الموسوعة
الفقهية الكويتية تَنْجِيزٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّنْجِيزُ: تَفْعِيلٌ مِنْ نَجَّزَ، وَلَهُ فِي اللُّغَةِ عِدَّةُ
مَعَانٍ مِنْهَا الْفَنَاءُ وَالذَّهَابُ. يُقَال: نَجَزَ الشَّيْءُ
وَنَجِزَ إِذَا فَنِيَ وَذَهَبَ فَهُوَ نَاجِزٌ، وَمِنْهَا الاِنْقِطَاعُ
يُقَال نَجِزَ وَنَجَزَ الْكَلاَمُ: إِذَا انْقَطَعَ وَمِنْهَا الْحُضُورُ
وَالتَّعْجِيل. يُقَال نَجَزَ الْوَعْدُ يَنْجُزُ نَجْزًا: إِذَا حَضَرَ،
وَمِنْهَا قَضَاءُ الْحَاجَةِ. يُقَال: نُجِزَتِ الْحَاجَةُ إِذَا
قُضِيَتْ.
وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ فِي الْحُضُورِ وَالتَّعْجِيل (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْفَوْرُ:
2 - الْفَوْرُ: هُوَ الأَْدَاءُ فِي أَوَّل أَوْقَاتِ الإِْمْكَانِ
بِحَيْثُ يَلْحَقُهُ الذَّمُّ فِي التَّأْخِيرِ عَنْهُ (2) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْفُقَهَاءَ يَسْتَعْمِلُونَ التَّنْجِيزَ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " نجز "، ودستور العلماء 1 / 354 باب
التاء مع النون، والنظم المستعذب في شرح غريب المهذب 2 / 94، وطلبة الطلبة
ص58.
(2) المصباح المنير مادة: " فور "، والتعريفات ص169، والموسوعة الفقهية ج5
ص66.
(14/47)
فِي صِيَغِ الْعُقُودِ وَيَسْتَعْمِلُونَ
الْفَوْرَ فِي الأَْحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ كَمَا فِي الْحَجِّ
وَالزَّكَاةِ.
ب - تَعْلِيقٌ:
3 - التَّعْلِيقُ لُغَةً، رَبْطُ أَمْرٍ بِآخَرَ.
وَاصْطِلاَحًا: رَبْطُ حُصُول مَضْمُونِ جُمْلَةٍ بِحُصُول مَضْمُونِ
جُمْلَةٍ أُخْرَى.
فَالنِّسْبَةُ بَيْنَ التَّنْجِيزِ وَالتَّعْلِيقِ التَّضَادُّ (1) .
ج - الإِْضَافَةُ:
4 - مِنْ مَعَانِي الإِْضَافَةِ فِي اللُّغَةِ الإِْسْنَادُ، أَوْ
نِسْبَتُهُ، وَهُوَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ إِسْنَادُ أَمْرٍ إِلَى أَمْرٍ
يَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَل. فَالنِّسْبَةُ بَيْنَ التَّنْجِيزِ
وَالإِْضَافَةِ التَّضَادُّ (2) .
د - التَّأْجِيل:
5 - التَّأْجِيل لُغَةً: تَحْدِيدُ الأَْجَل، يُقَال: أَجَّلْته
تَأْجِيلاً: أَيْ جَعَلْت لَهُ أَجَلاً، وَالأَْجَل: مُدَّةُ الشَّيْءِ
وَوَقْتُهُ الَّذِي يَحِل فِيهِ.
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنْ مَعْنَاهُ
اللُّغَوِيِّ.
وَالنِّسْبَةُ بَيْنَ التَّنْجِيزِ وَالتَّأْجِيل التَّضَادُّ (3) .
__________
(1) لسان العرب مادة: " علق "، وابن عابدين 4 / 222.
(2) الصحاح، والقاموس المحيط، والمصباح المنير، ولسان العرب مادة: " ضيف "،
والموسوعة ج5 ص66.
(3) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " أجل ".
(14/47)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
6 - يُقَسِّمُ الْفُقَهَاءُ التَّصَرُّفَاتِ إِلَى قِسْمَيْنِ
رَئِيسِيَّيْنِ: قِسْمٍ يَقْبَل التَّعْلِيقَ وَالإِْضَافَةَ.
وَقِسْمٍ لاَ يَقْبَل التَّعْلِيقَ وَالإِْضَافَةَ، فَلاَ يَصِحُّ
وُقُوعُهُ إِلاَّ مُنَجَّزًا، فَإِنْ وَقَعَ مُعَلَّقًا أَوْ مُضَافًا
بَطَل، وَذَلِكَ كَالإِْيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَالدُّخُول فِي
الدِّينِ فَإِنَّهُ لاَ يَقْبَل التَّعْلِيقَ وَالإِْضَافَةَ، فَلاَ
يَدْخُل فِي الإِْسْلاَمِ كَافِرٌ قَال إِنْ لَمْ آتِ بِالدَّيْنِ فِي
وَقْتِ كَذَا فَأَنَا مُسْلِمٌ أَوْ مُؤْمِنٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ
الشُّرُوطِ الَّتِي يُعَلَّقُ عَلَيْهَا، فَلاَ يَلْزَمُ إِسْلاَمٌ إِذَا
وُجِدَ ذَلِكَ الشَّرْطُ، بَل يَبْقَى عَلَى كُفْرِهِ بِسَبَبِ أَنَّ
الدُّخُول فِي الدِّينِ يَعْتَمِدُ الْجَزْمَ بِصِحَّتِهِ وَالْمُعَلِّقُ
لَيْسَ جَازِمًا (1) .
أَمَّا الْعُقُودُ فَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الأَْصْل فِيهَا
أَنْ تَكُونَ مُنَجَّزَةً وَعَلَى وَجْهِ الْخُصُوصِ فِي التَّمْلِيكَاتِ
وَالنِّكَاحِ، وَأَجَازُوا التَّعْلِيقَ فِي الطَّلاَقِ بِنَاءً عَلَى
قَاعِدَةِ مَنْ مَلَكَ التَّنْجِيزَ مَلَكَ التَّعْلِيقَ (2) .
وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ تَعْلِيقَ الْبَيْعِ فِي بَعْضِ صُوَرِهِ
كَالشَّافِعِيَّةِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ تَعْلِيقَ الْعُقُودِ بِإِطْلاَقٍ كَبَعْضِ
الْحَنَابِلَةِ.
__________
(1) الفروق 1 / 228 وما بعدها.
(2) المنثور ج3 ص211، والأشباه والنظائر، للسيوطي ص377، 378، والأشباه
والنظائر لابن نجيم ص368.
(14/48)
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّ تَعْلِيقَ
الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ وَالتَّبَرُّعَاتِ وَالاِلْتِزَامَاتِ وَغَيْرِهَا
بِالشُّرُوطِ أَمْرٌ قَدْ تَدْعُو إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ أَوِ الْحَاجَةُ
أَوِ الْمَصْلَحَةُ فَلاَ يَسْتَغْنِي عَنْهُ الْمُكَلَّفُ.
وَقَدْ نَصَّ الإِْمَامُ أَحْمَدُ عَلَى جَوَازِ تَعْلِيقِ النِّكَاحِ
بِالشَّرْطِ كَمَا يَتَعَلَّقُ الطَّلاَقُ، وَعَلَى جَوَازِ تَعْلِيقِ
الْبَيْعِ وَالإِْبْرَاءِ (1) .
وَتَفْصِيل تَنْجِيزِ هَذِهِ الْعُقُودِ وَعَدَمِهِ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى
مَوَاطِنِهِ كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَالنِّكَاحِ.
__________
(1) أعلام الموقعين لابن القيم ج3 ص399 المطبعة التجارية الكبرى.
(14/48)
تَنْجِيسٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّنْجِيسُ مَصْدَرُ نَجَّسَ. يُقَال: نَجَّسَ الشَّيْءَ إِذَا
أَلْحَقَ بِهِ نَجَاسَةً، أَوْ نَسَبَهُ إِلَيْهَا.
وَإِذَا أُطْلِقَ النَّجَسُ (بِفَتْحَتَيْنِ) فِي الشَّرْعِ فَهُوَ يَعُمُّ
بِالإِْضَافَةِ إِلَى النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ الَّتِي هِيَ
الْخَبَثُ، النَّجَاسَةَ الْحُكْمِيَّةَ الَّتِي هِيَ الْحَدَثُ،
فَالنَّجَسُ أَعَمُّ مِنَ النَّجَاسَةِ.
قَال صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: كَمَا يُطْلَقُ (النَّجَسُ) عَلَى
الْحَقِيقِيِّ يُطْلَقُ عَلَى الْحُكْمِيِّ، وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ:
النَّجَاسَةُ إِمَّا حُكْمِيَّةٌ بِأَنْ جَاوَزَتْ مَحَلَّهَا
كَالْجَنَابَةِ، وَإِمَّا عَيْنِيَّةٌ لَمْ تُجَاوِزْهُ وَهَذِهِ تُطْلَقُ
عَلَى الأَْعْيَانِ النَّجِسَةِ وَعَلَى الْوَصْفِ الْقَائِمِ بِمَحَلِّهَا
(1) .
وَصَرَّحَ الْبُهُوتِيُّ: الْحَدَثُ لَيْسَ بِنَجَاسَةٍ، وَالْمُحْدِثُ
لَيْسَ نَجِسًا، وَالنَّجَاسَةُ قِسْمَانِ عَيْنِيَّةٌ وَحُكْمِيَّةٌ ".
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " نجس "، ودستور العلماء 3 / 395 باب
النون مع الجيم، ومغني المحتاج 1 / 17، 77، والمطلع على أبواب المقنع ص7،
وفتح القدير 1 / 132، والقليوبي 1 / 68.
(14/49)
وَالْحُكْمِيَّةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
النَّجَاسَةُ الطَّارِئَةُ عَلَى مَحَلٍّ طَاهِرٍ وَيُقَابِلُهَا
النَّجَاسَةُ الْعَيْنِيَّةُ وَهِيَ الذَّوَاتُ النَّجِسَةُ كَالْبَوْل. .
وَالنَّجَاسَةُ الْعَيْنِيَّةُ لاَ تَطْهُرُ بِغَسْلِهَا بِحَالٍ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّقْذِيرُ:
2 - الْقَذَرُ لُغَةً: ضِدُّ النَّظَافَةِ.
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ
فَالْقَذَرُ عِنْدَهُمْ أَعَمُّ مِنَ النَّجَسِ، فَكُل نَجَسٍ قَذَرٌ وَلاَ
عَكْسَ
قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَأَكْمَل الْغُسْل إِزَالَةُ الْقَذَرِ
طَاهِرًا كَانَ كَالْمَنِيِّ أَوْ نَجَسًا كَالْوَدْيِ
وَقَال الدُّسُوقِيُّ: الاِسْتِقْذَارُ عِلَّةٌ تَقْتَضِي النَّجَاسَةَ مَا
لَمْ يُعَارِضْهَا مُعَارِضٌ، كَمَشَقَّةِ التَّكْرَارِ فِي نَحْوِ
الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ (2) .
ب - التَّطْهِيرُ:
3 - التَّطْهِيرُ مَصْدَرُ طَهَّرَ، وَالطُّهْرُ وَالطَّهَارَةُ لُغَةً:
نَقِيضُ النَّجَاسَةِ، وَالطَّهَارَةُ النَّزَاهَةُ وَالنَّظَافَةُ عَنِ
الأَْقْذَارِ. وَالتَّطْهِيرُ شَرْعًا: رَفْعُ مَا يَمْنَعُ الصَّلاَةَ
وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ حَدَثٍ أَوْ نَجَاسَةٍ بِالْمَاءِ، أَوْ رَفْعُ
حُكْمِهِ
__________
(1) كشاف القناع 1 / 181.
(2) لسان العرب ومختار الصحاح مادة: " قذر "، وحاشية الدسوقي 1 / 56، ومغني
المحتاج 1 / 73.
(14/49)
بِالتُّرَابِ ". وَالطَّهَارَةُ نَوْعَانِ:
طَهَارَةٌ كُبْرَى، وَهِيَ الْغُسْل أَوْ نَائِبُهُ وَهُوَ التَّيَمُّمُ
عَنِ الْجَنَابَةِ، وَطَهَارَةٌ صُغْرَى، وَهُوَ الْوُضُوءُ أَوْ نَائِبُهُ
وَهُوَ التَّيَمُّمُ عَنِ الْحَدَثِ.
فَالتَّطْهِيرُ ضِدُّ التَّنْجِيسِ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَكْل الْمُتَنَجِّسِ أَوِ
اسْتِعْمَالَهُ حَرَامٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَلاَ يَحِل إِلاَّ بِتَطَهُّرِهِ
أَوْ تَطْهِيرِهِ (2) . وَكَيْفِيَّةُ تَطْهِيرِ الْمُتَنَجِّسِ تَخْتَلِفُ
بِاخْتِلاَفِ الْمُنَجِّسِ.
فَإِنْ كَانَ الْمُنَجِّسُ كَلْبًا فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَطْهُرُ الْمُتَنَجِّسُ إِلاَّ
بِغَسْلِهِ سَبْعًا إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ. وَاشْتَرَطَ
الشَّافِعِيَّةُ التُّرَابَ فِي التَّطْهِيرِ مِنْ نَجَاسَةِ الْكَلْبِ
فَلاَ يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى قِيَامِ
الأُْشْنَانِ وَالصَّابُونِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمُنَظِّفَاتِ مَقَامَ
التُّرَابِ وَلَوْ مَعَ وُجُودِهِ وَعَدَمِ تَضَرُّرِ الْمَحَل بِهِ.
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " طهر "، ودستور العلماء 2 / 284،
باب الطاء مع الهاء، والتعريفات ص142 باب الطاء، والمطلع على أبواب المقنع
ص5.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 205، 212 وما بعدها، وبدائع الصنائع 1 / 60 وما
بعدها، وحاشية الدسوقي 1 / 33، 48 وما بعدها، ومغني المحتاج 1 / 17، 77 وما
بعدها، وكشاف القناع 1 / 24، 25، 181 وما بعدها، والمبدع 1 / 235 وما
بعدها، والفروع 1 / 235 وما بعدها.
(14/50)
وَقَدْ أَلْحَقَ الشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ الْخِنْزِيرَ بِالْكَلْبِ فِي وُجُوبِ غَسْل
الْمُتَنَجِّسِ بِهِ سَبْعًا إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ.
وَخَصَّ الْمَالِكِيَّةُ الْغَسْل سَبْعًا بِمَا إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ
فِي إِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ فَقَطْ، وَلاَ يُشْتَرَطُ التَّتْرِيبُ
عِنْدَهُمْ، وَأَمَّا إِذَا أَدْخَل الْكَلْبُ رِجْلَهُ أَوْ لِسَانَهُ
بِلاَ تَحْرِيكٍ فِي الإِْنَاءِ، أَوْ كَانَ الإِْنَاءُ فَارِغًا
وَلَعِقَهُ الْكَلْبُ فَلاَ يُسْتَحَبُّ غَسْلُهُ عِنْدَهُمْ، وَالْحُكْمُ
بِالْغَسْل سَبْعًا تَعَبُّدِيٌّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَذَلِكَ
لأَِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِطَهَارَةِ الْكَلْبِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُتَنَجِّسَ بِرِيقِ الْكَلْبِ
كَالْمُتَنَجِّسِ بِغَيْرِهِ مِنَ النَّجَاسَاتِ؛ وَذَلِكَ لأَِنَّ
الْكَلْبَ عِنْدَهُمْ لَيْسَ بِنَجَسِ الْعَيْنِ بَل نَجَاسَتُهُ
بِنَجَاسَةِ لَحْمِهِ وَدَمِهِ، وَأَمَّا شَعْرُهُ فَطَاهِرٌ.
وَإِنْ كَانَ الْمُنَجِّسُ بَوْل صَبِيٍّ لَمْ يَطْعَمْ غَيْرَ لَبَنِ
الآْدَمِيَّةِ فَإِنَّهُ يَطْهُرُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ بِالنَّضْحِ، وَلَمْ
يُفَرِّقِ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ بَوْل الصَّبِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ
النَّجَاسَاتِ.
5 - وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُنَجِّسُ غَيْرَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ
الْمُغَلَّظَةِ نَجَاسَتُهَا وَبَوْل الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَطْعَمْ
غَيْرَ اللَّبَنِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ مَرْئِيَّةً عَلَى
الْمُتَنَجِّسِ فَلاَ يَطْهُرُ الْمَحَل إِلاَّ بِغَسْلِهَا وَزَوَال
عَيْنِهَا، وَيَجِبُ كَذَلِكَ أَنْ يَزُول الأَْثَرُ، إِنْ كَانَ مِمَّا
يَزُول أَثَرُهُ، فَإِنْ عَسِرَ لَمْ يُشْتَرَطْ زَوَالُهُ غَيْرَ
الطَّعْمِ فَيَجِبُ إِزَالَتُهُ سَوَاءٌ عَسِرَ زَوَالُهُ أَمْ لاَ،
وَأَمَّا اللَّوْنُ وَالرِّيحُ فَلاَ يُشْتَرَطُ زَوَالُهُمَا إِنْ
عَسِرَا، سَوَاءٌ بَقِيَ
(14/50)
أَحَدُهُمَا أَوْ بَقِيَا مَعًا، وَذَهَبَ
الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ: إِلَى عَدَمِ طَهَارَةِ
الْمُتَنَجِّسِ إِنْ بَقِيَ اللَّوْنُ وَالرِّيحُ مَعًا لِقُوَّةِ
دَلاَلَتِهِمَا عَلَى بَقَاءِ الْعَيْنِ.
6 - وَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ غَيْرَ مَرْئِيَّةٍ عَلَى الْمُتَنَجِّسِ
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ طَهَارَتِهَا إِلاَّ بِالْغَسْل
وَلَوْ دُونَ الثَّلاَثِ وَهُوَ مُفَوَّضٌ إِلَى غَالِبِ رَأْيِهِ
وَأَكْبَرِ ظَنِّهِ بِأَنَّهَا طَهُرَتْ وَلَيْسَتِ الْغَسَلاَتُ
الثَّلاَثُ بِلاَزِمَةٍ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذْ
مَيَّزَ مَوْضِعَ النَّجَاسَةِ مِنَ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ غَسَلَهُ
وَحْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يُمَيِّزْ غَسَل الْجَمِيعَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَكْفِي فِي التَّطْهِيرِ فِي
هَذِهِ الْحَالَةِ جَرْيُ الْمَاءِ عَلَى مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ.
وَلَمْ يُفَرِّقِ الْحَنَابِلَةُ فِي أَصْل الْمَذْهَبِ بَيْنَ
النَّجَاسَةِ الْمَرْئِيَّةِ وَغَيْرِهَا وَقَالُوا: بِوُجُوبِ الْغَسْل
سَبْعًا، وَإِنْ لَمْ يُنَقَّ الْمَحَل الْمُتَنَجِّسُ بِالسَّبْعِ زَادَ
حَتَّى يُنَقَّى الْمَحَل، لَكِنْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي
دَاوُد وَاخْتَارَهُ فِي الْمُغْنِي أَنَّهُ لاَ يَجِبُ فِي الْغَسْل
عَدَدٌ اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ فِي غَيْرِ الْكَلْبِ لاَ فِي قَوْلِهِ
وَلاَ فِي فِعْلِهِ وَالْعِبْرَةُ بِالإِْنْقَاءِ.
وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ إِنَّ مَنِيَّ الآْدَمِيِّ طَاهِرٌ، وَيَجِبُ
غَسْلُهُ رَطْبًا وَفَرْكُهُ يَابِسًا، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ نَجَسٌ
وَلَكِنْ يَطْهُرُ بِالْحَكِّ وَالْفَرْكِ إِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ وَكَانَ
جَافًّا، أَمَّا إِنْ كَانَ رَطْبًا فَلاَ بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ.
7 - ثُمَّ هُنَاكَ مِنَ الْمُتَنَجِّسَاتِ مَا لاَ يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ
(14/51)
كَالزَّيْتِ وَالدُّهْنِ الْمَائِعِ
وَاللَّبَنِ وَالْعَسَل وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَوَائِعِ غَيْرِ الْمَاءِ
إِذَا وَقَعَتْ فِيهَا نَجَاسَةٌ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَأَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ يُمْكِنُ
تَطْهِيرُهُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُصَبّ فِيهِ مَاءٌ بِقَدْرِهِ حَتَّى
يَعُودَ إِلَى مَكَانِهِ، وَالدُّهْنُ يُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ فَيَغْلِي
فَيَعْلُو الدُّهْنُ الْمَاءَ فَيُرْفَعُ بِشَيْءٍ، يَفْعَل هَكَذَا
ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. أَمَّا إِنْ كَانَ الدُّهْنُ جَامِدًا وَوَقَعَتْ فِيهِ
نَجَاسَةٌ فَإِنَّهُ يُقَوِّرُ مَكَانَ النَّجَاسَةِ وَمَا حَوْلَهَا،
وَقَدْ تَوَسَّعَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُطَهِّرَاتِ كَثِيرًا حَتَّى
أَوْصَلُوهَا إِلَى نَيِّفٍ وَثَلاَثِينَ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ (نَجَاسَةٌ)
__________
(1)) حاشية ابن عابدين 1 / 205 وما بعدها، وبدائع الصنائع 1 / 84 وما
بعدها، وحاشية الدسوقي 1 / 59، 80 وما بعدها، والقوانين الفقهية 39 وما
بعدها، ومغني المحتاج 1 / 83 وما بعدها، وكشاف القناع 1 / 181 وما بعدها
188. / 50
(14/51)
تَنْجِيمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّنْجِيمُ مَصْدَرُ نَجَّمَ يُقَال: نَجَّمْتُ الْمَال عَلَيْهِ
إِذَا وَزَّعْته، كَأَنَّك فَرَضْتَ أَنْ يَدْفَعَ عِنْدَ طُلُوعِ كُل
نَجْمٍ نَصِيبًا، ثُمَّ صَارَ مُتَعَارَفًا فِي تَقْدِيرِ دَفْعِهِ،
بِأَيِّ شَيْءٍ قَدَّرْتَ ذَلِكَ. وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُؤَقِّتُ بِطُلُوعِ
النُّجُومِ؛ لأَِنَّهُمْ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ الْحِسَابَ. وَإِنَّمَا
يَحْفَظُونَ أَوْقَاتَ السَّنَةِ بِالأَْنْوَاءِ، وَكَانُوا يُسَمُّونَ
الْوَقْتَ الَّذِي يَحِل فِيهِ الأَْدَاءُ نَجْمًا لِوُقُوعِهِ فِي
الأَْصْل فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَطْلُعُ فِيهِ النَّجْمُ، وَاشْتَقُّوا
مِنْهُ فَقَالُوا: نَجَّمْت الدَّيْنَ بِالتَّثْقِيل إِذَا جَعَلْته
نُجُومًا (1) .
وَيُطْلَقُ التَّنْجِيمُ أَيْضًا عَلَى النَّظَرِ فِي النُّجُومِ.
وَاصْطِلاَحًا هُوَ عِلْمٌ يُعْرَفُ بِهِ الاِسْتِدْلاَل بِالتَّشَكُّلاَتِ
الْفَلَكِيَّةِ عَلَى الْحَوَادِثِ السُّفْلِيَّةِ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي.
__________
(1) المفردات، والمغرب، والمصباح المنير، ولسان العرب مادة: " نجم ".
(2) ابن عابدين 3 / 30.
(14/52)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - السِّحْرُ:
2 - السِّحْرُ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ الأَْخْذَةُ، وَكُل مَا لَطُفَ وَدَقَّ
فَهُوَ سِحْرٌ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ عِلْمٌ يُسْتَفَادُ بِهِ حُصُول مَلَكَةٍ
نَفْسَانِيَّةٍ يُقْتَدَرُ بِهَا عَلَى أَفْعَالٍ غَرِيبَةٍ.
ب - الْكَهَانَةُ:
3 - الْكَهَانَةُ وَهِيَ تَعَاطِي الْخَبَرِ عَنِ الْكَائِنَاتِ فِي
الْمُسْتَقْبَل وَادِّعَاءُ مَعْرِفَةِ الأَْسْرَارِ.
ج - الشَّعْوَذَةُ:
4 - الشَّعْوَذَةُ وَهِيَ خِفَّةٌ فِي الْيَدِ كَالسِّحْرِ (2) .
د - الرَّمَل:
5 - الرَّمَل وَهُوَ مَعْرِفَةُ أَشْكَالٍ مِنَ الْخُطُوطِ، وَالنُّقَطِ
بِقَوَاعِدَ مَعْلُومَةٍ تَخْرُجُ حُرُوفًا تُجْمَعُ وَيُسْتَخْرَجُ
جُمْلَةٌ دَالَّةٌ بِادِّعَاءِ أَصْحَابِهِ عَلَى عَوَاقِبِ الأُْمُورِ (3)
.
هـ - الْعَرَافَةُ:
6 - الْعَرَافَةُ هِيَ ادِّعَاءُ مَعْرِفَةِ الأُْمُورِ بِمُقَدِّمَاتٍ
يُسْتَدَل بِهَا عَلَى مَوَاقِعِهَا فِي كَلاَمِ مَنْ يَسْأَلُهُ أَوْ
__________
(1) مختار الصحاح.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 30 - 31.
(3) المصدر السابق.
(14/52)
حَالِهِ، أَوْ فِعْلِهِ، وَكُلُّهَا
حَرَامٌ، تَعَلُّمُهَا، وَفِعْلُهَا وَأَخْذُ الأُْجْرَةِ بِهَا،
بِالنَّصِّ فِي حُلْوَانِ الْكَاهِنِ (1) .
وَخَبَرِ مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُول
فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِل عَلَى مُحَمَّدٍ (2) وَالْبَاقِي بِمَعْنَاهُ
لأَِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي كُل مَنْ يَتَعَاطَى عِلْمًا دَقِيقًا كَاهِنًا
(3) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
أَوَّلاً: التَّنْجِيمُ بِمَعْنَى النَّظَرِ فِي سَيْرِ النُّجُومِ:
7 - قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ عِلْمَ النُّجُومِ إِلَى قِسْمَيْنِ:
الأَْوَّل: حِسَابِيٌّ: وَهُوَ تَحْدِيدُ أَوَائِل الشُّهُورِ بِحِسَابِ
سَيْرِ النُّجُومِ.
وَيُسَمَّى مَنْ يُمَارِسُ ذَلِكَ الْمُنَجِّمَ بِالْحِسَابِ. وَلاَ
خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ مُمَارَسَةِ التَّنْجِيمِ
بِهَذَا الْمَعْنَى، وَتَعَلُّمِ مَا يُعْرَفُ بِمَوَاقِيتِ الصَّلاَةِ
وَالْقِبْلَةِ، بَل ذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ فَرْضُ
كِفَايَةٍ (4) . وَجَاءَ فِي حَاشِيَةِ
__________
(1) النص في حلوان الكاهن. هو حديث أبي مسعود البدري: أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن. أخرجه
البخاري (الفتح 10 / 216 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1198 ط الحلبي) .
(2) حديث: " من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على
محمد صلى الله عليه وسلم ". أخرجه أحمد من حديث أبي هريرة وصححه العراقي
كما في فيض القدير (6 / 23ط المكتبة التجارية) .
(3) ابن عابدين 1 / 31، وفتح الباري 10 / 216 217، وروض الطالب 4 / 82.
(4) الزواجر 2 / 90 - 91، ومواهب الجليل 2 / 387.
(14/53)
ابْنِ عَابِدِينَ (1) : وَالْحِسَابِيُّ
حَقٌّ، وَقَدْ نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ فِي قَوْل الْحَقِّ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (2) } .
وَأَجَازَ الْفُقَهَاءُ الاِعْتِمَادَ عَلَيْهِ فِي دُخُول أَوْقَاتِ
الصَّلاَةِ وَتَحْدِيدِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ (3)
وَقَالُوا: إِنَّ حِسَابَ الأَْهِلَّةِ، وَالْخُسُوفِ وَالْكُسُوفِ
قَطْعِيٌّ، فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَجْرَى حَرَكَاتِ
الأَْفْلاَكِ وَانْتِقَالاَتِ الْكَوَاكِبِ عَلَى نِظَامٍ وَاحِدٍ دَائِمٍ،
وَكَذَلِكَ الْفُصُول الأَْرْبَعَةُ. وَالْعَوَائِدُ إِذَا اسْتَمَرَّتْ
أَفَادَتِ الْقَطْعَ، فَيَنْبَغِي الاِعْتِمَادُ عَلَيْهِ فِي أَوْقَاتِ
الصَّلاَةِ وَنَحْوِهَا، وَفِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ.
وَفَرَّقُوا بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الأَْكْثَرُونَ
مِنْ عَدَمِ اعْتِبَارِ حِسَابِ الْمُنَجِّمِينَ فِي ثُبُوتِ هِلاَل
رَمَضَانَ بِأَنَّ الشَّارِعَ نَصَبَ زَوَال الشَّمْسِ سَبَبًا لِوُجُوبِ
الظُّهْرِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ
الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْل (4) } وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الأَْوْقَاتِ،
فَمَنْ عَلِمَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَزِمَهُ حُكْمُهُ. أَمَّا ثُبُوتُ
هِلاَل رَمَضَانَ فَقَدْ عَلَّقَ الشَّارِعُ وُجُوبَهُ بِرُؤْيَةِ
الْهِلاَل، فَلَمْ يُجِزِ الاِعْتِمَادُ عَلَى الْقَوَاعِدِ
الْفَلَكِيَّةِ،
__________
(1) ابن عابدين 1 / 30.
(2) سورة الرحمن / 5.
(3) مواهب الجليل 2 / 387، وابن عابدين 1 / 288 - 289، والمغني 1 / 441،
وروض الطالب 1 / 138.
(4) سورة الإسراء / 78.
(14/53)
وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً فِي نَفْسِهَا.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ إِثْبَاتِ دُخُول رَمَضَانَ
وَخُرُوجِهِ بِالْحِسَابِ (1) .
الثَّانِي: اسْتِدْلاَلِيٌّ:
وَقَدْ عَرَّفَ ابْنُ عَابِدِينَ هَذَا الْقِسْمَ بِأَنَّهُ عِلْمٌ
يُعْرَفُ بِهِ الاِسْتِدْلاَل بِالتَّشَكُّلاَتِ الْفَلَكِيَّةِ عَلَى
الْحَوَادِثِ السُّفْلِيَّةِ. وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ
إِذَا ادَّعَى أَصْحَابُهُ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ بِأَنْفُسِهِمْ
مِنْهُ، أَوْ أَنَّ لَهَا تَأْثِيرًا عَلَى الْحَوَادِثِ بِذَاتِهَا؛
لِخَبَرِ: مَنِ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنَ النُّجُومِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ
السِّحْرِ زَادَ مَا زَادَ (2) وَخَبَرِ: مَنْ صَدَّقَ كَاهِنًا أَوْ
عَرَّافًا، أَوْ مُنَجِّمًا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِل عَلَى مُحَمَّدٍ
(3) .
أَمَّا إِذَا أَسْنَدَ الْحَوَادِثَ لِعَادَةٍ أَجْرَاهَا اللَّهُ تَعَالَى
عِنْدَ الْوَقْتِ الْفُلاَنِيِّ فَلاَ يَأْثَمُ بِذَلِكَ لِخَبَرِ: {إِذَا
أَنْشَأَتْ بَحْرِيَّةً ثُمَّ تَشَاءَمَتْ فَتِلْكَ غُدِيقَةٌ (4) أَيْ:
كَثِيرَةُ الْمَطَرِ. وَهِيَ كَاسْتِدْلاَل
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) حديث: " من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد "
أخرجه أبو داود (3 / 226 - 227 تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث ابن عباس.
وصححه النووي في رياض الصالحين (629 ط الرسالة) .
(3) من صدق كاهنا أو عرافا أو منجما فقد كفر بما أنزل على محمد. سبق تخريجه
بهذا المعنى ف / 6.
(4) حديث " إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك غديقة " أورده مالك في الموطأ
(1 / 192 ط الحلبي) بلاغا وقال ابن عبد البر: هذا الحديث لا أعرفه بوجه من
الوجوه في غير الموطأ، إلا ما ذكره الشافعي الأم.
(14/54)
الطَّبِيبِ بِالنَّبْضِ عَلَى الصِّحَّةِ
وَالْمَرَضِ (1) .
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّمَا زُجِرَ عَنْ ذَلِكَ لأَِسْبَابٍ
ثَلاَثَةٍ:
أ - أَنَّهُ مُضِرٌّ بِأَكْثَرِ الْخَلْقِ فَإِنَّهُ إِذَا أُلْقِيَ
إِلَيْهِمْ أَنَّ هَذِهِ الآْثَارَ تَحْدُثُ عَقِيبَ سَيْرِ الْكَوَاكِبِ
وَقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ أَنَّهَا الْمُؤَثِّرَةُ.
ب - أَنَّ أَحْكَامَ النُّجُومِ تَخْمِينٌ مَحْضٌ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ:
وَقَدْ كَانَتْ مُعْجِزَةً لإِِدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا يُحْكَى
وَقَدِ انْدَرَسَ.
ج - أَنَّهُ لاَ فَائِدَةَ فِيهِ، فَإِنَّ مَا قُدِّرَ كَائِنٌ،
وَالاِحْتِرَازُ عَنْهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ (2) .
ثَانِيًا: التَّنْجِيمُ بِمَعْنَى: تَوْزِيعِ الدَّيْنِ
تَنْجِيمُ دِيَةِ الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ مُنَجَّمَةٌ عَلَى
ثَلاَثِ سِنِينَ تَخْفِيفًا عَلَى الْعَاقِلَةِ (3) وَكَذَلِكَ دِيَةُ
شِبْهِ الْعَمْدِ عِنْدَ مَنْ يَرَى ذَلِكَ (ر: دِيَةٌ) .
تَنْجِيمُ بَدَل الْكِتَابَةِ:
9 - تَصِحُّ الْكِتَابَةُ عَلَى مُؤَجَّلٍ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ،
وَاخْتَلَفُوا فِي الْجَوَازِ عَلَى بَدَلٍ حَالٍّ فَذَهَبَ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 30، والزواجر 2 / 91، وجواهر الإكليل 1 / 145.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 30 - 31.
(3) المغني 7 / 766، وروض الطالب 4 / 86، والزرقاني 8 / 47 - 48.
(14/54)
الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
أَنَّهَا لاَ تَكُونُ إِلاَّ مُؤَجَّلَةً مُنَجَّمَةً بِنَجْمَيْنِ
فَأَكْثَر، فَقَالُوا: إِنَّ الْعَبْدَ عَاجِزٌ عَنْ تَسْلِيمِ الْبَدَل
عِنْدَ الْعَقْدِ لأَِنَّهُ مُعْسِرٌ لاَ مَال لَهُ، وَالْعَجْزُ عَنِ
التَّسْلِيمِ يَمْنَعُ انْعِقَادَهُ بِدَلِيل أَنَّهُ لَوْ طَرَأَ عَلَى
الْعَقْدِ يَرْفَعُهُ، فَإِذَا قَارَنَهُ يَمْنَعُهُ فِي الاِنْعِقَادِ
بِطَرِيقِ الأَْوْلَى.
وَمَأْخَذُ الاِسْمِ يَدُل عَلَى مَا قُلْنَا، فَإِنَّ الْكِتَابَةَ
يُحْتَاجُ إِلَيْهَا فِي الْمُؤَجَّل، وَأَيْضًا الْكِتَابَةُ عَقْدُ
إِرْفَاقٍ، وَمِنْ تَتِمَّةِ الإِْرْفَاقِ التَّنْجِيمُ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالَّةً، وَهُوَ الرَّاجِحُ
عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَقَالُوا: إِنَّ الآْيَةَ قَدْ أَطْلَقَتْ: وَهِيَ
قَوْله تَعَالَى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا (2) }
؛ وَلأَِنَّ بَدَل الْكِتَابَةِ دَيْنٌ يَجُوزُ الاِسْتِبْدَال بِهِ قَبْل
الْقَبْضِ فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّأْجِيل كَسَائِرِ الدُّيُونِ (3)
(ر: كِتَابَةٌ) .
__________
(1) روض الطالب 4 / 473، والمغني 9 / 417.
(2) سورة النور / 33.
(3) بدائع الصنائع 4 / 140، والزرقاني 8 / 149.
(14/55)
تَنْزِيهٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّنْزِيهُ عَنِ الْمَكْرُوهِ: التَّبْعِيدُ عَنْهُ.
وَتَنْزِيهُ اللَّهِ تَعَالَى: تَبْعِيدُهُ عَمَّا لاَ يَجُوزُ عَلَيْهِ
مِنَ النَّقَائِصِ،
وَأَصْل النَّزْهِ: الْبُعْدُ.
وَالتَّنَزُّهُ: التَّبَاعُدُ وَمِنْهُ فُلاَنٌ يَتَنَزَّهُ عَنِ
الأَْقْذَارِ: أَيْ يُبَاعِدُ نَفْسَهُ عَنْهَا.
قَال صَاحِبُ الْقَامُوسِ: وَأَرْضٌ نَزْهَةٌ وَنَزِهَةٌ وَنَزِيهَةٌ:
بَعِيدَةٌ عَنِ الرِّيفِ وَغَمَقِ الْمِيَاهِ وَذِبَّانِ الْقُرَى وَوَمَدِ
الْبِحَارِ وَفَسَادِ الْهَوَاءِ.
وَمِثْل التَّنْزِيهِ التَّقْدِيسُ وَالتَّكْرِيمُ وَمِنْهُ اسْمُهُ
تَعَالَى (الْقُدُّوسُ) وَمِنْهُ (الأَْرْضُ الْمُقَدَّسَةُ (1)) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِلْكَلِمَةِ عَنْ مَعْنَاهَا
اللُّغَوِيِّ (2) .
__________
(1) لسان العرب والنهاية لابن الأثير والقاموس المحيط، والمصباح المنير
مادة: " نزه ".
(2) التعريفات للجرجاني.
(14/55)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
1 - تَنْزِيهُ اللَّهِ تَعَالَى:
2 - أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ وَتَوَاتَرَتِ الأَْدِلَّةُ عَلَى تَنْزِيهِ
اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الشَّرِيكِ، وَعَنِ الْوَلَدِ، وَالْوَالِدِ،
وَالزَّوْجِ، وَعَلَى أَنَّ كُل مَنْ أَشْرَكَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ
فَهُوَ كَافِرٌ (1) . قَال تَعَالَى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا
آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ
إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (2) } . وَقَال تَعَالَى: {قُل هُوَ
اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ
يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (3) } .
