الموسوعة
الفقهية الكويتية جَمْعٌ
انْظُرْ: مُزْدَلِفَةُ.
__________
(1) حديث: وفي رواية قال " ما أنا عليه وأصحأبي " أخرجه العقيلي في كتاب
الضعفاء (2 / 262 ط دار الكتب العلمية) والطبراني في الصغير (1 / 256 ط
المدني) وفي إسناده عبد الله بن سفيان الخزاعي، وقال العقيلي: " لا يتابع
على حديثه " وأورده الهيثمي في مجمع
الزوائد (1 / 189 ط دار الكتاب العربي) وأورده مقالة العقيلي ثم قال: "
وذكره ابن حبان في الثقات ".
(15/283)
جَمْعُ الصَّلَوَاتِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجَمْعُ ضِدُّ التَّفْرِيقِ، وَجَمَعَ الشَّيْءَ إِذَا جَاءَ بِهِ
مِنْ هُنَا وَهُنَا وَضَمَّ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ (1) . وَالْمُرَادُ
بِجَمْعِ الصَّلَوَاتِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: هُوَ أَدَاءُ الظُّهْرِ مَعَ
الْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ مَعَ الْعِشَاءِ تَقْدِيمًا أَوْ تَأْخِيرًا.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْجَمْعِ بَيْنَ
الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي عَرَفَاتٍ جَمْعَ تَقْدِيمٍ فِي وَقْتِ
الظُّهْرِ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ جَمْعَ تَأْخِيرٍ فِي
مُزْدَلِفَةَ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ لِلْحَاجِّ (2) ، لأَِنَّ الرَّسُول
فَعَل هَذَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَال فِي صِفَةِ حَجِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَى بَطْنَ
الْوَادِي فَخَطَبَ النَّاسَ ثُمَّ أَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى
الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ وَلَمْ يُصَل بَيْنَهُمَا
شَيْئًا (3) .
__________
(1) لسان العرب مادة: (جمع) .
(2) سبل السلام 2 / 200.
(3) حديث: " فأتى بطن الوادي فخطب الناس ثم أذن ثم أقام " أخرجه مسلم (2 /
890 - ط عيسى الحلبي) . من حديث جابر بن عبد الله.
(15/284)
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ
عِلَّةِ هَذِهِ الرُّخْصَةِ هَل هِيَ السَّفَرُ أَوْ هِيَ النُّسُكُ؟
فَذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَمَكْحُولٌ،
وَالنَّخَعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ إِلَى
أَنَّ هَذَا الْجَمْعَ مِنْ أَجْل النُّسُكِ، وَلِهَذَا فَلاَ فَرْقَ فِي
ذَلِكَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْحَاضِرِ، وَلاَ بَيْنَ
الْعَرَفِيِّ وَالْمَكِّيِّ وَغَيْرِهِمْ بِعَرَفَةَ، وَلاَ بَيْنَ
الْمُزْدَلِفِيِّ وَغَيْرِهِ بِمُزْدَلِفَةَ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالرَّاجِحُ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) إِلَى أَنَّ الْجَمْعَ بِعَرَفَةَ
وَمُزْدَلِفَةَ رُخْصَةٌ مِنْ أَجْل السَّفَرِ (1) ، وَاحْتَجُّوا
بِالأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي الْجَمْعِ فِي أَسْفَارِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأُْخْرَى كَمَا يَأْتِي.
الْجَمْعُ لِلسَّفَرِ:
3 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ الْجَمْعِ
بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ جَمْعَ
تَقْدِيمٍ، أَوْ جَمْعَ تَأْخِيرٍ بِسَبَبِ السَّفَرِ الطَّوِيل الَّذِي
تُقْصَرُ فِيهِ الرُّبَاعِيَّةُ مَا لَمْ يَكُنْ سَفَرَ مَعْصِيَةٍ
لِلأَْدِلَّةِ الآْتِيَةِ:
أ - عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ارْتَحَل قَبْل أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ
أَخَّرَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 256، والمجموع للإمام النووي 4 / 317 وانظر شرح
المحلي على المنهاج بحاشية القليوبي 2 / 113، والمغني لابن قدامة 2 / 271.
(15/284)
الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ ثُمَّ
نَزَل فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا (1) الْحَدِيثَ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِنْ
زَاغَتِ الشَّمْسُ قَبْل أَنْ يَرْتَحِل صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ
ثُمَّ رَكِبَ (2) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ فِي سَفَرٍ فَزَالَتِ الشَّمْسُ صَلَّى الظُّهْرَ
وَالْعَصْرَ جَمِيعًا ثُمَّ ارْتَحَل (3) .
ب - وَعَنْ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَكَانَ يُصَلِّي
الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا (4) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلاَ يُشْتَرَطُ لِلْجَمْعِ فِي السَّفَرِ
عِنْدَهُمْ طُول مَسَافَةِ السَّفَرِ أَوْ قِصَرُهَا، فَإِذَا نَوَى
__________
(1) حديث: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس
أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما ". أخرجه البخاري (فتح الباري
2 / 582 - 583 - ط السلفية) . ومسلم (1 / 489 - ط عيسى الحلبي) من حديث أنس
بن مالك.
(2) حديث: " فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر والعصر ثم ركب " أخرجه
البخاري (فتح الباري 2 / 582 - ط السلفية) . ومسلم (1 / 489 - ط عيسى
الحلبي) . من حديث أنس كذلك.
(3) حديث: " كان صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر
والعصر جميعا ثم ارتحل ". أخرجه البيهقي (3 / 162 - ط دار المعرفة) من حديث
أنس. وعزاه ابن حجر إلى الإسماعيلي، والأربعين للحاكم وصحح الحديث (فتح
الباري 2 / 583 - ط السلفية) .
(4) حديث: " خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فكان. . . "
أخرجه مسلم (1 / 490 - ط عيسى الحلبي) .
(15/285)
الإِْقَامَةَ فِي أَثْنَاءِ إِحْدَى
الصَّلاَتَيْنِ عِنْدَ التَّقْدِيمِ بَطَل الْجَمْعُ. وَلاَ يُشْتَرَطُ
فِيهِ إِقَامَةُ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ لِبُطْلاَنِ الْجَمْعِ.
وَأَحْوَال جَوَازِ الْجَمْعِ فِي السَّفَرِ أَوْ عَدَمِهِ كَالآْتِي: -
1 - يُرَخَّصُ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ جَمْعَ تَقْدِيمٍ
بِشَرْطَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَزُول عَلَيْهِ الشَّمْسُ بِالْمَكَانِ الَّذِي نَزَل
فِيهِ لِلرَّاحَةِ
ثَانِيهِمَا: أَنْ يَنْوِيَ الاِرْتِحَال قَبْل دُخُول وَقْتِ الْعَصْرِ
وَالنُّزُول فِي مَكَانٍ آخَرَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ.
2 - وَإِنْ نَوَى النُّزُول قَبْل اصْفِرَارِ الشَّمْسِ صَلَّى الظُّهْرَ
أَوَّل وَقْتِهَا، وَأَخَّرَ الْعَصْرَ وُجُوبًا حَتَّى يَنْزِل
لِيُوقِعَهَا فِي وَقْتِهَا الاِخْتِيَارِيِّ، فَإِنْ قَدَّمَهَا مَعَ
الظُّهْرِ أَجْزَأَتْ، وَنُدِبَ إِعَادَتُهَا فِي وَقْتِهَا عِنْدَ
نُزُولِهِ.
3 - وَإِنْ نَوَى النُّزُول بَعْدَ الاِصْفِرَارِ وَقَبْل الْغُرُوبِ
صَلَّى الظُّهْرَ قَبْل أَنْ يَرْتَحِل وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْعَصْرِ
إِنْ شَاءَ قَدَّمَهَا مَعَ الظُّهْرِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَّرَهَا حَتَّى
يَنْزِل هَذَا إِذَا زَالَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ أَثْنَاءَ نُزُولِهِ.
فَإِنْ زَالَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ أَثْنَاءَ سَيْرِهِ فَأَحْوَالُهُ هِيَ:
1 - إِنْ نَوَى النُّزُول وَقْتَ اصْفِرَارِ الشَّمْسِ أَوْ قَبْلَهُ
أَخَّرَ الظُّهْرَ، لِيَجْمَعَهَا مَعَ الْعَصْرِ جَمْعَ تَأْخِيرٍ
(15/285)
وَقْتَ نُزُولِهِ وُجُوبًا عَلَى مَا قَال
الدُّسُوقِيُّ وَجَوَازًا عَلَى مَا قَال اللَّخْمِيُّ.
2 - وَإِنْ نَوَى النُّزُول بَعْدَ الْغُرُوبِ جَمَعَ بَيْنَهُمَا جَمْعًا
صُورِيًّا، وَهُوَ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ آخِرَ وَقْتِهِ
الاِخْتِيَارِيِّ، وَالْعَصْرَ أَوَّل وَقْتِهِ الاِخْتِيَارِيِّ.
هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلظُّهْرِ وَالْعَصْرِ. وَمِثْلُهُمَا الْمَغْرِبُ
وَالْعِشَاءُ مَعَ مُرَاعَاةِ مَا يَدْخُل بِهِ وَقْتُ الْعِشَاءِ وَهُوَ
الشَّفَقُ وَمَا يَخْرُجُ بِهِ وَهُوَ الْفَجْرُ (1) .
4 - وَذَهَبَ الأَْوْزَاعِيُّ إِلَى جَوَازِ جَمْعِ التَّأْخِيرِ فَقَطْ
لِلْمُسَافِرِ (2) عَمَلاً بِرِوَايَةٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ وَهِيَ قَوْلُهُ: فَإِنْ زَاغَتِ الشَّمْسُ قَبْل أَنْ يَرْتَحِل
صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ (3) .
وَذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ،
وَمَكْحُولٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْجَمْعُ
لِلْمُسَافِرِ لاَ تَقْدِيمًا وَلاَ تَأْخِيرًا، وَتَأَوَّلُوا مَا وَرَدَ
مِنْ جَمْعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ جَمْعٌ
صُورِيٌّ، وَهُوَ أَنَّهُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا
وَقَدَّمَ الْعَصْرَ فِي أَوَّل وَقْتِهَا وَفَعَل مِثْل ذَلِكَ فِي
الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ (4) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا:
أ - عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال. مَا رَأَيْتُ
__________
(1) الدسوقي 1 / 368 - 369، والحطاب 2 / 156.
(2) المجموع للإمام النووي 4 / 371، سبل السلام 2 / 41.
(3) حديث: " فإن زاغت الشمس قبل. . . . " سبق تخريجه ف / 3.
(4) بداية المجتهد 1 / 174.
(15/286)
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ صَلَّى صَلاَةً بِغَيْرِ مِيقَاتِهَا إِلاَّ صَلاَتَيْنِ جَمَعَ
بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ (1) .
ب - قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ فِي النَّوْمِ
تَفْرِيطٌ إِنَّمَا التَّفْرِيطُ عَلَى مَنْ لَمْ يُصَل الصَّلاَةَ حَتَّى
يَجِيءَ وَقْتُ الأُْخْرَى، فَمَنْ فَعَل ذَلِكَ فَلْيُصَلِّهَا حِينَ
يَنْتَبِهُ لَهَا، فَإِذَا كَانَ الْغَدُ فَلْيُصَلِّهَا عِنْدَ وَقْتِهَا
(2) .
ج - وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ مَوَاقِيتَ الصَّلاَةِ ثَبَتَتْ بِالتَّوَاتُرِ
وَأَحَادِيثُ الْجَمْعِ آحَادٌ فَلاَ يَجُوزُ تَرْكُ الْمُتَوَاتِرِ
بِخَبَرِ الْوَاحِدِ (3) .
5 - وَقَدِ اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ الْجَمْعِ بِسَبَبِ السَّفَرِ
عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ لِلْمُسَافِرِ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ -
الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ أَوِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ - فِي وَقْتِ
الأُْولَى مِنْهُمَا وَفِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ كَذَلِكَ.
غَيْرَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ نَازِلاً فِي وَقْتِ الأُْولَى فَالأَْفْضَل
أَنْ يُقَدِّمَ الثَّانِيَةَ فِي وَقْتِ الأُْولَى، وَإِنْ كَانَ سَائِرًا
فِيهَا فَالأَْفْضَل أَنْ يُؤَخِّرَهَا إِلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ، لِمَا
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
__________
(1) حديث: " ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة بغير ميقاتها
إلا صلاتين. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 530 - ط السلفية) .
(2) حديث: " ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة. . . ".
أخرجه مسلم (1 / 472 - ط عيسى الحلبي) من حديث أبي قتادة.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 256، والمجموع 4 / 373، والمغني لابن قدامة 2 /
271.
(15/286)
أَلاَ أُخْبِرُكُمْ عَنْ صَلاَةِ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ وَهُوَ
فِي الْمَنْزِل أَيْ مَكَانَ النُّزُول فِي السَّفَرِ قَدَّمَ الْعَصْرَ
إِلَى وَقْتِ الظُّهْرِ وَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي الزَّوَال، وَإِذَا
سَافَرَ قَبْل الزَّوَال أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ ثُمَّ
جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي وَقْتِ الْعَصْرِ (1) وَلأَِنَّ هَذَا أَرْفَقُ
بِالْمُسَافِرِ فَكَانَ أَفْضَل (2) .
أَمَّا إِنْ كَانَ سَائِرًا فِي وَقْتَيْهِمَا أَوْ نَازِلاً فِيهِ
وَأَرَادَ جَمْعَهُمَا، فَالأَْفْضَل تَأْخِيرُ الأُْولَى مِنْهُمَا إِلَى
وَقْتِ الثَّانِيَةِ؛ لأَِنَّ وَقْتَ الثَّانِيَةِ وَقْتٌ لِلأُْولَى
حَقِيقَةً بِخِلاَفِ الْعَكْسِ.
وَيَرَى الأَْوْزَاعِيُّ عَدَمَ جَوَازِ جَمْعِ التَّقْدِيمِ.
شُرُوطُ صِحَّةِ جَمْعِ التَّقْدِيمِ:
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ الْجَمْعِ
إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِجَمْعِ التَّقْدِيمِ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ:
أَوَّلُهَا: الْبُدَاءَةُ بِالأُْولَى مِنَ الصَّلاَتَيْنِ كَالظُّهْرِ
وَالْمَغْرِبِ لأَِنَّ الْوَقْتَ لَهَا وَالثَّانِيَةَ تَبَعٌ لَهَا
وَالتَّابِعُ لاَ يَتَقَدَّمُ عَلَى مَتْبُوعِهِ، فَلَوْ صَلَّى الْعَصْرَ
قَبْل الظُّهْرِ أَوِ الْعِشَاءَ قَبْل الْمَغْرِبِ لَمْ يَصِحَّ الظُّهْرُ
فِي
__________
(1) حديث: " ألا أخبركم عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا زالت. .
. ". سبق تخريجه ف 3 وأخرجه البيهقي (3 / 163 ط دار المعرفة) من حديث ابن
عباس وهو بما تقدم من شواهده يقوى. وقال النووي: (حديث ابن عباس رواه
البيهقي بإسناد جيد وله شواهد) .
(2) المجموع للإمام النووي 4 / 373، والمغني لابن قدامة 2 / 273.
(15/287)
الصُّورَةِ الأُْولَى، وَلاَ الْعِشَاءُ
فِي الثَّانِيَةِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَهَا بَعْدَ الأُْولَى إِذَا
أَرَادَ الْجَمْعَ.
ثَانِيهَا: نِيَّةُ الْجَمْعِ وَمَحَلُّهَا الْفَاضِل أَوَّل الصَّلاَةِ
الأُْولَى وَيَجُوزُ فِي أَثْنَائِهَا إِلَى سَلاَمِهَا.
ثَالِثُهَا: الْمُوَالاَةُ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ وَهِيَ أَنْ لاَ يَفْصِل
بَيْنَهُمَا زَمَنٌ طَوِيلٌ، أَمَّا الْفَصْل الْيَسِيرُ فَلاَ يَضُرُّ؛
لأَِنَّ مِنَ الْعَسِيرِ التَّحَرُّزَ مِنْهُ.
فَإِنْ أَطَال الْفَصْل بَيْنَهُمَا بَطَل الْجَمْعُ سَوَاءٌ أَفَرَّقَ
بَيْنَهُمَا لِنَوْمٍ، أَمْ سَهْوٍ، أَمْ شُغْلٍ، أَمْ غَيْرِ ذَلِكَ.
وَالْمَرْجِعُ فِي الْفَصْل الْيَسِيرِ وَالطَّوِيل الْعُرْفُ كَمَا هُوَ
الشَّأْنُ فِي الأُْمُورِ الَّتِي لاَ ضَابِطَ لَهَا فِي الشَّرْعِ أَوْ
فِي اللُّغَةِ كَالْحِرْزِ وَالْقَبْضِ وَغَيْرِهِمَا.
وَقَدَّرَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ الْفَصْل الْيَسِيرَ
بِقَدْرِ الإِْقَامَةِ، وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ وَقَدْرِ الْوُضُوءِ.
رَابِعُهَا: دَوَامُ سَفَرِهِ حَال افْتِتَاحِ الأُْولَى وَالْفَرَاغِ
مِنْهَا وَافْتِتَاحِ الثَّانِيَةِ، فَإِذَا نَوَى الإِْقَامَةَ أَثْنَاءَ
الصَّلاَةِ الأُْولَى، أَوْ وَصَل إِلَى بَلَدِهِ وَهُوَ فِي الأُْولَى،
أَوْ صَارَ مُقِيمًا بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ انْقَطَعَ الْجَمْعُ لِزَوَال
سَبَبِهِ، وَلَزِمَهُ تَأْخِيرُ الثَّانِيَةِ إِلَى وَقْتِهَا (1) .
شُرُوطُ صِحَّةِ جَمْعِ التَّأْخِيرِ:
7 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ جَمْعِ التَّأْخِيرِ نِيَّةُ الْجَمْعِ قَبْل
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 256، ومغني المحتاج 1 / 271، والمجموع للإمام
النووي 4 / 373، والمغني لابن قدامة 2 / 271، وجواهر الإكليل 1 / 91،
وبداية المجتهد 1 / 174، وسبل السلام 2 / 41.
(15/287)
خُرُوجِ وَقْتِ الأُْولَى بِزَمَنٍ لَوِ
ابْتُدِئَتْ فِيهِ كَانَتْ أَدَاءً، فَإِنْ أَخَّرَهَا بِغَيْرِ نِيَّةِ
الْجَمْعِ أَثِمَ وَتَكُونُ قَضَاءً لِخُلُوِّ وَقْتِهَا عَنِ الْفِعْل
أَوِ الْعَزْمِ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ شَرْطًا آخَرَ لِجَمْعِ التَّأْخِيرِ وَهُوَ
دَوَامُ سَفَرِهِ إِلَى تَمَامِ الصَّلاَتَيْنِ، فَإِنْ أَقَامَ قَبْل
فَرَاغِهِ مِنْهُمَا أَصْبَحَتِ الأُْولَى قَضَاءً.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيَشْتَرِطُونَ اسْتِمْرَارَ السَّفَرِ إِلَى حِينِ
دُخُول وَقْتِ الثَّانِيَةِ، وَعَلَيْهِ فَلاَ يَضُرُّ زَوَال السَّفَرِ
قَبْل فِعْل الصَّلاَتَيْنِ وَبَعْدَ دُخُول وَقْتِ الثَّانِيَةِ (1) .
