنَ التِّمْثَال وَبَيْنَ الصُّورَةِ: أَنَّ صُورَةَ
الشَّيْءِ قَدْ يُرَادُ بِهَا الشَّيْءُ نَفْسُهُ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ
__________
(1) حديث: " أشد الناس عذابا ممثل من الممثلين " أخرجه أحمد (1 / 407 - ط
الميمنية) وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند (5 / 332 - ط المعارف) .
(2) لسان العرب مادة: " مثل ". وهذا في أصل اللغة. وأما في العصر الحاضر
فقد خص استعمال لفظة (التمثال) في العرف العام بالصورة المصنوعة لإنسان أو
حيوان معتاد أو حيوان خرافي، دون صور النبات أو الجمادات، وبشرط أن تكون
الصورة مجسمة، فلا يقال للنباتات الصناعي
(12/94)
غَيْرُهُ مِمَّا يَحْكِي هَيْئَةَ
الأَْصْل، أَمَّا التِّمْثَال فَهُوَ الصُّورَةُ الَّتِي تَحْكِي الشَّيْءَ
وَتُمَاثِلُهُ، وَلاَ يُقَال لِصُورَةِ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ: إِنَّهَا
تِمْثَالُهُ.
5 - وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ التِّمْثَال أَيْضًا فِي اللُّغَةِ
يُسْتَعْمَل لِصُوَرِ الْجَمَادَاتِ مَا وَرَدَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ
أَنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّال يَأْتِي وَمَعَهُ تِمْثَال الْجَنَّةِ
وَالنَّارِ. (1)
أَمَّا فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ، فَإِِنَّهُ بِاسْتِقْرَاءِ كَلاَمِهِمْ
تَبَيَّنَ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يُفَرِّقُونَ فِي الاِسْتِعْمَال بَيْنَ
لَفْظَيِ (الصُّورَةِ) (وَالتِّمْثَال) ، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ خَصَّ
التِّمْثَال بِصُورَةِ مَا كَانَ ذَا رُوحٍ، أَيْ صُورَةِ الإِِْنْسَانِ
أَوِ الْحَيَوَانِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُجَسَّمًا أَوْ مُسَطَّحًا، دُونَ
صُورَةِ شَمْسٍ أَوْ قَمَرٍ أَوْ بَيْتٍ، وَأَمَّا الصُّورَةُ فَهِيَ
أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ. نَقَلَهُ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْمُغْرِبِ. (2)
وَهَذَا الْبَحْثُ جَارٍ عَلَى الاِصْطِلاَحِ الأَْغْلَبِ عِنْدَ
الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ أَنَّ الصُّورَةَ الَّتِي تَحْكِي الشَّيْءَ،
وَالتِّمْثَال بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
ب - الرَّسْمُ:
6 - الرَّسْمُ فِي اللُّغَةِ: أَثَرُ الشَّيْءِ. وَقِيل: بَقِيَّةُ
الأَْثَرِ. وَأَثَرُ الشَّيْءِ قَدْ يُشَاكِلُهُ فِي الْهَيْئَةِ. وَمِنْ
هُنَا سَمَّوْا " الرَّوْسَمَ "، وَهُوَ الْخَشَبَةُ الَّتِي فِيهَا
نُقُوشٌ يُخْتَمُ بِهَا الأَْشْيَاءُ الْمُرَادُ بَقَاؤُهَا مُخْفَاةً،
لِئَلاَّ
__________
(1) حديث: " يجيء معه تمثال الجنة والنار " أخرجه البخاري (4 / 163 - ط
محمد صبيح) وفي رواية: " بمثال ".
(2) ابن عابدين 1 / 435 ط بولاق، والمغرب ص 422.
(12/94)
تُسْتَعْمَل. وَقَال ابْنُ سِيدَهْ: "
الرَّوْسَمُ الطَّابَعُ ". وَمِنْهُ " الْمَرْسُومُ " لأَِنَّهُ يُخْتَمُ
بِخَاتَمٍ. (1) وَالرَّسْمُ فِي الاِسْتِعْمَال الْمُعَاصِرِ بِمَعْنَى:
الصُّورَةُ الْمُسَطَّحَةُ، أَوِ التَّصْوِيرُ الْمُسَطَّحُ، إِِذَا كَانَ
مَعْمُولاً بِالْيَدِ. وَلاَ تُسَمَّى الصُّورَةُ الْفُوتُوغْرَافِيَّةُ
رَسْمًا. بَل يُقَال: رَسَمْتُ دَارًا، أَوْ إِنْسَانًا، أَوْ شَجَرَةً.
ج - التَّزْوِيقُ، وَالنَّقْشُ، وَالْوَشْيُ، وَالرَّقْمُ:
7 - هَذِهِ الْكَلِمَاتُ الأَْرْبَعُ تَكَادُ تَكُونُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ،
وَهُوَ تَجْمِيل الشَّيْءِ الْمُسَطَّحِ أَوْ غَيْرِ الْمُسَطَّحِ
بِإِِضَافَةِ أَشْكَالٍ تَجْمِيلِيَّةٍ إِلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ
أَشْكَالاً هَنْدَسِيَّةً أَوْ نَمْنَمَاتٍ أَوْ صُوَرًا أَوْ غَيْرَ
ذَلِكَ. قَال صَاحِبُ اللِّسَانِ: ثَوْبٌ مُنَمْنَمٌ أَيْ: مَوْقُومٌ
مُوَشًّى، وَقَال: النَّقْشُ: النَّمْنَمَةُ. فَكُلٌّ مِنْهَا يَكُونُ
بِالصُّوَرِ أَوْ بِغَيْرِهَا.
د - النَّحْتُ:
8 - النَّحْتُ: الأَْخْذُ مِنْ كُتْلَةٍ صُلْبَةٍ كَالْحَجَرِ أَوِ
الْخَشَبِ بِأَدَاةٍ حَادَّةِ كَالإِِْزْمِيل أَوِ السِّكِّينِ، حَتَّى
يَكُونَ مَا يَبْقَى مِنْهَا عَلَى الشَّكْل الْمَطْلُوبِ، فَإِِنْ كَانَ
مَا بَقِيَ يُمَثِّل شَيْئًا آخَرَ فَهُوَ تِمْثَالٌ أَوْ صُورَةٌ،
وَإِِلاَّ فَلاَ
تَرْتِيبُ هَذَا الْبَحْثِ:
9 - يَحْتَوِي هَذَا الْبَحْثُ عَلَى مَا يَلِي:
أَوَّلاً: مَا يَتَعَلَّقُ مِنَ الأَْحْكَامِ بِالصُّورَةِ
الإِِْنْسَانِيَّةِ.
__________
(1) لسان العرب مادة: " رسم ".
(12/95)
ثَانِيًا: أَحْكَامُ التَّصْوِيرِ، أَيْ:
صِنَاعَةُ الصُّوَرِ.
ثَالِثًا: أَحْكَامُ اقْتِنَاءِ الصُّوَرِ، أَيِ: اتِّخَاذُهَا
وَاسْتِعْمَالُهَا.
رَابِعًا: أَحْكَامُ الصُّوَرِ مِنْ حَيْثُ التَّعَامُل وَالتَّعَرُّفُ
فِيهَا.
الْقِسْمُ الأَْوَّل: مَا يَتَعَلَّقُ مِنَ الأَْحْكَامِ بِالصُّورَةِ
الإِِْنْسَانِيَّةِ
:
10 - يَنْبَغِي لِلإِِْنْسَانِ أَنْ يَعْتَنِيَ بِتَجْمِيل صُورَتِهِ
الظَّاهِرَةِ، بِالإِِْضَافَةِ إِِلَى اعْتِنَائِهِ بِتَكْمِيل صُورَتِهِ
الْبَاطِنَةِ، وَيَقُومُ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِشُكْرِهِ عَلَى
أَنَّهُ جَمَّل صُورَتَهُ. وَالْعِنَايَةُ بِالصُّورَةِ الْبَاطِنَةِ
تَكُونُ بِالإِِْيمَانِ وَالتَّطَهُّرِ مِنَ الذُّنُوبِ وَالشُّكْرِ
لِلَّهِ، وَالتَّجَمُّل بِالأَْخْلاَقِ الْحَمِيدَةِ.
وَالْعِنَايَةُ بِالصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ تَكُونُ بِالتَّطَهُّرِ
بِالْوُضُوءِ وَالاِغْتِسَال وَالتَّنَظُّفِ وَإِِزَالَةِ التَّفَثِ،
وَالتَّزَيُّنِ بِالزِّينَةِ الْمَشْرُوعَةِ مِنَ الْعِنَايَةِ بِالشَّعْرِ
وَالْمَلاَبِسِ الْحَسَنَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، (ر: زِينَةٌ) .
11 - وَلاَ يَحِل لِلإِِْنْسَانِ أَنْ يُشَوِّهَ جِسْمَهُ بِإِِتْلاَفِ
عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، أَوْ إِخْرَاجِهِ عَنْ وَضْعِهِ الَّذِي خَلَقَهُ
اللَّهُ عَلَيْهِ. كَمَا لاَ يَحِل لَهُ أَنْ يَفْعَل ذَلِكَ بِغَيْرِهِ،
إِلاَّ حَيْثُ أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النُّهْبَى وَالْمُثْلَةِ. (1) (ر:
مُثْلَةٌ) .
__________
(1) حديث: " نهى النبي عن النهبى والمثلة " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 119 -
ط السلفية) من حديث عبد الله بن يزيد الأنصاري رضي الله عنه.
(12/95)
كَمَا لاَ يَحِل لَهُ أَنْ يَقْصِدَ
تَشْوِيَهُ نَفْسِهِ بِلُبْسِ مَا يَنْفِرُ النَّاسُ مِنْهُ وَيُخْرِجَهُ
عَنِ الْمُعْتَادِ (ر: أَلْبِسَةٌ) .
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ نَهَى أَنْ يَمْشِيَ الرَّجُل فِي نَعْلٍ
وَاحِدَةٍ أَيْ: فِي إِحْدَى قَدَمَيْهِ دُونَ الأُْخْرَى (1) . وَشُرِعَ
لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَطَيَّبَ وَيَتَعَطَّرَ. وَلِلْمَرْأَةِ زِينَتُهَا
الْخَاصَّةُ. وَرَاجِعْ مَبَاحِثَ (اكْتِحَالٌ. اخْتِضَابٌ. حُلِيٌّ،
إِلَخْ) .
12 - أَمَّا الزِّينَةُ الْبَاطِنَةُ، فَقَدْ قَال ابْنُ الْقَيِّمِ:
الْجَمَال الْبَاطِنُ هُوَ مَحَل نَظَرِ اللَّهِ مِنْ عَبْدِهِ وَمَوْضِعُ
مَحَبَّتِهِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِِلَى
صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِِلَى قُلُوبِكُمْ
وَأَعْمَالِكُمْ (2) . وَهَذَا الْجَمَال الْبَاطِنُ يُزَيِّنُ الصُّورَةَ
الظَّاهِرَةَ وَإِِنْ لَمْ تَكُنْ ذَاتَ جَمَالٍ، فَتَكْسُو صَاحِبَهَا
مِنَ الْجَمَال وَالْمَهَابَةِ وَالْحَلاَوَةِ بِحَسَبِ مَا اكْتَسَبَتْ
رُوحُهُ مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ. فَإِِنَّ الْمُؤْمِنَ يُعْطَى مَهَابَةً
وَحَلاَوَةً بِحَسَبِ إِيمَانِهِ، فَمَنْ رَآهُ هَابَهُ، وَمَنْ خَالَطَهُ
أَحَبَّهُ، وَهَذَا أَمْرٌ مَشْهُودٌ بِالْعِيَانِ. فَإِِنَّكَ تَرَى
الرَّجُل الصَّالِحَ ذَا الأَْخْلاَقِ الْجَمِيلَةِ
__________
(1) حديث: " نهى أن يمشي الرجل في نعل واحدة " أخرجه مسلم (3 / 1661 - ط
الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(2) حديث: " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم. . . " أخرجه مسلم (4 /
1987 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(12/96)
مِنْ أَحْلَى النَّاسِ صُورَةً، وَإِِنْ
كَانَ غَيْرَ جَمِيلٍ، وَلاَ سِيَّمَا إِِذَا رُزِقَ حَظًّا مِنْ صَلاَةِ
اللَّيْل، فَإِِنَّهَا تُنَوِّرُ الْوَجْهَ.
قَال: وَأَمَّا الْجَمَال الظَّاهِرُ فَزِينَةٌ خَصَّ اللَّهُ بِهَا بَعْضَ
الصُّوَرِ عَنْ بَعْضٍ، وَهِيَ مِنْ زِيَادَةِ الْخَلْقِ الَّتِي قَال
اللَّهُ فِيهَا: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} (1) قَال
الْمُفَسِّرُونَ: هُوَ الصَّوْتُ الْحَسَنُ وَالصُّورَةُ الْحَسَنَةُ.
وَالْقُلُوبُ مَطْبُوعَةٌ عَلَى مَحَبَّتِهِ، كَمَا هِيَ مَفْطُورَةٌ عَلَى
اسْتِحْسَانِهِ.
قَال: وَكُلٌّ مِنَ الْجَمَال الظَّاهِرِ وَالْجَمَال الْبَاطِنِ نِعْمَةٌ
مِنَ اللَّهِ تَعَالَى تُوجِبُ عَلَى الْعَبْدِ شُكْرًا بِالتَّقْوَى
وَالصِّيَانَةِ، وَبِهِمَا يَزْدَادُ جَمَالاً عَلَى جَمَالِهِ. وَإِِنِ
اسْتَعْمَل جَمَالَهُ فِي مَعَاصِي اللَّهِ قَلَبَ اللَّهُ مَحَاسِنَهُ
شَيْنًا وَقُبْحًا. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَدْعُو النَّاسَ إِِلَى جَمَال الْبَاطِنِ بِجَمَال الظَّاهِرِ، قَال
جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَال لِي
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْتَ امْرُؤٌ حَسَّنَ
اللَّهُ خَلْقَكَ، فَحَسِّنْ خُلُقَكَ (2) . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْمَل الْخَلْقِ وَأَحْسَنَهُمْ وَجْهًا.
وَقَدْ سُئِل الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ: أَكَانَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْل السَّيْفِ؟ فَقَال: لاَ، بَل مِثْل
الْقَمَرِ (3) .
__________
(1) سورة فاطر / 1.
(2) حديث: " أنت امرؤ حسن الله خلقك فحسن خلقك " أخرجه الخرائطي وابن عساكر
في تأريخه، وضعفه العراقي كما في فيض القدير (2 / 552 - ط المكتبة
التجارية) .
(3) حديث: " سئل أكان وجه النبي صلى الله عليه وسلم مثل السيف؟ فقال:. . .
. " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 565 - ط السلفية) .
(12/96)
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَسْتَحِبُّ أَنْ يَكُونَ الرَّسُول الَّذِي يُرْسَل إِلَيْهِ حَسَنَ
الْوَجْهِ حَسَنَ الاِسْمِ، فَكَانَ يَقُول: إِِذَا أَبْرَدْتُمْ إِلَيَّ
بَرِيدًا فَاجْعَلُوهُ حَسَنَ الْوَجْهِ حَسَنَ الاِسْمِ (1) وَقَدْ
أَمْتَعَ اللَّهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ بِحُسْنِ
الصُّوَرِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ أَوَّل زُمْرَةٍ تَدْخُل الْجَنَّةَ عَلَى
صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَالَّذِينَ عَلَى أَثَرِهِمْ
كَأَشَدِّ كَوْكَبٍ إِضَاءَةً، قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ،
يُسَبِّحُونَ اللَّهَ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً. صُوَرُهُمْ عَلَى صُورَةِ
الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ (2) .
الْقِسْمُ الثَّانِي: حُكْمُ التَّصْوِيرِ (صِنَاعَةُ الصُّوَرِ)
أ - تَحْسِينُ صُورَةِ الشَّيْءِ الْمَصْنُوعِ:
13 - يُسْتَحْسَنُ لِلصَّانِعِ إِِذَا صَنَعَ شَيْئًا أَنْ يُحَسِّنَ
صُورَةَ ذَلِكَ الشَّيْءِ، إِذْ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ إِتْقَانِ الْعَمَل
وَإِِحْسَانِهِ. وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى نَفْسَهُ بِقَوْلِهِ:
{ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الَّذِي
أَحْسَن كُل شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِِْنْسَانِ مِنْ طِينٍ}
(3) وَقَال: {خَلَقَ
__________
(1) حديث: " إذا أبردتم إلي بريدا. . . " أخرجه البزار من حديث بريدة، ونقل
السيوطي عن الهيثمي تصحيحه. (اللآلي 1 / 112 - نشر دار المعرفة) .
(2) روضة المحبين ونزهة المشتاقين لابن القيم ص 37 وحديث: " أول زمرة تلج
الجنة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 319 - ط السلفية) .
(3) سورة السجدة / 7.
(12/97)
السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضَ بِالْحَقِّ
وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (1) وَفِي
الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَال: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِِذَا
عَمِل أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ (2) وَقَال: إِنَّ اللَّهَ
كَتَبَ الإِِْحْسَانَ عَلَى كُل شَيْءٍ، فَإِِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا
الْقِتْلَةَ، وَإِِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ. . .
الْحَدِيثَ " (3) .
ب - تَصْوِيرُ الْمَصْنُوعَاتِ:
14 - لاَ بَأْسَ بِتَصْوِيرِ الأَْشْيَاءِ الَّتِي يَصْنَعُهَا الْبَشَرُ،
كَصُورَةِ الْمَنْزِل وَالسَّيَّارَةِ وَالسَّفِينَةِ وَالْمَسْجِدِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ اتِّفَاقًا؛ لأَِنَّ لِلإِِْنْسَانِ أَنْ يَصْنَعَهَا،
فَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يُصَوِّرَهَا.
ج - صِنَاعَةُ تَصَاوِيرِ الْجَمَادَاتِ الْمَخْلُوقَةِ:
15 - لاَ بَأْسَ بِتَصْوِيرِ الْجَمَادَاتِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ
تَعَالَى - عَلَى مَا خَلَقَهَا عَلَيْهِ - كَتَصْوِيرِ الْجِبَال
وَالأَْوْدِيَةِ وَالْبِحَارِ، وَتَصْوِيرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ
وَالسَّمَاءِ وَالنُّجُومِ، دُونَ اخْتِلاَفٍ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ أَهْل
الْعِلْمِ، إِلاَّ مَنْ شَذَّ. غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ لاَ يَعْنِي
__________
(1) سورة الزمر / 5.
(2) حديث: " إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه " أخرجه أبو يعلى كما
في المجمع (4 / 98 - ط القدسي) من حديث عائشة. وقال الهيثمي: فيه مصعب بن
ثابت، وثقه ابن حبان، وضعفه جماعة.
(3) حديث: " إن الله كتب الإحسان على كل شيء. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1548
- ط الحلبي) .
(12/97)
جَوَازَ صِنَاعَةِ شَيْءٍ مِنْهَا إِِذَا
عُلِمَ أَنَّ الشَّخْصَ الْمَصْنُوعَةَ لَهُ يَعْبُدُ تِلْكَ الصُّورَةَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَذَلِكَ كَعُبَّادِ الشَّمْسِ أَوِ النُّجُومِ.
أَشَارَ إِِلَى ذَلِكَ ابْنُ عَابِدِينَ. وَيُسْتَدَل لِحُكْمِ هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي التَّصْوِيرِ
الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِمَا يَأْتِي فِي الْمَسْأَلَةِ التَّالِيَةِ وَمَا
بَعْدَهَا.
وَقَدْ نَقَل ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ
الْجُوَيْنِيِّ أَنَّهُ نَقَل وَجْهًا بِمَنْعِ تَصْوِيرِ الشَّمْسِ
وَالْقَمَرِ؛ لأَِنَّ مِنَ الْكُفَّارِ مَنْ عَبَدَهُمَا مِنْ دُونِ
اللَّهِ، فَيَمْتَنِعُ تَصْوِيرُهُمَا لِذَلِكَ. وَوَجَّهَهُ ابْنُ حَجَرٍ
بِعُمُومِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الَّذِينَ
يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ (1) وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ:
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ خَلْقًا كَخَلْقِي (2) فَإِِنَّهُ
يَتَنَاوَل مَا فِيهِ رُوحٌ وَمَا لاَ رُوحَ فِيهِ. غَيْرَ أَنَّ هَذَا
مُؤَوَّلٌ وَخَاصٌّ بِمَا فِيهِ رُوحٌ كَمَا يَأْتِي. (3)
__________
(1) حديث: " الذين يضاهون بخلق الله " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 387 - ط
السلفية) ومسلم (3 / 1668 - ط الحلبي) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2) حديث: " ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي " أخرجه البخاري (الفتح 10 /
385 - ط السلفية) . ومسلم (3 / 1671 - ط الحلبي) .
(3) ابن عابدين 1 / 435، وحاشية الطحطاوي على الدر المختار 1 / 274، وشرح
المنهاج للنووي وحاشية القليوبي عليه 3 / 297 ط عيسى الحلبي، وحاشية
الدسوقي على الشرح الكبير للدردير المالكي 2 / 338 ط عيسى الحلبي، وفتح
الباري 10 / 394 ط السلفية.
(12/98)
د - تَصْوِيرُ النَّبَاتَاتِ
وَالأَْشْجَارِ:
16 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ شَرْعًا بِتَصْوِيرِ
الأَْعْشَابِ وَالأَْشْجَارِ وَالثِّمَارِ وَسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ
النَّبَاتِيَّةِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ مُثْمِرَةً أَمْ لاَ، وَأَنَّ ذَلِكَ
لاَ يَدْخُل فِيمَا نُهِيَ عَنْهُ مِنَ التَّصَاوِيرِ.
وَلَمْ يُنْقَل فِي ذَلِكَ خِلاَفٌ، إِلاَّ مَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ
أَنَّهُ رَأَى تَحْرِيمَ تَصْوِيرِ الشَّجَرِ الْمُثْمِرِ دُونَ الشَّجَرِ
غَيْرِ الْمُثْمِرِ. قَال عِيَاضٌ: هَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ غَيْرُ
مُجَاهِدٍ. قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَأَظُنُّ مُجَاهِدًا سَمِعَ حَدِيثَ أَبِي
هُرَيْرَةَ، فَفِيهِ: فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً (1) ، وَلْيَخْلُقُوا
شَعِيرَةً (2) فَإِِنَّ فِي ذِكْرِ الذَّرَّةِ إِشَارَةٌ إِِلَى مَا فِيهِ
رُوحُ، وَفِي ذِكْرِ الشَّعِيرَةِ إِشَارَةٌ إِِلَى مَا يَنْبُتُ مِمَّا
يُؤْكَل، وَأَمَّا مَا لاَ رُوحَ فِيهِ وَلاَ يُثْمِرُ فَلَمْ تَقَعِ
الإِِْشَارَةُ إِلَيْهِ. (3)
وَكَرَاهَةُ تَصْوِيرِ النَّبَاتَاتِ وَالأَْشْجَارِ وَجْهٌ فِي
__________
(1) المراد بالذرة في الحديث النملة الصغير كما في المصباح المنير.
(2) حديث: " فليخلقوا ذرة، وليخلقوا شعيرة " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 385
- ط السلفية) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) الأثر عن مجاهد أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (ط الهند بومباي الدار
السلفية 1399 هـ) 8 / 507، ونقله عنه الكثير، انظر مثلا: فتح الباري 10 /
395 (كتاب اللباس ب 97) ، وانظر أيضا: الطحطاوي على الدر 1 / 273، وشرح
المنهاج بحاشية القليوبي 3 / 297، وابن عابدين 1 / 436، وشرح الإقناع للشيخ
منصور البهوتي، الرياض، مكتبة النصر الحديثة، 1 / 280، والشرح الكبير
بحاشية الدسوقي 2 / 338.
(12/98)
مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَالْمَذْهَبُ عَلَى
خِلاَفِهِ. (1)
وَقَدِ احْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال: مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فِي الدُّنْيَا كُلِّفَ أَنْ
يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ، وَلَيْسَ بِنَافِخٍ (2) فَخُصَّ النَّهْيُ
بِذَوَاتِ الأَْرْوَاحِ وَلَيْسَ الشَّجَرُ مِنْهَا، وَبِحَدِيثِ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ نَهَى الْمُصَوِّرَ عَنِ
التَّصْوِيرِ، ثُمَّ قَال لَهُ: " إِنْ كُنْتَ فَاعِلاً فَصَوِّرِ
الشَّجَرَ وَمَا لاَ رُوحَ فِيهِ قَال الطَّحَاوِيُّ: وَلأَِنَّ صُورَةَ
الْحَيَوَانِ لَمَّا أُبِيحَتْ بَعْدَ قَطْعِ رَأْسِهَا - لأَِنَّهَا لاَ
تَعِيشُ بِدُونِهِ - دَل ذَلِكَ عَلَى إِبَاحَةِ تَصْوِيرِ مَا لاَ رُوحَ
فِيهِ أَصْلاً. (3) بَل إِنَّ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ قَال
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْ بِرَأْسِ التِّمْثَال
فَلْيَقْطَعْ حَتَّى يَكُونَ كَهَيْئَةِ الشَّجَرَةِ (4) فَهَذَا تَنْبِيهٌ
عَلَى أَنَّ الشَّجَرَةَ فِي الأَْصْل لاَ يَتَعَلَّقُ النَّهْيُ
بِتَصْوِيرِهَا. هَذَا مَا يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي الاِسْتِدْلاَل
عَلَى أَنَّهُ لاَ يَحْرُمُ تَصْوِيرُ الشَّجَرِ وَالنَّبَاتِ وَمَا لاَ
رُوحَ فِيهِ.
__________
(1) الآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 514.
(2) حديث: " من صور صورة في الدنيا. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 393 -
ط السلفية) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(3) فتح الباري 10 / 394، 395، والطحطاوي على الدر المختار 1 / 274.
(4) حديث: " مر برأس التمثال فليقطع حتى يكون كهيئة الشجرة " أخرجه أبو
داود (4 / 388 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (5 / 115 - ط الحلبي) من
حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقال: حديث حسن صحيح.
(12/99)
وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ
عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ جِبْرِيل قَال لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهَا ثَلاَثٌ، لَنْ يَلِجَ عَلَيْكَ مَلَكٌ
مَا دَامَ فِيهَا وَاحِدٌ مِنْهَا: كَلْبٌ، أَوْ جَنَابَةٌ، أَوْ صُورَةُ
رُوحٍ " (1) .
هـ - تَصْوِيرُ صُورَةِ الْحَيَوَانِ أَوِ الإِِْنْسَانِ:
17 - هَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّصْوِيرِ فِيهِ اخْتِلاَفٌ بَيْنَ
الْفُقَهَاءِ وَتَفْصِيلٌ يَتَبَيَّنُ فِيمَا يَلِي، وَإِِلَى هَذَا
النَّوْعِ خَاصَّةً يَنْصَرِفُ قَوْل مَنْ يُطْلِقُ تَحْرِيمَ
التَّصْوِيرِ، دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الأَْنْوَاعِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا.
التَّصْوِيرُ فِي الدِّيَانَاتِ السَّابِقَةِ:
18 - قَال مُجَاهِدٌ قَوْله تَعَالَى فِي حَقِّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ وَطَاعَةِ الْجِنِّ لَهُ: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ
مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيل وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} (2) قَال: كَانَتْ صُوَرًا
مِنْ نُحَاسٍ. أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقَال قَتَادَةُ: كَانَتْ مِنَ
الزُّجَاجِ وَالْخَشَبِ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ. قَال ابْنُ حَجَرٍ:
كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا فِي شَرِيعَتِهِمْ، وَكَانُوا يَعْمَلُونَ أَشْكَال
الأَْنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مِنْهُمْ عَلَى هَيْئَتِهِمْ فِي
الْعِبَادَةِ لِيَتَعَبَّدُوا كَعِبَادَتِهِمْ. وَقَال أَبُو الْعَالِيَةِ:
لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي شَرِيعَتِهِمْ حَرَامًا. وَقَال مِثْل ذَلِكَ
الْجَصَّاصُ.
__________
(1) حديث: " إنها ثلاث: لن يلج عليك ملك مادام فيها. . . " أخرجه أحمد (1 /
85 - ط الميمنية) وفي إسناده جهالة. (الميزان للذهبي 4 / 248 - ط الحلبي) .
(2) سورة سبأ / 13.
(12/99)
قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَلَكِنْ ثَبَتَ فِي
الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا ذَكَرَتَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَذَكَرَتَا مِنْ حُسْنِهَا
وَتَصَاوِيرَ فِيهَا، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أُولَئِكَ قَوْمٌ كَانُوا إِِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُل الصَّالِحُ
بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ.
أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ. (1)
قَال: فَإِِنَّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جَائِزًا فِي
شَرِيعَتِهِمْ مَا أَطْلَقَ عَلَى الَّذِي فَعَلَهُ أَنَّهُ شَرُّ
الْخَلْقِ، هَكَذَا قَال. لَكِنَّ الأَْظْهَرَ أَنَّهُ ذَمَّهُمْ لِبِنَاءِ
الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ، وَلِجَعْلِهِمُ الصُّوَرَ فِي
الْمَسَاجِدِ، لاَ لِمُطْلَقِ التَّصْوِيرِ، لِيُوَافِقَ الآْيَةَ، (2)
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
تَصْوِيرُ صُورَةِ الإِِْنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ فِي الشَّرِيعَةِ
الإِِْسْلاَمِيَّةِ:
19 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ تَصْوِيرِ ذَوَاتِ الأَْرْوَاحِ
مِنَ الإِِْنْسَانِ أَوِ الْحَيَوَانِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
20 - الْقَوْل الأَْوَّل:
إِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ حَرَامٍ. وَلاَ يَحْرُمُ مِنْهُ إِلاَّ أَنْ يَصْنَعَ
صَنَمًا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ
__________
(1) حديث: " أولئك قوم كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على. . . "
أخرجه البخاري (الفتح 1 / 524 - ط السلفية) . ومسلم (1 / 376 - ط الحلبي) .
(2) فتح الباري 10 / 382 (كتاب اللباس ب 88) ، وأحكام القرآن للجصاص 3 /
372 نشر نظارة الأوقاف بالقسطنطينية سنة 1338 هـ، في تفسير سورة سبأ.
(12/100)
تَعَالَى، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَال
أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}
(1) وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ
وَالْخِنْزِيرِ وَالأَْصْنَامِ (2) - وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ
بِالإِِْبَاحَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيل
وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} (3) قَالُوا: وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ
لَنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ
فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} (4) .
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
حَقِّ الْمُصَوِّرِينَ الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ (5) وَفِي
بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ وَقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ
رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ
خَلْقًا كَخَلْقِي فَلْيَخْلُقُوا حَبَّةً، أَوْ لِيَخْلُقُوا ذَرَّةً (6)
قَالُوا: وَلَوْ كَانَ هَذَا عَلَى ظَاهِرِهِ لاَقْتَضَى تَحْرِيمَ
تَصْوِيرِ الشَّجَرِ وَالْجِبَال وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، مَعَ أَنَّ
ذَلِكَ
__________
(1) سورة الصافات / 95 - 96.
(2) حديث: " إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام "
أخرجه البخاري (الفتح 4 / 424 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1207 - ط الحلبي) .
(3) سورة سبأ / 13.
(4) سورة الأنعام / 90.
(5) الحديث تقدم تخريجه (ف / 15) .
(6) حديث: " ومن أظلم ممن ذهب. . . " سبق تخريجه (ف / 15) .
(12/100)
لاَ يَحْرُمُ بِالاِتِّفَاقِ، فَتَعَيَّنَ
حَمْلُهُ عَلَى مَنْ قَصَدَ أَنْ يَتَحَدَّى صَنْعَةَ الْخَالِقِ عَزَّ
وَجَل وَيَفْتَرِيَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَخْلُقُ مِثْل خَلْقِهِ.
21 - وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
حَقِّ الْمُصَوِّرِينَ إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ اللَّهِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ (1) قَالُوا: لَوْ حُمِل عَلَى
التَّصْوِيرِ الْمُعْتَادِ لَكَانَ ذَلِكَ مُشْكِلاً عَلَى قَوَاعِدِ
الشَّرِيعَةِ. فَإِِنَّ أَشَدَّ مَا فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَعْصِيَةً
كَسَائِرِ الْمَعَاصِي لَيْسَ أَعْظَمَ مِنَ الشِّرْكِ وَقَتْل النَّفْسِ
وَالزِّنَا، فَكَيْفَ يَكُونُ فَاعِلُهُ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا،
فَتَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى مَنْ صَنَعَ التَّمَاثِيل لِتُعْبَدَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ.
- وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا يَأْتِي مِنَ اسْتِعْمَال الصُّوَرِ فِي
بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبُيُوتِ
أَصْحَابِهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ تَعَامُلُهُمْ بِالدَّنَانِيرِ
الرُّومِيَّةِ وَالدَّرَاهِمِ الْفَارِسِيَّةِ دُونَ نَكِيرٍ،
وَبِالأَْحْوَال الْفَرْدِيَّةِ لِلاِسْتِعْمَال الْوَاقِعِ مِنْهُمْ
مِمَّا يَرِدُ ذِكْرُهُ فِي تَضَاعِيفِ هَذَا الْبَحْثِ، دُونَ تَأْوِيلٍ.
وَقَدْ نَقَل الأَْلُوسِيُّ هَذَا الْقَوْل فِي تَفْسِيرِهِ عِنْدَ
تَفْسِيرِ الآْيَةِ " 13 " مِنْ سُورَةِ سَبَأٍ، حَيْثُ ذَكَرَ أَنَّ
النَّحَّاسَ وَمَكِّيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَابْنَ الْفَرَسِ
__________
(1) حديث: " إن أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة المصورون " أخرجه
البخاري (الفتح 10 / 382 - ط السلفية) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(12/101)
نَقَلُوهُ عَنْ قَوْمٍ (1) وَلَمْ
يُعَيِّنْهُمْ. مِنْ أَجْل ذَلِكَ فَإِِنَّ هَذَا الْقَوْل يُغْفِل
ذِكْرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي كُتُبِهِمُ الْمُطَوَّلَةِ وَالْمُخْتَصَرَةِ،
وَيَقْتَصِرُونَ فِي ذِكْرِ الْخِلاَفِ عَلَى الأَْقْوَال الآْتِيَةِ:
22 - الْقَوْل الثَّانِي:
وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ السَّلَفِ، وَوَافَقَهُمْ ابْنُ
حَمْدَانَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّهُ لاَ يَحْرُمُ مِنَ التَّصَاوِيرِ
إِلاَّ مَا جَمَعَ الشُّرُوطَ الآْتِيَةَ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: أَنْ تَكُونَ صُورَةُ الإِِْنْسَانِ أَوِ
الْحَيَوَانِ مِمَّا لَهُ ظِلٌّ، أَيْ تَكُونُ تِمْثَالاً مُجَسَّدًا،
فَإِِنْ كَانَتْ مُسَطَّحَةً لَمْ يَحْرُمْ عَمَلُهَا، وَذَلِكَ
كَالْمَنْقُوشِ فِي جِدَارٍ، أَوْ وَرَقٍ، أَوْ قُمَاشٍ. بَل يَكُونُ
مَكْرُوهًا. وَمِنْ هُنَا نَقَل ابْنُ الْعَرَبِيِّ الإِِْجْمَاعَ عَلَى
أَنَّ تَصْوِيرَ مَا لَهُ ظِلٌّ حَرَامٌ.
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ كَامِلَةَ الأَْعْضَاءِ، فَإِِنْ
كَانَتْ نَاقِصَةَ عُضْوٍ مِمَّا لاَ يَعِيشُ الْحَيَوَانُ مَعَ فَقْدِهِ
لَمْ يَحْرُمْ، كَمَا لَوْ صَوَّرَ الْحَيَوَانَ مَقْطُوعَ الرَّأْسِ أَوْ
مَخْرُوقَ الْبَطْنِ أَوِ الصَّدْرِ.
__________
(1) تفسير الألوسي المسمى روح المعاني (القاهرة، إدارة الطباعة المنيرية
1955 م) 22 / 19. ونسب في مجلة الوعي الإسلامي (سنة 1387 هـ العدد 29 ص 57،
58 في مقال للسيد محمد رجب البيلي) إلى الشيخ عبد العزيز جاويش.
(12/101)
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَصْنَعَ
الصُّورَةَ مِمَّا يَدُومُ مِنَ الْحَدِيدِ أَوِ النُّحَاسِ أَوِ
الْحِجَارَةِ أَوِ الْخَشَبِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَإِِنْ صَنَعَهَا مِمَّا
لاَ يَدُومُ كَقِشْرِ بِطِّيخٍ أَوْ عَجِينٍ لَمْ يَحْرُمْ؛ لأَِنَّهُ
إِِذَا نَشَفَ تَقَطَّعَ. عَلَى أَنَّ فِي هَذَا النَّوْعِ عِنْدَهُمْ
خِلاَفًا، فَقَدْ قَال الأَْكْثَرُ مِنْهُمْ: يَحْرُمُ وَلَوْ كَانَ مِمَّا
لاَ يَدُومُ.
وَنُقِل قَصْرُ التَّحْرِيمِ عَلَى ذَوَاتِ الظِّل عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ
أَيْضًا كَمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ (1) .
وَقَال ابْنُ حَمْدَانَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: الْمُرَادُ بِالصُّورَةِ
أَيِ: الْمُحَرَّمَةِ مَا كَانَ لَهَا جِسْمٌ مَصْنُوعٌ لَهُ طُولٌ
وَعَرْضٌ وَعُمْقٌ.
23 - الْقَوْل الثَّالِثُ:
أَنَّهُ يَحْرُمُ تَصْوِيرُ ذَوَاتِ الأَْرْوَاحِ مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ
أَكَانَ لِلصُّورَةِ ظِلٌّ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَهُوَ مَذْهَبُ
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَتَشَدَّدَ
النَّوَوِيُّ حَتَّى ادَّعَى الإِِْجْمَاعَ عَلَيْهِ. وَفِي دَعْوَى
الإِِْجْمَاعِ نَظَرٌ يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي. وَقَدْ شَكَّكَ فِي صِحَّةِ
الإِِْجْمَاعِ ابْنُ نُجَيْمٍ كَمَا فِي الطَّحْطَاوِيِّ عَلَى الدُّرِّ،
وَهُوَ ظَاهِرٌ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ لاَ يَرَوْنَ
تَحْرِيمَ الصُّوَرِ الْمُسَطَّحَةِ. لاَ يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ
عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ.
__________
(1) متن خليل، وعليه شرح الدردير وحاشية الدسوقي 2 / 337، 338، وغذاء
الألباب للسفاريني شرح منظومة الآداب 2 / 180، وشرح النووي على صحيح مسلم،
(القاهرة، المطبعة العصرية 1349 هـ كتاب اللباس) 11 / 80، وفتح الباري 10 /
388. ولم نجد النص على ما نقل عن ابن العربي في أحكام القرآن فلعله في غير
ذلك من كتبه.
(12/102)
وَهَذَا التَّحْرِيمُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ
هُوَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ. وَيُسْتَثْنَى عِنْدَهُمْ بَعْضُ
الْحَالاَتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا أَوِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا مِمَّا
سَيُذْكَرُ فِيمَا بَعْدُ. (1)
- وَالتَّصْوِيرُ الْمُحَرَّمُ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ مِنَ
الْكَبَائِرِ. قَالُوا: لِمَا فِي الْحَدِيثِ مِنَ التَّوَعُّدِ عَلَيْهِ
بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ أَشَدَّ
النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ. (2)
أَدِلَّةُ الْقَوْلَيْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ بِتَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ
مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ:
24 - اسْتَنَدَ الْعُلَمَاءُ فِي تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ مِنْ حَيْثُ
الْجُمْلَةُ إِِلَى الأَْحَادِيثِ التَّالِيَةِ:
الْحَدِيثُ الأَْوَّل: عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:
قَدِمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سَفَرٍ،
وَقَدْ سَتَرْتُ سَهْوَةً لِي بِقِرَامٍ فِيهِ تَمَاثِيل، فَلَمَّا رَآهُ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَتَكَهُ، وَتَلَوَّنَ
وَجْهُهُ. فَقَال: يَا عَائِشَةُ: أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ الَّذِينَ
__________
(1) الطحطاوي على الدر المختار 1 / 273، والأم للشافعي، (القاهرة، مكتبة
الكليات الأزهرية، 1381 هـ) 6 / 182، والزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر
الهيثمي الشافعي 2 / 282، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي،
الحنبلي، (القاهرة، مطبعة أنصار السنة) 1 / 474.
(2) كشاف القناع للبهوتي شرح الإقناع للحجاوي الحنبلي، (الرياض، مكتبة
النصر الحديثة) 1 / 279، 280، والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 513. وقد تقدم
تخريج الحديث ف / 21.
(12/102)
يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ. قَالَتْ
عَائِشَةُ: فَقَطَعْنَاهُ فَجَعَلْنَا مِنْهُ وِسَادَةً أَوْ
وِسَادَتَيْنِ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَال: إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ
عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ (1)
. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَال: إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ
يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُقَال لَهُمْ: أَحْيُوا مَا
خَلَقْتُمْ.
وَفِي رِوَايَةٍ: إِنَّهَا قَالَتْ: فَأَخَذْتُ السِّتْرَ فَجَعَلْتُهُ
مِرْفَقَةً أَوْ مِرْفَقَتَيْنِ، فَكَانَ يَرْتَفِقُ بِهِمَا فِي
الْبَيْتِ. وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا. (2)
هَذَا وَإِِنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَشَدَّ
النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ رَوَاهُ
الشَّيْخَانِ أَيْضًا مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ. (3) وَقَوْلُهُ: إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ
يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَال لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ
رَوَيَاهُ أَيْضًا
__________
(1) حديث: " يا عائشة، أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين. . . " أخرجه
البخاري (الفتح 10 - 387 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1668 ط الحلبي) .
(2) حديث: " إن أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله. . .
". أخرجه مسلم (3 / 1667 ط الحلبي) . وحديث: " إن أصحاب هذه الصور يعذبون
يوم القيامة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 389 ط السلفية) ، ومسلم (3 /
1669 ط الحلبي) ورواية: " فأخذت الستر فجعلته مرفقة ". أخرجه مسلم (3 /
1669 ط الحلبي) .
(3) الحديث تقدم تخريجه ف 23.
(12/103)
مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
الْحَدِيثُ الثَّانِي:
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: وَاعَدَ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيل أَنْ يَأْتِيَهُ فِي سَاعَةٍ،
فَجَاءَتْ تِلْكَ السَّاعَةُ وَلَمْ يَأْتِهِ. قَالَتْ: وَكَانَ بِيَدِهِ
عَصًا فَطَرَحَهَا، وَهُوَ يَقُول: مَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلاَ
رُسُلَهُ. ثُمَّ الْتَفَتَ، فَإِِذَا جَرْوُ كَلْبٍ تَحْتَ سَرِيرٍ،
فَقَال: مَتَى دَخَل هَذَا الْكَلْبُ؟ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ مَا دَرَيْتُ
بِهِ. فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ، فَجَاءَهُ جِبْرِيل، فَقَال لَهُ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَعَدْتنِي فَجَلَسْتُ لَكَ
وَلَمْ تَأْتِنِي؟ فَقَال: مَنَعَنِي الْكَلْبُ الَّذِي كَانَ فِي
بَيْتِكَ. إِنَّا لاَ نَدْخُل بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلاَ صُورَةٌ. (1)
وَرَوَتْ مَيْمُونَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حَادِثَةً مِثْل هَذِهِ،
وَفِيهَا قَوْل جِبْرِيل: إِنَّا لاَ نَدْخُل بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلاَ
صُورَةٌ. (2) وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَهُ
بِحَادِثَةِ جِبْرِيل، وَمَا قَال لَهُ. وَرَوَى الْقِصَّةَ أَيْضًا أَبُو
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
__________
(1) حديث: " واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل. . . " أخرجه البخاري
(الفتح 10 / 391 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1664 ط الحلبي) .
(2) حديث: " إنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة " أخرجه مسلم (3 / 1664 -
1665 ط الحلبي) .
(12/103)
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ دَخَل دَارًا تُبْنَى
بِالْمَدِينَةِ لِسَعِيدٍ، أَوْ لِمَرْوَانَ، فَرَأَى مُصَوِّرًا يُصَوِّرُ
فِي الدَّارِ، فَقَال سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُول: قَال اللَّهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ
يَخْلُقُ خَلْقًا كَخَلْقِي، فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً، أَوْ لِيَخْلُقُوا
حَبَّةً، أَوْ لِيَخْلُقُوا شَعِيرَةً. (1)
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ جَاءَهُ رَجُلٌ
فَقَال: إِنِّي رَجُلٌ أُصَوِّرُ هَذِهِ الصُّوَرَ فَأَفْتِنِي فِيهَا.
فَقَال: ادْنُ مِنِّي، فَدَنَا مِنْهُ، ثُمَّ قَال: ادْنُ مِنِّي، فَدَنَا
مِنْهُ، حَتَّى وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَقَال: أُنَبِّئُكَ بِمَا
سَمِعْتُ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. سَمِعْتُ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: كُل مُصَوِّرٍ
فِي النَّارِ، يُجْعَل لَهُ بِكُل صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسًا،
فَيُعَذِّبُهُ فِي جَهَنَّمَ ثُمَّ قَال: إِنْ كُنْتَ لاَ بُدَّ فَاعِلاً
فَاصْنَعِ الشَّجَرَ وَمَا لاَ نَفْسَ لَهُ (2) .
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ:
عَنْ أَبِي الْهَيَّاجِ الأَْسَدِيِّ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَال لَهُ: أَلاَ أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلاَّ تَدَعَ صُورَةً إِلاَّ
طَمَسْتَهَا، وَلاَ قَبْرًا مُشْرِفًا إِلاَّ سَوَّيْتَهُ. (3)
__________
(1) الحديث تقدم تخريجه ف / 15.
(2) حديث: " كل مصور في النار ". أخرجه مسلم (3 / 1670 ط الحلبي) .
(3) حديث: " ألا أبعثك على ما بعثني به رسول الله صلى الله عليه وسلم "
أخرجه مسلم (2 / 666، 667 ط الحلبي) .
(12/104)
تَعْلِيل تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ:
25 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ عَلَى
وُجُوهٍ:
الْوَجْهُ الأَْوَّل: أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ مَا فِي التَّصْوِيرِ مِنْ
مُضَاهَاةِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَصْل التَّعْلِيل بِذَلِكَ وَارِدٌ
فِي الأَْحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ، كَلَفْظِ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا: الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ (1) وَحَدِيثِ
أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ
يَخْلُقُ خَلْقًا كَخَلْقِي (2) وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ حَدِيثُ: مَنْ صَوَّرَ
صُورَةً كُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ (3) وَحَدِيثِ: أَشَدُّ
النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ. يُقَال لَهُمْ:
أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ. (4) وَمِمَّا يُكَدِّرُ عَلَى التَّعْلِيل
بِهَذَا أَمْرَانِ:
الأَْوَّل: أَنَّ التَّعْلِيل بِهَذَا يَقْتَضِي مَنْعَ تَحْرِيمِ
تَصْوِيرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْجِبَال وَالشَّجَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ
مِنْ غَيْرِ ذَوَاتِ الأَْرْوَاحِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ التَّعْلِيل بِذَلِكَ يَقْتَضِي أَيْضًا مَنْعَ
تَصْوِيرِ لُعَبِ الْبَنَاتِ وَالْعُضْوِ الْمَقْطُوعِ، وَغَيْرِ
__________
(1) انفرد بهذه الرواية ورواية " يشبهون بخلق " عبد الرحمن بن القاسم عن
عائشة. وحديثه في صحيح البخاري (كتاب اللباس ب 91) ومسلم (لباس ح 91، 92)
والنسائي (زينة باب 112) وأحمد (6 / 36، 83، 219) .