وَقَال تَعَالَى {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ
صَاحِبَةً وَلاَ وَلَدًا (4) } .
3 - كَمَا اتَّفَقَ أَهْل الْمِلَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، لاَ فِي ذَاتِهِ، وَلاَ فِي صِفَاتِهِ، وَلاَ فِي
أَفْعَالِهِ، مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَال، مُنَزَّهٌ عَنْ صِفَاتِ
النَّقْصِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (5) }
قَال أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ يَنْبَغِي لأَِحَدٍ أَنْ يَنْطِقَ فِي ذَاتِ
اللَّهِ بِشَيْءٍ، بَل يَصِفُهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ
__________
(1) التمهيد للباقلاني ص25، شرح الطحاوية ص49، أصول الدين للبزدوي ص18 -
عيسى البابي، وكشاف القناع 6 / 168 - النصر، والشفا 2 / 1065 1067 - دار
الكتاب العربي، والشرح الصغير 4 / 431 - دار المعارف.
(2) سورة المؤمنون / 117.
(3) سورة الإخلاص / 1 - 4.
(4) سورة الجن / 3.
(5) سورة الشورى / 11.
(14/56)
نَفْسَهُ، وَاعْتِقَادُ اتِّصَافِ اللَّهِ
- عَزَّ وَجَل - بِالنَّقْصِ صَرِيحًا كُفْرٌ، وَأَمَّا اعْتِقَادُ أَمْرٍ
يَلْزَمُ مِنْهُ النَّقْصُ أَوْ يُفْهَمُ بِطَرِيقِ الاِجْتِهَادِ
فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ؛ لأَِنَّ لاَزِمَ الْقَوْل لَيْسَ بِقَوْلٍ.
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَالْمُتَكَلِّمِينَ قَالُوا: هُمْ فُسَّاقٌ
عُصَاةٌ ضُلاَّلٌ (1) .
4 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا سَبَّ اللَّهَ
يُقْتَل، لأَِنَّهُ بِذَلِكَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ، وَأَسْوَأُ مِنَ
الْكَافِرِ، فَإِنَّ الْكَافِرَ يُعَظِّمُ الرَّبَّ، وَيَعْتَقِدُ أَنَّ
مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ الْبَاطِل لَيْسَ بِاسْتِهْزَاءٍ
بِاَللَّهِ وَلاَ مَسَبَّةٍ لَهُ.
وَاخْتُلِفَ فِي قَبُول تَوْبَتِهِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى قَبُولِهَا.
وَكَذَا مَنْ سَخِرَ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ
بِأَمْرِهِ، أَوْ بِوَعْدِهِ، أَوْ وَعِيدِهِ كَفَرَ (2) .
وَأَمَّا الذِّمِّيُّ، فَقَدْ قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: الَّذِي عَلَيْهِ
عَامَّةُ الْمُتَقَدِّمِينَ (أَيْ مِنْ أَصْحَابِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ)
وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ إِقْرَارُ نُصُوصِ أَحْمَدَ
عَلَى حَالِهَا وَهُوَ قَدْ نَصَّ فِي مَسَائِل سَبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
عَلَى انْتِقَاضِ الْعَهْدِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ،
__________
(1) أصول الدين للبزدوي ص21، وشرح الطحاوية ص39، 62، 247، والشفا 2 / 1051،
1054، 1056، والزواجر 268.
(2) الصارم المسلول ص546 مكتبة تاج، والشفا 2 / 1047، وكشاف القناع 6 /
168، والخرشي 8 / 74، والروضة 10 / 66 - المكتب الإسلامي، وابن عابدين 4 /
284، وإحياء التراث، الأعلام للهيتمي ص67.
(14/56)
وَعَلَى أَنَّهُ يُقْتَل (1) وَفِي ذَلِكَ
تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (سَبٌّ) .
2 - تَنْزِيهُ الأَْنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
أ - عَنِ الْخَطَأِ أَوِ الْكَذِبِ فِي الرِّسَالَةِ:
5 - أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى أَنَّ الرُّسُل وَالأَْنْبِيَاءَ
مَعْصُومُونَ عَنِ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ - وَلَوْ قَلَّتْ -
وَالْعِصْمَةُ لَهُمْ وَاجِبَةٌ.
وَأَنَّهُ لاَ يَصِحُّ وَلاَ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ أَلاَّ يُبَلِّغُوا مَا
أُنْزِل إِلَيْهِمْ، أَوْ يُخْبِرُوا عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ بِخِلاَفِ مَا
هُوَ بِهِ، لاَ قَصْدًا وَعَمْدًا، وَلاَ سَهْوًا، وَغَلَطًا فِيمَا
يُبَلِّغُ.
أَمَّا تَعَمُّدُ الْخُلْفِ فِي ذَلِكَ فَمُنْتَفٍ، بِدَلِيل الْمُعْجِزَةِ
الْقَائِمَةِ مَقَامَ قَوْل اللَّهِ فِيمَا قَال - اتِّفَاقًا -
وَبِإِطْبَاقِ أَهْل الْمِلَّةِ - إِجْمَاعًا - وَكَذَا لاَ يَجُوزُ
وُقُوعُهُ عَلَى جِهَةِ الْغَلَطِ - إِجْمَاعًا -
وَالنَّبِيُّ مَعْصُومٌ عَنِ الْكَذِبِ فِي أَقْوَالِهِ فِي أُمُورِ
الدُّنْيَا؛ لأَِنَّ الْكَذِبَ مَتَى عُرِفَ مِنْ أَحَدٍ فِي شَيْءٍ مِنَ
الأَْخْبَارِ - عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ - اُسْتُرِيبَ بِخَبَرِهِ
وَاتُّهِمَ فِي حَدِيثِهِ، وَلَمْ يَقَعْ قَوْلُهُ فِي النُّفُوسِ
مَوْقِعًا (2) .
ب - تَنْزِيهُ الأَْنْبِيَاءِ عَنِ السَّبِّ وَالاِسْتِهْزَاءِ:
6 - كُل مَنْ سَبَّ نَبِيًّا مِنَ الأَْنْبِيَاءِ، أَوْ عَابَهُ، أَوْ
__________
(1) أحكام أهل الذمة لابن القيم 2 / 800.
(2) الشفا 2 / 717، 745، 768، وعصمة الأنبياء للرازي ص2 - المنيرية، لوامع
الأنوار 2 / 306، وشرح السنوسية الكبرى ص371 دار القلم، المسامرة ص234 -
السعادة.
(14/57)
أَلْحَقَ بِهِ نَقْصًا فِي نَفْسِهِ، أَوْ
نَسَبِهِ أَوْ دِينِهِ، أَوْ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِهِ، أَوْ عَرَّضَ بِهِ،
أَوْ شَبَّهَهُ بِشَيْءٍ عَلَى طَرِيقِ السَّبِّ لَهُ، أَوِ الإِْزْرَاءِ
بِهِ، أَوِ التَّصْغِيرِ لِشَأْنِهِ، أَوِ الْغَضِّ مِنْهُ، أَوِ الْعَيْبِ
لَهُ، فَهُوَ كَافِرٌ.
وَكَذَلِكَ مَنْ لَعَنَهُ، أَوْ دَعَا عَلَيْهِ، أَوْ تَمَنَّى مَضَرَّةً
لَهُ، أَوْ نَسَبَ إِلَيْهِ مَا لاَ يَلِيقُ بِمَنْصِبِهِ عَلَى طَرِيقِ
الذَّمِّ، أَوْ عَبِثَ فِي جِهَتِهِ الْعَزِيزَةِ بِسُخْفٍ مِنَ الْكَلاَمِ
وَهَجْرٍ، وَمُنْكَرٍ مِنَ الْقَوْل وَزُورٍ، أَوْ عَيَّرَهُ بِشَيْءٍ
مِمَّا جَرَى مِنَ الْبَلاَءِ وَالْمِحْنَةِ عَلَيْهِ، أَوْ غَمَصَهُ
بِبَعْضِ الْعَوَارِضِ الْبَشَرِيَّةِ الْجَائِزَةِ وَالْمَعْهُودَةِ
لَدَيْهِ.
قَال إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ
مَنْ سَبَّ اللَّهَ، أَوْ رَسُولاً مِنْ رُسُلِهِ، أَوْ دَفَعَ شَيْئًا
مِمَّا أَنْزَل اللَّهُ - عَزَّ وَجَل - أَوْ قَتَل نَبِيًّا مِنْ
أَنْبِيَاءِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَل - أَنَّهُ كَافِرٌ بِذَلِكَ، وَإِنْ
كَانَ مُقِرًّا بِكُل مَا أَنْزَل اللَّهُ.
وَالسَّابُّ إِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَإِنَّهُ يَكْفُرُ وَيُقْتَل بِغَيْرِ
خِلاَفٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الأَْئِمَّةِ الأَْرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَإِنْ
كَانَ ذِمِّيًّا فَإِنَّهُ يُقْتَل عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَال
الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يُقْتَل، وَلَكِنْ يُعَزَّرُ عَلَى إِظْهَارِ ذَلِكَ
(1) . وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (سَبٌّ) .
__________
(1) الشفا 2 / 926 933، 1032، 1097، والصارم المسلول ص4 - 10، 561، 565،
والزواجر 1 / 26، والأعلام ص43.
(14/57)
تَنْزِيهُ الْمَلاَئِكَةِ:
7 - أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْمَلاَئِكَةَ مُؤْمِنُونَ
مُكَرَّمُونَ، وَاتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ
الْمُرْسَلِينَ مِنْهُمْ حُكْمُ النَّبِيِّينَ فِي الْعِصْمَةِ
وَالتَّبْلِيغِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ الْمُرْسَلِينَ مِنْهُمْ، وَالصَّوَابُ عِصْمَةُ
جَمِيعِهِمْ، وَتَنْزِيهُ مَقَامِهِمِ الرَّفِيعِ عَنْ جَمِيعِ مَا يَحُطُّ
مِنْ رُتْبَتِهِمْ وَمَنْزِلَتِهِمْ عَنْ جَلِيل مِقْدَارِهِمْ (1) .
وَأَدِلَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا
أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (2) } ، وَقَوْلُهُ {يَخَافُونَ
رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (3) } ،
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَل {وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ
عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْل وَالنَّهَارَ لاَ
يَفْتَرُونَ (4) }
قَال الْقَاضِي عِيَاضٌ: مَنْ سَبَّ أَحَدًا مِنَ الْمَلاَئِكَةِ
الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِمْ أَوْ جُمْلَتِهِمْ يُقْتَل (5) .
تَنْزِيهُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ:
أ - تَنْزِيهُ الْقُرْآنِ عَنِ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيل:
8 - الْقُرْآنُ مَحْفُوظٌ عَنِ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيل بِاتِّفَاقِ
__________
(1) عصمة الأنبياء ص10، والشفا 2 / 851، وشرح الطحاوية ص236.
(2) سورة التحريم / 6.
(3) سورة النحل / 50.
(4) سورة الأنبياء / 19 - 20.
(5) الشفا 2 / 1098.
(14/58)
الْمُسْلِمِينَ، قَال تَعَالَى: {إِنَّا
نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (1) } ، وَقَال
عَزَّ مِنْ قَائِلٍ {لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِل مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ
مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (2) } وَقَال سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ
اخْتِلاَفًا كَثِيرًا (3) } .
فَمَنْ جَحَدَ حَرْفًا مِنَ الْقُرْآنِ آيَةً، أَوْ كَذَّبَ بِهِ أَوْ
بِشَيْءٍ مِنْهُ، أَوْ كَذَّبَ بِشَيْءٍ مِمَّا صَرَّحَ بِهِ فِيهِ مِنْ
حُكْمٍ أَوْ خَبَرٍ، أَوْ أَثْبَت مَا نَفَاهُ، أَوْ نَفَى مَا أَثْبَتَهُ
عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ بِذَلِكَ، أَوْ شَكَّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ
كَافِرٌ (4) .
ب - تَنْزِيهُ الْقُرْآنِ عَنِ الاِمْتِهَانِ:
9 - مَنِ اسْتَخَفَّ بِالْقُرْآنِ أَوِ الْمُصْحَفِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهُ،
أَوْ سَبَّ شَيْئًا مِنْهُ، أَوْ أَلْقَاهُ فِي الْقَاذُورَاتِ، أَوْ
أَلْقَى وَرَقَةً فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ، أَوْ لَطَّخَ الْمُصْحَفَ
بِنَجَسٍ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَلاَ قَرِينَةَ تَدُل عَلَى عَدَمِ
الاِسْتِهْزَاءِ - وَإِنْ ضَعُفَتْ - فَهُوَ كَافِرٌ، بِإِجْمَاعِ
عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ.
__________
(1) سورة الحجر / 9.
(2) سورة فصلت / 42.
(3) سورة النساء / 82.
(4) القرطبي 10 / 5 دار الكتب، الرازي 19 / 160 المطبعة البهية، الشيخ زاده
علي البيضاوي 3 / 147 - المكتبة الإسلامية، وروح المعاني 14 / 16 -
المنيرية، ومعترك الأقران 1 / 27 - دار الفكر العربي، الشفا 2 / 1101.
(14/58)
وَلاَ تَجُوزُ كِتَابَةُ الْقُرْآنِ
بِشَيْءٍ نَجِسٍ،
كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْدِثِ مَسُّ الْمُصْحَفِ وَحَمْلُهُ (1) .
ج - تَنْزِيهُ الْقُرْآنِ عَنِ الْوُقُوعِ فِي أَيْدِي الْكُفَّارِ:
10 - تَحْرُمُ الْمُسَافَرَةُ بِالْمُصْحَفِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ إذَا
خِيفَ وُقُوعُهُ فِي أَيْدِيهِمْ لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُسَافَرَ
بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ (2) .
وَيَحْرُمُ بَيْعُ الْمُصْحَفِ مِنَ الْكَافِرِ (3) .
تَنْزِيهُ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ:
11 - يَجِبُ تَنْزِيهُ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْعُلُومِ
الشَّرْعِيَّةِ عَنِ الاِمْتِهَانِ.
فَمَنْ أَلْقَى وَرَقَةً فِيهَا شَيْءٌ مِنْ عِلْمٍ شَرْعِيٍّ، أَوْ فِيهَا
اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى، أَوِ اسْمُ نَبِيٍّ، أَوْ مَلَكٍ، فِي نَجَاسَةٍ،
أَوْ لَطَّخَ ذَلِكَ بِنَجَسٍ - وَلَوْ مَعْفُوًّا عَنْهُ - حُكِمَ
بِكُفْرِهِ، إذَا قَامَتِ الدَّلاَلَةُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الإِْهَانَةَ
لِلشَّرْعِ (4) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 116، 3 / 284، وجواهر الإكليل 1 / 21، الشفا 2 / 1101،
والزواجر 1 / 26، والأعلام 38، التبيان ص112 - 113 دار الفكر، والفروع 1 /
188، 193.
(2) حديث: " نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو " أخرجه البخاري (الفتح 6
/ 133 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1490 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر.
(3) التبيان 113، والفروع 1 / 196، وجواهر الإكليل 1 / 254، 2 / 3، ابن
عابدين 3 / 223.
(4) الزواجر 1 / 26، والأعلام 38، والقليوبي 4 / 176.
(14/59)
وَرَأَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وُجُوبَ
صِيَانَةِ كُتُبِ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ عَنِ الْوُقُوعِ بِأَيْدِي
الْكُفَّارِ - سَوَاءٌ بِبَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ - خَوْفًا عَلَيْهَا مِنَ
الاِمْتِهَانِ. وَالْمَسْأَلَةُ خِلاَفِيَّةٌ (1) وَيُرْجَعُ إلَيْهَا فِي
أَبْوَابِ الْجِهَادِ وَالْبَيْعِ.
تَنْزِيهُ الصَّحَابَةِ:
12 - قَال السُّيُوطِيّ: الصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ عُدُولٌ، مَنْ لاَبَسَ
الْفِتَنَ وَغَيْرَهُمْ بِإِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ " قَال تَعَالَى:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا (2) } أَيْ عُدُولاً، وَقَال
تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ (3) }
وَالْخِطَابُ فِيهَا لِلْمَوْجُودِينَ حِينَئِذٍ، وَقَال صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي (4) .
قَال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَالسَّبَبُ فِي عَدَمِ الْفَحْصِ عَنْ
عَدَالَتِهِمْ: أَنَّهُمْ حَمَلَةُ الشَّرِيعَةِ، فَلَوْ ثَبَتَ تَوَقُّفٌ
فِي رِوَايَتِهِمْ لاَنْحَصَرَتِ الشَّرِيعَةُ عَلَى عَصْرِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلمَا اسْتَرْسَلَتْ عَلَى سَائِرِ
الأَْعْصَارِ، وَقِيل: يَجِبُ الْبَحْثُ عَنْ عَدَالَتِهِمْ مُطْلَقًا،
وَقِيل: بَعْدَ وُقُوعِ الْفِتَنِ.
وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: عُدُولٌ إلاَّ مَنْ قَاتَل عَلِيًّا، وَقِيل:
إذَا انْفَرَدَ، وَقِيل: إلاَّ الْمُقَاتِل وَالْمُقَاتَل،
__________
(1) الروضة 3 / 344، وجواهر الإكليل 2 / 3، وابن عابدين 3 / 223.
(2) سورة البقرة / 143.
(3) سورة آل عمران / 110.
(4) حديث: " خير الناس قرني " أخرج البخاري (الفتح 5 / 259 - ط السلفية) .
ومسلم (4 / 1963 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن مسعود.
(14/59)
وَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِصَوَابٍ
إحْسَانًا لِلظَّنِّ بِهِمْ وَحَمْلاً لَهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى
الاِجْتِهَادِ الْمَأْجُورِ فِيهِ كُلٌّ مِنْهُمْ.
وَقَال الْمَازِرِيُّ فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ: لَسْنَا نَعْنِي
بِقَوْلِنَا: الصَّحَابَةُ عُدُولٌ " كُل مَنْ رَآهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا مَا أَوْ زَارَهُ لِمَامًا، أَوِ اجْتَمَعَ
بِهِ لِغَرَضٍ وَانْصَرَفَ، وَإِنَّمَا نَعْنِي بِهِ الَّذِينَ لاَزَمُوهُ
وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ. قَال الْعَلاَئِيُّ: وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ
يُخْرِجُ كَثِيرًا مِنَ الْمَشْهُورِينَ بِالصُّحْبَةِ وَالرِّوَايَةِ عَنِ
الْحُكْمِ بِالْعَدَالَةِ، كَوَائِل بْنِ حُجْرٍ، وَمَالِكِ بْنِ
الْحُوَيْرِثِ، وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ وَغَيْرِهِمْ، مِمَّنْ
وَفَدَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُقِمْ عِنْدَهُ
إلاَّ قَلِيلاً وَانْصَرَفَ، وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ إلاَّ
بِرِوَايَةِ الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ وَمَنْ لَمْ يُعْرَفْ مِقْدَارُ
إقَامَتِهِ مِنْ أَعْرَابِ الْقَبَائِل، وَالْقَوْل بِالتَّعْمِيمِ هُوَ
الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْجُمْهُورُ وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ (1) .
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلاَتٌ أُخْرَى تُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ
الأُْصُولِيِّ.
وَقَال ابْنُ حَمْدَانَ الْحَنْبَلِيُّ: يَجِبُ حُبُّ كُل الصَّحَابَةِ،
وَالْكَفُّ عَمَّا جَرَى بَيْنَهُمْ - كِتَابَةً، وَقِرَاءَةً،
وَإِقْرَاءً، وَسَمَاعًا، وَتَسْمِيعًا - وَيَجِبُ ذِكْرُ مَحَاسِنِهِمْ،
وَالتَّرَضِّي عَنْهُمْ، وَالْمَحَبَّةُ لَهُمْ، وَتَرْكُ التَّحَامُل
عَلَيْهِمْ، وَاعْتِقَادُ الْعُذْرِ لَهُمْ، وَأَنَّهُمْ إنَّمَا فَعَلُوا
مَا فَعَلُوا بِاجْتِهَادٍ سَائِغٍ لاَ يُوجِبُ كُفْرًا
__________
(1) تدريب الراوي ص400 - 401 ط المكتبة العلمية.
(14/60)
وَلاَ فِسْقًا، بَل رُبَّمَا يُثَابُونَ
عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ اجْتِهَادٌ سَائِغٌ (1) .
13 - وَسَبُّ آل بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَزْوَاجِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَتَنَقُّصُهُمْ حَرَامٌ. قَال صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي، لاَ
تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِي، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي
أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ، وَمَنْ
آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي، فَقَدْ آذَى اللَّهَ، وَمَنْ
آذَى اللَّهَ يُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ (2) .
وَقَال السُّبْكِيُّ وَالزَّرْكَشِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ:
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْخِلاَفُ فِيمَا إذَا سَبَّهُ لأَِمْرٍ خَاصٍّ
بِهِ. أَمَّا لَوْ سَبَّهُ لِكَوْنِهِ صَحَابِيًّا فَيَنْبَغِي الْقَطْعُ
بِتَكْفِيرِهِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ اسْتِخْفَافٌ بِحَقِّ الصُّحْبَةِ، وَفِيهِ
تَعْرِيضٌ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي كُفْرِ مَنْ سَبَّ الشَّيْخَيْنِ، وَمَذْهَبُ
الْحَنَفِيَّةِ تَكْفِيرُ مَنْ سَبَّ الشَّيْخَيْنِ أَوْ أَحَدَهُمَا،
وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ عَلَى خِلاَفِهِ (3) .
__________
(1) لوامع الأنوار 2 / 387.
(2) الشفا 2 / 1106، ولوامع الأنوار 2 / 389، الجامع لابن أبي زيد 112 -
دار الغرب. وحديث " الله الله في أصحابي. . . . " أخرجه الترمذي (5 / 696 -
ط الحلبي) من حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه وقال: " هذا حديث غريب من
هذا الوجه " وفي إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي وهو ضعيف كما
في الميزان للذهبي (2 / 561 - 563 ط الحلبي) .
(3) ابن عابدين 3 / 293، والشفا 2 / 1106، والصارم المسلول 567، والأعلام
49.
(14/60)
قَال أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيَّ: إذَا
رَأَيْتَ الرَّجُل يَنْتَقِصُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ زِنْدِيقٌ؛ لأَِنَّ
الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَنَا حَقٌّ،
وَالْقُرْآنَ حَقٌّ، وَإِنَّمَا أَدَّى إلَيْنَا هَذَا الْقُرْآنَ
وَالسُّنَنَ أَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ أَنْ يَجْرَحُوا شُهُودَنَا لِيُبْطِلُوا الْكِتَابَ
وَالسُّنَّةَ، وَالْجَرْحُ أَوْلَى بِهِمْ، وَهُمْ زَنَادِقَةٌ (1) .
تَنْزِيهُ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
14 - مَنْ قَذَفَ عَائِشَةَ بِمَا بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ كَفَرَ بِلاَ
خِلاَفٍ، وَقَدْ حَكَى الإِْجْمَاعَ عَلَى هَذَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ
الأَْئِمَّةِ.
رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَال: مَنْ سَبَّ أَبَا بَكْرٍ جُلِدَ، وَمَنْ
سَبَّ عَائِشَة قُتِل، قِيل لَهُ: لِمَ؟ قَال: مَنْ رَمَاهَا فَقَدْ
خَالَفَ الْقُرْآنَ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَال: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ
أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (2) } .
وَهَل تُعْتَبَرُ سَائِرُ زَوْجَاتِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَعَائِشَةَ؟ فِيهِ قَوْلاَنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَسَابِّ غَيْرِهِنَّ مِنَ الصَّحَابَةِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ مَنْ قَذَفَ وَاحِدَةً مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ
فَهُوَ كَقَذْفِ عَائِشَةَ، وَذَلِكَ لأَِنَّ هَذَا فِيهِ عَارٌ
وَغَضَاضَةٌ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَذًى لَهُ
__________
(1) الكفاية ص49.
(2) سورة النور / 17.
(14/61)
أَعْظَمُ مِنْ أَذَاهُ بِنِكَاحِهِنَّ
بَعْدَهُ قَال تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ (1) } .
وَاخْتَارَ الثَّانِيَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ (2) .
تَنْزِيهُ مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةَ:
15 - يَتَأَكَّدُ وُجُوبُ تَرْكِ الْمَعَاصِي فِي مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةَ
وَحَرَمِهَا؛ لأَِنَّ الْمَعْصِيَةَ أَشَدُّ فِيهَا مِنْ غَيْرِهَا
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ
مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (3) } .
قَال مُجَاهِدٌ: تُضَاعَفُ السَّيِّئَاتُ بِمَكَّةَ كَمَا تُضَاعَفُ
الْحَسَنَاتُ (4) .
وَيَجِبُ تَنْزِيهُهَا عَنِ الْقِتَال فِيهَا قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ، وَلَمْ
يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلاَ يَحِل لاِمْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآْخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلاَ يَعْضِدَ بِهَا
شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَال رَسُول اللَّهِ فِيهِ،
فَقُولُوا إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ
لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ
حُرْمَتُهَا
__________
(1) سورة الأحزاب / 57.
(2) الصارم المسلول 565 567، المحلي 11 / 502 ط الإمام، فتاوى السبكي 2 /
569، 562، والخرشي 8 / 74، والزواجر 1 / 27.
(3) سورة الحج / 25.
(4) تحفة الراكع - للجراعي ص74 - المكتب الإسلامي، شفاء الغرام للفاسي 1 /
68 الحلبي، إعلام الساجد للزركشي 128 - المجلس الأعلى.
(14/61)
الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأَْمْسِ (1) .
16 - وَيَجِبُ تَنْزِيهُهَا عَنْ حَمْل السِّلاَحِ لِقَوْل النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَحِل لأَِحَدِكُمْ أَنْ يَحْمِل
بِمَكَّةَ السِّلاَحَ (2) .
17 - وَيَجِبُ تَنْزِيهُهَا عَنْ دُخُول الْكُفَّارِ. قَال تَعَالَى:
{إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ
بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا (3) }
فَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى
أَنَّ الْكَافِرَ لاَ يُمَكَّنُ مِنْ دُخُول حَرَمِ مَكَّةَ، لاَ مُقِيمًا
وَلاَ مَارًّا بِهِ (4) .
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يُمْنَعُ الْكَافِرُ مِنِ اسْتِيطَانِ
مَكَّةَ، وَلَكِنْ لَوْ دَخَل بِتِجَارَةٍ جَازَ وَلاَ يُطِيل (5) .
تَنْزِيهُ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ:
18 - يَجِبُ تَنْزِيهُ الْمَدِينَةِ عَنْ إرَادَةِ أَهْلِهَا بِسُوءٍ
__________
(1) حديث: " إن مكة حرمها الله، ولم يحرمها الناس " أخرجه البخاري (4 / 41
ط السلفية) . من حديث أبي شريح العدوي.
(2) شفاء الغرام 1 / 7، والمجموع 7 / 15، وإعلام الساجد 160 - 164، وجواهر
الإكليل 1 / 207، وتحفة الراكع 111، 114، وبدائع الصنائع 7 / 114، وابن
عابدين 2 / 256. / 50 وحديث: " لا يحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح " أخرجه
مسلم (2 / 989 ط الحلبي) عن جابر بن عبد الله.
(3) سورة التوبة / 28.
(4) شفاء الغرام 1 / 70، وجواهر الإكليل 1 / 267، وإعلام الساجد 173، وتحفة
الراكع 112، والقرطبي 8 / 104.
(5) ابن عابدين 3 / 275.
(14/62)
فَقَدْ قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُرِيدُ أَحَدٌ أَهْل الْمَدِينَةِ بِسُوءٍ إلاَّ
أَذَابَهُ اللَّهُ فِي النَّارِ ذَوْبَ الرَّصَاصِ أَوْ ذَوْبَ الْمِلْحِ
فِي الْمَاءِ (1) .
وَيَجِبُ تَنْزِيهُهَا عَنِ الإِْحْدَاثِ فِيهَا: قَال رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ
آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ
أَجْمَعِينَ (2) .
تَنْزِيهُ الْمَسَاجِدِ عَنِ النَّجَاسَاتِ وَالْقَاذُورَاتِ:
19 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ عَلَى وُجُوبِ
تَنْزِيهِ الْمَسَاجِدِ عَنِ النَّجَاسَاتِ وَالْقَاذُورَاتِ.
فَلاَ يَجُوزُ إدْخَال النَّجَاسَةِ إلَى الْمَسْجِدِ، أَوْ أَنْ
يَدْخُلَهُ مَنْ عَلَى بَدَنِهِ أَوْ ثِيَابِهِ نَجَاسَةٌ، أَوْ جِرَاحَةٌ،
وَقَيَّدَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِخَشْيَةِ تَلْوِيثِ الْمَسْجِدِ، كَمَا لاَ
يَجُوزُ بِنَاؤُهُ بِمُتَنَجِّسٍ.
وَلاَ يَجُوزُ الْبَوْل وَالتَّغَوُّطُ فِيهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لاَ تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ
هَذَا الْبَوْل، وَلاَ الْقَذَرِ، إنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ،
وَالصَّلاَةِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ (3) .
__________
(1) حديث: " لا يريد أحد أهل المدينة بسوء. . . . " أخرجه مسلم (2 / 993 ط
الحلبي) من حديث سعد بن أبي وقاص.
(2) حديث: " من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه. . . " أخرجه البخاري
(الفتح 4 / 81 ط السلفية) من حديث علي بن أبي طالب، وأخرجه البخاري ومسلم
(2 / 994 ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك.
(3) حديث: " إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا. . . . " أخرجه مسلم (1 /
237 ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك.
(14/62)
وَاخْتُلِفَ فِي اتِّخَاذِ إنَاءٍ
لِلْبَوْل فِيهِ فِي الْمَسْجِدِ:
فَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْمَنْعُ، وَهُوَ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ جَائِزٌ إذَا اتَّخَذَهُ الْبَائِتُ لَيْلاً فِي
الْمَسْجِدِ إذَا خَافَ أَنْ يَسْبِقَهُ الْبَوْل قَبْل خُرُوجِهِ مِنَ
الْمَسْجِدِ، وَتَحْرُمُ الْحِجَامَةُ وَالْفَصْدُ فِيهِ.
وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ فِيهِ الْجِمَاعُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ (1) } .
وَيَجُوزُ الْوُضُوءُ فِي الْمَسْجِدِ إذَا أَمِنَ تَلْوِيثَهُ
بِغُسَالَتِهِ، وَلاَ تَجُوزُ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ الْعَالِقَةِ
بِالأَْعْضَاءِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلَى عَدَمِ حُرْمَةِ
الْفُسَاءِ فِي الْمَسْجِدِ، وَالأَْوْلَى اجْتِنَابُهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا
يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى التَّحْرِيمِ حَمْلاً لِلْحَدِيثِ عَلَيْهِ.
وَلاَ يَجُوزُ الْبُصَاقُ فِي الْمَسْجِدِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبُزَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ وَكَفَّارَتُهَا
دَفْنُهَا (3) .
__________
(1) سورة البقرة / 187.
(2) حديث: " فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم ". أخرجه مسلم (1 /
395 ط الحلبي) من حديث جابر.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 116، 441، والمجموع 2 / 175، والقليوبي وعميرة 2
/ 77، وجواهر الإكليل 2 / 203، وشرح الزرقاني 1 / 34، وإعلام الساجد بأحكام
المساجد للزركشي ص243 وما بعدها وحديث: " البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها
دفنها " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 511 ط السلفية) ، ومسلم (1 / 390 ط
الحلبي) من حديث أنس بن مالك.
(14/63)
وَيُكْرَهُ إدْخَال الرَّوَائِحِ
الْكَرِيهَةِ إلَى الْمَسَاجِدِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: مَنْ أَكَل ثُومًا أَوْ بَصَلاً فَلْيَعْتَزِلْنَا، أَوْ
فَلْيَعْتَزِل مَسَاجِدَنَا (1) .
وَتَفْصِيل هَذِهِ الأَْحْكَامِ فِي مُصْطَلَحَيْ: (مَسْجِدٌ وَنَجَاسَةٌ)
.
تَنْزِيهُ الْمَسَاجِدِ عَنْ دُخُول الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ:
20 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ - مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ - عَلَى تَحْرِيمِ
دُخُول الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ الْمَسْجِدَ وَتَحْرِيمِ مُكْثِهِمَا فِيهِ.
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْرَبُوا
الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلاَ
جُنُبًا إلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ (2) } . أَيْ لاَ تَقْرَبُوا مَوْضِعَ
الصَّلاَةِ وَهُوَ الْمَسْجِدُ حَالَةَ السُّكْرِ وَالْجَنَابَةِ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: جَاءَ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُجُوهُ بُيُوتِ
أَصْحَابِنَا شَارِعَةٌ فِي الْمَسْجِدِ فَقَال: وَجِّهُوا هَذِهِ
الْبُيُوتَ عَنِ الْمَسْجِدِ ثُمَّ دَخَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَصْنَعِ الْقَوْمُ شَيْئًا رَجَاءَ أَنْ
يَنْزِل لَهُمْ رُخْصَةٌ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ بَعْدُ
__________
(1) حديث: " من أكل ثوما أو بصلا. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 575 ط
السلفية) ، ومسلم (1 / 394 ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.
(2) سور النساء / 43.
(14/63)
فَقَال: وَجِّهُوا هَذِهِ الْبُيُوتَ عَنِ
الْمَسْجِدِ فَإِنِّي لاَ أُحِل الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلاَ جُنُبٍ (1) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ مُرُورِ الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ مِنَ
الْمَسْجِدِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْل سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهُويَهْ إِلَى تَحْرِيمِ مُرُورِ
الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ فِي الْمَسْجِدِ. وَاسْتَدَلُّوا بِإِطْلاَقِ
حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمِ حَيْثُ لَمْ يُقَيَّدِ التَّحْرِيمُ
بِشَيْءٍ فَبَقِيَ عَلَى إِطْلاَقِهِ فَيُفِيدُ تَحْرِيمَ الْمُكْثِ
وَالْمُرُورِ.
إِلاَّ أَنَّهُ يُبَاحُ لَهُمَا الْمُرُورُ لِلضَّرُورَةِ كَالْخَوْفِ
عَلَى النَّفْسِ وَالْمَال.
وَحَمَلُوا قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ جُنُبًا إلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ (2) }
عَلَى الْمُسَافِرِ الَّذِي لاَ يَجِدُ الْمَاءَ فَيَتَيَمَّمُ.
وَالْمُرَادُ بِكَلِمَةِ " إِلاَّ " فِي الآْيَةِ " لاَ " أَيْ: لاَ
عَابِرِي سَبِيلٍ. (وَالصَّلاَةُ) فِي الآْيَةِ الْمَقْصُودُ بِهَا
حَقِيقَتُهَا لاَ مَوَاضِعُهَا.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إذَا اُضْطُرَّ لِدُخُول الْمَسْجِدِ أَوِ
الْمُكْثِ فِيهِ لِخَوْفٍ تَيَمَّمَ وُجُوبًا. نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ
الْعِنَايَةِ: مُسَافِرٌ مَرَّ بِمَسْجِدٍ فِيهِ عَيْنُ مَاءٍ وَهُوَ
__________
(1) حديث: " جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوت أصحابنا. . . "
أخرجه أبو داود (1 / 158 - 159 تحقيق عزت عبيد دعاس) والبيهقي (2 / 442 ط
دائرة المعارف العثمانية) من حديث عائشة، وأعله البيهقي.
(2) سورة النساء / 43.
(14/64)
جُنُبٌ وَلاَ يَجِدُ غَيْرَهُ، فَإِنَّهُ
يَتَيَمَّمُ لِدُخُول الْمَسْجِدِ عِنْدَنَا.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا لَوْ احْتَلَمَ فِي الْمَسْجِدِ وَأَرَادَ
الْخُرُوجَ تَيَمَّمَ نَدْبًا، فَالْحَنَفِيَّةُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ
الدُّخُول فِي الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى جَوَازِ مُرُورِ الْجُنُبِ
فِي الْمَسْجِدِ لِحَاجَةٍ أَوْ لِغَيْرِ حَاجَةٍ. وَالأَْوْلَى عَدَمُ
الْعُبُورِ إلاَّ لِحَاجَةٍ خُرُوجًا مِنْ خِلاَفِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَكَذَلِكَ جَوَازُ مُرُورِ الْحَائِضِ بِشَرْطِ أَنْ تَأْمَنَ تَلْوِيثَ
الْمَسْجِدِ فَإِنْ خَافَتْ تَلْوِيثَهُ حَرُمَ عَلَيْهَا الْمُرُورُ.
وَبِجَوَازِ مُرُورِ الْجُنُبِ فِي الْمَسْجِدِ قَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَمُحَمَّدُ
بْنُ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ جُنُبًا إلاَّ عَابِرِي
سَبِيلٍ (1) } أَيْ لاَ تَقْرَبُوا مَوَاضِعَ الصَّلاَةِ لأَِنَّهُ لَيْسَ
فِي الصَّلاَةِ عُبُورُ سَبِيلٍ إنَّمَا الْعُبُورُ فِي مَوْضِعِ
الصَّلاَةِ وَهُوَ الْمَسْجِدُ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَ
أَحَدُنَا يَمُرُّ فِي الْمَسْجِدِ جُنُبًا مُجْتَازًا (2)
__________
(1) سورة النساء / 43.
(2) حديث جابر: كان أحدنا يمر في المسجد جنبا مجتازا " رواه سعيد بن منصور
كما في كشاف القناع (1 / 148 ط عالم الكتب) .
(14/64)
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: إِنَّ حَيْضَتَكِ
لَيْسَتْ فِي يَدِكِ (1) .
وَذَهَبَ الْمُزَنِيّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ إِلَى
جَوَازِ مُكْثِ الْجُنُبِ فِي الْمَسْجِدِ مُطْلَقًا. مُسْتَدِلِّينَ
بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُسْلِمُ لاَ يَنْجُسُ وَبِأَنَّ
الْمُشْرِكَ يَمْكُثُ فِي الْمَسْجِدِ، فَالْمُسْلِمُ الْجُنُبُ أَوْلَى،
وَبِأَنَّ الأَْصْل عَدَمُ التَّحْرِيمِ وَلَيْسَ لِمَنْ حَرَّمَ دَلِيلٌ
صَحِيحٌ صَرِيحٌ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل الأَْحْكَامِ فِي مُصْطَلَحِ: (مَسْجِدٌ، جَنَابَةٌ،
حَيْضٌ) .