8 - وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الْجَمْعِ فِي السَّفَرِ
الْقَصِيرِ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ
إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْجَمْعُ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ، لأَِنَّ
الْجَمْعَ رُخْصَةٌ ثَبَتَتْ لِدَفْعِ الْمَشَقَّةِ فِي السَّفَرِ
فَاخْتَصَّتْ بِالطَّوِيل كَالْقَصْرِ وَلأَِنَّهُ إِخْرَاجُ عِبَادَةٍ
عَنْ وَقْتِهَا فَلَمْ يَجُزْ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ كَالْفِطْرِ فِي
الصَّوْمِ، وَلأَِنَّ دَلِيل الْجَمْعِ فِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْفِعْل لاَ صِيغَةَ لَهُ وَإِنَّمَا هُوَ قَضِيَّةُ
عَيْنٍ، فَلاَ يَثْبُتُ حُكْمُهَا إِلاَّ فِي مِثْلِهَا، وَلَمْ يُنْقَل
أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ إِلاَّ فِي سَفَرٍ
طَوِيلٍ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَرْجُوحِ عِنْدَهُمْ إِلَى
جَوَازِ الْجَمْعِ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ لأَِنَّ
__________
(1) المراجع السابقة.
(15/288)
أَهْل مَكَّةَ يَجْمَعُونَ بِعَرَفَةَ
وَمُزْدَلِفَةَ وَهُوَ سَفَرٌ قَصِيرٌ (1) .
وَتَفْصِيل مَا يَتَّصِل بِالسَّفَرِ قِصَرًا وَطُولاً يُنْظَرُ فِي:
(صَلاَةُ الْمُسَافِرِ) .
هَذَا وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْجَمْعَ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ إِذَا
كَانَ سَائِرًا فِي وَقْتِ الأُْولَى فَيُؤَخِّرُ إِلَى وَقْتِ
الثَّانِيَةِ ثُمَّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ
جَوَازُ تَقْدِيمِهِ الصَّلاَةَ الثَّانِيَةَ لِيُصَلِّيَهَا مَعَ
الأُْولَى عَلَى مَا سَبَقَ (2) .
الْجَمْعُ لِلْمَرَضِ:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الْجَمْعِ لِلْمَرِيضِ فَذَهَبَ
الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ
الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِسَبَبِ
الْمَرَضِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
قَال: جَمَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ
الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ مِنْ غَيْرِ
خَوْفٍ وَلاَ مَطَرٍ وَفِي رِوَايَةٍ: مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلاَ سَفَرٍ (3)
.
__________
(1) القوانين الفقهية ص 87، والمغني لابن قدامة 2 / 373، والمجموع للإمام
النووي 4 / 370.
(2) المجموع للإمام النووي 4 / 370، والمغني لابن قدامة 2 / 273 - 274.
(3) حديث: " جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر. . . " أخرجه مسلم
(1 / 491 - ط عيسى الحلبي) . من حديث ابن عباس.
(15/288)
وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ
لاَ يَكُونُ إِلاَّ لِعُذْرٍ فَيَجْمَعُ لِلْمَرَضِ.
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ
سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ وَحَمْنَةَ بِنْتَ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا لَمَّا كَانَتَا مُسْتَحَاضَتَيْنِ بِتَأْخِيرِ الظُّهْرِ
وَتَعْجِيل الْعَصْرِ وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِغُسْلٍ وَاحِدٍ (1) .
ثُمَّ إِنَّ هَؤُلاَءِ الْفُقَهَاءَ قَاسُوا الْمَرَضَ عَلَى السَّفَرِ
بِجَامِعِ الْمَشَقَّةِ فَقَالُوا: إِنَّ الْمَشَقَّةَ عَلَى الْمَرِيضِ
بِجَامِعٍ فِي إِفْرَادِ الصَّلَوَاتِ أَشَدُّ مِنْهَا عَلَى الْمُسَافِرِ.
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَرَوْنَ أَنَّ الْجَمْعَ الْجَائِزَ
بِسَبَبِ الْمَرَضِ هُوَ جَمْعُ التَّقْدِيمِ فَقَطْ لِمَنْ خَافَ
الإِْغْمَاءَ أَوِ الْحُمَّى أَوْ غَيْرَهُمَا. وَإِنْ سَلِمَ مِنْ هَذِهِ
الأَْمْرَاضِ وَلَمْ تُصِبْهُ أَعَادَ الثَّانِيَةَ فِي وَقْتِهَا.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيَرَوْنَ أَنَّ الْمَرِيضَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ
التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ كَالْمُسَافِرِ، فَإِنِ اسْتَوَى عِنْدَهُ
الأَْمْرَانِ فَالتَّأْخِيرُ أَوْلَى؛ لأَِنَّ وَقْتَ الثَّانِيَةِ وَقْتٌ
لِلأُْولَى حَقِيقَةً بِخِلاَفِ الْعَكْسِ، وَالْمَرَضُ الْمُبِيحُ
لِلْجَمْعِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ هُوَ مَا يَلْحَقُهُ بِهِ بِتَأْدِيَةِ
كُل صَلاَةٍ فِي وَقْتِهَا مَشَقَّةٌ وَضَعْفٌ.
__________
(1) حديث سهلة أخرجه أبو داود (1 / 207 - ط عزت عبيد الدعاس) ، وأحمد (6 /
139 - ط المكتب الإسلامي) من حديث عائشة. قال المنذري في إسناده محمد بن
يسار. وقد اختلف في الاحتجاج به. وحديث حمنة أخرجه كذلك أبو داود (1 / 199
- ط عزت عبيد الدعاس) والترمذي (1 / 221 - ط مصطفى الحلبي) . وقال: حديث
حسن صحيح.
(15/289)
وَأَلْحَقُوا الْمُسْتَحَاضَةَ، وَمَنْ
بِهِ سَلَسُ بَوْلٍ، وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمَا كَالْمُرْضِعِ بِالْمَرِيضِ
فِي جَوَازِ الْجَمْعِ.
وَإِلَى رَأْيِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي جَوَازِ الْجَمْعِ
لِلْمَرِيضِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ مِنْهُمْ
الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَابْنُ الْمُقْرِي، وَالْمُتَوَلِّي، وَأَبُو
سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ.
وَقَال الإِْمَامُ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْوَجْهُ قَوِيٌّ جِدًّا.
قَال الْقَاضِي حُسَيْنٌ: يَجُوزُ الْجَمْعُ بِعُذْرِ الْمَرَضِ تَقْدِيمًا
وَتَأْخِيرًا وَالأَْوْلَى أَنْ يَفْعَل أَرْفَقَهُمَا بِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ
الْجَمْعُ بِسَبَبِ الْمَرَضِ لأَِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلأَِنَّ أَخْبَارَ الْمَوَاقِيتِ
ثَابِتَةٌ فَلاَ تُتْرَكُ أَوْ تُخَالَفُ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ وَغَيْرِ
صَرِيحٍ، وَلاَ سِيَّمَا أَنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَرِضَ أَمْرَاضًا كَثِيرَةً وَلَمْ يُنْقَل جَمْعُهُ
بِالْمَرَضِ صَرِيحًا (1) .
الْجَمْعُ لِلْمَطَرِ، وَالثَّلْجِ، وَالْبَرْدِ، وَنَحْوِهَا:
10 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ
الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِسَبَبِ الْمَطَرِ الْمُبَلِّل لِلثِّيَابِ
وَالثَّلْجِ وَالْبَرْدِ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 92، والقوانين الفقهية ص 87، والمجموع للإمام النووي
4 / 383، ومغني المحتاج 1 / 275، والمغني لابن قدامة 2 / 276.
(15/289)
قَال: صَلَّى رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا
وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ
وَلاَ سَفَرٍ (1) .
قَال كُلٌّ مِنَ الإِْمَامِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ:
أَرَى ذَلِكَ بِعُذْرِ الْمَطَرِ. وَلَمْ يَأْخُذِ الْجُمْهُورُ
بِالرِّوَايَةِ الأُْخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ: " مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلاَ
مَطَرٍ " لأَِنَّهَا تُخَالِفُ رِوَايَةَ الْجُمْهُورِ.
وَلأَِنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ كَانَا يَجْمَعَانِ بِسَبَبِ الْمَطَرِ.
وَهُوَ قَوْل الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ وَالأَْوْزَاعِيِّ (2) . إِلاَّ
أَنَّ الْجُمْهُورَ اخْتَلَفُوا فِي مَسَائِل مِنْهَا:
1 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْجَمْعُ
بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِسَبَبِ الْمَطَرِ وَنَحْوِهِ لِمَا رُوِيَ
أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَال: < إِنَّ مِنَ
السُّنَّةِ إِذَا كَانَ يَوْمٌ مَطِيرٌ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ
وَالْعِشَاءِ > (3) . وَلأَِنَّ الْمَشَقَّةَ فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ
أَشَدُّ لأَِجْل الظُّلْمَةِ.
__________
(1) حديث: " صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر والعصر. . .
" زاد مسلم " من غير خوف ولا سفر ". سبق تخريجه ف / 9.
(2) جواهر الإكليل 1 / 92، والقوانين الفقهية ص 87، والمجموع للإمام النووي
4 / 378، ومغني المحتاج 1 / 274، والمغني لابن قدامة 2 / 274.
(3) حديث: " إن من السنة إذا كان يوم مطير أن يجمع بين المغرب والعشاء "
قال ابن حجر " ليس له أصل وإنما ذكره البهيقي (3 / 168 - ط دار المعرفة) عن
ابن عمر موقوفا عليه ".
(15/290)
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَيَرَوْنَ أَنَّهُ
يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ كَذَلِكَ بِسَبَبِ
الْمَطَرِ وَنَحْوِهِ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ وَلأَِنَّ الْعِلَّةَ هِيَ وُجُودُ الْمَطَرِ
سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي اللَّيْل أَمْ فِي النَّهَارِ.
2 - أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ جَمْعِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ إِلَى جَوَازِ
جَمْعِ التَّقْدِيمِ فَقَطْ دُونَ جَمْعِ التَّأْخِيرِ لأَِنَّ
اسْتِدَامَةَ الْمَطَرِ لَيْسَتْ مُؤَكَّدَةً، فَقَدْ يَنْقَطِعُ الْمَطَرُ
فَيُؤَدِّي إِلَى إِخْرَاجِ الصَّلاَةِ عَنْ وَقْتِهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ جَمْعِ التَّأْخِيرِ بِسَبَبِ
الْمَطَرِ كَالسَّفَرِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ فِي
الْقَدِيمِ (1) .