(2) الحديث تقدم تخريجه في الفقرة السابقة.
(3) الحديث تقدم تخريجه ف / 16.
(4) الحديث تقدم تخريجه ف 15.
(12/104)
ذَلِكَ مِمَّا اسْتَثْنَاهُ الْعُلَمَاءُ
مِنْ قَضِيَّةِ التَّحْرِيمِ - مِنْ أَجْل ذَلِكَ ذَهَبَ بَعْضُ
الْعُلَمَاءِ إِِلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالتَّعْلِيل بِهَذِهِ الْعِلَّةِ
مِنْ صُنْعِ الصُّورَةِ مُتَحَدِّيًا قُدْرَةَ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَل،
وَرَأَى أَنَّهُ قَادِرٌ أَنْ يَخْلُقَ كَخَلْقِهِ، فَيُرِيَهُ اللَّهُ
تَعَالَى عَجْزَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بِأَنْ يُكَلِّفَهُ أَنْ يَنْفُخَ
الرُّوحَ فِي تِلْكَ الصُّوَرِ.
قَال النَّوَوِيُّ: أَمَّا رِوَايَةُ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا فَهِيَ
مَحْمُولَةٌ عَلَى مَنْ فَعَل الصُّورَةَ لِتُعْبَدَ، وَقِيل: هِيَ فِيمَنْ
قَصَدَ الْمَعْنَى الَّذِي فِي الْحَدِيثِ مِنْ مُضَاهَاةِ خَلْقِ اللَّهِ،
وَاعْتَقَدَ ذَلِكَ، فَهَذَا كَافِرٌ لَهُ مِنْ أَشَدِّ الْعَذَابِ مَا
لِلْكُفَّارِ، وَيَزِيدُ عَذَابُهُ بِزِيَادَةِ كُفْرِهِ ". (1)
وَيَتَأَيَّدُ التَّعْلِيل بِهَذَا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَال شَبِيهًا
بِذَلِكَ فِي حَقِّ مَنِ ادَّعَى أَنَّهُ يُنَزِّل مِثْل مَا أَنْزَل
اللَّهُ، وَأَنَّهُ لاَ أَحَدَ أَظْلَم مِنْهُ، فَقَال تَعَالَى: {وَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَال أُوحِيَ
إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَال سَأُنْزِل مِثْل مَا
أَنْزَل اللَّهُ} (2) فَهَذَا فِيمَنِ ادَّعَى مُسَاوَاةَ الْخَالِقِ فِي
أَمْرِهِ وَوَحْيِهِ، وَالأَْوَّل فِيمَنِ ادَّعَى مُسَاوَاتَهُ فِي
خَلْقِهِ، وَكِلاَهُمَا مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا.
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم (كتاب اللباس) 11 / 91.
(2) سورة الأنعام / 93.
(12/105)
وَمِمَّا يُحَقِّقُ هَذَا مَا تُوحِي بِهِ
رِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
يَقُول فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ
يَخْلُقُ خَلْقًا كَخَلْقِي فَإِِنَّ " ذَهَبَ " بِمَعْنَى قَصَدَ،
بِذَلِكَ فَسَّرَهَا ابْنُ حَجَرٍ (1) . وَبِذَلِكَ يَكُونُ مَعْنَاهَا
أَنَّهُ أَظْلَمُ النَّاسِ بِهَذَا الْقَصْدِ، وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ أَنْ
يَخْلُقَ كَخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَنَقَل الْجَصَّاصُ قَوْلاً أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الأَْحَادِيثِ "
مَنْ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ ".
26 - الْوَجْهُ الثَّانِي: كَوْنُ التَّصْوِيرِ وَسِيلَةً إِِلَى
الْغُلُوِّ فِي غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِتَعْظِيمِهِ حَتَّى يَئُول
الأَْمْرُ إِِلَى الضَّلاَل وَالاِفْتِنَانِ بِالصُّوَرِ، فَتُعْبَدُ مِنْ
دُونِ اللَّهِ تَعَالَى. وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ وَالنَّاسُ يَنْصِبُونَ تَمَاثِيل
يَعْبُدُونَهَا، يَزْعُمُونَ أَنَّهَا تُقَرِّبُهُمْ إِِلَى اللَّهِ
زُلْفَى، فَجَاءَ الإِِْسْلاَمُ مُحَطِّمًا لِلشِّرْكِ وَالْوَثَنِيَّةِ،
مُعْلِنًا أَنَّ شِعَارَهُ الأَْكْبَرَ (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ)
وَمُسَفِّهًا لِعُقُول هَؤُلاَءِ. وَمِنَ الْمَنَاهِجِ الَّتِي سَلَكَتْهَا
الشَّرِيعَةُ الْحَكِيمَةُ لِذَلِكَ - بِالإِِْضَافَةِ إِِلَى الْحُجَّةِ
وَالْبَيَانِ وَالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ - أَنْ جَاءَتْ إِِلَى مَا مِنْ
شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ وَسِيلَةً إِِلَى الضَّلاَل وَلاَ مَنْفَعَةَ، أَوْ
مَنْفَعَتُهُ أَقَل، فَمَنَعَتْ إِتْيَانَهُ، قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ:
وَالَّذِي أَوْجَبَ النَّهْيَ عَنِ التَّصْوِيرِ فِي شَرْعِنَا - وَاللَّهُ
أَعْلَمُ - مَا كَانَتِ الْعَرَبُ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الأَْوْثَانِ
وَالأَْصْنَامِ، فَكَانُوا يُصَوِّرُونَ
__________
(1) فتح الباري 10 / 386.
(12/105)
وَيَعْبُدُونَ، فَقَطَعَ اللَّهُ
الذَّرِيعَةَ، وَحَمَى الْبَابَ.
ثُمَّ أَشَارَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّ التَّعْلِيل بِالْمُضَاهَاةِ
وَهُوَ مَنْصُوصٌ، لاَ يَمْنَعُ مِنَ التَّعْلِيل بِهَذِهِ الْعِلَّةِ
الْمُسْتَنْبَطَةِ، قَال: نَهَى عَنِ الصُّورَةِ، وَذَكَرَ عِلَّةَ
التَّشَبُّهِ بِخَلْقِ اللَّهِ، وَفِيهَا زِيَادَةٌ عَلَى هَذَا
عِبَادَتُهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ عَمَلَهَا
مَعْصِيَةٌ، فَمَا ظَنُّكَ بِعِبَادَتِهَا. (1)
وَاسْتَنَدَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْوَجْهِ فِي التَّعْلِيل إِِلَى مَا
فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ نُوحٍ، مُعَلَّقًا. عَنْ
عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي: وَدٍّ، وَسُوَاعٍ، وَيَغُوثَ، وَيَعُوقَ،
وَنَسْرٍ. قَال: " هَذِهِ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ،
فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِِلَى قَوْمِهِمْ: أَنِ انْصِبُوا
إِِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ إِلَيْهَا أَنْصَابًا،
وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا، فَلَمْ تُعْبَدْ، حَتَّى إِِذَا
هَلَكَ أُولَئِكَ، وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ، عُبِدَتْ (2) .
لَكِنْ إِِلَى أَيِّ مَدًى أَرَادَتِ الشَّرِيعَةُ الْمَنْعَ مِنَ
التَّصْوِيرِ لِتَكْفُل سَدَّ الذَّرِيعَةِ: هَل إِِلَى مَنْعِ
التَّصْوِيرِ مُطْلَقًا، أَوْ مَنْعِ الصُّوَرِ الْمَنْصُوبَةِ دُونَ
غَيْرِ الْمَنْصُوبَةِ، أَوْ مَنْعِ الصُّوَرِ الْمُجَسَّمَةِ الَّتِي
لَهَا ظِلٌّ؛ لأَِنَّهَا الَّتِي كَانَتْ تُعْبَدُ؟ هَذَا مَوْضِعُ
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي 4 / 1588.
(2) أثر ابن عباس أخرجه البخاري (فتح الباري 8 / 666 ط السلفية) . وانظر
تفسير ابن كثير والطبري في تفسير الآية من سورة نوح، حيث نقلا روايات أخرى.
(12/106)
الْخِلاَفِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ.
وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الْوَجْهِ رَأَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَدَّدَ أَوَّلاً وَأَمَرَ
بِكَسْرِ الأَْوْثَانِ وَلَطَّخَ الصُّوَرَ، ثُمَّ لَمَّا عُرِفَ ذَلِكَ
الأَْمْرُ وَاشْتَهَرَ رَخَّصَ فِي الصُّوَرِ الْمُسَطَّحَةِ وَقَال:
إِلاَّ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ.
27 - الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْعِلَّةَ مُجَرَّدُ الشَّبَهِ بِفِعْل
الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَنْحِتُونَ الأَْصْنَامَ
وَيَعْبُدُونَهَا، وَلَوْ لَمْ يَقْصِدِ الْمُصَوِّرُ ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ
تُعْبَدِ الصُّورَةُ الَّتِي يَصْنَعُهَا، لَكِنَّ الْحَال شَبِيهَةٌ
بِالْحَال. كَمَا نُهِينَا عَنِ الصَّلاَةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ
وَعِنْدَ غُرُوبِهَا؛ لِئَلاَّ نَكُونَ فِي ذَلِكَ مِثْل مَنْ يَسْجُدُ
لَهَا حِينَئِذٍ. كَمَا قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: فَإِِنَّهُ يَسْجُدُ لَهَا حِينَئِذٍ الْكُفَّارُ (1)
فَكُرِهَتِ الصَّلاَةُ حِينَئِذٍ لِمَا تَجُرُّهُ الْمُشَابَهَةُ مِنَ
الْمُوَافَقَةِ. أَشَارَ إِِلَى هَذَا الْمَعْنَى ابْنُ تَيْمِيَّةَ.
وَنَبَّهَ عَلَيْهِ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَال: إِنَّ صُورَةَ الأَْصْنَامِ
هِيَ الأَْصْل فِي مَنْعِ التَّصْوِيرِ (2) لَكِنْ إِِذَا قِيل بِهَذِهِ
الْعِلَّةِ فَهِيَ لاَ تَقْتَضِي أَكْثَرَ مِنَ الْكَرَاهَةِ.
__________
(1) حديث: " وحينئذ يسجد لها الكفار ". أخرجه من مسلم (1 / 570 ط الحلبي)
من حديث عمرو بن عنبسة رضي الله عنه.
(2) اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، (القاهرة، مطبعة أنصار
السنة المحمدية، 1369 هـ) ص 63، وفتح الباري 10 / 395. وفي مجلة المنار قال
الشيخ محمد رشيد رضا إن هذه هي العلة الحقيقية في التحريم (سنة 1320 هـ
المجلد 5 / 140) .
(12/106)
28 - الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ وُجُودَ
الصُّورَةِ فِي مَكَان يَمْنَعُ دُخُول الْمَلاَئِكَةِ إِلَيْهِ. وَقَدْ
وَرَدَ النَّصُّ عَلَى ذَلِكَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَحَدِيثِ عَلِيٍّ.
وَرَدَّ التَّعْلِيل بِهَذَا كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمُ
الْحَنَابِلَةُ، كَمَا يَأْتِي، وَقَالُوا: إِنَّ تَنْصِيصَ الْحَدِيثِ
عَلَى أَنَّ الْمَلاَئِكَةَ لاَ تَدْخُل بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ لاَ
يَقْتَضِي مَنْعَ التَّصْوِيرِ، كَالْجَنَابَةِ، فَإِِنَّهَا تَمْنَعُ
دُخُول الْمَلاَئِكَةِ أَيْضًا لِمَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لاَ تَدْخُل
الْمَلاَئِكَةُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ وَلاَ كَلْبٌ وَلاَ جُنُبٌ (1) فَلاَ
يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ مَنْعُ الْجَنَابَةِ.
وَلَعَل امْتِنَاعَ دُخُول الْمَلاَئِكَةِ إِنَّمَا هُوَ لِكَوْنِ
الصُّورَةِ مُحَرَّمَةً، كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَجْلِسَ
عَلَى مَائِدَةٍ يُدَارُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ. فَامْتِنَاعُ دُخُولِهِمْ
أَثَرُ التَّحْرِيمِ، وَلَيْسَ عِلَّةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
تَفْصِيل الْقَوْل فِي صِنَاعَةِ الصُّوَرِ:
أَوَّلاً: الصُّوَرُ الْمُجَسَّمَةُ (ذَوَاتُ الظِّل) .
29 - صَنْعَةُ الصُّوَرِ الْمُجَسَّمَةِ مُحَرَّمَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ
الْعُلَمَاءِ أَخْذًا بِالأَْدِلَّةِ السَّابِقَةِ.
وَيُسْتَثْنَى مِنْهَا مَا كَانَ مَصْنُوعًا كَلُعْبَةٍ لِلصِّغَارِ، أَوْ
كَانَ مُمْتَهَنًا، أَوْ كَانَ مَقْطُوعًا مِنْهُ عُضْوٌ لاَ يَعِيشُ
بِدُونِهِ، أَوْ كَانَ مِمَّا لاَ يَدُومُ كَصُوَرِ الْحَلْوَى أَوِ
__________
(1) حديث: " لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا كلب ولا جنب ". أخرجه أبو
داود (4 / 384 تحقيق عزت عبيد دعاس) . وفي إسناده جهالة، (الميزان للذهبي 4
/ 248 ط الحلبي) .
(12/107)
الْعَجِينِ، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ
يَتَبَيَّنُ فِي الْمَبَاحِثِ التَّالِيَةِ.
ثَانِيًا: صِنَاعَةُ الصُّوَرِ الْمُسَطَّحَةِ:
الْقَوْل الأَْوَّل فِي صِنَاعَةِ الصُّوَرِ الْمُسَطَّحَةِ
30 - مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُمْ جَوَازُ صِنَاعَةِ
الصُّوَرِ الْمُسَطَّحَةِ مُطْلَقًا، مَعَ الْكَرَاهَةِ. لَكِنْ إِنْ
كَانَتْ فِيمَا يُمْتَهَنُ فَلاَ كَرَاهَةَ بَل خِلاَفُ الأَْوْلَى.
وَتَزُول الْكَرَاهَةُ إِِذَا كَانَتِ الصُّوَرُ مَقْطُوعَةَ عُضْوٍ لاَ
تَبْقَى الْحَيَاةُ مَعَ فَقْدِهِ.
31 - وَمِنَ الْحُجَّةِ لِهَذَا الْمَذْهَبِ مَا يَلِي:
(1) حَدِيثُ أَبِي طَلْحَةَ وَعَنْهُ زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ،
وَرَوَاهُ سَهْل بْنُ حُنَيْفٍ الصَّحَابِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ،
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تَدْخُل
الْمَلاَئِكَةُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ، إِلاَّ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ (1)
فَهَذَا الْحَدِيثُ مُقَيَّدٌ، فَيُحْمَل عَلَيْهِ كُل مَا وَرَدَ مِنَ
النَّهْيِ عَنِ التَّصَاوِيرِ وَلَعْنِ الْمُصَوِّرِينَ.
(2) حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: يَقُول اللَّهُ تَعَالَى: فِي الْحَدِيثِ
الْقُدْسِيِّ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ خَلْقًا كَخَلْقِي،
فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً، أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً. (2)
__________
(1) حديث: " لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة، إلا رقما في ثوب " أخرجه
البخاري (الفتح 10 / 389 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1665 ط الحلبي) .
(2) الحديث تقدم تخريجه ف / 15.
(12/107)
وَوَجْهُ الاِحْتِجَاجِ بِهِ: أَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَخْلُقْ هَذِهِ الأَْحْيَاءَ سُطُوحًا، بَل
اخْتَرَعَهَا مُجَسَّمَةً. (1)
(3) اسْتِعْمَال الصُّوَرِ فِي بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهَا جَعَلَتِ السِّتْرَ مِرْفَقَتَيْنِ،
فَكَانَ يُرْتَفَقُ بِهِمَا، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ " وَإِِنَّ
فِيهِمَا الصُّوَرَ ".
وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ قَالَتْ: كَانَ لَنَا سِتْرٌ فِيهِ
تِمْثَال طَائِرٍ، وَكَانَ الدَّاخِل إِِذَا دَخَل اسْتَقْبَلَهُ، فَقَال
لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَوِّلِي هَذَا،
فَإِِنِّي كُلَّمَا دَخَلْتُ فَرَأَيْتُهُ، ذَكَرْتُ الدُّنْيَا (2)
فَعُلِّل بِذَلِكَ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرِيصًا
عَلَى أَلاَّ يَشْغَلَهُ أَمْرُ الدُّنْيَا وَزَهْرَتُهَا عَنِ الدَّعْوَةِ
إِِلَى اللَّهِ وَالتَّفَرُّغِ لِعِبَادَتِهِ. وَذَلِكَ لاَ يَقْتَضِي
التَّحْرِيمَ عَلَى أُمَّتِهِ. وَفِي رِوَايَةِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّهُ قَال لَهَا: أَمِيطِي عَنَّا قِرَامَكِ هَذَا، فَإِِنَّ
تَصَاوِيرَهُ لاَ تَزَال تَعْرِضُ لِي فِي صَلاَتِي (3) وَعُلِّل فِي
رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ بِغَيْرِ هَذَا عِنْدَمَا هَتَكَ السِّتْرَ فَقَال يَا
عَائِشَةُ لاَ تَسْتُرِي الْجِدَارَ (4) وَقَال إِنَّ اللَّهَ لَمْ
يَأْمُرْنَا أَنْ نَكْسُوَ الْحِجَارَةَ وَالطِّينَ. (5)
__________
(1) ذكر هذا المعنى ابن حجر في الفتح 10 / 386.
(2) حديث: " حولي هذا، فإني كلما دخلت فرأيته ذكرت الدنيا ". أخرجه مسلم (3
/ 1666 ط الحلبي) .
(3) حديث " أميطي عنا قرامك هذا، فإنه. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 484
ط السلفية) .
(4) حديث: " يا عائشة لا تستري الجدار " أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار
(4 / 283 ط مطبعة الأنوار المحمدية) .
(5) حديث: " إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين " أخرجه مسلم (3 /
1666 ط الحلبي) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(12/108)
وَيُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى جَلِيًّا
حَدِيثُ سَفِينَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ دَعَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِِلَى
بَيْتِهِ، فَجَاءَ فَوَضَعَ يَدَهُ فَرَجَعَ، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ
لِعَلِيٍّ: الْحَقْهُ فَانْظُرْ مَا رَجَعَهُ. فَتَبِعَهُ، فَقَال: يَا
رَسُول اللَّهِ مَا رَدَّكَ؟ قَال: إِنَّهُ لَيْسَ لِي - أَوْ قَال:
لِنَبِيٍّ - أَنْ يَدْخُل بَيْتًا مُزَوَّقًا. (1)
وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عِنْدَ
الْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ وَفِي رِوَايَتِهِ: فَرَأَى سِتْرًا
مَوْشَيًّا، وَفِيهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال مَا
لَنَا وَلِلدُّنْيَا، مَا لَنَا وَلِلرَّقْمِ فَقَالَتْ فَاطِمَةُ فَمَا
تَأْمُرُنَا فِيهِ؟ قَال: تُرْسِلِينَ بِهِ إِِلَى أَهْل حَاجَةٍ. (2)
وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ أَنَّهُ كَانَ فِي السِّتْرِ تَصَاوِيرُ.
(3)
(4) اسْتِعْمَال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابِهِ الدَّنَانِيرَ الرُّومِيَّةَ وَالدَّرَاهِمَ الْفَارِسِيَّةَ
وَعَلَيْهَا صُوَرُ مُلُوكِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ نُقُودٌ
غَيْرُهَا إِلاَّ الْفُلُوسُ. وَقَدْ ضَرَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى مَا تَذْكُرُهُ الْكُتُبُ الْمُؤَلَّفَةُ
فِي تَارِيخِ النُّقُودِ - الدَّرَاهِمَ عَلَى السِّكَّةِ الْفَارِسِيَّةِ،
فَكَانَ فِيهَا الصُّوَرُ،
__________
(1) حديث: " إنه ليس لي - أو قال: لنبي - أن يدخل بيتا مزوقا " أخرجه أبو
داود (4 / 133 - تحقيق عزت عبيد دعاس) . وصححه ابن حبان مختصرا (ص 352 -
موارد الظمآن - ط السلفية) .
(2) حديث: " ما لنا وللدنيا، ما لنا وللرقم " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 228
ط السلفية) وأبو داود (4 / 382 - تحقيق عزت عبيد دعاس) .
(3) جامع الأصول 4 / 815.
(12/108)
وَضَرَبَ الدَّنَانِيرَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ وَعَلَيْهَا الصُّوَرُ بَعْدَ أَنْ مَحَا مِنْهَا
الصَّلِيبَ، وَضَرَبَهَا عَبْدُ الْمَلِكِ وَعَلَيْهَا صُورَتُهُ
مُتَقَلِّدًا سَيْفًا، ثُمَّ ضَرَبَهَا عَبْدُ الْمَلِكِ وَالْوَلِيدُ
خَالِيَةً مِنَ الصُّوَرِ. (1)
(5) مَا نُقِل عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنِ اسْتِعْمَال
الصُّوَرِ فِي السُّتُورِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمُسَطَّحَاتِ. مِنْ ذَلِكَ
اسْتِعْمَال زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
لِلسُّتُورِ ذَاتِ الصُّوَرِ، وَحَدِيثُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وَاسْتَعْمَلَهُ أَبُو طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَقَرَّهُ سَهْل
بْنُ حُنَيْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَحَدِيثُهُمَا فِي الْمُوَطَّأِ
وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ. وَاعْتَمَدُوا عَلَى مَا
رَوَوْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ
إِلاَّ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ
عُرْوَةَ كَانَ يَتَّكِئُ عَلَى الْمَرَافِقِ (الْوَسَائِدِ) الَّتِي
فِيهَا تَصَاوِيرُ الطَّيْرِ وَالرِّجَال (2) .
وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ بِأَسَانِيدِهِ أَنَّ نَقْشَ خَاتَمِ عِمْرَانَ بْنِ
حُصَيْنٍ الصَّحَابِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ رَجُلاً مُتَقَلِّدًا
سَيْفًا. وَأَنَّ نَقْشَ خَاتَمِ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَائِدِ فَتْحِ فَارِسَ، كَانَ أَيِّلاً
__________
(1) راجع لهذا كتاب: الدينار الإسلامي في المتحف العراقي، للسيد ناصر
النقشبندي، (بغداد، المجمع العلمي العراقي 1372 هـ) ص 17، 18، 20، 24، 82،
وكتاب النقود العربية وعلم النمنمات لانستاس الكرملي وفي ضمنه كتاب
المقريزي في النقود الإسلامية.
(2) مصنف ابن أبي شيبة 8 / 506 ط الهند.
(12/109)
قَابِضًا إِحْدَى يَدَيْهِ بَاسِطًا
الأُْخْرَى، وَعَنِ الْقَاسِمِ قَال كَانَ نَقْشُ خَاتَمِ عَبْدِ اللَّهِ
ذَبَّابَانِ، وَكَانَ نَقْشَ خَاتَمِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ كُرْكِيَّانِ، وَرُوِيَ أَنَّ نَقْشَ خَاتَمِ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذُبَابَتَانِ (1) .
وَنَقَل ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ أَنَّهُ دَخَل
عَلَى الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّةَ بِبَيْتِهِ، قَال: فَرَأَيْتُ
فِي بَيْتِهِ حَجْلَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ الْقُنْدُسِ وَالْعَنْقَاءِ. قَال
ابْنُ حَجَرٍ: وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَحَدُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ،
وَهُوَ رَاوِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَكَانَ مِنْ أَفْضَل أَهْل زَمَانِهِ.
(2)
وَرَوَى أَحْمَدُ بِسَنَدِهِ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَال: دَخَلْتُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا أَعُودُهُ مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِهِ. قُلْتُ: فَمَا هَذِهِ
التَّصَاوِيرُ فِي الْكَانُونِ؟ قَال: أَلاَ تَرَى قَدْ أَحْرَقْنَاهَا
بِالنَّارِ. فَلَمَّا خَرَجَ الْمِسْوَرُ قَال: اقْطَعُوا رُءُوسَ هَذِهِ
التَّمَاثِيل. قَالُوا: يَا أَبَا الْعَبَّاسِ لَوْ ذَهَبْتَ بِهَا إِِلَى
السُّوقِ كَانَ أَنْفَقَ لَهَا قَال: لاَ. فَأَمَرَ بِقَطْعِ رُءُوسِهَا
(3) .
__________
(1) معاني الآثار للطحاوي 4 / 263، 266.
(2) مصنف ابن أبي شيبة، ط الهند 8 / 509، ونقله ابن حجر في الفتح 10 / 388.
(3) مسند أحمد 1 / 320.
(12/109)
الْقَوْل الثَّانِي فِي صِنَاعَةِ
الصُّوَرِ غَيْرِ ذَوَاتِ الظِّل (أَيِ الْمُسَطَّحَةِ) :
32 - إِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ كَصِنَاعَةِ ذَوَاتِ الظِّل. وَهَذَا قَوْل
جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ، وَنُقِل عَنْ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ.
وَاسْتَثْنَى بَعْضُ أَصْحَابِ هَذَا الْقَوْل الصُّوَرَ الْمَقْطُوعَةَ
وَالصُّوَرَ الْمُمْتَهَنَةَ وَأَشْيَاءَ أُخْرَى كَمَا سَيَأْتِي فِي
بَقِيَّةِ هَذَا الْبَحْثِ.
وَاحْتَجُّوا لِلتَّحْرِيمِ بِإِِطْلاَقِ الأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي
لَعْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُصَوِّرِينَ،
وَأَنَّ الْمُصَوِّرَ يُعَذَّبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنْ يُكَلَّفَ
بِنَفْخِ الرُّوحِ فِي كُل صُورَةٍ صَوَّرَهَا. خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ صُوَرُ
الأَْشْجَارِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لاَ رُوحَ فِيهِ بِالأَْدِلَّةِ
السَّابِقِ ذِكْرُهَا، فَيَبْقَى مَا عَدَاهَا عَلَى التَّحْرِيمِ.
قَالُوا: وَأَمَّا الاِحْتِجَاجُ لإِِِبَاحَةِ صُنْعِ الصُّوَرِ
الْمُسَطَّحَةِ بِاسْتِعْمَال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْوِسَادَتَيْنِ اللَّتَيْنِ فِيهِمَا الصُّوَرُ، وَاسْتِعْمَال
الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لِذَلِكَ، فَإِِنَّ الاِسْتِعْمَال
لِلصُّورَةِ حَيْثُ جَازَ لاَ يَعْنِي جَوَازَ تَصْوِيرِهَا؛ لأَِنَّ
النَّصَّ وَرَدَ بِتَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ وَلَعْنِ الْمُصَوِّرِ، وَهُوَ
شَيْءٌ آخَرُ غَيْرُ اسْتِعْمَال مَا فِيهِ الصُّورَةُ. وَقَدْ عُلِّل فِي
بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِمُضَاهَاةِ خَلْقِ اللَّهِ وَالتَّشْبِيهِ بِهِ،
وَذَلِكَ إِثْمٌ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ الاِسْتِعْمَال. (1)
__________
(1) ابن عابدين 1 / 437.
(12/110)
ثَالِثًا: الصُّوَرُ الْمَقْطُوعَةُ
وَالصُّوَرُ النِّصْفِيَّةُ وَنَحْوُهَا:
33 - تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ لاَ يَرَوْنَ تَحْرِيمَ تَصْوِيرِ
الإِِْنْسَانِ أَوِ الْحَيَوَانِ - سَوَاءٌ أَكَانَتِ الصُّورَةُ
تِمْثَالاً مُجَسَّمًا أَوْ صُورَةً مُسَطَّحَةً - إِنْ كَانَتْ نَاقِصَةَ
عُضْوٍ مِنَ الأَْعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ مِمَّا لاَ يَعِيشُ الْحَيَوَانُ
بِدُونِهِ. كَمَا لَوْ كَانَ مَقْطُوعَ الرَّأْسِ، أَوْ كَانَ مَخْرُوقَ
الْبَطْنِ أَوِ الصَّدْرِ.
وَكَذَلِكَ يَقُول الْحَنَابِلَةُ، كَمَا جَاءَ فِي الْمُغْنِي: " إِِذَا
كَانَ فِي ابْتِدَاءِ التَّصْوِيرَةِ صُورَةُ بَدَنٍ بِلاَ رَأْسٍ أَوْ
رَأْسٌ بِلاَ بَدَنٍ، أَوْ جُعِل لَهُ رَأْسٌ وَسَائِرُ بَدَنِهِ صُورَةُ
غَيْرِ حَيَوَانٍ، لَمْ يَدْخُل فِي النَّهْيِ. وَفِي الْفُرُوعِ: إِنْ
أُزِيل مِنَ الصُّوَرِ مَا لاَ تَبْقَى الْحَيَاةُ مَعَهُ لَمْ يُكْرَهْ،
فِي الْمَنْصُوصِ. وَمِثْلُهُ صُورَةُ شَجَرَةٍ وَنَحْوِهِ وَتِمْثَالٍ،
وَكَذَا تَصْوِيرُهُ (1)
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا، وَلَمْ يُنْقَل بَيْنَهُمْ فِي
ذَلِكَ خِلاَفٌ إِلاَّ مَا شَذَّ بِهِ الْمُتَوَلِّي، غَيْرَ أَنَّهُمُ
اخْتَلَفُوا فِيمَا إِِذَا كَانَ الْمَقْطُوعُ غَيْرَ الرَّأْسِ وَقَدْ
بَقِيَ الرَّأْسُ. وَالرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ
التَّحْرِيمُ، جَاءَ فِي أَسْنَى الْمَطَالِبِ وَحَاشِيَتِهِ
لِلرَّمْلِيِّ: وَكَذَا إِنْ قُطِعَ رَأْسُ الصُّورَةِ. قَال الكوهكيوني:
وَكَذَا حُكْمُ مَا صُوِّرَ بِلاَ رَأْسٍ، وَأَمَّا
__________
(1) المغني 7 / 7، وانظر كشاف القناع 5 / 171، والخرشي 3 / 303، والفروع 1
/ 352، 353.
(12/110)
الرُّءُوسُ بِلاَ أَبْدَانٍ فَهَل
تَحْرُمُ؟ فِيهِ تَرَدُّدٌ. وَالْحُرْمَةُ أَرْجَحُ. قَال الرَّمْلِيُّ:
وَهُمَا وَجْهَانِ فِي الْحَاوِي وَبَنَاهُمَا عَلَى أَنَّهُ هَل يَجُوزُ
تَصْوِيرُ حَيَوَانٍ لاَ نَظِيرَ لَهُ: إِنْ جَوَّزْنَاهُ جَازَ ذَلِكَ،
وَإِِلاَّ فَلاَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَيَشْمَلُهُمَا قَوْلُهُ: وَيَحْرُمُ
تَصْوِيرُ حَيَوَانٍ.
وَظَاهِرُ مَا فِي تُحْفَةِ الْمُحْتَاجِ جَوَازُهُ، فَإِِنَّهُ قَال:
وَكَفَقْدِ الرَّأْسِ فَقْدُ مَا لاَ حَيَاةَ بِدُونِهِ. (1)
رَابِعًا: صُنْعُ الصُّوَرِ الْخَيَالِيَّةِ:
34 - يَنُصُّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الصُّوَرَ الْخَيَالِيَّةَ
لِلإِِْنْسَانِ أَوِ الْحَيَوَانِ دَاخِلَةٌ فِي التَّحْرِيمِ. قَالُوا:
يَحْرُمُ، كَإِِنْسَانٍ لَهُ جَنَاحٌ، أَوْ بَقَرٍ لَهُ مِنْقَارٌ، مِمَّا
لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ فِي الْمَخْلُوقَاتِ. وَكَلاَمُ صَاحِبِ رَوْضِ
الطَّالِبِ يُوحِي بِوُجُودِ قَوْلٍ بِالْجَوَازِ.
وَوَاضِحٌ أَنَّ هَذَا فِي غَيْرِ اللُّعَبِ الَّتِي لِلأَْطْفَال، وَقَدْ
وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّهُ كَانَ فِي
لُعَبِهَا فَرَسٌ لَهُ جَنَاحَانِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحِكَ لَمَّا رَآهَا حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ. (2)
__________
(1) تحفة المحتاج 7 / 434، وأسنى المطالب وحاشيته 3 / 226، والقليوبي على
شرح المنهاج 3 / 297.
(2) أسنى المطالب 3 / 226، والقليوبي على المنهاج 3 / 297، وحواشي تحفة
المحتاج 7 / 434 وحديث عائشة سيأتي تخريجه ف / 38.
(12/111)
خَامِسًا: صُنْعُ الصُّوَرِ
الْمُمْتَهَنَةِ:
35 - يَأْتِي أَنَّ أَغْلَبَ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ اقْتِنَاءِ
وَاسْتِعْمَال الصُّوَرِ الْمُجَسَّمَةِ وَالْمُسَطَّحَةِ. سَوَاءٌ
أَكَانَتْ مَقْطُوعَةً أَمْ كَامِلَةً، إِِذَا كَانَتْ مُمْتَهَنَةً،
كَالَّتِي عَلَى أَرْضٍ أَوْ بِسَاطٍ أَوْ فِرَاشٍ أَوْ وِسَادَةٍ أَوْ
نَحْوِ ذَلِكَ.
وَبِنَاءً عَلَى هَذَا، ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِِلَى جَوَازِ صُنْعِ
مَا يُسْتَعْمَل عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، كَنَسْجِ الْحَرِيرِ لِمَنْ يَحِل
لَهُ.
وَهُوَ فِي الْجُمْلَةِ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُ
عِنْدَهُمْ خِلاَفُ الأَْوْلَى.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا التَّحْرِيمُ. وَهُوَ
مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ عَابِدِينَ. وَنَقَل
ابْنُ حَجَرٍ عَنِ الْمُتَوَلِّي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ أَجَازَ
التَّصْوِيرَ عَلَى الأَْرْضِ. (1)
وَلَمْ نَجِدْ لِلْحَنَابِلَةِ تَصْرِيحًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عِنْدَهُمْ مُنْدَرِجٌ فِي تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ.
وَسَيَأْتِي تَفْصِيل الْقَوْل فِي مَعْنَى الاِمْتِهَانِ.
سَادِسًا: صِنَاعَةُ الصُّوَرِ مِنَ الطِّينِ وَالْحَلْوَى وَمَا يَسْرُعُ
إِلَيْهِ الْفَسَادُ:
36 - لِلْمَالِكِيَّةِ قَوْلاَنِ فِي صِنَاعَةِ الصُّوَرِ الَّتِي
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 338، ومنح الجليل شرح مختصر خليل 2
/ 167، وحاشية عميرة على شرح المنهاج 31 / 297، 298، ونهاية المحتاج 6 /
369، وأسنى المطالب بحاشية الرملي 3 / 226، وابن عابدين 1 / 437.
(12/111)
لاَ تُتَّخَذُ لِلإِِْبْقَاءِ، كَالَّتِي
تُعْمَل مِنَ الْعَجِينِ وَأَشْهَرُ الْقَوْلَيْنِ الْمَنْعُ. وَكَذَا
نَقَلَهُمَا الْعَدَوِيُّ وَقَال: إِنَّ الْقَوْل بِالْجَوَازِ هُوَ
لأَِصْبَغَ. وَمَثَّل لَهُ بِمَا يُصْنَعُ مِنْ عَجِينٍ أَوْ قِشْرِ
بِطِّيخٍ؛ لأَِنَّهُ إِِذَا نَشَفَ تَقَطَّعَ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ:
يَحْرُمُ صُنْعُهَا وَلاَ يَحْرُمُ بَيْعُهَا. (1)
وَلَمْ نَجِدْ عِنْدَ غَيْرِهِمْ نَصًّا فِي ذَلِكَ.
سَابِعًا: صِنَاعَةُ لُعَبِ الْبَنَاتِ:
37 - اسْتَثْنَى أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ
وَصِنَاعَةِ التَّمَاثِيل صِنَاعَةَ لُعَبِ الْبَنَاتِ. وَهُوَ مَذْهَبُ
الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَقَدْ نَقَل الْقَاضِي عِيَاضٌ جَوَازَهُ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ،
وَتَابَعَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، فَقَال: يُسْتَثْنَى مِنْ
مَنْعِ تَصْوِيرِ مَا لَهُ ظِلٌّ، وَمِنِ اتِّخَاذِهِ لُعَبَ الْبَنَاتِ،
لِمَا وَرَدَ مِنَ الرُّخْصَةِ فِي ذَلِكَ.
وَهَذَا يَعْنِي جَوَازَهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتِ اللُّعَبُ عَلَى هَيْئَةِ
تِمْثَال إِنْسَانٍ أَوْ حَيَوَانٍ، مُجَسَّمَةً أَوْ غَيْرَ مُجَسَّمَةٍ،
وَسَوَاءٌ أَكَانَ لَهُ نَظِيرٌ فِي الْحَيَوَانَاتِ أَمْ لاَ، كَفَرَسٍ
لَهُ جَنَاحَانِ.
وَقَدِ اشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ لِلْجَوَازِ أَنْ تَكُونَ مَقْطُوعَةَ
الرُّءُوسِ، أَوْ نَاقِصَةَ عُضْوٍ لاَ تَبْقَى الْحَيَاةُ بِدُونِهِ.
وَسَائِرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ
__________
(1) فتح الباري 10 / 388، والدسوقي 2 / 337، والخرشي 3 / 303، والقليوبي
على شرح المنهاج 3 / 297.
(12/112)
ذَلِكَ. (1)
38 - وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ لِهَذَا الاِسْتِثْنَاءِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ عِنْدَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ لِي صَوَاحِبُ
يَلْعَبْنَ مَعِي، فَكَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِِذَا دَخَل يَتَقَمَّعْنَ مِنْهُ، فَيُسَرِّبُهُنَّ إِلَيَّ،
فَيَلْعَبْنَ مَعِي. (2)
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَتْ: قَدِمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكٍ أَوْ خَيْبَرَ، وَفِي سَهْوَتِهَا سِتْرٌ،
فَهَبَّتْ رِيحٌ، فَكَشَفَتْ نَاحِيَةَ السِّتْرِ عَنْ بَنَاتٍ لِعَائِشَةَ
لُعَبٍ، فَقَال: مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ؟ قَالَتْ: بَنَاتِي. وَرَأَى
بَيْنَهُنَّ فَرَسًا لَهَا جَنَاحَانِ مِنْ رِقَاعٍ، فَقَال: مَا هَذَا
الَّذِي أَرَى وَسَطَهُنَّ؟ قَالَتْ: فَرَسٌ. قَال: وَمَا هَذَا الَّذِي
عَلَيْهِ؟ قَالَتْ: جَنَاحَانِ. فَقَال: فَرَسٌ لَهُ جَنَاحَانِ؟ قَالَتْ:
أَمَا سَمِعْتَ أَنَّ لِسُلَيْمَانَ خَيْلاً لَهَا أَجْنِحَةٌ؟ قَالَتْ:
فَضَحِكَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى
رَأَيْتُ نَوَاجِذَهُ. (3)
وَقَدْ عَلَّل الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ هَذَا
الاِسْتِثْنَاءَ لِصِنَاعَةِ اللُّعَبِ بِالْحَاجَةِ إِِلَى تَدْرِيبِهِنَّ
عَلَى أَمْرِ تَرْبِيَةِ الأَْوْلاَدِ.
__________
(1) فتح الباري 10 / 395، 527، وحاشية الدسوقي 2 / 338، وأسنى المطالب
وحاشية الرملي 3 / 226، ونهاية المحتاج 6 / 297، وكشاف القناع 1 / 280.
(2) حديث عائشة: " كنت ألعب بالبنات. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 526
ط السلفية)
(3) حديث عائشة: " قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة خيبر. . . "،
أخرجه أبو داود (5 / 227 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وإسناده صحيح.
(12/112)
وَهَذَا التَّعْلِيل يَظْهَرُ فِيمَا لَوْ
كَانَتِ اللُّعَبُ عَلَى هَيْئَةِ إِنْسَانٍ، وَلاَ يَظْهَرُ فِي أَمْرِ
الْفَرَسِ الَّذِي لَهُ جَنَاحَانِ، وَلِذَا عَلَّل الْحَلِيمِيُّ بِذَلِكَ
وَبِغَيْرِهِ، وَهَذَا نَصُّ كَلاَمِهِ، قَال: لِلصَّبَايَا فِي ذَلِكَ
فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهُمَا عَاجِلَةٌ وَالأُْخْرَى آجِلَةٌ. فَأَمَّا
الْعَاجِلَةُ، فَالاِسْتِئْنَاسُ الَّذِي فِي الصِّبْيَانِ مِنْ مَعَادِنِ
النُّشُوءِ وَالنُّمُوِّ. فَإِِنَّ الصَّبِيَّ إِنْ كَانَ أَنْعَمَ حَالاً
وَأَطْيَب نَفْسًا وَأَشْرَحَ صَدْرًا كَانَ أَقْوَى وَأَحْسَن نُمُوًّا،
وَذَلِكَ لأَِنَّ السُّرُورَ يُبْسِطُ الْقَلْبَ، وَفِي انْبِسَاطِهِ
انْبِسَاطُ الرُّوحِ، وَانْتِشَارُهُ فِي الْبَدَنِ، وَقُوَّةُ أَثَرِهِ
فِي الأَْعْضَاءِ وَالْجَوَارِحِ.
وَأَمَّا الآْجِلَةُ فَإِِنَّهُنَّ سَيَعْلَمْنَ مِنْ ذَلِكَ مُعَالَجَةَ
الصِّبْيَانِ وَحُبَّهُمْ وَالشَّفَقَةَ عَلَيْهِمْ، وَيَلْزَمُ ذَلِكَ
طَبَائِعَهُنَّ، حَتَّى إِِذَا كَبَرْنَ وَعَايَنَ لأَِنْفُسِهِنَّ مَا
كُنَّ تَسَرَّيْنَ بِهِ مِنَ الأَْوْلاَدِ كُنَّ لَهُمْ بِالْحَقِّ كَمَا
كُنَّ لِتِلْكَ الأَْشْبَاهِ بِالْبَاطِل. (1)
هَذَا وَقَدْ نَقَل ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ عَنِ الْبَعْضِ دَعْوَى
أَنَّ صِنَاعَةَ اللُّعَبِ مُحَرَّمَةٌ، وَأَنَّ جَوَازَهَا كَانَ
أَوَّلاً، ثُمَّ نُسِخَ بِعُمُومِ النَّهْيِ عَنِ التَّصْوِيرِ. (2)
وَيَرُدُّهُ أَنَّ دَعْوَى النَّسْخِ مُعَارَضَةٌ بِمِثْلِهَا، وَأَنَّهُ
قَدْ يَكُونُ الإِِْذْنُ بِاللُّعَبِ لاَحِقًا.
__________
(1) المنهاج في شعب الإيمان للحليمي، (بيروت، دار الفكر، 1399 هـ. ب 41
الملاعب والملاهي) 3 / 97.
(2) فتح الباري 10 / 395.
(12/113)
عَلَى أَنَّ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا فِي اللُّعَبِ مَا يَدُل عَلَى تَأَخُّرِهِ، فَإِِنَّ
فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَ رُجُوعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ
مُتَأَخِّرًا.
ثَامِنًا: التَّصْوِيرُ لِلْمَصْلَحَةِ كَالتَّعْلِيمِ وَغَيْرِهِ:
39 - لَمْ نَجِدْ أَحَدًا مِنَ الْفُقَهَاءِ تَعَرَّضَ لِشَيْءٍ مِنْ
هَذَا، عَدَا مَا ذَكَرُوهُ فِي لُعَبِ الأَْطْفَال: أَنَّ الْعِلَّةَ فِي
اسْتِثْنَائِهَا مِنَ التَّحْرِيمِ الْعَامِّ هُوَ تَدْرِيبُ الْبَنَاتِ
عَلَى تَرْبِيَةِ الأَْطْفَال كَمَا قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، أَوِ
التَّدْرِيبُ وَاسْتِئْنَاسُ الأَْطْفَال وَزِيَادَةُ فَرَحِهِمْ
لِمَصْلَحَةِ تَحْسِينِ النُّمُوِّ كَمَا قَال الْحَلِيمِيُّ، وَأَنَّ
صِنَاعَةَ الصُّوَرِ أُبِيحَتْ لِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ، مَعَ قِيَامِ
سَبَبِ التَّحْرِيمِ، وَهِيَ كَوْنُهَا تَمَاثِيل لِذَوَاتِ الأَْرْوَاحِ.
وَالتَّصْوِيرُ بِقَصْدِ التَّعْلِيمِ وَالتَّدْرِيبِ نَحْوُهُمَا لاَ
يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: اقْتِنَاءُ الصُّوَرِ وَاسْتِعْمَالُهَا:
40 - يَذْهَبُ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِِلَى أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ مِنْ
تَحْرِيمِ تَصْوِيرِ الصُّورَةِ تَحْرِيمُ اقْتِنَائِهَا أَوْ تَحْرِيمُ
اسْتِعْمَالِهَا، فَإِِنَّ عَمَلِيَّةَ التَّصْوِيرِ لِذَوَاتِ
الأَْرْوَاحِ وَرَدَ فِيهَا النُّصُوصُ الْمُشَدَّدَةُ السَّابِقُ
ذِكْرُهَا، وَفِيهَا لَعْنُ الْمُصَوِّرِ، وَأَنَّهُ يُعَذَّبُ فِي
النَّارِ، وَأَنَّهُ أَشَدُّ النَّاسِ أَوْ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ
عَذَابًا. وَلَمْ يَرِدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي اقْتِنَاءِ الصُّوَرِ،
وَلَمْ تَتَحَقَّقْ فِي مُسْتَعْمِلِهَا عِلَّةُ تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ
مِنَ الْمُضَاهَاةِ
(12/113)
لِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ وَرَدَ مَا يَدُل عَلَى مَنْعِ اقْتِنَاءِ الصُّورَةِ
أَوِ اسْتِعْمَالِهَا، إِلاَّ أَنَّ الأَْحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ
لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ عَذَابٍ أَوْ أَيِّ قَرِينَةٍ تَدُل عَلَى أَنَّ
اقْتِنَاءَهَا مِنَ الْكَبَائِرِ. وَبِهَذَا يَكُونُ حُكْمُ مُقْتَنِي
الصُّورَةِ الَّتِي يَحْرُمُ اقْتِنَاؤُهَا: أَنَّهُ قَدْ فَعَل صَغِيرَةً
مِنَ الصَّغَائِرِ، إِلاَّ عَلَى الْقَوْل بِأَنَّ الإِِْصْرَارَ عَلَى
الصَّغِيرَةِ كَبِيرَةٌ، فَيَكُونُ كَبِيرَةً إِنْ تَحَقَّقَ الإِِْصْرَارُ
لاَ إِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ، أَوْ لَمْ نَقُل بِأَنَّ الإِِْصْرَارَ عَلَى
الصَّغِيرَةِ مِنَ الْكَبَائِرِ.
وَقَدْ نَبَّهَ إِِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ التَّصْوِيرِ وَبَيْنَ اقْتِنَاءِ
الصُّوَرِ فِي الْحُكْمِ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ لِحَدِيثِ الصُّوَرِ
فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَنَبَّهَ إِلَيْهِ الشَّبْرَامُلُّسِي مِنَ
الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا، وَعَلَيْهِ يَجْرِي كَلاَمُ أَكْثَرِ
الْفُقَهَاءِ. (1)
وَالأَْحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى مَنْعِ اقْتِنَاءِ الصُّوَرِ مِنْهَا:
(1) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَتَكَ السِّتْرَ
الَّذِي فِيهِ الصُّورَةُ وَفِي رِوَايَةٍ قَال لِعَائِشَةَ: " أَخِّرِيهِ
عَنِّي ". (2) وَتَقَدَّمَ.