تَنْزِيهُ الْمَسَاجِدِ عَنِ الْخُصُومَةِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ:
21 - تُكْرَهُ الْخُصُومَةُ فِي الْمَسْجِدِ، وَرَفْعُ الصَّوْتِ،
وَنِشْدَانُ الضَّالَّةِ، وَالْبَيْعُ، وَالإِْجَارَةُ، وَنَحْوُهَا مِنَ
الْعُقُودِ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَنْ سَمِعَ رَجُلاً يَنْشُدُ
ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَلْيَقُل: لاَ رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْك،
فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا (3)
__________
(1) حديث: " إن حيضتك ليست في يدك " أخرجه مسلم (1 / 245 ط الحلب) عن
عائشة.
(2) البناية 1 / 636، وحاشية ابن عابدين 1 / 115، 194، وكشاف القناع 1 /
148، 198، والمجموع 2 / 160، 172، 358، ومواهب الجليل 1 / 374، وجواهر
الإكليل 1 / 23، 32.
(3) حديث: " من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل. . . . " أخرجه مسلم (1
/ 397 ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(14/65)
وَفِي رِوَايَةٍ إذَا رَأَيْتُمْ مَنْ
يَبِيعُ، أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا: لاَ أَرْبَحَ اللَّهُ
تِجَارَتَكَ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ فِيهِ ضَالَّةً فَقُولُوا:
لاَ رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْك (1) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِل بَيْنَ كَرَاهَةٍ
وَتَحْرِيمٍ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (مَسْجِدٌ) .
تَنْزِيهُ الْمَسَاجِدِ عَنِ الْمَجَانِينِ وَالصِّبْيَانِ:
22 - يُكْرَهُ إدْخَال الْبَهَائِمِ، وَالْمَجَانِينِ، وَالصِّبْيَانِ
الَّذِينَ لاَ يُمَيِّزُونَ الْمَسْجِدَ، لأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ
تَلْوِيثُهُمْ إيَّاهُ. وَلاَ يَحْرُمُ (2) ذَلِكَ لأَِنَّهُ ثَبَتَ فِي
الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
صَلَّى حَامِلاً أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (3)
وَكَذَلِكَ طَافَ عَلَى بَعِيرٍ (4) .
وَهُنَاكَ أَحْكَامٌ أُخْرَى كَثِيرَةٌ تَتَعَلَّقُ بِتَنْزِيهِ
الْمَسَاجِدِ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (مَسْجِدٌ) .
__________
(1) حديث: " إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله
تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالة فقولوا: لا رد الله عليك " أخرجه
الترمذي وحسنه (3 / 610 - 611 ط الحلبي) .
(2) المدخل لابن الحاج 2 / 235، وإعلام الساجد 312، وتحفة الراكع 204،
والمجموع 2 / 176.
(3) حديث " صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاملا أمامة بنت زينب " أخرجه
البخاري (1 / 590 ط السلفية) ، ومسلم (1 / 385 ط الحلبي) من حديث أبي
قتادة.
(4) حديث: " طاف على بعير ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 472 ط السلفية) ،
ومسلم (2 / 926 ط الحلبي) من حديث ابن عباس.
(14/65)
تَنْشِيفٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّنْشِيفُ لُغَةً مَصْدَرُ نَشَّفَ، يُقَال: نَشَّفَ الْمَاءَ
تَنْشِيفًا أَخَذَهُ بِخِرْقَةٍ وَنَحْوِهَا. قَال ابْنُ الأَْثِيرِ: أَصْل
النَّشْفِ دُخُول الْمَاءِ فِي الأَْرْضِ وَالثَّوْبِ، يُقَال نَشَفَتِ
الأَْرْضُ الْمَاءَ تُنَشِّفُهُ نَشْفًا: شَرِبَتْهُ (1) ، وَمِنْهُ
الْحَدِيثُ كَانَ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
نَشَّافَةٌ يُنَشِّفُ بِهَا غُسَالَةُ وَجْهِهِ (2) يَعْنِي مِنْدِيلاً
يَمْسَحُ بِهَا وُضُوءَهُ.
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ
الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، فَقَالُوا: الْمُرَادُ بِالتَّنْشِيفِ أَخْذُ
الْمَاءِ بِخِرْقَةٍ مَثَلاً (3) .
__________
(1) القاموس المحيط، والمصباح المنير، والنهاية لابن الأثير مادة: " نشف ".
(2) حديث: " كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم نشافة ينشف بها غسالة وجهه
" أورده ابن الأثير في النهاية (5 / 58) بهذا اللفظ، وأخرجه الترمذي
والحاكم من حديث عائشة بلفظ " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له خرقة
ينشف بها بعد الوضوء، قال الحاكم: هو حديث قد روي عن أنس بن مالك وغيره ولم
يخرجه الشيخان وأقره الذهبي، وقال أحمد شاكر: وبذلك يكون إسناده الحديث
صحيحا (سنن الترمذي 1 / 74، 75 ط الحلب والمستدرك 1 / 154) .
(3) القليوبي وعميرة 1 / 55.
(14/66)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّجْفِيفُ:
2 - التَّجْفِيفُ لُغَةً مَعْنَاهُ التَّيْبِيسُ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ
عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِنَفْسِ الْمَعْنَى (1) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّنْشِيفِ وَالتَّجْفِيفِ، أَنَّ التَّنْشِيفَ
يَكُونُ غَالِبًا بِتَشَرُّبِ الْمَاءِ بِخِرْقَةٍ أَوْ صُوفَةٍ
وَنَحْوِهِمَا، أَمَّا التَّجْفِيفُ فَيَكُونُ بِذَلِكَ وَبِغَيْرِهِ
كَالْمَسْحِ بِالتُّرَابِ، وَالْوَضْعِ فِي الشَّمْسِ أَوِ الظِّل وَمَا
إلَى ذَلِكَ، فَالتَّجْفِيفُ أَعَمُّ مِنَ التَّنْشِيفِ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - التَّنْشِيفُ بَعْدَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْل:
لاَ بَأْسَ بِالتَّنْشِيفِ وَالْمَسْحِ بِالْمِنْدِيل أَوِ الْخِرْقَةِ
بَعْدَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْل، بِهَذَا قَال الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ،
وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ إبَاحَةَ التَّنْشِيفِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ
عَفَّانَ وَالْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَبِشْرِ بْنِ
أَبِي مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَابْنِ سِيرِينَ
__________
(1) محيط المحيط والمصباح المنير ولسان العرب، وكشاف القناع 5 / 495،
ومطالب أولي النهى 3 / 211، وحاشية الجمل على شرح المنهج 3 / 272، وحاشية
ابن عابدين 1 / 207.
(2) البناية 1 / 728، وفتح القدير 1 / 174 ط دار إحياء التراث العربي،
وحاشية الطحطاوي على الدر 1 / 157، وحاشية ابن عابدين 1 / 206.
(14/66)
وَعَلْقَمَةَ وَالأَْسْوَدِ وَمَسْرُوقٍ
وَالضَّحَّاكِ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ (1) .
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ التَّنْشِيفِ بِعِدَّةِ أَحَادِيثَ
مِنْهَا:
حَدِيثُ أُمِّ هَانِئٍ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ قَامَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى غُسْلِهِ فَسَتَرَتْ عَلَيْهِ فَاطِمَةُ
ثُمَّ أَخَذَ ثَوْبَهُ فَالْتَحَفَ بِهِ (2) وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي
التَّنْشِيفِ.
وَحَدِيثُ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ أَتَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَوَضَعْنَا لَهُ مَاءً فَاغْتَسَل، ثُمَّ أَتَيْنَاهُ
بِمِلْحَفَةٍ وَرْسِيَّةٍ فَاشْتَمَل بِهَا فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى
أَثَرِ الْوَرْسِ عَلَى عُكَنِهِ (3) .
وَحَدِيثُ سَلْمَانَ " أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ
__________
(1) عمدة القاري 3 / 194، 195 ط المنيرية، والبناية 1 / 191، 192 ط دار
الفكر، والفتاوى الهندية 1 /، والتاج والإكليل بهامش الحطاب 1 / 226، وروضة
الطالبين 1 / 63، وكشاف القناع 1 / 106، 107، والمغني مع الشرح الكبير 1 /
133، وفتح الباري 1 / 363 ط السلفية.
(2) حديث: " قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غسله فسترت عليه فاطمة
ثم أخذ ثوبه فالتحف به ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 469 ط السلفية) ،
ومسلم (1 / 266 ط عيسى الحلبي) واللفظ لمسلم.
(3) حديث: " أتانا النبي صلى الله عليه وسلم - فوضعنا له ماء فاغتسل ثم
أتيناه بملحفة ورسية فاشتمل بها فكأني أنظر إلى أثر الورس على عكنه "،
أخرجه أبو داود (5 / 373 ط عزت عبيد الدعاس) ، وابن ماجه (1 / 158 ط عيسى
الحلبي. قال المنذري " أخرجه النسائي مرسلا ومسندا ".
(14/67)
فَقَلَبَ جُبَّةَ صُوفٍ كَانَتْ عَلَيْهِ
فَمَسَحَ بِهَا وَجْهَهُ (1) .
وَحَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خِرْقَةٌ يَتَنَشَّفُ بِهَا بَعْدَ الْوُضُوءِ (2)
وَحَدِيثُ أَبِي مَرْيَمَ إيَاسِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ رَجُلٍ مِنَ
الصَّحَابَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
لَهُ مِنْدِيلٌ أَوْ خِرْقَةٌ يَمْسَحُ بِهَا وَجْهَهُ إذَا تَوَضَّأَ (3)
.
وَكَرِهَ التَّنْشِيفَ بَعْدَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْل ابْنُ أَبِي لَيْلَى
وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالنَّخَعِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو
الْعَالِيَةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ ابْنُ شَاهِينَ فِي النَّاسِخِ
وَالْمَنْسُوخِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَمْسَحُ وَجْهَهُ بِالْمِنْدِيل بَعْدَ
الْوُضُوءِ (4) وَلاَ أَبُو بَكْرٍ وَلاَ عُمَرُ وَلاَ ابْنُ مَسْعُودٍ.
__________
(1) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - توضأ فقلب جبة صوف كانت
عليه فمسح بها وجهه " أخرجه ابن ماجه (1 / 158 ط عيسى الحلبي) . وفي
الزوائد للبوصيري: إسناده صحيح. ورواته ثقات. وفي سماع محفوظ من سلمان نظر:
(ابن ماجه 1 / 158 ط عيسى الحلبي) .
(2) حديث: " كانت للنبي صلى الله عليه وسلم - خرقة يتنشف بها بعد الوضوء "
أخرجه الترمذي (1 / 74 ط مصطفى الحلبي) والبيهقي (1 / 185 ط دار المعرفة)
من حديث أبي بكر. وصححه أحمد شاكر (الترمذي 1 / 75 ط مصطفى الحلبي) .
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم - كان له منديل أو خرقة يمسح بها
وجهه إذا توضأ " قال العيني: رواه النسائي في الكني بإسناد صحيح (عمدة
القاري 3 / 195 ط المنيرية) .
(4) حديث: " أن رسول صلى الله عليه وسلم - لم يكن يمسح وجهه بالمنديل " قال
الشوكاني رواه ابن شاهين في الناسخ والمنسوخ، وقال الحافظ إسناده ضعيف (نيل
الأوطار 1 / 221 دار الجيل) .
(14/67)
وَحُكِيَ كَرَاهَتُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
فِي الْوُضُوءِ دُونَ الْغُسْل. وَنَهَى عَنْهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ (1) .
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ التَّنْشِيفِ وَتَرْكِهِ بَعْدَ الْوُضُوءِ:
4 - اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ التَّنْشِيفِ فِي الْمُفَاضَلَةِ
بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ بَعْدَ الْوُضُوءِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ أَصَحُّ أَقْوَال
الشَّافِعِيَّةِ - إلَى أَفْضَلِيَّةِ تَرْكِ التَّنْشِيفِ لِحَدِيثِ
مَيْمُونَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اغْتَسَل
قَالَتْ: فَأَتَيْته بِخِرْقَةٍ فَلَمْ يُرِدْهَا فَجَعَل يَنْفُضُ
بِيَدِهِ (2) .
هَذَا إذَا لَمْ يَحْتَجْ إلَيْهِ لِخَوْفِ بَرْدٍ أَوِ الْتِصَاقِ
نَجَاسَةٍ أَوْ نَحْوِهِ وَإِلاَّ فَلاَ يُسَنُّ تَرْكُهُ. قَال
الأَْذْرَعِيُّ: بَل يُتَأَكَّدُ سُنَّةً إذَا خَرَجَ عَقِبَ الْوُضُوءِ
فِي مَحَل النَّجَاسَاتِ عِنْدَ هُبُوبِ الرِّيحِ وَكَذَا لَوْ آلَمَهُ
شِدَّةُ بَرْدِ الْمَاءِ أَوِ الْمَرَضِ أَوِ الْجُرْحِ أَوْ كَانَ
يَتَيَمَّمُ أَثَرَهُ أَوْ نَحْوِهَا (3) .
__________
(1) البناية 1 / 192، وعمدة القاري 3 / 195، ونيل الأوطار 1 / 221 ط دار
الجيل، والمغني مع الشرح الكبير 1 / 133.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل قالت: فأتيته بخرقة فلم
يردها فجعل ينفض بيده "، أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 382 ط السلفية) .
ومسلم (1 / 254 ط عيسى الحلبي) واللفظ للبخاري وهو من حديث ميمونة.
(3) كشاف القناع 1 / 106، وروضة الطالبين 1 / 63، وأسنى المطالب 1 / 42،
والتاج والإكليل بهامش الحطاب 1 / 266.
(14/68)
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
فِي قَوْلٍ أَفْضَلِيَّةَ التَّنْشِيفِ وَالتَّمَسُّحِ بِمِنْدِيلٍ بَعْدَ
الْوُضُوءِ (1) .
وَتُنْظَرُ التَّفَاصِيل فِي (غُسْلٌ، وَوُضُوءٌ) .
تَنْشِيفُ الْمَيِّتِ:
5 - يُنْدَبُ تَنْشِيفُ الْمَيِّتِ بِخِرْقَةٍ طَاهِرَةٍ قَبْل إدْرَاجِهِ
فِي الْكَفَنِ لِئَلاَّ تَبْتَل أَكْفَانُهُ فَيُسْرِعَ إلَيْهِ
الْفَسَادُ، وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سُلَيْمٍ فَإِذَا فَرَغْت مِنْهَا
فَأَلْقِ عَلَيْهَا ثَوْبًا نَظِيفًا (2) وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي حَدِيثِ
ابْنِ عَبَّاسٍ فِي غُسْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال فَجَفَّفُوهُ بِثَوْبٍ (3) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ (ر: تَكْفِينٌ) .
__________
(1) حاشية أبي السعود على شرح الكنز 1 / 40 روضة الطالبين 1 / 63.
(2) حديث: " فإذا فرغت منها فألق عليها ثوبا نظيفا. . . " قال الهيثمي:
رواه الطبراني بإسنادين في أحدهما ليث بن أبي سليم وهو مدلس ولكنه ثقة، وفي
الآخر جنيد وقد وثق وفيه بعض كلام (مجمع الزوائد 3 / 22 دار الكتاب العربي)
.
(3) الاختيار لتعليل المختار 1 / 92، وفتح القدير 1 / 251 ط دار صادر،
والشرح الصغير 1 / 549، ومواهب الجليل 2 / 223، والمجموع شرح المهذب 5 /
176 ونهاية المحتاج 2 / 437، والمغني مع الشرح الكبير 2 / 328 وحديث: "
فجففوه بثوب " أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده (1 / 260) من حديث ابن عباس رضي
الله عنهما بلفظ " حتى إذا فرغوا من غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان
يغسل بالماء والسدر جفوه ثم صنع به ما يصنع بالميت. . . . " وقال أحمد شاكر
محقق المسند (4 / 2355 - وساق ابن كثير حديث ابن عباس في صفة غسل النبي صلى
الله عليه وسلم وقال: انفرد أحمد (البداية والنهاية 5 / 260، 261) .
(14/68)
التَنْعِيمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّنْعِيمُ مَوْضِعٌ فِي الْحِل فِي شِمَال مَكَّةَ الْغَرْبِيِّ،
وَهُوَ حَدُّ الْحَرَمِ مِنْ جِهَةِ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ.
قَال الْفَاسِيُّ: الْمَسَافَةُ بَيْنَ بَابِ الْعُمْرَةِ وَبَيْنَ
أَعْلاَمِ الْحَرَمِ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ الَّتِي فِي الأَْرْضِ لاَ
الَّتِي عَلَى الْجَبَل اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ ذِرَاعٍ وَأَرْبَعُمِائَةِ
ذِرَاعٍ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا بِذِرَاعِ الْيَدِ (1) .
وَإِنَّمَا سُمِّيَ التَّنْعِيمُ بِهَذَا الاِسْمِ لأَِنَّ الْجَبَل
الَّذِي عَنْ يَمِينِ الدَّاخِل يُقَال لَهُ نَاعِمٌ وَاَلَّذِي عَنِ
الْيَسَارِ يُقَال لَهُ مُنْعِمٌ أَوْ نُعَيْمٌ وَالْوَادِي نُعْمَانُ (2)
.
__________
(1) لقد استنتج إبراهيم رفعت باشا مقدار الذراع اليدوي من قياس الفاسي لبعض
الأماكن به، فكان ذراع اليد 49 سنتيا، فالمسافة بين
التنعيم وبين باب العمرة - حسب تقديره -
6148 مترا، (مرآة الحرمين) 1 / 341.
(2) معجم البلدان 2 / 49 وكتاب المناسك لأبي إسحاق الحربي ص 467، ولسان
العرب مادة: " نعم " ومرآة الحرمين 1 / 341 ط دار الكتب المصرية، وشفاء
الغرام بأخبار البلد الحرام 1 / 63 ط الحلبي، وفتح الباري 3 / 607 ط
السلفية، والبناية 3 / 458.
(14/69)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ
بِالتَّنْعِيمِ:
2 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَمِرَ الْمَكِّيَّ لاَ
بُدَّ لَهُ مِنَ الْخُرُوجِ إلَى الْحِل ثُمَّ يُحْرِمُ مِنَ الْحِل
لِيَجْمَعَ فِي النُّسُكِ بَيْنَ الْحِل وَالْحَرَمِ، وَهَذَا بِخِلاَفِ
الْحَاجِّ الْمَكِّيِّ وَمَنْ فِي حُكْمِهِ فَإِنَّهُ يُحْرِمُ مِنْ
مَنْزِلِهِ، وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّهُ يَخْرُجُ إلَى عَرَفَةَ وَهِيَ مِنَ
الْحِل فَيَجْمَعُ بِذَلِكَ بَيْنَ الْحِل وَالْحَرَمِ (1) .
وَالْمُرَادُ بِالْمَكِّيِّ هُوَ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ سَوَاءٌ أَكَانَ
مِنْ أَهْلِهَا أَمْ لاَ (2) .
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَفْضَل بِقَاعِ الْحِل لِلاِعْتِمَارِ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَجُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ - وَهُوَ أَحَدُ
وَجْهَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - إلَى أَنَّ أَفْضَل الْبِقَاعِ مِنْ
أَطْرَافِ الْحِل لإِِحْرَامِ الْعُمْرَةِ الْجِعْرَانَةُ؛ لأَِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ مِنَ
الْجِعْرَانَةِ (3) . وَلِبُعْدِهَا عَنْ مَكَّةَ، ثُمَّ يَلِي
الْجِعْرَانَةَ فِي الْفَضْل التَّنْعِيمُ؛ لأَِنَّ
__________
(1) بداية المجتهد 1 / 288 ط المكتبة التجارية، والمغني لابن قدامة 3 / 259
ط الرياض، والبناية 3 / 457 - 459، وفتح القدير 2 / 336 ط إحياء التراث
العربي، وتبيين الحقائق 2 / 8، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 457، نشر
دار المعرفة، والمجموع شرح المهذب 7 / 209 ط المنيرية، وروضة الطالبين 3 /
43، ونهاية المحتاج 3 / 255.
(2) حاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 457.
(3) حديث: " اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم من الجعرانة " أخرجه البخاري
(الفتح 7 / 439 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 916 - ط الحلبي) .
(14/69)
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَمَرَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
أَنْ تَعْتَمِرَ مِنْهَا (1) .
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بَعْدَ التَّنْعِيمِ
الْحُدَيْبِيَةَ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
هَمَّ بِالاِعْتِمَارِ مِنْهَا فَصَدَّهُ الْكُفَّارُ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ وَأَبُو إسْحَاقَ
الشِّيرَازِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إنَّ أَفْضَل جِهَاتِ الْحِل
التَّنْعِيمُ فَالإِْحْرَامُ مِنْهُ لِلْعُمْرَةِ أَفْضَل مِنَ
الإِْحْرَامِ لَهَا مِنَ الْجِعْرَانَةِ، وَذَلِكَ لأَِمْرِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ
بِأَنْ يَذْهَبَ بِأُخْتِهِ عَائِشَةَ إلَى التَّنْعِيمِ لِتُحْرِمَ مِنْهُ
(3) . وَالدَّلِيل الْقَوْلِيُّ مُقَدَّمٌ - عِنْدَهُمْ - عَلَى الدَّلِيل
الْفِعْلِيِّ (4) .
قَال الطَّحَاوِيُّ وَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّهُ لاَ مِيقَاتَ
لِلْعُمْرَةِ لِمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ إلاَّ التَّنْعِيمُ
__________
(1) حديث: " أمر أم المؤمنين عائشة أن تعتمر من التنعيم ". أخرجه البخاري
(الفتح 3 / 586 ط السلفية) .
(2) حاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 457، ومواهب الجليل 3 / 38 نشر مكنية
النجاح ليبيا، وحاشية الصاوي بهامش الشرح الصغير 2 / 19 ط المعارف بمصر،
وروضة الطالبين 3 / 44، ونهاية المحتاج 3 / 255، والإنصاف 4 / 54، 55 ط دار
إحياء التراث العربي، والفروع لابن مفلح 3 / 279 ط عالم الكتب. وحديث: " هم
النبي صلى الله عليه وسلم بالاعتمار من الحديبية فصده الكفار " أخرجه
البخاري (7 / 453 ط السلفية) .
(3) حديث: " أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يذهب بأخته عائشة إلى. . . . ".
أخرجه مسلم (2 / 881 - ط الحلبي) .
(4) حاشية ابن عابدين 2 / 155 ط بولاق، والبناية 3 / 459، والإنصاف 4 / 54،
والتنبيه في الفقه على مذهب الإمام الشافعي ص57 مصطفى الحلبي 1370 هـ.
(14/70)
وَلاَ يَنْبَغِي مُجَاوَزَتُهُ كَمَا لاَ
يَنْبَغِي مُجَاوَزَةُ الْمَوَاقِيتِ الَّتِي لِلْحَجِّ (1) . قَال ابْنُ
سِيرِينَ: بَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَّتَ لأَِهْل مَكَّةَ التَّنْعِيمَ (2) .
ثُمَّ قَال الطَّحَاوِيُّ: وَخَالَفَهُمْ آخَرُونَ فَقَالُوا: مِيقَاتُ
الْعُمْرَةِ الْحِل وَإِنَّمَا أَمَرَ عَائِشَة بِالإِْحْرَامِ مِنَ
التَّنْعِيمِ لأَِنَّهُ كَانَ أَقْرَب الْحِل إلَى مَكَّةَ. ثُمَّ رُوِيَ
عَنْ عَائِشَةَ فِي حَدِيثِهَا أَنَّهَا قَالَتْ: فَكَانَ أَدْنَانَا مِنَ
الْحَرَمِ التَّنْعِيمُ فَاعْتَمَرْتُ مِنْهُ. قَال فَثَبَتَ بِذَلِكَ
أَنَّ التَّنْعِيمَ وَغَيْرَهُ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ. أَيْ فِي الإِْجْزَاءِ
(3) .
تَنَفُّلٌ
اُنْظُرْ: نَافِلَةٌ.
__________
(1) نيل الأوطار 5 / 26 ط دار الجيل، وعمدة القاري 10 / 120 ط المنيرية،
والمغني لابن قدامة 3 / 259.
(2) حديث ابن سيرين: " وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . . " أخرجه
أبو داود في المراسيل كما في تحفة الإشراف للمزي (13 / 357 - ط الدار
القيمة) ونقل أبو داود عن سفيان أنه قال: " هذا حديث لا يعرف ".
(3) نيل الأوطار 5 / 26، وشرح معاني الآثار للطحاوي 2 / 240.
(14/70)
تَنْفِيذٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّنْفِيذُ فِي اللُّغَةِ: جَعْل الشَّيْءِ يُجَاوِزُ مَحَلَّهُ.
يُقَال: نَفَذَ السَّهْمُ فِي الرَّمِيَّةِ تَنْفِيذًا: أَخْرَجَ طَرَفَهُ
مِنَ الشِّقِّ الآْخَرِ. وَنَفَذَ الْكِتَابُ أَرْسَلَهُ: وَنَفَذَ
الْحَاكِمُ الأَْمْرَ أَجْرَاهُ وَقَضَاهُ (1) .
وَالاِصْطِلاَحُ الشَّرْعِيُّ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ،
وَالنَّفَاذُ تَرَتُّبُ الآْثَارِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى الْحُكْمِ.
وَقَدْ يُطْلَقُ لَفْظُ " تَنْفِيذٍ " عَلَى إحَاطَةِ الْحَاكِمِ عِلْمًا
بِحُكْمٍ أَصْدَرَهُ حَاكِمٌ آخَرُ عَلَى وَجْهِ التَّسْلِيمِ، وَيُسَمَّى
اتِّصَالاً. وَيُتَجَوَّزُ بِذِكْرِ (الثُّبُوتِ) (وَالتَّنْفِيذِ) قَال
ابْنُ عَابِدِينَ: وَهَذَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ عَلَيْهِ فِي زَمَانِنَا
هَذَا غَالِبًا (2) .
2 - وَالْفَرْقُ بَيْنَ نَفَاذِ الْحُكْمِ أَوِ الْعَقْدِ وَتَنْفِيذِهِمَا
هُوَ: أَنَّ النَّفَاذَ صِحَّةُ الْعَقْدِ أَوِ الْحُكْمِ وَتَرَتُّبُ
آثَارِهِ الْخَاصَّةِ مِنْهُ، كَوُجُوبِ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى
الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَانْتِقَال مِلْكِيَّةِ الْمَبِيعِ إلَى
الْمُشْتَرِي،
__________
(1) تاج العروس ولسان العرب مادة: " نفذ ".
(2) ابن عابدين 4 / 297، ومطالب أولي النهى 6 / 488.
(14/71)
وَالثَّمَنِ إلَى الْبَائِعِ. أَمَّا
التَّنْفِيذُ فَهُوَ الْعَمَل بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ أَوِ الْحُكْمِ
وَإِمْضَاؤُهُ بِتَنْفِيذِ عُقُوبَةِ الْحَدِّ عَلَى الْمَحْكُومِ
عَلَيْهِ، وَتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي، وَالثَّمَنِ لِلْبَائِعِ
مِنَ الْعَاقِدِ طَوْعًا أَوْ بِإِلْزَامٍ مِنَ الْحَاكِمِ. قَال
الْفُقَهَاءُ: إنَّ التَّنْفِيذَ لَيْسَ بِحُكْمٍ، إنَّمَا هُوَ عَمَلٌ
بِحُكْمٍ سَابِقٍ وَإِجَازَةٌ لِلْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ.
وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّ الْحُكْمَ بِالْمَحْكُومِ بِهِ تَحْصِيل الْحَاصِل
وَهُوَ مَمْنُوعٌ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْقَضَاءُ:
3 - الْقَضَاءُ فِي اللُّغَةِ: الْحُكْمُ (2) ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى
{وَقَضَى رَبُّك أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ (3) } .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَضَاءِ وَالتَّنْفِيذِ أَنَّ التَّنْفِيذَ يَأْتِي
بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَالْقَضَاءُ سَبَبٌ لَهُ
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - يَجِبُ عَلَى الْوَصِيِّ، أَوِ الْوَرَثَةِ تَنْفِيذُ وَصَايَا
الْمَيِّتِ بِشُرُوطِهَا، وَعَلَى الْحَاكِمِ، أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ
تَنْفِيذُ الْعُقُوبَاتِ عَلَى مَنْ حُكِمَ عَلَيْهِ،
__________
(1) ابن عابدين 4 / 324، ومطالب أولي النهى 6 / 487، والمغني 9 / 76.
(2) تاج العروس.
(3) سورة الإسراء / 23.
(14/71)
وَعَلَى مَنِ الْتَزَمَ حُقُوقًا
مَالِيَّةً بِاخْتِيَارِهِ، أَوْ أَلْزَمَهُ الشَّارِعُ حَقًّا تَنْفِيذُ
مَا لَزِمَهُ مِنْ حُقُوقٍ، وَعَلَى الْحَاكِمِ التَّنْفِيذُ جَبْرًا عَلَى
مَنِ امْتَنَعَ عَنِ التَّنْفِيذِ طَوْعًا إذَا طَلَبَ صَاحِبُ الْحَقِّ
حَقَّهُ.
مَنْ يَمْلِكُ التَّنْفِيذَ:
5 - يَخْتَلِفُ مَنْ لَهُ سُلْطَةُ التَّنْفِيذِ بِاخْتِلاَفِ الْحَقِّ
الْمُرَادِ تَنْفِيذُهُ:
فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ الْمُنَفَّذُ عُقُوبَةً كَالْحَدِّ، وَالتَّعَازِيرِ
وَالْقِصَاصِ، فَلاَ يَجُوزُ تَنْفِيذُهُ إلاَّ بِإِذْنٍ مِنَ الإِْمَامِ
أَوْ نَائِبِهِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. لأَِنَّ ذَلِكَ يَفْتَقِرُ إلَى
الاِجْتِهَادِ، وَالْحَيْطَةِ، وَلاَ يُؤْمَنُ فِيهِ الْحَيْفُ
وَالْخَطَأُ، فَوَجَبَ تَفْوِيضُهُ إلَى نَائِبِ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ؛
وَلأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقِيمُ الْحُدُودَ،
وَكَذَا خُلَفَاؤُهُ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِيفَاءٌ) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِكُل مُسْلِمٍ، تَنْفِيذُ
الْعُقُوبَةِ حَال مُبَاشَرَةِ الْمَعْصِيَةِ لأَِنَّهُ نَهْيٌ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَالْكُل مَأْمُورٌ بِهِ (2) .
أَمَّا إذَا كَانَ الْحُكْمُ الْمُنَفَّذُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ
الْمَالِيَّةِ، فَالتَّنْفِيذُ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، فَإِذَا
امْتَنَعَ بِلاَ وَجْهٍ شَرْعِيٍّ نَفَّذَهُ الْحَاكِمُ بِقُوَّةِ
الْقَضَاءِ بِنَاءً
__________
(1) مطالب أولي النهى 6 / 159، وروضة الطالبين 9 / 1221، 10 / 102، والخرشي
8 / 24، وابن عابدين 3 / 181.
(2) ابن عابدين 3 / 181.
(14/72)
عَلَى طَلَبِ صَاحِبِ الْحَقِّ،
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَيْ: (اسْتِيفَاءٌ - وَحِسْبَةٌ) .
الأَْمْرُ بِتَنْفِيذِ حُكْمِ الْقَاضِي:
6 - إذَا طُلِبَ مِنَ الْقَاضِي تَنْفِيذُ حُكْمٍ أَصْدَرَهُ هُوَ
نَفَّذَهُ وُجُوبًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ إذَا كَانَ ذَاكِرًا أَنَّهُ
حُكْمُهُ. أَمَّا إذَا نَسِيَ وَلَمْ يَتَذَكَّرْ أَنَّهُ حُكْمُهُ،
فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ تَنْفِيذِهِ لِمَا حَكَمَ بِهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ
تَنْفِيذُهُ حَتَّى يَتَذَكَّرَ، وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى أَنَّهُ
حُكْمُهُ، أَوْ رَأَى وَرَقَةً فِيهَا أَنَّهُ حُكْمُهُ؛ لأَِنَّهُ
يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ إلَى الْعِلْمِ وَالإِْحَاطَةِ بِالتَّذَكُّرِ فَلاَ
يَرْجِعُ إلَى الظَّنِّ؛ وَلإِِمْكَانِ التَّزْوِيرِ فِي الْخَطِّ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى
أَنَّهُ حُكْمُهُ لَزِمَهُ قَبُولُهَا، وَإِمْضَاءُ الْحُكْمِ، وَقَالُوا:
لأَِنَّهُ لَوْ شَهِدَا عِنْدَهُ بِحُكْمِ غَيْرِهِ قُبِل، فَكَذَلِكَ
هُنَا (2) .
الأَْمْرُ بِتَنْفِيذِ حُكْمِ قَاضٍ آخَرَ.
7 - إذَا رُفِعَ إلَى الْقَاضِي حُكْمُ قَاضٍ آخَرَ نَفَّذَهُ، وَإِنْ
خَالَفَ مَذْهَبَهُ، أَوْ رَأَى أَنَّ غَيْرَهُ أَصْوَبُ
__________
(1) المحلي شرح المنهاج 4 / 304، 305، وروضة الطالبين 11 / 157.
(2) المغني 9 / 76 - 77، والخرشي 7 / 169.
(14/72)
مِنْهُ، مَا لَمْ يَكُنْ مِمَّا يَجِبُ
نَقْضُهُ، كَأَنْ خَالَفَ نَصًّا أَوْ إِجْمَاعًا أَوْ قِيَاسًا جَلِيًّا
(1) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاءٌ) .
تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ:
8 - الْوَصِيَّةُ بِتَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ مُسْتَحَبَّةٌ وَتَنْفِيذُهَا
وَاجِبٌ عَلَى الْوَصِيِّ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. فَإِذَا أَوْصَى إلَى
اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، فَإِنْ أَثْبَتَ الاِسْتِقْلاَل لِكُل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا فَلِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا الاِنْفِرَادُ بِالتَّنْفِيذِ. أَمَّا
إذَا شَرَطَ اجْتِمَاعَهُمَا عَلَى التَّنْفِيذِ فَلَيْسَ لأَِحَدِهِمَا
الاِنْفِرَادُ، فَإِنِ انْفَرَدَ لَمْ يَصِحَّ التَّنْفِيذُ، وَإِنْ
أَطْلَقَ حُمِل عَلَى التَّعَاوُنِ بَيْنَهُمَا فَلَيْسَ لأَِحَدِهِمَا
أَنْ يَسْتَقِل بِالتَّصَرُّفِ دُونَ صَاحِبِهِ (2) .
أَمَّا الْوَصَايَا الَّتِي يَجُوزُ تَنْفِيذُهَا وَاَلَّتِي لاَ يَجُوزُ
تَنْفِيذُهَا، وَشُرُوطُ الْمُوصِي وَالْوَصِيِّ فَيُرْجَعُ لِمَعْرِفَةِ
ذَلِكَ إلَى مُصْطَلَحِ " وَصِيَّةٌ ".
تَنْفِيذُ حُكْمِ قَاضِي الْبُغَاةِ:
9 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ أَهْل
الْبَغْيِ عَلَى بَلَدٍ فَوَلَّوْا قَاضِيًا مِنْهُمْ، فَرُفِعَ حُكْمُهُ
إِلَى قَاضِي أَهْل الْعَدْل نَفَّذَ مِنْ أَحْكَامِهِ مَا يُنَفَّذُ مِنْ
أَحْكَامِ قَاضِي أَهْل الْعَدْل بِشُرُوطٍ هِيَ:
__________
(1) ابن عابدين 4 / 324 - 325. وروضة الطالبين 11 / 152، والخرشي 7 / 166،
ومطالب أولي النهى 6 / 498.
(2) روضة الطالبين 6 / 318، والدسوقي 4 / 455، والمغني 6 / 142، والاختيار
5 / 67.
(14/73)
أ - أَنْ يَكُونَ لَهُمْ تَأْوِيلٌ غَيْرُ
ظَاهِرِ الْبُطْلاَنِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ تَأْوِيلٌ فَلاَ
يُنَفِّذُ أَحْكَامُ قَاضِيهِمْ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: فَإِنْ لَمْ
يَكُنْ لَهُمْ تَأْوِيلٌ فَيَتَعَقَّبُ أَحْكَامَهُ، فَمَا وَجَدَ مِنْهَا
صَوَابًا مَضَى، وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ رُدَّ.
ب - أَلاَّ يَكُونَ مِمَّنْ يَسْتَبِيحُونَ دِمَاءَ أَهْل الْعَدْل
وَأَمْوَالَهُمْ، فَإِنْ كَانُوا كَذَلِكَ لاَ تَنْفُذُ أَحْكَامُهُ.
ج - أَلاَّ يُخَالِفَ نَصًّا، أَوْ إجْمَاعًا، أَوْ قِيَاسًا جَلِيًّا (1)
.
هَذَا مُجْمَل آرَاءِ الْفُقَهَاءِ فِي تَنْفِيذِ حُكْمِ قَاضِي
الْبُغَاةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: بُغَاةٌ.
تَنْفِيذُ حُكْمِ الْمَرْأَةِ:
10 - لاَ يَصِحُّ قَضَاءُ الْمَرْأَةِ: لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً (2)
وَلاَ يَنْفُذُ حُكْمُهَا (3) ، لأَِنَّ التَّنْفِيذَ فَرْعُ صِحَّةِ
الْحُكْمِ
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 355، وروضة الطالبين 10 / 53، وابن عابدين 4 / 307،
ونهاية المحتاج 7 / 404، والمغني 8 / 119 - 120، وكشاف القناع 6 / 166.
(2) حديث: " لن يفلح قوم. . . . " أخرجه البخاري من حديث أبي بكرة (فتح
الباري 8 / 126 ط السلفية) .
(3) حاشية الدسوقي 4 / 129، وتحفة المحتاج 8 / 311، ونهاية المحتاج 8 /
240، وكشاف القناع 6 / 294.
(14/73)
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الأَْئِمَّةُ،
مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ قَضَاءُ الْمَرْأَةِ، فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ
شَهَادَتُهَا، وَهِيَ مَا عَدَا الْقَوَدِ، وَالْحَدِّ، فَإِذَا حَكَمَتْ
بَيْنَ خَصْمَيْنِ، فَقَضَتْ قَضَاءً مُوَافِقًا لِدِينِ اللَّهِ يَنْفُذُ
(1) . وَإِذَا حَكَمَتْ فِي حَدٍّ أَوْ قَوَدٍ، فَرُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ
يَرَى جَوَازَهُ فَأَمْضَاهُ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ إبْطَالُهُ (2) .