3 - يَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ لِلْجَمْعِ بِسَبَبِ
الْمَطَرِ الْبُدَاءَةُ بِالأُْولَى مِنَ الصَّلاَتَيْنِ وَنِيَّةُ
الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَالْمُوَالاَةُ عَلَى التَّفْصِيل الَّذِي سَبَقَ
فِي الْجَمْعِ بِسَبَبِ السَّفَرِ (ف 3) .
وَهُنَاكَ شُرُوطٌ أُخْرَى اشْتَرَطَهَا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
لِلْجَمْعِ بِسَبَبِ الْمَطَرِ مِنْهَا:
__________
(1) بداية المجتهد 1 / 177، وجواهر الإكليل 1 / 92، والمجموع للإمام النووي
4 / 378، والسراج الوهاج ص 83، ومغني المحتاج 1 / 274، والمغني لابن قدامة
2 / 274.
(15/290)
أ - وُجُودُ الْمَطَرِ فِي أَوَّل
الصَّلاَتَيْنِ وَعِنْدَ السَّلاَمِ مِنَ الأُْولَى وَعِنْدَ دُخُول
الثَّانِيَةِ.
ب - الرُّخْصَةُ خَاصَّةٌ بِالْمُصَلِّي جَمَاعَةً فِي مَسْجِدٍ، فَلاَ
يَجْمَعُ الْمُصَلِّي فِي بَيْتِهِ وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ.
وَالأَْرْجَحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الرُّخْصَةَ عَامَّةٌ فَلاَ
فَرْقَ بَيْنَ مَنْ يُصَلِّي جَمَاعَةً فِي مَسْجِدٍ وَبَيْنَ غَيْرِهِ
مِمَّنْ يُصَلِّي فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ أَوْ مُنْفَرِدًا؛ لأَِنَّهُ قَدْ
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ فِي
الْمَطَرِ وَلَيْسَ بَيْنَ حُجْرَتِهِ وَالْمَسْجِدِ شَيْءٌ (1) .
وَلأَِنَّ الْعُذْرَ إِذَا وُجِدَ اسْتَوَى فِيهِ وُجُودُ الْمَشَقَّةِ
وَغَيْرُهُ.
4 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الْقَوْل الأَْصَحُّ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الطِّينَ أَوِ الْوَحْل عُذْرٌ يُبِيحُ الْجَمْعَ
كَالْمَطَرِ؛ لأَِنَّهُ يُلَوِّثُ الثِّيَابَ وَالنِّعَال وَيَتَعَرَّضُ
الإِْنْسَانُ فِيهِ لِلزَّلْقِ وَتَتَأَذَّى نَفْسُهُ وَثِيَابُهُ، وَهَذَا
أَعْظَمُ مِنَ الْبَلَل وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ.
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: إِنِ اجْتَمَعَ الْمَطَرُ
وَالطِّينُ وَالظُّلْمَةُ، أَوِ اثْنَانِ مِنْهَا، أَوِ انْفَرَدَ
الْمَطَرُ جَازَ الْجَمْعُ، بِخِلاَفِ انْفِرَادِ الظُّلْمَةِ، وَفِي
انْفِرَادِ الطِّينِ قَوْلاَنِ، وَالْمَشْهُورُ عَدَمُ الْجَمْعِ.
وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْجَمْعُ
بِسَبَبِ الطِّينِ أَوِ الْوَحْل قَالُوا لأَِنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى
زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُنْقَل
أَنَّهُ جَمَعَ مِنْ أَجْلِهِ (2) .
5 -
__________
(1) حديث: " جمع في المطر وليس بين حجرته والمسجد شيء " لم نعثر عليه في
المصادر الحديثية التي بين أيدينا.
(2) الدسوقي 1 / 370، والقوانين ص 87، وبداية المجتهد 1 / 177، والمجموع
للإمام النووي 4 / 383، ومغني المحتاج 1 / 275، والمغني لابن قدامة 2 / 275
- 276، والفروع 2 / 68.
(15/291)
يَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي الرَّاجِحِ
عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ مِنْ أَجْل الرِّيحِ الشَّدِيدَةِ
فِي اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ لأَِنَّ ذَلِكَ عُذْرٌ فِي تَرْكِ
الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يُنَادِي مُنَادِيهِ فِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ، أَوِ
اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ ذَاتِ الرِّيحِ صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ (1) .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لاَ يُبَاحُ الْجَمْعُ مِنْ
أَجْل الرِّيحِ. لأَِنَّ الْمَشَقَّةَ فِيهَا دُونَ الْمَشَقَّةِ فِي
الْمَطَرِ فَلَمْ يَصِحَّ إِلْحَاقُهَا بِالْمَطَرِ (2) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَلاَ يُجِيزُونَ الْجَمْعَ مِنْ
أَجْل الرِّيحِ الشَّدِيدَةِ وَالظُّلْمَةِ؛ لأَِنَّهُمَا كَانَتَا فِي
زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُنْقَل
أَنَّهُ جَمَعَ مِنْ أَجْلِهِمَا (3) .
الْجَمْعُ لِلْخَوْفِ:
11 - ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ
__________
(1) حديث: " صلوا في رحالكم " أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 113 - ط
السلفية) . ومسلم (1 / 484 - ط عيسى الحلبي) واللفظ للبخاري. وهو من حديث
ابن عمر.
(2) ترى اللجنة أن في بعض البلاد تكون الريح الشديدة أعظم في المشقة من
المطر وغيره، فلهذا ترى جواز الجمع لذلك.
(3) المراجع السابقة.
(15/291)
عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى جَوَازِ
الْجَمْعِ بِسَبَبِ الْخَوْفِ وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا صَلَّى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا وَالْمَغْرِبَ
وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلاَ سَفَرٍ (1)
وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ لِلْخَوْفِ أَوْلَى.
وَذَهَبَ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الأُْخْرَى
لِلْمَالِكِيَّةِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الْجَمْعِ لِلْخَوْفِ لِثُبُوتِ
أَحَادِيثِ الْمَوَاقِيتِ وَلاَ تَجُوزُ مُخَالَفَتُهَا إِلاَّ بِنَصٍّ
صَرِيحٍ غَيْرِ مُحْتَمَلٍ.
وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ لاَ يُجِيزُونَ الْجَمْعَ لِسَفَرٍ
وَلاَ لِمَطَرٍ وَلاَ لِغَيْرِهِمَا مِنَ الأَْعْذَارِ الأُْخْرَى (2) .
الْجَمْعُ بِدُونِ سَبَبٍ:
12 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الْجَمْعِ
لِغَيْرِ الأَْعْذَارِ الْمَذْكُورَةِ؛ لأَِنَّ أَخْبَارَ الْمَوَاقِيتِ
الثَّابِتَةِ لاَ تَجُوزُ مُخَالَفَتُهَا إِلاَّ بِدَلِيلٍ خَاصٍّ،
وَلأَِنَّهُ تَوَاتَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْمُحَافَظَةُ عَلَى أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ حَتَّى قَال ابْنُ مَسْعُودٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا رَأَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ صَلَّى صَلاَةً لِغَيْرِ مِيقَاتِهَا إِلاَّ
__________
(1) حديث: " صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر. . . " سبق
تخريجه ف 11.
(2) حاشيه ابن عابدين 1 / 256، والمجموع للإمام النووي 4 / 383، والقوانين
الفقهية ص 87، والمغني لابن قدامة 2 / 277، وكتاب الفروع 2 / 71.
(15/292)
صَلاَتَيْنِ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ
وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ أَيْ بِمُزْدَلِفَةَ (1) " الْحَدِيثَ.
وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ مِنْهُمْ - أَشْهَبُ مِنَ
الْمَالِكِيَّةِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَابْنُ
سِيرِينَ وَابْنُ شُبْرُمَةَ - إِلَى جَوَازِ الْجَمْعِ لِحَاجَةٍ مَا لَمْ
يُتَّخَذْ ذَلِكَ عَادَةً.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: يَجُوزُ الْجَمْعُ فِي الْحَضَرِ مِنْ غَيْرِ
خَوْفٍ، وَلاَ مَطَرٍ، وَلاَ مَرَضٍ. وَهُوَ قَوْل جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْل
الْحَدِيثِ لِظَاهِرِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
قَال: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ
الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمَدِينَةِ مِنْ
غَيْرِ خَوْفٍ وَلاَ مَطَرٍ (2) فَقِيل لاِبْنِ عَبَّاسٍ لِمَ فَعَل ذَلِكَ
قَال: أَرَادَ أَنْ لاَ يُحْرِجَ أُمَّتَهُ. وَلِمَا رُوِيَ مِنَ الآْثَارِ
عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ
أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْمَعُونَ لِغَيْرِ الأَْعْذَارِ الْمَذْكُورَةِ (3) .
جُمُعَةٌ
انْظُرْ: صَلاَةُ الْجُمُعَةِ.
__________
(1) حديث: " ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاه لغير ميقاتها. . .
" سبق تخريجه ف 4.
(2) حديث: " إن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر. . . " سبق
تخريجه ف 12.
(3) القوانين الفقهية ص 87، وبداية المجتهد 1 / 177، والمجموع للإمام
النووي 4 / 384، والمغني لابن قدامة 2 / 278، وسبل السلام 2 / 43.
(15/292)
جَمَّاءُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجَمَّاءُ فِي اللُّغَةِ: جَمَّتِ الشَّاةُ جَمَمًا، إِذَا لَمْ
يَكُنْ لَهَا قَرْنٌ وَالذَّكَرُ أَجَمُّ، وَالأُْنْثَى جَمَّاءُ، يُقَال:
شَاةٌ جَمَّاءُ وَكَبْشٌ أَجَمُّ.
وَالْجَلَحُ فِي الْبَقَرِ مِثْل الْجَمَمِ فِي الشَّاءِ.
وَقِيل: الْجَلْحَاءُ كَالْجَمَّاءِ: الشَّاةُ الَّتِي لاَ قَرْنَ لَهَا.
وَفِي الْحَدِيثِ: لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ
الْقَرْنَاءِ (1) أَيْ إِذَا نَطَحَتْهَا.