(2) وَمِنْهَا أَنَّهُ قَال: إِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ الصُّوَرُ لاَ
تَدْخُلُهُ الْمَلاَئِكَةُ. (3)
__________
(1) شرح صحيح مسلم للنووي 11 / 80، وحاشية الشبراملسي على شرح المنهاج
للنووي 3 / 289.
(2) سبق تخريج الحديث بهذا المعنى ف / 26.
(3) الحديث تقدم تخريجه ف / 26.
(12/114)
(3) وَمِنْهَا حَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَرْسَلَهُ إِِلَى الْمَدِينَةِ وَقَال: لاَ تَدَعْ صُورَةً
إِلاَّ طَمَسْتهَا وَفِي رِوَايَةٍ: إِلاَّ لَطَّخْتَهَا وَلاَ قَبْرًا
مُشْرِفًا إِلاَّ سَوَّيْتَهُ وَفِي رِوَايَةٍ: وَلاَ صَنَمًا إِلاَّ
كَسَرْتَهُ. (1)
41 - وَفِي مُقَابِل ذَلِكَ نُقِل اسْتِعْمَال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لأَِنْوَاعٍ مِنَ
الصُّوَرِ لِذَوَاتِ الرُّوحِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الرِّوَايَاتِ
الْمُبَيِّنَةِ لِذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ (ف 31) وَنَزِيدُ هُنَا مَا
رُوِيَ أَنَّ خَاتَمَ دَانْيَال النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ
عَلَيْهِ أَسَدٌ وَلَبُؤَةٌ وَبَيْنَهُمَا صَبِيٌّ يَلْمِسَانِهِ. وَذَلِكَ
أَنَّ بُخْتَ نَصَّرَ قِيل لَهُ: يُولَدُ مَوْلُودٌ يَكُونُ هَلاَكُكَ
عَلَى يَدِهِ، فَجَعَل يَقْتُل كُل مَوْلُودٍ يُولَدُ. فَلَمَّا وَلَدَتْ
أُمُّ دَانْيَال أَلْقَتْهُ فِي غَيْضَةٍ رَجَاءَ أَنْ يَسْلَمَ. فَقَيَّضَ
اللَّهُ لَهُ أَسَدًا يَحْفَظُهُ وَلَبُؤَةً تُرْضِعُهُ. فَنَقَشَهُ عَلَى
خَاتَمِهِ لِيَكُونَ بِمَرْأًى مِنْهُ لِيَتَذَكَّرَ نِعْمَةَ اللَّهِ.
وَوُجِدَتْ جُثَّةُ دَانْيَال وَالْخَاتَمُ فِي عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ فَدَفَعَ الْخَاتَمَ إِِلَى أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ
(2) . فَهَذَا فِعْل صَحَابِيَّيْنِ.
وَسَيَأْتِي بَيَانُ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ فِيمَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ
مِنَ الصُّوَرِ وَمَا لاَ يَجُوزُ، وَتَوْفِيقُهُمْ بَيْنَ هَذِهِ
الأَْحَادِيثِ الْمُتَعَارِضَةِ.
__________
(1) الحديث تقدم تخريجه بهذا المعنى ف / 24.
(2) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 238، وتاريخ ابن كثير 7 / 88، واقتضاء
الصراط المستقيم (ط 1369 هـ) ص 339.
(12/114)
الْبَيْتُ الَّذِي فِيهِ الصُّوَرُ لاَ
تَدْخُلُهُ الْمَلاَئِكَةُ:
42 - ثَبَتَ هَذَا بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ رِوَايَةِ
عَائِشَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ. وَفِي غَيْرِ الصَّحِيحَيْنِ
مِنْ رِوَايَةِ عَلِيٍّ وَمَيْمُونَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي طَلْحَةَ
وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ وَغَيْرِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
قَال النَّوَوِيُّ: قَال الْعُلَمَاءُ: سَبَبُ امْتِنَاعِهِمْ مِنْ دُخُول
بَيْتٍ فِيهِ صُورَةٌ كَوْنُهَا مَعْصِيَةً فَاحِشَةً، وَفِيهَا مُضَاهَاةٌ
لِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَبَعْضُهَا فِي صُورَةِ مَا يُعْبَدُ مِنْ
دُونِ اللَّهِ، فَعُوقِبَ مُتَّخِذُهَا بِحِرْمَانِهِ دُخُول
الْمَلاَئِكَةِ بَيْتَهُ، وَصَلاَتَهَا فِيهِ، وَاسْتِغْفَارَهَا لَهُ،
وَتَبْرِيكَهَا عَلَيْهِ وَفِي بَيْتِهِ، وَدَفْعَهَا أَذَى الشَّيْطَانِ.
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ كَمَا فِي الْفَتْحِ: إِنَّمَا لَمْ تَدْخُل لأَِنَّ
مُتَّخِذَ الصُّوَرِ قَدْ تَشَبَّهَ بِالْكُفَّارِ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ
الصُّوَرَ فِي بُيُوتِهِمْ وَيُعَظِّمُونَهَا، فَكَرِهَتِ الْمَلاَئِكَةُ
ذَلِكَ. قَال النَّوَوِيُّ: وَهَؤُلاَءِ الْمَلاَئِكَةُ الَّذِينَ لاَ
يَدْخُلُونَ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ هُمْ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ. وَأَمَّا
الْحَفَظَةُ فَيَدْخُلُونَ كُل بَيْتٍ، وَلاَ يُفَارِقُونَ بَنِي آدَمَ فِي
حَالٍ؛ لأَِنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِإِِحْصَاءِ أَعْمَالِهِمْ
وَكِتَابَتِهَا. ثُمَّ قَال النَّوَوِيُّ: وَهُوَ عَامٌّ فِي كُل صُورَةٍ
حَتَّى مَا يُمْتَهَنُ. وَنَقَل الطَّحْطَاوِيُّ عَنْهُ: أَنَّهَا
تَمْتَنِعُ مِنَ الدُّخُول حَتَّى مِنَ الصُّوَرِ الَّتِي عَلَى
الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ.
(12/115)
وَفِي قَوْل النَّوَوِيِّ هَذَا
مُبَالَغَةٌ وَتَشَدُّدٌ ظَاهِرٌ، فَإِِنَّ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّهَا هَتَكَتِ السِّتْرَ وَجَعَلَتْ مِنْهُ
وِسَادَتَيْنِ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَتَّكِئُ عَلَيْهِمَا وَفِيهِمَا الصُّوَرُ. وَكَانَ لاَ يَتَحَرَّجُ مِنْ
إِبْقَاءِ الدَّنَانِيرِ أَوِ الدَّرَاهِمِ فِي بَيْتِهِ وَفِيهَا
الصُّوَرُ. وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يَمْنَعُ دُخُول الْمَلاَئِكَةِ بَيْتَهُ
مَا أَبْقَاهَا فِيهِ. وَلِذَا قَال ابْنُ حَجَرٍ: يَتَرَجَّحُ قَوْل مَنْ
قَال: إِنَّ الصُّورَةَ الَّتِي تَمْتَنِعُ الْمَلاَئِكَةُ مِنْ دُخُول
الْمَكَانِ الَّذِي تَكُونُ فِيهِ هِيَ الَّتِي تَكُونُ عَلَى هَيْئَتِهَا
مُرْتَفِعَةً غَيْرَ مُمْتَهَنَةٍ، فَأَمَّا لَوْ كَانَتْ مُمْتَهَنَةً،
أَوْ غَيْرَ مُمْتَهَنَةٍ لَكِنَّهَا غُيِّرَتْ هَيْئَتُهَا بِقَطْعِهَا
مِنْ نِصْفِهَا أَوْ بِقَطْعِ رَأْسِهَا، فَلاَ امْتِنَاعَ. (1)
وَفِي كَلاَمِ ابْنِ عَابِدِينَ مَا يَدُل عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ مَذْهَبِ
الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ كُل صُورَةٍ لاَ يُكْرَهُ إِبْقَاؤُهَا فِي
الْبَيْتِ، لاَ تَمْنَعُ دُخُول الْمَلاَئِكَةِ، سَوَاءٌ الصُّوَرُ
الْمَقْطُوعَةُ أَوِ الصُّوَرُ الصَّغِيرَةُ أَوِ الصُّوَرُ الْمُهَانَةُ،
أَوِ الْمُغَطَّاةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلأَِنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ
الأَْنْوَاعِ تَشَبُّهٌ بِعُبَّادِهَا؛ لأَِنَّهُمْ لاَ يَعْبُدُونَ
الصُّوَرَ الصَّغِيرَةَ أَوِ الْمُهَانَةَ، بَل يَنْصِبُونَهَا صُورَةً
كَبِيرَةً، وَيَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهَا. (2)
وَقَال ابْنُ حِبَّانَ: إِنَّ عَدَمَ دُخُول الْمَلاَئِكَةِ بَيْتًا فِيهِ
صُوَرٌ خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَال:
وَهُوَ نَظِيرُ
__________
(1) شرح النووي لصحيح مسلم 11 / 84، وفتح الباري 10 / 391، 392.
(2) ابن عابدين 1 / 437.
(12/115)
الْحَدِيثِ الآْخَرِ: لاَ تَصْحَبُ
الْمَلاَئِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا جَرَسٌ (1) إِذْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى
رُفْقَةٍ فِيهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ
مُحَالٌ أَنْ يَخْرُجَ الْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ لِقَصْدِ الْبَيْتِ عَلَى
رَوَاحِل لاَ تَصْحَبُهَا الْمَلاَئِكَةُ وَهُمْ وَفْدُ اللَّهِ. وَمَآل
هَذَا الْقَوْل أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَلاَئِكَةِ مَلاَئِكَةُ الْوَحْيِ،
وَهُوَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ.
وَنَقَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ عَنَ الدَّاوُدِيِّ وَابْنِ وَضَّاحٍ، وَمَآلُهُ
إِِلَى اخْتِصَاصِ النَّهْيِ بِعَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَبِالْمَكَانِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ، وَأَنَّ الْكَرَاهَةَ
انْتَهَتْ بِوَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِنَّ
الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ. (2)
اقْتِنَاءُ وَاسْتِعْمَال صُوَرِ الْمَصْنُوعَاتِ الْبَشَرِيَّةِ
وَالْجَوَامِدِ وَالنَّبَاتَاتِ:
43 - يَجُوزُ اقْتِنَاءُ وَاسْتِعْمَال صُوَرِ الْمَصْنُوعَاتِ
الْبَشَرِيَّةِ وَالْجَوَامِدِ وَالنَّبَاتَاتِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ
مَنْصُوبَةً أَوْ مُعَلَّقَةً أَوْ مَوْضُوعَةً مُمْتَهَنَةً، وَكَذَلِكَ
لَوْ كَانَتْ مَنْقُوشَةً فِي الْحَوَائِطِ أَوِ السُّقُوفِ أَوِ
الأَْرْضِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ مُسَطَّحَةً كَمَا هُوَ مَعْهُودٌ، أَوْ
مُجَسَّمَةً كَالزُّهُورِ وَالنَّبَاتَاتِ الاِصْطِنَاعِيَّةِ، وَنَمَاذِجِ
السُّفُنِ وَالطَّائِرَاتِ وَالسَّيَّارَاتِ وَالْمَنَازِل وَالْجِبَال
وَغَيْرِهَا، وَمُجَسَّمَاتِ تَمَاثِيل الْقُبَّةِ السَّمَاوِيَّةِ بِمَا
فِيهَا مِنَ الْكَوَاكِبِ وَالنُّجُومِ وَالْقَمَرَيْنِ. وَسَوَاءٌ
اسْتُعْمِل
__________
(1) حديث: " لا تصحب الملائكة رفقة فيها جرس ". أخرجه مسلم (3 / 1672 ط
الحلبي) .
(2) فتح الباري 10 / 382.
(12/116)
ذَلِكَ لِحَاجَةٍ وَنَفْعٍ، أَوْ
لِمُجَرَّدِ الزِّينَةِ وَالتَّجْمِيل: فَكُل ذَلِكَ لاَ حَرَجَ فِيهِ
شَرْعًا، إِلاَّ أَنْ يَحْرُمَ لِعَارِضٍ، كَمَا لَوْ كَانَ خَارِجًا عَنِ
الْمُعْتَادِ إِِلَى حَدِّ الإِِْسْرَافِ، عَلَى الأَْصْل فِي سَائِرِ
الْمُقْتَنَيَاتِ.
اقْتِنَاءُ وَاسْتِعْمَال صُوَرِ الإِِْنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ:
44 - يُجْمِعُ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ اسْتِعْمَال نَوْعٍ مِنَ
الصُّوَرِ، وَهُوَ مَا كَانَ صَنَمًا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ
تَعَالَى. وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ فَإِِنَّهُ لاَ يَخْلُو شَيْءٌ مِنْهُ
مِنْ خِلاَفٍ. إِلاَّ أَنَّ الَّذِي تَكَادُ تَتَّفِقُ كَلِمَةُ
الْفُقَهَاءِ عَلَى مَنْعِهِ: هُوَ مَا جَمَعَ الأُْمُورَ التَّالِيَةَ:
أ - أَنْ يَكُونَ صُورَةً لِذِي رُوحٍ إِنْ كَانَتِ الصُّورَةُ
مُجَسَّمَةً.
ب - أَنْ تَكُونَ كَامِلَةَ الأَْعْضَاءِ، غَيْرَ مَقْطُوعَةِ عُضْوٍ مِنَ
الأَْعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي لاَ تَبْقَى الْحَيَاةُ مَعَ فَقْدِهَا.
ج - أَنْ تَكُونَ مَنْصُوبَةً أَوْ مُعَلَّقَةً فِي مَكَانِ تَكْرِيمٍ، لاَ
إِنْ كَانَتْ مُمْتَهَنَةً.
د - أَنْ لاَ تَكُونَ صَغِيرَةً.
هـ - أَنْ لاَ تَكُونَ مِنْ لُعَبِ الأَْطْفَال أَوْ نَحْوِهَا. و - أَنْ
لاَ تَكُونَ مِمَّا يَسْرُعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ. وَقَدْ خَالَفَ فِيمَا
جَمَعَ هَذِهِ الشُّرُوطَ قَوْمٌ لَمْ يُسَمَّوْا، كَمَا تَقَدَّمَ
نَقْلُهُ إِلاَّ أَنَّهُ خِلاَفٌ ضَعِيفٌ. وَنَحْنُ نُبَيِّنُ حُكْمَ كُل
نَوْعٍ مِمَّا خَرَجَ عَنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ.
(12/116)
أ - اسْتِعْمَال وَاقْتِنَاءُ الصُّوَرِ
الْمُسَطَّحَةِ:
45 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ أَنَّ اسْتِعْمَال
الصُّوَرِ الْمُسَطَّحَةِ لَيْسَ مُحَرَّمًا، بَل هُوَ مَكْرُوهٌ إِنْ
كَانَتْ مَنْصُوبَةً، فَإِِنْ كَانَتْ مُمْتَهَنَةً فَاسْتِعْمَالُهَا
خِلاَفُ الأَْوْلَى. (1)
أَمَّا عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ: فَالصُّوَرُ الْمُسَطَّحَةُ
وَالْمُجَسَّمَةُ سَوَاءٌ فِي التَّحْرِيمِ مِنْ حَيْثُ الاِسْتِعْمَال،
إِِذَا تَمَّتِ الشُّرُوطُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
ب - اسْتِعْمَال وَاقْتِنَاءُ الصُّوَرِ الْمَقْطُوعَةِ:
46 - إِِذَا كَانَتِ الصُّورَةُ - مُجَسَّمَةً كَانَتْ أَوْ مُسَطَّحَةً -
مَقْطُوعَةَ عُضْوٍ لاَ تَبْقَى الْحَيَاةُ مَعَهُ، فَإِِنَّ اسْتِعْمَال
الصُّورَةِ حِينَئِذٍ جَائِزٌ، وَهَذَا قَوْل جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَقَدْ وَافَقَ عَلَى الإِِْبَاحَةِ هُنَا بَعْضُ مَنْ خَالَفَ، فَرَأَى
تَحْرِيمَ التَّصْوِيرِ وَلَكِنْ لَمْ يَرِدْ تَحْرِيمُ الاِقْتِنَاءِ،
كَالشَّافِعِيَّةِ. وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الصُّورَةُ قَدْ صُنِعَتْ
مَقْطُوعَةً مِنَ الأَْصْل، أَوْ صُوِّرَتْ كَامِلَةً ثُمَّ قُطِعَ مِنْهَا
شَيْءٌ لاَ تَبْقَى الْحَيَاةُ مَعَهُ. وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ مَنْصُوبَةً
أَوْ غَيْرَ مَنْصُوبَةٍ كَمَا يَأْتِي فِي الْمَسْأَلَةِ التَّالِيَةِ.
47 - وَالْحُجَّةُ لِذَلِكَ مَا مَرَّ أَنَّ جِبْرِيل قَال لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْ بِرَأْسِ التِّمْثَال فَلْيَقْطَعْ
حَتَّى يَكُونَ كَهَيْئَةِ الشَّجَرَةِ (2) وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَال:
إِنَّ فِي الْبَيْتِ
__________
(&# x661 ;) الدسوقي 2 /
338، وشرح منح الجليل 2 / 167.
(2) تقدم تخريجه ف / 16.
(12/117)
سِتْرًا، وَفِي الْحَائِطِ تَمَاثِيل،
فَاقْطَعُوا رُءُوسَهَا فَاجْعَلُوهَا بِسَاطًا أَوْ وَسَائِدَ
فَأَوْطِئُوهُ، فَإِِنَّا لاَ نَدْخُل بَيْتًا فِيهِ تَمَاثِيل (1)
وَلاَ يَكْفِي أَنْ تَكُونَ قَدْ أُزِيل مِنْهَا الْعَيْنَانِ أَوِ
الْحَاجِبَانِ أَوِ الأَْيْدِي أَوِ الأَْرْجُل، بَل لاَ بُدَّ أَنْ
يَكُونَ الْعُضْوُ الزَّائِل مِمَّا لاَ تَبْقَى الْحَيَاةُ مَعَهُ،
كَقَطْعِ الرَّأْسِ أَوْ مَحْوِ الْوَجْهِ، أَوْ خَرْقِ الصَّدْرِ أَوِ
الْبَطْنِ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْقَطْعُ بِخَيْطٍ
خُيِّطَ عَلَى جَمِيعِ الرَّأْسِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُ أَثَرٌ، أَوْ
بِطَلْيِهِ بِمُغْرَةٍ، أَوْ بِنَحْتِهِ، أَوْ بِغَسْلِهِ. وَأَمَّا قَطْعُ
الرَّأْسِ عَنِ الْجَسَدِ بِخَيْطٍ مَعَ بَقَاءِ الرَّأْسِ عَلَى حَالِهِ
فَلاَ يَنْفِي الْكَرَاهَةَ؛ لأَِنَّ مِنَ الطُّيُورِ مَا هُوَ مُطَوَّقٌ
فَلاَ يَتَحَقَّقُ الْقَطْعُ بِذَلِكَ.
وَقَال صَاحِبُ شَرْحِ الإِِْقْنَاعِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ قُطِعَ
مِنَ الصُّورَةِ رَأْسُهَا فَلاَ كَرَاهَةَ، أَوْ قُطِعَ مِنْهَا مَا لاَ
تَبْقَى الْحَيَاةُ بَعْدَ ذَهَابِهِ فَهُوَ كَقَطْعِ الرَّأْسِ
كَصَدْرِهَا أَوْ بَطْنِهَا، أَوْ جَعَل لَهَا رَأْسًا مُنْفَصِلاً عَنْ
بَدَنِهَا لأَِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَدْخُل فِي النَّهْيِ.
وَقَال صَاحِبُ مِنَحِ الْجَلِيل مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ مَا يَحْرُمُ
مَا يَكُونُ كَامِل الأَْعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي لاَ يَعِيشُ
بِدُونِهَا وَلَهَا ظِلٌّ.
__________
(1) حديث: " إن في البيت سترا وفي الحائط تماثيل. . . " أخررجه - أحمد (2 /
308 ط الميمنية) من حديث أبي هريرة، وأخرجه الترمذي (2806 ط الحلبي) بألفاظ
متقاربة. وقال: حسن صحيح.
(12/117)
غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ اخْتَلَفُوا
فِيمَا لَوْ كَانَ الْبَاقِي الرَّأْسَ، عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَحْرُمُ وَهُوَ الرَّاجِحُ، وَالآْخَرُ: لاَ يَحْرُمُ.
وَقَطْعُ أَيِّ جُزْءٍ لاَ تَبْقَى الْحَيَاةُ مَعَهُ يُبِيحُ الْبَاقِيَ،
كَمَا لَوْ قُطِعَ الرَّأْسُ وَبَقِيَ مَا عَدَاهُ. (1)
جَاءَ فِي أَسْنَى الْمَطَالِبِ وَحَاشِيَتِهِ: وَكَذَا إِنْ قُطِعَ
رَأْسُهَا، قَال: الكوهكيوني: وَكَذَا حُكْمُ مَا صُوِّرَ بِلاَ رَأْسٍ،
وَأَمَّا الرُّءُوسُ بِلاَ أَبْدَانٍ فَهَل تَحْرُمُ؟ فِيهِ تَرَدُّدٌ.
وَالْحُرْمَةُ أَرْجَحُ. قَال الرَّمْلِيُّ: وَهُوَ وَجْهَانِ فِي
الْحَاوِي، وَبَنَاهُمَا عَلَى أَنَّهُ هَل يَجُوزُ تَصْوِيرُ حَيَوَانٍ
لاَ نَظِيرَ لَهُ: إِنْ جَوَّزْنَاهُ جَازَ ذَلِكَ وَإِِلاَّ فَلاَ، وَهُوَ
الصَّحِيحُ.
وَفِي حَاشِيَةِ الشِّرْوَانِيِّ وَابْنِ قَاسِمٍ: إِنَّ فَقْدَ النِّصْفِ
الأَْسْفَل كَفَقْدِ الرَّأْسِ.
48 - وَيَكْفِي لِلإِِْبَاحَةِ أَنْ تَكُونَ الصُّورَةُ قَدْ خُرِقَ
صَدْرُهَا أَوْ بَطْنُهَا، بِذَلِكَ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ. قَال ابْنُ
عَابِدِينَ: هَل مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ كَانَتْ مَثْقُوبَةَ الْبَطْنِ
مَثَلاً: الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الثَّقْبُ كَبِيرًا يَظْهَرُ بِهِ
نَقْصُهَا فَنَعَمْ، وَإِِلاَّ فَلاَ، كَمَا لَوْ كَانَ الثَّقْبُ لِوَضْعِ
عَصًا تُمْسَكُ بِهَا، كَمِثْل صُوَرِ خَيَال الظِّل الَّتِي يُلْعَبُ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 436، 437، وشرح منح الجليل 2 / 166، وأسنى المطالب
وحاشيته 3 / 226، وتحفة المحتاج 7 / 434، وكشاف القناع 5 / 171، والفروع 1
/ 353.
(12/118)
بِهَا؛ لأَِنَّهَا تَبْقَى مَعَهُ صُورَةً
تَامَّةً، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ فِي صُوَرِ الْخَيَال خَالَفَهُ فِيهِ
بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، فَرَأَوْا أَنَّ الْخَرْقَ الَّذِي يَكُونُ فِي
وَسَطِهَا كَافٍ فِي إِزَالَةِ الْكَرَاهَةِ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ
الشَّيْخُ إِبْرَاهِيمُ الْبَاجُورِيُّ (1) ، وَيَأْتِي النَّقْل عَنْهُ
فِي بَحْثِ النَّظَرِ إِِلَى الصُّوَرِ
ج - اسْتِعْمَال وَاقْتِنَاءُ الصُّوَرِ الْمَنْصُوبَةِ وَالصُّوَرِ
الْمُمْتَهَنَةِ:
49 - يَرَى الْجُمْهُورُ أَنَّ الصُّوَرَ لِذَوَاتِ الأَْرْوَاحِ -
مُجَسَّمَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مُجَسَّمَةٍ - يَحْرُمُ اقْتِنَاؤُهَا
عَلَى هَيْئَةٍ تَكُونُ فِيهَا مُعَلَّقَةً أَوْ مَنْصُوبَةً، وَهَذَا فِي
الصُّوَرِ الْكَامِلَةِ الَّتِي لَمْ يُقْطَعْ فِيهَا عُضْوٌ لاَ تَبْقَى
الْحَيَاةُ مَعَهُ، فَإِِنْ قُطِعَ مِنْهَا عُضْوٌ - عَلَى التَّفْصِيل
الْمُتَقَدِّمِ فِي الْفِقْرَةِ السَّابِقَةِ - جَازَ نَصْبُهَا
وَتَعْلِيقُهَا، وَإِِنْ كَانَتْ مُسَطَّحَةً جَازَ تَعْلِيقُهَا مَعَ
الْكَرَاهَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَنُقِل عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ إِجَازَةُ تَعْلِيقِ الصُّوَرِ
الَّتِي فِي الثِّيَابِ، وَهُوَ رَاوِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي لَعْنِ
الْمُصَوِّرِينَ، وَكَانَ مِنْ خَيْرِ أَهْل الْمَدِينَةِ فِقْهًا
وَوَرَعًا.
وَأَمَّا إِِذَا اقْتُنِيَتِ الصُّورَةُ - وَهِيَ مُمْتَهَنَةٌ - فَلاَ
__________
(1) تحفة المحتاج وحواشيه 7 / 433 - 435، والمغني 7 / 8، وابن عابدين 1 /
436، وحاشية الباجوري على ابن قاسم 2 / 131.
(12/118)
بَأْسَ بِذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ،
كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي الأَْرْضِ أَوْ فِي بِسَاطٍ مَفْرُوشٍ أَوْ فِرَاشٍ
أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَقَدْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى
أَنَّهَا غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ أَيْضًا، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ
قَالُوا: إِنَّهَا حِينَئِذٍ خِلاَفُ الأَْوْلَى.
وَوَجَّهُوا التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْمَنْصُوبِ وَالْمُمْتَهَنِ: بِأَنَّهَا
إِِذَا كَانَتْ مَرْفُوعَةً تَكُونُ مُعَظَّمَةً وَتُشْبِهُ الأَْصْنَامَ.
أَمَّا الَّذِي فِي الأَْرْضِ وَنَحْوِهِ فَلاَ يُشْبِهُهَا؛ لأَِنَّ أَهْل
الأَْصْنَامِ يَنْصِبُونَهَا وَيَعْبُدُونَهَا وَلاَ يَتْرُكُونَهَا
مُهَانَةً.
وَقَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَقَاءُ الصُّورَةِ الْمَقْطُوعَةِ
مَنْصُوبَةً، إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مَا يَدُل عَلَى
جَوَازِهَا، وَهُوَ مَا نَقَلْنَاهُ سَابِقًا مِنْ أَنَّ جِبْرِيل عَلَيْهِ
السَّلَامُ قَال لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْ
بِرَأْسِ التِّمْثَال فَلْيُقْطَعْ حَتَّى يَكُونَ كَهَيْئَةِ الشَّجَرَةِ
وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: فَإِِنْ كُنْتَ لاَ بُدَّ فَاعِلاً
فَاقْطَعْ رُءُوسَهَا أَوِ اقْطَعْهَا وَسَائِدَ أَوِ اجْعَلْهَا بُسُطًا
فَإِِنَّهَا تَدُل عَلَى جَوَازِ بَقَائِهَا بَعْدَ الْقَطْعِ مَنْصُوبَةً.
وَمِنَ الدَّلِيل عَلَى بَقَاءِ الصُّورَةِ الْمُمْتَهَنَةِ فِي الْبَيْتِ
الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:
أَنَّهَا قَطَعَتِ السِّتْرَ وَجَعَلَتْهُ وِسَادَتَيْنِ، وَكَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَّكِئُ عَلَيْهِمَا
وَفِيهِمَا الصُّوَرُ.
وَقَدْ وَرَدَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَال: كَانُوا يَكْرَهُونَ مَا نُصِبَ مِنَ
التَّمَاثِيل وَلاَ يَرَوْنَ بَأْسًا بِمَا وَطِئَتْهُ الأَْقْدَامُ.
وَكَانَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ يَتَّكِئُ عَلَى
(12/119)
مِخَدَّةٍ فِيهَا تَصَاوِيرُ. (1)
وَلِذَا قَال ابْنُ حَجَرٍ بَعْدَ ذِكْرِ قَطْعِ رَأْسِ التِّمْثَال: فِي
هَذَا الْحَدِيثِ تَرْجِيحُ قَوْل مَنْ ذَهَبَ إِِلَى أَنَّ الصُّورَةَ
الَّتِي تَمْتَنِعُ الْمَلاَئِكَةُ مِنْ دُخُول الْبَيْتِ الَّذِي هِيَ
فِيهِ: مَا تَكُونُ فِيهِ مَنْصُوبَةً بَاقِيَةً عَلَى هَيْئَتِهَا. أَمَّا
لَوْ كَانَتْ مُمْتَهَنَةً، أَوْ كَانَتْ غَيْرَ مُمْتَهَنَةٍ لَكِنَّهَا
غُيِّرَتْ هَيْئَتُهَا إِمَّا بِقَطْعِ رَأْسِهَا أَوْ بِقَطْعِهَا مِنْ
نِصْفِهَا فَلاَ امْتِنَاعَ. (2)
50 - وَالنَّصْبُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ قَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: أَيُّ
نَصْبٍ كَانَ. حَتَّى إِنَّ اسْتِعْمَال إِبْرِيقٍ فِيهِ صُوَرٌ تَرَدَّدَ
فِيهِ صَاحِبُ الْمُهِمَّاتِ، وَمَال إِِلَى الْمَنْعِ، أَيْ لأَِنَّهُ
يَكُونُ مَنْصُوبًا. وَقَالُوا فِي الْوِسَادِ: إِنِ اسْتُعْمِلَتْ
مَنْصُوبَةً حَرُمَ، وَإِِنِ اسْتُعْمِلَتْ غَيْرَ مَنْصُوبَةٍ جَازَ.
وَذَهَبَ بَعْضٌ آخَرُ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِِلَى أَنَّ النَّصْبَ
الْمَنْهِيَّ عَنْهُ خَاصَّةً مَا يَظْهَرُ فِيهِ التَّعْظِيمُ، فَقَدْ
قَال الْجُوَيْنِيُّ: إِنَّ مَا عَلَى السُّتُورِ وَالثِّيَابِ مِنَ
الصُّوَرِ لاَ يَحْرُمُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ امْتِهَانٌ لَهُ. وَهَذَا
يُوَافِقُ مَا تَقَدَّمَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ.
__________
(1) شرح منية المصلي ص 359، وشرح المنهاج 3 / 298، والمغني 77، وفتح الباري
10 / 388، 393، والخرشي 3 / 303، والإنصاف 8 / 336، 1 / 474، وكشاف القناع
5 / 171، 1 / 279، وابن عابدين 1 / 436، والآداب الشرعية 3 / 513.
(2) فتح الباري 10 / 392.
(12/119)
وَقَال الرَّافِعِيُّ: إِنَّ نَصْبَ
الصُّوَرِ فِي حَمَّامٍ أَوْ مَمَرٍّ لاَ يَحْرُمُ، بِخِلاَفِ مَا كَانَ
مَنْصُوبًا فِي الْمَجَالِسِ وَأَمَاكِنِ التَّكْرِيمِ. أَيْ لأَِنَّهَا
فِي الْمَمَرِّ وَالْحَمَّامِ مُهَانَةٌ، وَفِي الْمَجَالِسِ مُكَرَّمَةٌ.
وَظَاهِرُ كَلاَمِ صَاحِبِ الْمُغْنِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ نَصْبَ
الصُّوَرِ فِي الْحَمَّامِ وَنَحْوِهِ مُحَرَّمٌ.
هَذَا، وَمِمَّا نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الصُّوَرِ
الْمُهَانَةِ: مَا كَانَ فِي نَحْوِ قَصْعَةٍ وَخِوَانٍ وَطَبَقٍ. (1)
وَيُلْتَحَقُ بِالْمُمْتَهَنَةِ - عِنْدَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ -
الصُّوَرُ الَّتِي عَلَى النُّقُودِ. قَال الرَّمْلِيُّ: وَعِنْدِي أَنَّ
الدَّنَانِيرَ الرُّومِيَّةَ الَّتِي عَلَيْهَا الصُّوَرُ مِنَ الْقِسْمِ
الَّذِي لاَ يُنْكَرُ، لاِمْتِهَانِهَا بِالإِِْنْفَاقِ وَالْمُعَامَلَةِ،
وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَتَعَامَلُونَ بِهَا مِنْ
غَيْرِ نَكِيرٍ، وَلَمْ تَحْدُثِ الدَّرَاهِمُ الإِِْسْلاَمِيَّةُ إِلاَّ
فِي عَهْدِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَقَال
مِثْلَهُ الزَّرْكَشِيُّ (2) .
__________
(1) فتح الباري 10 / 388، 399، وشرح المنهاج وحاشية القليوبي 3 / 297،
ونهاية المحتاج 6 / 369، وتحفة المحتاج بحاشية الشرواني 7 / 432، وأسنى
المطالب 3 / 226، والمغني 7 / 10. فينبغي أن يكون ذلك حكم ما في سائر
الأدوات التي للتداول مما لا ينصب كالملعقة والسكين والمضرب، وما يكون في
مفارش الموائد والكراسي، والصور التي في الآلات والأجهزة الصناعية العاملة
والمعدة للاستعمال، كالصور التي في الصحف المعدة للتداول.
(2) الرملي على أسنى المطالب 3 / 226، ونهاية المحتاج 6 / 369.
(12/120)
51 - هَذَا بَيَانُ حُكْمِ مَا ظَهَرَ
فِيهِ التَّعْظِيمُ، أَوْ ظَهَرَتْ فِيهِ الإِِْهَانَةُ. أَمَّا مَا لَمْ
يَظْهَرْ فِيهِ أَيٌّ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ، وَذَلِكَ فِي مِثْل الصُّورَةِ
الْمَطْبُوعَةِ فِي كِتَابٍ، أَوِ الْمَوْضُوعَةِ فِي دُرْجٍ أَوْ
خِزَانَةٍ أَوْ عَلَى مِنْضَدَةٍ، مِنْ غَيْرِ نَصْبٍ. فَفِي كَلاَمِ
الْقَلْيُوبِيِّ نَقْلاً عَنِ ابْنِ حَجَرٍ وَغَيْرِهِ: يَجُوزُ لُبْسُ مَا
عَلَيْهِ صُورَةُ الْحَيَوَانِ وَدَوْسُهُ وَوَضْعُهُ فِي صُنْدُوقٍ أَوْ
مُغَطًّى (1) .
وَفِي مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ مَا يَدُل عَلَى قَصْرِ التَّحْرِيمِ عَلَى
الْمَنْصُوبِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَصُورَةُ ذَاتِ رُوحٍ إِنْ كَانَتْ
مَنْصُوبَةً (2) وَرَوَى ابْنُ شَيْبَةَ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ
أَنَّهُ قَال: لاَ بَأْسَ فِي حِلْيَةِ السَّيْفِ وَلاَ بَأْسَ بِهَا (أَيْ
بِالتَّمَاثِيل) فِي سَمَاءِ الْبَيْتِ (أَيِ السَّقْفِ) ، وَإِِنَّمَا
يُكْرَهُ مِنْهَا مَا نُصِبَ نَصْبًا (3) .
وَأَصْل ذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَفِي مُسْنَدِ الإِِْمَامِ أَحْمَدَ عَنْ لَيْثِ
بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ أَنَّهُ قَال: دَخَلْتُ عَلَى سَالِمٍ وَهُوَ
مُتَّكِئٌ عَلَى وِسَادَةٍ فِيهَا تَمَاثِيل طَيْرٍ وَوَحْشٍ، فَقُلْتُ:
أَلَيْسَ يُكْرَهُ هَذَا؟ قَال: لاَ، إِنَّمَا يُكْرَهُ مِنْهَا مَا نُصِبَ
نَصْبًا (4) .
__________
(1) المنهاج وحاشية القليوبي 3 / 297.
(2) فتح الباري 10 / 388، وشرح المنهاج بحاشية القليوبي 3 / 297.
(3) المصنف 8 / 482.
(4) المسند 9 / 147 ط أحمد شاكر، وقال: إسناده صحيح.
(12/120)
اسْتِعْمَال لُعَبِ الأَْطْفَال
الْمُجَسَّمَةِ وَغَيْرِ الْمُجَسَّمَةِ:
52 - تَقَدَّمَ أَنَّ قَوْل الْجُمْهُورِ جَوَازُ صِنَاعَةِ اللُّعَبِ
الْمَذْكُورَةِ. فَاسْتِعْمَالُهَا جَائِزٌ مِنْ بَابٍ أَوْلَى، وَنَقَل
الْقَاضِي عِيَاضٌ جَوَازَهُ عَنِ الْعُلَمَاءِ، وَتَابَعَهُ النَّوَوِيُّ
فِي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، قَال: قَال الْقَاضِي: يُرَخَّصُ لِصِغَارِ
الْبَنَاتِ. (1)
وَالْمُرَادُ بِصِغَارِ الْبَنَاتِ مَنْ كَانَ غَيْرَ بَالِغٍ مِنْهُنَّ.
وَقَال الْخَطَّابِيُّ: وَإِِنَّمَا أَرْخَصَ لِعَائِشَةَ فِيهَا
لأَِنَّهَا إِذْ ذَاكَ كَانَتْ غَيْرَ بَالِغٍ. قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي
الْجَزْمِ بِهِ نَظَرٌ، لَكِنَّهُ مُحْتَمَلٌ، لأَِنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ بِنْتَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ،
وَأَمَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكٍ فَكَانَتْ قَدْ بَلَغَتْ قَطْعًا (2)
فَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّ التَّرْخِيصَ لَيْسَ قَاصِرًا عَلَى مَنْ دُونَ
الْبُلُوغِ مِنْهُنَّ، بَل يَتَعَدَّى إِِلَى مَرْحَلَةِ مَا بَعْدَ
الْبُلُوغِ مَا دَامَتِ الْحَاجَةُ قَائِمَةً لِذَلِكَ.
53 - وَالْعِلَّةُ فِي هَذَا التَّرْخِيصِ تَدْرِيبُهُنَّ عَنْ شَأْنِ
تَرْبِيَةِ الأَْوْلاَدِ، وَتَقَدَّمَ النَّقْل عَنِ الْحَلِيمِيِّ: أَنَّ
مِنَ الْعِلَّةِ أَيْضًا اسْتِئْنَاسَ الصِّبْيَانِ وَفَرَحَهُمْ (3) .
وَأَنَّ ذَلِكَ يَحْصُل لَهُمْ بِهِ النَّشَاطُ وَالْقُوَّةُ وَالْفَرَحُ
وَحُسْنُ النُّشُوءِ وَمَزِيدُ التَّعَلُّمِ. فَعَلَى هَذَا لاَ يَكُونُ
الأَْمْرُ قَاصِرًا عَلَى الإِِْنَاثِ مِنَ
__________
(1) فتح الباري 10 / 527، وشرح النووي على مسلم 11 / 82، وشرح المنهاج 3 /
214.
(2) فتح الباري 10 / 527.
(3) المنهاج في شعب الإيمان 3 / 97، والدسوقي 2 / 338.
(12/121)
الصِّغَارِ، بَل يَتَعَدَّاهُ إِِلَى
الذُّكُورِ مِنْهُمْ أَيْضًا. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ أَبُو يُوسُفَ: فَفِي
الْقُنْيَةِ عَنْهُ: يَجُوزُ بَيْعُ اللُّعْبَةِ، وَأَنْ يَلْعَبَ بِهَا
الصِّبْيَانُ. (1)
54 - وَمِمَّا يُؤَكِّدُ جَوَازَ اللُّعَبِ الْمُصَوَّرَةِ لِلصِّبْيَانِ -
بِالإِِْضَافَةِ إِِلَى الْبَنَاتِ - مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ
الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ الأَْنْصَارِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
أَنَّهَا قَالَتْ: أَرْسَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِِلَى قُرَى الأَْنْصَارِ الَّتِي حَوْل
الْمَدِينَةِ: مَنْ كَانَ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، وَمَنْ
كَانَ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ. فَكُنَّا بَعْدَ
ذَلِكَ نَصُومُهُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا الصِّغَارَ مِنْهُمْ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ، وَنَذْهَبُ بِهِمْ إِِلَى الْمَسْجِدِ، فَنَجْعَل - وَفِي
رِوَايَةٍ: فَنَصْنَعُ - لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ، فَإِِذَا
بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ إِيَّاهُ حَتَّى يَكُونَ
عِنْدَ الإِِْفْطَارِ. (2)
55 - وَانْفَرَدَ الْحَنَابِلَةُ بِاشْتِرَاطِ أَنْ تَكُونَ اللُّعْبَةُ
الْمُصَوَّرَةُ بِلاَ رَأْسٍ، أَوْ مَقْطُوعَةَ الرَّأْسِ كَمَا تَقَدَّمَ،
وَمُرَادُهُمْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْبَاقِي الرَّأْسَ، أَوْ كَانَ
الرَّأْسُ مُنْفَصِلاً عَنِ الْجَسَدِ جَازَ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَالُوا:
لِلْوَلِيِّ شِرَاءُ لُعَبٍ غَيْرِ مُصَوَّرَةٍ لِصَغِيرَةٍ تَحْتَ
حِجْرِهِ مِنْ مَالِهَا نَصًّا، لِلتَّمْرِينِ. (3)
__________
(1) ابن عابدين 1 / 437، 4 / 214.
(2) حديث الربيع بنت معوذ رضي الله عنها: " من كان أصبح صائما. . . . "
أخرجه البخاري (الفتح 4 / 200 - ط السلفية) ومسلم (2 / 799 - ط الحلبي) .
(3) كشاف القناع 1 / 280، وشرح المنتهى 2 / 293، والإنصاف 5 / 331.
(12/121)
لُبْسُ الثِّيَابِ الَّتِي فِيهَا
الصُّوَرُ:
56 - يُكْرَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ لُبْسُ الثِّيَابِ
الَّتِي فِيهَا الصُّوَرُ، قَال صَاحِبُ الْخُلاَصَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ:
صُلِّيَ فِيهَا أَوْ لاَ. لَكِنْ تَزُول الْكَرَاهَةُ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ بِمَا لَوْ لَبِسَ الإِِْنْسَانُ فَوْقَ الصُّورَةِ ثَوْبًا
آخَرَ يُغَطِّيهَا، فَإِِنْ فَعَل فَلاَ تُكْرَهُ الصَّلاَةُ فِيهِ. (1)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَجُوزُ لُبْسُ الثِّيَابِ الَّتِي فِيهَا
صُوَرٌ حَيْثُ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الصُّورَةَ فِي الثَّوْبِ الْمَلْبُوسِ
مُنْكَرٌ، لَكِنَّ اللُّبْسَ امْتِهَانٌ لَهُ فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ. (2)
كَمَا لَوْ كَانَ مُلْقًى بِالأَْرْضِ وَيُدَاسُ. وَالأَْوْجَهُ كَمَا قَال
الشِّرْوَانِيُّ أَنَّهُ لاَ يَكُونُ مِنَ الْمُنْكَرِ إِِذَا كَانَ
مُلْقًى بِالأَْرْضِ (أَيْ مُطْلَقًا) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ: فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُهُمْ فِي لُبْسِ الثَّوْبِ
الَّذِي فِيهِ الصُّورَةُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: التَّحْرِيمُ، وَهُوَ قَوْل أَبِي الْخَطَّابِ قَدَّمَهُ فِي
الْفُرُوعِ وَالْمُحَرَّرِ. وَالآْخَرُ: أَنَّهُ مَكْرُوهٌ فَقَطْ وَلَيْسَ
مُحَرَّمًا، قَدَّمَهُ ابْنُ تَمِيمٍ (3) .
وَوَجْهُ الْقَوْل بِعَدَمِ التَّحْرِيمِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِلاَّ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ. (4)
__________
(1) ابن عابدين 1 / 436، والخرشي على مختصر خليل 3 / 303.
(2) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 3 / 297، وتحفة المحتاج وحاشية الشرواني 7
/ 432، 433.
(3) شرح الإقناع للبهوتي 1 / 279، والإنصاف 1 / 473، والمغني 1 / 590.
(4) الحديث تقدم تخريجه ف / 31.
(12/122)
اسْتِعْمَال وَاقْتِنَاءُ الصُّوَرِ
الصَّغِيرَةِ فِي الْخَاتَمِ وَالنُّقُودِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ:
57 - يُصَرِّحُ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الصُّوَرَ الصَّغِيرَةَ لاَ
يَشْمَلُهَا تَحْرِيمُ الاِقْتِنَاءِ وَالاِسْتِعْمَال، بِنَاءً عَلَى
أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَادَةِ عُبَّادِ الصُّوَرِ أَنْ يَسْتَعْمِلُوهَا
كَذَلِكَ. وَضَبَطُوا حَدَّ الصِّغَرِ بِضَوَابِطَ مُخْتَلِفَةٍ.
قَال بَعْضُهُمْ: أَنْ تَكُونَ بِحَيْثُ لاَ تَبْدُو لِلنَّاظِرِ إِلاَّ
بِتَبَصُّرٍ بَلِيغٍ. وَقَال بَعْضُهُمْ: أَنْ لاَ تَبْدُوَ مِنْ بَعِيدٍ.
وَقَال صَاحِبُ الدُّرِّ: هِيَ الَّتِي لاَ تَتَبَيَّنُ تَفَاصِيل
أَعْضَائِهَا لِلنَّاظِرِ قَائِمًا وَهِيَ عَلَى الأَْرْضِ. وَقِيل: هِيَ
مَا كَانَتْ أَصْغَر مِنْ حَجْمِ طَائِرٍ. وَهَذَا يَذْكُرُونَهُ فِي
بَيَانِ أَنَّهَا لاَ تُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي. لَكِنْ قَال ابْنُ
عَابِدِينَ: ظَاهِرُ كَلاَمِ عُلَمَائِنَا أَنَّ مَا لاَ يُؤَثِّرُ
كَرَاهَةً فِي الصَّلاَةِ لاَ يُكْرَهُ إِبْقَاؤُهُ. وَقَدْ صَرَّحَ فِي
الْفَتْحِ وَغَيْرِهِ بِأَنَّ الصُّورَةَ الصَّغِيرَةَ لاَ تُكْرَهُ فِي
الْبَيْتِ، وَنُقِل أَنَّهُ كَانَ عَلَى خَاتَمِ أَبِي هُرَيْرَةَ
ذُبَابَتَانِ.
وَفِي التَّتَارْخَانِيَّةَ: لَوْ كَانَ عَلَى خَاتَمِ فِضَّةٍ تَمَاثِيل
لاَ يُكْرَهُ، وَلَيْسَتْ كَتَمَاثِيل فِي الثِّيَابِ؛ لأَِنَّهُ صَغِيرٌ.
(1) وَقَدْ تَقَدَّمَ النَّقْل عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمُ
اسْتَعْمَلُوا الصُّوَرَ فِي الْخَوَاتِمِ، فَكَانَ نَقْشُ خَاتَمِ
عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلاً
__________
(1) ابن عابدين 1 / 437، 5 / 230، والدر بحاشية الطحطاوي 1 / 274، وفتح
القدير وحواشيه 1 / 362.
(12/122)
مُتَقَلِّدًا سَيْفًا، وَكَانَ نَقْشُ
خَاتَمِ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْكِيَّيْنِ، وَكَانَ عَلَى
خَاتَمِ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيَّلٌ (1) .
وَلاَ يَخْتَلِفُ حُكْمُ الصُّوَرِ الصَّغِيرَةِ عَنِ الصُّوَرِ
الْكَبِيرَةِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ. إِلاَّ أَنَّ الصُّوَرَ
الَّتِي عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ جَائِزَةٌ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ لاَ لِصِغَرِهَا، وَلَكِنْ لأَِنَّهَا مُمْتَهَنَةٌ كَمَا
تَقَدَّمَ. وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لُبْسُ
الْخَاتَمِ الَّذِي فِيهِ الصُّورَةُ. (2)
النَّظَرُ إِِلَى الصُّوَرِ:
58 - يَحْرُمُ التَّفَرُّجُ عَلَى الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. لَكِنْ إِِذَا كَانَتْ مُبَاحَةَ
الاِسْتِعْمَال - كَمَا لَوْ كَانَتْ مَقْطُوعَةً أَوْ مُهَانَةً - فَلاَ
يَحْرُمُ التَّفَرُّجُ عَلَيْهَا.