وَأَفْتَى بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ، إذَا اُبْتُلِيَ النَّاسُ
بِوِلاَيَةِ امْرَأَةٍ، نَفَذَ قَضَاؤُهَا لِلضَّرُورَةِ (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي: قَضَاءٌ ".
تَنْفِيذُ حُكْمِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ:
11 - لاَ يَصِحُّ تَوْلِيَةُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ الْقَضَاءَ لاِنْتِفَاءِ
أَهْلِيَّتِهِ لِلْوِلاَيَةِ، وَنَصْبُهُ عَلَى مِثْلِهِ مُجَرَّدُ
رِئَاسَةٍ لاَ تَقْلِيدُ حُكْمٍ وَقَضَاءٍ. وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَلْزَمْ
حُكْمُهُ عَلَيْهِمْ إلاَّ إذَا رَضُوا بِهِ (4) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إنَّ تَقْلِيدَ غَيْرِ الْمُسْلِمِ الْقَضَاءَ
صَحِيحٌ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ قَضَاؤُهُ عَلَى الْمُسْلِمِ حَال كُفْرِهِ،
وَيَنْفُذُ عَلَى أَهْل مِلَّتِهِ (5)
وَالتَّفْصِيل فِي بَابِ الْقَضَاءِ.
__________
(1) ابن عابدين 4 / 356، وفتح القدير 6 / 391 ط إحياء التراث.
(2) المصادر السابقة.
(3) نهاية المحتاج مع حاشية الشبراملسي 8 / 240.
(4) نهاية المحتاج 8 / 238 ط مصطفى بابي الحلبي، وكشاف القناع 6 / 294.
(5) حاشية ابن عابدين 4 / 299.
(14/74)
تَنْفِيلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّنْفِيل فِي اللُّغَةِ مِنَ النَّفَل وَهُوَ الْغَنِيمَةُ:
يُقَال: نَفَّلَهُ أَعْطَاهُ النَّفَل، وَنَفَلَهُ بِالتَّخْفِيفِ نَفَلاً
وَأَنْفَلَهُ إيَّاهُ، وَنَفَل الإِْمَامُ الْجُنْدَ إذَا جَعَل لَهُمْ مَا
غَنِمُوا، وَنَفَل فُلاَنٌ عَلَى فُلاَنٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ
قَال أَهْل اللُّغَةِ: جِمَاعُ مَعْنَى النَّفَل وَالنَّافِلَةِ مَا كَانَ
زِيَادَةً عَلَى الأَْصْل،
وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ زِيَادَةُ مَالٍ عَلَى سَهْمِ الْغَنِيمَةِ
يَشْتَرِطُهُ الإِْمَامُ أَوْ أَمِيرُ الْجَيْشِ لِمَنْ يَقُومُ بِمَا
فِيهِ نِكَايَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الْعَدُوِّ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الرَّضْخُ:
2 - الرَّضْخُ هُوَ الْعَطِيَّةُ الْقَلِيلَةُ، وَفِي الشَّرْعِ عَطِيَّةٌ
مِنَ الْغَنِيمَةِ دُونَ السَّهْمِ لِغَيْرِ مَنْ يُسْهَمُ لَهُمْ،
كَالصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ إذَا قَامُوا بِعَمَلٍ فِيهِ إعَانَةٌ عَلَى
الْقِتَال (2) .
__________
(1) لسان العرب مادة: " نفل "، وحاشية ابن عابدين 3 / 238، وروضة الطالبين
6 / 368، والمغني 8 / 378.
(2) لسان العرب مختار الصحاح مادتي: " رضخ، وسهم ".
(14/74)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّنْفِيل، إلاَّ
مَا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فَإِنَّهُ قَال: لاَ نَفْل بَعْدَ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّهُ لاَ تَنْفِيل
إلاَّ إذَا مَسَّتِ الْحَاجَةُ بِأَنْ كَثُرَ الْعَدُوُّ وَقَل
الْمُسْلِمُونَ وَاقْتَضَى الْحَال بَعْثَ السَّرَايَا وَحِفْظَ
الْمَكَامِنِ؛ لِذَلِكَ نَفَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ دُونَ بَعْضٍ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ هُوَ مُسْتَحَبٌّ؛ لأَِنَّهُ نَوْعٌ مِنَ
التَّحْرِيضِ عَلَى الْجِهَادِ (2) .
4 - وَلِلتَّنْفِيل صُوَرٌ ثَلاَثٌ:
إحْدَاهَا: أَنْ يَبْعَثَ الإِْمَامُ أَمَامَ الْجَيْشِ سَرِيَّةً تُغِيرُ
عَلَى الْعَدُوِّ، وَيَجْعَل لَهُمْ شَيْئًا مِمَّا يَغْنَمُونَ،
كَالرُّبُعِ أَوِ الثُّلُثِ.
ثَانِيَتُهَا: أَنْ يُنَفِّل الإِْمَامُ أَوِ الأَْمِيرُ بَعْضَ أَفْرَادِ
الْجَيْشِ لِمَا أَبْدَاهُ فِي الْقِتَال مِنْ شَجَاعَةٍ وَإِقْدَامٍ، أَوْ
أَيِّ عَمَلٍ مُفِيدٍ فَاقَ بِهِ غَيْرَهُ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ شَرْطٍ.
ثَالِثَتُهَا: أَنْ يَقُول الإِْمَامُ: مَنْ قَامَ بِعَمَلٍ مُعَيَّنٍ
فَلَهُ كَذَا كَهَدْمِ سُوَرٍ أَوْ نَقْبِ جِدَارٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكُل
هَذِهِ الصُّوَرِ جَائِزَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 102، وروضة الطالبين 6 / 368، والزرقاني 3 / 128،
جواهر الإكليل 1 / 261.
(2) فتح القدير 5 / 249، وابن عابدين 3 / 238.
(14/75)
الْفُقَهَاءِ (1) .
وَكَرِهَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ الصُّورَةَ الأَْخِيرَةَ:
قَالُوا: لأَِنَّ ذَلِكَ يَصْرِفُ نِيَّةَ الْمُجَاهِدِينَ لِقِتَال
الدُّنْيَا، وَيُؤَدِّي إلَى التَّحَامُل عَلَى الْقِتَال، وَرُكُوبِ
الْمَخَاطِرِ، وَقَال عُمَرُ الْفَارُوقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لاَ
تُقَدِّمُوا جَمَاجِمَ الْمُسْلِمِينَ إلَى الْحُصُونِ، لَمُسْلِمٌ
أَسْتَبْقِيهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ حِصْنٍ أَفْتَحُهُ وَقَالُوا: يَنْفُذُ
الشَّرْطُ وَإِنْ كَانَ مَمْنُوعًا، إنْ لَمْ يُبْطِلْهُ الإِْمَامُ قَبْل
حَوْزِ الْمَغْنَمِ (2) .
مَحَل التَّنْفِيل:
5 - يَجُوزُ التَّنْفِيل مِنْ بَيْتِ الْمَال الَّذِي عِنْدَ الإِْمَامِ،
وَيُشْتَرَطُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ: أَنْ يَكُونَ النَّفَل مَعْلُومًا
نَوْعًا، وَقَدْرًا، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُنَفِّل مِمَّا سَيَغْنَمُ مِنَ
الأَْعْدَاءِ وَتُغْتَفَرُ الْجَهَالَةُ فِيهَا لِلْحَاجَةِ (3) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ يَكُونُ النَّفَل إِذَا كَانَ
مِنَ الْغَنِيمَةِ.
فَقَال الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ: يَكُونُ النَّفَل
مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْل
__________
(1) المغني 8 / 379 381، وروضة الطالبين 6 / 369، والقليوبي 3 / 193،
وحاشية ابن عابدين 3 / 238، وفتح القدير 5 / 249.
(2) حاشية الزرقاني 3 / 128.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 238، وروضة الطالبين 6 / 369، والمغني 8 / 383.
(14/75)
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (1) . وَاسْتَدَل
بِحَدِيثِ: لاَ نَفْل إلاَّ بَعْدَ الْخُمُسِ (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَكُونُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ
إذَا نَفَل الإِْمَامُ فِي أَثْنَاءِ الْقِتَال، أَمَّا إذَا نَفَل بَعْدَ
الإِْحْرَازِ فَلاَ يُنَفِّل إلاَّ مِنَ الْخُمُسِ (3) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَكُونُ مِنَ الْخُمُسِ (4) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ يَكُونُ مِنْ خُمُسِ
الْخُمُسِ، وَهُوَ حَظُّ الإِْمَامِ. وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لَهُمْ: يَكُونُ
مِنْ أَصْل الْغَنِيمَةِ (5) .
وَلاَ يَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَقُول: مَنْ
أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ، وَلاَ يَصِحُّ هَذَا الشَّرْطُ، قَالُوا:
وَمَا نُقِل أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ فَهَذَا
لَمْ يَثْبُتْ (6) .
قَدْرُ النَّفَل:
6 - لَيْسَ لِلنَّفَل حَدٌّ أَدْنَى فَلِلإِْمَامِ أَنْ يُنَفِّل الثُّلُثَ
أَوِ الرُّبُعَ أَوْ أَقَلّ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا يَجُوزُ لَهُ أَلاَّ
يُنَفِّل أَصْلاً. هَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ،
وَاخْتَلَفُوا:
__________
(1) المغني 8 / 384.
(2) حديث: " لا تقل إلا بعد الخمس " أخرجه أبو داود (3 / 187 - تحقيق عزت
عبيد دعاس) من حديث معن بن يزيد، وإسناده حسن.
(3) ابن عابدين 3 / 241، وفتح القدير 5 / 250.
(4) الزرقاني 3 / 128 وما بعدها، وبداية المجتهد 1 / 413.
(5) القليوبي 3 / 193.
(6) القليوبي 3 / 193، ورضة الطالبين 6 / 370، والمغني 8 / 380.
(14/76)
هَل لِلتَّنْفِيل حَدٌّ أَعْلَى؟ .
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ
لِلتَّنْفِيل حَدٌّ أَعْلَى، فَلِلإِْمَامِ أَنْ يُنَفِّل السَّرِيَّةَ كُل
مَا تَغْنَمُهُ، أَوْ بِقَدْرٍ مِنْهُ، كَأَنْ يَقُول: مَا أَصَبْتُمْ
فَهُوَ لَكُمْ أَوْ لَكُمْ ثُلُثُهُ أَوْ رُبُعُهُ بَعْدَ الْخُمُسِ، أَوْ
قَبْلَهُ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَيْسَ لِلإِْمَامِ أَنْ يَقُول ذَلِكَ
لِلْعَسْكَرِ كُلِّهِ، وَقَال ابْنُ الْهُمَامِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ
يَجُوزُ أَنْ يَقُول ذَلِكَ لِلسَّرِيَّةِ أَيْضًا (1) .
وَلَيْسَ لِلتَّنْفِيل حَدٌّ أَعْلَى عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بَل هُوَ
مَوْكُولٌ بِاجْتِهَادِ الإِْمَامِ وَتَقْدِيرِهِ حَسَبَ قِيمَةِ الْعَمَل
وَخَطَرِهِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ
أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنَفِّل
الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ وَالثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ إذَا نَفَّل (2)
.
وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّهُ مَوْكُولٌ لاِجْتِهَادِ الإِْمَامِ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَجُوزُ تَنْفِيل أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ؛
لأَِنَّ نَفْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمْ
يَتَجَاوَزِ الثُّلُثَ (4) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 240، والقليوبي 3 / 193.
(2) حديث حبيب بن مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفل الربع
بعد الخمس إذا نفل، أخرجه أبو داود (3 / 182 - تحقيق عزت عبيد دعاس)
وإسناده صحيح.
(3) نهاية المحتاج 6 / 146، ومغني المحتاج 3 / 102، والقليوبي 3 / 193.
(4) المغني 8 / 380.
(14/76)
وَقْتُ التَّنْفِيل:
7 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى
أَنَّ التَّنْفِيل يَكُونُ قَبْل إِصَابَةِ الْمَغْنَمِ، أَمَّا بَعْدَ
إِصَابَةِ الْمَغْنَمِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَخُصَّ الْبَعْضَ بِبَعْضِ مَا
أَصَابُوهُ؛ لأَِنَّ حَقَّ الْغَانِمِينَ قَدْ تَأَكَّدَ بِالإِْصَابَةِ
وَالإِْحْرَازِ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لِلإِْمَامِ أَنْ يُنَفِّل بَعْدَ
الإِْحْرَازِ مِنَ الْخُمُسِ؛ لأَِنَّهُ لاَ حَقَّ لِلْغَانِمِينَ فِيهِ
بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُنَفَّلُونَ مِنْ أَصْنَافِ الْخُمُسِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ نَفَل إلاَّ بَعْدَ إِحْرَازِ الْغَنِيمَةِ
(1)
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 102، ونهاية المحتاج 6 / 146، وابن عابدين 3 / 238،
وفتح القدير 5 / 250، وبداية المجتهد 1 / 414.
(14/77)
تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّنْقِيحُ: التَّهْذِيبُ وَالتَّمْيِيزُ.
وَالْمَنَاطُ: الْعِلَّةُ (1) .
وَتَنْقِيحُ الْمَنَاطِ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ: هُوَ النَّظَرُ
وَالاِجْتِهَادُ فِي تَعْيِينِ مَا دَل النَّصُّ عَلَى كَوْنِهِ عِلَّةً
مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، بِحَذْفِ مَا لاَ مَدْخَل لَهُ فِي الاِعْتِبَارِ
مِمَّا اُقْتُرِنَ بِهِ مِنَ الأَْوْصَافِ، كُل وَاحِدٍ بِطَرِيقِهِ -
وَذَلِكَ مِثْل قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لِلأَْعْرَابِيِّ الَّذِي قَال: هَلَكْتُ يَا رَسُول اللَّهِ - مَا
صَنَعْتَ؟ ، قَال: وَقَعْتُ عَلَى أَهْلِي فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، فَقَال
لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعْتِقْ رَقَبَةً (2)
، فَإِنَّهُ يَدُل عَلَى كَوْنِ الْوِقَاعِ عِلَّةً لِلْعِتْقِ،
وَالتَّعْلِيل بِالْوِقَاعِ وَإِنْ كَانَ مُومًى إلَيْهِ بِالنَّصِّ،
غَيْرَ أَنَّهُ يُفْتَقَرُ فِي مَعْرِفَتِهِ عَيْنًا إلَى حَذْفِ كُل مَا
اقْتَرَنَ بِهِ مِنَ الأَْوْصَافِ عَنْ
__________
(1) مختار الصحاح، والمصباح المنير، ولسان العرب، وإرشاد الفحول للشوكاني
221.
(2) حديث: " أعتق رقبة " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 514 ط السلفية) من حديث
أبي هريرة.
(14/77)
دَرَجَةِ الاِعْتِبَارِ بِالرَّأْيِ
وَالاِجْتِهَادِ. وَذَلِكَ بِأَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ كَوْنَهُ أَعْرَابِيًّا،
وَكَوْنَهُ شَخْصًا مُعَيَّنًا، وَأَنَّ كَوْنَ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَذَلِكَ
الشَّهْرَ بِخُصُوصِهِ، وَذَلِكَ الْيَوْمَ بِعَيْنِهِ، وَكَوْنَ
الْمَوْطُوءَةِ زَوْجَةً وَامْرَأَةً مُعَيَّنَةً لاَ مَدْخَل لَهُ فِي
التَّأْثِيرِ بِمَا يُسَاعِدُ مِنَ الأَْدِلَّةِ فِي ذَلِكَ حَتَّى
يَتَعَدَّى إِلَى كُل مَنْ وَطِئَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَامِدًا، وَهُوَ
مُكَلَّفٌ صَائِمٌ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - إلْغَاءُ الْفَارِقِ:
2 - إِلْغَاءُ الْفَارِقِ هُوَ بَيَانُ عَدَمِ تَأْثِيرِ الْفَارِقِ بَيْنَ
الأَْصْل وَالْفَرْعِ فِي الْقِيَاسِ، فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ لِمَا
اشْتَرَكَا فِيهِ. وَذَلِكَ كَإِلْحَاقِ الأَْمَةِ بِالْعَبْدِ فِي
سِرَايَةِ الْعِتْقِ الثَّابِتَةِ بِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: مَنْ أَعْتَقَ
شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ
قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْعَدْل فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ
وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ وَإِلاَّ فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ (2)
فَالْفَارِقُ بَيْنَ الأَْمَةِ وَالْعَبْدِ هُوَ الأُْنُوثَةُ وَلاَ
تَأْثِيرَ لَهَا فِي مَنْعِ السِّرَايَةِ، فَتَثْبُتُ السِّرَايَةُ فِيهَا
لِمَا شَارَكَتْ فِيهِ الْعَبْدَ أَيْ لِلْوَصْفِ الَّذِي شَارَكَتْ فِيهِ
الْعَبْدَ وَهُوَ الرِّقِّيَّةُ (3) .
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 3 / 63، وروضة الناظر 146، 147،
والمستصفى 2 / 231.
(2) حديث: " من أعتق شركا له في عبد. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 150
- 151 ط السلفية) ومسلم (3 / 1286 ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر.
(3) جمع الجوامع 2 / 293.
(14/78)
وَالْفَرْقُ بَيْنَ تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ
وَإِلْغَاءِ الْفَارِقِ أَنَّ إِلْغَاءَ الْفَارِقِ لَيْسَ فِيهِ تَعْيِينٌ
لِلْعِلَّةِ، وَإِنَّمَا يَحْصُل الإِْلْحَاقُ بِمُجَرَّدِ الإِْلْغَاءِ،
أَمَّا تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ فَفِيهِ اجْتِهَادٌ فِي تَعْيِينِ الْبَاقِي
مِنَ الأَْوْصَافِ لِلْعِلِّيَّةِ، قَال الْبُنَانِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ
عَلَى شَرْحِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ: لاَ يَلْزَمُ مِنَ الْقَطْعِ
بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ الْقَطْعُ بِعِلِّيَّةِ الْبَاقِي بَعْدَ
الْفَارِقِ الْمُلْغَى؛ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ أَمْرًا آخَرَ
وَرَاءَهُمَا ثُمَّ قَال: وَالْحَاصِل أَنَّ هُنَا أَمْرَيْنِ: كَوْنَ
الْفَارِقِ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ فِي الْعِلِّيَّةِ، وَكَوْنَ الْبَاقِي
بَعْدَ ذَلِكَ الْفَارِقِ هُوَ الْعِلَّةُ، وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ
الأَْوَّل ثُبُوتُ الثَّانِي (1) .
غَيْرَ أَنَّ تَعْرِيفَ الشَّوْكَانِيِّ لِتَنْقِيحِ الْمَنَاطِ يَكَادُ
يَكُونُ هُوَ تَعْرِيفُ إِلْغَاءِ الْفَارِقِ الَّذِي ذَكَرَهُ
الْمَحَلِّيُّ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ، مَعَ ذِكْرِ نَفْسِ الْمِثَال،
وَيُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَهُمَا عِنْدَهُ.
قَال الشَّوْكَانِيُّ فِي تَعْرِيفِ تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ: مَعْنَى
تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ: إِلْحَاقُ الْفَرْعِ
بِالأَْصْل بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ، بِأَنْ يُقَال: لاَ فَرْقَ بَيْنَ
الأَْصْل وَالْفَرْعِ إلاَّ كَذَا، وَذَلِكَ لاَ مَدْخَل لَهُ فِي
الْحُكْمِ أَلْبَتَّةَ فَيَلْزَمُ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الْحُكْمِ؛
لاِشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمُوجِبِ لَهُ، كَقِيَاسِ الأَْمَةِ عَلَى
الْعَبْدِ فِي السِّرَايَةِ، فَإِنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَهُمَا إلاَّ
الذُّكُورَةَ وَهُوَ مُلْغًى بِالإِْجْمَاعِ إِذْ لاَ مَدْخَل لَهُ فِي
الْعِلِّيَّةِ (2) .
__________
(1) حاشية البناني على جمع الجوامع 2 / 293.
(2) إرشاد الفحول للشوكاني ص221، 222.
(14/78)
ب - السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ:
3 - السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ حَصْرُ الأَْوْصَافِ الْمَوْجُودَةِ فِي
الأَْصْل الْمَقِيسِ عَلَيْهِ، وَإِبْطَال مَا لاَ يَصْلُحُ مِنْهَا
لِلْعِلِّيَّةِ، فَيَتَعَيَّنُ الْبَاقِي لَهَا، كَأَنْ يَحْصُرَ أَوْصَافَ
الْبُرِّ فِي قِيَاسِ الذُّرَةِ عَلَيْهِ فِي الطَّعْمِ وَغَيْرِهِ،
وَيُبْطِل مَا عَدَا الطَّعْمَ بِطَرِيقِهِ، فَيَتَعَيَّنُ الطَّعْمُ
لِلْعِلِّيَّةِ (1) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ وَبَيْنَ السَّبْرِ
وَالتَّقْسِيمِ، أَنَّ الْوَصْفَ فِي تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ مَنْصُوصٌ
عَلَيْهِ، بِخِلاَفِهِ فِي السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ (2) .
وَقَدْ ذَكَرَ الشَّوْكَانِيُّ أَنَّ الْفَخْرَ الرَّازِيَّ زَعَمَ أَنَّ
مَسْلَكَ " تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ " هُوَ مَسْلَكُ " السَّبْرِ
وَالتَّقْسِيمِ " فَلاَ يَحْسُنُ عَدُّهُ نَوْعًا آخَرَ.
وَرُدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا ظَاهِرًا؛ وَذَلِكَ أَنَّ
الْحَصْرَ فِي دَلاَلَةِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ لِتَعْيِينِ الْعِلَّةِ
إِمَّا اسْتِقْلاَلاً أَوِ اعْتِبَارًا، وَفِي تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ
لِتَعْيِينِ الْفَارِقِ وَإِبْطَالِهِ، لاَ لِتَعْيِينِ الْعِلَّةِ (3) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ مَسْلَكٌ مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ، وَلَكِنَّهُ
دُونَ تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ فِي الْمَرْتَبَةِ، وَقَدْ أَقَرَّ بِهِ
أَكْثَرُ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ بَل قَال أَبُو حَنِيفَةَ:
__________
(1) جمع الجوامع 2 / 270.
(2) هامش جمع الجوامع 2 / 292.
(3) إرشاد الفحول ص222.
(14/79)
لاَ قِيَاسَ فِي الْكَفَّارَاتِ،
وَأَثْبَتَ هَذَا النَّمَطَ مِنَ التَّصَرُّفِ وَسَمَّاهُ اسْتِدْلاَلاً.
يَقُول الْغَزَالِيُّ: فَمَنْ جَحَدَ هَذَا الْجِنْسَ مِنْ مُنْكِرِي
الْقِيَاسِ وَأَصْحَابِ الظَّاهِرِ لَمْ يَخْفَ فَسَادُ كَلاَمِهِ.
وَقَدْ نَازَعَ الْعَبْدَرِيُّ الْغَزَالِيَّ بِأَنَّ الْخِلاَفَ فِيهِ
ثَابِتٌ بَيْنَ مَنْ يُثْبِتُ الْقِيَاسَ وَيُنْكِرُهُ لِرُجُوعِهِ إلَى
الْقِيَاسِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) المستصفى 2 / 233، والأحكام للآمدي 3 / 63، وإرشاد الفحول ص222.
(14/79)
تَنَمُّصٌ
التَّعْرِيفُ
1 - النَّمْصُ: هُوَ نَتْفُ الشَّعْرِ،
وَقِيل: هُوَ نَتْفُ الشَّعْرِ مِنَ الْوَجْهِ.
وَالنَّامِصَةُ: هِيَ الَّتِي تَنْتِفُ الشَّعْرَ مِنْ وَجْهِهَا أَوْ مِنْ
وَجْهِ غَيْرِهَا
وَالْمُتَنَمِّصَةُ: هِيَ الَّتِي تَنْتِفُ الشَّعْرَ مِنْ وَجْهِهَا، أَوْ
هِيَ مَنْ تَأْمُرُ غَيْرَهَا بِفِعْل ذَلِكَ.
وَالْمِنْمَاصُ: الْمِنْقَاشُ، الَّذِي يُسْتَخْرَجُ بِهِ الشَّوْكُ
وَتَنَمَّصَتِ الْمَرْأَةُ: أَخَذَتْ شَعْرَ جَبِينِهَا بِخَيْطٍ
لِتَنْتِفَهُ.
وَانْتَمَصَتْ: أَمَرَتِ النَّامِصَةَ أَنْ تَنْتِفَ شَعْرَ وَجْهِهَا،
وَنَتَفَتْ هِيَ شَعْرَ وَجْهِهَا.
وَالنَّمْصُ: رِقَّةُ الشَّعْرِ وَدِقَّتُهُ، حَتَّى تَرَاهُ كَالزَّغَبِ
(1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلْكَلِمَةِ عَنْ مَعْنَاهَا
اللُّغَوِيِّ، إلاَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَيَّدَ النَّمْصَ
__________
(1) لسان العرب، والنهاية لابن الأثير، ومجمع البحار للفتني، مادة: " نمص "
والقرطبي 5 / 392، والفائق للزمخشري 2 / 130 عيسى الحلبي.
(14/80)
بِتَرْقِيقِ الْحَوَاجِبِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحَفُّ:
2 - مِنْ مَعَانِي الْحَفِّ الإِْزَالَةُ
يُقَال: حَفَّ اللِّحْيَةَ يَحُفُّهَا حَفًّا: إِذَا أَخَذَ مِنْهَا
وَيُقَال: حَفَّتِ الْمَرْأَةُ وَجْهَهَا حَفًّا وَحِفَافًا: أَيْ
أَزَالَتْ عَنْهُ الشَّعْرَ بِالْمُوسَى وَقَشَّرَتْهُ (2) .
فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَفِّ وَالتَّنَمُّصِ أَنَّ الْحَفَّ بِالْمُوسَى.
ب - الْحَلْقُ:
3 - الْحَلْقُ هُوَ اسْتِئْصَال الشَّعْرِ بِالْمُوسَى وَنَحْوِهَا، قَال
تَعَالَى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ (3) }
وَيُطْلَقُ - أَيْضًا - عَلَى قَطْعِ الشَّعْرِ، وَالأَْخْذِ مِنْهُ (4) .
__________
(1) أحكام النساء لابن الجوزي ص94 ط التراث الإسلامي، ونيل الأوطار 6 / 192
- مصطفى الحلبي، والقرطبي 5 / 92، والجمل على المنهج 1 / 418 - ط إحياء
التراث، الأبي والسنوسي 5 / 408 - دار الكتب العلمية، ابن عابدين 5 / 239 -
إحياء التراث، وعون المعبود 11 / 228 - السلفية وزروق على الرسالة 1 / 370
- الجمالية، ومجمع البحار 3 / 398، والعدوي على الرسالة 2 / 423 - دار
المعرفة، فح الباري 10 / 377 - السلفية.
(2) اللسان، والمصباح، والمعجم الوسيط - مادة: " حف ".
(3) سورة الفتح / 27.
(4) مفردات القرآن واللسان والنهاية مادة: " حلق ".
(14/80)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نَتْفَ شَعْرِ الْحَاجِبَيْنِ
دَاخِلٌ فِي نَمْصِ الْوَجْهِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَعَنَ اللَّهُ النَّامِصَاتِ،
وَالْمُتَنَمِّصَاتِ (1) . "
وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَفِّ وَالْحَلْقِ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ الْحَفَّ فِي مَعْنَى النَّتْفِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى جَوَازِ الْحَفِّ وَالْحَلْقِ، وَأَنَّ
الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ النَّتْفُ فَقَطْ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ نَتْفَ مَا عَدَا
الْحَاجِبَيْنِ مِنْ شَعْرِ الْوَجْهِ دَاخِلٌ أَيْضًا فِي النَّمْصِ،
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ وَأَبُو دَاوُد
السِّجِسْتَانِيُّ، وَبَعْضُ عُلَمَاءِ الْمَذَاهِبِ الثَّلاَثَةِ
الأُْخْرَى إِلَى أَنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ التَّنَمُّصِ فِي
الْحَدِيثِ مَحْمُولٌ عَلَى الْحُرْمَةِ، وَنُقِل عَنْ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ
أَنَّ النَّهْيَ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ.
وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ فِي الْحَدِيثِ لَيْسَ
عَامًّا، وَذَهَبَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ إلَى
عُمُومِ النَّهْيِ، وَأَنَّ التَّنَمُّصَ حَرَامٌ عَلَى كُل حَالٍ (2) .
__________
(1) حديث: " أنه صلى الله عليه وسلم لعن النامصات والمتنمصات. . . " أخرجه
مسلم (3 / 1678 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن مسعود.
(2) أحكام النساء ص94، ونيل الأوطار 6 / 192، والقرطبي 5 / 392، والجمل على
المنهج 1 / 418، وابن عابدين 2 / 239، وزرق على الرسالة 1 / 370، وعون
المعبود 11 / 228، وفتح الباري 10 / 377، والمجموع 3 / 141 - النيرية،
الآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 355 - النار، والمغني 1 / 94 - الرياض،
الطحطاوي على الدر 4 / 186 - دار المعرفة، وأحكام القرآن لابن العربي 1 /
501 - عيسى الحلبي.
(14/81)
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ لاَ
يَجُوزُ التَّنَمُّصُ لِغَيْرِ الْمُتَزَوِّجَةِ، وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ
لِغَيْرِ الْمُتَزَوِّجَةِ فِعْل ذَلِكَ إِذَا اُحْتِيجَ إِلَيْهِ
لِعِلاَجٍ أَوْ عَيْبٍ، بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَكُونَ فِيهِ تَدْلِيسٌ عَلَى
الآْخَرِينَ.
قَال الْعَدَوِيُّ: وَالنَّهْيُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَرْأَةِ
الْمَنْهِيَّةِ عَنِ اسْتِعْمَال مَا هُوَ زِينَةٌ لَهَا، كَالْمُتَوَفَّى
عَنْهَا وَالْمَفْقُودِ زَوْجُهَا.
أَمَّا الْمَرْأَةُ الْمُتَزَوِّجَةُ فَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ
أَنَّهُ يَجُوزُ لَهَا التَّنَمُّصُ، إِذَا كَانَ بِإِذْنِ الزَّوْجِ، أَوْ
دَلَّتْ قَرِينَةٌ عَلَى ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ مِنَ الزِّينَةِ، وَالزِّينَةُ
مَطْلُوبَةٌ لِلتَّحْصِينِ، وَالْمَرْأَةُ مَأْمُورَةٌ بِهَا شَرْعًا
لِزَوْجِهَا.
وَدَلِيلُهُمْ مَا رَوَتْهُ بَكْرَةُ بِنْتُ عُقْبَةَ أَنَّهَا سَأَلَتْ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ الْحِفَافِ، فَقَالَتْ: إِنْ كَانَ
لَك زَوْجٌ فَاسْتَطَعْتِ أَنْ تَنْتَزِعِي مُقْلَتَيْك فَتَصْنَعِيهِمَا
أَحْسَن مِمَّا هُمَا فَافْعَلِي (1) .
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 8 / 426، والآداب الشرعية 3 / 355، والثمر
الداني 504، والعدوي على الرسالة 2 / 423، وابن عابدين 5 / 239، والأبي
والسنوسي 5 / 408، ونهاية المحتاج 2 / 23 - مصطفى الحلبي، وأحكام النساء
ص94.
(14/81)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى عَدَمِ
جَوَازِ التَّنَمُّصِ - وَهُوَ النَّتْفُ - وَلَوْ كَانَ بِإِذْنِ
الزَّوْجِ، وَإِلَى جَوَازِ الْحَفِّ وَالْحَلْقِ.
وَخَالَفَهُمْ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فَأَبَاحَهُ، وَحَمَل النَّهْيَ عَلَى
التَّدْلِيسِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ كَانَ شِعَارَ الْفَاجِرَاتِ (1) .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمَرْأَةِ
إِذَا نَبَتَتْ لَهَا لِحْيَةٌ أَوْ شَوَارِبُ أَوْ عَنْفَقَةٌ أَنْ
تُزِيلَهَا، وَقَيَّدَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ بِإِذْنِ الزَّوْجِ.
وَأَوْجَبَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَيْهَا - فِي الْمُعْتَمَدِ - أَنْ
تُزِيلَهَا؛ لأَِنَّ فِيهَا مُثْلَةٌ.
أَمَّا ابْنُ جَرِيرٍ فَذَهَبَ إلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ (2) .
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ
تُزِيل شَعْرَ يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا وَظَهْرِهَا وَبَطْنهَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى وُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيْهَا؛ لأَِنَّ فِي
تَرْكِ هَذَا الشَّعْرِ مُثْلَةً.
يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل التَّنَمُّصُ، وَيُكْرَهُ لَهُ حَفُّ
__________
(1) أحكام النساء 94، والفروع 1 / 135، والآداب الشرعية 3 / 355.
(2) المجموع 1 / 290، 378، وابن عابدين 5 / 239، وفتح الباري 10 / 377 حسن
الأسود لصديق خان 2 / 787 المدني، والعدوي على الرسالة 2 / 409، وزاد
المسلم للشنقيطي 1 / 178، 2 / 19، والقرطبي 5 / 392 ونيل الأوطار 6 / 192.
(14/82)
حَاجِبِهِ أَوْ حَلْقُهُ، وَيَجُوزُ لَهُ
الأَْخْذُ مِنْهُ مَا لَمْ يُشْبِهِ الْمُخَنَّثِينَ (1) .
تَنْمِيَةٌ
اُنْظُرْ: إنْمَاءٌ.
__________
(1) ابن عابدين 5 / 261، والعدوي على الرسالة 2 / 409، والثمر الداني 500
والطحطاوي على الدر 4 / 186، زروق على الرسالة 1 / 370، الآداب الشرعية 3 /
355، والفروع 1 / 130.
(14/82)
تَنَوُّرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي التَّنَوُّرُ لُغَةً: الطِّلاَءُ بِالنُّورَةِ (1) ،
يُقَال: تَنَوَّرَ: تَطَلَّى بِالنُّورَةِ لِيُزِيل الشَّعْرَ (2)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الاِسْتِحْدَادُ:
2 - الاِسْتِحْدَادُ حَلْقُ الْعَانَةِ، سُمِّيَ اسْتِحْدَادًا
لاِسْتِعْمَال الْحَدِيدَةِ وَهِيَ الْمُوسَى، وَفِي حُكْمِ الْحَلْقِ
الْقَصُّ وَالنَّتْفُ وَالنُّورَةُ (3) .
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الاِسْتِحْدَادُ أَعَمَّ مِنَ التَّنَوُّرِ؛
لأَِنَّهُ كَمَا يَكُونُ بِالتَّنَوُّرِ يَكُونُ بِغَيْرِهِ مِنْ حَلْقٍ
وَقَصٍّ وَنَتْفٍ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - إزَالَةُ شَعْرِ الْعَانَةِ وَالإِْبْطِ مِنْ خِصَال الْفِطْرَةِ
__________
(1) النورة بالضم، هو من الحجر يحرق ويسوي منه الكلس ويحلق به شعر العانة.
(2) الصحاح وتاج العروس والمصباح المنير مادة: " نور ".
(3) نيل الأوطار 1 / 133 ط دار الجيل، وصحيح مسلم بشرح النووي 2 / 148 ط
المطبعة المصرية.
(14/83)
الَّتِي وَرَدَ بِمَشْرُوعِيَّتِهَا
الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ، وَالإِْزَالَةُ تَكُونُ بِأُمُورٍ مِنْهَا:
التَّنَوُّرُ.
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ إزَالَةِ شَعْرِ الْعَانَةِ
وَالإِْبْطِ بِالتَّنَوُّرِ، لِمَا رَوَاهُ الْخَلاَّل بِإِسْنَادِهِ عَنْ
نَافِعٍ قَال: كُنْت أَطْلِي ابْنَ عُمَرَ فَإِذَا بَلَغَ عَانَتَهُ
نَوَّرَهَا هُوَ بِيَدِهِ. وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) وَلأَِنَّ أَصْل السُّنَّةِ يَتَأَدَّى
بِالإِْزَالَةِ بِكُل مُزِيلٍ (2) .
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ التَّنَوُّرِ وَالْحَلْقِ وَالنَّتْفِ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَل لإِِزَالَةِ
شَعْرِ الْعَانَةِ فِي حَقِّ الرَّجُل لِمُوَافَقَتِهِ خَبَرَ عَشْرٌ مِنَ
الْفِطْرَةِ: قَصُّ الشَّارِبِ، وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ، وَالسِّوَاكُ،
وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ، وَقَصُّ الأَْظْفَارِ، وَغَسْل الْبَرَاجِمِ،
وَنَتْفُ الإِْبْطِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ (3) .
__________
(1) حديث: طلائه صلى الله عليه وسلم بالنورة، أخرجه ابن ماجه (2 / 234 ط
الحلبي) من حديث أن سلمة. وقال البوصيري: " هذا حديث رجاله ثقات، وهو
منقطع، وحبيب بن أبي ثابت لم يسمع من أم سلمة، قاله أبو زرعة.
(2) المغني 1 / 86 ط الرياض، وكشاف القناع 1 / 76، والإنصاف 1 / 122 ط دار
إحياء التراث العربي، وكفاية الطالب الرباني 2 / 409 نشر دار المعرفة،
وروضة الطالبين 3 / 234 نشر المكتب الإسلامي، وحاشبة ابن عابدين 5 / 261،
وفتح الباري 10 / 243، 244 ط السلفية، وصحيح مسلم بشرح النووي 3 / 148 ط
المطبعة المصرية، ونيل الأوطار 1 / 160 ط دار الجيل.
(3) حديث: " عشر من الفطرة. . . . " أخرجه مسلم (1 / 223 ط الحلبي من حديث
عائشة) .
(14/83)
قَال أَبُو شَامَةَ: يَقُومُ التَّنَوُّرُ
مَكَانَ الْحَلْقِ وَكَذَلِكَ النَّتْفُ وَالْقَصُّ (1) .
أَمَّا الْمَرْأَةُ فَالأَْوْلَى فِي حَقِّهَا النَّتْفُ. وَبِهَذَا قَال
الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ.