قَال الأَْزْهَرِيُّ: وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْجَلْحَاءَ مِنَ الشَّاةِ
وَالْبَقَرِ بِمَنْزِلَةِ الْجَمَّاءِ الَّتِي لاَ قَرْنَ لَهَا.
وَاسْتَعْمَل الْفُقَهَاءُ اللَّفْظَيْنِ فِيمَا لاَ قَرْنَ لَهُ مِنْ
غَنَمٍ أَوْ بَقَرٍ (2) .
__________
(1) حديث: " لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة. . . " أخرجه مسلم (4 /
1997 - ط عيسى الحلبي) .
(2) المصباح المنير والمغرب، ولسان العرب - مادة: (جمم) و (جلح) والمذهب 1
/ 246 والمغني 3 / 554 والنهاية لابن الأثير والمجموع شرح المهذب 8،
والكافي لابن عبد البر 1 / 422.
(15/293)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ) :
الْقَصْمَاءُ وَالْعَضْبَاءُ:
2 - الْقَصْمَاءُ وَالْعَضْبَاءُ: مَكْسُورَتَا الْقَرْنِ.
وَفِي اللِّسَانِ: الْقَصْمَاءُ مِنِ الْمَعْزِ: الَّتِي انْكَسَرَ.
قَرْنَاهَا مِنْ طَرَفَيْهِمَا إِلَى الْمُشَاشَةِ (1) .
وَالْعَضْبَاءُ: الشَّاةُ الْمَكْسُورَةُ الْقَرْنِ الدَّاخِل وَهُوَ
الْمُشَاشُ.
أَمَّا الْعَضْبَاءُ مِنَ الإِْبِل فَهِيَ الَّتِي شُقَّتْ أُذُنُهَا
وَالْعَضْبَاءُ مِنَ الْخَيْل مَا قُطِعَ رُبُعُ أُذُنِهَا فَأَكْثَرُ.
وَقَدْ فَسَّرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْعَضْبَاءَ بِأَنَّهَا
الشَّاةُ الَّتِي ذَهَبَ نِصْفُ قَرْنِهَا فَأَكْثَرُ.
وَفِي الْمُهَذَّبِ: الْعَضْبَاءُ: هِيَ الَّتِي انْكَسَرَ قَرْنُهَا.
وَفِي الْمَجْمُوعِ: " الْعَضْبَاءُ هِيَ: مَكْسُورَةُ ظَاهِرِ الْقَرْنِ
وَبَاطِنِهِ ".
وَالْقَصْمَاءُ - وَتُسَمَّى الْعَصْمَاءَ - فَسَّرَهَا الشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهَا الَّتِي انْكَسَرَ غِلاَفُ قَرْنِهَا. (2) .
فَالْجَمَّاءُ هِيَ: الْمَخْلُوقَةُ بِلاَ قَرْنٍ.
__________
(1) المشاش: رءوس العظام اللينة التي يمكن مضغها مثل الركبتين والمرفقين.
النهاية لابن الأثير والصحاح في اللغة والعلوم 1002 والبدائع 5 / 76.
(2) لسان العرب مادة: (قصم) و (عضب) والكافي لابن عبد البر 1 / 421، وجواهر
الإكليل 1 / 219، والمجموع 8 / 402، والمهذب وهامشه 1 / 246، والمغني 3 /
554، ومنتهى الإرادات 2 / 9.
(15/293)
وَالْعَضْبَاءُ وَالْقَصْمَاءُ أَوِ
الْعَصْمَاءُ هِيَ مَكْسُورَةُ الْقَرْنِ بَعْدَ وُجُودِهِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - الْجَمَّاءُ مِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ - وَهِيَ الْمَخْلُوقَةُ بِلاَ
قَرْنٍ - تُجْزِئُ فِي الأُْضْحِيَّةِ وَالْهَدْيِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَدَا ابْنَ حَامِدٍ وَعِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ مَعَ الْكَرَاهَةِ.
وَدَلِيل الْجَوَازِ أَنَّ الْقَرْنَ لاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ مَقْصُودٌ وَلاَ
يُؤَثِّرُ فِي اللَّحْمِ وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ نَهْيٌ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ
عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سُئِل عَنِ الْقَرْنِ فَقَال: لاَ
يَضُرُّكَ، أَمَرَنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ وَالأُْذُنَ (1) .
لَكِنَّ ذَاتَ الْقَرْنِ أَفْضَل بِاتِّفَاقٍ، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ
ضَحَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ
أَقْرَنَيْنِ (2) .
وَقَال ابْنُ حَامِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ تُجْزِئُ الْجَمَّاءُ فِي
أُضْحِيَّةٍ أَوْ هَدْيٍ لأَِنَّ ذَهَابَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ
__________
(1) حديث: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن ".
أخرجه أبو داود (3 / 237 - ط عزت عبيد الدعاس) . والترمذي (4 / 86 - ط
مصطفى الحلبي) واللفظ له. وقال: حديث حسن صحيح. وصححه أحمد شاكر (مسند أحمد
1 / 155 / 851 - ط دار المعارف) .
(2) حديث: " ضحى رسول الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين " أخرجه البخاري
(10 / 23 - ط السلفية) . ومسلم (3 / 1555 - ط عيسى الحلبي) من حديث أنس بن
مالك.
(15/294)
قَرْنٍ يَمْنَعُ، فَذَهَابُ جَمِيعِهِ
أَوْلَى؛ وَلأَِنَّ مَا مَنَعَ مِنْهُ الْعَوَرُ وَمَنَعَ مِنْهُ الْعَمَى،
وَكَذَلِكَ مَا مَنَعَ مِنْهُ الْعَضَبُ يَمْنَعُ مِنْهُ كَوْنُهُ أَجَمَّ
أَوْلَى.
4 - أَمَّا مَكْسُورَةُ الْقَرْنِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ عَضْبَاءَ أَمْ
قَصْمَاءَ فَإِنَّهَا تُجْزِئُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا لَمْ يَبْلُغِ
الْكَسْرُ الْمُشَاشَ، فَإِذَا بَلَغَ الْكَسْرُ الْمُشَاشَ فَإِنَّهَا لاَ
تُجْزِئُ.
وَتُجْزِئُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ بَرِئَ الْكَسْرُ وَلَمْ يَدْمَ،
فَإِنْ كَانَ الْكَسْرُ يَدْمَى فَلاَ تُجْزِئُ؛ لأَِنَّهُ مَرَضٌ،
وَالْمُرَادُ عَدَمُ الْبُرْءِ لاَ خُصُوصُ سَيَلاَنِ الدَّمِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ مَعَ الْكَرَاهَةِ التَّضْحِيَةُ
بِمَكْسُورَةِ الْقَرْنِ سَوَاءٌ أُدْمِيَ قَرْنُهَا أَمْ لاَ إِذَا لَمْ
يُؤَثِّرْ فِي اللَّحْمِ؛ لأَِنَّ الْقَرْنَ لاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ كَبِيرُ
غَرَضٍ، فَإِنْ أَثَّرَ الْكَسْرُ فِي اللَّحْمِ فَلاَ تُجْزِئُ.
وَقَيَّدَ الْحَنَابِلَةُ الإِْجْزَاءَ وَعَدَمَهُ بِالْمِسَاحَةِ. فَإِنْ
كَانَ الذَّاهِبُ أَكْثَرَ قَرْنِهَا فَإِنَّهَا لاَ تُجْزِئُ، لأَِنَّ
الأَْكْثَرَ كَالْكُل، وَلِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
قَال: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُضَحَّى
بِأَعْضَبِ الأُْذُنِ وَالْقَرْنِ (1) ، قَال قَتَادَةَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ
لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَقَال: الْعَضْبُ: النِّصْفُ أَوْ أَكْثَرُ
مِنْ ذَلِكَ.
__________
(1) حديث: " نهى أن يضحى بأعضب الأذن والقرن " أخرجه أبو داود (3 / 238 - ط
عزت عبيد الدعاس) . والترمذي (4 / 90 - ط مصطفى الحلبي) . واللفظ له وقال:
حديث حسن صحيح. وهو من حديث علي بن أبي طالب.
(15/294)
وَعَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ
فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ.
إِحْدَاهُمَا: إِنْ كَانَ دُونَ النِّصْفِ جَازَ وَاخْتَارَهُ
الْخِرَقِيُّ.
وَالثَّانِيَةُ: إِنْ كَانَ ثُلُثَ الْقَرْنِ فَصَاعِدًا لَمْ يَجُزْ
وَإِنْ كَانَ أَقَل جَازَ وَلاَ يُجْزِئُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
الْعَصْمَاءُ وَهِيَ الَّتِي انْكَسَرَ غِلاَفُ قَرْنِهَا.
5 - وَمُسْتَأْصَلَةُ الْقَرْنَيْنِ دُونَ أَنْ تَدْمَى، أَيْ
مَكْسُورَتُهُمَا مِنْ أَصْلِهِمَا، فَفِيهَا قَوْلاَنِ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ. قَال ابْنُ حَبِيبٍ: لاَ تُجْزِئُ، وَقَال ابْنُ
الْمَوَّازِ: تُجْزِئُ وَهُوَ الْمَنْقُول عَنْ كِتَابِ مُحَمَّدِ بْنِ
الْقَاسِمِ.
وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلاَمِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهَا لاَ تُجْزِئُ
عِنْدَهُمْ إِذْ لاَ يُجْزِئُ عِنْدَهُمْ مَا ذَهَبَ نِصْفُ قَرْنِهَا. (1)
__________
(1) البدائع 5 / 76، وابن عابدين 5 / 205، وجواهر الإكليل 1 / 219،
والدسوقي 2 / 119، والمواق 3 / 240، والمهذب 1 / 246، والمجموع 8، ونهاية
المحتاج 8 / 128، والمغني 3 / 554، 8 / 626، وشرح منتهى الإرادات 2 / 78 -
79، والإفصاح 1 / 308.
(15/295)
جَنَائِزُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجَنَائِزُ جَمْعُ جَنَازَةٍ بِالْفَتْحِ الْمَيِّتُ، وَبِالْكَسْرِ
السَّرِيرُ الَّذِي يُوضَعُ عَلَيْهِ الْمَيِّتُ، وَقِيل عَكْسُهُ، أَوْ
بِالْكَسْرِ: السَّرِيرُ مَعَ الْمَيِّتِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ
الْمَيِّتُ فَهُوَ سَرِيرٌ وَنَعْشٌ وَقِيل: فِي كُلٍّ مِنْهُمَا لُغَتَانِ
(1) .