قَال الدَّرْدِيرُ فِي تَعْلِيل تَحْرِيمِ النَّظَرِ: لأَِنَّ النَّظَرَ
إِِلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ (3) .
وَلاَ يَحْرُمُ النَّظَرُ إِِلَى الصُّورَةِ الْمُحَرَّمَةِ مِنْ حَيْثُ
هِيَ صُوَرٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّ النَّصَارَى صَنَعُوا لِعُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ حِينَ قَدِمَ الشَّامَ طَعَامًا فَدَعَوْهُ،
__________
(1) معاني الآثار للطحاوي 4 / 263، 266.
(2) الرملي على أسنى المطالب 2 / 266، ونهاية المحتاج 6 / 369، والآداب
الشرعية 3 / 512.
(3) شرح مختصر خليل وحاشية الدسوقي 2 / 338، وحاشية القليوبي على شرح
المنهاج 3 / 297.
(12/123)
فَقَال: أَيْنَ هُوَ؟ قَال: فِي
الْكَنِيسَةِ. فَأَبَى أَنْ يَذْهَبَ: وَقَال لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ: امْضِ بِالنَّاسِ فَلْيَتَغَدَّوْا. فَذَهَبَ عَلِيٌّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ بِالنَّاسِ فَدَخَل الْكَنِيسَةَ، وَتَغَدَّى هُوَ
وَالنَّاسُ، وَجَعَل عَلِيٌّ يَنْظُرُ إِِلَى الصُّوَرِ، وَقَال: مَا عَلَى
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ دَخَل فَأَكَل (1) .
وَلَمْ نَجِدْ نَصًّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَلِكَ. لَكِنْ قَال ابْنُ
عَابِدِينَ: هَل يَحْرُمُ النَّظَرُ بِشَهْوَةٍ إِِلَى الصُّورَةِ
الْمَنْقُوشَةِ؟ مَحَل تَرَدُّدٍ، وَلَمْ أَرَهُ، فَلْيُرَاجَعْ.
فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَعَ عَدَمِ الشَّهْوَةِ لاَ يَحْرُمُ.
عَلَى أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ دُونَ سَائِرِ
الْمَذَاهِبِ: أَنَّ الرَّجُل إِِذَا نَظَرَ إِِلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ
بِشَهْوَةٍ، فَإِِنَّهَا تَنْشَأُ بِذَلِكَ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ؛
لَكِنْ لَوْ نَظَرَ إِِلَى صُورَةِ الْفَرْجِ فِي الْمِرْآةِ فَلاَ
تَنْشَأُ تِلْكَ الْحُرْمَةُ؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ قَدْ رَأَى عَكْسَهُ لاَ
عَيْنَهُ. فَفِي النَّظَرِ إِِلَى الصُّورَةِ الْمَنْقُوشَةِ لاَ تَنْشَأُ
حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ مِنْ بَابٍ أَوْلَى. (2)
59 - وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَحْرُمُ النَّظَرُ - وَلَوْ
بِشَهْوَةٍ - فِي الْمَاءِ أَوِ الْمِرْآةِ. قَالُوا: لأَِنَّ هَذَا
مُجَرَّدُ خَيَال امْرَأَةٍ وَلَيْسَ امْرَأَةً. وَقَال الشَّيْخُ
الْبَاجُورِيُّ: يَجُوزُ التَّفَرُّجُ عَلَى صُوَرِ حَيَوَانٍ غَيْرِ
مَرْفُوعَةٍ. أَوْ عَلَى هَيْئَةٍ لاَ تَعِيشُ مَعَهَا، كَأَنْ كَانَتْ
مَقْطُوعَةَ الرَّأْسِ أَوِ الْوَسَطِ، أَوْ مُخَرَّقَةَ
__________
(1) المغني لابن قدامة 7 / 7.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 238، 2 / 281.
(12/123)
الْبُطُونِ. قَال: وَمِنْهُ يُعْلَمُ
جَوَازُ التَّفَرُّجِ عَلَى خَيَال الظِّل الْمَعْرُوفِ؛ لأَِنَّهَا
شُخُوصٌ مُخَرَّقَةُ الْبُطُونِ. (1)
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
قَالَتْ: قَال لِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ، يَجِيءُ بِكَ الْمَلَكُ فِي سَرَقَةٍ مِنْ
حَرِيرٍ، فَقَال لِي: هَذِهِ امْرَأَتُكَ، فَكَشَفْتُ عَنْ وَجْهِكِ
الثَّوْبَ، فَإِِذَا أَنْتِ هِيَ (2) قَال ابْنُ حَجَرٍ: عِنْدَ
الآْجُرِّيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ: لَقَدْ نَزَل جِبْرِيل
بِصُورَتِي فِي رَاحَتِهِ حِينَ أَمَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ نَظَرُ
الرَّجُل إِِلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي يَحِل لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهَا، مَا
لَمْ تَكُنِ الصُّورَةُ مُحَرَّمَةً، عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّفْصِيل
وَالْخِلاَفِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الدُّخُول إِِلَى مَكَان فِيهِ صُوَرٌ:
60 - يَجُوزُ الدُّخُول إِِلَى مَكَان يَعْلَمُ الدَّاخِل إِلَيْهِ أَنَّ
فِيهِ صُوَرًا مَنْصُوبَةً عَلَى وَضْعٍ مُحَرَّمٍ، وَلَوْ كَانَ يَعْلَمُ
بِذَلِكَ قَبْل الدُّخُول، وَلَوْ دَخَل لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ.
هَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ. قَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ
الْفَضْل عَنْهُ، لِمَنْ سَأَلَهُ قَائِلاً: إِنْ لَمْ يَرَ الصُّوَرَ
إِلاَّ
__________
(1) القليوبي على شرح المنهاج 3 / 208، وحاشية الباجوري على ابن القاسم 2 /
99، 131.
(2) حديث: " أريتك في المنام يجيء بك الملك. . . " أخرجه البخاري (الفتح 9
/ 180 - ط السلفية) .
(12/124)
عِنْدَ وَضْعِ الْخِوَانِ بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ. أَيَخْرُجُ؟ قَال: لاَ تُضَيِّقْ عَلَيْنَا. إِِذَا رَأَى
الصُّوَرَ وَبَّخَهُمْ وَنَهَاهُمْ. يَعْنِي: وَلاَ يَخْرُجُ. قَال
الْمِرْدَاوِيُّ فِي تَصْحِيحِ الْفُرُوعِ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ
قَوْلَيْنِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الإِِْمَامِ أَحْمَدَ.
وَقَطَعَ بِهِ فِي الْمُغْنِي، قَال: لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل الْكَعْبَةَ فَرَأَى فِيهَا صُورَةَ إِبْرَاهِيمَ
وَإِِسْمَاعِيل يَسْتَقْسِمَانِ بِالأَْزْلاَمِ، فَقَال: قَاتَلَهُمُ
اللَّهُ، لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَقْسِمَا بِهَا قَطُّ (1)
قَالُوا: وَلأَِنَّهُ كَانَ فِي شُرُوطِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ أَنْ يُوَسِّعُوا أَبْوَابَ كَنَائِسِهِمْ
لِلْمُسْلِمِينَ، لِيَدْخُلُوهَا لِلْمَبِيتِ بِهَا، وَلِلْمَارَّةِ
بِدَوَابِّهِمْ. وَذَكَرُوا قِصَّةَ عَلِيٍّ فِي دُخُولِهَا
بِالْمُسْلِمِينَ وَنَظَرِهِ إِِلَى الصُّورَةِ كَمَا تَقَدَّمَ. قَالُوا:
وَلاَ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ أَنَّ الْمَلاَئِكَةَ لاَ تَدْخُل
بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ لاَ يُوجِبُ عَلَيْنَا تَحْرِيمَ
دُخُولِهِ، كَمَا لاَ يُوجِبُ عَلَيْنَا الاِمْتِنَاعَ مِنْ دُخُول بَيْتٍ
فِيهِ كَلْبٌ أَوْ جُنُبٌ أَوْ حَائِضٌ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ أَنَّ
الْمَلاَئِكَةَ لاَ تَدْخُلُهُ. (2)
__________
(1) حديث: " دخل الكعبة فرأى فيها صورة إبراهيم. . . " أخرجه البخاري
(الفتح 3 / 468 - ط السلفية) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وروي
الطيالسي من حديث أسامة بن زيد: " دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم
في الكعبة فرأى صورا، فدعا بماء فأتيته به فضرب به الصورة "، وصححه ابن حجر
في الفتح (3 / 468 - ط السلفية) .
(2) المغني 7 / 8، والإنصاف 8 / 336، والفروع وتصحيحه 5 / 307.
(12/124)
61 - وَمِثْل هَذَا مَذْهَبُ
الْمَالِكِيَّةِ فِي الصُّوَرِ الْمُجَسَّمَةِ الَّتِي لَيْسَتْ عَلَى
وَضْعٍ مُحَرَّمٍ عِنْدَهُمْ، أَوْ غَيْرِ الْمُجَسَّمَةِ. أَمَّا
الْمُحَرَّمَةُ فَإِِنَّهَا تَمْنَعُ وُجُوبَ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ عَلَى
مَا يَأْتِي. وَلَمْ نَجِدْ فِي كَلاَمِهِمْ مَا يُبَيِّنُ حُكْمَ
الدُّخُول إِِلَى مَكَان هِيَ فِيهِ.
62 - وَاخْتَلَفَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ، وَالرَّاجِحُ
عِنْدَهُمْ - وَهُوَ الْقَوْل الْمَرْجُوحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ -
أَنَّهُ يَحْرُمُ الدُّخُول إِِلَى مَكَان فِيهِ صُوَرٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى
وَضْعٍ مُحَرَّمٍ. قَالُوا: لأَِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لاَ تَدْخُل بَيْتًا
فِيهِ صُورَةٌ. قَال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنْ رَأَى صُوَرًا
فِي الْمَوْضِعِ ذَوَاتَ أَرْوَاحٍ لَمْ يَدْخُل الْمَنْزِل الَّذِي فِيهِ
تِلْكَ الصُّوَرُ إِنْ كَانَتْ مَنْصُوبَةً لاَ تُوطَأُ، فَإِِنْ كَانَتْ
تُوطَأُ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَدْخُلَهُ. وَالْقَوْل الثَّانِي
لِلشَّافِعِيَّةِ: عَدَمُ تَحْرِيمِ الدُّخُول، بَل يُكْرَهُ. وَهُوَ قَوْل
صَاحِبِ التَّقْرِيبِ وَالصَّيْدَلاَنِيِّ، وَالإِِْمَامِ، وَالْغَزَالِيِّ
فِي الْوَسِيطِ، وَالإِِْسْنَوِيِّ.
قَالُوا: وَهَذَا إِنْ كَانَتِ الصُّوَرُ فِي مَحَل الْجُلُوسِ، فَإِِنْ
كَانَتْ فِي الْمَمَرِّ أَوْ خَارِجَ بَابِ الْجُلُوسِ لاَ يُكْرَهُ
الدُّخُول؛ لأَِنَّهَا تَكُونُ كَالْخَارِجَةِ مِنَ الْمَنْزِل. وَقِيل:
لأَِنَّهَا فِي الْمَمَرِّ مُمْتَهَنَةٌ. (1)
__________
(1) الأم للشافعي 6 / 182 مطبعة الكليات الأزهرية، وتحفة المحتاج 7 / 433،
وأسنى المطالب 3 / 226.
(12/125)
إِجَابَةُ الدَّعْوَةِ إِِلَى مَكَانٍ
فِيهِ صُوَرٌ:
63 - إِجَابَةُ الدَّعْوَةِ إِِلَى الْوَلِيمَةِ - وَهِيَ طَعَامُ
الْعُرْسِ - وَاجِبَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لِحَدِيثِ مَنْ لَمْ يُجِبِ
الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ (1) وَقِيل هِيَ: سُنَّةٌ.
وَإِِجَابَةُ الدَّعْوَةِ لِغَيْرِهَا مُسْتَحَبَّةٌ.
وَفِي جَمِيعِ الأَْحْوَال إِِذَا كَانَ فِي الْمَكَانِ صُوَرٌ عَلَى
وَضْعٍ مُحَرَّمٍ - وَمِثْلُهَا أَيُّ مُنْكَرٍ ظَاهِرٍ - وَعَلِمَ
بِذَلِكَ الْمَدْعُوُّ قَبْل مَجِيئِهِ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ
عَلَى أَنَّ الإِِْجَابَةَ لاَ تَكُونُ وَاجِبَةً؛ لأَِنَّ الدَّاعِيَ
يَكُونُ قَدْ أَسْقَطَ حُرْمَةَ نَفْسِهِ بِارْتِكَابِهِ الْمُنْكَرَ،
فَتُتْرَكُ الإِِْجَابَةُ عُقُوبَةً لَهُ وَزَجْرًا عَنْ فِعْلِهِ. وَقَال
الْبَعْضُ - كَالشَّافِعِيَّةِ -: تَحْرُمُ الإِِْجَابَةُ حِينَئِذٍ.
ثُمَّ قِيل: إِنَّهُ إِِذَا عَلِمَ أَنَّهَا بِحُضُورِهِ تُزَال، أَوْ
يُمْكِنُهُ إِزَالَتُهَا، فَيَجِبُ الْحُضُورُ لِذَلِكَ. (2)
وَفِي الْمَسْأَلَةِ اخْتِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ تَحْتَ عِنْوَانِ
(دَعْوَةٌ)
مَا يُصْنَعُ بِالصُّورَةِ الْمُحَرَّمَةِ إِِذَا كَانَتْ فِي شَيْءٍ
يُنْتَفَعُ بِهِ:
64 - يَنْبَغِي إِخْرَاجُ الصُّورَةِ عَنْ وَضْعِهَا الْمُحَرَّمِ إِِلَى
وَضْعٍ تَخْرُجُ فِيهِ عَنِ الْحُرْمَةِ، وَلاَ يَلْزَمُ إِتْلاَفُهَا
__________
(1) حديث: " من لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله " أخرجه مسلم (2 / 1055
- ط الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) الدر وحاشية ابن عابدين 5 / 221، والخرشي على خليل وحاشيته 3 / 3،
وأسنى المطالب 3 / 225، والمغني 7 / 8، والإنصاف 8 / 336، وكشاف القناع 5 /
170.
(12/125)
بِالْكُلِّيَّةِ، بَل يَكْفِي حَطُّهَا
إِنْ كَانَتْ مَنْصُوبَةً. فَإِِنْ كَانَ لاَ بُدَّ مِنْ بَقَائِهَا فِي
مَكَانِهَا، فَيَكْفِي قَطْعُ الرَّأْسِ عَنِ الْبَدَنِ، أَوْ خَرْقُ
الصَّدْرِ أَوِ الْبَطْنِ، أَوْ حَكُّ الْوَجْهِ مِنَ الْجِدَارِ، أَوْ
مَحْوُهُ أَوْ طَمْسُهُ بِطِلاَءٍ يُذْهِبُ مَعَالِمَهُ، أَوْ يَغْسِل
الصُّورَةَ إِنْ كَانَتْ مِمَّا يُمْكِنُ غَسْلُهُ. وَإِِنْ كَانَتْ فِي
ثَوْبٍ مُعَلَّقٍ أَوْ سَتْرٍ مَنْصُوبٍ، فَيَكْفِي أَنْ يَنْسِجَ
عَلَيْهَا مَا يُغَطِّي رَأْسَهَا. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَلَوْ أَنَّهُ
قَطَعَ الرَّأْسَ عَنِ الْجَسَدِ بِخَيْطٍ - مَعَ بَقَاءِ الرَّأْسِ عَلَى
حَالِهِ - فَلاَ يَنْفِي الْكَرَاهَةَ؛ لأَِنَّ مِنَ الطُّيُورِ مَا هُوَ
مُطَوَّقٌ، فَلاَ يَتَحَقَّقُ الْقَطْعُ بِذَلِكَ. (1)
65 - وَالدَّلِيل لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَعَثَهُ إِِلَى الْمَدِينَةِ وَأَمَرَهُ أَنْ يُسَوِّيَ كُل قَبْرٍ،
وَيَكْسِرَ كُل صَنَمٍ، وَيَطْمِسَ كُل صُورَةٍ. (2)
وَفِي رِوَايَاتِ مُسْنَدِ أَحْمَدَ لِلْحَدِيثِ وَرَدَتِ الْعِبَارَاتُ
الآْتِيَةُ: أَنْ يُلَطِّخَ الصُّورَةَ، أَوْ أَنْ يُلَطِّخَهَا، أَوْ
يَنْحِتَهَا، أَوْ يَضَعَهَا، وَرِوَايَةُ الْوَضْعِ صَحِيحَةٌ. (3)
وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 436، وكشاف القناع 1 / 280 و 5 / 170، 171، والمغني 7 /
7، 10، وفتح الباري 10 / 392، وأسنى المطالب 3 / 226، والطحطاوي على الدر 1
/ 274.
(2) الحديث تقدم تخريجه ف / 24.
(3) مسند أحمد، بتحقيق أحمد شاكر 1238، والروايات الأخرى ح 657، 658، 683،
741، 881، 889، 1064، 1176، 1177، 1283.
(12/126)
كَسْرُ الصُّورَةِ أَوْ إِتْلاَفُهَا كَمَا
نَصَّ عَلَى كَسْرِ الأَْصْنَامِ. وَمِنَ الدَّلِيل أَيْضًا حَدِيثُ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي شَأْنِ السِّتْرِ الَّذِي فِيهِ
الصُّوَرُ، وَفِيهِ أَنَّهُ قَال: أَخِّرِيهِ عَنِّي، وَفِي رِوَايَةٍ
أَنَّهُ هَتَكَهُ بِيَدِهِ، وَفِي أُخْرَى أَنَّهُ أَمَرَ بِجَعْلِهِ
وَسَائِدَ.
الصُّوَرُ وَالْمُصَلِّي:
66 - اتَّفَقَتْ كَلِمَةُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى وَفِي
قِبْلَتِهِ صُورَةُ حَيَوَانٍ مُحَرَّمَةٌ فَقَدْ فَعَل مَكْرُوهًا؛
لأَِنَّهُ يُشْبِهُ سُجُودَ الْكُفَّارِ لأَِصْنَامِهِمْ، وَإِِنْ لَمْ
يَقْصِدِ التَّشَبُّهَ. أَمَّا إِنْ كَانَتِ الصُّورَةُ فِي غَيْرِ
الْقِبْلَةِ: كَأَنْ كَانَتْ فِي الْبِسَاطِ، أَوْ عَلَى جَانِبِ
الْمُصَلِّي فِي الْجِدَارِ، أَوْ خَلْفَهُ، أَوْ فَوْقَ رَأْسِهِ فِي
السَّقْفِ، فَقَدِ اخْتَلَفَتْ كَلِمَتُهُمْ فِي ذَلِكَ.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ - كَمَا فِي الدُّرِّ وَحَاشِيَةِ الطَّحْطَاوِيِّ -
يُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي لُبْسُ ثَوْبٍ فِيهِ تَمَاثِيل ذِي رُوحٍ، وَأَنْ
يَكُونَ فَوْقَ رَأْسِهِ، أَوْ بَيْنَ يَدَيْهِ، أَوْ بِحِذَائِهِ يَمْنَةً
أَوْ يَسْرَةً، أَوْ مَحَل سُجُودِهِ تِمْثَالٌ. وَاخْتُلِفَ فِيمَا إِِذَا
كَانَ التِّمْثَال خَلْفَهُ. وَالأَْظْهَرُ: الْكَرَاهَةُ. وَلاَ يُكْرَهُ
لَوْ كَانَتْ تَحْتَ قَدَمَيْهِ أَوْ مَحَل جُلُوسِهِ إِنْ كَانَ لاَ
يَسْجُدُ عَلَيْهَا، أَوْ فِي يَدِهِ، أَوْ كَانَتْ مُسْتَتِرَةً بِكِيسٍ
أَوْ صُرَّةٍ أَوْ ثَوْبٍ، أَوْ كَانَتْ صَغِيرَةً؛ لأَِنَّ الصَّغِيرَةَ
لاَ تُعْبَدُ، فَلَيْسَ لَهَا حُكْمُ الْوَثَنِ. (1)
__________
(1) الدر والطحطاوي 1 / 274، وشرح منية المصلي ص 359، وابن عابدين 1 / 436،
437، وفتح القدير 1 / 362.
(12/126)
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ - كَمَا فِي
أَسْنَى الْمَطَالِبِ - عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَلْبَسَ
ثَوْبًا فِيهِ تَصْوِيرٌ، وَأَنْ يُصَلِّيَ إِلَيْهِ أَوْ عَلَيْهِ. (1)
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ تُكْرَهُ الصَّلاَةُ إِِلَى صُورَةٍ
مَنْصُوبَةٍ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. قَال الْبُهُوتِيُّ: وَظَاهِرُهُ
وَلَوْ كَانَتِ الصُّورَةُ صَغِيرَةً لاَ تَبْدُو لِلنَّاظِرِ إِلَيْهَا،
وَلاَ تُكْرَهُ إِِلَى غَيْرِ مَنْصُوبَةٍ، وَلاَ يُكْرَهُ سُجُودٌ وَلَوْ
عَلَى صُورَةٍ، وَلاَ صُورَةَ خَلْفَهُ فِي الْبَيْتِ، وَلاَ فَوْقَ
رَأْسِهِ فِي السَّقْفِ أَوْ عَنْ أَحَدِ جَانِبَيْهِ. وَأَمَّا السُّجُودُ
عَلَى الصُّورَةِ فَيُكْرَهُ عِنْدَ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ يَعْنِي
ابْنَ تَيْمِيَّةَ، وَقَال فِي الْفُرُوعِ: لاَ يُكْرَهُ، لأَِنَّهُ لاَ
يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ صَلَّى إِلَيْهَا. وَيُكْرَهُ حَمْلُهُ فَصًّا
فِيهِ صُورَةٌ أَوْ حَمْلُهُ ثَوْبًا وَنَحْوَهُ كَدِينَارٍ أَوْ دِرْهَمٍ
فِيهِ صُورَةٌ. (2)
وَلَمْ نَجِدْ لِلْمَالِكِيَّةِ تَعَرُّضًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، إِلاَّ
أَنَّهُمْ ذَكَرُوا تَزْوِيقَ قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ أَوْ أَيِّ جُزْءٍ
مِنْهُ كَمَا يَأْتِي بَعْدَ هَذَا.
الصُّوَرُ فِي الْكَعْبَةِ وَالْمَسَاجِدِ وَأَمَاكِنِ الْعِبَادَةِ:
67 - يَنْبَغِي تَنْزِيهُ أَمَاكِنِ الْعِبَادَةِ عَنْ وُجُودِ الصُّوَرِ
فِيهَا، لِئَلاَّ يَئُول الأَْمْرُ إِِلَى عِبَادَتِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ
مِنْ قَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أَصْل عِبَادَةِ قَوْمِ نُوحٍ
لأَِصْنَامِهِمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا رِجَالاً صَالِحِينَ، فَلَمَّا
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 179.
(2) كشاف القناع 1 / 370، وانظر الإنصاف 1 / 474.
(12/127)
مَاتُوا صَوَّرُوهُمْ ثُمَّ عَبَدُوهُمْ.
وَأَيْضًا فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَقُول
بِكَرَاهَةِ الصَّلاَةِ مَعَ وُجُودِ الصُّورَةِ، وَلَوْ كَانَتْ إِِلَى
جَانِبِ الْمُصَلِّي أَوْ خَلْفَهُ أَوْ فِي مَكَانِ سُجُودِهِ.
وَالْمَسَاجِدُ تُجَنَّبُ الْمَكْرُوهَاتِ كَمَا تُجَنَّبُ
الْمُحَرَّمَاتِ.
68 - وَقَدْ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل الْكَعْبَةَ
فَوَجَدَ فِيهَا صُورَةَ إِبْرَاهِيمَ وَصُورَةَ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا
السَّلَامُ فَقَال: أَمَّا هُمْ فَقَدْ سَمِعُوا أَنَّ الْمَلاَئِكَةَ لاَ
تَدْخُل بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ، هَذَا إِبْرَاهِيمُ مُصَوَّرٌ فَمَا لَهُ
يَسْتَقْسِمُ وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى الصُّوَرَ فِي
الْبَيْتِ لَمْ يَدْخُل حَتَّى أَمَرَ بِهَا فَمُحِيَتْ، وَرَأَى
إِبْرَاهِيمَ وَإِِسْمَاعِيل عَلَيْهِمَا السَّلَامُ بِأَيْدِيهِمَا
الأَْزْلاَمُ. فَقَال: قَاتَلَهُمُ اللَّهُ، وَاللَّهِ إِنِ اسْتَقْسَمَا
بِالأَْزْلاَمِ قَطُّ. (1)
وَوَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ أَمَرَ بِالصُّوَرِ كُلِّهَا فَمُحِيَتْ، فَلَمْ
يَدْخُل الْكَعْبَةَ وَفِيهَا مِنَ الصُّوَرِ شَيْءٌ. (2)
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا اشْتَكَى ذَكَرَ
بَعْضُ نِسَائِهِ كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ يُقَال لَهَا
مَارِيَةَ، وَكَانَتْ
__________
(1) حديث ابن عباس في دخوله الكعبة. أخرج الروايتين البخاري (الفتح 6 / 387
- ط السلفية) .
(2) حديث: " أمر بالصور. . . " أورده الأزرقي في أخبار مكة (11 / 113) نشر
مكتبة خياط من طرق منطقة يقوي بعضها بعضا.
(12/127)
أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ حَبِيبَةَ أَتَتَا
أَرْضَ الْحَبَشَةِ، فَذَكَرَتَا مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا،
فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَال: أُولَئِكَ إِِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُل
الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، ثُمَّ صَوَّرُوا فِيهِ
تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ (1) فَهَذَا يُفِيدُ
تَحْرِيمَ الصُّوَرِ فِي الْمَسَاجِدِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الصُّوَرُ فِي الْكَنَائِسِ وَالْمَعَابِدِ غَيْرِ الإِِْسْلاَمِيَّةِ:
69 - الْكَنَائِسُ وَالْمَعَابِدُ الَّتِي أُقِرَّتْ فِي بِلاَدِ
الإِِْسْلاَمِ بِالصُّلْحِ لاَ يُتَعَرَّضُ لِمَا فِيهَا مِنَ الصُّوَرِ
مَا دَامَتْ فِي الدَّاخِل.
وَلاَ يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ دُخُول الْمُسْلِمِ الْكَنِيسَةَ عِنْدَ
الْجُمْهُورِ. وَتَقَدَّمَ مَا نَقَلَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي أَنَّ عَلِيًّا
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَخَل الْكَنِيسَةَ بِالْمُسْلِمِينَ، وَأَخَذَ
يَتَفَرَّجُ عَلَى الصُّوَرِ. وَأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخَذَ
عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ أَنْ يُوَسِّعُوا أَبْوَابَ كَنَائِسِهِمْ،
لِيَدْخُلَهَا الْمُسْلِمُونَ وَالْمَارَّةُ.
وَلِذَا قَال الْحَنَابِلَةُ: لِلْمُسْلِمِ دُخُول الْكَنِيسَةِ
وَالْبِيَعَةِ، وَالصَّلاَةُ فِيهِمَا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ عَلَى
الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ.
وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ:
يُكْرَهُ دُخُولُهَا لأَِنَّهَا مَأْوَى الشَّيَاطِينِ.
__________
(1) حديث: " أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح. . . " أخرجه البخاري (الفتح
1 / 524 - ط السلفية) ومسلم (1 / 376 - ط الحلبي) .
(12/128)
وَقَال أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ: يَحْرُمُ
عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَدْخُل الْكَنِيسَةَ الَّتِي فِيهَا صُوَرٌ
مُعَلَّقَةٌ. (1)
رَابِعًا: أَحْكَامُ الصُّوَرِ:
أ - الصُّوَرُ وَعُقُودُ التَّعَامُل:
70 - الصُّوَرُ الَّتِي صِنَاعَتُهَا حَلاَلٌ - كَالصُّوَرِ الْمُسَطَّحَةِ
مُطْلَقًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالصُّوَرِ الْمَقْطُوعَةِ، وَلُعَبِ
الأَْطْفَال، وَالصُّوَرِ مِنَ الْحَلْوَى، وَمَا يَسْرُعُ إِلَيْهِ
الْفَسَادُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ - عَلَى التَّفْصِيل وَالْخِلاَفِ الَّذِي
تَقَدَّمَ - يَصِحُّ شِرَاؤُهَا وَبَيْعُهَا وَالأَْمْرُ بِعَمَلِهَا
وَالإِِْجَارَةُ عَلَى صُنْعِهَا. وَثَمَنُهَا حَلاَلٌ وَالأُْجْرَةُ
الْمَأْخُوذَةُ عَلَى صِنَاعَتِهَا حَلاَلٌ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ عُقُودِ
التَّعَامُل الَّتِي تَجْرِي عَلَيْهَا. وَيَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ
يَشْتَرِيَ لِمَحْجُورَتِهِ اللُّعَبَ مِنْ مَالِهَا، لِمَا فِيهَا مِنْ
مَصْلَحَةِ التَّمْرِينِ كَمَا تَقَدَّمَ.
أَمَّا الصُّوَرُ الْمُحَرَّمَةُ صِنَاعَتُهَا، فَإِِنَّهَا عَلَى
الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ لاَ تَحِل الإِِْجَارَةُ
عَلَى صُنْعِهَا، وَلاَ تَحِل الأُْجْرَةُ وَلاَ الأَْمْرُ بِعَمَلِهَا،
وَلاَ الإِِْعَانَةُ عَلَى ذَلِكَ. قَال الْقَلْيُوبِيُّ: وَيُسْقِطُ
الْمُرُوءَةَ حِرْفَةٌ مُحَرَّمَةٌ كَالْمُصَوِّرِ. وَشَذَّ
الْمَاوَرْدِيُّ فَجَعَل لِلْمُصَوِّرِ أُجْرَةَ الْمِثْل كَمَا فِي
تُحْفَةِ الْمُحْتَاجِ.
__________
(1) المغني 7 / 8، والإنصاف 1 / 496، وابن عابدين 1 / 254، والشيخ عميرة
البرلسي على شرح المنهاج 4 / 235.
(12/128)
71 - وَأَمَّا مَا يَحْرُمُ اقْتِنَاؤُهُ
وَاسْتِعْمَالُهُ، فَلاَ يَصِحُّ شِرَاؤُهُ وَلاَ بَيْعُهُ وَلاَ هِبَتُهُ
وَلاَ إِيدَاعُهُ وَلاَ رَهْنُهُ، وَلاَ الإِِْجَارَةُ عَلَى حِفْظِهِ،
وَلاَ وَقْفُهُ، وَلاَ الْوَصِيَّةُ بِهِ كَسَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ.
وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ
وَالأَْصْنَامِ (1) . وَمَنْ أَخَذَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ثَمَنًا أَوْ
أُجْرَةً فَهُوَ كَسْبٌ خَبِيثٌ يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِهِ. قَال ابْنُ
تَيْمِيَّةَ: وَلاَ يُعَادُ إِِلَى صَاحِبِهِ، لأَِنَّهُ قَدِ اسْتَوْفَى
الْعِوَضَ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الإِِْمَامُ أَحْمَدُ فِي مِثْل حَامِل
الْخَمْرِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَصْحَابُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُمْ.
72 - وَهَذَا إِنْ كَانَتِ الصُّوَرُ الْمُحَرَّمَةُ فِيمَا لاَ مَنْفَعَةَ
فِيهِ إِلاَّ مَا فِيهِ مِنَ الصُّورَةِ الْمُحَرَّمَةِ، أَمَّا لَوْ
كَانَتْ تَصْلُحُ لِمَنْفَعَةٍ بَعْدَ شَيْءٍ مِنَ التَّغْيِيرِ، فَظَاهِرُ
كَلاَمِ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ مَنْعُهُ.
وَقَال الرَّمْلِيُّ الشَّافِعِيُّ: مُقْتَضَى كَلاَمِ الإِِْمَامِ فِي
بَابِ الْوَصِيَّةِ صِحَّةُ الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الْحَال، وَيَنْبَغِي
أَنْ لاَ يَكُونَ فِيهِ خِلاَفٌ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا نَقَلَهُ فِي
الرَّوْضَةِ عَنِ الْمُتَوَلِّي - وَلَمْ يُخَالِفْهُ - فِي جَوَازِ بَيْعِ
النَّرْدِ إِِذَا صَلُحَ لِبَيَادِقِ الشِّطْرَنْجِ، وَإِِلاَّ فَلاَ.
وَمِثْلُهُ مَا فِي الدُّرِّ وَحَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: اشْتَرَى
ثَوْرًا أَوْ
__________
(1) حديث: " إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام "
أخرجه البخاري (الفتح 4 / 424 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1207 - ط الحلبي)
من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(12/129)
فَرَسًا مِنْ خَزَفٍ لأَِجْل اسْتِئْنَاسِ
الصَّبِيِّ، لاَ يَصِحُّ، وَلاَ قِيمَةَ لَهُ. وَقِيل بِخِلاَفِهِ يَصِحُّ
وَيَضْمَنُ مُتْلِفُهُ، فَلَوْ كَانَتْ مِنْ خَشَبٍ أَوْ صُفْرٍ جَازَ
اتِّفَاقًا فِيمَا يَظْهَرُ، لإِِِمْكَانِ الاِنْتِفَاعِ بِهِ. وَعَنْ
أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ بَيْعُ اللُّعْبَةِ، وَأَنْ يَلْعَبَ بِهَا
الصِّبْيَانُ. (1)
الضَّمَانُ فِي إِتْلاَفِ الصُّوَرِ وَآلاَتِ التَّصْوِيرِ:
73 - الَّذِينَ قَالُوا بِتَحْرِيمِ نَوْعٍ مِنَ الصُّوَرِ مُسْتَعْمَلَةً
عَلَى وَضْعٍ مُعَيَّنٍ، قَالُوا: يَنْبَغِي إِخْرَاجُ الصُّورَةِ إِِلَى
وَضْعٍ لاَ تَكُونُ فِيهِ مُحَرَّمَةً. وَقَدْ بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ
لِنَقْضِ الصُّوَرِ، لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا حَدِيثًا يَنُصُّ عَلَى
ذَلِكَ، بَل ذَكَرَ حَدِيثًا آخَرَ هُوَ قَوْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَتْرُكُ
فِي بَيْتِهِ شَيْئًا فِيهِ تَصَالِيبُ إِلاَّ نَقَضَهُ. وَفِي رِوَايَةٍ:
إِلاَّ قَضَبَهُ (2) وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ قِيَاسَ
__________
(1) شرح الروض وحاشية الرملي 2 / 10 و 3 / 35، 36، 37، وشرح المنهاج وحاشية
القليوبي 2 / 158 و 4 / 321، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 338 و 3
/ 10، وكشاف القناع 1 / 280، والآداب الشرعية 3 / 524، والفتاوى الكبرى
لابن تيمية 22 / 141، 142، والطحطاوي على مراقي الفلاح ص 239، وابن عابدين
على الدر المختار 4 / 214، وتحفة المحتاج 7 / 434.
(2) حديث: " كان لا يترك في بيته شيئا فيه تصاليب إلا نقضه " أخرجه البخاري
(الفتح 10 / 385 - ط السلفية) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(12/129)
نَقْضِ الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَى
نَقْضِ الصُّلْبَانِ؛ لاِشْتِرَاكِهِمَا فِي أَنَّهُمَا عُبِدَا مِنْ دُونِ
اللَّهِ. لَكِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِعَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي شَأْنِ السِّتْرِ الَّذِي عَلَيْهِ
التَّصَاوِيرُ أَخِّرِيهِ عَنِّي وَفِي رِوَايَةٍ " أَنَّهُ هَتَكَهُ "،
أَيْ نَزَعَهُ مِنْ مَكَانِهِ حَتَّى لَمْ يَعُدْ مَنْصُوبًا، وَفِي
حَدِيثِ جِبْرِيل أَنَّهُ أَمَرَ بِصُنْعِ وِسَادَتَيْنِ مِنَ السِّتْرِ
وَهَذَا يَعْنِي أَنَّهُ لاَ يُتْلِفُ مَا فِيهِ الصُّورَةُ إِنْ كَانَ
يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَعْمَل عَلَى وَجْهٍ آخَرَ مُبَاحٍ.
لَكِنْ إِنْ كَانَتَ الصُّورَةُ الْمُحَرَّمَةُ لاَ تَزُول إِلاَّ
بِالإِِْتْلاَفِ وَجَبَ الإِِْتْلاَفُ، وَذَلِكَ لاَ يُتَصَوَّرُ إِلاَّ
نَادِرًا، كَالتِّمْثَال الْمُجَسَّمِ الْمُثَبَّتِ فِي جِدَارٍ أَوْ
نَحْوِهِ الَّذِي إِِذَا أُزِيل مِنْ مَكَانِهِ أَوْ خُرِقَ صَدْرُهُ أَوْ
بَطْنُهُ أَوْ قُطِعَ رَأْسُهُ يَتْلَفُ. وَهَذَا النَّوْعُ لاَ يَضْمَنُ
مُتْلِفُهُ؛ لأَِنَّ الْمَعْصِيَةَ لاَ تَزُول إِلاَّ بِإِِتْلاَفِهِ.
أَمَّا مَنْ أَتْلَفَ الصُّورَةَ الَّتِي يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهَا
عَلَى وَضْعٍ غَيْرِ مُحَرَّمٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَ مَا أَتْلَفَهُ
خَالِيًا عَنْ تِلْكَ الصَّنْعَةِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَى الأَْصْل فِي
ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ.
وَهَذَا مُقْتَضَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالأَْصَحُّ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ، وَظَاهِرُ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ.
وَقِيَاسُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يَجُوزُ الإِِْتْلاَفُ وَلاَ
ضَمَانَ، لِسُقُوطِ حُرْمَةِ الشَّيْءِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ
بِاسْتِعْمَالِهِ فِي الْمُحَرَّمِ، وَفِي رِوَايَةٍ:
(12/130)
يَضْمَنُ (1) .
الْقَطْعُ فِي سَرِقَةِ الصُّوَرِ:
74 - لاَ قَطْعَ فِي سَرِقَةِ الصُّوَرِ الَّتِي لَيْسَ لِمَكْسُورِهَا
قِيمَةٌ، أَوْ لَهُ قِيمَةٌ لاَ تَبْلُغُ نِصَابًا.
أَمَّا فِي غَيْرِ ذَلِكَ، فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْقَوْل
الْمَرْجُوحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
عَلَيْهِ الْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لاَ قَطْعَ فِي سَرِقَةِ آلَةِ اللَّهْوِ؛
لأَِنَّ صَلاَحِيَّتَهُ لِلَّهْوِ صَارَتْ شُبْهَةً مِنْ أَنَّ السَّارِقَ
قَدْ يَقْصِدُ الإِِْنْكَارَ، وَأَنَّ سَرِقَتَهُ لِلشَّيْءِ لِتَأْوِيل
الْكَسْرِ، فَمَنَعَ ذَلِكَ الْقَطْعَ. فَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَال
عِنْدَهُمْ فِي الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ، وَلَوْ كَانَ مَكْسُورُهَا
يَبْلُغُ نِصَابًا. قَال صَاحِبُ الْمُقْنِعِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ
سَرَقَ آنِيَةً فِيهَا الْخَمْرُ أَوْ صَلِيبًا أَوْ صَنَمَ ذَهَبٍ لَمْ
يُقْطَعْ. قَال صَاحِبُ الإِِْنْصَافِ: هَذَا الْمَذْهَبُ وَعَلَيْهِ
جَمَاهِيرُ الأَْصْحَابِ. أَيْ لأَِنَّ الصَّنْعَةَ الْمُحَرَّمَةَ
أُهْدِرَتْ بِسَبَبِهَا حُرْمَةُ الشَّيْءِ فَلَمْ يَعُدْ لِمَكْسُورِهِ
حُرْمَةٌ تَسْتَحِقُّ أَنْ يَثْبُتَ بِسَبَبِهَا الْقَطْعُ. وَسَوَاءٌ
قَصَدَ بِالسَّرِقَةِ الإِِْنْكَارَ أَمْ لَمْ يَقْصِدْهُ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
وُجُوبُ الْقَطْعِ فِيمَا لَوْ كَانَ الْمَكْسُورُ يَبْلُغُ نِصَابًا.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِِلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى
__________
(1) ابن عابدين 3 / 198، 199 و 4 / 214، والمغني 5 / 278، وشرح منتهى
الإرادات 2 / 433: (ر: إتلاف) .
(12/130)
الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ
الْمَسْرُوقَةِ صُوَرٌ فَلاَ يَمْنَعُ ذَلِكَ وُجُوبَ الْقَطْعِ، قَال
الْحَنَفِيَّةُ: لأَِنَّ النُّقُودَ إِنَّمَا تُعَدُّ لِلتَّمَوُّل فَلاَ
يَثْبُتُ فِيهَا تَأْوِيلٌ. لَكِنْ فِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
التَّفْرِيقُ بَيْنَ أَنْ يَقْصِدَ إِنْكَارًا فَلاَ يُقْطَعُ، وَيُقْطَعُ
إِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ (1) . وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
__________
(1) ابن عابدين 3 / 199، والدسوقي على الشرح الكبير 4 / 336، والإنصاف 10 /
261.
(12/131)
تَضْبِيبٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّضْبِيبُ وَالضَّبُّ فِي اللُّغَةِ: تَغْطِيَةُ الشَّيْءِ
وَإِِدْخَال بَعْضِهِ فِي بَعْضٍ وَقِيل: هُوَ شِدَّةُ الْقَبْضِ عَلَى
الشَّيْءِ، لِئَلاَّ يَنْفَلِتَ مِنَ الْيَدِ. وَيُقَال: ضَبَّبَ الْخَشَبَ
بِالْحَدِيدِ أَوِ الصُّفْرِ: إِِذَا شَدَّهُ بِهِ، وَضَبَّبَ أَسْنَانَهُ
شَدَّهَا بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا.
وَالضَّبَّةُ: حَدِيدَةٌ عَرِيضَةٌ يُضَبَّبُ بِهَا الْبَابُ وَيُشَعَّبُ
بِهَا الإِِْنَاءُ عِنْدَ التَّصَدُّعِ
وَالاِصْطِلاَحُ الشَّرْعِيُّ لِلتَّضْبِيبِ لاَ يَخْتَلِفُ عَنِ
الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ فِي شَيْءٍ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - الْجَبْرُ: مِنْ مَعَانِيهِ أَنْ يُغْنَى الرَّجُل مِنْ فَقْرٍ، أَوْ
يُصْلِحَ عَظْمَهُ مِنْ كَسْرٍ.
3 - الْوَصْل: مِنْ وَصَل الثَّوْبَ أَوْ j
الْخُفَّ وَصْلَةً.
4 - التَّشْعِيبُ: وَهُوَ جَمْعُ الشَّيْءِ وَضَمُّ بَعْضِهِ إِِلَى
بَعْضٍ، أَوْ تَفْرِيقُهُ، فَهُوَ مِنَ الأَْضْدَادِ (2) .
__________
(1) متن اللغة، والصحاح - مادة: " ضبب "، وحاشية ابن عابدين 5 / 219.
(2) مختار الصحاح: المواد: " جبر، وصل، وشعب ".
(12/131)
5 - التَّطْعِيمُ: مَصْدَرُ طَعَّمَ،
وَأَصْلُهُ طَعَّمَ، يُقَال: طَعَّمَ الْغُصْنَ أَوِ الْفَرْعَ: قَبْل
الْوَصْل بِغُصْنٍ مِنْ غَيْرِ شَجَرِهِ وَطَعَّمَ كَذَا بِعُنْصُرِ كَذَا
لِتَقْوِيَتِهِ أَوْ تَحْسِينِهِ، أَوِ اشْتِقَاقِ نَوْعٍ آخَرَ مِنْهُ.
وَطَعَّمَ الْخَشَبَ بِالصَّدَفِ رَكَّبَهُ فِيهِ لِلزَّخْرَفَةِ
وَالزِّينَةِ (1) .
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ: أَنْ يَحْفِرَ فِي إِنَاءٍ مِنْ خَشَبٍ أَوْ
غَيْرِهِ حُفَرًا، وَيَضَعُ فِيهَا قِطَعًا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ
وَنَحْوِهِمَا عَلَى قَدْرِ الْحُفَرِ. فَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّضْبِيبِ
وَالتَّطْعِيمِ: أَنَّ التَّضْبِيبَ يَكُونُ لِلإِِْصْلاَحِ، أَمَّا
التَّطْعِيمُ فَلاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالْحَفْرِ، وَهُوَ لِلزِّينَةِ
غَالِبًا (2) .
6 - التَّمْوِيهُ: هُوَ الطِّلاَءُ بِمَاءِ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ
وَنَحْوِهِمَا (3) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
7 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّضْبِيبُ
وَاسْتِعْمَال الْمُضَبَّبِ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ؛ لأَِنَّهُ تَابِعٌ
لِلْمُبَاحِ، وَهُوَ بَاقِي الإِِْنَاءِ، فَأَشْبَهَ الْمُضَبَّبَ
بِالْيَسِيرِ. وَلَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ عِنْدَهُمْ. وَلَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ
يُجْتَنَبَ فِي النَّصْل وَالْقَبْضَةِ وَاللِّجَامِ مَوْضِعِ الْيَدِ.
__________
(1) لسان العرب، والمعجم الوسيط.
(2) كشاف القناع 1 / 52.
(3) لسان العرب والمصباح وابن عابدين 5 / 219، ونهاية المحتاج 1 / 91.
(12/132)
وَفِي الشُّرْبِ مِنَ الإِِْنَاءِ
الْمُضَبَّبِ يُتَّقَى مَسُّ الضَّبَّةِ بِالْفَمِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْمُرَادُ بِالاِتِّقَاءِ: الاِتِّقَاءُ
بِالْعُضْوِ الَّذِي يُقْصَدُ الاِسْتِعْمَال بِهِ، وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ
بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ. يُنْظَرُ فِي الْمُطَوَّلاَتِ (1) .
وَسَيَأْتِي تَفْصِيل أَحْكَامِ التَّضْبِيبِ فِي مُصْطَلَحَيْ (ذَهَبٌ،
فِضَّةٌ، آنِيَةٌ) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَقَدْ ذَهَبُوا - فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ -
إِِلَى حُرْمَةِ ذَلِكَ كُلِّهِ، يَسْتَوِي عِنْدَهُمُ: الْفِضَّةُ
وَالذَّهَبُ، وَالصَّغِيرَةُ وَالْكَبِيرَةُ، لِحَاجَةٍ أَوْ لِغَيْرِ
حَاجَةٍ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّ تَضْبِيبَ
الإِِْنَاءِ بِذَهَبٍ حَرَامٌ مُطْلَقًا، وَتَضْبِيبُهُ بِضَبَّةٍ
كَبِيرَةٍ عُرْفًا مِنَ الْفِضَّةِ - لِغَيْرِ حَاجَةٍ بِأَنْ كَانَتْ
لِزِينَةٍ - حَرَامٌ كَذَلِكَ. فَإِِنْ كَانَتِ الضَّبَّةُ الْفِضِّيَّةُ
صَغِيرَةً لِحَاجَةِ الإِِْنَاءِ إِِلَى الإِِْصْلاَحِ لَمْ تُكْرَهْ،
لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ قَدَحَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْكَسَرَ فَاتَّخَذَ مَكَانَ الشِّعَبِ سَلْسَلَةً
مِنْ فِضَّةٍ (3) .