وَيَرَى جُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ تَرْجِيحَ الْحَلْقِ فِي حَقِّ
الْمَرْأَةِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ بَأْسَ بِالإِْزَالَةِ بِأَيِّ شَيْءٍ
وَالْحَلْقُ أَفْضَل.
أَمَّا إزَالَةُ شَعْرِ الإِْبْطَيْنِ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى
أَوْلَوِيَّةِ النَّتْفِ فِيهِ لِمُوَافَقَتِهِ الْخَبَرَ، فَغَيْرُهُ مِنَ
الْحَلْقِ وَالتَّنَوُّرِ خِلاَفُ الأَْوْلَى (2) .
وَتُنْظَرُ التَّفَاصِيل تَحْتَ عِنْوَانِ: (اسْتِحْدَادٌ) .
__________
(1) المغني 1 / 86، ورضة الطالبين 3 / 234، وحاشية الجمل 2 / 48، وكفاية
الطالب الرباني 2 / 409، وابن عابدين 5 / 261، والاختيار 4 / 167، وفتح
الباري 10 / 343 ط السلفية.
(2) ابن عابدين 5 / 261، والاختيار 4 / 167، نشر دار المعرفة، وحاشية الجمل
على شرح المنهج 2 / 48، وأسنى المطالب 1 / 550، وروضة الطالبين 3 / 234،
وفتح الباري 10 / 344 ط السلفية، وكفاية الطالب الرباني 2 / 409 نشر دار
المعرفة، والمغني 1 / 86 - 87.
(14/84)
تَهَاتُرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّهَاتُرُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْهِتْرِ بِالْكَسْرِ وَهُوَ
الْكَذِبُ وَالسَّقْطُ مِنَ الْكَلاَمِ وَالْخَطَأُ فِيهِ، وَيُطْلَقُ
عَلَى الشَّهَادَاتِ الَّتِي يُكَذِّبُ بَعْضُهَا بَعْضًا يُقَال:
تَهَاتَرَتِ الْبَيِّنَتَانِ أَيْ: تَعَارَضَتَا وَتَسَاقَطَتَا.
وَتَهَاتَرَ الرَّجُلاَنِ إذَا ادَّعَى كُل وَاحِدٍ عَلَى الآْخَرِ
بَاطِلاً (1) .
وَالاِصْطِلاَحُ الشَّرْعِيُّ لاَ يَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.
تَهَاتُرُ الْبَيِّنَتَيْنِ:
2 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَتِ
الْبَيِّنَتَانِ وَلَمْ يُمْكِنِ الْعَمَل بِهِمَا مَعًا، وَلَمْ يُوجَدْ
مَا يُرَجِّحُ إحْدَاهُمَا عَلَى الأُْخْرَى، فَإِنَّهُمَا تَتَهَاتَرَانِ
كَالْخَبَرَيْنِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الصُّوَرِ الَّتِي يُمْكِنُ
الْعَمَل بِهِمَا مَعًا،
وَفِي الصُّوَرِ الَّتِي لاَ يُمْكِنُ الْعَمَل بِهِمَا فَتَتَهَاتَرُ
الْبَيِّنَتَانِ فِيهَا.
__________
(1) تاج العروس، والمصباح المنير مادة: " هتر " وفتح القدير 6 / 217 ط صادر
للطباعة بيروت.
(14/84)
فَإِذَا ادَّعَى - مَثَلاً - اثْنَانِ
عَيْنًا فِي يَدِ ثَالِثٍ وَأَقَامَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَيِّنَةً، وَلاَ
مُرَجِّحَ لإِِحْدَاهُمَا عَلَى الأُْخْرَى، فَإِنَّهُمَا تَتَهَاتَرَانِ
فِي أَصَحِّ الأَْقْوَال عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَإِحْدَى رِوَايَتَيْنِ لِلْحَنَابِلَةِ وَقَالُوا:
لأَِنَّ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ كَاذِبَةٌ بِيَقِينٍ لاِسْتِحَالَةِ
الْمِلْكَيْنِ فِي الْكُل، وَلأَِنَّهُمَا حُجَّتَانِ تَعَارَضَتَا مِنْ
غَيْرِ تَرْجِيحٍ لإِِحْدَاهُمَا عَلَى الأُْخْرَى فَتَسَاقَطَتَا
كَالْخَبَرَيْنِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُعْمَل بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَيُقْسَمُ
بَيْنَهُمَا بِالتَّسَاوِي، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ
الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَاقَةٍ وَأَقَامَ كُلٌّ
مِنْهُمَا بَيِّنَةً، فَقَضَى بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ (2) ، قَالُوا:
وَلأَِنَّ الْمُطْلِقَ لِلشَّهَادَةِ فِي مَا مَعَهُ كُلٌّ مِنْهُمَا
مُحْتَمِلٌ الْوُجُودَ، بِأَنْ تَعْتَمِدَ إحْدَاهُمَا سَبَبَ الْمِلْكِ
وَالأُْخْرَى الْيَدَ فَصَحَّتِ الشَّهَادَتَانِ، فَيَجِبُ الْعَمَل
بِهِمَا مَا أَمْكَنَ، وَقَدْ أَمْكَنَ بِالتَّنْصِيفِ، لاِسْتِوَائِهِمَا
فِي سَبَبِ الاِسْتِحْقَاقِ، وَهُوَ الشَّهَادَةُ.
وَمَدَارُ الْعَمَل بِالشَّهَادَتَيْنِ صِحَّتُهُمَا لاَ صِدْقُهُمَا
فَإِنَّهُ مِمَّا لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْعِبَادُ.
__________
(1) القليوبي وعميرة 4 / 743، والمغني 9 / 287، وفتح القدير 6 / 217.
(2) حديث: " أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناقة. .
. . " أخرجه أبو داود (4 / 37، 38 - تحقيق عزت عبيد دعاس) . والببيهقي (10
/ 254، 38 - ط دائرة المعارف العثمانية) وأعله البيهقي بالإرسال.
(14/85)
أَمَّا بَاقِي حَالاَتِ التَّهَاتُرِ،
وَمَا يُعْتَبَرُ مُرَجِّحًا لإِِحْدَى الشَّهَادَتَيْنِ وَآرَاءِ
الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ فَيُرْجَعُ فِي تَفْصِيلِهِ إلَى مُصْطَلَحِ:
(تَعَارُضٌ) .
تَهَايُؤٌ
اُنْظُرْ: مُهَايَأَةٌ.
(14/85)
تَهَجُّدٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّهَجُّدُ فِي اللُّغَةِ: مِنَ الْهُجُودِ وَيُطْلَقُ عَلَى
النَّوْمِ وَالسَّهَرِ. يُقَال هَجَدَ: نَامَ بِاللَّيْل فَهُوَ هَاجِدٌ
وَالْجَمْعُ هُجُودٌ مِثْل: رَاقِدٍ وَرُقُودٌ وَقَاعِدٌ وَقُعُودٌ.
وَهَجَدَ. صَلَّى بِاللَّيْل، وَيُقَال: تَهَجَّدَ: إذَا نَامَ.
وَتَهَجَّدَ: إذَا صَلَّى فَهُوَ مِنَ الأَْضْدَادِ (1) .
وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ: قَال الأَْزْهَرِيُّ: الْمَعْرُوفُ فِي كَلاَمِ
الْعَرَبِ أَنَّ الْهَاجِدَ هُوَ النَّائِمُ. هَجَدَ هُجُودًا إذَا نَامَ.
وَأَمَّا الْمُتَهَجِّدُ فَهُوَ الْقَائِمُ إلَى الصَّلاَةِ مِنَ
النَّوْمِ. وَكَأَنَّهُ قِيل لَهُ مُتَهَجِّدٌ لإِِلْقَائِهِ الْهُجُودَ
عَنْ نَفْسِهِ (2) .
وَقَدْ فَسَّرَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَابْنُ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَمُجَاهِدٌ {نَاشِئَةَ اللَّيْل (3) }
بِالْقِيَامِ لِلصَّلاَةِ بَعْدَ النَّوْمِ، فَيَكُونُ مُوَافِقًا
لِلتَّهَجُّدِ (4) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ صَلاَةُ التَّطَوُّعِ فِي اللَّيْل
__________
(1) المصباح المنير مادة: " هجد ".
(2) لسان العرب مادة: " هجد ".
(3) سورة المزمل / 6.
(4) تفسير القرطبي 19 / 39.
(14/86)
بَعْدَ النَّوْمِ (1) ، وَقَال أَبُو
بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: فِي مَعْنَى التَّهَجُّدِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ
(الأَْوَّل) أَنَّهُ النَّوْمُ ثُمَّ الصَّلاَةُ ثُمَّ النَّوْمُ ثُمَّ
الصَّلاَةُ، (الثَّانِي) أَنَّهُ الصَّلاَةُ بَعْدَ النَّوْمِ،
(وَالثَّالِثُ) أَنَّهُ بَعْدَ صَلاَةِ الْعِشَاءِ. ثُمَّ قَال عَنِ
الأَْوَّل: إنَّهُ مِنْ فَهْمِ التَّابِعِينَ الَّذِينَ عَوَّلُوا عَلَى
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنَامُ
وَيُصَلِّي، وَيَنَامُ وَيُصَلِّي (2) . وَالأَْرْجَحُ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ الرَّأْيُ الثَّانِي (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - قِيَامُ اللَّيْل:
2 - الأَْصْل فِي قِيَامِ اللَّيْل أَنْ يُطْلَقَ عَلَى الاِشْتِغَال فِيهِ
بِالصَّلاَةِ دُونَ غَيْرِهَا. وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الاِشْتِغَال
بِمُطْلَقِ الطَّاعَةِ مِنْ تِلاَوَةٍ وَتَسْبِيحٍ وَنَحْوِهِمَا.
وَقِيَامُ اللَّيْل قَدْ يَسْبِقُهُ نَوْمٌ بَعْدَ صَلاَةِ الْعِشَاءِ
وَقَدْ لاَ يَسْبِقُهُ أَمَّا التَّهَجُّدُ فَلاَ يَكُونُ إلاَّ بَعْدَ
نَوْمٍ
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 3 / 245، والدسوقي 2 / 211، ونهاية المحتاج 2 /
127، ومطالب أولي النهى 1 / 567.
(2) حديث: " كان ينام ويصلي وينام ويصلي " أخرجه مسلم (1 / 526 - 527 - ط
الحلبي) من حديث عبد الله بن عباس.
(3) الإقناع للشربيني الخطيب 1 / 106 دار المعرفة، الجامع لأحكام القرآن
للقرطبي 10 / 308، وأحكام القرآن لابن العربي 3 / 1211، والدسوقي 2 / 211،
وجواهر الإكليل 1 / 272.
(14/86)
ب - إحْيَاءُ اللَّيْل:
3 - الْمُرَادُ بِإِحْيَاءِ اللَّيْل قَضَاؤُهُ أَوْ أَكْثَرَهُ
بِالْعِبَادَةِ كَالصَّلاَةِ، وَالذِّكْرِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ،
وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ،
فَالإِْحْيَاءُ أَخَصُّ لِشُمُولِهِ اللَّيْل كُلَّهُ أَوْ أَكْثَرَهُ،
وَالتَّهَجُّدُ أَخَصُّ لِكَوْنِهِ بِالصَّلاَةِ دُونَ غَيْرِهَا.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (إحْيَاءُ اللَّيْل) .
حُكْمُهُ:
4 - التَّهَجُّدُ مَسْنُونٌ فِي حَقِّ الأُْمَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَمِنَ اللَّيْل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَك (1) } .
أَيْ فَرِيضَةً زَائِدَةً عَلَى الْفَرِيضَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِمُوَاظَبَتِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى التَّهَجُّدِ؛ وَلِمَا وَرَدَ فِي شَأْنِهِ مِنَ
الأَْحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى سُنِّيَّتِهِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَيْكُمْ بِصَلاَةِ اللَّيْل، فَإِنَّهُ
دَأْبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَقُرْبَةٌ إلَى رَبِّكُمْ،
وَمُكَفِّرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَنْهَاةٌ عَنِ الإِْثْمِ (2) .
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَفْضَل الصَّلاَةِ بَعْدَ
الْفَرِيضَةِ صَلاَةُ اللَّيْل (3) وَالْمُرَادُ بِهَا التَّهَجُّدُ.
__________
(1) سورة الإسراء / 79.
(2) حديث: " عليكم بصلاة الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى ربكم،
ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم ". أخرجه الحاكم (1 / 308 - ط دائرة
المعارف العثمانية) من حديث أبي أمامة الباهلي وصححه ووافقه الذهبي.
(3) حديث: " أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل " أخرجه مسلم (2 / 821 - ط
الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(14/87)
وَأَمَّا فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِهِ
أَوْ نَفْلِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ (1) : يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ:
(اخْتِصَاصٌ) .
وَقْتُهُ:
5 - أَفْضَل أَوْقَاتِ التَّهَجُّدِ جَوْفُ اللَّيْل الآْخَرِ لِمَا رَوَى
عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ قَال: قُلْت: يَا رَسُول اللَّهِ: أَيُّ اللَّيْل
أَسْمَعُ؟ قَال: جَوْفُ اللَّيْل الآْخَرِ فَصَل مَا شِئْت (2)
فَلَوْ جَعَل اللَّيْل نِصْفَيْنِ أَحَدَهُمَا لِلنَّوْمِ وَالآْخَرَ
لِلْقِيَامِ فَالأَْخِيرُ أَفْضَل؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال: يَنْزِل رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُل لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ
الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْل الأَْخِيرِ فَيَقُول: مَنْ
يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ
يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ (3) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
__________
(1) مراقي الفلاح وحاشية الطحطاوي عليه 216 - 217، والإقناع للشربيني
الخطيب 1 / 106، ودار المعرفة، نهاية المحتاج للرملي 2 / 127، والفواكه
الدواني 1 / 234، والمغني لابن قدامة 2 / 135 م الرياض الحديثة، مطالب أولي
النهى 1 / 568، والموسوعة ج2 ص257.
(2) حديث: " أي الليل أسمع قال: جوف الليل الآخر، فصل ما شئت ". أخرجه أبو
داود (2 / 56 - 57 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (5 / 570 - ط الحلبي)
من حديث أبي أمامة وقال: حديث حسن صحيح.
(3) حديث: " ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا. . . . . "
أخرجه البخاري (الفتح 3 / 29 ط السلفية) ومسلم (1 / 521 - ط الحلبي) .
(14/87)
قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ:
لَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ أَثْلاَثًا فَيَقُومَ ثُلُثَهُ وَيَنَامَ
ثُلُثَيْهِ، فَالثُّلُثُ الأَْوْسَطُ أَفْضَل مِنْ طَرَفَيْهِ، لأَِنَّ
الْغَفْلَةَ فِيهِ أَتَمُّ، وَالْعِبَادَةُ فِيهِ أَفْضَل وَالْمُصَلِّينَ
فِيهِ أَقَل؛ وَلِهَذَا قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ذَاكِرُ اللَّهِ فِي الْغَافِلِينَ مِثْل الشَّجَرَةِ الْخَضْرَاءِ فِي
وَسَطِ الشَّجَرِ (1) وَالأَْفْضَل مُطْلَقًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ السُّدُسُ الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ
مِنَ اللَّيْل؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
أَحَبُّ الصَّلاَةِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَل صَلاَةُ دَاوُد عَلَيْهِ
السَّلَامُ كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْل وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ
سُدُسَهُ (2) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَأَفْضَلُهُ عِنْدَهُمْ ثُلُثُهُ الأَْخِيرُ
لِمَنْ تَكُونُ عَادَتُهُ الاِنْتِبَاهَ آخِرَ اللَّيْل، أَمَّا مَنْ كَانَ
غَالِبُ حَالِهِ أَنْ لاَ يَنْتَبِهَ آخِرَهُ بِأَنْ كَانَ غَالِبُ
أَحْوَالِهِ النَّوْمَ إلَى الصُّبْحِ، فَالأَْفْضَل أَنْ يَجْعَلَهُ
أَوَّل اللَّيْل احْتِيَاطًا (3) .
__________
(1) حديث: " ذاكر الله في الغافلين مثل الشجرة الخضراء في وسط الشجر "
أخرجه أبو نعيم (6 / 181 - ط السعادة) من حديث عبد الله بن عمر وضعفه
العراقي في تخريج أحاديث إحياء علوم الدين (1 / 302 - ط الحلبي) .
(2) ابن عابدين 1 / 460، وروضة الطالبين 1 / 338، ونهاية المحتاج للرملي 2
/ 126، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 91، والمغني لابن قدامة 2 / 136
م الرياض الحديثة. وحديث: " أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام. .
. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 16 - ط السلفية) .
(3) الفواكه الدواني 1 / 234 من دار المعرفة.
(14/88)
عَدَدُ رَكَعَاتِهِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَقَلَّهَا رَكْعَتَانِ
خَفِيفَتَانِ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ
مِنَ اللَّيْل فَلْيَفْتَتِحْ صَلاَتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ (1)
.
وَاخْتَلَفُوا فِي أَكْثَرِهَا فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: مُنْتَهَى
رَكَعَاتِهِ ثَمَانِي رَكَعَاتٍ (2) قَال ابْنُ الْهُمَامِ: الظَّاهِرُ
أَنَّ أَقَلّ تَهَجُّدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
رَكْعَتَيْنِ، وَأَنَّ مُنْتَهَاهُ كَانَ ثَمَانِي رَكَعَاتٍ وَسَتَأْتِي
الرِّوَايَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: أَكْثَرُهُ عَشْرُ رَكَعَاتٍ أَوِ اثْنَتَا
عَشْرَةَ رَكْعَةً (3) فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْل إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً
يُوتِرُ مِنْهَا بِوَاحِدَةٍ (4) وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِيهِ
اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً ثُمَّ يُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ (5) . يُنْظَرُ فِي
مُصْطَلَحِ: (اخْتِصَاصٌ) .
__________
(1) حديث: " إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين " أخرجه
مسلم (1 / 532 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) ابن عابدين 1 / 460، والفتاوى الهندية 1 / 112 المكتبة الإسلامية وفتح
القدير 1 / 390 دار إحياء التراث العربي.
(3) الفواكه الدواني 1 / 234 دار المعرفة.
(4) حديث: " كان يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة " أخرجه مسلم
(1 / 508 - ط الحلبي) من حديث عائشة.
(5) حديث: " كان يصلي فيه اثنتي عشرة ركعة ثم يوتر بواحدة " أخرجه مسلم (1
/ 531 - 532 ط الحلبي) من حديث زيد بن خالد.
(14/88)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ حَصْرَ
لِعَدَدِ رَكَعَاتِهِ وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ فُقَهَاءِ
الْحَنَابِلَةِ (1) . لِخَبَرِ: الصَّلاَةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ مَنْ شَاءَ
أَقَلّ وَمَنْ شَاءَ أَكْثَر (2) .
رَكَعَاتُ تَهَجُّدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
7 - قَال ابْنُ قُدَامَةَ: اُخْتُلِفَ فِي عَدَدِ رَكَعَاتِ تَهَجُّدِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُوِيَ أَنَّهُ ثَلاَثَ عَشْرَةَ
رَكْعَةً لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْل ثَلاَثَ عَشْرَةَ
رَكْعَةً (3) . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَقَالَتْ عَائِشَةُ: مَا كَانَ
يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلاَ غَيْرِهِ عَلَى إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً
يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلاَ تَسْأَل عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ
يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلاَ تَسْأَل عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ
يُصَلِّي ثَلاَثًا. وَفِي لَفْظٍ قَالَتْ: كَانَتْ صَلاَتُهُ فِي شَهْرِ
رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ بِاللَّيْل ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً مِنْهَا
رَكْعَتَا الْفَجْرِ وَفِي لَفْظٍ: مِنْهَا الْوِتْرُ وَرَكْعَتَا
الْفَجْرِ. وَفِي لَفْظٍ كَانَ يُصَلِّي ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً
بِرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ. وَفِي لَفْظٍ كَانَ يُصَلِّي فِيمَا بَيْنَ
الْعِشَاءِ إلَى الْفَجْرِ إحْدَى
__________
(1) نهاية المحتاج للرملي 2 / 124 - 128، وكشاف القناع 1 / 438 - 439،
والمغني 2 / 138 - 141.
(2) حديث: " الصلاة خير موضوع من شاء أقل ومن شاء أكثر " أخرجه أحمد (5 /
178 ط الميمنية) من حديث ذر، وأورده الهيثمي في المجمع (1 / 160 - ط
القدسي) وقال: " فيه المسعودي وهو ثقة ولكنه اختلط ".
(3) " كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة " أخرجه مسلم (1 / 531 - ط الحلبي)
من حديث ابن عباس.
(14/89)
عَشْرَةَ رَكْعَةً يُسَلِّمُ مِنْ كُل
رَكْعَتَيْنِ وَيُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ (1) .
تَرْكُ التَّهَجُّدِ لِمُعْتَادِهِ:
8 - يُكْرَهُ لِمَنِ اعْتَادَ التَّهَجُّدَ أَنْ يَتْرُكَهُ بِلاَ عُذْرٍ
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاِبْنِ عَمْرٍو يَا عَبْدَ
اللَّهِ لاَ تَكُنْ مِثْل فُلاَنٍ كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْل فَتَرَكَ
قِيَامَ اللَّيْل (2) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ الأَْعْمَال إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ
قَل (3) وَقَوْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى صَلاَةً دَاوَمَ عَلَيْهَا
(4) هَذَا وَتَفْصِيل ذَلِكَ كُلِّهِ وَمَا عَدَاهُ مِمَّا هُوَ مُتَّصِلٌ
بِهِ مِنْ صِفَةِ صَلاَتِهِ وَمَا يَقُولُهُ الْمُتَهَجِّدُ إِذَا قَامَ
مِنَ اللَّيْل يَتَهَجَّدُ وَمَا يَقْرَأُ فِي تَهَجُّدِهِ، وَإِسْرَارِهِ
بِالْقِرَاءَةِ وَجَهْرِهِ بِهَا، وَهَل تَهَجُّدُهُ فِي الْبَيْتِ أَفْضَل
مِنْهُ فِي الْمَسْجِدِ أَوِ الْعَكْسُ، وَإِيقَاظِهِ مَنْ يُطْمَعُ فِي
تَهَجُّدِهِ إذَا لَمْ يَخَفْ ضَرَرًا، وَهَل إطَالَةُ الْقِيَامِ
__________
(1) حديث: " ما كان يزيد في رمضان ولا غيره عن إحدى عشرة ركعة " أخرجه
البخاري (الفتح 3 / 33 - ط السلفية) .
(2) حديث: " يا عبد الله لا تكن مثل فلان، كان يقوم من الليل فترك قيام
الليل ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 37 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن
عمرو.
(3) حديث: " أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل " أخرجه مسلم (1 / 541 - ط
الحلبي) من حديث عائشة.
(4) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى داوم عليها " أخرجه
البخاري (الفتح 4 / 213 - ط السلفية) من حديث عائشة.
(14/89)
أَفْضَل مِنْ تَكْثِيرِ الرَّكَعَاتِ أَوِ
الْعَكْسُ (1) ،
تَفْصِيل ذَلِكَ كُلِّهِ يُرْجَعُ إلَيْهِ فِي بَحْثَيْ: (قِيَامِ
اللَّيْل، وَإِحْيَاءِ اللَّيْل) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 460، الإقناع للشربين الخطيب 1 / 107 دار المعرفة،
نهاية المحتاج للرملي 2 / 128، ومطالب أولي النهى1 / 570، والمغني لابن
قدامة 2 / 104 - ط مكتبة القاهرة.
(14/90)
تُهْمَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التُّهْمَةُ بِسُكُونِ الْهَاءِ وَفَتْحِهَا الشَّكُّ وَالرِّيبَةُ
وَأَصْل التَّاءِ فِيهَا الْوَاوُ وَلأَِنَّهَا مِنَ الْوَهْمِ.
يُقَال اُتُّهِمَ الرَّجُل أَيْ: أَتَى بِمَا يُتَّهَمُ عَلَيْهِ.
وَأَتْهَمْتُهُ ظَنَنْتُ بِهِ سُوءًا، وَاتَّهَمْتُهُ بِالتَّثْقِيل
مِثْلُهُ (1)
وَلاَ يَخْرُجُ اصْطِلاَحُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
تَقْسِيمُ التُّهْمَةِ:
2 - قَسَّمَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ التُّهَمَ مِنْ حَيْثُ
الْقُوَّةُ وَالضَّعْفُ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ فَقَال: التُّهَمُ
ثَلاَثَةُ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا تُهْمَةٌ قَوِيَّةٌ كَحُكْمِ الْحَاكِمِ
لِنَفْسِهِ، وَشَهَادَةِ الشَّاهِدِ لِنَفْسِهِ، فَهَذِهِ تُهْمَةٌ
مُوجِبَةٌ لِرَدِّ الْحُكْمِ وَالشَّهَادَةِ، لأَِنَّ قُوَّةَ الدَّاعِي
الطَّبْعِيِّ قَادِحَةٌ فِي الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْوَازِعِ
الشَّرْعِيِّ قَدْحًا ظَاهِرًا لاَ يَبْقَى مَعَهُ إِلاَّ ظَنٌّ
__________
(1) المصباح المنير مادة: " تهم " ولسان العرب والوسيط في اللغة، مادة: "
وهم ".
(14/90)
ضَعِيفٌ لاَ يَصْلُحُ لِلاِعْتِمَادِ
عَلَيْهِ، وَلاَ لاِسْتِنَادِ الْحُكْمِ إلَيْهِ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: تُهْمَةٌ ضَعِيفَةٌ كَشَهَادَةِ الأَْخِ لأَِخِيهِ،
وَالصَّدِيقِ لِصَدِيقِهِ، وَالرَّفِيقِ لِرَفِيقِهِ، فَلاَ أَثَرَ
لِهَذِهِ التُّهْمَةِ، وَقَدْ خَالَفَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي
الصَّدِيقِ الْمُلاَطِفِ، وَلاَ تَصْلُحُ تُهْمَةُ الصَّدَاقَةِ لِلْقَدْحِ
فِي الْوَازِعِ الشَّرْعِيِّ، وَقَدْ وَقَعَ الاِتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ
الشَّهَادَةَ لاَ تُرَدُّ بِكُل تُهْمَةٍ.
الضَّرْبُ الثَّالِثُ: تُهْمَةٌ مُخْتَلَفٌ فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ
وَالْحُكْمِ بِهَا وَلَهَا رُتَبٌ:
أَحَدُهَا: تُهْمَةٌ قَوِيَّةٌ وَهِيَ تُهْمَةُ شَهَادَةِ الْوَالِدِ
لأَِوْلاَدِهِ وَأَحْفَادِهِ، أَوْ لآِبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ، فَالأَْصَحُّ
أَنَّهَا مُوجِبَةٌ لِلرَّدِّ لِقُوَّةِ التُّهْمَةِ، وَعَنْ أَحْمَدَ
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى رِوَايَاتٌ: ثَالِثُهَا: رَدُّ شَهَادَةِ
الأَْبِ وَقَبُول شَهَادَةِ الاِبْنِ؛ لِقُوَّةِ تُهْمَةِ الأَْبِ لِفَرْطِ
شَفَقَتِهِ وَحُنُوِّهِ عَلَى الْوَلَدِ.
الرُّتْبَةُ الثَّانِيَةُ: تُهْمَةُ شَهَادَةِ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ
وَهِيَ مُوجِبَةٌ لِلرَّدِّ لِقُوَّةِ التُّهْمَةِ وَخَالَفَ فِيهَا بَعْضُ
الْعُلَمَاءِ.
الرُّتْبَةُ الثَّالِثَةُ: تُهْمَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ إِذَا شَهِدَ
لِلآْخَرِ وَفِيهَا أَقْوَالٌ: ثَالِثُهَا رَدُّ شَهَادَةِ الزَّوْجَةِ
دُونَ الزَّوْجِ لأَِنَّ تُهْمَتَهَا أَقْوَى مِنْ تُهْمَةِ الزَّوْجِ؛
لأَِنَّ مَا ثَبَتَ لَهُ مِنَ الْحَقِّ مُتَعَلِّقٌ لِكِسْوَتِهَا
وَنَفَقَتِهَا وَسَائِرِ حُقُوقِهَا.
الرُّتْبَةُ الرَّابِعَةُ: تُهْمَةُ الْقَاضِي إِذَا حَكَمَ
(14/91)
بِعِلْمِهِ، وَالأَْصَحُّ أَنَّهَا لاَ
تُوجِبُ الرَّدَّ إِذَا كَانَ الْحَاكِمُ ظَاهِرَ التَّقْوَى وَالْوَرَعِ.
الرُّتْبَةُ الْخَامِسَةُ: تُهْمَةُ الْحَاكِمِ فِي إِقْرَارِهِ
بِالْحُكْمِ، وَهِيَ مُوجِبَةٌ لِلرَّدِّ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
غَيْرُ مُوجِبَةٍ لَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، لأَِنَّ
مَنْ مَلَكَ الإِْنْشَاءَ مَلَكَ الإِْقْرَارَ، وَالْحَاكِمُ مَالِكٌ
لإِِنْشَاءِ الْحُكْمِ فَمَلَكَ الإِْقْرَارَ بِهِ. وَقَوْل مَالِكٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ مُتَّجَهٌ إِذَا مَنَعْنَا الْحُكْمَ بِالْعِلْمِ.
الرُّتْبَةُ السَّادِسَةُ: تُهْمَةُ حُكْمِ الْحَاكِمِ مَانِعَةٌ مِنْ
نُفُوذِ حُكْمِهِ لأَِوْلاَدِهِ وَأَحْفَادِهِ وَعَلَى أَعْدَائِهِ
وَأَضْدَادِهِ. قَال: وَإِنَّمَا رُدَّتِ الشَّهَادَةُ بِالتُّهَمِ مِنْ
جِهَةِ أَنَّهَا مُضْعِفَةٌ لِلظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الشَّهَادَةِ،
وَمُوجِبَةٌ لاِنْحِطَاطِهِ عَنِ الظَّنِّ الَّذِي لاَ يُعَارِضُهُ
تُهْمَةٌ، وَبِأَنَّ دَاعِيَ الطَّبْعِ أَقْوَى مِنْ دَاعِي الشَّرْعِ،
وَيَدُل عَلَى ذَلِكَ رَدُّ شَهَادَةِ أَعْدَل النَّاسِ لِنَفْسِهِ،
وَرَدُّ حُكْمِ أَقْسَطِ النَّاسِ لِنَفْسِهِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
اللَّوْثُ:
3 - يُطْلَقُ اللَّوْثُ عَلَى الْبَيِّنَةِ الضَّعِيفَةِ غَيْرِ
الْكَامِلَةِ، وَعَلَى الْجِرَاحَاتِ وَالْمُطَالَبَاتِ بِالأَْحْقَادِ
لِشِبْهِ الدَّلاَلَةِ، وَلاَ تَكُونُ بَيِّنَةً تَامَّةً (2)
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: هُوَ قَرِينَةٌ تُثِيرُ الظَّنَّ،
وَتُوقِعُ فِي الْقَلْبِ صِدْقَ الْمُدَّعِي (3) .
__________
(1) القواعد للعز بن عبد السلام ص29 - 30.
(2) المصباح ومتن اللغة مادة: " لوث "، والروضة للنووي 10 / 10.
(3) روضة الطالبين 10 / 10، وأسنى المطالب 4 / 98.
(14/91)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - تَحْرُمُ التُّهْمَةُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا أَمَارَةٌ صَحِيحَةٌ،
أَوْ سَبَبٌ ظَاهِرٌ كَاتِّهَامِ مَنْ ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ وَسُوءِ الظَّنِّ بِهِمْ. أَمَّا مَنِ اُشْتُهِرَ بَيْنَ
النَّاسِ بِتَعَاطِي الرِّيَبِ وَالْمُجَاهَرَةِ بِالْخَبَائِثِ، فَلاَ
يَحْرُمُ اتِّهَامُهُ فِي الْجُمْلَةِ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ
بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ (1) } .
وَفِي الآْيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ جَمِيعَ الظَّنِّ (2)
.
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْحُدُودَ لاَ تُقَامُ
بِالتُّهْمَةِ وَالظَّنِّ، وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ
التُّهْمَةَ لَهَا بَعْضُ الآْثَارِ فِي الْمُتَّهَمِ.
التُّهْمَةُ فِي الشَّهَادَةِ:
5 - أَصْل رَدِّ الشَّهَادَةِ، وَمَبْنَاهُ التُّهْمَةُ: وَالشَّهَادَةُ
خَبَرٌ يَحْتَمِل الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَحُجَّتُهُ بِتَرَجُّحِ جَانِبِ
الصِّدْقِ فِيهِ، فَإِذَا شَابَتِ الْحُجَّةَ شَائِبَةُ التُّهْمَةِ
ضَعُفَتْ، وَلَمْ تَصْلُحْ لِلتَّرْجِيحِ (3) .
وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ مُتَّهَمٍ (4) .
__________
(1) سورة الحجرات / 11.
(2) أحكام القرآن للهراسي 4 / 415.
(3) فتح القدير 6 / 473 ط إحياء التراث - بيروت.
(4) حديث: " لا تجوز شهادة متهم " أخرجه ابن عدي في الكامل (4 / 1448 ط دار
الفكر) وهو ضعيف في سنده عبد الله بن محمد بن عقيل، انظر تهذيب التهذيب (6
/ 13 ط دار صادر) .
(14/92)
أَسْبَابُ تُهْمَةِ الشَّاهِدِ
6 - مِنْ أَسْبَابِ تُهْمَةِ الشَّاهِدِ:
مَا يَرْجِعُ لِمَعْنًى فِي نَفْسِ الشَّاهِدِ كَالْفِسْقِ إِذَا ثَبَتَ؛
لأَِنَّ مَنْ لاَ يَنْزَجِرُ عَنْ غَيْرِ الْكَذِبِ مِنْ مَحْظُورَاتِ
دِينِهِ فَلاَ يُؤْمَنُ أَلاَّ يَنْزَجِرَ عَنِ الْكَذِبِ فِي
الشَّهَادَةِ، فَلاَ تَحْصُل بِشَهَادَتِهِ غَلَبَةُ الظَّنِّ فَتُرَدُّ
شَهَادَتُهُ (1) . وَلِلتَّفْصِيل يُرْجَعُ إلَى (فِسْقٌ) .
وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إلَى مَعْنًى فِي الْمَشْهُودِ لَهُ: كَالإِْيثَارِ
لِلْقَرَابَةِ.
وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إلَى خَلَلٍ فِي التَّمْيِيزِ وَإِدْرَاكِ
الأُْمُورِ عَلَى حَقِيقَتِهَا: كَالْغَفْلَةِ وَالْعَمَى، وَالصِّبَا
وَنَحْوِ ذَلِكَ (2) .
هَذَا وَلَمْ نَقِفْ عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي رَدِّ
شَهَادَةِ الْفَاسِقِ بِتُهْمَةِ الْكَذِبِ.
7 - وَلَمْ يَخْتَلِفْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي رَدِّ شَهَادَةِ كُل
مَنْ لَهُ مَصْلَحَةٌ فِي مَوْضُوعِ الشَّهَادَةِ بِتُهْمَةِ جَرِّ
النَّفْعِ لِنَفْسِهِ أَوْ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا، كَالشَّرِيكِ فِيمَا
هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ، وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ عَلَى عَمَلٍ قَامَ بِهِ هُوَ
كَمَا تُرَدُّ شَهَادَةُ الْعَاقِلَةِ بِفِسْقِ شُهُودِ قَتْلٍ خَطَأٍ أَوْ
شِبْهِ عَمْدٍ يَتَحَمَّلُونَهُ، وَشَهَادَةُ الْغُرَمَاءِ بِفِسْقِ
شُهُودِ دَيْنٍ آخَرَ وَذَلِكَ بِتُهْمَةِ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ النَّفْسِ
(3) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (شَهَادَةٌ) .
__________
(1) المغني 9 / 165، وروضة الطالبين 11 / 222، وفتح القدير 6 / 473.
(2) فتح القدير 6 / 473 - ط إحياء التراث - بيروت.
(3) فتح القدير 6 / 480، وروضة الطالبين 10 / 34، 11 / 234.
(14/92)
رَدُّ الشَّهَادَةِ بِتُهْمَةِ الإِْيثَارِ
وَالْمَحَبَّةِ:
8 - مِمَّا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَأْثِيرِهِ مِنْ حَيْثُ
الْجُمْلَةُ فِي إِسْقَاطِ الشَّهَادَةِ: تُهْمَةُ الْمَحَبَّةِ
وَالإِْيثَارِ، فَتُرَدُّ شَهَادَةُ الأَْصْل لِفَرْعِهِ وَإِنْ سَفَل،
وَشَهَادَةِ الْفَرْعِ لِلأَْصْل عَلَى خِلاَفٍ فِي ذَلِكَ وَإِنْ عَلاَ
الأَْصْل لِتُهْمَةِ إِيثَارِ الْمَشْهُودِ لَهُ عَلَى الْمَشْهُودِ
عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْمَنَافِعَ بَيْنَ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ
مُتَّصِلَةٌ؛ وَلِهَذَا مَنَعُوا أَدَاءَ زَكَاةِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ،
فَتَكُونُ شَهَادَةً لِلنَّفْسِ وَتَتَمَكَّنُ فِيهِ التُّهْمَةُ (1) .
وَلِحَدِيثِ: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ ظَنِينٍ فِي وَلاَءٍ وَلاَ قَرَابَةٍ
(2) .
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ تَأْثِيرِ تُهْمَةِ الإِْيثَارِ عَلَى
شَهَادَةِ الأَْخِ لأَِخِيهِ، بِتَفْصِيلٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي
مُصْطَلَحِ: شَهَادَةٌ. (3)
وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْثِيرِ تُهْمَةِ الْمَحَبَّةِ وَالإِْيثَارِ فِي
شَهَادَةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلآْخَرِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى رَدِّ شَهَادَةِ كُلٍّ مِنَ
الزَّوْجَيْنِ
__________
(1) المغني 9 / 185، وبداية المجتهد 2 / 500، وروضة الطالبين 11 / 236،
وفتح القديؤ 6 / 477، والهداية 3 / 122.
(2) حديث: " لا تجوز شهادة ظنين في ولاء ولا قرابة " أخرجه الترمذي (4 /
545 ط. مصطفى البابي) وقال: (هذا حديث غريب لا تعرفه إلا من حديث يزيد بن
زياد الدمشقي ويزيد يضعف في الحديث) وضعفه ابن حجر في التلخيص الحبير (4 /
198 ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) المغني 9 / 185، وبداية المجتهد 2 / 500، وروضة الطالبين 11 / 236،
وفتح القدير 6 / 477، والهداية 3 / 122.