أَوَّلاً: أَحْكَامُ الْمُحْتَضَرِ:
تَعْرِيفُ الْمُحْتَضَرِ وَتَوْجِيهُهُ وَتَلْقِينُهُ:
2 - الْمُحْتَضَرُ (2) هُوَ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ وَمَلاَئِكَتُهُ،
وَالْمُرَادُ مَنْ قَرُبَ مَوْتُهُ، وَعَلاَمَةُ الاِحْتِضَارِ - كَمَا
أَوْرَدَهَا ابْنُ عَابِدِينَ - أَنْ تَسْتَرْخِيَ قَدَمَاهُ فَلاَ
تَنْتَصِبَانِ، وَيَعْوَجَّ أَنْفُهُ، وَيَنْخَسِفَ صُدْغَاهُ، وَيَمْتَدَّ
جِلْدُ خُصْيَتَيْهِ لاِنْشِمَارِ الْخُصْيَتَيْنِ بِالْمَوْتِ،
وَتَمْتَدَّ جِلْدَةُ وَجْهِهِ فَلاَ يُرَى فِيهَا تَعَطُّفٌ (3) .
وَلِلْمُحْتَضَرِ أَحْكَامٌ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (احْتِضَارٌ) .
__________
(1) القاموس، المصباح مادة: " جنز "، والدر المختار 1 / 599.
(2) اسم مفعول من الاحتضار.
(3) ابن عابدين 1 / 595، والهندية 1 / 154.
(16/5)
مَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ،
وَمَا لاَ يَنْبَغِي فِعْلُهُ:
مَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ شُدَّ
لَحْيَاهُ، وَغُمِّضَتْ عَيْنَاهُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل عَلَى أَبِي سَلَمَةَ، وَقَدْ شُقَّ بَصَرُهُ
فَأَغْمَضَهُ وَقَال: إِذَا حَضَرْتُمْ مَوْتَاكُمْ فَأَغْمِضُوا الْبَصَرَ
(1)
وَيَتَوَلَّى أَرْفَقُ أَهْلِهِ بِهِ إِغْمَاضَهُ بِأَسْهَل مَا يَقْدِرُ
عَلَيْهِ، وَيَشُدُّ لَحْيَاهُ بِعِصَابَةٍ عَرِيضَةٍ يَشُدُّهَا فِي
لَحْيِهِ الأَْسْفَل وَيَرْبِطُهَا فَوْقَ رَأْسِهِ (2) .
وَيَقُول مُغْمِضُهُ: بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُول اللَّهِ.
اللَّهُمَّ يَسِّرْ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَسَهِّل عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ.
وَأَسْعِدْهُ بِلِقَائِكَ، وَاجْعَل مَا خَرَجَ إِلَيْهِ خَيْرًا مِمَّا
خَرَجَ مِنْهُ. (3)
وَيُلَيِّنُ مَفَاصِلَهُ، وَيَرُدُّ ذِرَاعَيْهِ إِلَى عَضُدَيْهِ،
وَيَرُدُّ أَصَابِعَ كَفَّيْهِ، ثُمَّ يَمُدُّهَا، وَيَرُدُّ فَخِذَيْهِ
إِلَى بَطْنِهِ، وَسَاقَيْهِ إِلَى فَخِذَيْهِ، ثُمَّ يَمُدُّهَا، وَهُوَ
أَيْضًا مِمَّا اتُّفِقَ عَلَيْهِ. (4)
__________
(1) حديث: " فإن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أبي سلمة وقد. . . ".
أخرجه مسلم (2 / 634 - ط عيسى الحلبي) .
(2) الفتاوى الهندية 1 / 154، ومختصر المزني 1 / 169، وغاية المنتهى
باختصار 1 / 228، وبلغة السالك 1 / 266.
(3) الهندية 1 / 154.
(4) راجع الهندية 1 / 154، ومختصر خليل 37، والمزني 1 / 69، والغاية 1 /
228 ولفظها: " سن تليين مفاصله وخلع ثيابه وستره بثوب ووضع حديدة ونحوها
على بطنه ".
(16/5)
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْزِعَ عَنْهُ
ثِيَابَهُ الَّتِي مَاتَ فِيهَا، وَيُسَجَّى جَمِيعُ بَدَنِهِ بِثَوْبٍ "
فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تُوُفِّيَ سُجِّيَ بِبُرْدٍ
حِبَرَةٍ (1) وَيُتْرَكُ عَلَى شَيْءٍ مُرْتَفِعٍ مِنْ لَوْحٍ أَوْ
سَرِيرٍ، لِئَلاَّ تُصِيبَهُ نَدَاوَةُ الأَْرْضِ فَيَتَغَيَّرَ رِيحُهُ.
وَيُجْعَل عَلَى بَطْنِهِ حَدِيدٌ، أَوْ طِينٌ يَابِسٌ، لِئَلاَّ
يَنْتَفِخَ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ. (2)
الإِْعْلاَمُ بِالْمَوْتِ:
4 - يُسْتَحَبُّ أَنْ يَعْلَمَ جِيرَانُ الْمَيِّتِ وَأَصْدِقَاؤُهُ حَتَّى
يُؤَدُّوا حَقَّهُ بِالصَّلاَةِ عَلَيْهِ وَالدُّعَاءِ لَهُ، رَوَى سَعِيدُ
بْنُ مَنْصُورٍ عَنِ النَّخَعِيِّ: لاَ بَأْسَ إِذَا مَاتَ الرَّجُل أَنْ
يُؤْذَنَ صَدِيقُهُ وَأَصْحَابُهُ، إِنَّمَا يُكْرَهُ أَنْ يُطَافَ فِي
الْمَجْلِسِ فَيُقَال: أَنْعِي (فُلاَنًا) لأَِنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْل أَهْل
الْجَاهِلِيَّةِ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ بِاخْتِصَارٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ،
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ. (3)
وَكَرِهَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ النِّدَاءَ فِي الأَْسْوَاقِ قَال فِي
النِّهَايَةِ: إِنْ كَانَ عَالِمًا، أَوْ زَاهِدًا، أَوْ مِمَّنْ
يُتَبَرَّكُ بِهِ، فَقَدِ اسْتَحْسَنَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ النِّدَاءَ
فِي
__________
(1) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي سجي. . . " أخرجه
البخاري (فتح الباري 10 / 267 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 651 ط عيسى
الحلبي) من حديث عائشة.
(2) المراجع السابقة.
(3) فتح الباري 3 / 75، وشرح البهجة 1 / 124.
(16/6)
الأَْسْوَاقِ لِجِنَازَتِهِ وَهُوَ
الأَْصَحُّ، وَلَكِنْ لاَ يَكُونُ عَلَى هَيْئَةِ التَّفْخِيمِ،
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِنَحْوِ: مَاتَ الْفَقِيرُ إِلَى اللَّهِ
تَعَالَى فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ، (1) وَيَشْهَدُ لَهُ أَنَّ أَبَا
هُرَيْرَةَ كَانَ يُؤْذِنُ بِالْجِنَازَةِ فَيَمُرُّ بِالْمَسْجِدِ
فَيَقُول: عَبْدُ اللَّهِ دُعِيَ فَأَجَابَ، أَوْ أَمَةُ اللَّهِ دُعِيَتْ
فَأَجَابَتْ (2) . وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ بَأْسَ بِإِعْلاَمِ
أَقَارِبِهِ وَإِخْوَانِهِ مِنْ غَيْرِ نِدَاءٍ. (3)
وَقَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يُؤْخَذُ مِنْ مَجْمُوعِ
الأَْحَادِيثِ ثَلاَثُ حَالاَتٍ:
الأُْولَى: إِعْلاَمُ الأَْهْل وَالأَْصْحَابِ وَأَهْل الصَّلاَحِ فَهَذَا
سُنَّةٌ.
وَالثَّانِيَةُ: الدَّعْوَةُ لِلْمُفَاخَرَةِ بِالْكَثْرَةِ فَهَذَا
مَكْرُوهٌ.
وَالثَّالِثَةُ: الإِْعْلاَمُ بِنَوْعٍ آخَرَ كَالنِّيَاحَةِ وَنَحْوِ
ذَلِكَ فَهَذَا مُحَرَّمٌ. (4)
وَفِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ كُرِهَ صِيَاحٌ بِمَسْجِدٍ أَوْ بِبَابِهِ
بِأَنْ يُقَال: فُلاَنٌ قَدْ مَاتَ فَاسْعَوْا إِلَى جِنَازَتِهِ مَثَلاً،
إِلاَّ الإِْعْلاَمَ بِصَوْتٍ خَفِيٍّ أَيْ مِنْ غَيْرِ صِيَاحٍ فَلاَ
يُكْرَهُ.
فَالنَّعْيُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ اتِّفَاقًا، وَهُوَ أَنْ يَرْكَبَ رَجُلٌ
دَابَّةً يَصِيحُ فِي النَّاسِ أَنْعِي فُلاَنًا، أَوْ كَمَا مَرَّ عَنِ
__________
(1) الهندية 1 / 155، وابن عابدين 1 / 597، 629.
(2) رواه ابن أبي شيبة 4 / 99.
(3) غاية المنتهى 1 / 228.
(4) فتح الباري 3 / 75.
(16/6)
النَّخَعِيِّ، أَوْ أَنْ يُنَادَى
بِمَوْتِهِ، وَيُشَادَ بِمَفَاخِرِهِ. وَبِهِ يَقُول الْحَنَفِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ. (1) وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (نَعْيٌ) .
قَضَاءُ الدَّيْنِ:
5 - يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَارَعَ إِلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ أَوْ إِبْرَائِهِ
مِنْهُ، وَبِهِ قَال أَحْمَدُ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ مَرْفُوعًا نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى
يُقْضَى عَنْهُ.