وَإِِنْ كَانَتِ الضَّبَّةُ فَوْقَ الْحَاجَةِ - وَهِيَ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 219.
(2) شرح الزرقاني 1 / 37، ومواهب الجليل 1 / 129، والدسوقي 1 / 64.
(3) حديث: " أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم انكسر، فاتخذ مكان الشعب
سلسلة من فضة ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 212 - ط السلفية) من حديث أنس بن
مالك رضي الله عنه.
(12/132)
صَغِيرَةٌ، أَوْ كَبِيرَةٌ لِحَاجَةٍ -
كُرِهَتْ فِي الأَْصَحِّ (1) . وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ أَتَمُّ يُنْظَرُ
فِي مُصْطَلَحِ (ذَهَبٌ - فِضَّةٌ - آنِيَةٌ) .
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 27، والمغني لابن قدامة 1 / 77.
(12/133)
تَضْمِيرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّضْمِيرُ لُغَةً: مِنَ الضُّمْرِ بِسُكُونِ الْمِيمِ وَالضُّمُرُ
(بِضَمِّهَا) بِمَعْنَى: الْهُزَال وَلَحَاقُ الْبَطْنِ (1) . وَهُوَ: أَنْ
تُعْلَفَ الْخَيْل حَتَّى تَسْمَنَ وَتَقْوَى، ثُمَّ يُقَلَّل عَلَفُهَا،
فَتُعْلَفُ بِقَدْرِ الْقُوتِ، وَتُدْخَل بَيْتًا وَتُغَّشَى بِالْجِلاَل
حَتَّى تُحْمَى فَتَعْرَقُ، فَإِِذَا جَفَّ عَرَقُهَا، خَفَّ لَحْمُهَا،
وَقَوِيَتْ عَلَى الْجَرْيِ (2) .
وَمُدَّةُ التَّضْمِيرِ عِنْدَ الْعَرَبِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا، وَتُسَمَّى
هَذِهِ الْمُدَّةُ، وَكَذَلِكَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تُضَمَّرُ فِيهِ
الْخَيْل مِضْمَارًا (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - السِّبَاقُ:
2 - السِّبَاقُ وَالْمُسَابَقَةُ بِمَعْنًى. يُقَال: سَابَقَهُ مُسَابَقَةً
وَسِبَاقًا. وَالسِّبَاقُ مَأْخُوذٌ مِنَ السَّبْقِ
__________
(1) لسان العرب المحيط مادة: " ضمر ".
(2) عمدة القاري 6 / 610، 611، وفتح الباري لابن حجر 6 / 71، 72.
(3) الصحاح في اللغة، ولسان العرب المحيط.
(12/133)
بِسُكُونِ الْبَاءِ، بِمَعْنَى:
التَّقَدُّمُ فِي الْجَرْيِ وَفِي كُل شَيْءٍ وَأَمَّا السَّبَقُ
بِالْفَتْحِ فَمَعْنَاهُ: الْجُعْل الَّذِي يُسَابَقُ عَلَيْهِ (1) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّضْمِيرِ: أَنَّ عَمَلِيَّةَ
التَّضْمِيرِ تُتَّخَذُ فِي بَعْضِ الأَْحْيَانِ لأَِجْل إِحْرَازِ
التَّقَدُّمِ فِي السِّبَاقِ.
حُكْمُهُ الإِِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِبَاحَةَ تَضْمِيرِ الْخَيْل مُطْلَقًا،
وَاسْتِحْبَابَ تَضْمِيرِهَا إِِذَا كَانَتْ مُعَدَّةً لِلْغَزْوِ (2) .
وَوَرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا:
حَدِيثُ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا
قَال: سَابَقَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ
الْخَيْل الَّتِي قَدْ ضُمِّرَتْ فَأَرْسَلَهَا مِنَ الْحَفْيَاءِ، وَكَانَ
أَمَدُهَا ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ. فَقُلْتُ لِمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ: فَكَمْ
كَانَ بَيْنَ ذَلِكَ؟ قَال سِتَّةُ أَمْيَالٍ أَوْ سَبْعَةٌ. وَسَابَقَ
بَيْنَ الْخَيْل الَّتِي لَمْ تُضَمَّرْ، فَأَرْسَلَهَا مِنْ ثَنِيَّةِ
الْوَدَاعِ، وَكَانَ أَمَدُهَا مَسْجِدَ بَنِي زُرَيْقٍ. قُلْتُ: فَكَمْ
بَيْنَ ذَلِكَ؟ قَال: مِيلٌ أَوْ نَحْوُهُ. فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ مِمَّنْ
__________
(1) القليوبي وعميرة 4 / 264، ولسان العرب المحيط مادة: " ضمر ".
(2) القليوبي وعميرة 4 / 264، 265، والمغني 8 / 659، وعمدة القاري 6 / 610
و 611، وفتح الباري لابن حجر 6 / 71، 72، ونيل الأوطار 8 / 79، وسبل السلام
4 / 70.
(12/134)
سَابَقَ فِيهَا. (1)
وَبِهَذَا الْحَدِيثِ وَنَحْوِهِ يَنْدَفِعُ قَوْل مَنْ قَال: إِنَّ
تَضْمِيرَ الْخَيْل لاَ يَجُوزُ، لِمَا فِيهِ مِنْ مَشَقَّةِ سَوْقِهَا (2)
.
وَأَمَّا اشْتِرَاطُ تَضْمِيرِ الْخَيْل لِلسَّبْقِ، وَجَوَازُ السِّبَاقِ
بَيْنَ الْخَيْل الْمُضَمَّرَةِ وَغَيْرِ الْمُضَمَّرَةِ، وَالْمُغَايَرَةِ
بَيْنَ غَايَةِ السِّبَاقِ لِلْخَيْل الْمُضَمَّرَةِ وَغَيْرِهَا، فَفِيهَا
خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِِلَى مُصْطَلَحِ (سِبَاقٌ) وَإِِلَى
مَوَاطِنِهَا مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ (3) .
__________
(1) حديث: " سابق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الخيل التي قد ضمرت. .
. " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 71 - ط السلفية) .
(2) نيل الأوطار 8 / 79.
(3) ابن عابدين 5 / 259، والقليوبي وعميرة 4 / 166، والمغني 6 / 659، وعمدة
القاري 6 / 610، 611، وفتح الباري لابن حجر 6 / 71، 72، 73.
(12/134)
تَطْبِيبٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - لِلتَّطْبِيبِ فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ، مِنْهَا وَهُوَ الْمُرَادُ
هُنَا: أَنَّهُ الْمُدَاوَاةُ.
يُقَال: طَبَّبَ فُلاَنٌ فُلاَنًا: أَيْ دَاوَاهُ. وَجَاءَ يَسْتَطِبُّ
لِوَجَعِهِ: أَيْ يَسْتَوْصِفُ الأَْدْوِيَةَ أَيُّهَا يَصْلُحُ لِدَائِهِ.
وَالطِّبُّ: عِلاَجُ الْجِسْمِ وَالنَّفْسِ، وَرَجُلٌ طَبٌّ وَطَبِيبٌ:
عَالِمٌ بِالطِّبِّ.
وَالطَّبُّ. وَالطُّبُّ: لُغَتَانِ فِي الطِّبِّ. وَتَطَبَّبَ لَهُ: سَأَل
لَهُ الأَْطِبَّاءَ.
وَالطَّبِيبُ فِي الأَْصْل: الْحَاذِقُ بِالأُْمُورِ الْعَارِفُ بِهَا،
وَبِهِ سُمِّيَ الطَّبِيبُ الَّذِي يُعَالِجُ الْمَرْضَى وَنَحْوَهُمْ (1)
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّدَاوِي:
2 - التَّدَاوِي: تَعَاطِي الدَّوَاءِ، وَمِنْهُ الْمُدَاوَاةُ أَيِ
__________
(1) الصحاح ولسان العرب، والمصباح المنير مادة: " طبب ".
(12/135)
الْمُعَالَجَةُ: يُقَال: فُلاَنٌ يُدَاوَى:
أَيْ يُعَالَجُ (1) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّطْبِيبِ وَالتَّدَاوِي: أَنَّ التَّطْبِيبَ
تَشْخِيصُ الدَّاءِ وَمُدَاوَاةُ الْمَرِيضِ، وَالتَّدَاوِي تَعَاطِي
الدَّوَاءِ.
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - التَّطْبِيبُ تَعَلُّمًا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، فَيَجِبُ أَنْ
يَتَوَفَّرَ فِي بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْرِفُ أُصُول حِرْفَةِ
الطِّبِّ، وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (احْتِرَافٌ) .
أَمَّا التَّطْبِيبُ مُزَاوَلَةً فَالأَْصْل فِيهِ الإِِْبَاحَةُ. وَقَدْ
يَصِيرُ مَنْدُوبًا إِِذَا اقْتَرَنَ بِنِيَّةِ التَّأَسِّي بِالنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَوْجِيهِهِ لِتَطْبِيبِ النَّاسِ،
أَوْ نَوَى نَفْعَ الْمُسْلِمِينَ لِدُخُولِهِ فِي مِثْل قَوْله تَعَالَى:
{وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} (2)
وَحَدِيثُ: مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ
فَلْيَنْفَعْهُ. (3)
إِلاَّ إِِذَا تَعَيَّنَ شَخْصٌ لِعَدَمِ وُجُودِ غَيْرِهِ أَوْ تَعَاقَدَ
فَتَكُونُ مُزَاوَلَتُهُ وَاجِبَةً (4) .
وَيَدُل لِذَلِكَ مَا رَوَى رَجُلٌ مِنَ الأَْنْصَارِ قَال: عَادَ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلاً بِهِ جُرْحٌ، فَقَال
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْعُوا لَهُ طَبِيبَ
بَنِي فُلاَنٍ. قَال:
__________
(1) لسان العرب، والصحاح مادة: " دوي ".
(2) سورة المائدة / 32.
(3) حديث: " من استطاع منكم أن ينفع. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1726 - ط
الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(4) الموسوعة الفقهية بالكويت 2 / 72، والآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 359 -
360.
(12/135)
فَدَعَوْهُ فَجَاءَ، فَقَالُوا: يَا رَسُول
اللَّهِ، وَيُغْنِي الدَّوَاءُ شَيْئًا؟ فَقَال: سُبْحَانَ اللَّهِ. وَهَل
أَنْزَل اللَّهُ مِنْ دَاءٍ فِي الأَْرْضِ إِلاَّ جَعَل لَهُ شِفَاءً. (1)
وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرُّقَى. فَجَاءَ آل عَمْرِو بْنِ
حَزْمٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنَّهُ كَانَتْ عِنْدَنَا
رُقْيَةٌ نَرْقِي بِهَا مِنَ الْعَقْرَبِ، وَإِِنَّكَ نَهَيْتَ عَنِ
الرُّقَى. قَال: فَعَرَضُوهَا عَلَيْهِ. فَقَال: مَا أَرَى بِهَا بَأْسًا،
مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعْهُ. (2)
وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ
يَكُنْ فِيهَا شِرْكٌ. (3)
وَلِمَا ثَبَتَ مِنْ فِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ تَدَاوَى، فَقَدْ رَوَى الإِِْمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ أَنَّ
عُرْوَةَ كَانَ يَقُول لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: يَا
أُمَّتَاهُ، لاَ أَعْجَبُ مِنْ فَهْمِكِ. أَقُول: زَوْجَةُ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ. وَلاَ أَعْجَبُ
مِنْ عِلْمِكِ بِالشِّعْرِ وَأَيَّامِ النَّاسِ، أَقُول: ابْنَةُ أَبِي
بَكْرٍ، وَكَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ أَوْ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ. وَلَكِنْ
أَعْجَبُ مِنْ عِلْمِكِ بِالطِّبِّ، كَيْفَ هُوَ؟ وَمِنْ أَيْنَ هُوَ؟ قَال
فَضَرَبَتْ
__________
(1) حديث: " عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا. . . " أخرجه أحمد (5 /
37 - ط الميمنية) وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح (المجمع 5 / 84 - ط
القدسي) .
(2) حديث: " من استطاع منكم أن ينفع. . . . " تقدم تخريجه ف / 3.
(3) حديث: " لا بأس بالرقى ما لم. . . " أخرجه مسلم (3 / 1727 - ط الحلبي)
من حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه.
(12/136)
عَلَى مَنْكِبِهِ وَقَالَتْ: " أَيْ
عُرَيَّةُ؟ إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
يَسْقَمُ عِنْدَ آخِرِ عُمْرِهِ، أَوْ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، فَكَانَتْ
تَقْدَمُ عَلَيْهِ وُفُودُ الْعَرَبِ مِنْ كُل وَجْهٍ، فَتَنْعَتُ لَهُ
الأَْنْعَاتَ، وَكُنْتُ أُعَالِجُهَا، فَمِنْ ثَمَّ ". وَفِي رِوَايَةٍ
أَنَّ رَسُول اللَّهِ كَثُرَتْ أَسَقَامُهُ، فَكَانَ يَقْدَمُ عَلَيْهِ
أَطِبَّاءُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، فَيَصِفُونَ لَهُ فَنُعَالِجُهُ. (1)
وَقَال الرَّبِيعُ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُول: الْعِلْمُ عِلْمَانِ:
عِلْمُ الأَْدْيَانِ وَعِلْمُ الأَْبْدَانِ (2) .
نَظَرُ الطَّبِيبِ إِِلَى الْعَوْرَةِ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ نَظَرِ الطَّبِيبِ إِِلَى
الْعَوْرَةِ وَلَمْسِهَا لِلتَّدَاوِي. وَيَكُونُ نَظَرُهُ إِِلَى مَوْضِعِ
الْمَرَضِ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ. إِذِ الضَّرُورَاتُ تُقَدَّمُ
بِقَدْرِهَا. فَلاَ يَكْشِفُ إِلاَّ مَوْضِعَ الْحَاجَةِ، مَعَ غَضِّ
بَصَرِهِ مَا اسْتَطَاعَ إِلاَّ عَنْ مَوْضِعِ الدَّاءِ. وَيَنْبَغِي قَبْل
ذَلِكَ أَنْ يُعَلِّمَ امْرَأَةً تَدَاوِي النِّسَاءَ، لأَِنَّ نَظَرَ
الْجِنْسِ إِِلَى الْجِنْسِ أَخَفُّ.
__________
(1) حديث: " إن عروة كان يقول لعائشة. . . " أخرجه أحمد (6 / 67 - ط
الميمنية) وقال الهيثمي في المجمع (9 / 242 - ط القدسي) : فيه عبد الله بن
معاوية الزبيري، قال أبو حاتم: مستقيم الحديث، وفيه ضعف.
(2) الفواكه الدواني 2 / 439، وروضة الطالبين 2 / 96، والإقناع للشربيني
الخطيب 1 / 193، والمغني لابن قدامة 5 / 539، وزاد المعاد 3 / 66 وما بعدها
ط مصطفى الحلبي، والآداب الشرعية 2 / 310 وما بعدها، وتحفة الأحوذي 6 / 190
ط الفجالة الجديدة.
(12/136)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
إِِلَى: أَنَّهُ إِِذَا كَانَ الطَّبِيبُ أَجْنَبِيًّا عَنِ الْمَرِيضَةِ
فَلاَ بُدَّ مِنْ حُضُورِ مَا يُؤْمَنُ مَعَهُ وُقُوعُ مَحْظُورٍ. لِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلاَ لاَ يَخْلُوَنَّ
رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ. (1)
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ عَدَمَ وُجُودِ امْرَأَةٍ تُحْسِنُ
التَّطْبِيبَ إِِذَا كَانَ الْمَرِيضُ امْرَأَةً، وَلَوْ كَانَتِ
الْمَرْأَةُ الْمُدَاوِيَةُ كَافِرَةً، وَعُدِمَ وُجُودُ رَجُلٍ يُحْسِنُ
ذَلِكَ إِِذَا كَانَ الْمَرِيضُ رَجُلاً.
كَمَا شَرَطُوا أَنْ لاَ يَكُونَ غَيْرَ أَمِينٍ مَعَ وُجُودِ أَمِينٍ،
وَلاَ ذِمِّيًّا مَعَ وُجُودِ مُسْلِمٍ، أَوْ ذِمِّيَّةً مَعَ وُجُودِ
مُسْلِمَةٍ.
قَال الْبُلْقِينِيُّ: يُقَدَّمُ فِي عِلاَجِ الْمَرْأَةِ مُسْلِمَةٌ،
فَصَبِيٌّ مُسْلِمٌ غَيْرُ مُرَاهِقٍ، فَمُرَاهِقٌ، فَكَافِرٌ غَيْرُ
مُرَاهِقٍ، فَمُرَاهِقٌ، فَامْرَأَةٌ كَافِرَةٌ، فَمَحْرَمٌ مُسْلِمٌ،
فَمَحْرَمٌ كَافِرٌ، فَأَجْنَبِيٌّ مُسْلِمٌ، فَكَافِرٌ.
وَاعْتَرَضَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْثَمِيُّ عَلَى تَقْدِيمِ الْكَافِرَةِ
عَلَى الْمَحْرَمِ. وَقَال: وَالَّذِي يُتَّجَهُ تَقْدِيمُ نَحْوِ مَحْرَمٍ
مُطْلَقًا عَلَى كَافِرَةٍ، لِنَظَرِهِ مَا لاَ تَنْظُرُ هِيَ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ كَذَلِكَ عَلَى تَقْدِيمِ الأَْمْهَرِ مُطْلَقًا
وَلَوْ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ وَالدِّينِ عَلَى غَيْرِهِ.
__________
(1) حديث: " ألا لا يخلون. . . " أخرجه الترمذي (4 / 466 - ط الحلبي)
والحاكم (1 / 113، 115) وصححه ووافقه الذهبي.
(12/137)
وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ إِنْ وُجِدَ مَنْ
لاَ يَرْضَى إِلاَّ بِأَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْل فَإِِنَّهُ يَكُونُ
كَالْعَدَمِ حِينَئِذٍ حَتَّى لَوْ وُجِدَ كَافِرٌ يَرْضَى بِدُونِهَا
وَمُسْلِمٌ لاَ يَرْضَى إِلاَّ بِهَا احْتَمَل أَنَّ الْمُسْلِمَ
كَالْعَدَمِ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ النَّظَرُ إِِلَى فَرْجِ
الْمَرْأَةِ إِلاَّ إِِذَا كَانَ لاَ يُتَوَصَّل إِِلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ
إِلاَّ بِرُؤْيَتِهِ بِنَفْسِهِ. أَمَّا لَوْ كَانَ الطَّبِيبُ يَكْتَفِي
بِرُؤْيَةِ النِّسَاءِ لِفَرْجِ الْمَرِيضَةِ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ
إِلَيْهِ. (1)
اسْتِئْجَارُ الطَّبِيبِ لِلْعِلاَجِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ اسْتِئْجَارِ الطَّبِيبِ
لِلْعِلاَجِ؛ لأَِنَّهُ فِعْلٌ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ وَمَأْذُونٌ فِيهِ
شَرْعًا، فَجَازَ الاِسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الأَْفْعَال
الْمُبَاحَةِ. غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ شَرَطُوا لِصِحَّةِ هَذَا
الْعَقْدِ أَنْ يَكُونَ الطَّبِيبُ مَاهِرًا، بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ
خَطَؤُهُ نَادِرًا، وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ التَّجْرِبَةُ عِنْدَهُمْ،
وَإِِنْ لَمْ يَكُنْ مَاهِرًا فِي الْعِلْمِ.
وَاسْتِئْجَارُ الطَّبِيبِ يُقَدَّرُ بِالْمُدَّةِ لاَ بِالْبُرْءِ
وَالْعَمَل، فَإِِنْ تَمَّتِ الْمُدَّةُ وَبَرِئَ الْمَرِيضُ أَوْ لَمْ
يَبْرَأْ فَلَهُ الأُْجْرَةُ كُلُّهَا. وَإِِنْ بَرِئَ قَبْل تَمَامِ
الْمُدَّةِ انْفَسَخَتِ الإِِْجَارَةُ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ
لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ
مَاتَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 161، 5 / 237، والفواكه الدواني 2 / 366، 367،
وحواشي الشرواني وابن القاسم على تحفة المحتاج 7 / 202، 203، وكشاف القناع
5 / 13.
(12/137)
الْمَرِيضُ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ.
وَقَدْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ اشْتِرَاطُ
الدَّوَاءِ عَلَى الطَّبِيبِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِمَا
فِيهِ مِنِ اجْتِمَاعِ الْجُعْل وَالْبَيْعِ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
قَوْلٌ آخَرُ بِالْجَوَازِ.
وَالطَّبِيبُ يَسْتَحِقُّ الأُْجْرَةَ بِتَسْلِيمِهِ نَفْسَهُ مَعَ مُضِيِّ
زَمَنِ إِمْكَانِ الْمُدَاوَاةِ، فَإِِنْ امْتَنَعَ الْمَرِيضُ مِنَ
الْعِلاَجِ مَعَ بَقَاءِ الْمَرَضِ اسْتَحَقَّ الطَّبِيبُ الأَْجْرَ، مَا
دَامَ قَدْ سَلَّمَ نَفْسَهُ، وَمَضَى زَمَنُ الْمُدَاوَاةِ؛ لأَِنَّ
الإِِْجَارَةَ عَقْدٌ لاَزِمٌ وَقَدْ بَذَل الطَّبِيبُ مَا عَلَيْهِ.
وَأَمَّا إِِذَا سَلَّمَ الطَّبِيبُ نَفْسَهُ وَقَبْل مُضِيِّ زَمَنِ
إِمْكَانِ الْمُدَاوَاةِ سَكَنَ الْمَرَضُ، فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ
(الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ
الشَّافِعِيَّةِ) مُتَّفِقُونَ عَلَى انْفِسَاخِ الإِِْجَارَةِ حِينَئِذٍ
(1) .
6 - وَلاَ تَجُوزُ مُشَارَطَةُ الطَّبِيبِ عَلَى الْبُرْءِ. وَنَقَل ابْنُ
قُدَامَةَ عَنِ ابْنِ أَبِي مُوسَى الْجَوَازَ، إِذْ قَال: لاَ بَأْسَ
بِمُشَارَطَةِ الطَّبِيبِ عَلَى الْبُرْءِ، لأَِنَّ أَبَا سَعِيدٍ
الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ رَقَى الرَّجُل شَارَطَهُ عَلَى
الْبُرْءِ. وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِنَّهُ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ، لَكِنْ يَكُونُ جَعَالَةً لاَ إِجَارَةً، فَإِِنَّ الإِِْجَارَةَ
لاَ بُدَّ فِيهَا مِنْ مُدَّةٍ أَوْ عَمَلٍ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 50، وحاشية الدسوقي 4 / 30، والفواكه الدواني 2 /
165، وقليوبي وعميرة 3 / 70، 78، وشرح روض الطالب 2 / 413، وكشاف القناع 4
/ 14، والمغني 5 / 539، 542، 543.
(12/138)
مَعْلُومٍ.
وَأَجَازَ ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا، فَفِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ:
لَوْ شَارَطَهُ طَبِيبٌ عَلَى الْبُرْءِ فَلاَ يَسْتَحِقُّ الأُْجْرَةَ
إِلاَّ بِحُصُولِهِ. وَسَبَقَ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِجَارَةٌ)
. (1)
وَإِِذَا زَال الأَْلَمُ وَشُفِيَ الْمَرِيضُ قَبْل مُبَاشَرَةِ الطَّبِيبِ
كَانَ عُذْرًا تَنْفَسِخُ بِهِ الإِِْجَارَةُ.
يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: إِِذَا سَكَنَ الضِّرْسُ الَّذِي اسْتُؤْجِرَ
الطَّبِيبُ لِخَلْعِهِ، فَهَذَا عُذْرٌ تَنْفَسِخُ بِهِ الإِِْجَارَةُ،
وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ، حَتَّى مَنْ لَمْ يَعْتَبِرِ
الْعُذْرَ مُوجِبًا لِلْفَسْخِ، فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ مَنِ اسْتَأْجَرَ رَجُلاً لِيَقْلَعَ لَهُ
ضِرْسًا فَسَكَنَ الْوَجَعُ، أَوْ لِيُكَحِّل لَهُ عَيْنًا فَبَرِئَتْ
قَبْل أَنْ يَقُومَ بِالْعَمَل، انْفَسَخَ الْعَقْدُ لِتَعَذُّرِ
اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ (2) .
ضَمَانُ الطَّبِيبِ لِمَا يُتْلِفُهُ:
7 - يَضْمَنُ الطَّبِيبُ إِنْ جَهِل قَوَاعِدَ الطِّبِّ أَوْ
__________
(1) الموسوعة الفقهية بالكويت 1 / 299.
(2) ابن عابدين 5 / 33، 50، والاختيار شرح المختار 1 / 225، 227 ط مصطفى
الحلبي 1335 هـ 1936 م، والفتاوى الهندية 4 / 499، والشرح الصغير 4 / 47،
والشرح الكبير 3 / 461، وجواهر الإكليل 2 / 153، ومنهاج الطاليين وحاشية
قليوبي عليه 3 / 70، 78، وأسنى المطالب 2 / 413 المكتب الإسلامي، والمهذب
في فقه الإمام الشافعي 1 / 406، والمغني لابن قدامة 5 / 539، 541 - 543،
وتنظر الموسوعة الفقهية 1 / 300 - 301.
(12/138)
كَانَ غَيْرَ حَاذِقٍ فِيهَا، فَدَاوَى
مَرِيضًا وَأَتْلَفَهُ بِمُدَاوَاتِهِ، أَوْ أَحْدَثَ بِهِ عَيْبًا. أَوْ
عُلِّمَ قَوَاعِدَ التَّطْبِيبِ وَقَصَّرَ فِي تَطْبِيبِهِ، فَسَرَى
التَّلَفُ أَوِ التَّعْيِيبُ. أَوْ عُلِّمَ قَوَاعِدَ التَّطْبِيبِ وَلَمْ
يُقَصِّرْ وَلَكِنَّهُ طَبَّبَ الْمَرِيضَ بِلاَ إِذْنٍ مِنْهُ. كَمَا لَوْ
خَتَنَ صَغِيرًا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ، أَوْ كَبِيرًا قَهْرًا عَنْهُ،
أَوْ وَهُوَ نَائِمٌ، أَوْ أَطْعَمَ مَرِيضًا دَوَاءً قَهْرًا عَنْهُ
فَنَشَأَ عَنْ ذَلِكَ تَلَفٌ وَعَيْبٌ، أَوْ طَبَّبَ بِإِِذْنٍ غَيْرِ
مُعْتَبَرٍ لِكَوْنِهِ مِنْ صَبِيٍّ، إِِذَا كَانَ الإِِْذْنُ فِي قَطْعِ
يَدٍ مَثَلاً، أَوْ بِعَضُدٍ أَوْ حِجَامَةٍ أَوْ خِتَانٍ، فَأَدَّى إِِلَى
تَلَفٍ أَوْ عَيْبٍ، فَإِِنَّهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ يَضْمَنُ مَا تَرَتَّبَ
عَلَيْهِ (1) .
أَمَّا إِِذَا أُذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ الإِِْذْنُ مُعْتَبَرًا،
وَكَانَ حَاذِقًا، وَلَمْ تَجْنِ يَدُهُ، وَلَمْ يَتَجَاوَزْ مَا أُذِنَ
فِيهِ، وَسَرَى إِلَيْهِ التَّلَفُ فَإِِنَّهُ لاَ يَضْمَنُ؛ لأَِنَّهُ
فَعَل فِعْلاً مُبَاحًا مَأْذُونًا فِيهِ (2) . وَلأَِنَّ مَا يَتْلَفُ
بِالسِّرَايَةِ إِنْ كَانَ بِسَبَبٍ مَأْذُونٍ فِيهِ - دُونَ جَهْلٍ أَوْ
تَقْصِيرٍ - فَلاَ ضَمَانَ. وَعَلَى هَذَا فَلاَ ضَمَانَ عَلَى طَبِيبٍ
وَبَزَّاغٍ (جَرَّاحٍ) وَحَجَّامٍ وَخَتَّانٍ مَا دَامَ قَدْ أُذِنَ لَهُمْ
بِهَذَا وَلَمْ يُقَصِّرُوا، وَلَمْ يُجَاوِزُوا الْمَوْضِعَ
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 296، والشرح الكبير 4 / 355، وأسنى المطالب 2 / 427
المكتبة الإسلامية، والمغني لابن قدامة 5 / 538 م الرياض الحديثة.
(2) منار السبيل في شرح الدليل 1 / 422، ط المكتب الإسلامي، ونيل المآرب
بشرح دليل الطالب 1 / 164 م الفلاح.
(12/139)
الْمُعْتَادَ، وَإِِلاَّ لَزِمَ الضَّمَانُ
(1) .
يَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: إِِذَا فَعَل الْحَجَّامُ وَالْخَتَّانُ
وَالْمُطَبِّبُ مَا أُمِرُوا بِهِ، لَمْ يَضْمَنُوا بِشَرْطَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونُوا ذَوِي حِذْقٍ فِي صِنَاعَتِهِمْ، فَإِِذَا
لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ كَانَ فِعْلاً مُحَرَّمًا، فَيَضْمَنُ
سِرَايَتَهُ.
الثَّانِي: أَلاَّ يَتَجَاوَزَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْطَعَ، فَإِِنْ كَانَ
حَاذِقًا وَتَجَاوَزَ، أَوْ قَطَعَ فِي غَيْرِ مَحَل الْقَطْعِ، أَوْ فِي
وَقْتٍ لاَ يَصْلُحُ فِيهِ الْقَطْعُ وَأَشْبَاهِ هَذَا، ضَمِنَ فِيهِ
كُلَّهُ؛ لأَِنَّهُ إِتْلاَفٌ لاَ يَخْتَلِفُ ضَمَانُهُ بِالْعَمْدِ
وَالْخَطَأِ، فَأَشْبَهَ إِتْلاَفَ الْمَال.
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْقَاطِعِ فِي الْقِصَاصِ وَقَاطِعِ يَدِ
السَّارِقِ. ثُمَّ قَال: لاَ نَعْلَمُ فِيهِ خِلاَفًا (2) .
قَال الدُّسُوقِيُّ: إِِذَا خَتَنَ الْخَاتِنُ صَبِيًّا، أَوْ سَقَى
الطَّبِيبُ مَرِيضًا دَوَاءً، أَوْ قَطَعَ لَهُ شَيْئًا، أَوْ كَوَاهُ
فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا لاَ فِي
مَالِهِ وَلاَ عَلَى عَاقِلَتِهِ؛ لأَِنَّهُ مِمَّا فِيهِ تَغْرِيرٌ،
فَكَأَنَّ صَاحِبَهُ هُوَ الَّذِي عَرَّضَهُ لِمَا أَصَابَهُ. وَهَذَا
__________
(1) ابن عابدين 5 / 43، والاختيار شرح المختار 1 / 226 ط مصطفى الحلبي
1936، والتاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 6 / 320، والشرح الصغير 4 / 505،
ونهاية المحتاج 7 / 291، وقليوبي وعميرة 4 / 110، والمغني مع الشرح الكبير
6 / 120.
(2) المغني لابن قدامة 5 / 538 م الرياض الحديثة، والموسوعة الفقهية 1 /
228 (إتلاف) ، 1 / 299 - 300 (إجارة) .
(12/139)
إِِذَا كَانَ الْخَاتِنُ أَوِ الطَّبِيبُ
مِنْ أَهْل الْمَعْرِفَةِ، وَلَمْ يُخْطِئْ فِي فِعْلِهِ. فَإِِذَا كَانَ
أَخْطَأَ فِي فِعْلِهِ - وَالْحَال أَنَّهُ مِنْ أَهْل الْمَعْرِفَةِ -
فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ.
فَإِِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْل الْمَعْرِفَةِ عُوقِبَ وَفِي كَوْنِ
الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ أَوْ فِي مَالِهِ قَوْلاَنِ:
الأَْوَّل: لاِبْنِ الْقَاسِمِ.
وَالثَّانِي: لِمَالِكٍ. وَهُوَ الرَّاجِحُ لأَِنَّ فِعْلَهُ عَمْدٌ،
وَالْعَاقِلَةُ لاَ تَحْمِل الْعَمْدَ (1) .
وَفِي الْقُنْيَةِ: سُئِل مُحَمَّدُ نَجْمُ الدِّينِ عَنْ صَبِيَّةٍ
سَقَطَتْ مِنْ سَطْحٍ، فَانْفَتَحَ رَأْسُهَا، فَقَال كَثِيرٌ مِنَ
الْجَرَّاحِينَ: إِنْ شَقَقْتُمْ رَأْسَهَا تَمُوتُ. وَقَال وَاحِدٌ
مِنْهُمْ: إِنْ لَمْ تَشُقُّوهُ الْيَوْمَ تَمُوتُ، وَأَنَا أَشُقُّهُ
وَأُبْرِئُهَا، فَشَقَّهُ فَمَاتَتْ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ. هَل
يَضْمَنُ؟ فَتَأَمَّل مَلِيًّا ثُمَّ قَال: لاَ، إِِذَا كَانَ الشَّقُّ
بِإِِذْنٍ، وَكَانَ الشَّقُّ مُعْتَادًا، وَلَمْ يَكُنْ فَاحِشًا خَارِجَ
الرَّسْمِ (أَيِ الْعَادَةِ) . قِيل لَهُ: فَلَوْ قَال: إِنْ مَاتَتْ
فَأَنَا ضَامِنٌ، هَل يَضْمَنُ؟ فَتَأَمَّل مَلِيًّا، ثُمَّ قَال: لاَ.
فَلَمْ يُعْتَبَرْ شَرْطُ الضَّمَانِ؛ لأَِنَّ شَرْطَهُ عَلَى الأَْمِينِ
بَاطِلٌ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْفَتْوَى (2) .
وَفِي مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ: مَنِ اسْتُؤْجِرَ عَلَى عَبْدٍ
يَحْجُمُهُ، أَوْ عَلَى دَابَّةٍ يُبَزِّغُهَا، فَفَعَل ذَلِكَ فَعَطِبَا
بِفِعْلِهِ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ أَصْل الْعَمَل
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 28.
(2) ابن عابدين 5 / 364.
(12/140)
كَانَ مَأْذُونًا فِيهِ، فَمَا تَوَلَّدَ
مِنْهُ لاَ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ إِلاَّ إِِذَا تَعَدَّى،
فَحِينَئِذٍ يَضْمَنُ.
وَكَذَلِكَ إِِذَا كَانَ فِي يَدِهِ أَكِلَةٌ، فَاسْتَأْجَرَ رَجُلاً
لِيَقْطَعَ يَدَهُ فَمَاتَ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ (1) .
وَمَنِ اسْتُؤْجِرَ لِيَقْلَعَ ضِرْسًا لِمَرِيضٍ، فَأَخْطَأَ، فَقَلَعَ
غَيْرَ مَا أُمِرَ بِقَلْعِهِ ضَمِنَهُ؛ لأَِنَّهُ مِنْ جِنَايَتِهِ (2) .
وَإِِنْ أَخْطَأَ الطَّبِيبُ، بِأَنْ سَقَى الْمَرِيضَ دَوَاءً لاَ
يُوَافِقُ مَرَضَهُ، أَوْ زَلَّتْ يَدُ الْخَاتِنِ أَوِ الْقَاطِعِ
فَتَجَاوَزَ فِي الْقَطْعِ، فَإِِنْ كَانَ مِنْ أَهْل الْمَعْرِفَةِ وَلَمْ
يَغُرَّ مِنْ نَفْسِهِ فَذَلِكَ خَطَأٌ (أَيْ تَتَحَمَّلُهُ عَاقِلَتُهُ)
إِلاَّ أَنْ يَكُونَ أَقَل مِنَ الثُّلُثِ فَفِي مَالِهِ. وَإِِنْ كَانَ
لاَ يُحْسِنُ، أَوْ غُرَّ مِنْ نَفْسِهِ فَيُعَاقَبُ (3) . وَمَنْ أَمَرَ
خَتَّانًا لِيَخْتِنَ صَبِيًّا، فَفَعَل الْخَتَّانُ ذَلِكَ فَقَطَعَ
حَشَفَتَهُ، وَمَاتَ الصَّبِيُّ مِنْ ذَلِكَ، فَعَلَى عَاقِلَةِ
الْخَتَّانِ نِصْفُ دِيَةٍ؛ لأَِنَّ الْمَوْتَ حَصَل بِفِعْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَأْذُونٌ فِيهِ، وَهُوَ قَطْعُ الْقُلْفَةِ.
وَالآْخَرُ: غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ، وَهُوَ قَطْعُ الْحَشَفَةِ، فَيَجِبُ
نِصْفُ الضَّمَانِ.
أَمَّا إِِذَا بَرِئَ، جُعِل قَطْعُ الْجِلْدَةِ - وَهُوَ مَأْذُونٌ فِيهِ
- كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَقَطْعُ الْحَشَفَةِ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ،
فَوَجَبَ ضَمَانُ الْحَشَفَةِ كَامِلاً، وَهُوَ الدِّيَةُ (4) .
__________
(1) مختصر الطحاوي 129.
(2) المغني لابن قدامة 5 / 543 م الرياض الحديثة، ومنهاج الطالبين 3 / 70.
(3) جواهر الإكليل 2 / 191.
(4) ابن عابدين 5 / 400.
(12/140)
تَطْبِيقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّطْبِيقُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ طَبَّقَ، وَمِنْ مَعَانِيهِ:
الْمُسَاوَاةُ وَالتَّعْمِيمُ وَالتَّغْطِيَةُ قَال فِي الْمِصْبَاحِ:
وَأَصْل الطَّبَقِ: الشَّيْءُ عَلَى مِقْدَارِ الشَّيْءِ مُطْبِقًا لَهُ
مِنْ جَمِيع جَوَانِبه كَالْغِطَاءِ لَهُ وَيُقَال: طَبَّقَ السَّحَابُ
الْجَوَّ: إِِذَا غَشَّاهُ، وَطَبَّقَ الْمَاءُ وَجْهَ الأَْرْضِ: إِِذَا
غَطَّاهُ، وَطَبَّقَ الْغَيْمُ: عَمَّ بِمَطَرِهِ (1) .
وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ: أَنْ يَجْعَل الْمُصَلِّي بَطْنَ
إِحْدَى كَفَّيْهِ عَلَى بَطْنِ الأُْخْرَى، وَيَجْعَلُهُمَا بَيْنَ
رُكْبَتَيْهِ وَفَخِذَيْهِ (2) .
الْحُكْمُ الإِِْجْمَالِيُّ:
2 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ كَرَاهَةَ التَّطْبِيقِ فِي الرُّكُوعِ.
وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ
__________
(1) أساس البلاغة للزمخشري، والقاموس المحيط، والصحاح، والمصباح المنير
مادة: " طبق ".
(2) المبدع في شرح المقنع 1 / 446 ط المكتب الإسلامي، والمجموع للنووي 3 /
407 ط المنيرية، ونيل الأوطار 2 / 244 ط العثمانية.
(12/141)
مُصْعَبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ
أَنَّهُ قَال: صَلَّيْتُ إِِلَى جَنْبِ أَبِي، فَطَبَّقْتُ بَيْنَ
كَفَّيَّ، ثُمَّ وَضَعْتُهُمَا بَيْنَ فَخِذَيَّ، فَنَهَانِي أَبِي وَقَال:
كُنَّا نَفْعَلُهُ فَنُهِينَا عَنْهُ، وَأُمِرْنَا أَنْ نَضَعَ أَيْدِيَنَا
عَلَى الرُّكَبِ. (1)
وَمِنَ الْمَعْرُوفِ أَنَّ قَوْل الصَّحَابِيِّ: كُنَّا نَفْعَل،
وَأُمِرْنَا وَنُهِينَا، مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ مَرْفُوعٌ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لأَِنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِِذَا رَكَعْتَ فَضَعْ
يَدَيْكَ عَلَى رُكْبَتَيْكَ، وَفَرِّجْ بَيْنَ أَصَابِعِكَ. (3)
قَال النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ: وَذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَصَاحِبَاهُ عَلْقَمَةُ
وَالأَْسْوَدُ إِِلَى أَنَّ السُّنَّةَ التَّطْبِيقُ، فَقَدْ أَخْرَجَ
مُسْلِمٌ عَنْ عَلْقَمَةَ وَالأَْسْوَدِ أَنَّهُمَا دَخَلاَ عَلَى
__________
(1) حديث مصعب قال: " صليت إلى جنب أبي فطبقت بين كفي. . . ". أخرجه
البخاري (الفتح 2 / 273 ط السلفية) ، ومسلم (1 / 380 ط الحلبي) واللفظ
للبخاري.
(2) البناية 2 / 178، 179 ط دار الفكر، والمجموع 3 / 411، وكشاف القناع 1 /
346 ط مكتبة النصر الإسلامية، والكافي لابن عبد البر 1 / 203 نشر مكتبة
الرياض، وعمدة القاري 6 / 63 ط المنيرية، وصحيح مسلم بشرح النووي 5 / 15 ط
المطبعة المصرية بالأزهر، ونيل الأوطار 2 / 224 ط العثمانية.
(3) حديث: " إذا ركعت فضع يديك على ركبتيك. . . " أخرجه ابن عدي في الكامل
من حديث أنس (الكامل 6 / 2086 ط دار الفكر) وأعله براويه، وهو كثير بن عبد
الله الناجي الأبلي.
(12/141)
عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
فَقَال: أُصَلِّي مِنْ خَلْفِكُمْ؟ قَالاَ: نَعَمْ. فَقَامَ بَيْنَهُمَا
وَجَعَل أَحَدَهُمَا عَنْ يَمِينِهِ، وَالآْخَرَ عَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ
رَكَعْنَا، فَوَضَعْنَا أَيْدِيَنَا عَلَى رُكَبِنَا، فَضَرَبَ
أَيْدِيَنَا، ثُمَّ طَبَّقَ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ جَعَلَهُمَا بَيْنَ
فَخِذَيْهِ، فَلَمَّا صَلَّى قَال: هَكَذَا فَعَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (1)
قَال الْعَيْنِيُّ: وَأَخَذَ بِذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَأَبُو
عُبَيْدَةَ. وَعَلَّل النَّوَوِيُّ فِعْلَهُمْ: بِأَنَّهُ لَمْ
يَبْلُغْهُمُ النَّاسِخُ، وَهُوَ حَدِيثُ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ
الْمُتَقَدِّمُ (2) .
__________
(1) حديث علقمة والأسود وغيرهما فقال: " أصلى من خلفكم؟ " أخرجه (مسلم 1 /
379 - 380 ط الحلبي) .
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 5 / 15 - 17، وعمدة القاري 6 / 64، والمجموع 3 /
411، والبناية 2 / 178.
(12/142)
تَطَفُّلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّطَفُّل فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ تَطَفَّل. يُقَال: هُوَ
مُتَطَفِّلٌ فِي الأَْعْرَاسِ وَالْوَلاَئِمِ أَيْ: هُوَ طُفَيْلِيٌّ. قَال
الأَْصْمَعِيُّ: الطُّفَيْلِيُّ: هُوَ الَّذِي يَدْخُل عَلَى الْقَوْمِ
مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْعُوَهُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ هَذَا
الْمَعْنَى.
فَقَدْ عَرَّفَهُ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: بِدُخُول الشَّخْصِ لِمَحَل
غَيْرِهِ لِتَنَاوُل طَعَامِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَلاَ عَلِمَ رِضَاهُ،
أَوْ ظَنَّهُ بِقَرِينَةٍ مُعْتَبَرَةٍ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الضَّيْفُ:
2 - الضَّيْفُ فِي اللُّغَةِ: النَّزِيل الزَّائِرُ. وَأَصْلُهُ مَصْدَرُ
ضَافَ، وَلِذَا يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَغَيْرِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ
قَوْله تَعَالَى {قَال إِنَّ هَؤُلاَءِ ضَيْفِي
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب، وتاج العروس، ومحيط المحيط، ومتن اللغة،
ومختار الصحاح مادة: " طفل ".
(2) نهاية المحتاج 6 / 377.
(12/142)
فَلاَ تَفْضَحُونِ} (1) وَتَجُوزُ
الْمُطَابَقَةُ، فَيُقَال: هَذَانِ ضَيْفَانِ
أَمَّا (الضَّيْفَنُ) فَهُوَ مَنْ يَجِيءُ مَعَ الضَّيْفِ مُتَطَفِّلاً،
فَالضَّيْفَنُ أَخَصُّ مِنَ الطُّفَيْلِيِّ، وَيُطْلَقُ عَلَى الدَّاخِل
عَلَى الْقَوْمِ فِي شَرَابِهِمْ بِلاَ دَعْوَةٍ (الْوَاغِل) . (2) وَفِي
اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: الضَّيْفُ: هُوَ مَنْ حَضَرَ طَعَامَ غَيْرِهِ
بِدَعْوَتِهِ وَلَوْ عُمُومًا، أَوْ بِعِلْمِ رِضَاهُ وَضِدُّ الضَّيْفِ
الطُّفَيْلِيُّ (3) .
ب - الْفُضُولِيُّ:
3 - الْفُضُولِيُّ: مِنَ الْفُضُول، جَمْعُ فَضْلٍ. وَقَدِ اسْتُعْمِل
الْجَمْعُ اسْتِعْمَال الْفَرْدِ فِيمَا لاَ خَيْرَ فِيهِ. وَلِهَذَا
نُسِبَ إِلَيْهِ عَلَى لَفْظِهِ، فَقِيل فُضُولِيٌّ: لِمَنْ يَشْتَغِل
بِمَا لاَ يَعْنِيهِ وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ التَّصَرُّفُ عَنِ
الْغَيْرِ بِلاَ إِذْنٍ وَلاَ وِلاَيَةٍ. وَأَظْهَرُ مَا يَكُونُ فِي
الْعُقُودِ. أَمَّا التَّطَفُّل فَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ فِي
الْمَادِّيَّاتِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَل فِي الْمَعْنَوِيَّاتِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلتَّطَفُّل:
4 - صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ
__________
(1) سورة الحجر / 68.
(2) محيط المحيط، والمصباح المنير.
(3) محيط المحيط، والمصباح المنير، وقليوبي وعميرة 3 / 398.
(12/143)
الْمُتَبَادَرُ مِنْ أَقْوَال
الْحَنَفِيَّةِ - أَنَّ حُضُورَ طَعَامِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ دَعْوَةٍ،
وَبِغَيْرِ عِلْمِ رِضَاهُ حَرَامٌ، بَل يُفَسَّقُ بِهِ إِنْ تَكَرَّرَ.
لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَال: مَنْ دُعِيَ فَلَمْ يُجِبْ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَمَنْ
دَخَل عَلَى غَيْرِ دَعْوَةٍ دَخَل سَارِقًا، وَخَرَجَ مُغِيرًا (1)
فَكَأَنَّهُ شَبَّهَ دُخُولَهُ عَلَى الطَّعَامِ الَّذِي لَمْ يُدْعَ
إِلَيْهِ بِدُخُول السَّارِقِ الَّذِي يَدْخُل بِغَيْرِ إِرَادَةِ
الْمَالِكِ، لأَِنَّهُ اخْتَفَى بَيْنَ الدَّاخِلِينَ. وَشَبَّهَ خُرُوجَهُ
بِخُرُوجِ مَنْ نَهَبَ قَوْمًا، وَخَرَجَ ظَاهِرًا بَعْدَمَا أَكَل.
بِخِلاَفِ الدُّخُول، فَإِِنَّهُ دَخَل مُخْتَفِيًا، خَوْفًا مِنْ أَنْ
يُمْنَعَ، وَبَعْدَ الْخُرُوجِ قَدْ قَضَى حَاجَتَهُ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُ
حَاجَةٌ إِِلَى التَّسَتُّرِ (2) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ مِنَ التَّطَفُّل: أَنْ يُدْعَى عَالِمٌ
أَوْ صُوفِيٌّ، فَيَحْضُرُ جَمَاعَتُهُ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الدَّاعِي وَلاَ
عِلْمِ رِضَاهُ بِذَلِكَ.
وَيَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: أَنَّهُ إِِذَا عُرِفَ مِنْ حَال
الْمَدْعُوِّ أَنَّهُ لاَ يَحْضُرُ إِلاَّ وَمَعَهُ أَحَدٌ مِمَّنْ
يُلاَزِمُهُ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ كَالإِِْذْنِ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ
(دَعْوَةٌ) . (3)
__________
(1) حديث: " من دعي فلم يجب فقد عصى الله ورسوله. . . " أخرجه أبو داود (4
/ 125 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
وأعله أبو داود بجهالة أحد رواته.
(2) قليوبي وعميرة 3 / 298، ونهاية المحتاج 6 / 369، والخرشي 3 / 139، 140،
ونيل الأوطار للشوكاني 4 / 175، 180 ط المطبعة العثمانية المصرية سنة 1357
هـ.
(3) الدسوقي 2 / 338، وكشاف القناع 5 / 180، وحاشية القليوبي 3 / 298.
(12/143)
شَهَادَةُ الطُّفَيْلِيِّ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الطُّفَيْلِيَّ - إِنْ تَكَرَّرَ
تَطَفُّلُهُ - تُرَدُّ شَهَادَتُهُ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ؛ وَلأَِنَّهُ
يَأْكُل مُحَرَّمًا، وَيَفْعَل مَا فِيهِ سَفَهٌ وَدَنَاءَةٌ وَذَهَابُ
مُرُوءَةٍ.
قَال ابْنُ الصَّبَّاغِ: وَإِِنَّمَا اشْتُرِطَ تَكَرُّرُ ذَلِكَ؛
لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ شُبْهَةٌ حَتَّى يَمْنَعَهُ صَاحِبُ
الطَّعَامِ، وَإِِذَا تَكَرَّرَ صَارَ دَنَاءَةً وَقِلَّةَ مُرُوءَةٍ (1) .
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 326، وابن عابدين 4 / 381، والفتاوى الهندية 3 /
469، والزيلعي 4 / 333، والخرشي 3 / 179، 3 / 977، وروضة الطالبين 11 /
232، والمغني 9 / 181.
(12/144)
تَطْفِيفٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّطْفِيفُ لُغَةً: الْبَخْسُ فِي الْكَيْل وَالْوَزْنِ. وَمِنْهُ
قَوْله تَعَالَى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} (1) فَالتَّطْفِيفُ: نَقْصٌ
يَخُونُ بِهِ صَاحِبَهُ فِي كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّوْفِيَةُ:
2 - تَوْفِيَةُ الشَّيْءِ: بَذْلُهُ وَافِيًا (3) .
فَالتَّطْفِيفُ ضِدُّ التَّوْفِيَةِ (4) .
الْحُكْمُ الإِِْجْمَالِيُّ:
3 - التَّطْفِيفُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْخِيَانَةِ
وَأَكْل الْمَال بِالْبَاطِل، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ عَدَمِ الْمُرُوءَةِ.
__________
(1) سورة المطففين / 1.
(2) لسان العرب، وتاج العروس، والصحاح مادة: " طفف ".
(3) المفردات للراغب الأصفهاني، والصحاح مادة: " وفى ".
(4) أحكام القرآن لابن العربي 4 / 1895 ط عيسى الحلبي.
(12/144)
وَمِنْ ثَمَّ عَظَّمَ اللَّهُ أَمْرَ
الْكَيْل وَالْوَزْنِ، وَأَمَرَ بِالْوَفَاءِ فِيهِمَا فِي عِدَّةِ آيَاتٍ،
فَقَال سُبْحَانَهُ: {أَوْفُوا الْكَيْل وَلاَ تَكُونُوا مِنَ
الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلاَ تَبْخَسُوا
النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَْرْضِ مُفْسِدِينَ} (1)
وَقَال تَعَالَى: {وَأَوْفُوا الْكَيْل إِِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا
بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} (2) كَمَا تَوَعَّدَ اللَّهُ
الْمُطَفِّفِينَ بِالْوَيْل، وَهَدَّدَهُمْ بِعَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ
فَقَال: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِِذَا اكْتَالُوا عَلَى
النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ
أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ
يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} . (3)
وَفِي الْحَدِيثِ: خَمْسٌ بِخَمْسٍ، قِيل: يَا رَسُول اللَّهِ وَمَا خَمْسٌ
بِخَمْسٍ؟ قَال: مَا نَقَضَ قَوْمٌ الْعَهْدَ إِلاَّ سَلَّطَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ عَدُوَّهُمْ، وَمَا حَكَمُوا بِغَيْرِ مَا أَنْزَل اللَّهُ
إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الْفَقْرُ، وَمَا ظَهَرَتْ فِيهِمُ الْفَاحِشَةُ
إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الْمَوْتُ، وَلاَ طَفَّفُوا الْكَيْل إِلاَّ مُنِعُوا
النَّبَاتَ وَأُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَلاَ مَنَعُوا الزَّكَاةَ إِلاَّ
حُبِسَ
__________
(1) سورة الشعراء / 182 - 183.
(2) سورة الإسراء / 35.
(3) سورة المطففين / 1 - 6، وانظر الزواجر 1 / 200 ط المطبعة الأزهرية،
والكبائر للذهبي ص 162 ط مؤسسة علوم القرآن، والحسبة في الإسلام لابن تيمية
ص 13 نشر المكتبة العلمية، وتفسير القرطبي 7 / 248.
(12/145)
عَنْهُمُ الْمَطَرُ. (1)
قَال نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَمُرُّ بِالْبَائِعِ فَيَقُول لَهُ:
اتَّقِ اللَّهَ، أَوْفِ الْكَيْل وَالْوَزْنَ، فَإِِنَّ الْمُطَفِّفِينَ
يُوقَفُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُلْجِمَهُمُ الْعَرَقُ.
وَنَقَل ابْنُ حَجَرٍ تَصْرِيحَ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ،
وَاسْتَظْهَرَهُ (2) .
مَنْعُ التَّطْفِيفِ، وَتَدَابِيرُهُ:
4 - مِمَّا يَتَأَكَّدُ عَلَى الْمُحْتَسِبِ: الْمَنْعُ مِنَ التَّطْفِيفِ
وَالْبَخْسُ فِي الْمَكَايِيل وَالْمَوَازِينِ وَالصَّنَجَاتِ. فَيَنْبَغِي
لَهُ أَنْ يَحْذَرَ الْكَيَّالِينَ وَالْوَزَّانِينَ وَيُخَوِّفَهُمْ
عُقُوبَةَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْبَخْسِ وَالتَّطْفِيفِ.
وَمَتَى ظَهَرَ لَهُ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ خِيَانَةٌ عَزَّرَهُ عَلَى
ذَلِكَ وَأَشْهَرَهُ، حَتَّى يَرْتَدِعَ بِهِ غَيْرُهُ (3) .
وَإِِذَا وَقَعَ فِي التَّطْفِيفِ تَخَاصُمٌ جَازَ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ
الْمُحْتَسِبُ، إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ التَّخَاصُمِ فِيهِ
__________
(1) حديث: " خمس بخمس. . . " أخرجه الطبراني في الكبير 11 / 45 ط الوطن
العربي، قال المنذري: رواه الطبراني في الكبير وسنده قريب من الحسن وله
شواهد (الترغيب والترهيب 1 / 544 ط مصطفى الحلبي) .
(2) التفسير الكبير للرازي 31 / 88، 89، وتفسير الخازن 4 / 359 ط دار
المعرفة، والفتوحات الإلهية 4 / 502 ط مطبعة حجازي، والزواجر لابن حجر
الهيثمي المكي 1 / 192.
(3) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 299 ط دار الكتب العلمية، والأحكام
السلطانية للماوردي ص 220 ط مطبعة السعادة، ومعالم القربة في أحكام الحسبة
ص 86 ط دار الفنون بكمبرج، والحسبة في الإسلام لابن تيمية ص 13.
(12/145)
تَجَاحُدٌ وَتَنَاكُرٌ. فَإِِنْ أَفْضَى
إِِلَى التَّجَاحُدِ وَالتَّنَاكُرِ كَانَ الْقُضَاةُ أَحَقَّ بِالنَّظَرِ
فِيهِ مِنْ وُلاَةِ الْحِسْبَةِ؛ لأَِنَّهُمْ بِالأَْحْكَامِ أَحَقُّ.
وَكَانَ التَّأْدِيبُ فِيهِ إِِلَى الْمُحْتَسِبِ.
فَإِِنْ تَوَلاَّهُ الْحَاكِمُ جَازَ لاِتِّصَالِهِ بِحُكْمِهِ (1) .
وَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ الْقَوْل فِي التَّدَابِيرِ الَّتِي تُتَّخَذُ
لِلْحَيْلُولَةِ دُونَ التَّطْفِيفِ وَالْبَخْسِ فِي الْكَيْل وَالْوَزْنِ،
مِنْ قِيَامِ الْمُحْتَسِبِ بِتَفَقُّدِ عِيَارِ الصَّنْجِ وَنَحْوِهَا
عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَصْحَابِهَا، وَتَجْدِيدُ النَّظَرِ فِي
الْمَكَايِيل وَرِعَايَةِ مَا يُطَفِّفُونَ بِهِ الْمِكْيَال وَمَا إِِلَى
ذَلِكَ (2) ، فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ فِي مَوَاطِنِهِ مِنْ كُتُبِ
الْحِسْبَةِ، وَفِي مُصْطَلَحَيْ (حِسْبَةٌ، وَغِشٌّ) .
تَطَهُّرٌ
انْظُرْ: طَهَارَةٌ
تَطْهِيرٌ
انْظُرْ: طَهَارَةٌ
__________
(1) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 300، وللماوردي 220.
(2) غاية الرتبة في طلب الحسبة ص 18 - 20 ط دار الثقافة، ومعالم القربة في
أحكام الحسبة 83 - 86 ط دار الفنون بكمبرج.
(12/146)
تَطَوُّعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّطَوُّعُ: هُوَ التَّبَرُّعُ، يُقَال: تَطَوَّعَ بِالشَّيْءِ:
تَبَرَّعَ بِهِ.
وَقَال الرَّاغِبُ: التَّطَوُّعُ فِي الأَْصْل: تَكَلُّفُ الطَّاعَةِ،
وَهُوَ فِي التَّعَارُفِ: التَّبَرُّعُ بِمَا لاَ يَلْزَمُ كَالتَّنَفُّل
(1) . قَال تَعَالَى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} . (2)
وَالْفُقَهَاءُ عِنْدَمَا أَرَادُوا أَنْ يُعَرِّفُوا التَّطَوُّعَ،
عَدَلُوا عَنْ تَعْرِيفِ الْمَصْدَرِ إِِلَى تَعْرِيفِ مَا هُوَ حَاصِلٌ
بِالْمَصْدَرِ، فَذَكَرُوا لَهُ فِي الاِصْطِلاَحِ ثَلاَثَةَ مَعَانٍ:
الأَْوَّل: أَنَّهُ اسْمٌ لِمَا شُرِعَ زِيَادَةً عَلَى الْفَرَائِضِ
وَالْوَاجِبَاتِ، أَوْ مَا كَانَ مَخْصُوصًا بِطَاعَةٍ غَيْرِ وَاجِبَةٍ،
أَوْ هُوَ الْفِعْل الْمَطْلُوبُ طَلَبًا غَيْرَ جَازِمٍ. وَكُلُّهَا
مَعَانٍ مُتَقَارِبَةٌ. وَهَذَا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ فُقَهَاءِ
الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَالْمَشْهُورُ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والصحاح للجوهري، والنظم المستعذب في شرح
غريب المهذب 1 / 89، والمفردات للراغب الأصفهاني.
(2) سورة البقرة / 184.
(12/146)
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَهُوَ رَأْيُ
الأُْصُولِيِّينَ مِنْ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ
عِبَارَاتِ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ (1) .
وَالتَّطَوُّعُ بِهَذَا الْمَعْنَى يُطْلَقُ عَلَى: السُّنَّةِ
وَالْمَنْدُوبِ وَالْمُسْتَحَبِّ وَالنَّفَل وَالْمُرَغَّبِ فِيهِ
وَالْقُرْبَةِ وَالإِِْحْسَانِ وَالْحَسَنِ، فَهِيَ أَلْفَاظٌ
مُتَرَادِفَةٌ.
الثَّانِي: أَنَّ التَّطَوُّعَ هُوَ مَا عَدَا الْفَرَائِضَ
وَالْوَاجِبَاتِ وَالسُّنَنَ، وَهُوَ اتِّجَاهُ الأُْصُولِيِّينَ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ، فَفِي كَشْفِ الأَْسْرَارِ: السُّنَّةُ هِيَ الطَّرِيقَةُ
الْمَسْلُوكَةُ فِي الدِّينِ مِنْ غَيْرِ افْتِرَاضٍ وَلاَ وُجُوبٍ،
وَأَمَّا حَدُّ النَّفْل - وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْمَنْدُوبِ
وَالْمُسْتَحَبِّ وَالتَّطَوُّعِ - فَقِيل: مَا فِعْلُهُ خَيْرٌ مِنْ
تَرْكِهِ فِي الشَّرْعِ (2) . . . إِلَخْ.
الثَّالِثُ: التَّطَوُّعُ: هُوَ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَقْلٌ بِخُصُوصِهِ،
بَل يُنْشِئُهُ الإِِْنْسَانُ ابْتِدَاءً، وَهُوَ اتِّجَاهُ بَعْضِ
الْمَالِكِيَّةِ وَالْقَاضِي حُسَيْنٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ (3)
.
هَذِهِ هِيَ الاِتِّجَاهَاتُ فِي مَعْنَى التَّطَوُّعِ
__________
(1) التعريفات للجرجاني، والبناية في شرح الهداية 2 / 527، وكشاف القناع 1
/ 411، والمجموع شرح المهذب 4 / 2، والكافي لابن عبد البر 1 / 255، والحطاب
2 / 75، وجمع الجوامع 1 / 89، وشرح الكوكب المنير / 126، ونهاية المحتاج 2
/ 100، وإرشاد الفحول 1 / 6.
(2) كشف الأسرار 2 / 302 نشر دار الكتاب العربي، وكشاف اصطلاحات الفنون
مادتي: " طوع، ونفل ".
(3) المواق بهامش الحطاب 2 / 66، ونهاية المحتاج 2 / 100، 101، وجمع
الجوامع 1 / 90
(12/147)
وَمَا يُرَادِفُهُ. غَيْرَ أَنَّ
الْمُتَتَبِّعَ لِمَا ذَكَرَهُ الأُْصُولِيُّونَ مِنْ غَيْرِ
الْحَنَفِيَّةِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي كُتُبِهِمْ - بِمَا فِي
ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ - يَجِدُ أَنَّهُمْ يَتَوَسَّعُونَ بِإِِطْلاَقِ
التَّطَوُّعِ عَلَى مَا عَدَا الْفَرَائِضَ وَالْوَاجِبَاتِ، وَبِذَلِكَ
يَكُونُ التَّطَوُّعُ وَالسُّنَّةُ وَالنَّفَل وَالْمَنْدُوبُ
وَالْمُسْتَحَبُّ وَالْمُرَغَّبُ فِيهِ أَلْفَاظًا مُتَرَادِفَةً،
وَلِذَلِكَ قَال السُّبْكِيُّ: إِنَّ الْخِلاَفَ لَفْظِيٌّ (1) .
غَايَةُ الأَْمْرِ أَنَّ مَا يَدْخُل فِي دَائِرَةِ التَّطَوُّعِ بَعْضُهُ
أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ فِي الرُّتْبَةِ، فَأَعْلاَهُ هُوَ السُّنَّةُ
الْمُؤَكَّدَةُ، كَالْعِيدَيْنِ، وَالْوِتْرِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ،
وَكَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَيَلِي ذَلِكَ
الْمَنْدُوبُ أَوِ الْمُسْتَحَبُّ كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَيَلِي ذَلِكَ
مَا يُنْشِئُهُ الإِِْنْسَانُ ابْتِدَاءً، لَكِنَّ كُل ذَلِكَ يُسَمَّى
تَطَوُّعًا (2) . وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرَّجُل - الَّذِي سَأَل بَعْدَمَا عَرَفَ فَرَائِضَ
الصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ: هَل عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ فَقَال
لَهُ: لاَ، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ (3) .
__________
(1) البدائع 1 / 285، 286، 290، 298، والكافي لابن عبد البر 1 / 255،
والحطاب 2 / 75.
(2) جمع الجوامع 1 / 90، والكوكب المنير / 126، وإرشاد الفحول / 6، ونهاية
المحتاج 2 / 101، وشرح منتهى الإرادات 1 / 222، والكافي لابن عبد البر 1 /
255.
(3) حديث: " لا، إلا أن تطوع " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 106 - ط السلفية)
، ومسلم (1 / 41 - ط الحلبي) من حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه.
(12/147)
أَنْوَاعُ التَّطَوُّعِ:
2 - مِنَ التَّطَوُّعِ مَا يَكُونُ لَهُ نَظِيرٌ مِنَ الْعِبَادَاتِ، مِنْ
صَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَحَجٍّ وَجِهَادٍ، وَهَذَا هُوَ الأَْصْل،
وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ حِينَ يُذْكَرُ لَفْظُ التَّطَوُّعِ.
وَالتَّطَوُّعُ فِي الْعِبَادَاتِ يَخْتَلِفُ فِي جِنْسِهِ
بِاعْتِبَارَاتٍ، فَهُوَ يَخْتَلِفُ مِنْ حَيْثُ الرُّتْبَةُ، إِذْ مِنْهُ
مَا هُوَ مُؤَكَّدٌ كَالرَّوَاتِبِ مَعَ الْفَرَائِضِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ
أَقَل رُتْبَةً كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ أَقَل
كَالنَّوَافِل الْمُطْلَقَةِ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا.
وَمِنْ ذَلِكَ فِي الصَّوْمِ: صِيَامُ يَوْمَيْ عَاشُورَاءَ وَعَرَفَةَ،
فَهُمَا أَعْلَى رُتْبَةً مِنَ الصِّيَامِ فِي غَيْرِهِمَا،
وَالاِعْتِكَافُ فِي الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ أَفْضَل مِنْهُ
فِي غَيْرِهَا. كَمَا أَنَّ التَّطَوُّعَ فِي الْعِبَادَاتِ يَخْتَلِفُ فِي
جِنْسِهِ كَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الإِِْطْلاَقُ وَالتَّقْيِيدُ، فَمِنْهُ مَا
هُوَ مُقَيَّدٌ، سَوَاءٌ أَكَانَ التَّقْيِيدُ بِوَقْتٍ أَوْ بِسَبَبٍ،
كَالضُّحَى وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَالرَّوَاتِبِ مَعَ الْفُرُوضِ.
وَمِنْهُ مَا هُوَ مُطْلَقٌ كَالنَّفْل الْمُطْلَقِ بِاللَّيْل أَوْ
بِالنَّهَارِ.
وَيَخْتَلِفُ كَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ كَالرَّوَاتِبِ مِنَ
الْفُرُوضِ، إِذْ هِيَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَشْرٌ، وَعِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ اثْنَتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً: اثْنَتَانِ قَبْل الصُّبْحِ،
وَاثْنَتَانِ قَبْل الظُّهْرِ (وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَرْبَعٌ)
وَاثْنَتَانِ بَعْدَهُ، وَاثْنَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَاثْنَتَانِ
بَعْدَ الْعِشَاءِ. وَالتَّطَوُّعُ فِي النَّهَارِ وَاللَّيْل مَثْنَى
مَثْنَى عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الأَْفْضَل أَرْبَعٌ
بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ. وَمِثْل ذَلِكَ تَطَوُّعُ اللَّيْل عِنْدَ
(12/148)
أَبِي حَنِيفَةَ خِلاَفًا لِلصَّاحِبَيْنِ،
وَبِهَذَا يُفْتَى (1) .
وَفِي كُل مَا سَبَقَ تَفْصِيلٌ كَثِيرٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ
(السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ، وَنَفْلٌ) وَفِيمَا لَهُ أَبْوَابٌ مِنْ ذَلِكَ
مِثْل: عِيدٌ - كُسُوفٌ - اسْتِسْقَاءٌ. . . إِلَخْ.
وَمِنَ التَّطَوُّعِ مَا يَكُونُ فِي غَيْرِ الْعِبَادَاتِ كَطَلَبِ عِلْمٍ
غَيْرِ مَفْرُوضٍ (2) .
وَكَذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبِرِّ وَالْمَعْرُوفِ، كَالتَّطَوُّعِ
بِالإِِْنْفَاقِ عَلَى قَرِيبٍ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، أَوْ
عَلَى أَجْنَبِيٍّ مُحْتَاجٍ، أَوْ قَضَاءِ الدَّيْنِ عَنْهُ، أَوْ
إِبْرَاءِ الْمُعْسِرِ، أَوِ الْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ، أَوِ
الإِِْرْفَاقِ الْمَعْرُوفِ بِجَعْل الْغَيْرِ يَحْصُل عَلَى مَنَافِعِ
الْعَقَارِ، أَوْ إِسْقَاطِ الْحُقُوقِ. . . وَهَكَذَا.
وَمِنْهُ مَا يُعْرَفُ بِعُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ، كَالْقَرْضِ
وَالْوَصِيَّةِ وَالْوَقْفِ وَالإِِْعَارَةِ وَالْهِبَةِ، إِذْ إِنَّهَا
قُرُبَاتٌ شُرِعَتْ لِلتَّعَاوُنِ بَيْنَ النَّاسِ.
3 - وَمِنَ التَّطَوُّعِ مَا هُوَ عَيْنِيٌّ مَطْلُوبٌ نَدْبًا مِنْ كُل
فَرْدٍ، كَالتَّطَوُّعِ بِالْعِبَادَاتِ غَيْرِ الْمَفْرُوضَةِ مِنْ
صَلاَةٍ وَصِيَامٍ. . . وَمِنْهُ مَا هُوَ عَلَى الْكِفَايَةِ كَالأَْذَانِ
وَغَيْرِهِ. قَال النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ: ابْتِدَاءُ السَّلاَمِ سُنَّةٌ
مُسْتَحَبَّةٌ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَهُوَ سُنَّةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ،
فَإِِنْ كَانَ الْمُسَلِّمُ جَمَاعَةً كَفَى عَنْهُمْ
__________
(1) البدائع 1 / 284 - 294، 295، والهداية 1 / 66، 67، ومراقي الفلاح
بحاشية الطحطاوي / 215، وجواهر الإكليل 1 / 73 - 76، والحطاب 1 / 415،
ونهاية المحتاج 2 / 102 وما بعدها، وكشاف القناع 1 / 411 وما بعدها.
(2) شرح منتهى الإرادات 1 / 253.
(12/148)
تَسْلِيمُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَتَشْمِيتُ
الْعَاطِسِ سُنَّةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ (1) .
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ التَّطَوُّعِ:
4 - التَّطَوُّعُ يُقَرِّبُ الْعَبْدَ مِنْ رَبِّهِ وَيَزِيدُهُ ثَوَابًا،
وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: وَمَا يَزَال عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ
بِالنَّوَافِل حَتَّى أُحِبَّهُ. (2) الْحَدِيثُ. وَالْحِكْمَةُ مِنْ
مَشْرُوعِيَّةِ التَّطَوُّعِ هِيَ:
أ - اكْتِسَابُ رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ نَيْل ثَوَابِهِ
وَمُضَاعَفَةُ الْحَسَنَاتِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي ثَوَابِ التَّطَوُّعِ
بِالْعِبَادَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا: قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ ثَابَرَ عَلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ
رَكْعَةً فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي
الْجَنَّةِ. (3) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَكْعَتَا
الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا (4)
__________
(1) البدائع 1 / 288، والفواكه الدواني 2 / 387، والذخيرة / 80، والأذكار
للنووي / 210، 211.
(2) الحديث القدسي: " وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل. . . " أخرجه
البخاري (الفتح 11 / 341 - ط السلفية) .
(3) حديث: " من ثابر على اثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة بنى الله له
بيتا في الجنة " أخرجه الترمذي (2 / 273 - ط الحلبي) من حديث عائشة رضي
الله عنها، وأصله في مسلم (1 / 503 - ط الحلبي) من حديث أم حبيبة رضي الله
عنها.
(4) حديث: " ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها " أخرجه مسلم (1 / 501 ط
الحلبي) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(12/149)
وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي شَأْنِ
الصَّلاَةِ (1) .
وَفِي صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ يَقُول النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي لأََحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ
السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ (2) وَالْمُرَادُ الصَّغَائِرُ. حَكَاهُ فِي
شَرْحِ مُسْلِمٍ عَنِ الْعُلَمَاءِ، فَإِِنْ لَمْ تَكُنِ الصَّغَائِرُ
رُجِيَ التَّخْفِيفُ مِنَ الْكَبَائِرِ، فَإِِنْ لَمْ تَكُنْ رُفِعَتِ
الدَّرَجَاتُ، وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ صَامَ
رَمَضَانَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ
الدَّهْرِ. (3)
وَقَال الزُّهْرِيُّ: فِي الاِعْتِكَافِ تَفْرِيغُ الْقَلْبِ عَنْ أُمُورِ
الدُّنْيَا، وَتَسْلِيمُ النَّفْسِ إِِلَى بَارِئِهَا، وَالتَّحَصُّنُ
بِحِصْنٍ حَصِينٍ، وَمُلاَزَمَةُ بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَال عَطَاءٌ:
مَثَل الْمُعْتَكِفِ كَمَثَل رَجُلٍ لَهُ حَاجَةٌ إِِلَى عَظِيمٍ يَجْلِسُ
عَلَى بَابِهِ، وَيَقُول: لاَ أَبْرَحُ حَتَّى تُقْضَى حَاجَتِي (4) .
وَمِثْل ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْعِبَادَاتِ. يَقُول اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ
ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ
أَضْعَافًا كَثِيرَةً} (5) ، وَيَقُول
__________
(1) نهاية المحتاج 3 / 199، والمنثور 3 / 61، والبدائع 1 / 284.
(2) حديث: " إني لأحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله " أخرجه مسلم (2
/ 819 - ط الحلبي) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.
(3) حديث: " من صام رمضان ثم اتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر " أخرجه
مسلم (2 / 822 - ط الحلبي) من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.
(4) شرح منتهى الإرادات 1 / 459، والمبسوط 3 / 114، 115.
(5) سورة البقرة / 245.
(12/149)
ابْنُ عَابِدِينَ: مِنْ مَحَاسِنِ
الْعَارِيَّةِ أَنَّهَا نِيَابَةٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِي إِجَابَةِ
الْمُضْطَرِّ؛ لأَِنَّهَا لاَ تَكُونُ إِلاَّ لِمُحْتَاجٍ كَالْقَرْضِ،
فَلِذَا كَانَتِ الصَّدَقَةُ بِعَشَرَةٍ وَالْقَرْضُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ
(1) .
ب - الأُْنْسُ بِالْعِبَادَةِ وَالتَّهَيُّؤُ لَهَا:
5 - قَال ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: فِي تَقْدِيمِ النَّوَافِل عَلَى
الْفَرَائِضِ مَعْنًى لَطِيفٌ مُنَاسِبٌ؛ لأَِنَّ النُّفُوسَ
لاِنْشِغَالِهَا بِأَسْبَابِ الدُّنْيَا تَكُونُ بَعِيدَةً عَنْ حَالَةِ
الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ وَالْحُضُورِ، الَّتِي هِيَ رُوحُ الْعِبَادَةِ،
فَإِِذَا قُدِّمَتِ النَّوَافِل عَلَى الْفَرَائِضِ أَنِسَتِ النُّفُوسُ
بِالْعِبَادَةِ، وَتَكَيَّفَتْ بِحَالَةٍ تُقَرِّبُ مِنَ الْخُشُوعِ (2) .
ج - جُبْرَانُ الْفَرَائِضِ:
6 - قَال ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: النَّوَافِل الَّتِي بَعْدَ الْفَرَائِضِ
هِيَ لِجَبْرِ النَّقْصِ الَّذِي قَدْ يَقَعُ فِي الْفَرَائِضِ، فَإِِذَا
وَقَعَ نَقْصٌ فِي الْفَرْضِ نَاسَبَ أَنْ يَقَعَ بَعْدَهُ مَا يُجْبِرُ
الْخَلَل الَّذِي قَدْ يَقَعُ فِيهِ (3) .
وَفِي الْحَدِيثِ: فَإِِنِ انْتُقِصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيْءٌ، قَال
الرَّبُّ عَزَّ وَجَل: انْظُرُوا هَل لِعَبْدِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 502.
(2) الشرح الصغير 1 / 145 ط الحلبي.
(3) الشرح الصغير 1 / 145.
(12/150)
مِنْ تَطَوُّعٍ؟ فَيُكَمَّل بِهِ مَا
انْتَقَصَ مِنَ الْفَرِيضَةِ. (1)
قَال الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ الْكَبِيرِ عَلَى الْجَامِعِ عِنْدَ
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوَّل مَا افْتَرَضَ اللَّهُ
عَلَى أُمَّتِي الصَّلاَةَ. . . " (2) وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَقَّ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمْ يُوجِبْ شَيْئًا مِنَ الْفَرَائِضِ غَالِبًا
إِلاَّ وَجَعَل لَهُ مِنْ جِنْسِهِ نَافِلَةً، حَتَّى إِِذَا قَامَ
الْعَبْدُ بِذَلِكَ الْوَاجِبِ - وَفِيهِ خَلَلٌ مَا - يُجْبَرُ
بِالنَّافِلَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ جِنْسِهِ، فَلِذَا أَمَرَ بِالنَّظَرِ
فِي فَرِيضَةِ الْعَبْدِ، فَإِِذَا قَامَ بِهَا كَمَا أَمَرَ اللَّهُ
جُوزِيَ عَلَيْهَا، وَأُثْبِتَتْ لَهُ، وَإِِنْ كَانَ فِيهَا خَلَلٌ
كُمِّلَتْ مِنْ نَافِلَتِهِ حَتَّى قَال الْبَعْضُ: إِنَّمَا تَثْبُتُ لَكَ
نَافِلَةٌ إِِذَا سَلِمَتْ لَكَ الْفَرِيضَةُ (3) . وَلِذَلِكَ يَقُول
الْقُرْطُبِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: مَنْ تَرَكَ التَّطَوُّعَاتِ وَلَمْ
يَعْمَل بِشَيْءٍ مِنْهَا فَقَدْ فَوَّتَ عَلَى نَفْسِهِ رِبْحًا عَظِيمًا
وَثَوَابًا جَسِيمًا (4) .
__________
(1) حديث: " فإن انتقص من فريضته شيء، قال الرب عز وجل: انظروا هل لعبدي من
تطوع " أخرجه الترمذي وحسنه (2 / 269 - 270 ط مصطفى البابي) وابن ماجه (1 /
458 ط عيسى الحلبي) ونقل أحمد شاكر عن ابن حجر تصحيحه، (الترمذي 2 / 271 ط
مصطفى الحلبي) .
(2) حديث: " أول ما افترض الله على أمتي الصلاة " عزاه السيوطي في الجامع
الصغير إلى الحاكم في الكنى وحسنه، وسكت عنه المناوي، (فيض القدير 3 / 95.
ط المكتبة التجارية) .
(3) نهاية المحتاج 2 / 102، وكشاف القناع 1 / 411.
(4) الحطاب 2 / 75.
(12/150)
د - التَّعَاوُنُ بَيْنَ النَّاسِ
وَتَوْثِيقُ الرَّوَابِطِ بَيْنَهُمْ وَاسْتِجْلاَبُ مَحَبَّتِهِمُ:
7 - التَّطَوُّعُ بِأَنْوَاعِ الْبِرِّ وَالْمَعْرُوفِ يَنْشُرُ
التَّعَاوُنَ بَيْنَ النَّاسِ، وَلِذَلِكَ دَعَا اللَّهُ إِلَيْهِ فِي
قَوْلِهِ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) ، وَيَقُول
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاللَّهُ فِي عَوْنِ
الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ (2) وَفِي فَتْحِ
الْبَارِي عِنْدَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا. (3) يَقُول ابْنُ حَجَرٍ: فِي الْحَدِيثِ الْحَضُّ
عَلَى الْخَيْرِ بِالْفِعْل، وَبِالتَّسَبُّبِ إِلَيْهِ بِكُل وَجْهٍ،
وَالشَّفَاعَةِ إِِلَى الْكَبِيرِ فِي كَشْفِ كُرْبَةٍ وَمَعُونَةِ
ضَعِيفٍ، إِذْ لَيْسَ كُل أَحَدٍ يَقْدِرُ عَلَى الْوُصُول إِِلَى
الرَّئِيسِ (4) .
كَذَلِكَ يَقُول النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَهَادَوْا
تَحَابُّوا (5)
أَفْضَل التَّطَوُّعِ:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَفْضَل التَّطَوُّعِ، فَقِيل:
__________
(1) سورة المائدة / 2.
(2) حديث: " والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه " أخرجه مسلم (4
/ 2074 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) حديث: " اشفعوا تؤجروا " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 299 - ط السلفية) .
من حديث أبي موسى الأشعري.
(4) فتح الباري 10 / 451 ط مكتبة الرياض الحديثة.
(5) حديث: " تهادوا تحابوا " أخرجه البخاري في الأدب المفرد (ص 155 - ط
السلفية) وحسنه ابن حجر في التلخيص (3 / 70 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(12/151)
أَفْضَل عِبَادَاتِ الْبَدَنِ الصَّلاَةُ.
فَفَرْضُهَا أَفْضَل مِنْ فَرْضِ غَيْرِهَا، وَتَطَوُّعُهَا أَفْضَل مِنْ
تَطَوُّعِ غَيْرِهَا؛ لأَِنَّهَا أَعْظَمُ الْقُرُبَاتِ، لِجَمْعِهَا
أَنْوَاعًا مِنَ الْعِبَادَاتِ لاَ تُجْمَعُ فِي غَيْرِهَا. قَال بِهَذَا
الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَلَهُمْ
قَوْلٌ آخَرُ بِتَفْضِيل الصِّيَامِ.
قَال صَاحِبُ الْمَجْمُوعِ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ: الصَّلاَةُ
أَفْضَل مِنَ الصَّوْمِ: أَنَّ صَلاَةَ رَكْعَتَيْنِ أَفْضَل مِنْ صِيَامِ
أَيَّامٍ أَوْ يَوْمٍ، فَإِِنَّ الصَّوْمَ أَفْضَل مِنْ رَكْعَتَيْنِ بِلاَ
شَكٍّ، وَإِِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْجَمْعُ بَيْنَ
الاِسْتِكْثَارِ مِنَ الصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ، وَأَرَادَ أَنْ يَسْتَكْثِرَ
مِنْ أَحَدِهِمَا، أَوْ يَكُونُ غَالِبًا عَلَيْهِ، مَنْسُوبًا إِِلَى
الإِِْكْثَارِ مِنْهُ، وَيَقْتَصِرُ مِنَ الآْخَرِ عَلَى الْمُتَأَكِّدِ
مِنْهُ، فَهَذَا مَحَل الْخِلاَفِ وَالتَّفْصِيل. وَالصَّحِيحُ تَفْضِيل
الصَّلاَةِ (1) .
وَيَقُول الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ أَفْضَل تَطَوُّعَاتِ الْبَدَنِ الْجِهَادُ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَضَّل اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} (2) ثُمَّ النَّفَقَةُ فِيهِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَل الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي
سَبِيل اللَّهِ كَمَثَل حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِل} (3) الآْيَةَ،
ثُمَّ تَعَلُّمُ الْعِلْمِ
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 145 ط الحلبي، والمهذب 1 / 89، والمجموع شرح المهذب 3
/ 456، 457، 459.
(2) سورة النساء / 95.
(3) سورة البقرة / 261.
(12/151)
وَتَعْلِيمُهُ، لِحَدِيثِ: فَضْل
الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ (1) .
ثُمَّ الصَّلاَةُ أَفْضَل بَعْدَ ذَلِكَ، لِلإِِْخْبَارِ بِأَنَّهَا
أَحَبُّ الأَْعْمَال إِِلَى اللَّهِ، وَمُدَاوَمَتُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَفْلِهَا. وَنَصَّ الإِِْمَامُ أَحْمَدُ عَلَى
أَنَّ الطَّوَافَ لِغَرِيبٍ أَفْضَل مِنْهَا، أَيْ مِنَ الصَّلاَةِ
بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؛ لأَِنَّهُ خَاصٌّ بِهِ يَفُوتُ بِمُفَارَقَتِهِ
بِخِلاَفِ الصَّلاَةِ، فَالاِشْتِغَال بِمَفْضُولٍ يَخْتَصُّ بُقْعَةً أَوْ
زَمَنًا أَفْضَل مِنْ فَاضِلٍ لاَ يَخْتَصُّ، وَاخْتَارَ عِزُّ الدِّينِ
بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ تَبَعًا لِلْغَزَالِيِّ فِي الإِِْحْيَاءِ: أَنَّ
أَفْضَل الطَّاعَاتِ عَلَى قَدْرِ الْمَصَالِحِ النَّاشِئَةِ عَنْهَا (2) .
9 - وَيَتَفَاوَتُ مَا يَتَعَدَّى نَفْعُهُ فِي الْفَضْل، فَصَدَقَةٌ عَلَى
قَرِيبٍ مُحْتَاجٍ أَفْضَل مِنْ عِتْقِ أَجْنَبِيٍّ؛ لأَِنَّهَا صَدَقَةٌ
وَصِلَةٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَفِي الْمَنْثُورِ فِي الْقَوَاعِدِ لِلزَّرْكَشِيِّ: لَوْ مَلَكَ
عَقَارًا، وَأَرَادَ الْخُرُوجَ عَنْهُ، فَهَل الأَْوْلَى الصَّدَقَةُ بِهِ
حَالاً، أَمْ وَقْفُهُ؟ قَال ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: إِنْ كَانَ ذَلِكَ
فِي وَقْتِ شِدَّةٍ وَحَاجَةٍ فَتَعْجِيل الصَّدَقَةِ أَفْضَل، وَإِِنْ
لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَفِيهِ وَقْفَةٌ، وَلَعَل الْوَقْفَ أَوْلَى،
لِكَثْرَةِ جَدْوَاهُ. وَأَطْلَقَ ابْنُ الرِّفْعَةِ
__________
(1) حديث: " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم " أخرجه الترمذي (5 /
50 - ط الحلبي) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه واستغربه.
(2) شرح منتهى الإرادات 1 / 222، 223، وكشاف القناع 1 / 411، 412، والأشباه
والنظائر للسيوطي ص 160.
(12/152)
تَقْدِيمَ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ بِهِ،
لِمَا فِيهِ مِنْ قَطْعِ حَظِّ النَّفْسِ فِي الْحَال بِخِلاَفِ الْوَقْفِ.
وَفِي الْمَنْثُورِ أَيْضًا: مَرَاتِبُ الْقُرْبِ تَتَفَاوَتُ،
فَالْقُرْبَةُ فِي الْهِبَةِ أَتَمُّ مِنْهَا فِي الْقَرْضِ، وَفِي
الْوَقْفِ أَتَمُّ مِنْهَا فِي الْهِبَةِ، لأَِنَّ نَفْعَهُ دَائِمٌ
يَتَكَرَّرُ، وَالصَّدَقَةُ أَتَمُّ مِنَ الْكُل؛ لأَِنَّ قَطْعَ حَظِّهِ
مِنَ الْمُتَصَدَّقِ بِهِ فِي الْحَال (1) .
وَقِيل: إِنَّ الْقَرْضَ أَفْضَل مِنَ الصَّدَقَةِ (2) .
لأَِنَّ رَسُول اللَّهِ رَأَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ مَكْتُوبًا عَلَى
بَابِ الْجَنَّةِ: دِرْهَمُ الْقَرْضِ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَدِرْهَمُ
الصَّدَقَةِ بِعَشْرٍ، فَسَأَل جِبْرِيل: مَا بَال الْقَرْضِ أَفْضَل مِنَ
الصَّدَقَةِ: فَقَال: لأَِنَّ السَّائِل يَسْأَل وَعِنْدَهُ،
وَالْمُقْتَرِضُ لاَ يَقْتَرِضُ إِلاَّ مِنْ حَاجَةٍ. (3)
وَتَكَسُّبُ مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الْكِفَايَةِ - لِمُوَاسَاةِ
الْفَقِيرِ أَوْ مُجَازَاةِ الْقَرِيبِ - أَفْضَل مِنَ التَّخَلِّي لِنَفْل
الْعِبَادَةِ؛ لأَِنَّ مَنْفَعَةَ النَّفْل تَخُصُّهُ، وَمَنْفَعَةُ
الْكَسْبِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ (4) ، فَقَدْ قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ: خَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ (5) وَعَنْ
__________
(1) المنثور 1 / 345، 3 / 62.
(2) منح الجليل 3 / 46، والمهذب 1 / 309.
(3) حديث: " رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة. . . " أخرجه ابن ماجه (2 /
812 - ط الحلبي) وقال البوصيري: في إسناده خالد بن يزيد ضعفه أحمد وابن
معين وغيرهم.
(4) الاختيار 4 / 172.
(5) حديث: " خير الناس أنفعهم للناس " أخرجه القضاعي في مسند الشهاب (2 /
223 - ط الرسالة) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وهو حسن لطرقه.
(12/152)
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَال: إِنَّ
الأَْعْمَال تَتَبَاهَى، فَتَقُول الصَّدَقَةُ: أَنَا أَفْضَلُكُمْ (1) .
وَفِي الأَْشْبَاهِ لاِبْنِ نُجَيْمٍ: بِنَاءُ الرِّبَاطِ بِحَيْثُ
يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، أَفْضَل مِنَ الْحَجَّةِ الثَّانِيَةِ (2)
.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
10 - الأَْصْل فِي التَّطَوُّعِ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ (3) . سَوَاءٌ أَكَانَ
ذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ مِنْ صَلاَةٍ وَصِيَامٍ. . . أَمْ كَانَ فِي
غَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْبِرِّ وَالْمَعْرُوفِ، كَالإِِْعَارَةِ
وَالْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ وَأَنْوَاعِ الإِِْرْفَاقِ.
وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْكِتَابِ آيَاتٌ مِنْهَا: قَوْله
تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (4) ، وقَوْله
تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا
فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} . (5)
__________
(1) عن عمر بن الخطاب قال: إن الأعمال تتباهى، فتقول الصدقة: أنا أفضلكم.
أخرجه ابن خزيمة (4 / 95 - ط المكتب الإسلامي) وأعله بجهالة أحد رواته.
(2) الأشباه لابن نجيم / 174.
(3) الفواكه الدواني 2 / 216، 362، والاختيار 4 / 172 و 3 / 55، والمهذب 1
/ 89، 194، 309، ومغني المحتاج 3 / 120، وشرح منتهى الإرادات 1 / 222، 223،
ومنح الجليل 3 / 46، 487.
(4) سورة المائدة / 2.
(5) سورة البقرة / 245.
(12/153)
وَمِنَ السُّنَّةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ صَلَّى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي يَوْمٍ
وَلَيْلَةٍ بُنِيَ لَهُ بِهِنَّ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ (1) قَوْلُهُ: مَنْ
صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ
الدَّهْرِ (2) وَقَوْلُهُ: اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ (3)
وَقَوْلُهُ: لاَ يَمْنَعُ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي
جِدَارِهِ. (4)
وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ الْوُجُوبُ، كَبَذْل الطَّعَامِ لِلْمُضْطَرِّ،
وَكَإِِعَارَةِ مَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ لِمَنْ يُخْشَى هَلاَكُهُ
بِعَدَمِهَا، وَكَإِِعَارَةِ الْحَبْل لإِِِنْقَاذِ غَرِيقٍ (5) .
وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا، كَالْعِبَادَةِ الَّتِي تَقَعُ فِي الأَْوْقَاتِ
الْمُحَرَّمَةِ كَالصَّلاَةِ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْ غُرُوبِهَا،
وَكَصِيَامِ يَوْمَيِ الْعِيدِ، وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَكَتَصَدُّقِ
الْمَدِينِ مَعَ حُلُول دَيْنِهِ
__________
(1) حديث: " من صلى ثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة بني له بهن بيت في الجنة "
أخرجه مسلم (1 / 503 - ط الحلبي) من حديث أم حبيبة رضي الله عنها.
(2) حديث: " من صام رمضان ثم ستا من شوال كان كصيام الدهر " تقدم تخريجه (ف
/ 4) .
(3) حديث: " اتقوا النار ولو بشق تمرة " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 283 - ط
السلفية) ومسلم (2 / 704 - ط الحلبي) من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه.
(4) حديث: " لا يمنع أحدكم جارة أن يغرز خشبه في جداره " أخرجه البخاري
(الفتح 5 / 110 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1230 - ط الحلبي) من حديث أبي
هريرة رضي الله عنه.
(5) المهذب 1 / 257، والمنح 3 / 487، والقواعد لابن رجب ص 228.
(12/153)
وَالْمُطَالَبَةِ بِهِ، وَعَدَمِ وُجُودِ
مَا يُسَدِّدُ بِهِ دَيْنَهُ (1) .
وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا، كَوُقُوعِ الصَّلاَةِ فِي الأَْوْقَاتِ
الْمَكْرُوهَةِ، كَمَا أَنَّهُ يُكْرَهُ تَرْكُ التَّسْوِيَةِ فِي
الْعَطِيَّةِ لأَِوْلاَدِهِ (2) .
أَهْلِيَّةُ التَّطَوُّعِ:
11 - التَّطَوُّعُ يَكُونُ فِي الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا، أَمَّا
الْعِبَادَاتُ فَإِِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُتَطَوِّعِ بِهَا مَا يَلِي:
أ - أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، فَلاَ يَصِحُّ التَّطَوُّعُ بِالْعِبَادَاتِ
مِنَ الْكَافِرِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْعِبَادَةِ.
ب - أَنْ يَكُونَ عَاقِلاً، فَلاَ تَصِحُّ الْعِبَادَةُ مِنَ الْمَجْنُونِ،
لِعَدَمِ صِحَّةِ نِيَّتِهِ. وَهَذَا فِي غَيْرِ الْحَجِّ،
لأَِنَّهُ فِي الْحَجِّ يُحْرِمُ عَنْهُ وَلِيُّهُ، وَكَذَلِكَ يُحْرِمُ
الْوَلِيُّ عَنَ الصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ.
ج - التَّمْيِيزُ، فَلاَ يَصِحُّ التَّطَوُّعُ مِنْ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ،
وَلاَ يُشْتَرَطُ الْبُلُوغُ؛ لأَِنَّ تَطَوُّعَ الصَّبِيِّ
بِالْعِبَادَاتِ صَحِيحٌ (3) .
وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الْعِبَادَاتِ: فَإِِنَّ الشَّرْطَ هُوَ
أَهْلِيَّةُ التَّبَرُّعِ مِنْ عَقْلٍ وَبُلُوغٍ وَرُشْدٍ، فَلاَ يَصِحُّ
__________
(1) المنثور في القواعد 3 / 278، ومنح الجليل 3 / 489.
(2) جواهر الإكليل 1 / 34، ومغني المحتاج 3 / 401.
(3) الأشباه لابن نجيم ص 50، 307، والأشباه للسيوطي ص 214، 219.
(12/154)
تَبَرُّعُ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ لِصِغَرٍ
أَوْ سَفَهٍ أَوْ دَيْنٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ (1) .
وَتَفْصِيل هَذَا يُنْظَرُ فِي (أَهْلِيَّةٌ) .
أَحْكَامُ التَّطَوُّعِ:
12 - أَحْكَامُ التَّطَوُّعِ مِنْهَا مَا يَخُصُّ الْعِبَادَاتِ، وَمِنْهَا
مَا يَشْمَل الْعِبَادَاتِ وَغَيْرَهَا، وَمِنْهَا مَا يَخُصُّ غَيْرَ
الْعِبَادَاتِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
(أَوَّلاً) مَا يَخُصُّ الْعِبَادَاتِ:
أ - مَا تُسَنُّ لَهُ الْجَمَاعَةُ مِنْ صَلاَةِ التَّطَوُّعِ:
13 - تُسَنُّ الْجَمَاعَةُ لِصَلاَةِ الْكُسُوفِ بِاتِّفَاقٍ بَيْنَ
الْمَذَاهِبِ، وَتُسَنُّ لِلتَّرَاوِيحِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَهِيَ مَنْدُوبَةٌ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ، إِذِ الأَْفْضَل الاِنْفِرَادُ بِهَا - بَعِيدًا عَنِ
الرِّيَاءِ - إِنْ لَمْ تُعَطَّل الْمَسَاجِدُ عَنْ فِعْلِهَا فِيهَا.