(14/93)
لِلآْخَرِ وَقَالُوا: لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا يَرِثُ الآْخَرَ مِنْ غَيْرِ حَجْبٍ وَتَتَبَسَّطُ الزَّوْجَةُ
فِي مَال الزَّوْجِ، وَتَزِيدُ نَفَقَتُهَا بِغِنَاهُ فَلَمْ تُقْبَل
شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا لِلآْخَرِ بِتُهْمَةِ جَرِّ النَّفْعِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تُقْبَل شَهَادَةُ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ
لِلآْخَرِ؛ لأَِنَّ الأَْمْلاَكَ بَيْنَهُمَا مُتَمَيِّزَةٌ وَيَجْرِي
الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا، وَلاَ اعْتِبَارَ بِمَا فِيهِ مِنَ النَّفْعِ
لِثُبُوتِهِ ضِمْنًا فَلاَ تُهْمَةَ (2) .
رَدُّ شَهَادَةِ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ:
9 - تُرَدُّ شَهَادَةُ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ لِتُهْمَةِ قَصْدِ
الإِْضْرَارِ وَالتَّشَفِّي إِذَا كَانَتِ الْعَدَاوَةُ دُنْيَوِيَّةً
عِنْدَ الأَْكْثَرِ؛ لأَِنَّ الْعَدُوَّ قَدْ يَجُرُّ لِنَفْسِهِ نَفْعًا
بِشَهَادَتِهِ، وَهُوَ التَّشَفِّي مِنَ الْعَدُوِّ فَيَصِيرُ مُتَّهَمًا
كَشَهَادَةِ الْقَرِيبِ لِقَرِيبِهِ. أَمَّا الْعَدَاوَةُ الدِّينِيَّةُ
فَلاَ تَمْنَعُ قَبُول الشَّهَادَةِ اتِّفَاقًا (3) .
رَدُّ الشَّهَادَةِ بِالْغَفْلَةِ وَالْغَلَطِ:
10 - وَمِمَّا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ: الْغَفْلَةُ وَكَثْرَةُ
الْغَلَطِ. فَتُرَدُّ شَهَادَةُ الْمُغَفَّل وَكُل مَنْ يُعْرَفُ
بِكَثْرَةِ الْغَلَطِ وَعَدَمِ الضَّبْطِ، كَمَا تُرَدُّ رِوَايَتُهُ؛
لِقِيَامِ
__________
(1) المغني 9 / 193، وفتح القدير 6 / 479، وبداية المجتهد 2 / 500.
(2) القليوبي 4 / 332، وروضة الطالبين 11 / 237.
(3) المغني 9 / 185، وبداية المجتهد 2 / 501، وابن عابدين 4 / 376.
(14/93)
احْتِمَال الْغَلَطِ، وَعَدَمِ الضَّبْطِ
فَيَكُونُ مُتَّهَمًا فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا (1) .
حُكْمُ الْقَاضِي لِمَنْ يُتَّهَمُ عَلَيْهِ:
11 - لاَ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ فِيمَا لاَ يُقْبَل فِيهِ
شَهَادَتُهُ فَلاَ يَقْضِي لِنَفْسِهِ، وَلاَ يَقْضِي لأَِحَدٍ مِنْ
أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ، وَإِنْ نَزَلُوا أَوْ عَلَوْا، وَلاَ لِشَرِيكِهِ
فِيمَا لَهُ فِيهِ شَرِكَةٌ، وَلِوَكِيلِهِ فِيمَا هُوَ مُوَكَّلٌ فِيهِ،
فَإِنْ فَعَل لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جُمْهُورُ
الْفُقَهَاءِ. وَذَلِكَ لِمَوْضِعِ التُّهْمَةِ، وَلِلتَّفْصِيل
وَاخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ:
(قَضَاءٌ) .
حِرْمَانُ الْوَارِثِ مِنَ الْمِيرَاثِ بِالتُّهْمَةِ:
12 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي حِرْمَانِ الْقَاتِل عَمْدًا
عُدْوَانًا مِنَ الْمِيرَاثِ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَوْرِيثِ الْقَاتِل
خَطَأً أَوِ الْقَاتِل بِحَقٍّ. فَذَهَبَ الْبَعْضُ إِلَى حِرْمَانِهِمَا،
وَذَلِكَ لِتُهْمَةِ اسْتِعْجَال الإِْرْثِ قَبْل أَوَانِهِ.
وَالتَّفْصِيل: فِي مُصْطَلَحِ: (إرْثٌ) .
عَدَمُ وُقُوعِ طَلاَقِ الْمُطَلِّقِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ:
13 - لاَ يَقَعُ طَلاَقُ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ عِنْدَ فَرِيقٍ مِنَ
الْفُقَهَاءِ لِتُهْمَةِ قَصْدِ إِضْرَارِ الزَّوْجَةِ بِحِرْمَانِهَا
الْمِيرَاثَ.
وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيل مُصْطَلَحَ: (طَلاَقٌ) .
__________
(1) المصادر السابقة.
(14/94)
التَّعْزِيرُ بِالتُّهْمَةِ:
14 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْحُدُودَ لاَ تُقَامُ
بِالتُّهْمَةِ.
أَمَّا التَّعْزِيرُ بِالتُّهْمَةِ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَوِ الْوَالِي تَعْزِيرَ
الْمُتَّهَمِ، إِذَا قَامَتْ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُ ارْتَكَبَ مَحْظُورًا
وَلَمْ يَكْتَمِل نِصَابُ الْحُجَّةِ. أَوِ اسْتَفَاضَ عَنْهُ أَنَّهُ
يَعِيثُ فِي الأَْرْضِ فَسَادًا. وَقَالُوا: إِنَّ الْمُتَّهَمَ بِذَلِكَ
إِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى فَلاَ يَجُوزُ تَعْزِيرُهُ
بَل يُعَزَّرُ مُتَّهِمُهُ. وَإِنْ كَانَ مَجْهُول الْحَال فَيُحْبَسُ
حَتَّى يَنْكَشِفَ أَمْرُهُ. إِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْفُجُورِ
فَيُعَزَّرُ بِالضَّرْبِ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ بِالْحَبْسِ. وَقَالُوا:
وَهُوَ الَّذِي يَسَعُ النَّاسَ، وَعَلَيْهِ الْعَمَل.
قَال ابْنُ قَيِّمٍ الْجَوْزِيَّةَ: إِذَا كَانَ الْمُتَّهَمُ مَعْرُوفًا
بِالْفُجُورِ كَالسَّرِقَةِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَالْقَتْل وَنَحْوِ
ذَلِكَ، فَإِذَا جَازَ حَبْسُ الْمَجْهُول فَحَبْسُ هَذَا أَوْلَى. قَال
شَيْخُنَا ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا مِنَ الأَْئِمَّةِ
أَيْ: أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ يَقُول: إِنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي
جَمِيعِ هَذِهِ الدَّعَاوَى يَحْلِفُ وَيُرْسَل بِلاَ حَبْسٍ وَلاَ
غَيْرِهِ فَلَيْسَ هَذَا عَلَى إِطْلاَقِهِ مَذْهَبًا لأَِحَدٍ مِنَ
الأَْئِمَّةِ الأَْرْبَعَةِ، وَلاَ غَيْرِهِمْ مِنَ الأَْئِمَّةِ، وَمَنْ
زَعَمَ أَنَّ هَذَا عَلَى إِطْلاَقِهِ وَعُمُومِهِ هُوَ الشَّرْعُ، فَقَدْ
غَلِطَ غَلَطًا فَاحِشًا مُخَالِفًا لِنُصُوصِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلإِِجْمَاعِ الأُْمَّةِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَكْفِي لِقِيَامِ التُّهْمَةِ إِنْ كَانَ مَجْهُول
الْحَال، شَهَادَةُ مَسْتُورَيْنِ أَوْ عَدْلٍ وَاحِدٍ.
(14/94)
أَمَّا إِذَا كَانَ مَشْهُورًا
بِالْفَسَادِ فَيَكْفِي فِيهِ عِلْمُ الْقَاضِي (1) .
التَّحْلِيفُ لِلتُّهْمَةِ:
15 - يَحْلِفُ الْمُودَعُ، وَالْوَكِيل، وَالْمُضَارِبُ، وَكُل مَنْ
يُصَدَّقُ قَوْلُهُ عَلَى تَلَفِ مَا اُؤْتُمِنَ عَلَيْهِ، إِذَا قَامَتْ
قَرِينَةٌ عَلَى خِيَانَتِهِ، كَخَفَاءِ سَبَبِ التَّلَفِ وَنَحْوِهِ.
وَلِلتَّفْصِيل يُرْجَعُ إِلَى الأَْبْوَابِ الْمَذْكُورَةِ.
__________
(1) ابن عابدين 3 / 188 - 195، والطرق الحكمية لابن القيم ص103 - مطبعة
الآداب والمؤيد 1317هـ، مواهب الجليل 5 / 275.
(14/95)
تَهْنِئَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّهْنِئَةُ فِي اللُّغَةِ خِلاَفُ التَّعْزِيَةِ، يُقَال: هَنَّأَهُ
بِالأَْمْرِ وَالْوِلاَيَةِ تَهْنِئَةً وَتَهْنِيئًا إِذَا قَال لَهُ:
لِيَهْنِئَك وَلِيَهْنِيكَ، أَوْ هَنِيئًا، وَيُقَال: هَنَّأَهُ تَهْنِئَةً
وَتَهْنِيًا. وَالْهَنِيءُ وَالْمَهْنَأُ: مَا أَتَاك بِلاَ مَشَقَّةٍ
وَلاَ تَنْغِيصٍ وَلاَ كَدَرٍ.
وَالْهَنِيءُ مِنَ الطَّعَامِ: السَّائِغُ، وَاسْتَهْنَأْتُ الطَّعَامَ
اسْتَمْرَأْتُهُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: لاَ تَخْرُجُ التَّهْنِئَةُ - فِي الْجُمْلَةِ - عَنِ
الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، لَكِنَّهَا فِي مَوَاطِنِهَا قَدْ تَكُونُ لَهَا
مَعَانٍ أَخَصُّ كَالتَّبْرِيكِ، وَالتَّبْشِيرِ، وَالتَّرْفِئَةِ،
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَرِدُ ذِكْرُهُ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّبْرِيكُ:
2 - التَّبْرِيكُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ بَرَّكَ، يُقَال: بَرَّكْتُ
عَلَيْهِ تَبْرِيكًا أَيْ قُلْت لَهُ: بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْك، وَبَارَكَ
اللَّهُ الشَّيْءَ وَبَارَكَ فِيهِ وَعَلَيْهِ: وَضَعَ فِيهِ
__________
(1) لسان العرب والقاموس المحيط ومعجم مقاييس اللغة 6 / 68.
(14/95)
الْبَرَكَةَ، وَيَكُونُ مَعْنَى
التَّبْرِيكِ عَلَى هَذَا: الدُّعَاءَ لِلإِْنْسَانِ أَوْ غَيْرِهِ
بِالْبَرَكَةِ، وَهِيَ النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ وَالسَّعَادَةُ (1) .
وَالتَّبْرِيكُ فِي الاِصْطِلاَحِ: الدُّعَاءُ بِالْبَرَكَةِ وَهِيَ
الْخَيْرُ الإِْلَهِيُّ الَّذِي يَصْدُرُ مِنْ حَيْثُ لاَ يُحِسُّ، وَعَلَى
وَجْهٍ لاَ يُحْصَى وَلاَ يُحْصَرُ، وَلِذَا قِيل لِكُل مَا يُشَاهَدُ
مِنْهُ زِيَادَةٌ غَيْرُ مَحْسُوسَةٍ: هُوَ مُبَارَكٌ، وَفِيهِ بَرَكَةٌ،
وَإِلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ أُشِيرُ بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ مَا نَقَصَتْ
صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ (2) .
ب - التَّبْشِيرُ:
3 - وَهُوَ مَصْدَرُ بَشَّرَ، وَمَعْنَاهُ لُغَةً: الإِْخْبَارُ
بِالْخَيْرِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَل فِي الإِْخْبَارِ بِالشَّرِّ إِذَا
قُيِّدَ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (3)
، وَالاِسْمُ: الْبِشَارَةُ، وَالْبِشَارَةُ - بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ -
وَالْبِشَارَةُ إِذَا أُطْلِقَتِ اخْتُصَّتْ بِالْخَيْرِ. وَالْبِشَارَةُ -
بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ - أَيْضًا: مَا يُعْطَاهُ الْمُبَشِّرُ بِالأَْمْرِ
(4) .
وَالتَّبْشِيرُ فِي الاِصْطِلاَحِ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ،
__________
(1) لسان العرب والقاموس المحيط.
(2) المفردات في غريب القرآن ص44. وحديث أنه " ما نقصت صدقة من مال "،
أخرجه مسلم (4 / 2001 ط عيسى الحلبي) .
(3) سورة آل عمران / 21.
(4) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " بشر ".
(14/96)
وَخَصَّ بَعْضُهُمُ الْبِشَارَةَ
بِأَنَّهَا الْخَبَرُ الَّذِي لاَ يَكُونُ عِنْدَ الْمُبَشَّرِ عِلْمٌ
بِهِ: فَقَدْ عَرَّفَهَا الْعَسْكَرِيُّ بِأَنَّهَا: أَوَّل مَا يَصِل
إِلَيْك مِنَ الْخَبَرِ السَّارِّ فَإِذَا وَصَل إِلَيْك ثَانِيًا لَمْ
يُسَمَّ بِشَارَةً، وَأَضَافَ: وَلِهَذَا قَال الْفُقَهَاءُ: إِنَّ مَنْ
قَال مَنْ بَشَّرَنِي مِنْ عَبِيدِي بِمَوْلُودٍ فَهُوَ حُرٌّ أَنَّهُ
يُعْتَقُ أَوَّل مَنْ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ.
وَوُجُودُ الْمُبَشَّرِ بِهِ وَقْتَ الْبِشَارَةِ لَيْسَ بِلاَزِمٍ (1)
بِدَلِيل قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقِ نَبِيًّا
مِنَ الصَّالِحِينَ} (2) وَتَفْصِيل أَحْكَامِ التَّبْشِيرِ تُنْظَرُ فِي
مُصْطَلَحِ: (بِشَارَةٌ) ج 8 ص 93
ج - التَّرْفِئَةُ:
4 - مَصْدَرُ رَفَأَ، يُقَال: رَفَّاهُ تَرْفِئَةً وَتَرْفِيًا،
وَرَفَّأَهُ تَرْفِئَةً وَتَرْفِيئًا أَيْ دَعَا لَهُ وَقَال: بِالرِّفَاءِ
وَالْبَنِينَ، أَيْ: بِالاِلْتِئَامِ وَجَمْعِ الشَّمْل؛ لأَِنَّ أَصْل
الرَّفْءِ الاِجْتِمَاعُ وَالتَّلاَؤُمُ، وَمِنْهُ رَفَأَ أَيْ تَزَوَّجَ
(3) .
وَعَلَى هَذَا تَكُونُ التَّرْفِئَةُ فِي اللُّغَةِ: التَّهْنِئَةَ
بِالنِّكَاحِ.
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهَا فِي الاِصْطِلاَحِ عَنِ الْمَعْنَى فِي
اللُّغَةِ.
وَالتَّرْفِئَةُ أَخَصُّ مِنَ التَّهْنِئَةِ؛ لأَِنَّ التَّرْفِئَةَ هِيَ
__________
(1) التعريفات ص39، 44، والمفردات في غريب القرآن ص48، والكليات 1 / 413،
والفروق في اللغة ص259.
(2) سورة الصافات / 112.
(3) القاموس المحيط ولسان العرب.
(14/96)
التَّهْنِئَةُ بِالنِّكَاحِ خَاصَّةً،
أَمَّا التَّهْنِئَةُ فَتَكُونُ بِالنِّكَاحِ أَوْ بِغَيْرِهِ
. الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - التَّهْنِئَةُ مُسْتَحَبَّةٌ فِي الْجُمْلَةِ؛ لأَِنَّهَا مُشَارَكَةٌ
بِالتَّبْرِيكِ وَالدُّعَاءِ - مِنِ الْمُسْلِمِ لأَِخِيهِ الْمُسْلِمِ
فِيمَا يَسُرُّهُ وَيُرْضِيهِ؛ وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّوَادِّ،
وَالتَّرَاحُمِ، وَالتَّعَاطُفِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ جَاءَ فِي
الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ تَهْنِئَةُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا يَنَالُونَ
مِنْ نَعِيمٍ، وَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا
بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (1) .
وَالتَّهْنِئَةُ تَكُونُ بِكُل مَا يُسِرُّ وَيُسْعِدُ مِمَّا يُوَافِقُ
شَرْعَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ ذَلِكَ: التَّهْنِئَةُ بِالنِّكَاحِ،
وَالتَّهْنِئَةُ بِالْمَوْلُودِ، وَالتَّهْنِئَةُ بِالْعِيدِ
وَالأَْعْوَامِ وَالأَْشْهُرِ، وَالتَّهْنِئَةُ بِالْقُدُومِ مِنَ
السَّفَرِ، وَالتَّهْنِئَةُ بِالْقُدُومِ مِنَ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ،
وَالتَّهْنِئَةُ بِالطَّعَامِ، وَالتَّهْنِئَةُ بِالْفَرَجِ بَعْدَ
الشِّدَّةِ.
أَوَّلاً: التَّهْنِئَةُ بِالنِّكَاحِ:
6 - وَهِيَ الدُّعَاءُ لِلزَّوْجِ أَوْ لِلزَّوْجَةِ أَوْ لَهُمَا
بِالْبَرَكَةِ وَالاِلْتِئَامِ وَجَمْعِ الشَّمْل وَالذُّرِّيَّةِ
الطَّيِّبَةِ.
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّهْنِئَةِ بِالنِّكَاحِ:
أَيِ الدُّعَاءِ لِلزَّوْجِ أَوْ لِلزَّوْجَةِ أَوْ لَهُمَا بِالسُّرُورِ
وَعَدَمِ الْكَدَرِ (2) . لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) سورة الطور / 19
(2) مواهب الجليل 3 / 408، ونهاية المحتاج 6 / 203، والمغني لابن قدامة 6 /
539
(14/97)
رَأَى عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَثَرَ صُفْرَةٍ فَقَال: مَا هَذَا؟ قَال:
إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَال
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَارَكَ اللَّهُ لَك، أَوْلِمْ وَلَوْ
بِشَاةٍ (1) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلِمَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ: بَارَكَ
اللَّهُ عَلَيْك (2) .
وَاسْتِحْبَابُ التَّهْنِئَةِ ثَابِتٌ فِي حَقِّ مَنْ حَضَرَ النِّكَاحَ
سَوَاءٌ الْوَلِيُّ أَوْ غَيْرُهُ، وَيَنْبَغِي ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ
يَحْضُرْ إِذَا لَقِيَ الزَّوْجَ.
وَتَكُونُ التَّهْنِئَةُ عَقِبَ عَقْدِ النِّكَاحِ وَالدُّخُول، وَيَطُول
وَقْتُهَا بِطُول الزَّمَنِ عُرْفًا وَذَلِكَ لِمَنْ حَضَرَ الْعَقْدَ أَوِ
الدُّخُول، أَمَّا مَنْ لَمْ يَحْضُرْ فَتُسْتَحَبُّ لَهُ التَّهْنِئَةُ
إِذَا لَقِيَ الزَّوْجَ مَا لَمْ تَطُل الْمُدَّةُ فِي عُرْفِ النَّاسِ (3)
.
صِيغَةُ التَّهْنِئَةِ بِالنِّكَاحِ:
7 - وَلَفْظُ تَهْنِئَةِ الزَّوْجِ بِالنِّكَاحِ: بَارَكَ اللَّهُ لَك،
وَبَارَكَ عَلَيْك، وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي خَيْرٍ لِمَا وَرَدَ فِي
__________
(1) حديث: " بارك الله لك، أولم ولو بشاة ". أخرجه البخاري (11 / 190 ط
السلفية) ، ومسلم (2 / 1042 ط عيسى الحلبي) وهو من حديث أنس
(2) حديث " بارك الله عليك ". أخرجه البخاري (11 / 190 ط السلفية) ، ومسلم
(2 / 1088 ط عيسى الحلبي) ، واللفظ للبخاري وهو من حديث جابر
(3) مواهب الجليل 3 / 408، ونهاية المحتاج 6 / 203
(14/97)
حَدِيثَيْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ
وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - السَّابِقَيْنِ
- وَلِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَفَّأَ
إِنْسَانًا تَزَوَّجَ قَال: بَارَكَ اللَّهُ لَك، وَبَارَكَ عَلَيْك،
وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي خَيْرٍ (1) .
وَلَفْظُ تَهْنِئَةِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ: بَارَكَ اللَّهُ لِكُل
وَاحِدٍ مِنْكُمَا فِي صَاحِبِهِ وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي خَيْرٍ (2) .
8 - وَكَانَتِ التَّرْفِئَةُ بِالنِّكَاحِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِلَفْظِ:
بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ، وَجَاءَتِ الأَْحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ
بِالأَْلْفَاظِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا، وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِ
التَّرْفِئَةِ بِلَفْظِ، بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ، فَذَهَبَ
الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّرْفِئَةَ بِهَذَا اللَّفْظِ لاَ
كَرَاهَةَ فِيهَا، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ
يُقَال فِي التَّرْفِئَةِ: بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ (3) ، وَرُوِيَ فِي
ذَلِكَ عَنْ عَقِيل بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ
تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي جُشَمَ فَقَالُوا: بِالرِّفَاءِ
وَالْبَنِينَ، فَقَال: لاَ تَقُولُوا هَكَذَا، وَلَكِنْ قُولُوا كَمَا قَال
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ
لَهُمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِمْ
__________
(1) حديث: " بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير " أخرجه أبو داود
(2 / 598 - 599 ط عبيد الدعاس) . وابن ماجه (1 / 614 ط عيسى الحلبي) .
والترمذي 3 / 400 ط مصطفى الحلبي) . وقال: حديث حسن صحيح
(2) الأذكار ص251، والمغني 6 / 539، ونهاية المحتاج 6 / 203، ونيل الأوطار
6 / 148
(3)) مواهب الجليل 3 / 408 والأذكار ص251، ونيل الأوطار 6 / 149
(14/98)
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ
وَأَحْمَدُ بِمَعْنَاهُ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: لاَ تَقُولُوا ذَلِكَ
فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَانَا عَنْ
ذَلِكَ، قُولُوا: بَارَكَ اللَّهُ لَهَا فِيك، وَبَارَكَ لَك فِيهَا (1) .
وَاخْتُلِفَ فِي عِلَّةِ النَّهْيِ عَنِ التَّرْفِئَةِ بِلَفْظِ
(بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ) ، فَقِيل: لأَِنَّهُ لاَ حَمْدَ فِيهِ وَلاَ
ثَنَاءَ وَلاَ ذِكْرَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَقِيل: لِمَا فِيهِ مِنَ
الإِْشَارَةِ إِلَى بُغْضِ الْبَنَاتِ لِتَخْصِيصِ الْبَنِينَ بِالذِّكْرِ،
وَإِلاَّ فَهُوَ دُعَاءٌ بِالاِلْتِئَامِ وَالاِئْتِلاَفِ فَلاَ كَرَاهَةَ
فِيهِ، وَقَال ابْنُ الْمُنِيرِ: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَرِهَ اللَّفْظَ لِمَا فِيهِ مِنْ مُوَافَقَةِ
الْجَاهِلِيَّةِ لأَِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَهُ تَفَاؤُلاً لاَ دُعَاءً.
فَيَظْهَرُ أَنَّهُ لَوْ قِيل بِصُورَةِ الدُّعَاءِ لَمْ يُكْرَهْ كَأَنْ
يَقُول: اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَهُمَا وَارْزُقْهُمَا بَنِينَ صَالِحِينَ
(2) .
ثَانِيًا: التَّهْنِئَةُ بِالْمَوْلُودِ:
9 - التَّهْنِئَةُ بِالْمَوْلُودِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ
مُسْتَحَبَّةٌ، وَتَكُونُ عِنْدَ الْوِلاَدَةِ، وَالأَْوْجَهُ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ امْتِدَادُ زَمَنِهَا ثَلاَثًا بَعْدَ الْعِلْمِ أَوِ
الْقُدُومِ مِنَ السَّفَرِ (3) .
__________
(1) حديث " بارك الله لها فيك، وبارك لك فيها "، أخرجه أحمد (1 / 201 ط
المكتب الإسلامي) . قال أحمد شاكر: إسناده صحيح (مسند أحمد 3 / 178 - 1738
ط دار المعارف)
(2) عمدة القاري للعيني 20 - 145 - 146، وفتح الباري 9 / 221 - 222، ونيل
الأوطار 6 / 148 - 150
(3) المبسوط للسرخسي 7 / 52، وروضة الطالبين 3 / 233، والمغني لابن قدامة 8
/ 649، وحاشية الجمل 5 / 267
(14/98)
وَلَفْظُهَا الَّذِي يَقُولُهُ
الْمُهَنِّئُ لِوَالِدِ الْمَوْلُودِ وَنَحْوِهِ، بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي
الْوَلَدِ الْمَوْهُوبِ، وَشَكَرْتَ الْوَاهِبَ، وَبَلَغَ أَشُدَّهُ،
وَرُزِقْتَ بِرَّهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّهُ عَلَّمَ إِنْسَانًا التَّهْنِئَةَ فَقَال: قُل بَارَكَ اللَّهُ
لَكَ فِي الْمَوْهُوبِ لَكَ، وَشَكَرْتَ الْوَاهِبَ، وَبَلَغَ أّشُدَّهُ،
وَرُزِقْت بِرَّهُ، وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ.
وَيُسْتَحَبُّ لَلْمُهَنَّأِ أَنْ يَرُدَّ عَلَى الْمُهَنِّئِ فَيَقُول:
بَارَكَ اللَّهُ لَكَ، وَبَارَكَ عَلَيْكَ، وَجَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا،
وَرَزَقَكَ مِثْلَهُ، أَوْ: أَجْزَل اللَّهُ ثَوَابَك، وَنَحْوَ هَذَا (1)
.
ثَالِثًا: التَّهْنِئَةُ بِالْعِيدِ وَالأَْعْوَامِ وَالأَْشْهُرِ:
10 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّهْنِئَةِ
بِالْعِيدِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ.
فَقَال صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ - مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - إِنَّ
التَّهْنِئَةَ بِالْعِيدِ بِلَفْظِ " يَتَقَبَّل اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ
" لاَ تُنْكَرُ.
وَعَقَّبَ ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا قَال - أَيْ
صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ - كَذَلِكَ لأَِنَّهُ لَمْ يُحْفَظْ فِيهَا
شَيْءٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَقَال
__________
(1) الأذكار ص256، وحاشية الجمل 5 / 267، المغني لابن قدامة 8 / 650
(14/99)
الْمُحَقِّقُ ابْنُ أَمِيرِ حَاجٍّ: بَل
الأَْشْبَهُ أَنَّهَا جَائِزَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ فِي الْجُمْلَةِ، ثُمَّ
سَاقَ آثَارًا بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ عَنِ الصَّحَابَةِ فِي فِعْل ذَلِكَ،
ثُمَّ قَال: وَالْمُتَعَامَل فِي الْبِلاَدِ الشَّامِيَّةِ
وَالْمِصْرِيَّةِ: عِيدٌ مُبَارَكٌ عَلَيْكَ وَنَحْوُهُ، وَقَال: يُمْكِنُ
أَنْ يُلْحَقَ بِذَلِكَ فِي الْمَشْرُوعِيَّةِ وَالاِسْتِحْبَابِ لِمَا
بَيْنَهُمَا مِنَ التَّلاَزُمِ، فَإِنَّ مَنْ قُبِلَتْ طَاعَتُهُ فِي
زَمَانٍ كَانَ ذَلِكَ الزَّمَانُ عَلَيْهِ مُبَارَكًا، عَلَى أَنَّهُ قَدْ
وَرَدَ الدُّعَاءُ بِالْبَرَكَةِ فِي أُمُورٍ شَتَّى فَيُؤْخَذُ مِنْهُ
اسْتِحْبَابُ الدُّعَاءِ بِهَا هُنَا أَيْضًا.
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَقَدْ سُئِل الإِْمَامُ مَالِكٌ عَنْ قَوْل
الرَّجُل لأَِخِيهِ يَوْمَ الْعِيدِ: تَقَبَّل اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكَ
يُرِيدُ الصَّوْمَ وَفِعْل الْخَيْرِ الصَّادِرِ فِي رَمَضَانَ، وَغَفَرَ
اللَّهُ لَنَا وَلَكَ فَقَال: مَا أَعْرِفُهُ وَلاَ أُنْكِرُهُ. قَال ابْنُ
حَبِيبٍ: مَعْنَاهُ لاَ يَعْرِفُهُ سُنَّةً وَلاَ يُنْكِرُهُ عَلَى مَنْ
يَقُولُهُ؛ لأَِنَّهُ قَوْلٌ حَسَنٌ لأَِنَّهُ دُعَاءٌ، حَتَّى قَال
الشَّيْخُ الشَّبِيبِيُّ يَجِبُ الإِْتْيَانُ بِهِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى
تَرْكِهِ مِنَ الْفِتَنِ وَالْمُقَاطَعَةِ. وَيَدُل لِذَلِكَ مَا قَالُوهُ
فِي الْقِيَامِ لِمَنْ يَقْدَمُ عَلَيْهِ، وَمِثْلُهُ قَوْل النَّاسِ
لِبَعْضِهِمْ فِي الْيَوْمِ الْمَذْكُورِ: عِيدٌ مُبَارَكٌ، وَأَحْيَاكُمُ
اللَّهُ لأَِمْثَالِهِ، لاَ شَكَّ فِي جَوَازِ كُل ذَلِكَ بَل لَوْ قِيل
بِوُجُوبِهِ لَمَا بَعُدَ؛ لأَِنَّ النَّاسَ مَأْمُورُونَ بِإِظْهَارِ
الْمَوَدَّةِ وَالْمَحَبَّةِ لِبَعْضِهِمْ (1) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ نَقَل الرَّمْلِيُّ عَنِ الْقَمُولِيِّ
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 1 / 557، والفواكه الدواني 1 / 322
(14/99)
قَوْلَهُ: لَمْ أَرَ لأَِصْحَابِنَا
كَلاَمًا فِي التَّهْنِئَةِ بِالْعِيدِ وَالأَْعْوَامِ وَالأَْشْهُرِ كَمَا
يَفْعَلُهُ النَّاسُ، لَكِنْ نَقَل الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ عَنِ
الْحَافِظِ الْمَقْدِسِيِّ أَنَّهُ أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ النَّاسَ
لَمْ يَزَالُوا مُخْتَلِفِينَ فِيهِ، وَاَلَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ مُبَاحٌ
لاَ سُنَّةَ فِيهِ وَلاَ بِدْعَةَ.
ثُمَّ قَال الرَّمْلِيُّ: وَقَال ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ: إِنَّهَا
مَشْرُوعَةٌ، وَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّ الْبَيْهَقِيّ عَقَدَ لِذَلِكَ
بَابًا فَقَال: بَابُ مَا رُوِيَ فِي قَوْل النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ
فِي يَوْمِ الْعِيدِ: تَقَبَّل اللَّهُ مِنَّا وَمِنْك، وَسَاقَ مَا
ذَكَرَهُ مِنْ أَخْبَارٍ وَآثَارٍ ضَعِيفَةٍ لَكِنْ مَجْمُوعُهَا يُحْتَجُّ
بِهِ فِي مِثْل ذَلِكَ، ثُمَّ قَال: وَيُحْتَجُّ لِعُمُومِ التَّهْنِئَةِ
لِمَا يَحْدُثُ مِنْ نِعْمَةٍ أَوْ يَنْدَفِعُ مِنْ نِقْمَةٍ
بِمَشْرُوعِيَّةِ سُجُودِ الشُّكْرِ وَالتَّعْزِيَةِ، وَبِمَا فِي
الصَّحِيحَيْنِ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فِي قِصَّةِ تَوْبَتِهِ لَمَّا
تَخَلَّفَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكٍ أَنَّهُ لَمَّا بُشِّرَ بِقَبُول
تَوْبَتِهِ وَمَضَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَامَ إِلَيْهِ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ فَهَنَّأَهُ. وَكَذَلِكَ
نَقَل الْقَلْيُوبِيُّ عَنِ ابْنِ حَجَرٍ أَنَّ التَّهْنِئَةَ
بِالأَْعْيَادِ وَالشُّهُورِ وَالأَْعْوَامِ مَنْدُوبَةٌ. قَال
الْبَيْجُورِيُّ: وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ (1) .
وَجَاءَ فِي الْمُغْنِي لاِبْنِ قُدَامَةَ: قَال أَحْمَدُ رَحِمَهُ
اللَّهُ: وَلاَ بَأْسَ أَنْ يَقُول الرَّجُل لِلرَّجُل يَوْمَ
__________
(1) نهاية المحتاج 2 / 391، ومغني المحتاج 1 / 316، وأسنى المطالب 1 / 283،
والقليوبي وعميرة 1 / 310، وحاشية البيجوري 1 / 233.
(14/100)
الْعِيدِ: تَقَبَّل اللَّهُ مِنَّا
وَمِنْكَ، وَقَال حَرْبٌ: سُئِل أَحْمَدُ عَنْ قَوْل النَّاسِ فِي
الْعِيدَيْنِ: تَقَبَّل اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ قَال: لاَ بَأْسَ بِهِ،
يَرْوِيهِ أَهْل الشَّامِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قِيل: وَوَاثِلَةُ بْنُ
الأَْسْقَعِ؟ قَال: نَعَمْ، قِيل: فَلاَ تَكْرَهُ أَنْ يُقَال هَذَا يَوْمَ
الْعِيدِ؟ قَال: لاَ.
وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي تَهْنِئَةِ الْعِيدِ أَحَادِيثَ مِنْهَا أَنَّ
مُحَمَّدَ بْنَ زِيَادٍ قَال: كُنْتُ مَعَ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ
وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَكَانُوا إِذَا رَجَعُوا مِنَ الْعِيدِ يَقُول بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ:
تَقَبَّل اللَّهُ مِنَّا وَمِنْك، وَقَال أَحْمَدُ: إِسْنَادُ حَدِيثِ
أَبِي أُمَامَةَ جَيِّدٌ (1) .
رَابِعًا: التَّهْنِئَةُ بِالْقُدُومِ مِنَ السَّفَرِ:
11 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ تَهْنِئَةَ
الْقَادِمِ مِنْ سَفَرٍ وَالسَّلاَمَ عَلَيْهِ وَمُعَانَقَتَهُ تَحْسُنُ
وَتُسْتَحَبُّ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ تَقْبِيل الْقَادِمِ،
وَمُصَافَحَتَهُ مَعَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَصُنْعَ وَلِيمَةٍ لَهُ
تُسَمَّى النَّقِيعَةَ، وَاسْتِقْبَالَهُ وَتَلَقِّيَهُ. . مَنْدُوبٌ
كَذَلِكَ، قَال الشَّعْبِيُّ: وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَدِمُوا مِنْ سَفَرٍ تَعَانَقُوا،
وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ
الْمَدِينَةَ وَرَسُول اللَّهِ فِي بَيْتِي، فَأَتَاهُ فَقَرَعَ الْبَابَ،
فَقَامَ إلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجُرُّ
ثَوْبَهُ
__________
(1) المغني لابن قدامة 2 / 399، وكشاف القناع 2 / 60.
(14/100)
فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ (1) .
وَالتَّهْنِئَةُ الْمُسْتَحَبَّةُ لِلْقَادِمِ مِنَ السَّفَرِ تَكُونُ
بِلَفْظِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي سَلَّمَك أَوِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي جَمَعَ الشَّمْل بِكَ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الأَْلْفَاظِ
الدَّالَّةِ عَلَى الاِسْتِبْشَارِ بِقُدُومِ الْقَادِمِ (2) . وَلَمْ
نَجِدْ مَنْ يَتَعَرَّضُ لِهَذَا مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
وَيُهَنَّأُ الْقَادِمُ مِنْ سَفَرٍ كَانَ لِلْغَزْوِ وَالْجِهَادِ فِي
سَبِيل اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ وَالْعِزِّ وَإِقْرَارِ
الْعَيْنِ، وَيُقَال لَهُ: مَا وَرَدَ عَلَى لِسَانِ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا أَوْ نَحْوِهِ، فَقَدْ قَالَتْ: كَانَ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوٍ فَلَمَّا دَخَل
اسْتَقْبَلْته عَلَى الْبَابِ فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، فَقُلْت: الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي نَصَرَك وَأَعَزَّك وَأَكْرَمَك (3) .
خَامِسًا: التَّهْنِئَةُ بِالْقُدُومِ مِنَ الْحَجِّ:
12 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ أَنْ يُقَال
__________
(1) حديث عائشة رضي الله عنها: قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى
الله عليه وسلم في بيتي. . . . " أخرجه الترمذي (5 / 77 ط الحلبي) وفي
إسناده ضعف، تحفة الأحوذي (7 / 523 ط المكتبة السلفية) .
(2) قليوبي وعميرة 2 / 251، 3 / 213، والفتوحات الربانية 5 / 389، 5 / 174،
وزاد المعاد 2 / 34، ومطالب أولي النهى 2 / 502، والحاوي للفتاوى للسيوطي 1
/ 79.
(3) الفتوحات الربانية 5 / 175. وحديث: " الحمد لله الذي نصرك وأعزك وأكرمك
" أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة 142 ط. دائرة المعارف من حديث
عائشة، وإسناده صحيح.
(14/101)
لِلْحَاجِّ أَوِ الْمُعْتَمِرِ، تَقَبَّل
اللَّهُ حَجَّكَ أَوْ عُمْرَتَك، وَغَفَرَ ذَنْبَك، وَأَخْلَفَ عَلَيْك
نَفَقَتَك (1) .
التَّهْنِئَةُ بِالأَْكْل وَالشُّرْبِ:
13 - وَالدُّعَاءُ لِلآْكِل وَالشَّارِبِ يَكُونُ بِلَفْظِ هَنِيئًا
مَرِيئًا وَنَحْوَهُ، قَال اللَّهُ تَعَالَى {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا}
(2) وَقَال عَزَّ وَجَل: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ} (3) .