قَال السُّيُوطِيُّ: سَوَاءٌ تَرَكَ الْمَيِّتُ وَفَاءً أَمْ لاَ، وَشَذَّ
الْمَاوَرْدِيُّ فَقَال: إِنَّ الْحَدِيثَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ يُخَلِّفُ
وَفَاءً (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ تَعَذَّرَ الْوَفَاءُ اسْتُحِبَّ لِوَارِثِهِ
أَوْ غَيْرِهِ أَنْ يَتَكَفَّل عَنْهُ، وَالْكَفَالَةُ بِدَيْنِ الْمَيِّتِ
قَال بِصِحَّتِهَا أَكْثَرُ الأَْئِمَّةِ، خِلاَفًا لأَِبِي حَنِيفَةَ،
فَإِنَّهُ لاَ تَصِحُّ عِنْدَهُ الْكَفَالَةُ بِدَيْنٍ عَلَى مَيِّتٍ
مُفْلِسٍ، وَإِنْ وَعَدَ أَحَدٌ بِأَدَاءِ دَيْنِ الْمَيِّتِ صَحَّ
عِنْدَهُ عِدَةً لاَ
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 229، والفتح 3 / 75، وشرح البهجة 1 / 124.
(2) تحفة الأحوذي 2 / 166 والحديث: " نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه.
. . " أخرجه أحمد (2 / 440 ط المكتب الإسلامي) ، والترمذي (3 / 380 مصطفى
الحلبي) والحاكم (2 / 27 ط دار الكتاب العربي) من حديث أبي هريرة وقال
الترمذي: هذا حديث حسن، وصحح الحديث الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
(16/7)
كَفَالَةً. وَذَهَبَ الطَّحْطَاوِيُّ إِلَى
قَوْل الْجُمْهُورِ. (1)
تَجْهِيزُ الْمَيِّتِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ تُيُقِّنَ الْمَوْتُ
يُبَادَرُ إِلَى التَّجْهِيزِ وَلاَ يُؤَخَّرُ " لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لاَ يَنْبَغِي لِجِيفَةِ مُسْلِمٍ أَنْ تُحْبَسَ
بَيْنَ ظَهْرَيْ أَهْلِهِ (2) وَتَشْهَدُ لَهُ أَحَادِيثُ الإِْسْرَاعِ
بِالْجِنَازَةِ، وَسَيَأْتِي عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ حَمْل الْجِنَازَةِ.
فَإِنْ مَاتَ فَجْأَةً تُرِكَ حَتَّى يُتَيَقَّنَ مَوْتُهُ، وَهُوَ مُفَادُ
كَلاَمِ الشَّافِعِيِّ فِي الأُْمِّ. وَفِي الْغَايَةِ سُنَّ إِسْرَاعُ
تَجْهِيزِهِ إِنْ مَاتَ غَيْرَ فَجْأَةٍ، وَيُنْتَظَرُ مَنْ مَاتَ فَجْأَةً
بِنَحْوِ صَعْقَةٍ، أَوْ مَنْ شُكَّ فِي مَوْتِهِ، حَتَّى يُعْلَمَ
بِانْخِسَافِ صُدْغَيْهِ إِلَخْ.
وَبِهِ يَقُول الْمَالِكِيَّةُ فَفِي مُقَدِّمَاتِ ابْنِ رُشْدٍ
يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَخَّرَ دَفْنُ الْغَرِيقِ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ
الْمَاءُ غَمَرَهُ فَلاَ تَتَبَيَّنَ حَيَاتُهُ. (3)
__________
(1) غاية المنتهى 1 / 228 وتحفة الأحوذي 2 / 162، وحاشية ابن عابدين 4 /
270.
(2) حديث: " لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس. . . " أخرجه أبو داود (3 / 510 -
ط عزت عبيد الدعاس) . والبيهقي (3 / 386 - ط دار المعرفة) من حديث حصين بن
وحوح مرسلا (الإصابة 1 / 340 - ط مؤسسة الرسالة) والأرناؤوط (جامع الأصول
11 / 141 - ط دار البيان) . .
(3) الهندية 1 / 157 وما بعدها، والغاية 1 / 167، 228
(16/7)
مَا لاَ يَنْبَغِي فِعْلُهُ بَعْدَ
الْمَوْتِ:
قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عِنْدَ الْمَيِّتِ:
7 - تُكْرَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عِنْدَ
الْمَيِّتِ حَتَّى يُغَسَّل (1) ، وَأَمَّا حَدِيثُ مَعْقِل بْنِ يَسَارٍ
مَرْفُوعًا اقْرَءُوا سُورَةَ يس عَلَى مَوْتَاكُمْ (2) فَقَال ابْنُ
حِبَّانَ: الْمُرَادُ بِهِ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا
أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ مَرْدُوَيْهِ مَرْفُوعًا مَا
مِنْ مَيِّتٍ يُقْرَأُ عِنْدَهُ يس إِلاَّ هَوَّنَ اللَّهُ عَلَيْهِ (3) "
وَخَالَفَهُ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْمُحَقِّقِينَ، فَأَخَذَ بِظَاهِرِ
الْخَبَرِ وَقَال: بَل يُقْرَأُ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهُوَ مُسَجًّى،
وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلاَفٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا. (4)
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْحَاصِل أَنَّ الْمَيِّتَ إِنْ كَانَ
__________
(1) الهندية 1 / 157 وما بعدها
(2) حديث: " اقرءوا سورة يس على موتاكم ". أخرجه أبو داود (3 / 489 - ط عزت
عبيد الدعاس) وابن ماجه (1 / 465 - 466 - ط عيسى الحلبي) والبيهقي (3 / 383
- ط دار المعرفة) . وقال ابن حجر (وأعله ابن القطان بالاضطراب وبالوقف
وبجهالة حال أبي عثمان وأبيه، ونقل أبو بكر بن العربي عن الدارقطني أنه
قال: هذا حديث ضعيف الإسناد مجهول المتن ولا يصح في الباب حديث أ. هـ من
التلخيص الحبير 2 / 104 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) حديث: " ما من ميت يقرأ عنده يس إلا هون الله عليه " أخرجه ابن حبان في
صحيحه (5 / 3 - ط دار الكتب العلمية) والديلمي في مسند الفردوس (4 / 328 -
ط دار الكتاب العربي) من حديث أبي الدرداء. ضعفه ابن حجر في التلخيص الحبير
(2 / 104 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(4) المرقاة 2 / 221.
(16/8)
مُحْدِثًا فَلاَ كَرَاهَةَ، وَإِنْ كَانَ
نَجِسًا كُرِهَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا أَيْضًا إِذَا لَمْ يَكُنِ
الْمَيِّتُ مُسَجًّى بِثَوْبٍ يَسْتُرُ جَمِيعَ بَدَنِهِ، وَكَذَا
يَنْبَغِي تَقْيِيدُ الْكَرَاهَةِ بِمَا إِذَا قَرَأَ جَهْرًا. (1)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُكْرَهُ قِرَاءَةُ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ
مُطْلَقًا. (2)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقْرَأُ عِنْدَ الْمَيِّتِ
قَبْل الدَّفْنِ لِئَلاَّ تَشْغَلَهُمُ الْقِرَاءَةُ عَنْ تَعْجِيل
تَجْهِيزِهِ، خِلاَفًا لاِبْنِ الرِّفْعَةِ وَبَعْضِهِمْ، وَجَوَّزَهُ
الرَّمْلِيُّ بَحْثًا. أَمَّا بَعْدَ الدَّفْنِ فَيُنْدَبُ عِنْدَهُمْ (3)
.
وَلَمْ نَعْثُرْ عَلَى تَصْرِيحٍ لِلْحَنَابِلَةِ فِي غَيْرِ
الْمُحْتَضَرِ.
النَّوْحُ وَالصِّيَاحُ عَلَى الْمَيِّتِ:
8 - يُكْرَهُ النَّوْحُ، وَالصِّيَاحُ، وَشَقُّ الْجُيُوبِ، فِي مَنْزِل
الْمَيِّتِ، وَفِي الْجَنَائِزِ، أَوْ فِي مَحَلٍّ آخَرَ لِلنَّهْيِ
عَنْهُ، وَلاَ بَأْسَ بِالْبُكَاءِ بِدَمْعٍ قَال الْحَنَفِيَّةُ:
وَالصَّبْرُ أَفْضَل. (4)
فَقَدْ رَوَى الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 598 (وحرفت العبارة فيه إلى أن الموت إن كان حدثا) .
(2) الشرح الصغير 1 / 228.
(3) نهاية المحتاج 2 / 428.
(4) الهندية 1 / 157 وما بعدها، ومراقي الفلاح ص 305 وما بعدها.
(16/8)
أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِئَ مِنَ الصَّالِقَةِ وَالْحَالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ
(1) . وَأَخْرَجَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ
الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ (2) .
وَأَمَّا الْبُكَاءُ بِغَيْرِ صَوْتٍ فَيَدُل عَلَى جَوَازِهِ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُفِعَ إِلَيْهِ ابْنٌ
لاِبْنَتِهِ وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ (3) فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَقَال:
هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ. (4)
وَقَوْل عُمَرَ: - فِي حَقِّ نِسَاءِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ - دَعْهُنَّ
يَبْكِينَ عَلَى أَبِي سُلَيْمَانَ مَا لَمْ يَكُنْ نَقْعٌ (5) أَوْ
لَقْلَقَةٌ (6) ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا. (7)
__________
(1) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة. . . . "
أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 165 - ط السلفية) ومسلم (1 / 100 - ط عيسى
الحلبي) من حديث أبي موسى الأشعري. والصالقة: هي التي ترفع صوتها بالبكاء.
والحالقة هي التي تحلق رأسها عند المصيبة. والشاقة هي التي تشق ثوبها عند
المصيبة.
(2) حديث: " ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا. . . . " أخرجه البخاري
(فتح الباري 3 / 166 - ط السلفية) ومسلم (1 / 99 - ط عيسى الحلبي) من حديث
عبد الله بن مسعود.
(3) القعقعة هي حكاية صوت الشيء اليابس إذا حرك.
(4) حديث: " هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده " أخرجه البخاري (فتح
الباري 3 / 151 - ط السلفية) ومسلم (2 / 636 - ط عيسى الحلبي) من حديث
أسامة بن زيد.