وَتُسَنُّ الْجَمَاعَةُ كَذَلِكَ لِصَلاَةِ الاِسْتِسْقَاءِ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، أَمَّا عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ فَتُصَلَّى جَمَاعَةً وَفُرَادَى عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَلاَ
تُصَلَّى إِلاَّ فُرَادَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَتُسَنُّ الْجَمَاعَةُ
لِصَلاَةِ الْعِيدَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. أَمَّا
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَالْجَمَاعَةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ.
وَيُسَنُّ الْوِتْرُ جَمَاعَةً عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
وَبَقِيَّةُ التَّطَوُّعَاتِ تَجُوزُ جَمَاعَةً وَفُرَادَى عِنْدَ
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 312 ط الحلبي، والهداية 4 / 234، ونهاية المحتاج 5 /
356.
(12/154)
الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ،
وَتُكْرَهُ جَمَاعَةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِِذَا كَانَتْ عَلَى سَبِيل
التَّدَاعِي، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الْجَمَاعَةُ فِي الشَّفْعِ
وَالْوِتْرِ سُنَّةٌ وَالْفَجْرُ خِلاَفُ الأَْوْلَى. أَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ
فَيَجُوزُ فِعْلُهُ جَمَاعَةً، إِلاَّ أَنْ تَكْثُرَ الْجَمَاعَةُ أَوْ
يَشْتَهِرَ الْمَكَانُ فَتُكْرَهُ الْجَمَاعَةُ حَذَرَ الرِّيَاءِ (1) .
وَالتَّفْصِيل يُنْظَرُ فِي (صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ - نَفْلٌ)
مَكَانُ صَلاَةِ التَّطَوُّعِ:
14 - صَلاَةُ التَّطَوُّعِ فِي الْبُيُوتِ أَفْضَل، لِقَوْل النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي
بُيُوتِكُمْ، فَإِِنَّ أَفْضَل صَلاَةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ
الْمَكْتُوبَةَ (2) وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا شُرِعَتْ لَهُ
الْجَمَاعَةُ، فَفِعْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَل، وَيُسْتَثْنَى كَذَلِكَ
عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ صَلاَةُ الرَّوَاتِبِ مَعَ الْفَرَائِضِ،
فَيُنْدَبُ فِعْلُهَا فِي الْمَسْجِدِ، كَمَا أَنَّ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ
تُصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ.
وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُصَلِّي عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنْ يَتَنَفَّل فِي
غَيْرِ الْمَكَانِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ الْمَكْتُوبَةَ (3) . وَقَال
__________
(1) البدائع 1 / 274، 280، 298، والشرح الصغير 1 / 152، وجواهر الإكليل 1 /
74، 76، ونهاية المحتاج 1 / 102، 120، وشرح منتهى الإرادات 1 / 224،
والمغني 2 / 142، ونيل المآرب 1 / 204 ط الفلاح.
(2) حديث: " صلوا أيها الناس في بيوتكم " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 214 - ط
السلفية) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه.
(3) الفواكه الدواني 2 / 365، والحطاب 2 / 67، والكافي لابن عبد البر 1 /
212، 260، والمغني 1 / 561، 2 / 128، 141، ومنتهى الإرادات 1 / 231،
والمهذب 1 / 91، 92، ومغني المحتاج 1 / 183.
(12/155)
الْكَاسَانِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ:
يُكْرَهُ لِلإِِْمَامِ أَنْ يُصَلِّيَ شَيْئًا مِنَ السُّنَنِ فِي
الْمَكَانِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ الْمَكْتُوبَةَ، لِمَا رُوِيَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: أَيَعْجِزُ
أَحَدُكُمْ إِِذَا صَلَّى أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (1) ، وَلاَ
يُكْرَهُ ذَلِكَ لِلْمَأْمُومِ، لأَِنَّ الْكَرَاهَةَ فِي حَقِّ
الإِِْمَامِ لِلاِشْتِبَاهِ، وَهَذَا لاَ يُوجَدُ فِي حَقِّ الْمَأْمُومِ،
لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَنَحَّى أَيْضًا، حَتَّى تَنْكَسِرَ
الصُّفُوفُ، وَيَزُول الاِشْتِبَاهُ عَلَى الدَّاخِل مِنْ كُل وَجْهٍ (2)
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: قَال أَحْمَدُ: لاَ يَتَطَوَّعُ الإِِْمَامُ فِي
مَكَانِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ الْمَكْتُوبَةَ. كَذَا قَال عَلِيُّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَال أَحْمَدُ: وَمَنْ صَلَّى
وَرَاءَ الإِِْمَامِ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَتَطَوَّعَ مَكَانَهُ، فَعَل
ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَبِهَذَا قَال إِسْحَاقُ،
وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ حَدِيثَ عَلِيٍّ بِإِِسْنَادِهِ. وَبِإِِسْنَادِهِ
عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) حديث: " أيعجز أحدكم إذا صلى أن يتقدم أو يتأخر " أخرجه ابن ماجه (1 /
458 ط عيسى الحلبي) ، وأبو داود (1 / 409 ط عبيد الدعاس) . وضعف الحديث
الحافظ في فتح الباري (2 / 335 ط السلفية) . لكنه حسن إسناده عند ابن أبي
شيبة عن علي بلفظ " من السنة أن لا يتطوع الإمام حتى يتحول من مكانه " فهو
إن شاء الله بشواهده حسن الإسناد.
(2) البدائع 1 / 285، 298.
(12/155)
قَال: لاَ يَتَطَوَّعُ الإِِْمَامُ فِي
مَقَامِهِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الْمَكْتُوبَةَ. (1)
صَلاَةُ التَّطَوُّعِ عَلَى الدَّابَّةِ:
15 - يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ صَلاَةُ التَّطَوُّعِ عَلَى
الدَّابَّةِ فِي السَّفَرِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ خِلاَفًا
بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ فِي إِبَاحَةِ التَّطَوُّعِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي
السَّفَرِ الطَّوِيل. قَال التِّرْمِذِيُّ: هَذَا عِنْدَ عَامَّةِ أَهْل
الْعِلْمِ، وَقَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ
جَائِزٌ لِكُل مَنْ سَافَرَ سَفَرًا يَقْصُرُ فِيهِ الصَّلاَةَ أَنْ
يَتَطَوَّعَ عَلَى دَابَّتِهِ حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ، يُومِئُ بِالرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ، وَيَجْعَل السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ.
وَيَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ التَّطَوُّعُ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي
السَّفَرِ الْقَصِيرِ أَيْضًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ
الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}
(2) ، قَال ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: نَزَلَتْ هَذِهِ
الآْيَةُ فِي التَّطَوُّعِ خَاصَّةً حَيْثُ تَوَجَّهَ بِهِ بَعِيرُك.
وَهَذَا يَتَنَاوَل بِإِِطْلاَقِهِ مَحَل النِّزَاعِ، وَعَنِ
__________
(1) المغني 1 / 562. وحديث: " لا يتطوع الإمام في مقامه الذي يصل فيه
المكتوبة " أخرجه ابن عدي في الكامل (5 / 1997 ط دار الفكر) ، وأبو داود (1
/ 409 ط عبيد الدعاس) ، وابن ماجه (1 / 459 ط عيسى الحلبي) بنحوه. انظر
تخريج الحديث السابق، وهو بشواهده حسن الإسناد.
(2) سورة البقرة / 115.
(12/156)
ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوتِرُ
عَلَى بَعِيرِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ يُسَبِّحُ عَلَى ظَهْرِ
رَاحِلَتِهِ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ، يُومِئُ بِرَأْسِهِ وَكَانَ ابْنُ
عُمَرَ يَفْعَلُهُ (1) . وَلِلْبُخَارِيِّ: إِلاَّ الْفَرَائِضَ
وَلِمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ: غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يُصَلِّي عَلَيْهَا
الْمَكْتُوبَةَ وَلَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ قَصِيرِ السَّفَرِ وَطَوِيلِهِ؛
وَلأَِنَّ إِبَاحَةَ الصَّلاَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ تَخْفِيفٌ فِي
التَّطَوُّعِ، كَيْ لاَ يُؤَدِّيَ إِِلَى قَطْعِهَا وَتَقْلِيلِهَا (2) .
وَالْوِتْرُ وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلِهَذَا لاَ يُؤَدَّى عَلَى
الرَّاحِلَةِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّزُول. كَذَلِكَ رَوَى
الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ
عَلَى الدَّابَّةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى النُّزُول لاَ
يَجُوزُ، لاِخْتِصَاصِ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ بِزِيَادَةِ تَوْكِيدٍ
وَتَرْغِيبٍ بِتَحْصِيلِهَا وَتَرْهِيبٍ وَتَحْذِيرٍ عَلَى تَرْكِهَا،
فَالْتَحَقَتْ بِالْوَاجِبَاتِ كَالْوِتْرِ (3) . وَيُنْظَرُ تَفْصِيل
ذَلِكَ فِي: (نَفْلٌ - نَافِلَةٌ) .
__________
(1) حديث: " كان يوتر على بعيره " وفي رواية: " كان يسبح على ظهر راحلته
حيث كان وجهه، يومئ برأسه وكان ابن عمر يفعله " أخرجه البخاري (فتح الباري
2 / 573 ط السلفية) ومسلم (1 / 487 ط الحلبي) .
(2) وهذا يتناول كل وسائل النقل الحديثة من السيارات والطائرات على تفصيل
ينظر في ملحق المسائل المستحدثة.
(3) البدائع 1 / 271، 290 وما بعدها، والهداية 1 / 69، وجواهر الإكليل 1 /
44، ومغني المحتاج 1 / 142، والمغني 1 / 434، 435.
(12/156)
صَلاَةُ التَّطَوُّعِ قَاعِدًا:
16 - تَجُوزُ صَلاَةُ التَّطَوُّعِ مِنْ قُعُودٍ بِاتِّفَاقٍ بَيْنَ
الْمَذَاهِبِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ خِلاَفًا فِي إِبَاحَةِ
التَّطَوُّعِ جَالِسًا، وَأَنَّهُ فِي الْقِيَامِ أَفْضَل، وَقَدْ قَال
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ صَلَّى قَائِمًا
فَهُوَ أَفْضَل، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ
(1) وَلأَِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَشُقُّ عَلَيْهِ الْقِيَامُ، فَلَوْ
وَجَبَ فِي التَّطَوُّعِ لَتَرَكَ أَكْثَرَهُ، فَسَامَحَ الشَّارِعُ فِي
تَرْكِ الْقِيَامِ فِيهِ تَرْغِيبًا فِي تَكْثِيرِهِ (2) .
الْفَصْل بَيْنَ الصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ وَصَلاَةِ التَّطَوُّعِ:
17 - يُسْتَحَبُّ أَنْ يَفْصِل الْمُصَلِّي بَيْنَ الصَّلاَةِ
الْمَفْرُوضَةِ وَصَلاَةِ التَّطَوُّعِ بَعْدَهَا بِالأَْذْكَارِ
الْوَارِدَةِ، كَالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ، وَهَذَا
عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُكْرَهُ الْفَصْل بَيْنَ
الْمَكْتُوبَةِ وَالسُّنَّةِ، بَل يَشْتَغِل بِالسُّنَّةِ (3) .
وَلِلتَّفْصِيل: (ر: نَفْلٌ) .
قَضَاءُ التَّطَوُّعِ:
18 - إِِذَا فَاتَ التَّطَوُّعُ - سَوَاءٌ الْمُطْلَقُ، أَوِ الْمُقَيَّدُ
__________
(1) حديث: " من صلى قائما فهو أفضل، ومن صلى قاعدا فله نصف أجر القائم "
أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 586 - ط السلفية) من حديث عمران بن حصين رضي
الله عنه.
(2) الهداية 1 / 69، والبدائع 1 / 297، 298، وجواهر الإكليل 1 / 57، ومغني
المحتاج 1 / 155. والمغني 2 / 142.
(3) الاختيار 1 / 66، وجواهر الإكليل 1 / 73، والمهذب 1 / 87، ومنتهى
الإرادات 1 / 194.
(12/157)
بِسَبَبٍ أَوْ وَقْتٍ - فَعِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ لاَ يُقْضَى سِوَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ،
لِمَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: صَلَّى
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَصْرَ ثُمَّ دَخَل
بَيْتِي فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ، صَلَّيْتَ
صَلاَةً لَمْ تَكُنْ تُصَلِّيهَا فَقَال: قَدِمَ عَلَيَّ مَالٌ فَشَغَلَنِي
عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ كُنْتُ أَرْكَعُهُمَا بَعْدَ الظُّهْرِ،
فَصَلَّيْتُهُمَا الآْنَ. فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ أَفَنَقْضِيهِمَا
إِِذَا فَاتَتَا؟ قَال: لاَ. (1) وَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ
غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الأُْمَّةِ، وَإِِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ اخْتَصَّ بِهِ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ شَرِكَةَ لَنَا فِي
خَصَائِصِهِ. وَقِيَاسُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ قَضَاءُ
رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ أَصْلاً، إِلاَّ أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْقَضَاءَ
إِِذَا فَاتَتَا مَعَ الْفَرْضِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُمَا مَعَ الْفَرْضِ لَيْلَةَ التَّعْرِيسِ (2)
فَنَحْنُ نَفْعَل ذَلِكَ لِنَكُونَ عَلَى طَرِيقَتِهِ. وَهَذَا بِخِلاَفِ
الْوِتْرِ، لأَِنَّهُ وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْوَاجِبُ
مُلْحَقٌ بِالْفَرْضِ فِي حَقِّ الْعَمَل.
وَقَال النَّوَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ فَاتَ النَّفَل
__________
(1) حديث أم سلمة: " قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر ثم دخل
بيتي. . . " أخرجه أحمد (6 / 315 - ط الميمنية) وقال الهيثمي (2 / 224 - ط
القدسي) : رجال أحمد رجال الصحيح.
(2) حديث: " فعلهما مع الفرض ليلة التعريس " أخرجه مسلم (1 / 473 - الحلبي)
من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.
(12/157)
الْمُؤَقَّتُ (كَصَلاَةِ الْعِيدِ
وَالضُّحَى) نُدِبَ قَضَاؤُهُ فِي الأَْظْهَرِ، لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ:
مَنْ نَسِيَ صَلاَةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا
إِِذَا ذَكَرَهَا (1) وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَضَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ لَمَّا نَامَ فِي الْوَادِي عَنْ
صَلاَةِ الصُّبْحِ إِِلَى أَنْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ. وَفِي مُسْلِمٍ
نَحْوُهُ. وَقَضَى رَكْعَتَيْ سُنَّةِ الظُّهْرِ الْمُتَأَخِّرَةِ بَعْدَ
الْعَصْرِ؛ وَلأَِنَّهَا صَلاَةٌ مُؤَقَّتَةٌ فَقُضِيَتْ كَالْفَرَائِضِ،
وَسَوَاءٌ السَّفَرُ وَالْحَضَرُ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْمُقْرِي.
وَالثَّانِي: لاَ يُقْضَى كَغَيْرِ الْمُؤَقَّتِ.
وَالثَّالِثُ: إِنْ لَمْ يَتْبَعْ غَيْرَهُ كَالضُّحَى قُضِيَ، لِشَبَهِهِ
بِالْفَرْضِ فِي الاِسْتِقْلاَل، وَإِِنْ تَبِعَ غَيْرَهُ كَالرَّوَاتِبِ
فَلاَ. قَال الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ:
قَضِيَّةُ كَلاَمِهِ (أَيِ النَّوَوِيِّ) أَنَّ الْمُؤَقَّتَ يُقْضَى
أَبَدًا وَهُوَ الأَْظْهَرُ، وَالثَّانِي: يَقْضِي فَائِتَةَ النَّهَارِ
مَا لَمْ تُضْرَبْ شَمْسُهُ، وَفَائِتَةَ اللَّيْل مَا لَمْ يَطْلُعْ
فَجْرُهُ. وَالثَّالِثُ: يَقْضِي مَا لَمْ يُصَل الْفَرْضَ الَّذِي
بَعْدَهُ. وَخَرَجَ بِالْمُؤَقَّتِ مَا لَهُ سَبَبٌ كَالتَّحِيَّةِ
وَالْكُسُوفِ فَإِِنَّهُ لاَ مَدْخَل لِلْقَضَاءِ فِيهِ. نَعَمْ لَوْ
فَاتَهُ وِرْدُهُ مِنَ الصَّلاَةِ، فَإِِنَّهُ يُنْدَبُ لَهُ قَضَاؤُهُ
كَمَا قَالَهُ الأَْذْرَعِيُّ.
__________
(1) حديث: " من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها " أخرجه
مسلم (1 / 277 - ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وأخرجه
البخاري (الفتح 2 / 70 ط السلفية) دون ذكر النوم.
(12/158)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، قَال الإِِْمَامُ
أَحْمَدُ: لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَضَى شَيْئًا مِنَ التَّطَوُّعِ، إِلاَّ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ
وَالرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ.
وَقَال الْقَاضِي وَبَعْضُ الأَْصْحَابِ: لاَ يُقْضَى إِلاَّ رَكْعَتَا
الْفَجْرِ وَرَكْعَتَا الظُّهْرِ.
وَقَال ابْنُ حَامِدٍ: تُقْضَى جَمِيعُ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ، لأَِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بَعْضَهَا، وَقِسْنَا
الْبَاقِيَ عَلَيْهَا.
وَفِي شَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ: يُسَنُّ قَضَاءُ الرَّوَاتِبِ،
إِلاَّ مَا فَاتَ مَعَ فَرْضِهِ وَكَثُرَ، فَالأَْوْلَى تَرْكُهُ، إِلاَّ
سُنَّةُ الْفَجْرِ فَيَقْضِيهَا مُطْلَقًا لِتَأَكُّدِهَا (1) .
انْقِلاَبُ الْوَاجِبِ تَطَوُّعًا:
19 - قَدْ يَنْقَلِبُ وَاجِبُ الْعِبَادَاتِ إِِلَى تَطَوُّعٍ، سَوَاءٌ
أَكَانَ بِقَصْدٍ أَمْ بِغَيْرِ قَصْدٍ. وَمِنْ ذَلِكَ مَثَلاً فِي
الصَّلاَةِ يَقُول ابْنُ نُجَيْمٍ: لَوِ افْتَتَحَ الصَّلاَةَ بِنِيَّةِ
الْفَرْضِ، ثُمَّ غَيَّرَ نِيَّتَهُ فِي الصَّلاَةِ وَجَعَلَهَا
تَطَوُّعًا، صَارَتْ تَطَوُّعًا.
وَفِي شَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ: إِنْ أَحْرَمَ مُصَلٍّ بِفَرْضٍ،
كَظُهْرٍ فِي وَقْتِهِ الْمُتَّسِعِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، ثُمَّ قَلَبَهُ
نَفْلاً، بِأَنْ فَسَخَ نِيَّةَ الْفَرْضِيَّةِ دُونَ نِيَّةِ الصَّلاَةِ،
__________
(1) البدائع 1 / 279، 287، 290، ومنح الجليل 1 / 210، والدسوقي 1 / 319،
ومغني المحتاج 1 / 224، والمغني 2 / 128، وشرح منتهى الإرادات 1 / 230.
(12/158)
صَحَّتْ مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ كَانَ
صَلَّى الأَْكْثَرَ مِنْهَا أَوِ الأَْقَل، وَسَوَاءٌ كَانَ لِغَرَضٍ
صَحِيحٍ أَوْ لاَ؛ لأَِنَّ النَّفَل يَدْخُل فِي نِيَّةِ الْفَرْضِ،
وَكُرِهَ قَلْبُهُ نَفْلاً لِغَيْرِ غَرَضٍ صَحِيحٍ. ثُمَّ قَال:
وَيَنْقَلِبُ نَفْلاً مَا بَانَ عَدَمُهُ، كَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِفَائِتَةٍ
ظَنَّهَا عَلَيْهِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ فَائِتَةٌ،
أَوْ أَحْرَمَ بِفَرْضٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُل
وَقْتُهُ؛ لأَِنَّ الْفَرْضَ لَمْ يَصِحَّ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُبْطِل
النَّفَل.
وَمِنْ ذَلِكَ الصِّيَامُ. جَاءَ فِي شَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ: مَنْ
قَطَعَ نِيَّةَ صَوْمِ نَذْرٍ أَوْ كَفَّارَةٍ أَوْ قَضَاءٍ، ثُمَّ نَوَى
صَوْمًا نَفْلاً صَحَّ نَفْلُهُ، وَإِِنْ قَلَبَ صَائِمٌ نِيَّةَ نَذْرٍ
أَوْ قَضَاءٍ إِِلَى نَفْلٍ صَحَّ، كَقَلْبِ فَرْضِ الصَّلاَةِ نَفْلاً.
وَخَالَفَ الْحَجَّاوِيُّ فِي " الإِِْقْنَاعِ " فِي مَسْأَلَةِ قَلْبِ
الْقَضَاءِ، وَكُرِهَ لَهُ ذَلِكَ لِغَيْرِ غَرَضٍ (1) .
وَمِنْ ذَلِكَ الزَّكَاةُ. جَاءَ فِي بَدَائِعِ الصَّنَائِعِ: إِِذَا
دَفَعَ الزَّكَاةَ إِِلَى رَجُلٍ، وَلَمْ يَخْطِرْ بِبَالِهِ أَنَّهُ
لَيْسَ مِمَّنْ تُصْرَفُ الزَّكَاةُ إِلَيْهِمْ وَقْتَ الدَّفْعِ، وَلَمْ
يَشُكَّ فِي أَمْرِهِ، فَإِِذَا ظَهَرَ بِيَقِينٍ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ
مَصَارِفِهَا لَمْ تُجْزِئْهُ زَكَاةٌ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الإِِْعَادَةُ،
وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ مَا دَفَعَ إِلَيْهِ، وَيَقَعُ تَطَوُّعًا.
ثُمَّ قَال الْكَاسَانِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: حُكْمُ الْمُعَجَّل إِِذَا
لَمْ يَقَعْ زَكَاةً: أَنَّهُ إِنْ وَصَل إِِلَى يَدِ الْفَقِيرِ يَكُونُ
__________
(1) الأشباه لابن نجيم ص 51، وشرح منتهى الإرادات 1 / 168، 169، 447.
(12/159)
تَطَوُّعًا، سَوَاءٌ وَصَل إِِلَى يَدِهِ
مِنْ يَدِ رَبِّ الْمَال أَوْ مِنْ يَدِ الإِِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ -
وَهُوَ السَّاعِي - لأَِنَّهُ حَصَل أَصْل الْقُرْبَةِ. وَصَدَقَةُ
التَّطَوُّعِ لاَ يُحْتَمَل الرُّجُوعُ فِيهَا بَعْدَ وُصُولِهَا إِِلَى
يَدِ الْفَقِيرِ.
وَفِي الْمُهَذَّبِ أَيْضًا: مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ
أَشْهُرِهِ انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ بِالْعُمْرَةِ؛ لأَِنَّهَا عِبَادَةٌ
مُؤَقَّتَةٌ، فَإِِذَا عَقَدَهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا انْعَقَدَ غَيْرُهَا
مِنْ جِنْسِهَا، كَصَلاَةِ الظُّهْرِ إِِذَا أَحْرَمَ بِهَا قَبْل
الزَّوَال، فَإِِنَّهُ يَنْعَقِدُ إِحْرَامُهُ بِالنَّفْل.
وَفِي الأَْشْبَاهِ لاِبْنِ نُجَيْمٍ: لَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ نَذْرًا
وَنَفْلاً كَانَ نَفْلاً، وَلَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَرْضًا وَتَطَوُّعًا
كَانَ تَطَوُّعًا عِنْدَهُمَا فِي الأَْصَحِّ (1) .
حُصُول التَّطَوُّعِ بِأَدَاءِ الْفَرْضِ وَعَكْسُهُ:
20 - هُنَاكَ صُوَرٌ يَحْصُل التَّطَوُّعُ فِيهَا بِأَدَاءِ الْفَرْضِ،
وَلَكِنَّ ثَوَابَ التَّطَوُّعِ لاَ يَحْصُل إِلاَّ بِنِيَّتِهِ. جَاءَ فِي
الأَْشْبَاهِ لاِبْنِ نُجَيْمٍ (فِي الْجَمْعِ بَيْنَ عِبَادَتَيْنِ)
قَالُوا: لَوِ اغْتَسَل الْجُنُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِلْجُمُعَةِ
وَلِرَفْعِ الْجَنَابَةِ، ارْتَفَعَتْ جَنَابَتُهُ، وَحَصَل لَهُ ثَوَابُ
غُسْل الْجُمُعَةِ.
وَفِي ابْنِ عَابِدِينَ: مَنْ عَلَيْهِ جَنَابَةٌ نَسِيَهَا وَاغْتَسَل
لِلْجُمُعَةِ مَثَلاً، فَإِِنَّهُ يَرْتَفِعُ حَدَثُهُ ضِمْنًا،
__________
(1) البدائع 2 / 50، 52، والمهذب 1 / 207، 240، والأشباه لابن نجيم ص 41.
(12/159)
وَلاَ يُثَابُ ثَوَابَ الْفَرْضِ، وَهُوَ
غُسْل الْجَنَابَةِ مَا لَمْ يَنْوِهِ، لأَِنَّهُ لاَ ثَوَابَ إِلاَّ
بِالنِّيَّةِ.
وَفِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: تَتَأَدَّى تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ بِصَلاَةِ
الْفَرْضِ فَيَسْقُطُ طَلَبُ التَّحِيَّةِ بِصَلاَتِهِ، فَإِِنْ نَوَى
الْفَرْضَ وَالتَّحِيَّةَ حَصَلاَ، وَإِِنْ لَمْ يَنْوِ التَّحِيَّةَ لَمْ
يَحْصُل لَهُ ثَوَابُهَا؛ لأَِنَّ الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ.
وَمِثْل ذَلِكَ غُسْل الْجُمُعَةِ وَالْجَنَابَةِ، وَصِيَامُ يَوْمِ
عَرَفَةَ مَعَ نِيَّةِ قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ.
وَفِي الْقَوَاعِدِ لاِبْنِ رَجَبٍ: لَوْ طَافَ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ
مَكَّةَ طَوَافًا يَنْوِي بِهِ الزِّيَارَةَ وَالْوَدَاعَ، فَقَال
الْخِرَقِيُّ وَصَاحِبُ الْمُغْنِي: يُجْزِئُهُ عَنْهُمَا (1) .
(ثَانِيًا) مَا يَشْمَل الْعِبَادَاتِ وَغَيْرَهَا مِنْ أَحْكَامٍ:
أ - قَطْعُ التَّطَوُّعِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ:
21 - إِِذَا كَانَ التَّطَوُّعُ عِبَادَةً كَالصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ،
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: إِِذَا شَرَعَ فِيهِ وَجَبَ
إِتْمَامُهُ، وَإِِذَا فَسَدَ وَجَبَ قَضَاؤُهُ؛ لأَِنَّ التَّطَوُّعَ
يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ مُضِيًّا وَقَضَاءً. وَلأَِنَّ الْمُؤَدَّى
عِبَادَةٌ، وَإِِبْطَال الْعِبَادَةِ حَرَامٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ
تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (2) ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
وَقَدْ أَفْطَرَتَا فِي
__________
(1) الأشباه لابن نجيم ص 40، وابن عابدين 1 / 77، والشرح الصغير 1 / 146،
والقواعد لابن رجب ص 24.
(2) سورة محمد / 33.
(12/160)
صَوْمِ التَّطَوُّعِ اقْضِيَا يَوْمًا
مَكَانَهُ. (1)
غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ لاَ يُوجِبُونَ الْقَضَاءَ إِلاَّ إِِذَا
كَانَ الْفَسَادُ مُتَعَمِّدًا، فَإِِنْ كَانَ لِعُذْرٍ فَلاَ قَضَاءَ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: يُسْتَحَبُّ الإِِْتْمَامُ
إِِذَا شَرَعَ فِي التَّطَوُّعِ وَلاَ يَجِبُ، كَمَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ
الْقَضَاءُ إِِذَا فَسَدَ، إِلاَّ فِي تَطَوُّعِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ
فَيَجِبُ إِتْمَامُهُمَا إِِذَا شَرَعَ فِيهِمَا؛ لأَِنَّ نَفْلَهُمَا
كَفَرْضِهِمَا نِيَّةً وَفِدْيَةً وَغَيْرَهُمَا (2) .
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ
الإِِْتْمَامِ بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
الصَّائِمُ الْمُتَطَوِّعُ أَمِيرُ نَفْسِهِ، إِنْ شَاءَ صَامَ، وَإِِنْ
شَاءَ أَفْطَرَ. (3)
وَتُنْظَرُ التَّفَاصِيل فِي (نَفْلٌ، صَلاَةٌ، صِيَامٌ، حَجٌّ) .
22 - أَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ التَّطَوُّعَاتِ، فَإِِمَّا أَنْ يَكُونَ
مِنْ قَبِيل عُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ الْمَعْرُوفَةِ كَالْهِبَةِ
__________
(1) حديث: " اقضيا يوما مكانه " أخرجه الترمذي (3 / 112 - ط الحلبي) من
حديث عائشة رضي الله عنها، وأعله بالانقطاع.
(2) البدائع 1 / 290، 291، والاختيار 1 / 66، والشرح الصغير 1 / 408،
والحطاب 2 / 90، والكافي لابن عبد البر 1 / 350، ومغني المحتاج 1 / 448،
523، والمهذب 1 / 95، والمغني 3 / 153، 365، وشرح منتهى الإرادات 1 / 461.
(3) حديث: " الصائم المتطوع أمير نفسه: إن شاء صام وإن شاء أفطر " أخرجه
الترمذي (3 / 109 - ط الحلبي) والحاكم (1 / 439 - ط دائرة المعارف
العثمانية) وأعله ابن التركماني بالاضطراب في سنده ومتنه (الجوهر النقي
بهامش البيهقي 4 / 278 ط دائرة المعارف العثمانية) .
(12/160)
وَالْعَارِيَّةِ وَالْوَقْفِ
وَالْوَصِيَّةِ، وَإِِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ.
فَإِِنْ كَانَ مِنْ عُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ، فَلِكُل عَقْدٍ حُكْمُهُ فِي
جَوَازِ الرُّجُوعِ أَوْ عَدَمِ جَوَازِهِ. فَفِي الْوَصِيَّةِ مَثَلاً:
يَجُوزُ بِاتِّفَاقٍ الرُّجُوعُ فِيهَا مَا دَامَ الْمُوصِي حَيًّا. وَفِي
الْعَارِيَّةِ وَالْقَرْضِ: يَجُوزُ الرُّجُوعُ بِطَلَبِ رَدِّ الشَّيْءِ
الْمُسْتَعَارِ وَاسْتِرْدَادِ بَدَل الْقَرْضِ فِي الْحَال بَعْدَ
الْقَبْضِ. وَهَذَا عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ، بَل قَال الْجُمْهُورُ:
إِنَّ الْمُقْرِضَ إِِذَا أَجَّل الْقَرْضَ لاَ يَلْزَمُهُ التَّأْجِيل؛
لأَِنَّهُ لَوْ لَزِمَ فِيهِ الأَْجَل لَمْ يَبْقَ تَبَرُّعًا.
وَيَجُوزُ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ قَبْل الْقَبْضِ، فَإِِذَا تَمَّ
الْقَبْضُ فَلاَ رُجُوعَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، إِلاَّ
فِيمَا وَهَبَ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَجُوزُ
الرُّجُوعُ إِنْ كَانَتْ لأَِجْنَبِيٍّ (1) .
وَفِي كُل ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي أَبْوَابِهِ. وَفِي (تَبَرُّعٌ) .
أَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ التَّبَرُّعَاتِ كَالصَّدَقَةِ وَالإِِْنْفَاقِ
وَمَا شَابَهُ ذَلِكَ، فَإِِنْ كَانَ قَدْ مَضَى فَلاَ رُجُوعَ فِيهِ، مَا
دَامَ ذَلِكَ قَدْ تَمَّ بِنِيَّةِ التَّبَرُّعِ.
__________
(1) البدائع 5 / 234 و 6 / 216 و 7 / 378، 396، والهداية 3 / 222 - 231 و 4
/ 235، ومنح الجليل 3 / 50، وجواهر الإكليل 2 / 212، ومغني المحتاج 3 / 71،
والمهذب 1 / 310، 370، 454، 468، ومنتهى الإرادات 2 / 227، 520، 525،
والمغني 4 / 349 و 5 / 229.
(12/161)
يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: لاَ رُجُوعَ فِي
الصَّدَقَةِ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ فِيهَا الثَّوَابُ لاَ الْعِوَضُ.
وَيَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ يَجُوزُ لِلْمُتَصَدِّقِ الرُّجُوعُ فِي
صَدَقَتِهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، لأَِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَال فِي حَدِيثِهِ: مَنْ وَهَبَ هِبَةً عَلَى وَجْهِ صَدَقَةٍ فَإِِنَّهُ
لاَ يَرْجِعُ فِيهَا. وَمِثْل ذَلِكَ الإِِْنْفَاقُ إِِذَا كَانَ بِقَصْدِ
التَّبَرُّعِ فَلاَ رُجُوعَ فِيهِ.
يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: إِِذَا أَنْفَقَ الْوَصِيُّ مِنْ مَال نَفْسِهِ
عَلَى الصَّبِيِّ، وَلِلصَّبِيِّ مَالٌ غَائِبٌ، فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ فِي
الإِِْنْفَاقِ اسْتِحْسَانًا، إِلاَّ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّهُ قَرْضٌ، أَوْ
أَنَّهُ يُرْجَعُ بِهِ عَلَيْهِ. وَيَقُول ابْنُ الْقَيِّمِ: الْمَقَاصِدُ
تُغَيِّرُ أَحْكَامَ التَّصَرُّفَاتِ، فَالنِّيَّةُ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي
التَّصَرُّفَاتِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قَضَى عَنْ غَيْرِهِ دَيْنًا،
أَوْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ نَفَقَةً وَاجِبَةً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ - يَنْوِي
التَّبَرُّعَ وَالْهِبَةَ - لَمْ يَمْلِكِ الرُّجُوعَ بِالْبَدَل، وَإِِنْ
لَمْ يَنْوِ فَلَهُ الرُّجُوعُ. عَلَى أَنَّ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلاً
وَخِلاَفًا بَيْنَ الْمَذَاهِبِ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ، وَمِنْ ذَلِكَ
مَثَلاً: أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ يُجِيزُونَ لِلأَْبِ وَلِسَائِرِ الأُْصُول
الرُّجُوعَ فِي الصَّدَقَةِ الْمُتَطَوَّعِ بِهَا عَلَى الْوَلَدِ، أَمَّا
الْوَاجِبَةُ فَلاَ رُجُوعَ فِيهَا. وَلاَ يُجِيزُونَ لِلأَْبِ الرُّجُوعَ
فِي الإِِْبْرَاءِ لِوَلَدِهِ عَنْ دَيْنِهِ. بَيْنَمَا يُجِيزُ
الْحَنَابِلَةُ رُجُوعَ الأَْبِ فِيمَا أَبْرَأَ ابْنَهُ مِنْهُ مِنَ
الدُّيُونِ (1) .
__________
(1) ابن عابدين 4 / 422، 5 / 458، والمغني 5 / 684، وإعلام الموقعين 3 /
98، وأسنى المطالب 2 / 483، والاختبارات الفقهية ص 187.
(12/161)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي
(تَبَرُّعٌ، صَدَقَةٌ، إِبْرَاءٌ، هِبَةٌ، نَفَقَةٌ) .
23 - أَمَّا مَا شَرَعَ فِيهِ مِنَ الصَّدَقَةِ. فَأَخْرَجَ بَعْضَهُ،
فَلاَ يَلْزَمُهُ الصَّدَقَةُ بِبَاقِيهِ.
يَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: انْعَقَدَ الإِِْجْمَاعُ عَلَى أَنَّ
الإِِْنْسَانَ لَوْ نَوَى الصَّدَقَةَ بِمَالٍ مُقَدَّرٍ، وَشَرَعَ فِي
الصَّدَقَةِ بِهِ، فَأَخْرَجَ بَعْضَهُ لَمْ تَلْزَمْهُ الصَّدَقَةُ
بِبَاقِيهِ، وَهُوَ نَظِيرُ الاِعْتِكَافِ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ
بِالشَّرْعِ فَأَشْبَهَ الصَّدَقَةَ، غَيْرَ أَنَّ ابْنَ رَجَبٍ ذَكَرَ
خِلاَفًا فِي ذَلِكَ.
وَالْحَطَّابُ عَدَّ الأَْشْيَاءَ الَّتِي تَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ، وَهِيَ
سَبْعٌ: الصَّلاَةُ وَالصَّوْمُ وَالاِعْتِكَافُ وَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ
وَالاِئْتِمَامُ وَالطَّوَافُ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا لاَ يَلْزَمُ
بِالشُّرُوعِ، وَأَنَّهُ لاَ يَجِبُ الْقَضَاءُ بِقَطْعِهِ، وَهُوَ:
الصَّدَقَةُ وَالْقِرَاءَةُ وَالأَْذْكَارُ وَالْوَقْفُ وَالسَّفَرُ
لِلْجِهَادِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْقُرُبَاتِ (1) . وَيُنْظَرُ تَفْصِيل
ذَلِكَ فِي (تَبَرُّعٌ، صَدَقَةٌ) .
ب - نِيَّةُ التَّطَوُّعِ:
24 - التَّطَوُّعُ - إِنْ كَانَ عِبَادَةً - فَلاَ بُدَّ فِيهِ مِنَ
النِّيَّةِ بِالإِِْجْمَاعِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ
لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (2) وَقَوْلُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
__________
(1) المغني 3 / 185، والقواعد لابن رجب 86، ومواهب الجليل 2 / 90.
(2) سورة البينة / 5.
(12/162)
{إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ (1)
وَهِيَ مَقْصُودَةٌ بِهَا تَمْيِيزُ الْعِبَادَاتِ عَنِ الْعَادَاتِ،
وَتَمْيِيزُ بَعْضِ الْعِبَادَاتِ عَنْ بَعْضٍ. فَالْغُسْل قَدْ يَكُونُ
تَبَرُّدًا وَعِبَادَةً، وَالإِِْمْسَاكُ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ قَدْ يَكُونُ
حَمِيَّةً أَوْ تَدَاوِيًا، وَدَفْعُ الْمَال يَكُونُ صَدَقَةً شَرْعِيَّةً
وَصِلَةً مُتَعَارَفَةً. . وَهَكَذَا، وَعَلَى ذَلِكَ فَالنِّيَّةُ شَرْطٌ
فِي الْعِبَادَاتِ بِاتِّفَاقٍ (2) ، إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ
يَخْتَلِفُونَ فِي النِّيَّةِ فِي تَطَوُّعِ الْعِبَادَاتِ بِالنِّسْبَةِ
لِلتَّعْيِينِ أَوِ الإِِْطْلاَقِ.
25 - وَالتَّطَوُّعُ فِي الْعِبَادَاتِ، مِنْهُ مَا هُوَ مُطْلَقٌ
كَالتَّهَجُّدِ وَالصَّوْمِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُقَيَّدٌ كَصَلاَةِ
الْكُسُوفِ وَالسُّنَنِ الرَّوَاتِبِ مَعَ الْفَرَائِضِ، وَكَصِيَامِ
عَرَفَةَ وَعَاشُورَاءَ.
أَمَّا التَّطَوُّعُ الْمُطْلَقُ، فَيَصِحُّ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ
أَدَاؤُهُ دُونَ تَعْيِينِهِ بِالنِّيَّةِ، وَتَكْفِي نِيَّةُ مُطْلَقِ
الصَّلاَةِ أَوْ مُطْلَقِ الصَّوْمِ.
أَمَّا التَّطَوُّعُ الْمُعَيَّنُ كَالرَّوَاتِبِ وَالْوِتْرِ
وَالتَّرَاوِيحِ، وَصَلاَةِ الْكُسُوفِ وَالاِسْتِسْقَاءِ، وَصِيَامِ
يَوْمِ عَاشُورَاءَ، فَإِِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ تَعْيِينُهُ
بِالنِّيَّةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ
__________
(1) حديث: " إنما الأعمال بالنيات " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 9 - ط
السلفية ومسلم (3 / 1515 - ط الحلبي) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
واللفظ للبخاري.
(2) الأشباه لابن نجيم ص 19، 23 والذخيرة للقرافي ص 235، 236، والمنثور 3 /
287، والمغني 1 / 464.
(12/162)
وَبَعْضِ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ، غَيْرَ
أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ حَدَّدُوا الْمُعَيَّنَ عِنْدَهُمْ بِأَنَّهُ:
الْوِتْرُ وَالْعِيدَانِ وَصَلاَةُ الْكُسُوفِ وَالاِسْتِسْقَاءِ
وَرَغِيبَةِ الْفَجْرِ، أَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَهُوَ مِنَ الْمُطْلَقِ
عِنْدَهُمْ. وَالصَّحِيحُ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ
التَّطَوُّعَ الْمُعَيَّنَ أَوَ الْمُقَيَّدَ يَصِحُّ دُونَ تَعْيِينِهِ،
وَأَنَّهُ يَكْفِي فِيهِ مُطْلَقُ النِّيَّةِ كَالتَّطَوُّعِ الْمُطْلَقِ،
وَهُوَ مَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
26 - أَمَّا غَيْرُ الْعِبَادَاتِ مِنَ التَّطَوُّعَاتِ، فَالأَْصْل
أَنَّهُ لاَ مَدْخَل لِلنِّيَّةِ فِيهَا، إِلاَّ أَنَّ نِيَّةَ الْقُرْبَةِ
فِيهَا - امْتِثَالاً لأَِوَامِرِ الشَّرْعِ الَّتِي تَحُثُّ عَلَى
الْمَعْرُوفِ - مَطْلُوبَةً لاِسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ، إِذْ إِنَّهَا لاَ
تَتَمَحَّضُ قُرْبَةً إِلاَّ بِهَذِهِ النِّيَّةِ. يَقُول الشَّاطِبِيُّ:
الْمَقَاصِدُ مُعْتَبَرَةٌ فِي التَّصَرُّفَاتِ مِنَ الْعِبَادَاتِ
وَالْعَادَاتِ.
إِِلَى أَنْ قَال: وَأَمَّا الأَْعْمَال الْعَادِيَّةُ - وَإِِنْ لَمْ
تَفْتَقِرْ فِي الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَتِهَا إِِلَى نِيَّةٍ - فَلاَ
تَكُونُ عِبَادَاتٍ وَلاَ مُعْتَبَرَاتٍ فِي الثَّوَابِ إِلاَّ مَعَ قَصْدِ
الاِمْتِثَال، وَفِي الأَْشْبَاهِ لاِبْنِ نُجَيْمٍ: لاَ يَتَوَقَّفُ
الْوَقْفُ وَلاَ الْهِبَةُ وَلاَ الْوَصِيَّةُ عَلَى النِّيَّةِ،
فَالْوَصِيَّةُ إِنْ قُصِدَ التَّقَرُّبُ بِهَا
__________
(1) الأشباه لابن نجيم ص 32، 33، والبدائع 1 / 288، وحاشية الدسوقي 1 /
318، والحطاب 1 / 515، والأشباه للسيوطي ص 15 - 17، والمنثور 3 / 276،
والمهذب 1 / 77، والمغني 1 / 466، وشرح منتهى الإرادات 1 / 167.
(12/163)
فَلَهُ الثَّوَابُ، وَإِِلاَّ فَهِيَ
صَحِيحَةٌ فَقَطْ، وَكَذَلِكَ الْوَقْفُ إِنْ نَوَى الْقُرْبَةَ فَلَهُ
الثَّوَابُ وَإِِلاَّ فَلاَ، وَعَلَى هَذَا سَائِرُ الْقُرَبِ لاَ بُدَّ
فِيهَا مِنَ النِّيَّةِ، بِمَعْنَى تَوَقُّفِ حُصُول الثَّوَابِ عَلَى
قَصْدِ التَّقَرُّبِ بِهَا إِِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَفِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: الْهِبَةُ مِنَ التَّبَرُّعَاتِ
الْمَنْدُوبَةِ كَالصَّدَقَةِ، وَهَذَا إِنْ صَحَّ الْقَصْدُ، وَإِِنِ
اسْتَحْضَرَ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا رَغَّبَ فِيهِ الشَّرْعُ فَإِِنَّهُ
يُثَابُ. وَفِي الْمَنْثُورِ فِي الْقَوَاعِدِ لِلزَّرْكَشِيِّ: عِيَادَةُ
الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعُ الْجِنَازَةِ وَرَدُّ السَّلاَمِ قُرْبَةٌ، لاَ
يُسْتَحَقُّ الثَّوَابُ عَلَيْهَا إِلاَّ بِالنِّيَّةِ (1) .
ج - النِّيَابَةُ فِي التَّطَوُّعِ:
27 - التَّطَوُّعُ إِنْ كَانَ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ
كَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ، فَلاَ تَجُوزُ فِيهِ النِّيَابَةُ، لأَِنَّهُ
لاَ تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي فَرْضِهِ فِي الْجُمْلَةِ، فَلاَ تَجُوزُ فِي
نَفْلِهِ. وَإِِنْ كَانَ مُرَكَّبًا مِنْهُمَا كَالْحَجِّ، فَعِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ، وَهُوَ
الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَحَدُ قَوْلَيْنِ مُعْتَمَدَيْنِ
عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
أَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ وَالتَّطَوُّعَاتِ
بِأَنْوَاعِ الْبِرِّ وَالْمَعْرُوفِ، كَالصَّدَقَةِ وَالْهَدْيِ
وَالْعِتْقِ وَالْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ وَالإِِْبْرَاءِ
وَغَيْرِهَا فَإِِنَّهُ تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهَا.
كَمَا أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنْ
يَتَطَوَّعَ
__________
(1) الموافقات للثساطبي 2 / 323، 329، والأشباه لابن نجيم ص 23، 24، والشرح
الصغير 2 / 312 ط الحلبي بتصرف، والمنثور في القواعد 3 / 61.
(12/163)
الإِِْنْسَانُ بِجَعْل ثَوَابِ عَمَلِهِ
مِنْ صَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَحَجٍّ وَصَدَقَةٍ وَعِتْقٍ وَطَوَافٍ وَعُمْرَةٍ
وَقِرَاءَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ، مِنْ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ.
بِدَلِيل أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحَّى
بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، أَحَدُهُمَا عَنْهُ، وَالآْخَرُ عَنْ
أُمَّتِهِ. (1) وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ
أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِعَمْرِو
بْنِ الْعَاصِ، لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ أَبِيهِ: لَوْ كَانَ مُسْلِمًا
فَأَعْتَقْتُمْ عَنْهُ أَوْ تَصَدَّقْتُمْ عَنْهُ أَوْ حَجَجْتُمْ عَنْهُ
بَلَغَهُ ذَلِكَ. (2)
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا عَامٌّ فِي حَجِّ التَّطَوُّعِ وَغَيْرِهِ؛
وَلأَِنَّهُ عَمَل بِرٍّ وَطَاعَةٍ فَوَصَل نَفْعُهُ وَثَوَابُهُ
كَالصَّدَقَةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ الْوَاجِبِ. عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَال: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنَّا نَتَصَدَّقُ عَنْ
مَوْتَانَا، وَنَحُجُّ عَنْهُمْ، وَنَدْعُو لَهُمْ، فَهَل يَصِل ذَلِكَ
لَهُمْ؟ قَال: نَعَمْ، إِنَّهُ لَيَصِل إِلَيْهِمْ، وَإِِنَّهُمْ
لَيَفْرَحُونَ بِهِ كَمَا يَفْرَحُ أَحَدُكُمْ بِالطَّبَقِ إِِذَا أُهْدِيَ
إِلَيْهِ (3) وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنَ
الْبِرِّ بَعْدَ الْمَوْتِ أَنْ
__________
(1) حديث: " ضحى بكبشين أملحين: أحدهما عنه، والآخر عن أمته " أخرجه
البيهقي (9 / 267 - ط دائرة المعارف العثمانية) وأبو يعلى كما في مجمع
الزوائد (4 / 22 - ط القدسي) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما،
وقال الهيثمي: إسناده حسن.