التَّهْنِئَةُ بِالنِّعْمَةِ وَدَفْعِ النِّقْمَةِ:
14 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّهْنِئَةِ بِمَا
يَحْدُثُ مِنْ نِعْمَةٍ أَوْ يَنْدَفِعُ مِنْ نِقْمَةٍ، وَاحْتَجُّوا
بِحَدِيثِ كَعْبٍ وَتَهْنِئَةِ طَلْحَةَ لَهُ (4) . وَفِيهِ قَوْل كَعْبٍ:
فَانْطَلَقْت أَتَأَمَّمُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنِّئُونَنِي
بِالتَّوْبَةِ وَيَقُولُونَ: لِتَهْنِئْكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْك،
حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ وَحَوْلَهُ النَّاسُ فَقَامَ طَلْحَةُ بْنُ
عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِل حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي، فَلَمَّا
سَلَّمْتُ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال
وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ وَيَقُول: أَبْشِرْ
__________
(1) قليوبي وعميرة 2 / 151، والفتوحات الربانية على الأذكار النووية 5 /
176، ومطالب أولي النهى2 / 502.
(2) سورة النساء / 4.
(3) سورة الطور / 9.
(4) نهاية المحتاج 2 / 391، ومغني المحتاج 1 / 316، وأسنى المطالب 1 / 283.
(14/101)
بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْك مُنْذُ
وَلَدَتْك أُمُّك (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ التَّهْنِئَةَ بِالأُْمُورِ
وَالنِّعَمِ الدِّينِيَّةِ الْمُتَجَدِّدَةِ مُسْتَحَبَّةٌ، وَاحْتَجُّوا
بِقِصَّةِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَمَّا التَّهْنِئَةُ بِالأُْمُورِ
الدُّنْيَوِيَّةِ فَأَجَازَهَا بَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِمْ، وَقَال
بَعْضُهُمْ: تَحْسُنُ أَوْ تُسْتَحَبُّ. وَلَمْ نَجِدْ مَنْ تَعَرَّضَ
لِهَذَا مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ (2) .
__________
(1) القرطبي 8 / 282 - 286. وحديث كعب " أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك
أمك. . . . " أخرجه البخاري (8 / 116 ط السلفية) .
(2) الآداب الشرعية 3 / 239، ومطالب أولي النهى 2 / 502.
(14/102)
تَوْأَمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّوْأَمُ لُغَةً: اسْمٌ لِوَلَدٍ يَكُونُ مَعَهُ آخَرُ فِي بَطْنٍ
وَاحِدٍ، وَلاَ يُقَال تَوْأَمٌ إِلاَّ لأَِحَدِهِمَا، وَيُقَال
لِلأُْنْثَى تَوْأَمَةٌ، وَالْوَلَدَانِ تَوْأَمَانِ، وَالْجَمْعُ
تَوَائِمُ.
وَأَتْأَمَتِ الْمَرْأَةُ وَضَعَتِ اثْنَيْنِ مِنْ حَمْلٍ وَاحِدٍ فَهِيَ
مُتْئِمٌ (1) .
جَاءَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: أَنَّ التَّوْأَمَ مِنْ جَمِيعِ الْحَيَوَانِ
الْمَوْلُودُ مَعَ غَيْرِهِ فِي بَطْنٍ مِنَ الاِثْنَيْنِ إِلَى مَا زَادَ
ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى أَوْ ذَكَرًا مَعَ أُنْثَى (2) .
وَاصْطِلاَحًا: قَال الْجُرْجَانِيُّ: التَّوْأَمَانِ هُمَا وَلَدَانِ مِنْ
بَطْنٍ وَاحِدٍ بَيْنَ وِلاَدَتِهِمَا أَقَل مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ (3) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالتَّوَائِمِ:
ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ التَّوَائِمِ فِي عِدَّةِ مَوَاطِنَ وَهِيَ
كَمَا يَلِي:
__________
(1) المصباح المنير مادة: " توم ".
(2) لسان العرب مادة: " تأم ".
(3) التعريفات للجرجاني ص70.
(14/102)
فِي النِّفَاسِ:
2 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الدَّمِ الْخَارِجِ بَيْنَ
التَّوْأَمَيْنِ، أَوِ التَّوَائِمِ، أَهُوَ دَمُ نِفَاسٍ، أَمِ
اسْتِحَاضَةٍ، أَمْ حَيْضٍ؟
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ - إِلَى أَنَّ نِفَاسَ أُمِّ التَّوْأَمَيْنِ أَوِ
التَّوَائِمِ يَبْدَأُ مِنَ الأَْوَّل؛ لأَِنَّ مَا بَعْدَ وِلاَدَةِ
الْوَلَدِ الأَْوَّل دَمٌ بَعْدِ وِلاَدَةٍ، فَكَانَ نِفَاسًا
كَالْمُنْفَرِدِ.
فَإِنْ تَخَلَّل بَيْنَهُمَا أَكْثَرُ النِّفَاسِ وَهُوَ - أَرْبَعُونَ
يَوْمًا - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَسِتُّونَ يَوْمًا
عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ لَمْ يَكُنْ مَا بَعْدَهُ
نِفَاسًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، بَل هُوَ دَمُ
اسْتِحَاضَةٍ وَفَسَادٍ، وَلاَ نِفَاسَ مِنَ الثَّانِي لأَِنَّهُ تَبَعٌ
لِلأَْوَّل. رُوِيَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ قَال لأَِبِي حَنِيفَةَ:
أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ بَيْنَ الْوَلَدَيْنِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا قَال:
هَذَا لاَ يَكُونُ. قَال: فَإِنْ كَانَ قَال: لاَ نِفَاسَ لَهَا مِنَ
الثَّانِي وَلَكِنَّهَا تَغْتَسِل وَقْتَ أَنْ تَضَعَ الثَّانِيَ
وَتُصَلِّيَ (&# x661 ;) .
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنْ تَخَلَّل بَيْنَ وِلاَدَةِ
التَّوْأَمَيْنِ أَقَل مِنْ سِتِّينَ يَوْمًا فَنِفَاسٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ
تَخَلَّل بَيْنَهُمَا أَكْثَرُ النِّفَاسِ وَهُوَ سِتُّونَ يَوْمًا
فَنِفَاسَانِ، وَتَسْتَأْنِفُ لِلثَّانِي نِفَاسًا مُبْتَدَأً إِذَا كَانَ
بَيْنَ الأَْوَّل وَالثَّانِي سِتَّةُ أَشْهُرٍ الَّتِي هِيَ أَقَل مُدَّةِ
الْحَمْل لأَِنَّهَا وِلاَدَةٌ ثَانِيَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 200، وجواهر الإكليل 1 / 32، والمغني لابن قدامة
1 / 350، وكشف المخدرات ص50.
(14/103)
وَقَال بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ
بِدَايَةَ النِّفَاسِ تَكُونُ مِنَ الأَْوَّل وَنِهَايَتَهُ تَكُونُ مِنَ
الثَّانِي؛ لأَِنَّ الثَّانِيَ وُلِدَ فَلاَ تَنْتَهِي مُدَّةُ النِّفَاسِ
قَبْل انْتِهَائِهَا مِنْهُ، فَعَلَى هَذَا تَزِيدُ مُدَّةُ النِّفَاسِ
عَلَى الأَْرْبَعِينَ فِي حَقِّ مَنْ وَلَدَتْ تَوْأَمَيْنِ أَوْ أَكْثَر.
وَذَهَبَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَآخَرُونَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ
الْقَدِيمُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّ النِّفَاسَ يَبْدَأُ
مِنَ الثَّانِي فَقَطْ؛ لأَِنَّ مُدَّةَ النِّفَاسِ تَتَعَلَّقُ
بِالْوِلاَدَةِ فَكَانَ ابْتِدَاؤُهَا وَانْتِهَاؤُهَا مِنَ الثَّانِي،
وَعَلَى هَذَا فَمَا تَرَاهُ الْمَرْأَةُ مِنَ الدَّمِ قَبْل وِلاَدَةِ
الثَّانِي أَوِ الأَْخِيرِ مِنَ التَّوَائِمِ لاَ يَكُونُ نِفَاسًا،
وَإِنَّمَا يَكُونُ اسْتِحَاضَةً.
أَمَّا الْجَدِيدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَإِنَّ الدَّمَ الْخَارِجَ
بَيْنَ التَّوْأَمَيْنِ أَوِ التَّوْأَمِ حَيْضٌ، وَهُوَ الرَّاجِحُ
عِنْدَهُمْ (1) .
فِي اللِّعَانِ وَالنَّسَبِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ اسْتَلْحَقَ الرَّجُل أَحَدَ
التَّوْأَمَيْنِ أَوِ التَّوَائِمِ وَنَفَى الآْخَرَ لَحِقُوا بِهِ؛
لأَِنَّ الْحَمْل الْوَاحِدَ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ مِنْهُ
وَبَعْضُهُ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ ثَبَتَ نَسَبُ أَحَدِهِمَا مِنْهُ ثَبَتَ
نَسَبُ الآْخَرِ ضَرُورَةً بِجَعْل مَا نَفَاهُ تَابِعًا لِمَا
اسْتَلْحَقَهُ؛ لأَِنَّ النَّسَبَ يُحْتَاطُ لإِِثْبَاتِهِ لاَ لِنَفْيِهِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 200، وجواهر الإكليل 1 / 32، وتحفة المحتاج 1 /
411، 413، ومغني المحتاج 1 / 118، والمغني لابن قدامة 1 / 350، وكشف
المخدرات ص50.
(14/103)
وَإِنْ اسْتَلْحَقَ أَحَدَهُمَا وَسَكَتَ
عَنِ الآْخَرِ لَحِقَ بِهِ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ، لأَِنَّهُ لَوْ نَفَاهُ
لَلَحِقَهُ، فَإِذَا سَكَتَ كَانَ أَوْلَى.
وَإِنْ نَفَى أَحَدَهُمَا وَسَكَتَ عَنِ الآْخَرِ لَحِقَا بِهِ جَمِيعًا؛
لأَِنَّ حَقَّ النَّسَبِ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّغْلِيبِ، وَهُوَ يَثْبُتُ
بِمُجَرَّدِ الإِْمْكَانِ (1) .
4 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا لَوْ أَتَتِ الْمَرْأَةُ بِوَلَدٍ
فَنَفَاهُ بَعْدَ الْوِلاَدَةِ بِاللِّعَانِ، ثُمَّ وَلَدَتْ آخَرَ
تَوْأَمًا لِلأَْوَّل بِأَنْ كَانَتْ بَيْنَهُمَا مُدَّةٌ أَقَل مِنْ
سِتَّةِ أَشْهُرٍ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْوَلَدَ الثَّانِيَ لاَ يَنْتَفِي
بِاللِّعَانِ الأَْوَّل؛ لأَِنَّهُ تَنَاوَل الْوَلَدَ الأَْوَّل وَحْدَهُ.
فَإِذَا أَرَادَ نَفْيَ الثَّانِي فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْفِيَهُ بِلِعَانٍ
آخَرَ، وَلاَ يَحْتَاجُ فِي اللِّعَانِ الثَّانِي إِلَى إِعَادَةِ ذِكْرِ
الْوَلَدِ الأَْوَّل.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ اللِّعَانَ الأَْوَّل لِعَانٌ فِي حَقِّ
الثَّانِي لأَِنَّهُمَا مِنْ حَمْلٍ وَاحِدٍ. وَلَكِنِ الْفُقَهَاءُ
اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالْوَلَدِ الثَّانِي بَعْدَ
نَفْيِهِ لِلْوَلَدِ الأَْوَّل لَحِقَهُ الثَّانِي وَالأَْوَّل، وَعَلَيْهِ
حَدُّ الْقَذْفِ؛ لأَِنَّهُ أَكْذَبَ نَفْسَهُ؛ لأَِنَّ الإِْقْرَارَ
بِثُبُوتِ نَسَبِ بَعْضِ الْحَمْل إِقْرَارٌ بِالْكُل.
وَكَذَا إِنْ سَكَتَ بَعْدَ وِلاَدَةِ الْوَلَدِ الثَّانِي وَلَمْ يَنْفِهِ
لَحِقَاهُ جَمِيعًا، إِلاَّ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الأَْخِيرَةِ
لَيْسَ عَلَيْهِ حَدٌّ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُنَاقِضْ قَوْلَهُ الأَْوَّل،
وَلُحُوقُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 591، وجواهر الإكليل 1 / 380، وروضة الطالبين 8 /
358، وحاشية الباجوري 2 / 171، والمغني لابن قدامة 7 / 419.
(14/104)
الْوَلَدِ الأَْوَّل بِهِ هُوَ حُكْمُ
الشَّرْعِ (1) .
5 - وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَيِّتِ مِنَ التَّوْأَمَيْنِ هَل يَحِقُّ
لِلرَّجُل أَنْ يَنْفِيَهُ أَمْ لاَ؟
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ
لَهُ أَنْ يُلاَعِنَ لِنَفْيِ الْمَيِّتِ مِنَ التَّوْأَمَيْنِ أَوِ
التَّوَائِمِ، كَمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يُلاَعِنَ لِنَفْيِ الْحَيِّ
مِنْهُمَا وَلِنَفْيِ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ جَمِيعًا؛ لأَِنَّ نَسَبَهُ
لاَ يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ، بَل يُقَال مَاتَ وَلَدُ فُلاَنٍ، وَهَذَا
قَبْرُ وَلَدِ فُلاَنٍ؛ وَلأَِنَّ عَلَيْهِ مُؤْنَةَ تَجْهِيزِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ نَفَاهُمَا فَمَاتَ
أَحَدُهُمَا أَوْ قُتِل قَبْل اللِّعَانِ لَزِمَهُ نَسَبُهُمَا؛ لأَِنَّهُ
لاَ يُمْكِنُ نَفْيُ الْمَيِّتِ، لاِنْتِهَائِهِ بِالْمَوْتِ
وَاسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ.
قَال الْكَاسَانِيُّ: وَمِنْهَا (أَيْ شُرُوطِ اللِّعَانِ) أَنْ يَكُونَ
الْوَلَدُ حَيًّا وَقْتَ قَطْعِ النَّسَبِ وَهُوَ وَقْتُ التَّفْرِيقِ،
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لاَ يُقْطَعُ نَسَبُهُ مِنَ الأَْبِ حَتَّى لَوْ
جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَمَاتَ ثُمَّ نَفَاهُ الزَّوْجُ يُلاَعِنُ وَيَلْزَمُهُ
الْوَلَدُ؛ لأَِنَّ النَّسَبَ يَتَقَرَّرُ بِالْمَوْتِ فَلاَ يُحْتَمَل
الاِنْقِطَاعُ.
وَإِذَا لَمْ يَنْتِفِ الْمَيِّتُ مِنَ التَّوْأَمَيْنِ لَمْ يَنْتِفِ
الْحَيُّ مِنْهُمَا لأَِنَّهُمَا حَمْلٌ وَاحِدٌ، وَعَلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ
نَسَبُ الْحَيِّ، وَلَهُ أَنْ يُلاَعِنَ لِنَفْيِ الْحَدِّ عَنْهُ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 591، وجواهر الإكليل 1 / 380، 384، ومواهب الجليل
4 / 139، وروضة الطالبين 8 / 358، وحاشية الباجوري 2 / 171، والمغني لابن
قدامة 7 / 419.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 591، نقلا عن فتح القدير والبدائع للكاساني 3 /
247، وجواهر الإكليل 1 / 380، ومغني المحتاج 3 / 380، والمغني لابن قدامة 7
/ 419، وروضة الطالبين 8 / 358
(14/104)
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ
إِذَا نَفَى الْحَمْل بِاللِّعَانِ وَوَضَعَتِ الْمَرْأَةُ تَوْأَمَيْنِ
أَوْ تَوَائِم انْتَفَوْا بِاللِّعَانِ جَمِيعًا، سَوَاءٌ وُلِدُوا
مُتَعَاقِبِينَ أَوْ تَخَلَّلَتْ بَيْنَهُمْ فَتْرَةٌ تَقِل عَنْ سِتَّةِ
أَشْهُرٍ؛ لأَِنَّهُ لاَعَنَ عَنِ الْحَمْل، وَالْحَمْل اسْمٌ لِجَمِيعِ
مَا فِي الْبَطْنِ (1) .
فِي الإِْرْثِ:
6 - تَطَرَّقَ عُلَمَاءُ الْفَرَائِضِ فِي أَبْوَابِ إِرْثِ الْحَمْل إِلَى
مَسْأَلَتَيْنِ تَتَعَلَّقَانِ بِالتَّوَائِمِ:
الأُْولَى: افْتِرَاضُ الْحَمْل بِأَنَّهُ تَوْأَمَانِ أَوْ تَوَائِمُ
عَمَلاً بِالأَْحْوَطِ فِي حَقِّهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَدَدِ الَّذِي
يُفْتَرَضُ مِنَ التَّوَائِمِ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ
يُوقَفُ نَصِيبُ تَوْأَمَيْنِ مِنَ التَّرِكَةِ؛ لأَِنَّ وِلاَدَةَ
التَّوْأَمَيْنِ كَثِيرَةٌ وَمُعْتَادَةٌ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِمَا
نَادِرٌ، فَلاَ يُوقَفُ لِمَا زَادَ شَيْءٌ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ - إِنَّ الْحَمْل لاَ
يَتَقَدَّرُ بِعَدَدٍ وَلاَ يَتَحَدَّدُ بِحَدٍّ مُعَيَّنٍ لِعَدَمِ
انْضِبَاطِهِ، فَيُوقَفُ الْمَال كُلُّهُ إِذَا كَانَ مِنَ الْمُمْكِنِ
أَنْ يُحْجَبَ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ بِالتَّوَائِمِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
مِنَ الْمُمْكِنِ حَجْبُهُمْ وَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ
الْمُقَدَّرَةِ أُعْطِيَ لَهُمْ حَظُّهُمْ مِنَ التَّرِكَةِ،
__________
(1) روضة الطالبين 8 / 359.
(14/105)
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ نَصِيبٌ
مَفْرُوضٌ لَمْ يُعْطَوْا شَيْئًا حَتَّى تَضَعَ الْحَامِل (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: فِي الْمَرْجُوحِ يُوقَفُ نَصِيبُ أَرْبَعَةِ
أَوْلاَدٍ ذُكُورٍ.
وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِرْثٌ) .
الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ: إِذَا وَلَدَتِ الْحَامِل بَعْدَ مَوْتِ
الْمُوَرِّثِ تَوْأَمَيْنِ فَاسْتَهَل أَحَدُهُمَا وَمَاتَا وَلَمْ
يُعْلَمِ الْمُسْتَهِل بِعَيْنِهِ، فَإِنْ كَانَا ذَكَرَيْنِ، أَوْ
أُنْثَيَيْنِ، أَوْ ذَكَرًا وَأُنْثَى، لاَ يَخْتَلِفُ مِيرَاثُهُمَا فَلاَ
فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَا ذَكَرًا وَأُنْثَى يَخْتَلِفُ
مِيرَاثُهُمَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِمَا:
فَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: ذَهَبَ الْفَرَضِيُّونَ إِلَى أَنْ تُعْمَل
الْمَسْأَلَةُ عَلَى الْحَالَيْنِ وَيُعْطَى كُل وَارِثٍ الْيَقِينَ،
وَيُوقَفُ الْبَاقِي حَتَّى يَصْطَلِحُوا عَلَيْهِ.
ثُمَّ قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَيُحْتَمَل أَنْ يُقْسَمَ بَيْنَهُمْ عَلَى
حَسَبِ الاِحْتِمَال (2) .
وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِرْثٌ) .
فِي الْعِدَّةِ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى انْقِضَاءِ عِدَّةِ الْحَامِل بِانْفِصَال
جَمِيعِ الْوَلَدِ إِذَا كَانَ الْحَمْل وَاحِدًا وَلَكِنَّهُمُ
اخْتَلَفُوا فِيمَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ إِذَا كَانَ الْحَمْل
اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَر.
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 28، وحاشبة ابن عابدين 3 / 332، والمغني لابن قدامة 6
/ 313.
(2) المغني لابن قدامة 6 / 318.
(14/105)
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى
أَنَّ عِدَّتَهَا لاَ تَنْقَضِي إِلاَّ بِوَضْعِ آخِرِ التَّوَائِمِ؛
لأَِنَّهَا لاَ تَكُونُ وَاضِعَةً لِحَمْلِهَا مَا لَمْ يَخْرُجْ كُلُّهُ،
وَالْحَمْل اسْمٌ لِلْجَمِيعِ.
وَذَهَبَ عِكْرِمَةُ وَأَبُو قِلاَبَةَ إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي
بِأَوَّل التَّوَائِمِ، وَلَكِنَّهَا لاَ تَتَزَوَّجُ حَتَّى تَضَعَ
الأَْخِيرَ مِنَ التَّوَائِمِ (1) .
فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْجَنِينِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ ضَرَبَ بَطْنَ امْرَأَةٍ
حَامِلٍ فَأَلْقَتْ جَنِينَيْنِ أَوْ أَجِنَّةً فَفِي كُل وَاحِدٍ غُرَّةٌ
لأَِنَّهُ ضَمَانُ آدَمِيٍّ فَتَعَدَّدَ بِتَعَدُّدِهِ.
وَإِنْ أَلْقَتْهُمْ أَحْيَاءَ فِي وَقْتٍ يَعِيشُونَ فِي مِثْلِهِ، ثُمَّ
مَاتُوا فَفِي كُل وَاحِدٍ دِيَةٌ كَامِلَةٌ. وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ
حَيًّا فَمَاتَ، وَبَعْضُهُمْ مَيِّتًا، فَفِي الْحَيِّ دِيَةٌ، وَفِي
الْمَيِّتِ غُرَّةٌ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ هَذَا إِذَا مَاتَ عَاجِلاً بَعْدَ
الضَّرْبِ، لأَِنَّ مَوْتَهُ بِالْفَوْرِ يَدُل عَلَى أَنَّهُ مَاتَ مِنْ
ضَرْبِ الْجَانِي.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا مَاتَتِ الأُْمُّ الْمَضْرُوبَةُ ثُمَّ خَرَجَا
مَيِّتَيْنِ، أَوْ خَرَجَ أَحَدُهُمَا مَيِّتًا قَبْل مَوْتِ الأُْمِّ،
ثُمَّ خَرَجَ الآْخَرُ مَيِّتًا بَعْدَ مَوْتِهَا.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 200، 2 / 604، وجواهر الإكليل 1 / 387، والقوانين
الفقهية ص241، وحاشية الباجوري 2 / 174، والمغني لابن قدامة 7 / 474.
(14/106)
شَيْءٌ فِي الَّذِي خَرَجَ بَعْدَ مَوْتِ
الأُْمِّ، وَهُوَ مَيِّتٌ؛ لأَِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى أَعْضَاءِ الأُْمِّ،
وَسَقَطَ ضَمَانُ أَعْضَائِهَا بِمَوْتِهَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ غُرَّتَيْنِ فِي
اللَّذَيْنِ خَرَجَا مَيِّتِينَ بَعْدَ مَوْتِ الأُْمِّ، وَكَذَلِكَ فِي
الَّذِي خَرَجَ مِنْهُمَا بَعْدَ مَوْتِهَا؛ لأَِنَّهُ جَنِينٌ خَرَجَ
بِجِنَايَةٍ، فَوَجَبَ ضَمَانُهُ كَاَلَّذِي خَرَجَ قَبْل مَوْتِ الأُْمِّ؛
وَلأَِنَّهُ آدَمِيٌّ مَوْرُوثٌ فَلاَ يَدْخُل فِي ضَمَانِ أُمِّهِ كَمَا
لَوْ خَرَجَ حَيًّا فَمَاتَ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَشْهَبُ مِنَ
الْمَالِكِيَّةِ (1) .
وَأَمَّا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ أَسْقَطَ أَجِنَّةً خَطَأً.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْجَانِي عَنْ كُل
جَنِينٍ مِنَ التَّوَائِمِ؛ لأَِنَّهُ آدَمِيٌّ مَعْصُومٌ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَل مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُؤْمِنَةٍ} (2)
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنْ لاَ كَفَّارَةَ فِي الأَْجِنَّةِ إِنْ
خَرَجُوا أَمْوَاتًا، وَلَكِنْ يُنْدَبُ لِلْجَانِي أَنْ يُكَفِّرَ (3) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 377، وجواهر الإكليل 2 / 267، والقوانين الفقهية
352، والدسوقي 4 / 269، والمغني لابن قدامة 7 / 802، 806، ومغني المحتاج 4
/ 103، 104.
(2) سورة النساء / 92.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 378، ومغني المحتاج 4 / 108، والمغني لابن قدامة
7 / 815.
(14/106)
تَوًى
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّوَى وِزَانُ الْحَصَى، مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ الْهَلاَكُ،
يُقَال تَوَى يَتْوَى كَرَضِي يَرْضَى أَيْ هَلَكَ، وَأَتْوَاهُ اللَّهُ
فَهُوَ تَوٌّ. قَال فِي اللِّسَانِ: التَّوَى بِالْقَصْرِ. وَقَدْ يُمَدُّ
فَيُقَال: تَوَاءُ.
وَجَاءَ فِي اللِّسَانِ أَنَّ التَّوَى الْهَلاَكُ، وَذَهَابُ مَالٍ لاَ
يُرْجَى مِنْ تَوَى الْمَال يَتْوَى تَوًى (1) .
وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ فِي الْمَعْنَى نَفْسِهِ،
أَيِ الْهَلاَكِ، وَذَهَابِ الْمَال (2) . وَقَدْ عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ
فِي بَحْثِ الْحَوَالَةِ بِالْعَجْزِ عَنِ الْوُصُول إلَى الْحَقِّ،
وَذَلِكَ بِجُحُودِ الْمُحَال عَلَيْهِ أَوْ مَوْتِهِ مُفْلِسًا كَمَا
سَيَأْتِي (3) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
بَحَثَ الْفُقَهَاءُ حُكْمَ التَّوَى فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا:
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب، في المادة، تاج العروس 10 / 54 ط القاهرة.
(2) ابن عابدين 4 / 292، والمقنع 2 / 276، والمغني 6 / 387، والمغرب
للمطرزي.
(3)) ابن عابدين 4 / 292، 293، والعناية بهامش فتح القدير 6 / 352.
(14/107)
الْحَوَالَةُ، الْوَدِيعَةُ، وَالرَّهْنُ،
عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي:
أَوَّلاً - التَّوَى فِي الْحَوَالَةِ:
2 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا تَوَى حَقُّ الْمُحَال بِمَوْتِ
الْمُحَال عَلَيْهِ أَوْ إِفْلاَسِهِ فَهَل لِلْمُحَال حَقُّ الرُّجُوعِ
عَلَى الْمُحِيل أَمْ لاَ؟
فَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا
أَحَال الشَّخْصُ آخَرَ عَلَى ثَالِثٍ بِشُرُوطِ الإِْحَالَةِ بَرِئَتْ
ذِمَّةُ الْمُحِيل، وَلاَ حَقَّ لِلْمُحَال فِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى
الْمُحِيل بِأَيِّ وَجْهٍ، حَتَّى إِنْ تَعَذَّرَ أَخْذُ الْمُحَال بِهِ
مِنْهُ بِفَلَسٍ أَوْ غَيْرِهِ، كَجَحْدٍ، أَوْ مَطْلٍ، أَوْ مَوْتٍ؛
لأَِنَّ الْحَوَالَةَ تَنْقُل الدَّيْنَ مِنْ ذِمَّةِ الْمُحِيل إِلَى
ذِمَّةِ الْمُحَال عَلَيْهِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: بِعَدَمِ رُجُوعِ الْمُحَال وَإِنْ شَرَطَ يَسَارَ
الْمُحَال عَلَيْهِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ شَرَطَ الرُّجُوعَ عِنْدَ
التَّعَذُّرِ بِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ لَمْ تَصِحَّ الْحَوَالَةُ أَصْلاً
(2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: بِعَدَمِ رُجُوعِ الْمُحَال وَلَوْ كَانَتِ
الْحَوَالَةُ عَلَى غَيْرِ مَلِيءٍ بِرِضَاهُ، إِذَا لَمْ يَشْتَرِطْ
يَسَارَ الْمُحَال عَلَيْهِ (3) .
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مَا إِذَا كَانَ يَعْلَمُ الْمُحِيل فَقَطْ
(دُونَ الْمُحَال) بِإِفْلاَسِ الْمُحَال عَلَيْهِ، فَفِي هَذِهِ
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 108، والقليوبي 2 / 318، 319، وكشاف القناع 3 / 383.
(2) الجمل على شرح المنهج 3 / 375.
(3) كشاف القناع 3 / 383، 384.
(14/107)
الصُّورَةِ يَرْجِعُ الْمُحَال عَلَى
الْمُحِيل؛ لأَِنَّهُ غَرَّهُ (1) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ لِلْمُحَال حَقَّ
الرُّجُوعِ عَلَى الْمُحِيل فِي حَالَةِ التَّوَى، حَيْثُ قَالُوا: لاَ
يَرْجِعُ الْمُحَال عَلَى الْمُحِيل إِلاَّ بِالتَّوَى، بِأَنْ يَجْحَدَ
الْمُحَال عَلَيْهِ الْحَوَالَةَ وَيَحْلِفَ وَلاَ بَيِّنَةَ لِلْمُحِيل
وَلاَ لِلْمُحَال، أَوْ أَنْ يَمُوتَ الْمُحَال عَلَيْهِ مُفْلِسًا عِنْدَ
أَبِي حَنِيفَةَ، أَوْ بِأَنْ يُفَلِّسَهُ الْحَاكِمُ فِي حَيَاتِهِ عِنْدَ
أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَفْلِيسَ الْقَاضِي
يَصِحُّ عِنْدَهُمَا وَلاَ يَصِحُّ عِنْدَهُ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ: (حَوَالَةٌ) .
ثَانِيًا - التَّوَى فِي الْوَدِيعَةِ:
3 - الأَْصْل فِي الْوَدِيعَةِ أَنْ لاَ يُخْرِجَهَا الْوَدِيعُ عَنْ
مَكَانٍ عَيَّنَهُ رَبُّ الْوَدِيعَةِ لِحِفْظِهَا، فَإِذَا حَفِظَهَا
الْوَدِيعُ فِي مَكَان عَيَّنَهُ الْمُودِعُ، وَلَمْ يَخْشَ عَلَيْهَا
فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ خِلاَفٍ؛ لأَِنَّهُ مُمْتَثِلٌ لأَِمْرِهِ
غَيْرُ مُفَرِّطٍ فِي مَالِهِ.
وَإِنْ خَافَ عَلَيْهَا سَيْلاً وَتَوًى - أَيْ هَلاَكًا - فَأَخْرَجَهَا
مِنْهُ إِلَى حِرْزِهَا فَتَلِفَتْ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ
خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا، لأَِنَّ نَقْلَهَا فِي هَذِهِ
الْحَالَةِ تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِحِفْظِهَا، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِحِفْظِهَا.
__________
(1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 328.
(2) ابن عابدين 4 / 293.
(14/108)
وَإِنْ لَمْ يَخَفْ عَلَيْهَا فَنَقَلَهَا
عَنِ الْحِرْزِ إِلَى مَا دُونَهُ ضَمِنَهَا، لأَِنَّهُ خَالَفَهُ فِي
الْحِفْظِ الْمَأْمُورِ بِهِ (1) . وَلِلتَّفْصِيل (ر: وَدِيعَةٌ) .
ثَالِثًا - التَّوَى فِي الرَّهْنِ:
4 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ يَجُوزُ وَضْعُ الرَّهْنِ عَلَى يَدِ
عَدْلٍ وَيَتِمُّ بِقَبْضِهِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِذَا هَلَكَ فَهَل
يَهْلِكُ مِنْ ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ أَوِ الرَّاهِنِ؟ فِيهِ تَفْصِيلٌ
وَخِلاَفٌ مَوْضِعُهُ مُصْطَلَحُ: (رَهْنٌ) .
لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ الْعَدْل
الْمُسَلَّطُ عَلَى بَيْعِهِ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ رَهْنًا؛ لأَِنَّهُ
صَارَ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي، وَصَارَ ثَمَنُهُ هُوَ الرَّهْنُ؛ لأَِنَّهُ
قَامَ مَقَامَهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَقْبُوضًا أَمْ غَيْرَ مَقْبُوضٍ حَتَّى
لَوْ تَوَى عِنْدَ الْمُشْتَرِي كَانَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ وَيَهْلِكُ
بِالأَْقَل مِنْ قَدْرِ الثَّمَنِ وَمِنَ الدَّيْنِ؛ لِبَقَاءِ عَقْدِ
الرَّهْنِ فِي الثَّمَنِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْمَبِيعِ الْمَرْهُونِ (2)
.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (رَهْنٌ) .
__________
(1) ابن عابدين 4 / 495 وما بعدها، والمهذب 1 / 367، والمغني لابن قدامة 6
/ 387، والمقنع 2 / 176.
(2) ابن عابدين 5 / 2325، والبناية على الهداية 9 / 108 والبدائع 6 / 149.
(14/108)
تَوَاتُرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّوَاتُرُ فِي اللُّغَةِ: التَّتَابُعُ، وَقِيل: هُوَ تَتَابُعُ
الأَْشْيَاءِ، وَبَيْنَهَا فَجَوَاتٌ وَفَتَرَاتٌ. وَالْمُتَوَاتِرُ:
الشَّيْءُ يَكُونُ هُنَيْهَةً ثُمَّ يَجِيءُ الآْخَرُ، فَإِذَا تَتَابَعَتْ
فَلَيْسَتْ مُتَوَاتِرَةً إِنَّمَا هِيَ مُتَدَارِكَةٌ وَمُتَتَابِعَةٌ.
وَالْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ لُغَةً: أَنْ يُحَدِّثَهُ وَاحِدٌ عَنْ وَاحِدٍ
(1) .
وَلِلْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ فِي اصْطِلاَحِ الأُْصُولِيِّينَ
وَالْفُقَهَاءِ عِدَّةُ تَعَارِيفَ، وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً
فِي الأَْلْفَاظِ إِلاَّ أَنَّهَا مُتَّفِقَةً فِي الْمَعْنَى.
فَعَرَّفَهُ صَاحِبُ الْمَحْصُول بِأَنَّهُ: خَبَرُ أَقْوَامٍ بَلَغُوا فِي
الْكَثْرَةِ إِلَى حَيْثُ حَصَل الْعِلْمُ بِقَوْلِهِمْ. وَقَال صَاحِبُ
كَشْفِ الأَْسْرَارِ: هُوَ خَبَرُ جَمَاعَةٍ مُفِيدٌ بِنَفْسِهِ الْعِلْمَ
بِصِدْقِهِ. وَعَرَّفَهُ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ بِأَنَّهُ: خَبَرُ جَمَاعَةٍ
يُفِيدُ الْعِلْمَ، لاَ بِالْقَرَائِنِ الْمُنْفَصِلَةِ.
وَقَال صَاحِبُ دُسْتُورِ الْعُلَمَاءِ: التَّوَاتُرُ هُوَ إِخْبَارُ
قَوْمٍ دَفْعَةً أَوْ مُتَفَرِّقًا بِأَمْرٍ لاَ يُتَصَوَّرُ عَادَةً
__________
(1) لسان العرب مادة: " وتر ".
(14/109)
تَوَاطُؤُهُمْ وَتَوَافُقُهُمْ عَلَيْهِ
بِالْكَذِبِ.
وَالْفُقَهَاءُ لاَ يَقْصُرُونَ اسْتِعْمَالَهُ عَلَى الْمَعْنَى
الاِصْطِلاَحِيِّ بَل قَدْ يَعُدُّونَهُ إِلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
كَمَا سَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الآْحَادُ:
2 - الآْحَادُ فِي اللُّغَةِ: جَمْعُ أَحَدٍ. وَالأَْحَدُ مِنْ أَسْمَاءِ
اللَّهِ تَعَالَى: وَهُوَ الْفَرْدُ الَّذِي لَمْ يَزَل وَحْدَهُ وَلَمْ
يَكُنْ مَعَهُ آخَرُ. وَالأَْحَدُ: بِمَعْنَى الْوَاحِدِ، وَهُوَ أَوَّل
الْعَدَدِ. وَخَبَرُ الآْحَادِ فِي الاِصْطِلاَحِ: خَبَرٌ لاَ يُفِيدُ
بِنَفْسِهِ الْعِلْمَ ". وَقِيل " مَا يُفِيدُ الظَّنَّ (2) ".
فَالنِّسْبَةُ بَيْنَ التَّوَاتُرِ وَالآْحَادِ التَّضَادُّ وَخَبَرُ
الآْحَادِ يَشْمَل الْمَشْهُورَ، وَالْعَزِيزَ وَالْغَرِيبَ. وَتَفْصِيل
ذَلِكَ فِي عِلْمِ مُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - اتَّفَقَ الأُْصُولِيُّونَ عَلَى أَنَّ التَّوَاتُرَ يُفِيدُ
__________
(1) المحصول الجزء الثاني - القسم الأول / 323، وكشف الأسرار 2 / 360،
وتيسير التحرير 3 / 30، والأحكام للآمدي 2 / 14، والكليات 2 / 97 فصل
التاء، والتعريفات 70، ودستور العلماء 1 / 364 باب التاء مع الواو.
(2) لسان العرب مادة: " أحد "، وتيسير التحرير 3 / 37.
(14/109)
الْعِلْمَ، وَالْجُمْهُورُ مِنْهُمْ وَمِنَ
الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْعِلْمَ ضَرُورِيٌّ، وَذَهَبَ أَبُو
الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ وَالْكَعْبِيُّ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَإِمَامُ
الْحَرَمَيْنِ وَالدَّقَّاقُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّهُ
نَظَرِيٌّ، وَتَوَقَّفَ الآْمِدِيُّ وَفَصَّل الْغَزَالِيُّ فَقَال: هُوَ
ضَرُورِيٌّ بِمَعْنَى أَنَّهُ لاَ يُحْتَاجُ فِي حُصُولِهِ إِلَى
الشُّعُورِ بِتَوَسُّطِ وَاسِطَةٍ مُفْضِيَةٍ إِلَيْهِ، مَعَ أَنَّ
الْوَاسِطَةَ حَاضِرَةٌ فِي الذِّهْنِ، وَلَيْسَ ضَرُورِيًّا بِمَعْنَى
أَنَّهُ حَاصِلٌ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ.
وَحَتَّى يُفِيدَ التَّوَاتُرُ الْعِلْمَ لاَ بُدَّ أَنْ تَتَوَفَّرَ فِيهِ
شُرُوطٌ مُعَيَّنَةٌ، بَعْضُهَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُخْبِرِينَ وَبَعْضُهَا
يَرْجِعُ إلَى الْمُسْتَمِعِينَ، وَبَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ،
وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَفِيمَا يَلِي الشُّرُوطُ الْمُتَّفَقُ
عَلَيْهَا، أَمَّا الشُّرُوطُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا وَمُنَاقَشَتُهَا
فَتَفْصِيلُهَا فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ وَعِلْمِ مُصْطَلَحِ
الْحَدِيثِ.
4 - فَالشُّرُوطُ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى الْمُخْبِرِينَ وَهِيَ مَحَل
اتِّفَاقِ الأُْصُولِيِّينَ أَرْبَعَةٌ:
أَوَّلُهَا: أَنْ يُخْبِرُوا عَنْ عِلْمٍ لاَ عَنْ ظَنٍّ.
ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ عِلْمُهُمْ ضَرُورِيًّا مُسْتَنِدًا إِلَى
مَحْسُوسٍ.
ثَالِثُهَا: أَنْ يَسْتَوِيَ طَرَفَاهُ وَوَسَطُهُ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ،
وَفِي كَمَال الْعَدَدِ.
رَابِعُهَا: الْعَدَدُ الْكَامِل الَّذِي يُفِيدُ الْعِلْمَ،
وَالْمَقْصُودُ بِالْكَامِل هُوَ أَقَل عَدَدٍ يُورِثُ الْعِلْمَ أَوْ هُوَ
تَعَدُّدُ النَّقَلَةِ بِحَيْثُ يَمْنَعُ التَّوَاطُؤَ عَادَةً عَلَى
(14/110)
الْكَذِبِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَدَدِ فَقِيل: أَقَلُّهُ خَمْسَةٌ، وَقِيل: اثْنَا
عَشَرَ، وَقِيل: عِشْرُونَ. وَقِيل: أَرْبَعُونَ، وَقِيل: سَبْعُونَ،
وَقِيل: ثَلاَثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ عَدَدُ أَهْل بَدْرٍ، وَقِيل:
عَدَدُ أَهْل بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ (أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ) .
وَقِيل: لَيْسَ مَعْلُومًا لَنَا لَكِنَّا بِحُصُول الْعِلْمِ
الضَّرُورِيِّ نَتَبَيَّنُ كَمَال الْعَدَدِ، لاَ أَنَّا بِكَمَال
الْعَدَدِ نَسْتَدِل عَلَى حُصُول الْعِلْمِ.
وَضَابِطُهُ: مَا حَصَل الْعِلْمُ عِنْدَهُ، وَهَذَا اخْتِيَارُ كَثِيرٍ
مِنَ الأُْصُولِيِّينَ مِنْهُمْ الْغَزَالِيُّ، وَالرَّازِيُّ، وَابْنُ
الْهُمَامِ وَوَأَمِيرُ بَادْشَاهْ شَارِحُ التَّحْرِيرِ، وَسَعْدُ
الدِّينِ التَّفْتَازَانِيُّ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ الْبُخَارِيُّ صَاحِبُ
(كَشْفِ الأَْسْرَارِ) .
وَأَمَّا الشُّرُوطُ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى الْمُسْتَمِعِينَ فَشَرْطَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ لاَ يَكُونَ السَّامِعُ عَالِمًا بِمَا أُخْبِرَ بِهِ.
ثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ أَهْلاً لِقَبُول الْعِلْمِ بِمَا أُخْبِرَ
بِهِ.
أَقْسَامُ التَّوَاتُرِ:
5 - التَّوَاتُرُ يَنْقَسِمُ إِلَى لَفْظِيٍّ وَمَعْنَوِيٍّ،
فَاللَّفْظِيُّ: هُوَ مَا تَوَاتَرَ لَفْظُهُ كَحَدِيثِ: مَنْ كَذَبَ
عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا (1) ".
__________
(1) حديث: " من كذب علي متعمدا فليتوبأ مقعده من النار. . . . " أخرجه
البخاري (فتح الباري 3 / 160 ط السلفية) ، ومسلم، (1 / 10 ط الحلبي) .
(14/110)
وَالْمَعْنَوِيُّ: هُوَ نَقْل رُوَاةِ
الْخَبَرِ قَضَايَا مُتَعَدِّدَةً بَيْنَهَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ عَلَى
جِهَةِ التَّضَمُّنِ أَوِ الاِلْتِزَامِ.
أَوْ هُوَ نَقْل جَمَاعَةٍ يَسْتَحِيل تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ
وَقَائِعَ مُخْتَلِفَةً تَشْتَرِكُ فِي أَمْرٍ يَتَوَاتَرُ ذَلِكَ
الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ، كَمَا نُقِل عَنْ شَجَاعَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، وَكَرَمِ حَاتِمٍ، وَكَأَحَادِيثِ الْمَسْحِ عَلَى
الْخُفَّيْنِ.
ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا كَانَ الْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ يُفِيدُ الْعِلْمَ
الْقَطْعِيَّ فَلاَ يَنْسَخُهُ إِلاَّ مَا يُفِيدُ الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ
مِثْلَهُ. وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ الْخَبَرِ
الْمُتَوَاتِرِ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ
نَسْخِ الْمُتَوَاتِرِ بِالآْحَادِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ
الأُْصُولِيِّينَ إِلَى مَنْعِهِ؛ وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمُتَوَاتِرَ
قَطْعِيٌّ وَخَبَرُ الآْحَادِ ظَنِّيٌّ فَلاَ يُبْطِلُهُ؛ لأَِنَّ
الشَّيْءَ لاَ يُبْطِل أَقْوَى مِنْهُ، وَنَقَل صَاحِبُ الْبُرْهَانِ
الإِْجْمَاعَ عَلَيْهِ، وَنَقَل صَاحِبُ تَيْسِيرِ التَّحْرِيرِ جَوَازَهُ
عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَال الرَّازِيُّ فِي الْمَحْصُول: هُوَ جَائِزٌ فِي الْعَقْل غَيْرُ
وَاقِعٍ فِي السَّمْعِ عِنْدَ الأَْكْثَرِينَ.
وَذَهَبَ الْغَزَالِيُّ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ عَقْلاً لَوْ تَعَبَّدَ بِهِ،
وَوُقُوعُهُ سَمْعًا فِي زَمَانِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَلَكِنْ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ بَعْدَ وَفَاتِهِ.
وَذَهَبَ صَاحِبُ التَّوْضِيحِ إِلَى جَوَازِ نَسْخِ الْمُتَوَاتِرِ
بِالْمَشْهُورِ مِنَ الآْحَادِ فَقَطْ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ مِنْ
(14/111)
حَيْثُ إِنَّهُ بَيَانٌ يَجُوزُ
بِالآْحَادِ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَبْدِيلٌ يُشْتَرَطُ فِيهِ
التَّوَاتُرُ فَيَجُوزُ بِمَا هُوَ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَهُمَا وَهُوَ
الْمَشْهُورُ.
6 - ثُمَّ إِنَّهُ لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ كُل مَا هُوَ
مِنَ الْقُرْآنِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَوَاتِرًا فِي أَصْلِهِ
وَأَجْزَائِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ التَّوَاتُرِ فِي مَحَلِّهِ
وَوَضْعِهِ وَتَرْتِيبِهِ.
فَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الأُْصُولِيِّينَ إِلَى أَنَّ التَّوَاتُرَ لَيْسَ
بِشَرْطٍ فِي مَحَلِّهِ وَوَضْعِهِ وَتَرْتِيبِهِ، بَل يَكْثُرُ فِيهَا
نَقْل الآْحَادِ. قَال السُّيُوطِيّ: الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَهْل
السُّنَّةِ عَلَى وُجُوبِ التَّوَاتُرِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا (1) .
(وَلِلتَّفْصِيل رَاجِعِ الْمُلْحَقَ الأُْصُولِيَّ) .
__________
(1) المستصفى 1 / 136 وما بعدها، والبرهان 1 / 567 وما بعدها، 579، 2 /
1311، والمحصول القسم الأول من الجزء الثاني / 323 وما بعدها، 377،
والمحصول 2 / القسم الأول 368، 383، والمحصول 1 / القسم الثالث 498، وتيسير
التحرير 3 / 30 وما بعدها 34، 36، وكشف الأسرار 2 / 360 وما بعدها،
والتلويح على التوضيح 2 / 2، 3، 36، والأحكام للآمدي 2 / 18، 19، 23، 25،
27، وتدريب الراوي 374، ومسلم الثبوت 2 / 9، 13، والإتقان 1 / 77 وما بعدها
ط مصطفى الحلبي.
(14/111)
تَوَاطُؤٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّوَاطُؤُ مَصْدَرُ تَوَاطَأَ، وَأَصْل فِعْلِهِ الثُّلاَثِيِّ:
وَطِئَ
وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: التَّوَافُقُ، يُقَال: تَوَاطَأْنَا عَلَى
الأَْمْرِ: تَوَافَقْنَا، وَتَوَاطَئُوا عَلَيْهِ: إِذَا تَوَافَقُوا،
وَحَقِيقَتُهُ كَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا وَطِئَ مَا وَطِئَهُ الآْخَرُ،
وَالْمُتَوَاطِئُ الْمُتَوَافِقُ (1) .
وَفِي حَدِيثِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ: أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي
السَّبْعِ الأَْوَاخِرِ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّمَالُؤُ:
2 - التَّمَالُؤُ فِي اللُّغَةِ: الاِجْتِمَاعُ وَالتَّعَاوُنُ، يُقَال:
تَمَالَئُوا عَلَى الأَْمْرِ: إِذَا تَعَاوَنُوا، وَقَال ابْنُ
__________
(1) لسان العرب 3 / 946، تاج العروس 1 / 495.
(2) حديث: " أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر " أخرجه البخاري (فتح
الباري 4 / 256 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 823 ط عيسى الحلبي) .
(14/112)
السِّكِّيتِ: اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، وَقَال
أَبُو عُبَيْدٍ: يُقَال لِلْقَوْمِ إِذَا تَتَابَعُوا بِرَأْيِهِمْ عَلَى
أَمْرٍ قَدْ تَمَالَئُوا عَلَيْهِ (1) .
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَتَل
سَبْعَةَ نَفَرٍ بِرَجُلٍ قَتَلُوهُ غِيلَةً وَقَال: لَوْ تَمَالأََ
عَلَيْهِ أَهْل صَنْعَاءَ لأََقَدْتهمْ بِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ:
لَقَتَلْتهمْ، يَقُول: لَوْ تَضَافَرُوا عَلَيْهِ وَتَعَاوَنُوا
وَتَسَاعَدُوا.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
ب - التَّضَافُرُ:
3 - وَمَعْنَاهُ التَّعَاوُنُ وَالتَّجَمُّعُ، يُقَال تَضَافَرَ الْقَوْمُ.
إِذَا تَعَاوَنُوا، وَضَافَرْتُهُ: عَاوَنْتُهُ، قَال ابْنُ سِيدَهْ:
تَضَافَرَ الْقَوْمُ عَلَى الأَْمْرِ. تَظَاهَرُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَيْهِ
(2) .
وَهَذِهِ الأَْلْفَاظُ مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى بَل
كَالْمُتَرَادِفَةِ.
__________
(1) لسان العرب 3 / 518، والمصباح المنير 2 / 580، والقاموس المحيط 1 / 30،
والمغرب 432.
(2) المصباح المنير 2 / 363، ولسان العرب 2 / 540.
(14/112)
ج - التَّصَادُقُ:
4 - التَّصَادُقُ وَالْمُصَادَقَةُ وَالصَّدَاقُ وَالصَّدَاقَةُ
وَالْمُخَالَّةُ بِمَعْنًى.
وَهُوَ مَصْدَرُ تَصَادَقَ، وَأَصْل فِعْلِهِ صَدَقَ، يُقَال: صَدَقَهُ
النَّصِيحَةَ وَالإِْخَاءَ أَمْحَضَهُ لَهُ، وَتَصَادَقَا فِي الْحَدِيثِ
وَفِي الْمَوَدَّةِ ضِدُّ تَكَاذَبَا (1) .
وَالتَّوَاطُؤُ تَوَافُقُ شَخْصَيْنِ أَوْ أَكْثَر عَلَى أَمْرٍ مَا إِمَّا
مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبَيْنِ. أَمَّا التَّصَادُقُ فَتَصْدِيقُ شَخْصٍ
لآِخَرَ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ، وَعَادَةً يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَسْبَقَ
مِنَ الآْخَرِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلتَّوَاطُؤِ بِاخْتِلاَفِ مَا
تُوُوطِئَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ يَكُونُ فِي مَوَاطِنَ مِنْهَا:
الْجِنَايَاتُ، وَالشَّهَادَاتُ، وَالرَّضَاعُ الْمُحَرِّمُ،
وَالإِْقْرَارُ بِالنَّسَبِ، وَالإِْقْرَارُ بِطَلاَقٍ سَابِقٍ،
وَالْوَطْءُ فِي حَال الطَّلاَقِ قَبْل الدُّخُول، وَالرَّجْعَةُ فِي
الْعِدَّةِ.
أَوَّلاً: التَّوَاطُؤُ فِي الْجِنَايَاتِ:
6 - التَّوَاطُؤُ فِي الْجِنَايَاتِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى النَّفْسِ
بِإِزْهَاقِهَا، أَوْ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ أَعْضَاءِ الْجَسَدِ
بِإِتْلاَفِهَا أَوِ الْعُدْوَانِ عَلَيْهَا.
الْجِنَايَةُ عَلَى النَّفْسِ:
7 - إِذَا تَوَاطَأَ جَمْعٌ عَلَى قَتْل وَاحِدٍ مَعْصُومِ الدَّمِ
__________
(1) تاج العروس ولسان العرب مادة: " صدق ".
(14/113)
عَمْدًا عُدْوَانًا، فَقَدْ ذَهَبَ
جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْجَمْعَ يُقْتَلُونَ بِالْفَرْدِ
الَّذِي تَمَّ التَّوَاطُؤُ عَلَى قَتْلِهِ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةٍ:
مِنْهَا، مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَتَل سَبْعَةً مِنْ صَنْعَاءَ
قَتَلُوا رَجُلاً وَقَال: لَوْ تَمَالأََ عَلَيْهِ أَهْل صَنْعَاءَ
لَقَتَلْتهمْ جَمِيعًا (1) . وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَتَل ثَلاَثَةً
قَتَلُوا رَجُلاً، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَتَل جَمَاعَةً
بِوَاحِدٍ، وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ مَعَ شُهْرَتِهِ فَصَارَ
إِجْمَاعًا سُكُوتِيًّا. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلأَِنَّ الْقِصَاصَ
عُقُوبَةٌ تَجِبُ لِلْوَاحِدِ عَلَى الْوَاحِدِ، فَوَجَبَتْ لِلْوَاحِدِ
عَلَى الْجَمَاعَةِ كَحَدِّ الْقَذْفِ، وَيُفَارِقُ الدِّيَةَ فَإِنَّهَا
تَتَبَعَّضُ وَالْقِصَاصُ لاَ يَتَبَعَّضُ؛ وَلأَِنَّ الْقِصَاصَ لَوْ
سَقَطَ بِالاِشْتِرَاكِ أَدَّى إِلَى التَّسَارُعِ بِالْقَتْل بِهِ،
فَيُؤَدِّي إِلَى إِسْقَاطِ حِكْمَةِ الرَّدْعِ وَالزَّجْرِ (2) .
وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى: لاَ يُقْتَلُونَ بِهِ وَتَجِبُ
عَلَيْهِمِ الدِّيَةُ، وَهَذَا قَوْل ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَالزُّهْرِيِّ،
وَابْنِ سِيرِينَ، وَرَبِيعَةَ، وَدَاوُد، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَحُكِيَ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَال: وَرُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ " وَغَيْرِهِ " أَنَّهُ يُقْتَل
وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَيُؤْخَذُ مِنَ الْبَاقِينَ حِصَصُهُمْ مِنَ الدِّيَةِ؛
لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُكَافِئٌ لَهُ فَلاَ تُسْتَوْفَى أَبْدَالٌ
بِمُبْدَلٍ وَاحِدٍ، كَمَا لاَ تَجِبُ دِيَاتٌ
__________
(1) حديث: أثر عمر " لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا " سبق تخريجه.
(2) المغني 7 / 671، 672.
(14/113)
لِمَقْتُولٍ وَاحِدٍ؛ وَلأَِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى قَال: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} (1) وَقَال: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ
فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (2) فَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لاَ
يُؤْخَذُ بِالنَّفْسِ أَكْثَرُ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدةٍ؛ وَلأَِنَّ
التَّفَاوُتَ فِي الأَْوْصَافِ يُمْنَعُ بِدَلِيل أَنَّ الْحُرَّ لاَ
يُؤْخَذُ بِالْعَبْدِ، وَالتَّفَاوُتُ فِي الْعَدَدِ أَوْلَى (3) .
وَلَكِنْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ فِي الْجُمْلَةِ
عَلَى (قَتْل الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ) اخْتَلَفُوا فِي التَّفْصِيل.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُقْتَل جَمْعٌ بِمُفْرَدٍ إِنْ جَرَحَ كُل وَاحِدٍ
جُرْحًا مُهْلِكًا مَعًا؛ لأَِنَّ زَهُوقَ الرُّوحِ يَتَحَقَّقُ
بِالْمُشَارَكَةِ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُتَجَزِّئٍ بِخِلاَفِ الأَْطْرَافِ،
وَاشْتِرَاكُ الْجَمَاعَةِ فِيمَا لاَ يَتَجَزَّأُ يُوجِبُ التَّكَامُل فِي
حَقِّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَيُضَافُ إِلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَمَلاً
كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ كَوِلاَيَةِ الإِْنْكَاحِ، فَإِنْ كَانَ
جُرْحُ الْبَعْضِ مُهْلِكًا، وَجُرْحُ الآْخَرِينَ غَيْرَ مُهْلِكٍ،
فَالْقَوَدُ عَلَى ذِي الْجُرْحِ الْمُهْلِكِ، وَعَلَى الآْخَرِينَ
التَّعْزِيرُ، وَالدِّيَةُ - فِي الظَّاهِرِ - لِتَعَمُّدِهِمْ، أَمَّا
إِذَا بَاشَرَ الْقَتْل بَعْضُهُمْ وَكَانَ الآْخَرُونَ نِظَارَةً أَوْ
مُغْرِينَ فَلاَ قَوَدَ وَلاَ دِيَةَ (4) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُقْتَل الْجَمْعُ الْمُتَمَالِئُونَ عَلَى
__________
(1) سورة البقرة / 178.
(2) سورة المائدة / 45.
(3) المغني 7 / 671، 672.
(4) رد المحتار على الدر المختار 5 / 357.
(14/114)
قَتْل شَخْصٍ إِنْ تَمَالَئُوا بِضَرْبِهِ
بِنَحْوِ سُيُوفٍ، أَوْ بِسَوْطٍ مِنْ أَحَدِهِمْ وَسَوْطٍ مِنْ آخَرَ،
وَهَكَذَا حَتَّى مَاتَ فَيُقْتَلُونَ بِهِ؛ لِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، هَذَا إِذَا كَانَ جَمِيعُ الْمُتَمَالِئِينَ
مُكَلَّفِينَ، فَإِنْ اشْتَرَكَ مُكَلَّفٌ مَعَ صَبِيٍّ فِي قَتْل
مَعْصُومِ الدَّمِ، فَعَلَى الْمُكَلَّفِ الْقِصَاصُ، وَعَلَى عَاقِلَةِ
الصَّبِيِّ نِصْفُ الدِّيَةِ إِنْ تَمَالآَ عَلَى قَتْلِهِ.
وَعِنْدَهُمْ: أَنَّهُ إِنْ تَعَدَّدَ مَنْ بَاشَرُوا الضَّرْبَ أَوِ
الْجُرْحَ الْعَمْدَ الْعُدْوَانَ الَّذِي نَشَأَ عَنْهُ الْمَوْتُ، فَإِنْ
كَانُوا تَمَالَئُوا عَلَى قَتْلِهِ، يُقْتَل الْجَمِيعُ بِقَتْل وَاحِدٍ
إِنْ مَاتَ مَكَانَهُ، أَوْ رُفِعَ مَغْمُورًا حَتَّى مَاتَ، لاَ فَرْقَ
بَيْنَ الأَْقْوَى ضَرْبًا وَغَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُمَالأََةٌ
عَلَى قَتْلِهِ، بِأَنْ قَصَدَ كُلٌّ مِنْهُمْ قَتْلَهُ بِانْفِرَادِهِ
مِنْ غَيْرِ اتِّفَاقٍ مَعَ غَيْرِهِ، أَوْ قَصَدَ كُلٌّ مِنْهُمْ ضَرْبَهُ
بِلاَ قَصْدِ قَتْلٍ فَمَاتَ. . . قُدِّمَ الأَْقْوَى فِعْلاً حَيْثُ
تَمَيَّزَتْ أَفْعَالُهُمْ فَيُقْتَل، وَيُقْتَصُّ مِمَّنْ جَرَحَ أَوْ
قَطَعَ، وَيُؤَدَّبُ مَنْ لَمْ يَجْرَحْ، فَإِنْ لَمْ تَتَمَيَّزِ
الضَّرَبَاتُ بِأَنْ تَسَاوَتْ أَوْ لَمْ يُعْلَمِ الأَْقْوَى قُتِل
الْجَمِيعُ إِنْ مَاتَ مَكَانَهُ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، وَإِلاَّ
فَوَاحِدٌ بِقَسَامَةٍ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُقْتَل الْجَمْعُ بِوَاحِدٍ وَإِنْ تَفَاضَلَتِ
الْجِرَاحَاتُ فِي الْعَدَدِ، وَالْفُحْشِ، وَالأَْرْشِ، حَيْثُ كَانَ
لَهَا دَخْلٌ فِي الزَّهُوقِ سَوَاءٌ أَقَتَلُوهُ بِمُحَدَّدٍ، أَمْ
بِمُثَقَّلٍ، أَمْ أَلْقَوْهُ مِنْ شَاهِقٍ،
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 245 - 249، وجواهر الإكليل 2 / 257
- 258.
(14/114)
أَوْ فِي بَحْرٍ؛ لأَِنَّ الْقِصَاصَ
عُقُوبَةٌ لِلْوَاحِدِ عَلَى الْوَاحِدِ فَيَجِبُ لَهُ عَلَى الْجَمَاعَةِ
كَحَدِّ الْقَذْفِ؛ وَلأَِنَّهُ شُرِعَ لِحَقْنِ الدِّمَاءِ، فَلَوْ لَمْ
يَجِبْ عِنْدَ الاِشْتِرَاكِ لاَُتُّخِذَ ذَرِيعَةً إِلَى سَفْكِهَا؛
وَلِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
أَمَّا مَنْ لَيْسَ لِجُرْحِهِ أَوْ ضَرْبِهِ دَخْلٌ فِي الزَّهُوقِ
بِقَوْل أَهْل الْخِبْرَةِ فَلاَ يُعْتَبَرُ. وَلَوْ ضَرَبُوهُ بِسِيَاطٍ،
أَوْ عَصًا خَفِيفَةٍ فَقَتَلُوهُ وَضَرْبُ كُلٍّ مِنْهُمْ لاَ يَقْتُل،
قُتِلُوا إِنْ تَوَاطَئُوا أَيِ اتَّفَقُوا عَلَى ضَرْبِهِ. وَكَانَتْ
جُمْلَةُ السِّيَاطِ بِحَيْثُ يُقْصَدُ بِهَا الْهَلاَكُ (1) . وَإِنْ
وَقَعَ مُصَادَفَةً وَلَمْ يَعْلَمِ الْمُتَأَخِّرُ ضَرْبَ غَيْرِهِ،
فَالدِّيَةُ تَجِبُ عَلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ عَدَدِ الضَّرَبَاتِ إِنْ
عُلِمَ يَقِينًا، فَإِنْ جُهِل أَوْ شُكَّ فِيهِ فَالتَّوْزِيعُ عَلَى
الرُّءُوسِ كَالتَّوْزِيعِ فِي الْجِرَاحِ.
وَإِنَّمَا لَمْ يُعْتَبَرِ التَّوَاطُؤُ فِي الْجِرَاحَاتِ وَالضَّرَبَاتِ
الْمُهْلِكِ كُلٍّ مِنْهَا لَوِ انْفَرَدَ؛ لأَِنَّهَا قَاتِلَةٌ فِي
نَفْسِهَا وَيُقْصَدُ بِهَا الْهَلاَكُ مُطْلَقًا، وَالضَّرْبُ الْخَفِيفُ
لاَ يَظْهَرُ فِيهِ قَصْدُ الإِْهْلاَكِ مُطْلَقًا إِلاَّ بِالْمُوَالاَةِ
مِنْ وَاحِدٍ وَالْمُوَاطِئُ مِنْ جَمْعٍ.
وَلَوْ ضَرَبَ اثْنَانِ شَخْصًا بِسِيَاطٍ أَوْ عَصًا خَفِيفَةٍ
فَقَتَلُوهُ، وَضَرْبُ أَحَدِهِمَا يَقْتُل، وَضَرْبُ الآْخَرِ لاَ
يَقْتُل، فَإِنْ سَبَقَ الضَّرْبُ الَّذِي يَقْتُل
__________
(1) ذلك ما جاء في شرح المنهج، وفي نهاية المحتاج أن في القصاص أوجها أصحها
الوجوب في هذه الحالة، وفيها كذلك أن ضرب كل منهم لو كان قاتلا لو انفرد
وجب عليهم القود جزما.
(14/115)
كَخَمْسِينَ سَوْطًا مَثَلاً، ثُمَّ
تَبِعَهُ الضَّرْبُ الَّذِي لاَ يَقْتُل كَسَوْطَيْنِ حَالَةَ أَلَمِهِ
مِنْ ضَرْبِ الأَْوَّل، وَكَانَ الضَّارِبُ الثَّانِي عَالِمًا بِضَرْبِ
الأَْوَّل اُقْتُصَّ مِنْهُمَا، فَإِنْ كَانَ جَاهِلاً بِهِ فَلاَ قِصَاصَ،
وَعَلَى الأَْوَّل مِنْهُمَا حِصَّةُ ضَرْبِهِ مِنْ دِيَةِ الْعَمْدِ،
وَعَلَى الثَّانِي كَذَلِكَ مِنْ دِيَةِ شِبْهِهِ بِاعْتِبَارِ
الضَّرَبَاتِ.
وَإِنْ سَبَقَ الضَّرْبُ الَّذِي لاَ يَقْتُل، ثُمَّ تَبِعَهُ الَّذِي
يَقْتُل حَال الأَْلَمِ، وَلاَ تَوَاطُؤَ، فَلاَ قَوَدَ عَلَى وَاحِدٍ
مِنْهُمَا، بَل يَجِبُ عَلَى الضَّارِبِ الأَْوَّل حِصَّةُ ضَرْبِهِ مِنْ
دِيَةِ شِبْهِ الْعَمْدِ، وَعَلَى الثَّانِي حِصَّةُ ضَرْبِهِ مِنْ دِيَةِ
الْعَمْدِ بِاعْتِبَارِ الضَّرَبَاتِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْجَمَاعَةَ إِذَا قَتَلُوا وَاحِدًا
فَعَلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْقِصَاصُ، إِذَا كَانَ كُل وَاحِدٍ
مِنْهُمْ لَوِ انْفَرَدَ بِفِعْلِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: - بَعْدَ ذَلِكَ - رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ،
وَعَلِيٍّ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَال
سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو سَلَمَةَ، وَعَطَاءٌ،
وَقَتَادَةَ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالأَْوْزَاعِيِّ،
وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.
وَلاَ يُعْتَبَرُ - عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى
الْمُشْتَرِكِينَ التَّسَاوِي فِي سَبَبِهِ، فَلَوْ جَرَحَهُ رَجُلٌ
جُرْحًا، وَالآْخَرُ مِائَةً فَمَاتَ، كَانَا
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 261، وحاشية الجمل على شرح المنهج 5 / 25 - 26.
(14/115)
سَوَاءً فِي الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ؛
لأَِنَّ اعْتِبَارَ التَّسَاوِي يُفْضِي إِلَى سُقُوطِ الْقِصَاصِ عَنِ
الْمُشْتَرِكِينَ إِذْ لاَ يَكَادُ جُرْحَانِ يَتَسَاوَيَانِ مِنْ كُل
وَجْهٍ، وَلَوِ احْتُمِل التَّسَاوِي لَمْ يَثْبُتِ الْحُكْمُ؛ لأَِنَّ
الشَّرْطَ يُعْتَبَرُ الْعِلْمُ بِوُجُودِهِ وَلاَ يُكْتَفَى بِاحْتِمَال
الْوُجُودِ، بَل الْجَهْل بِوُجُودِهِ كَالْعِلْمِ بِعَدَمِهِ فِي
انْتِفَاءِ الْحُكْمِ؛ وَلأَِنَّ الْجُرْحَ الْوَاحِدَ قَدْ يَمُوتُ مِنْهُ
دُونَ الْمِائَةِ؛ وَلأَِنَّ الْجِرَاحَ إِذَا أَفَضْت إِلَى قَتْل
النَّفْسِ سَقَطَ اعْتِبَارُهَا، فَكَانَ حُكْمُ الْجَمَاعَةِ كَحُكْمِ
الْوَاحِدِ، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ أَطْرَافَهُ كُلَّهَا فَمَاتَ
وَجَبَتْ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ، كَمَا لَوْ قَطَعَ طَرَفَهُ فَمَاتَ (1) .
الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ:
8 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ
إِذَا اشْتَرَكُوا فِي جُرْحٍ أَوْ جِنَايَةٍ عَلَى طَرَفٍ مُوجِبَيْنِ
لِلْقِصَاصِ وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى جَمِيعِهِمْ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ
شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى رَجُلٍ
بِالسَّرِقَةِ فَقَطَعَ يَدَهُ، ثُمَّ جَاءَا بِآخَرَ فَقَالاَ: هَذَا هُوَ
السَّارِقُ وَأَخْطَأْنَا فِي الأَْوَّل فَرَدَّ شَهَادَتَهُمَا عَلَى
الثَّانِي وَغَرَّمَهُمَا دِيَةَ الأَْوَّل، وَقَال: لَوْ عَلِمْت
أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُكُمَا؛ وَلأَِنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ
الْقِصَاصِ فَتُؤْخَذُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ كَالأَْنْفُسِ.
وَيَجِبُ الْقِصَاصُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْمُشْتَرِكِينَ إِذَا لَمْ
يَتَمَيَّزْ فِعْل أَحَدِهِمْ عَنْ فِعْل الآْخَرِ، كَأَنْ يَضَعُوا
سَيْفًا عَلَى يَدِ شَخْصٍ وَيَتَحَامَلُوا عَلَيْهِ
__________
(1) المغني 7 / 671 672.
(14/116)
حَتَّى تَبِينُ يَدُهُ، فَإِنْ قَطَعَ كُل
وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ جَانِبٍ، أَوْ ضَرَبَ كُل وَاحِدٍ ضَرْبَةً فَلاَ
قِصَاصَ؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَمْ يَقْطَعِ الْيَدَ، وَلَمْ
يُشَارِكْ فِي قَطْعِ جَمِيعِهَا (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ تُقْطَعُ الْيَدَانِ، أَوِ الأَْيْدِي
بِالْيَدِ الْوَاحِدَةِ؛ لاِنْعِدَامِ الْمُمَاثَلَةِ؛ لأَِنَّ الشَّرْطَ
فِي الأَْطْرَافِ الْمُسَاوَاةُ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْقِيمَةِ بِخِلاَفِ
النَّفْسِ، فَإِنَّ الشَّرْطَ فِيهَا الْمُسَاوَاةُ فِي الْعِصْمَةِ.
وَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ وَجْهًا فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ؛ لأَِنَّهُ رُوِيَ
عَنْهُ أَنَّ الْجَمَاعَةَ لاَ يُقْتَلُونَ بِالْوَاحِدِ، وَهَذَا
تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الأَْطْرَافَ لاَ تُؤْخَذُ بِطَرَفٍ وَاحِدٍ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ تَمَيَّزَتْ جِنَايَاتٌ مِنْ جَمَاعَةٍ
وَلَمْ يَمُتِ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُوجَدْ تَمَالُؤٌ مِنْهُمْ،
فَيُقْتَصُّ مِنْ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَدْرِ فِعْلِهِ، وَإِنْ لَمْ
تَتَمَيَّزِ الْجِنَايَاتُ مَعَ عَدَمِ التَّمَالُؤِ فَعَلَيْهِمْ دِيَةُ
جَمِيعِ الْجِنَايَاتِ، وَأَمَّا إِنْ تَمَالَئُوا اُقْتُصَّ مِنْ كُلٍّ
بِقَدْرِ الْجَمِيعِ تَمَيَّزَتِ الْجِنَايَاتُ أَمْ لاَ (3) .
ثَانِيًا - تَوَاطُؤُ الزَّوْجَيْنِ عَلَى طَلاَقٍ فِي وَقْتٍ سَابِقٍ:
9 - إِذَا أَقَرَّ رَجُلٌ بِطَلاَقِ امْرَأَتِهِ الْمُعْتَدَّةِ وَأَسْنَدَ
هَذَا الطَّلاَقَ إِلَى وَقْتٍ سَابِقٍ عَلَى وَقْتِ الإِْقْرَارِ
وَصَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ. فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ:
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 25، والمغني 7 / 674 - 676.
(2) الدر المختار 5 / 358، والمغني 7 / 674.
(3) حاشية الدسوقي 4 / 245.
(14/116)
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ أَقَرَّ
بِطَلاَقِهَا مُنْذُ زَمَانٍ مَاضٍ فَإِنَّ الْفَتْوَى عَلَى أَنَّهَا
تَطْلُقُ وَتَعْتَدُّ مِنْ وَقْتِ الإِْقْرَارِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ
صَدَّقَتْهُ أَمْ كَذَّبَتْهُ، أَمْ قَالَتْ لاَ أَدْرِي نَفْيًا
لِتُهْمَةِ الْمُوَاضَعَةِ أَيِ الْمُوَافَقَةِ عَلَى الطَّلاَقِ
وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ أَقَرَّ صَحِيحٌ بِطَلاَقٍ بَائِنٍ أَوْ
رَجْعِيٍّ مُتَقَدِّمٍ عَلَى وَقْتِ إِقْرَارِهِ، وَلاَ بَيِّنَةَ لَهُ،
اسْتَأْنَفَتِ امْرَأَتُهُ الْعِدَّةَ مِنْ وَقْتِ إِقْرَارِهِ،
فَيُصَدَّقُ فِي الطَّلاَقِ لاَ فِي إِسْنَادِهِ لِلْوَقْتِ السَّابِقِ،
وَلَوْ صَدَّقَتْهُ لأَِنَّهُ يُتَّهَمُ عَلَى إِسْقَاطِ الْعِدَّةِ وَهِيَ
حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَالْعِدَّةُ مِنَ
الْوَقْتِ الَّذِي أَسْنَدَتِ الْبَيِّنَةُ الطَّلاَقَ فِيهِ. وَالْمَرِيضُ
كَالصَّحِيحِ فِي هَذَا عِنْدَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
لِلْمَرِيضِ بَيِّنَةٌ وَرِثَتْهُ أَبَدًا إِنْ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ
الْمَرَضِ، وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَلَوْ تَزَوَّجَتْ
غَيْرَهُ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَال أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ وَلَمْ يَقْصِدْ
إِنْشَاءَ طَلاَقٍ بَل قَصَدَ الإِْخْبَارَ بِالطَّلاَقِ أَمْسِ فِي هَذَا
النِّكَاحِ، وَصَدَّقَتْهُ تُحْسَبُ عِدَّتُهَا مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي
ذَكَرَهُ (3) .
وَيُفْهَمُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ مِثْل مَا قَال الشَّافِعِيَّةُ
(4) .
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 2 / 610.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 477.
(3) مغني المحتاج 3 / 314 - 315.
(4) شرح منتهى الإرادات 3 / 188.
(14/117)
ثَالِثًا - التَّوَاطُؤُ عَلَى الرَّجْعَةِ
فِي الْعِدَّةِ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ عِدَّةَ الْمُطَلَّقَةِ
الرَّجْعِيَّةِ إِذَا انْقَضَتْ فَقَال الزَّوْجُ: كُنْت رَاجَعْتهَا فِي
الْعِدَّةِ وَصَدَّقَتْهُ فَهِيَ رَجْعَةٌ؛ لأَِنَّهُ أَخْبَرَ عَمَّا لاَ
يَمْلِكُ إِنْشَاءَهُ فِي الْحَال، فَكَانَ مُتَّهَمًا، إِلاَّ أَنَّهُ
بِالتَّصْدِيقِ تَرْتَفِعُ التُّهْمَةُ، وَإِنْ كَذَّبَتْهُ لاَ تَثْبُتُ؛
لأَِنَّ قَوْلَهُ خَبَرٌ، وَالْخَبَرُ مُجَرَّدُ دَعْوَى تَمَلُّكِ
بُضْعِهَا أَوْ مَنْفَعَتِهِ بَعْدَ ظُهُورِ انْقِطَاعِ مِلْكِهِ،
وَمُجَرَّدُ دَعْوَى مِلْكٍ فِي وَقْتٍ لاَ يَمْلِكُ إِنْشَاءَهُ فِيهِ لاَ
يَجُوزُ قَبُولُهَا مَعَ إِنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِلاَّ
بِبَيِّنَةٍ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا كَانَ فِي وَقْتٍ يُمْكِنُهُ فِيهِ
إِنْشَاؤُهُ كَأَنْ يَقُول فِي الْعِدَّةِ: كُنْت رَاجَعْتُك أَمْسِ
ثَبَتَتْ وَإِنْ كَذَّبَتْهُ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مُتَّهَمًا فِيهِ
لِتَمَكُّنِهِ مِنْ أَنْ يُنْشِئَهُ فِي الْحَال، أَوْ يَجْعَل ذَلِكَ
إِنْشَاءً إِنْ كَانَتِ الصِّيغَةُ تَحْتَمِلُهُ (1) .
تَوَاعُدٌ
اُنْظُرْ: وَعْدٌ
__________
(1) فتح القدير 4 / 18 - 19، وجواهر الإكليل 1 / 363، ومغني المحتاج 3 /
340 - 341، والمغني 7 / 295.
(14/117)
|