(2) حديث: " لو كان مسلما فأعتقتم عنه أو تصدقتم عنه أو حججتم عنه بلغه ذلك
" أخرجه أبو داود (3 / 302 - تحقيق عزت عبيد دعاس) .
(3) حديث: " إنه ليصل إليهم، وإنهم ليفرحون به كما يفرح أحدكم بالطبق إذا
أهدى إليه ". رواه أبو حفص العكبري كما ورد في ابن عابدين 2 / 237.
(12/164)
تُصَلِّيَ لأَِبَوَيْكَ مَعَ صَلاَتِكَ،
وَأَنْ تَصُومَ لَهُمَا مَعَ صَوْمِكَ (1)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ يَجُوزُ فِيمَا عَدَا
الصَّلاَةَ وَالصِّيَامَ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (نِيَابَةٌ - وَكَالَةٌ - نَفْلٌ -
صَدَقَةٌ - صَلاَةٌ - وَصَوْمٌ) .
د - الأُْجْرَةُ عَلَى التَّطَوُّعِ:
28 - الأَْصْل أَنَّ كُل طَاعَةٍ يَخْتَصُّ بِهَا الْمُسْلِمُ لاَ يَجُوزُ
أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَيْهَا، كَالإِِْمَامَةِ وَالأَْذَانِ وَالْحَجِّ
وَالْجِهَادِ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ. لِمَا رَوَى عُثْمَانُ بْنُ أَبِي
الْعَاصِ قَال: إِنَّ آخِرَ مَا عَهِدَ إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِ اتَّخِذْ مُؤَذِّنًا لاَ يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ
أَجْرًا (3)
__________
(1) حديث: " إن من البر بعد الموت أن تصلي لأبويك مع صلاتك، وأن تصوم لهما
مع صومك ". رواه الدارقطني كما ورد في ابن عابدين 2 / 237.
(2) البدائع 2 / 13، 41، 103، وابن عابدين 1 / 493، 606، 2 / 118، 237 -
241، والهداية 1 / 127 و 3 / 138، ومنح الجليل 1 / 306، 442، 449، 3 / 352،
وجواهر الإكليل 2 / 125، والفروق للقرافي 3 / 191، والشرح الصغير 1 / 264،
2 / 182، ومغني المحتاج 3 / 67، ونهاية المحتاج 6 / 92 و 8 / 136، وقليوبي
2 / 338، والمنثور 3 / 312، والمهذب 1 / 355، والمغني 2 / 567، 568، 5 /
89، وشرح منتهى الإرادات 1 / 121، 362، 2 / 6.
(3) حديث: " اتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا " أخرجه أبو داود (1 / 363
ط. عبيد دعاس) والترمذي (1 / 410 - مصطفى البابي) . وقال: حديث عثمان حديث
حسن صحيح.
(12/164)
وَلأَِنَّ الْقُرْبَةَ مَتَى حَصَلَتْ
وَقَعَتْ عَنِ الْعَامِل، وَلِهَذَا تُعْتَبَرُ أَهْلِيَّتُهُ، فَلاَ
يَجُوزُ أَخْذُ الأَْجْرِ عَنْ غَيْرِهِ كَمَا فِي الصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ.
هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
(1) .
وَيَصِحُّ مَعَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. جَاءَ فِي الشَّرْحِ
الصَّغِيرِ: تُكْرَهُ إِجَارَةُ الإِِْنْسَانِ نَفْسَهُ فِي عَمَلٍ لِلَّهِ
تَعَالَى، حَجًّا أَوْ غَيْرَهُ، كَقِرَاءَةٍ وَإِِمَامَةٍ وَتَعْلِيمِ
عِلْمٍ، وَصِحَّتُهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ. كَمَا تُكْرَهُ الإِِْجَارَةُ
عَلَى الأَْذَانِ، قَال مَالِكٌ: لأََنْ يُؤَاجِرَ الرَّجُل نَفْسَهُ فِي
عَمَل اللَّبِنِ وَقَطْعِ الْحَطَبِ وَسَوْقِ الإِِْبِل أَحَبُّ إِلَيَّ
مِنْ أَنْ يَعْمَل عَمَلاً لِلَّهِ بِأُجْرَةٍ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ، كَمَا فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: لاَ تَصِحُّ
إِجَارَةُ مُسْلِمٍ لِجِهَادٍ وَلاَ لِعِبَادَةٍ يَجِبُ لَهَا نِيَّةٌ،
وَأَلْحَقُوا بِذَلِكَ الإِِْمَامَةَ وَلَوْ لِنَفْلٍ؛ لأَِنَّهُ حَصَل
لِنَفْسِهِ. أَمَّا مَا لاَ تَجِبُ لَهُ نِيَّةٌ كَالأَْذَانِ فَيَصِحُّ
الاِسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ، وَاسْتُثْنِيَ مِمَّا فِيهِ نِيَّةٌ: الْحَجُّ
وَالْعُمْرَةُ، فَيَجُوزُ الاِسْتِئْجَارُ لَهُمَا أَوْ لأَِحَدِهِمَا عَنْ
عَاجِزٍ أَوْ مَيِّتٍ، وَتَقَعُ صَلاَةُ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ تَبَعًا
لَهُمَا، وَتَجُوزُ الإِِْجَارَةُ عَنْ تَفْرِقَةِ زَكَاةٍ وَكَفَّارَةٍ
وَأُضْحِيَّةٍ وَهَدْيٍ وَذَبْحٍ وَصَوْمٍ عَنْ مَيِّتٍ وَسَائِرِ مَا
يَقْبَل النِّيَابَةَ وَإِِنْ تَوَقَّفَ عَلَى النِّيَّةِ، لِمَا فِيهَا
مِنْ شَائِبَةِ الْمَال. وَتَصِحُّ الإِِْجَارَةُ لِكُل مَا لاَ تَجِبُ
لَهُ
__________
(1) البدائع 4 / 192، والهداية 3 / 240، والمغني 3 / 231 و 5 / 555 - 559،
والاختيارات الفقهية ص 55.
(12/165)
نِيَّةٌ. وَتَصِحُّ لِتَجْهِيزِ مَيِّتٍ
وَدَفْنِهِ وَتَعْلِيمِ قُرْآنٍ وَلِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عِنْدَ الْقَبْرِ
أَوْ مَعَ الدُّعَاءِ (1) .
وَفِي الاِخْتِيَارَاتِ الْفِقْهِيَّةِ لاِبْنِ تَيْمِيَّةَ: لاَ يَجُوزُ
لِلإِِْنْسَانِ أَنْ يَقْبَل هَدِيَّةً مِنْ شَخْصٍ لِيَشْفَعَ لَهُ عِنْدَ
ذِي أَمْرٍ، أَوْ أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُ مَظْلَمَةً، أَوْ يُوصِل إِلَيْهِ
حَقَّهُ أَوْ يُوَلِّيَهُ وِلاَيَةً يَسْتَحِقُّهَا، أَوْ يَسْتَخْدِمُهُ
فِي الْجُنْدِ الْمُقَاتِلَةِ وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِذَلِكَ، وَإِِذَا
امْتَنَعَتِ الْهَدِيَّةُ امْتَنَعَتِ الأُْجْرَةُ مِنْ بَابٍ أَوْلَى.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ: أَنَّ مَنْ أَخَذَ أَجْرًا عَلَى عَمَل تَطَوُّعٍ -
مِمَّا يَجُوزُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ - فَإِِنَّهُ يُعْتَبَرُ أَجِيرًا،
وَلَيْسَ مُتَطَوِّعًا بِالْقُرُبَاتِ؛ لأَِنَّ الْقُرَبَ وَالطَّاعَاتِ
إِِذَا وَقَعَتْ بِأُجْرَةٍ لَمْ تَكُنْ قُرْبَةً وَلاَ عِبَادَةً؛
لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ التَّشْرِيكُ فِي الْعِبَادَةِ، لَكِنْ إِِذَا كَانَ
الرِّزْقُ مِنْ بَيْتِ الْمَال أَوْ مِنْ وَقْفٍ فَإِِنَّهُ يُعْتَبَرُ
نَفَقَةً فِي الْمَعْنَى، وَلاَ يُعْتَبَرُ أَجْرًا.
جَاءَ فِي الاِخْتِيَارَاتِ الْفِقْهِيَّةِ: الأَْعْمَال الَّتِي يَخْتَصُّ
فَاعِلُهَا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْل الْقُرْبَةِ، هَل يَجُوزُ إِيقَاعُهَا
عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْقُرْبَةِ؟ فَمَنْ قَال: لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ، لَمْ
يُجِزِ الإِِْجَارَةَ عَلَيْهَا، لأَِنَّهَا بِالْعِوَضِ تَقَعُ غَيْرَ
قُرْبَةٍ وَإِِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَاللَّهُ تَعَالَى لاَ
يَقْبَل مِنَ الْعَمَل إِلاَّ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ، وَمَنْ جَوَّزَ
الإِِْجَارَةَ جَوَّزَ إِيقَاعَهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْقُرْبَةِ،
وَقَال: تَجُوزُ الإِِْجَارَةُ عَلَيْهَا لاَ فِيهَا
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 264 ط الحلبي، ونهاية المحتاج 5 / 287، 288، 6 / 91.
(12/165)
مِنْ نَفْعِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَأَمَّا مَا
يُؤْخَذُ مِنْ بَيْتِ الْمَال فَلَيْسَ عِوَضًا وَأُجْرَةً، بَل رِزْقٌ
لِلإِِْعَانَةِ عَلَى الطَّاعَةِ، فَمَنْ عَمِل مِنْهُمْ لِلَّهِ أُثِيبَ.
وَكَذَلِكَ الْمَال الْمَوْقُوفُ عَلَى أَعْمَال الْبِرِّ وَالْمُوصَى بِهِ
كَذَلِكَ، وَالْمَنْذُورُ كَذَلِكَ، لَيْسَ كَالأُْجْرَةِ. وَيَقُول
الْقَرَافِيُّ: بَابُ الأَْرْزَاقِ أَدْخَل فِي بَابِ الإِِْحْسَانِ
وَأَبْعَدُ عَنْ بَابِ الْمُعَاوَضَةِ، وَبَابُ الإِِْجَارَةِ أَبْعَدُ
مِنْ بَابِ الْمُسَامَحَةِ وَأَدْخَل فِي بَابِ الْمُكَايَسَةِ (1) ، ثُمَّ
يَقُول: الأَْرْزَاقُ مُجْمَعٌ عَلَى جَوَازِهَا، لأَِنَّهَا إِحْسَانٌ
وَمَعْرُوفٌ وَإِِعَانَةٌ لاَ إِجَارَةٌ (2) .
انْقِلاَبُ التَّطَوُّعِ إِِلَى وَاجِبٍ:
29 - يَنْقَلِبُ التَّطَوُّعُ إِِلَى وَاجِبٍ لأَِسْبَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ
مِنْهَا:
أ - الشُّرُوعُ:
30 - التَّطَوُّعُ بِالْحَجِّ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ يَصِيرُ
وَاجِبًا بِالشُّرُوعِ فِيهِ، بِحَيْثُ إِِذَا فَسَدَ وَجَبَ قَضَاؤُهُ.
وَمِثْل ذَلِكَ: الصَّلاَةُ وَالصِّيَامُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ (3) .
__________
(1) المكايسة: المغالبة والمسامحة (حاشية الدسوقي 3 / 2) .
(2) الاختيارات الفقهية ص 184، والمغني 3 / 231، والفروق للقرافي 3 / 3، 4.
وحديث: " إنما الأعمال بالنيات. . . " سبق تخريجه (ف 24) .
(3) البدائع 1 / 226 و 2 / 52، 108، 117، والشرح الصغير 1 / 248، ومغني
المحتاج 1 / 448، والمغني 3 / 3.
(12/166)
ب - التَّطَوُّعُ بِالْحَجِّ مِمَّنْ لَمْ
يَحُجَّ حَجَّةَ الإِِْسْلاَمِ:
31 - قَال ابْنُ قُدَامَةَ: مَنْ أَحْرَمَ بِحَجِّ تَطَوُّعٍ - مِمَّنْ
لَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الإِِْسْلاَمِ - وَقَعَ عَنْ حَجَّةِ الإِِْسْلاَمِ،
وَبِهَذَا قَال ابْنُ عُمَرَ وَأَنَسٌ وَالشَّافِعِيُّ؛ لأَِنَّهُ أَحْرَمَ
بِالْحَجِّ وَعَلَيْهِ فَرْضُهُ، فَوَقَعَ عَنْ فَرْضِهِ كَالْمُطْلَقِ.
وَلَوْ أَحْرَمَ بِتَطَوُّعٍ وَعَلَيْهِ مَنْذُورَةٌ وَقَعَتْ عَنِ
الْمَنْذُورَةِ، وَلأَِنَّهَا وَاجِبَةٌ فَهِيَ كَحَجَّةِ الإِِْسْلاَمِ.
وَالْعُمْرَةُ كَالْحَجِّ فِيمَا ذَكَرْنَا لأَِنَّهَا أَحَدُ
النُّسُكَيْنِ، فَأَشْبَهَتِ الآْخَرَ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِِلَى: أَنَّهُ إِِذَا نَوَى
حَجَّةَ نَفْلٍ - وَلَمْ يَكُنْ قَدْ حَجَّ حَجَّةَ الإِِْسْلاَمِ - وَقَعَ
عَمَّا نَوَاهُ؛ لأَِنَّ وَقْتَ الْحَجِّ يُشْبِهُ وَقْتَ الصَّلاَةِ
(ظَرْفٌ) وَوَقْتُ الصَّوْمِ (مِعْيَارٌ) فَأُعْطِيَ حُكْمَهُمَا،
فَيَتَأَدَّى فَرْضُهُ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ، وَيَقَعُ عَنِ النَّفْل
إِِذَا نَوَاهُ.
وَقَال ابْنُ نُجَيْمٍ: لَوْ طَافَ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ فِي أَيَّامِ
النَّحْرِ وَقَعَ عَنِ الْفَرْضِ.
وَفِي الْبَدَائِعِ: لَوْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ عَلَى فَقِيرٍ،
وَلَمْ يَنْوِ الزَّكَاةَ أَجْزَأَهُ عَنِ الزَّكَاةِ اسْتِحْسَانًا.
وَالْقِيَاسُ: أَنْ لاَ يَجُوزَ؛ لأَِنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ
مَقْصُودَةٌ، فَلاَ بُدَّ لَهَا مِنَ النِّيَّةِ. وَوَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ
أَنَّ النِّيَّةَ وُجِدَتْ دَلاَلَةً، وَعَلَى هَذَا إِِذَا وَهَبَ جَمِيعَ
النِّصَابِ مِنَ الْفَقِيرِ، أَوْ نَوَى تَطَوُّعًا، وَلَوْ أَدَّى مِائَةً
لاَ يَنْوِي الزَّكَاةَ، وَنَوَى تَطَوُّعًا، لاَ تَسْقُطُ زَكَاةُ
الْمِائَةِ وَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ الْكُل
(12/166)
عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ
يَسْقُطُ عَنْهُ زَكَاةُ مَا تَصَدَّقَ، وَلاَ يَسْقُطُ عَنْهُ زَكَاةُ
الْبَاقِي (1) .
ج - الاِلْتِزَامُ أَوِ التَّعْيِينُ بِالنِّيَّةِ وَالْقَوْل:
32 - جَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: لَوْ نَذَرَ التَّصَدُّقَ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ بِمَكَّةَ بِهَذَا الدِّرْهَمِ عَلَى فُلاَنٍ، فَخَالَفَ،
جَازَ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: فَلَوْ خَالَفَ فِي بَعْضِهَا أَوْ
كُلِّهَا، بِأَنْ تَصَدَّقَ فِي غَيْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِبَلَدٍ آخَرَ
بِدِرْهَمٍ آخَرَ عَلَى شَخْصٍ آخَرَ جَازَ؛ لأَِنَّ الدَّاخِل تَحْتَ
النَّذْرِ مَا هُوَ قُرْبَةٌ، وَهُوَ أَصْل التَّصَدُّقِ دُونَ
التَّعْيِينِ، فَبَطَل التَّعْيِينُ وَلَزِمَهُ الْقُرْبَةُ.
ثُمَّ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَهَذَا لَيْسَ عَلَى إِطْلاَقِهِ لِمَا فِي
الْبَدَائِعِ: لَوْ قَال: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُطْعِمَ هَذَا
الْمِسْكِينَ شَيْئًا سَمَّاهُ وَلَمْ يُعَيِّنْهُ، فَلاَ بُدَّ أَنْ
يُعْطِيَهُ لِلَّذِي سَمَّى؛ لأَِنَّهُ إِِذَا لَمْ يُعَيِّنِ الْمَنْذُورَ
صَارَ تَعْيِينُ الْفَقِيرِ مَقْصُودًا، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ
غَيْرَهُ.
وَفِي الاِخْتِيَارِ: لاَ تَجِبُ الأُْضْحِيَّةُ عَلَى الْفَقِيرِ،
لَكِنَّهَا تَجِبُ بِالشِّرَاءِ، وَيَتَعَيَّنُ مَا اشْتَرَاهُ
لِلأُْضْحِيَّةِ. فَإِِنْ مَضَتْ أَيَّامُ الأُْضْحِيَّةِ وَلَمْ يَذْبَحْ،
تَصَدَّقَ بِهَا حَيَّةً؛ لأَِنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَى الْفَقِيرِ،
فَإِِذَا اشْتَرَاهَا بِنِيَّةِ الأُْضْحِيَّةِ تَعَيَّنَتْ لِلْوُجُوبِ،
وَالإِِْرَاقَةُ إِنَّمَا عُرِفَتْ قُرْبَةً فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ، وَقَدْ
فَاتَ فَيَتَصَدَّقُ بِعَيْنِهَا.
__________
(1) البدائع 2 / 40، والمغني 3 / 246، والأشباه لابن نجيم ص 45، وجواهر
الإكليل 1 / 175، ومسلم الثبوت 1 / 72، وحاشية الدسوقي مع شرح الدردير 2 /
5.
(12/167)
وَإِِنْ كَانَ الْمُضَحِّي غَنِيًّا،
وَفَاتَ وَقْتُ الأُْضْحِيَّةِ، تَصَدَّقَ بِثَمَنِهَا، اشْتَرَاهَا أَوْ
لاَ؛ لأَِنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، فَإِِذَا فَاتَ وَقْتُ الْقُرْبَةِ
فِي الأُْضْحِيَّةِ تَصَدَّقَ بِالثَّمَنِ إِخْرَاجًا لَهُ عَنِ
الْعُهْدَةِ.
وَجَاءَ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: الأُْضْحِيَّةُ سُنَّةٌ، وَلَكِنَّهَا
تَجِبُ بِالاِلْتِزَامِ، كَقَوْلِهِ: جَعَلْتُ هَذِهِ الشَّاةَ أُضْحِيَّةً
كَسَائِرِ الْقُرَبِ.
وَفِي تَحْرِيرِ الْكَلاَمِ فِي مَسَائِل الاِلْتِزَامِ لِلْحَطَّابِ:
الاِلْتِزَامُ الْمُطْلَقُ يُقْضَى بِهِ عَلَى الْمُلْتَزِمِ، مَا لَمْ
يُفْلِسْ أَوْ يَمُتْ أَوْ يَمْرَضْ.
وَقَال ابْنُ رُشْدٍ فِي نَوَازِلِهِ فِيمَنْ عَزَل لِمِسْكِينٍ مُعَيَّنٍ
شَيْئًا، وَبَتَّلَهُ لَهُ بِقَوْلٍ أَوْ نِيَّةٍ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ
يَصْرِفَهُ إِِلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ إِنْ فَعَل. وَلَوْ نَوَى
أَنْ يُعْطِيَهُ وَلَمْ يُبَتِّلْهُ لَهُ بِقَوْلٍ وَلاَ نِيَّةٍ كُرِهَ
لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إِِلَى غَيْرِهِ. وَمَعْنَى بَتَّلَهُ: جَعَلَهُ لَهُ
مِنَ الآْنَ.
وَفِي الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي: مَنْ أَخْرَجَ كِسْرَةً لِسَائِلٍ
فَوَجَدَهُ قَدْ ذَهَبَ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَكْلُهَا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ
أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ، كَمَا قَالَهُ مَالِكٌ. وَقَال
غَيْرُهُ: يَجُوزُ لَهُ أَكْلُهَا، وَقَال ابْنُ رُشْدٍ: يُحْمَل كَلاَمُ
غَيْرِ مَالِكٍ عَلَى مَا إِِذَا أَخْرَجَهَا لِمُعَيَّنٍ، فَيَجُوزُ لَهُ
أَكْلُهَا عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِهِ أَوْ عَدَمِ قَبُولِهِ، وَحُمِل كَلاَمُ
مَالِكٍ عَلَى إِخْرَاجِهَا لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ
أَكْلُهَا بَل يَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ، لأَِنَّهُ لَمْ يُعَيِّنِ
الَّذِي يَأْخُذُهَا.
(12/167)
وَفِي الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ لاِبْنِ
رَجَبٍ: الْهَدْيُ وَالأُْضْحِيَّةُ يَتَعَيَّنَانِ بِالتَّعْيِينِ
بِالْقَوْل بِلاَ خِلاَفٍ. وَفِي تَعْيِينِهِ بِالنِّيَّةِ وَجْهَانِ،
فَإِِذَا قَال: هَذِهِ صَدَقَةٌ، تَعَيَّنَتْ وَصَارَتْ فِي حُكْمِ
الْمَنْذُورَةِ، وَإِِذَا عَيَّنَ بِنِيَّتِهِ أَنْ يَجْعَلَهَا صَدَقَةً -
وَعَزَلَهَا عَنْ مَالِهِ - فَهُوَ كَمَا لَوِ اشْتَرَى شَاةً يَنْوِي
التَّضْحِيَةَ (1) .
د - النَّذْرُ:
33 - النَّذْرُ بِالْقُرَبِ وَالطَّاعَاتِ يَجْعَلُهَا وَاجِبَةً. قَال
الْكَاسَانِيُّ: النَّذْرُ مِنْ أَسْبَابِ الْوُجُوبِ فِي الْعِبَادَاتِ
وَالْقُرَبِ الْمَقْصُودَةِ. وَفِي فَتْحِ الْعَلِيِّ الْمَالِكِ:
النَّذْرُ الْمُطْلَقُ: هُوَ الْتِزَامُ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى
بِنِيَّةِ الْقُرْبَةِ (2) .
هـ - اسْتِدْعَاءُ الْحَاجَةِ:
34 - قَال ابْنُ رَجَبٍ فِي قَوَاعِدِهِ: مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِِلَى
الاِنْتِفَاعِ بِهِ مِنَ الأَْعْيَانِ - وَلاَ ضَرَرَ فِي بَذْلِهِ
لِتَيَسُّرِهِ، وَكَثْرَةِ وُجُودِهِ - أَوِ الْمَنَافِعِ الْمُحْتَاجِ
إِلَيْهَا يَجِبُ بَذْلُهُ مَجَّانًا بِغَيْرِ عِوَضٍ فِي الأَْظْهَرِ،
وَمِنْ ذَلِكَ وَضْعُ الْخَشَبِ عَلَى جِدَارِ الْجَارِ إِِذَا لَمْ
يَضُرَّ، وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ وُجُوبَ بَذْل الْمَاعُونِ، وَهُوَ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 126، والاختيار 5 / 19، ونهاية المحتاج 8 / 207، وفتح
العلي المالك 1 / 234، 248، والفواكه الدواني 2 / 220، والقواعد الفقهية
لابن رجب ص 86، والمغني 3 / 537.
(2) البدائع 2 / 223، وفتح العلي المالك 1 / 218.
(12/168)
مَا خَفَّ قَدْرُهُ وَسَهُل (وَجَرَتِ
الْعَادَةُ بِبَذْلِهِ) ،
وَمِنْهَا: الْمُصْحَفُ تَجِبُ إِعَارَتُهُ لِمُسْلِمٍ احْتَاجَ
الْقِرَاءَةَ فِيهِ. وَفِي حَاشِيَةِ الصَّاوِيِّ عَلَى الشَّرْحِ
الصَّغِيرِ: الْعَارِيَّةُ مَنْدُوبَةٌ، وَقَدْ يَعْرِضُ وُجُوبُهَا،
كَغَنِيٍّ عَنْهَا لِمَنْ يَخْشَى بِعَدَمِهَا هَلاَكَهُ. وَفِي الْقَرْضِ
قَال: الْقَرْضُ مَنْدُوبٌ، وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ مَا يُوجِبُهُ
كَالْقَرْضِ لِتَخْلِيصِ مُسْتَهْلِكٍ (1) .
و الْمِلْكُ:
35 - الأَْصْل فِي الْعِتْقِ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ مُرَغَّبٌ فِيهِ، لَكِنْ
يَكُونُ وَاجِبًا عَلَى مَنْ مَلَكَ أَصْلَهُ أَوْ فَرْعَهُ، حَيْثُ
يُعْتَقُ عَلَيْهِ بِنَفْسِ الْمِلْكِ (2) .
أَسْبَابُ مَنْعِ التَّطَوُّعِ:
36 - يُمْنَعُ التَّطَوُّعُ لأَِسْبَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ، مِنْهَا:
أ - وُقُوعُهُ فِي الأَْوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا:
37 - التَّطَوُّعُ بِالْعِبَادَةِ فِي الأَْوْقَاتِ الَّتِي نَهَى
الشَّارِعُ عَنْ وُقُوعِ الْعِبَادَةِ فِيهَا مَمْنُوعٌ، كَالصَّلاَةِ
وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْ غُرُوبِهَا أَوْ عِنْدَ الاِسْتِوَاءِ،
لِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال:
ثَلاَثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ، أَوْ أَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ
مَوْتَانَا: حِينَ
__________
(1) القواعد لابن رجب ص 227، والشرح الصغير وحاشية الصاوي 2 / 104، 205 ط
الحلبي.
(2) الشرح الصغير 2 / 445، والمهذب 2 / 5.
(12/168)
تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى
تَرْتَفِعَ، وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ حَتَّى تَمِيل
الشَّمْسُ، وَحِينَ تَضِيفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَغْرُبَ (1)
وَمِثْل ذَلِكَ التَّطَوُّعُ بِالصَّوْمِ فِي أَيَّامِ الْعِيدِ
وَالتَّشْرِيقِ (2) ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ
صِيَامِ يَوْمَيْنِ: يَوْمِ الْفِطْرِ، وَيَوْمِ النَّحْرِ. (3)
وَيُنْظَرُ فِي صِحَّةِ ذَلِكَ وَتَفْصِيلِهِ: (أَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ -
صَلاَةٌ - نَفْلٌ - صَوْمٌ) .
ب - إِقَامَةُ الصَّلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ:
38 - يُمْنَعُ التَّطَوُّعُ بِالصَّلاَةِ إِِذَا شَرَعَ الْمُؤَذِّنُ فِي
الإِِْقَامَةِ لِلصَّلاَةِ، أَوْ تَضَيَّقَ الْوَقْتُ بِحَيْثُ لاَ
يَتَّسِعُ لأَِدَاءِ أَيِّ نَافِلَةٍ (4) . قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَلاَ صَلاَةَ إِلاَّ
الْمَكْتُوبَةُ (5) (ر: أَوْقَاتُ الصَّلاَةِ، نَفْلٌ) .
__________
(1) حديث: " ثلاث ساعات. . . . " أخرجه مسلم (1 / 568 - 569 - ط الحلبي) .
(2) الاختيار 1 / 41، والدسوقي 1 / 186، وأسنى المطالب 1 / 123، والمغني 2
/ 107.
(3) حديث: " نهى عن صيام يومين: يوم الفطر ويوم النحر " أخرجه أحمد (2 /
511 ط المكتب الإسلامي) ، والبيهقي (4 / 297 ط دار المعرفة) وأصله عند
الشيخين.
(4) جواهر الإكليل 1 / 77، ومنتهى الإرادات 1 / 347، ومراقي الفلاح / 102.
(5) حديث: " إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة " أخرجه مسلم (1 / 493
- ط الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(12/169)
ج - عَدَمُ الإِِْذْنِ مِمَّنْ يَمْلِكُ
الإِِْذْنَ:
39 - مَنْ يَتَوَقَّفُ تَطَوُّعُهُ عَلَى إِذْنِ غَيْرِهِ لاَ يَجُوزُ لَهُ
أَنْ يَتَطَوَّعَ إِلاَّ بَعْدَ الإِِْذْنِ لَهُ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ
يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَطَوَّعَ بِصَوْمٍ أَوِ اعْتِكَافٍ أَوْ
حَجٍّ إِلاَّ بِإِِذْنِ زَوْجِهَا، وَلاَ يَصُومُ الأَْجِيرُ تَطَوُّعًا
إِلاَّ بِإِِذْنِ الْمُسْتَأْجِرِ إِِذَا تَضَرَّرَ بِالصَّوْمِ، وَلاَ
يَجُوزُ لِلْوَلَدِ الْبَالِغِ الإِِْحْرَامُ بِنَفْل حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ
أَوْ نَفْل جِهَادٍ إِلاَّ بِإِِذْنِ الأَْبَوَيْنِ (1) .
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (نَفْلٌ،
صَلاَةٌ، صَوْمٌ، حَجٌّ، إِجَارَةٌ، أُنْثَى) .
د - الإِِْفْلاَسُ فِي الْحَجْرِ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّبَرُّعَاتِ
الْمَالِيَّةِ:
40 - مَنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ فَإِِنَّهُ يُمْنَعُ شَرْعًا مِنَ
التَّصَرُّفِ فِي أَيِّ وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ التَّبَرُّعِ كَالصَّدَقَةِ
وَالْهِبَةِ، وَهَذَا بَعْدَ الْحَجْرِ بِاتِّفَاقٍ، أَمَّا قَبْل
الْحَجْرِ فَفِيهِ اخْتِلاَفُ الْفُقَهَاءِ (ر: حَجْرٌ، تَبَرُّعٌ،
إِفْلاَسٌ) .
وَتُمْنَعُ التَّبَرُّعَاتُ الْمُنَجَّزَةُ - كَالْعِتْقِ وَالْهِبَةِ
الْمَقْبُوضَةِ وَالصَّدَقَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ - إِنْ زَادَتْ عَلَى
الثُّلُثِ، وَكَانَتِ التَّبَرُّعَاتُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ،
__________
(1) البدائع 2 / 107، 108، والأشباه لابن نجيم / 173، والحطاب 2 / 453،
454، ونهاية المحتاج 3 / 356، والمغني 3 / 240.
(12/169)
لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ قَبْل وَفَاتِكُمْ
بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ. (1)
وَيَتَوَقَّفُ نَفَاذُ تِلْكَ التَّصَرُّفَاتِ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ
بَعْدَ وَفَاةِ الْمُوَرِّثِ.
وَمَنْ وَقَفَ وَقْفًا مُسْتَقِلًّا، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ عَلَيْهِ
دَيْنًا، وَلَمْ يُمْكِنْ وَفَاءُ الدَّيْنِ إِلاَّ بِبَيْعِ شَيْءٍ مِنَ
الْوَقْفِ، وَهُوَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، بِيعَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.
وَيُمْنَعُ مِنَ التَّبَرُّعِ أَيْضًا مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَةُ غَيْرِهِ،
بِحَيْثُ لاَ يَفْضُل شَيْءٌ بَعْدَ ذَلِكَ.
جَاءَ فِي الْمَنْثُورِ: الْقُرُبَاتُ الْمَالِيَّةُ كَالْعِتْقِ
وَالْوَقْفِ وَالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ إِِذَا فَعَلَهَا مَنْ عَلَيْهِ
دَيْنٌ، أَوْ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَةُ غَيْرِهِ مِمَّا لاَ يَفْضُل عَنْ
حَاجَتِهِ، يَحْرُمُ عَلَيْهِ فِي الأَْصَحِّ؛ لأَِنَّهُ حَقٌّ وَاجِبٌ
فَلاَ يَحِل تَرْكُهُ لِسُنَّةٍ. وَفِي الْقَوَاعِدِ لاِبْنِ رَجَبٍ: نَصَّ
أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ فِيمَنْ تَبَرَّعَ بِمَالِهِ بِوَقْفٍ
أَوْ صَدَقَةٍ وَأَبَوَاهُ مُحْتَاجَانِ: أَنَّ لَهُمَا رَدَّهُ، وَنَصَّ
فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: أَنَّ مَنْ أَوْصَى لأَِجَانِبَ، وَلَهُ أَقَارِبُ
مُحْتَاجُونَ، أَنَّ الْوَصِيَّةَ تُرَدُّ عَلَيْهِمْ. فَتَخْرُجُ مِنْ
ذَلِكَ أَنَّ مَنْ تَبَرَّعَ، وَعَلَيْهِ نَفَقَةٌ
__________
(1) حديث: " إن الله تصدق عليكم بوفاتكم بثلث أموالكم " أخرجه ابن ماجه (2
/ 904 ط. الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفي إسناده ضعف، قال ابن
حجر: طرقه كلها ضعيفة، لكن قد يقوي بعضها بعضا (بلوغ المرام ص 221 ط. عبد
الحميد أحمد حنفي) .
(12/170)
وَاجِبَةٌ لِوَارِثٍ أَوْ دَيْنٍ - لَيْسَ
لَهُ وَفَاءٌ - لَهُمَا رَدُّهُ (1) . وَكُل هَذَا فِي الْجُمْلَةِ
وَيُنْظَرُ فِي: (حَجْرٌ، تَبَرُّعٌ، هِبَةٌ، وَقْفٌ، وَصِيَّةٌ) .
هـ - التَّطَوُّعُ بِشَيْءٍ مِنَ الْقُرُبَاتِ فِي الْمَعْصِيَةِ:
41 - لاَ يَجُوزُ التَّبَرُّعُ بِشَيْءٍ فِيهِ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ
تَعَالَى، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: -
لاَ تَصِحُّ إِعَارَةُ الصَّيْدِ لِمُحْرِمٍ بِالْحَجِّ (2) . - لاَ
تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِمَا هُوَ مُحَرَّمٌ، كَالْوَصِيَّةِ لِلْكَنِيسَةِ،
وَالْوَصِيَّةِ بِالسِّلاَحِ لأَِهْل الْحَرْبِ. وَلاَ الْوَصِيَّةُ
بِبِنَاءِ كَنِيسَةٍ أَوْ بَيْتِ نَارٍ أَوْ عِمَارَتِهِمَا أَوِ
الاِتِّفَاقِ عَلَيْهِمَا (3) .
لاَ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى مَعْصِيَةٍ، وَلاَ عَلَى مَا هُوَ مُحَرَّمٌ
كَالْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ وَكَتْبِ التَّوْرَاةِ وَالإِِْنْجِيل. وَمَنْ
وَقَفَ عَلَى مَنْ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ لَمْ يَصِحَّ الْوَقْفُ؛ لأَِنَّ
الْقَصْدَ بِالْوَقْفِ الْقُرْبَةُ. وَفِي وَقْفِ ذَلِكَ إِعَانَةٌ عَلَى
الْمَعْصِيَةِ (4) . وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْجُمْلَةِ.
__________
(1) البدائع 7 / 174، والشرح الصغير 2 / 312 ط الحلبي، والحطاب 5 / 60، 61،
ونهاية المحتاج 4 / 355، ومغني المحتاج 3 / 120، والمغني 5 / 633، 6 / 71،
والاختيارات الفقهية ص 179، والمنثور في القواعد 3 / 278، والقواعد لابن
رجب ص 14.
(2) البدائع 6 / 214، 215، والفتاوى الهندية 4 / 372، والشرح الصغير 2 /
206 ط الحلبي، والمغني 5 / 225.
(3) المهذب 1 / 458، والمغني 6 / 105.
(4) الحطاب 5 / 23، ونهاية المحتاج 5 / 365، والمغني 5 / 645.
(12/170)
وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ
إِلَيْهِ فِي: (الْوَقْفُ، وَالْوَصِيَّةُ، وَالْهِبَةُ، وَالتَّبَرُّعُ)
ثَالِثًا: مَا يَخُصُّ غَيْرَ الْعِبَادَاتِ (مِنْ أَحْكَامِ التَّطَوُّعِ)
:
الإِِْيجَابُ وَالْقَبُول وَالْقَبْضُ:
42 - مِنَ التَّطَوُّعَاتِ مَا يَحْتَاجُ إِِلَى الإِِْيجَابِ وَالْقَبُول،
وَذَلِكَ فِي عُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ، مِثْل الْعَارِيَّةِ وَالْهِبَةِ
وَالْوَصِيَّةِ لِمُعَيَّنٍ، وَكَذَا الْوَقْفُ عَلَى مُعَيَّنٍ - مَعَ
اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ، وَاخْتِلاَفِهِمْ فِي اشْتِرَاطِ
الْقَبْضِ أَيْضًا - وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
أ - الْعَارِيَّةُ
43 - الإِِْيجَابُ وَالْقَبُول رُكْنٌ فِي عَقْدِ الْعَارِيَّةِ
بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَقَدْ يَحِل التَّعَاطِي مَحَل الإِِْيجَابِ
أَوِ الْقَبُول.
وَالْقَبْضُ لاَ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ فِي الْعَارِيَّةِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّهَا عَقْدٌ
غَيْرُ لاَزِمٍ عِنْدَهُمْ، وَلِلْمُعِيرِ الرُّجُوعُ فِي الْعَارِيَّةِ
فِي أَيِّ وَقْتٍ، سَوَاءٌ أَقَبَضَهَا الْمُسْتَعِيرُ أَمْ لَمْ
يَقْبِضْهَا، وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْمَنَافِعَ الْمُسْتَقْبَلَةَ لَمْ
تَحْصُل فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ؛ لأَِنَّهَا تُسْتَوْفَى شَيْئًا
فَشَيْئًا، فَكُلَّمَا اسْتَوْفَى شَيْئًا فَقَدْ قَبَضَهُ، وَالَّذِي لَمْ
يَسْتَوْفِهِ لَمْ يَقْبِضْهُ، فَجَازَ الرُّجُوعُ فِيهِ، إِلاَّ أَنْ
يَكُونَ الرُّجُوعُ فِي حَالٍ يَسْتَضِرُّ بِهِ الْمُسْتَعِيرُ،
كَإِِعَارَةِ
(12/171)
أَرْضٍ لِزِرَاعَةٍ أَوْ دَفْنِ مَيِّتٍ.
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَهُمْ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي:
(عَارِيَّةٌ) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَالإِِْعَارَةُ عَقْدٌ لاَزِمٌ عِنْدَهُمْ،
فَهِيَ تُفِيدُ تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ بِالإِِْيجَابِ وَالْقَبُول، وَلاَ
يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا قَبْل الْمُدَّةِ الْمُحَدَّدَةِ، أَوْ قَبْل
إِمْكَانِ الاِنْتِفَاعِ بِالْمُسْتَعَارِ إِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً (1) .
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ كَذَلِكَ.
ب - الْهِبَةُ:
44 - الإِِْيجَابُ وَالْقَبُول رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْهِبَةِ
بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. أَمَّا الْقَبْضُ فَلاَ بُدَّ مِنْهُ لِثُبُوتِ
الْمِلْكِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّ
الْمِلْكَ لَوْ ثَبَتَ بِدُونِهِ لَلَزِمَ الْمُتَبَرِّعَ شَيْءٌ لَمْ
يَلْتَزِمْهُ، وَهُوَ التَّسَلُّمُ، فَلاَ تُمْلَكُ بِالْعَقْدِ بَل
بِالْقَبْضِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ: إِنَّ
أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ كَانَ نَحَلَهَا جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ
مَالِهِ بِالْغَابَةِ. فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَال: " وَاللَّهِ،
يَا بُنَيَّةُ مَا مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ غِنًى بَعْدِي
مِنْكِ، وَلاَ أَعَزُّ عَلَيَّ فَقْرًا بَعْدِي مِنْكِ، وَإِِنِّي كُنْتُ
نَحَلْتُكِ جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا، فَلَوْ كُنْتِ جَدَّدْتِيهِ
وَاحْتَزْتِيهِ كَانَ لَكِ، وَإِِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَال وَارِثٍ (2) .
__________
(1) الهداية 3 / 220، والمهذب 1 / 370، وشرح منتهى الإرادات 2 / 393،
وجواهر الإكليل 2 / 146.
(2) عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: " إن
أبا بكر الصديق كان نحلها جاد عشرين وسقا من ماله ". . . أخرجه مالك في
الموطأ (2 / 752 - ط الجمل) .
(12/171)
وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ هُوَ رَأْيُ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ. قَال الْمَجْدُ بْنُ
تَيْمِيَّةَ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ: الْمِلْكُ فِي الْمَوْهُوبِ لاَ
يَثْبُتُ بِدُونِ الْقَبْضِ، وَكَذَا صَرَّحَ ابْنُ عَقِيلٍ
الْحَنْبَلِيُّ: أَنَّ الْقَبْضَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْهِبَةِ
كَالإِِْيجَابِ فِي غَيْرِهَا، وَكَلاَمُ الْخِرَقِيِّ يَدُل عَلَيْهِ.
وَالرَّأْيُ الآْخَرُ لِلْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْهِبَةَ تُمْلَكُ
بِالْعَقْدِ، فَيَصِحُّ التَّصَرُّفُ مِنَ الْمَوْهُوبِ لَهُ فِيهَا قَبْل
الْقَبْضِ، كَذَا فِي الْمُنْتَهَى وَشَرْحِهِ، وَهُوَ الَّذِي قَدَّمَهُ
فِي الإِِْنْصَافِ.
وَعَلَى رَأْيِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَمَنْ رَأَى رَأْيَهُمْ
مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا قَبْل الْقَبْضِ؛ لأَِنَّ
عَقْدَ الْهِبَةِ لَمْ يَتِمَّ. وَلَكِنَّهُ عِنْدَ مَنْ يَرَى ذَلِكَ مِنَ
الْحَنَابِلَةِ يَكُونُ مَعَ الْكَرَاهَةِ، خُرُوجًا مِنْ خِلاَفِ مَنْ
قَال: إِنَّ الْهِبَةَ تَلْزَمُ بِالْعَقْدِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: تُمْلَكُ الْهِبَةُ بِالْقَبُول عَلَى
الْمَشْهُورِ، وَلِلْمُتَّهِبِ طَلَبُهَا مِنَ الْوَاهِبِ إِنَ امْتَنَعَ
وَلَوْ عِنْدَ حَاكِمٍ، لِيُجْبِرَهُ عَلَى تَمْكِينِ الْوَهُوبِ لَهُ
مِنْهَا. لَكِنْ قَال ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: الْقَبُول وَالْحِيَازَةُ
مُعْتَبَرَانِ فِي الْهِبَةِ، إِلاَّ أَنَّ الْقَبُول رُكْنٌ
وَالْحِيَازَةَ شَرْطٌ. أَيْ فِي تَمَامِهَا، فَإِِنْ عُدِمَ لَمْ
تَلْزَمْ، وَإِِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً.
عَلَى أَنَّ الْهِبَةَ لَوْ تَمَّتْ بِالْقَبْضِ، فَإِِنَّهُ يَجُوزُ
الرُّجُوعُ فِيهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ كَانَتْ لأَِجْنَبِيٍّ، أَيْ
غَيْرِ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: الرَّجُل
(12/172)
أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ
مِنْهَا (1) أَمَّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ فَلاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا
بَعْدَ الْقَبْضِ، إِلاَّ الْوَالِدُ فِيمَا يَهَبُ لِوَلَدِهِ فَإِِنَّهُ
يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ (2) لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ. (3)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (هِبَةٌ) .
ج - الْوَصِيَّةُ لِمُعَيَّنٍ:
45 - مِنْ أَرْكَانِ الْوَصِيَّةِ الإِِْيجَابُ مِنَ الْمُوصِي وَالْقَبُول
مِنَ الْمُوصَى لَهُ الْمُعَيَّنِ، لَكِنَّ الْقَبُول لاَ يُعْتَبَرُ
إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَلاَ يُفِيدُ الْقَبُول قَبْل مَوْتِهِ؛
لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ عَقْدٌ غَيْرُ لاَزِمٍ، وَالْمُوصِي يَمْلِكُ
الرُّجُوعَ فِي وَصِيَّتِهِ مَا دَامَ حَيًّا، وَبِالْقَبُول يَمْلِكُ
الْمُوصَى لَهُ الْمُوصَى بِهِ، وَلاَ يَتَوَقَّفُ الْمِلْكُ عَلَى
الْقَبْضِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - غَيْرَ زُفَرَ -
وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. أَمَّا عِنْدَ
زُفَرَ فَرُكْنُ الْوَصِيَّةِ هُوَ الإِِْيجَابُ فَقَطْ مِنَ الْمُوصِي،
__________
(1) حديث: " الرجل أحق بهبته ما لم يثب منها " أخرجه ابن ماجه (2 / 798 - ط
الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال البوصيري: في إسناده إبراهيم
بن إسماعيل بن مجمع، وهو ضعيف.
(2) الاختيار 3 / 48، والهداية 3 / 224 - 227، والدسوقي 4 / 101، والشرح
الصغير 2 / 312 ط الحلبي، وأسنى المطالب 2 / 478، 482، والمهذب 1 / 454،
وكشاف القناع 4 / 298، 300 - 301، 312، وشرح منتهى الإرادات 2 / 519.
(3) حديث: " العائد في هبته كالعائد في قيئه " أخرجه البخاري (فتح الباري 5
/ 234 - ط السلفية) ومسلم (3 / 124 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عباس
رضي الله عنهما.
(12/172)
وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُوصَى لَهُ مِنْ
غَيْرِ قَبُولٍ كَالإِِْرْثِ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (وَصِيَّةٌ) .
د - الْوَقْفُ عَلَى مُعَيَّنٍ:
46 - الإِِْيجَابُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْوَقْفِ، سَوَاءٌ أَكَانَ عَلَى
مُعَيَّنٍ أَمْ لَمْ يَكُنْ. أَمَّا الْقَبُول: فَإِِنْ كَانَ الْوَقْفُ
عَلَى مُعَيَّنٍ فَإِِنَّهُ يُشْتَرَطُ قَبُولُهُ، وَهَذَا عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. وَعِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ: لاَ يَفْتَقِرُ الْوُقُوفُ عَلَى مُعَيَّنٍ إِِلَى
الْقَبُول؛ لأَِنَّهُ إِزَالَةُ مِلْكٍ يَمْنَعُ الْبَيْعَ، فَلَمْ
يُعْتَبَرْ فِيهِ الْقَبُول كَالْعِتْقِ، أَمَّا الْقَبْضُ فَلَيْسَ
بِشَرْطٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ،
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَمُحَمَّدٍ: الْقَبْضُ شَرْطٌ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (وَقْفٌ) .
__________
(1) البدائع 7 / 331، 342، 378، والاختيار 5 / 65، والهداية 4 / 233 - 234،
والدسوقي 4 / 423 - 424، والشرح الصغير 2 / 466 ط الحلبي، وأسنى المطالب 3
/ 43، والمهذب 1 / 459، وكشاف القناع 4 / 344، 348.
(2) ابن عابدين 3 / 360، 364 - 365، والاختيار 3 / 42، والدسوقي 4 / 78،
88، والشرح الصغير 2 / 300، وأسنى المطالب 2 / 463، وكشاف القناع 4 / 252.
(12/173)
|