(5) النقع: التراب على الرأس.
(6) اللقلقة: الصوت يعني رفعه.
(7) أثر " دعهن يبكين على أبي سليمان. . . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 3
/ 160 - ط السلفية) معلقا. والبيهقي (4 / 71 - ط دار المعرفة) موصولا.
وعزاه ابن حجر إلى سنن سعيد بن منصور،. والتاريخ الأوسط والصغير للبخاري.
(فتح الباري 3 / 161 - ط السلفية) .
(16/9)
وَفِي الصَّبْرِ رَوَى الْبُخَارِيُّ:
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِامْرَأَةٍ
تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ فَقَال: اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي (1) .
وَالْمُرَادُ بِالْكَرَاهَةِ كَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ.
وَقَال السَّرَّاجُ: قَدْ أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ
النَّوْحِ، وَالدَّعْوَى بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ، ذَكَرَهُ
الطَّحْطَاوِيُّ (2) .
وَالْمُرَادُ بِالْبُكَاءِ فِي حَدِيثِ: إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ
بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ (3) النَّدْبُ، وَالنِّيَاحَةُ، وَإِنَّمَا
يُعَذَّبُ الْمَيِّتُ إِذَا أَوْصَى بِذَلِكَ. (4)
وَفِي غَايَةِ الْمُنْتَهَى مِنْ كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ لاَ يُكْرَهُ
بُكَاءٌ عَلَى مَيِّتٍ قَبْل مَوْتٍ وَلاَ بَعْدَهُ، بَل اسْتِحْبَابُ
الْبُكَاءِ رَحْمَةً لِلْمَيِّتِ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ، وَحَرُمَ نَدْبٌ
وَهُوَ بُكَاءٌ مَعَ تَعْدِيدِ مَحَاسِنِهِ، وَنَوْحٌ وَهُوَ رَفْعُ صَوْتٍ
بِذَلِكَ بِرِقَّةٍ وَشَقِّ ثَوْبٍ، وَكُرِهَ
__________
(1) حديث: " اتقي الله واصبري " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 125 - ط
السلفية) . ومسلم (2 / 637 - ط عيسى الحلبي) من حديث أنس بن مالك.
(2) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص354
(3) حديث: " إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه " أخرجه البخاري (فتح الباري 3
/ 151 - ط السلفية) ومسلم (2 / 638 - ط عيسى الحلبي) من حديث عبد الله بن
عمر.
(4) الدر وابن عابدين 1 / 633، والمقنع 1 / 284، 285.
(16/9)
اسْتِدَامَةُ لُبْسِ مَشْقُوقٍ، وَحَرُمَ
لَطْمُ خَدٍّ، وَخَمْشُهُ، وَصُرَاخٌ، وَنَتْفُ شَعْرٍ وَنَشْرُهُ
وَحَلْقُهُ، وَعَدَّ فِي (الْفُصُول) مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ إِظْهَارَ
الْجَزَعِ؛ لأَِنَّهُ يُشْبِهُ التَّظَلُّمَ مِنَ الظَّالِمِ، وَهُوَ
عَدْلٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ.
قَال صَاحِبُ الْغَايَةِ: (وَيُتَّجَهُ) وَمِثْلُهُ إِلْقَاءُ تُرَابٍ
عَلَى الرَّأْسِ، وَدُعَاءٌ بِوَيْلٍ وَثُبُورٍ، وَيُبَاحُ يَسِيرُ
نُدْبَةٍ لَمْ تَخْرُجْ مَخْرَجَ نَوْحٍ، نَحْوَ يَا أَبَتَاهُ يَا
وَلَدَاهُ، فَإِنْ زَادَ يَصِيرُ نَدْبًا وَيَجِبُ مَنْعُهُ لأَِنَّهُ
مُحَرَّمٌ. (1)
شَقُّ بَطْنِ الْمَيِّتَةِ لإِِخْرَاجِ الْجَنِينِ:
9 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْل ابْنِ سُرَيْجٍ وَبَعْضُ
الشَّافِعِيَّةِ، إِلَى أَنَّهُ إِنْ مَاتَتِ امْرَأَةٌ وَالْوَلَدُ
يَضْطَرِبُ فِي بَطْنِهَا يُشَقُّ بَطْنُهَا وَيُخْرَجُ الْوَلَدُ، وَقَال
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ لاَ يَسَعُ إِلاَّ ذَلِكَ. (2) وَمَذْهَبُ
الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمُتَّجَهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّهُ
يُشَقُّ لِلْوَلَدِ إِنْ كَانَ تُرْجَى حَيَاتُهُ. فَإِنْ كَانَ لاَ
تُرْجَى حَيَاتُهُ فَالأَْصَحُّ أَنَّهُ لاَ يُشَقُّ. وَعِنْدَ أَحْمَدَ
حَرُمَ شَقُّ بَطْنِهَا وَأَخْرَجَ نِسَاءٌ لاَ رِجَالٌ مَنْ تُرْجَى
حَيَاتُهُ، فَإِنْ تَعَذَّرَ لَمْ تُدْفَنْ حَتَّى يَمُوتَ، فَإِنْ لَمْ
يُوجَدْ نِسَاءٌ لَمْ يَسْطُ عَلَيْهِ الرِّجَال؛ لِمَا فِيهِ مِنْ هَتْكِ
حُرْمَةِ الْمَيِّتَةِ، وَيُتْرَكُ حَتَّى يُتَيَقَّنَ مَوْتُهُ. وَعَنْهُ
__________
(1) غاية المنتهى 1 / 255، 256.
(2) الهندية 1 / 157 وما بعدها.
(16/10)
يَسْطُو عَلَيْهِ الرِّجَال وَالأَْوْلَى
بِذَلِكَ الْمَحَارِمُ (1) .
وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ يُبْقَرُ بَطْنُ
الْمَيِّتَةِ إِذَا كَانَ جَنِينُهَا يَضْطَرِبُ فِي بَطْنِهَا. وَقَال
سَحْنُونٌ مِنْهُمْ: سَمِعْتُ أَنَّ الْجَنِينَ إِذَا اسْتُيْقِنَ
بِحَيَاتِهِ وَكَانَ مَعْرُوفَ الْحَيَاةِ، فَلاَ بَأْسَ أَنْ يُبْقَرَ
بَطْنُهَا وَيُسْتَخْرَجَ الْوَلَدُ. (2)
وَفِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ لاَ يُشَقُّ بَطْنُ الْمَرْأَةِ عَنْ جَنِينٍ
وَلَوْ رُجِيَ حَيَاتُهُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَلَكِنْ لاَ تُدْفَنُ
حَتَّى يُتَحَقَّقَ مَوْتُهُ وَلَوْ تَغَيَّرَتْ. وَاتَّفَقُوا عَلَى
أَنَّهُ إِنْ أَمْكَنَ إِخْرَاجُهُ بِحِيلَةٍ غَيْرِ الشَّقِّ وَجَبَتْ.
(3)
غُسْل الْمَيِّتِ:
9 م - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ تَغْسِيل الْمَيِّتِ
وَاجِبُ كِفَايَةٍ بِحَيْثُ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ
الْبَاقِينَ، وَتَفْصِيل أَحْكَامِهِ فِي مُصْطَلَحِ: " تَغْسِيل
الْمَيِّتِ "
تَكْفِينُ الْمَيِّتِ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَكْفِينَ الْمَيِّتِ بِمَا
يَسْتُرُهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ.
وَتَفْصِيل أَحْكَامِهِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَكْفِينٌ) .
__________
(1) غاية المنتهى وحاشيته 1 / 245.
(2) المدونة 172.
(3) بلغة السالك 1 / 232.
(16/10)
حَمْل الْجِنَازَةِ:
حُكْمُ الْحَمْل وَكَيْفِيَّتُهُ:
11 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ حَمْل الْجِنَازَةِ فَرْضٌ عَلَى
الْكِفَايَةِ، وَيَجُوزُ الاِسْتِئْجَارُ عَلَى حَمْل الْجِنَازَةِ (1) .
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ حَمْل الْجِنَازَةِ وَعَدَدُ حَامِلِيهَا فَيُسَنُّ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَحْمِلَهَا أَرْبَعَةُ رِجَالٍ، فَإِذَا
حَمَلُوا الْمَيِّتَ عَلَى سَرِيرٍ أَخَذُوهُ بِقَوَائِمِهِ الأَْرْبَعِ
وَبِهِ وَرَدَتِ السُّنَّةُ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ
مَسْعُودٍ قَال: " مَنِ اتَّبَعَ جِنَازَةً فَلْيَحْمِل بِجَوَانِبِ
السَّرِيرِ كُلِّهَا فَإِنَّهُ مِنَ السُّنَّةِ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ
فَلْيَتَطَوَّعْ وَإِنْ شَاءَ فَلْيَدَعْ ". (2)
12 - ثُمَّ إِنَّ فِي حَمْل الْجِنَازَةِ شَيْئَيْنِ: نَفْسَ السُّنَّةِ،
وَكَمَالَهَا، أَمَّا نَفْسُ السُّنَّةِ فَهِيَ أَنْ تَأْخُذَ
بِقَوَائِمِهَا الأَْرْبَعِ عَلَى طَرِيقِ التَّعَاقُبِ بِأَنْ يَحْمِل
مِنْ كُل جَانِبٍ عَشْرَ خُطُوَاتٍ.
وَأَمَّا كَمَال السُّنَّةِ، فَهُوَ أَنْ يَبْدَأَ الْحَامِل بِحَمْل
الْجِنَازَةِ مِنْ جَانِبِ يَمِينِ مُقَدَّمِ الْمَيِّتِ وَهُوَ يَسَارَ
__________
(1) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 352، وغاية المنتهى 1 / 246، وشرح البهجة
1 / 98، والهندية 1 / 160.
(2) حديث: " من اتبع جنازة فليحمل. . . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 474 ط عيسى
الحلبي) وضعفه البوصيري في الزوائد (2 / 28 ط الدار العربية) وابن حجر في
التلخيص الحبير (2 / 110 - 111 ط شركة الطباعة الفنية) وهو عند الطيالسي
كذلك، منحة رقم 784 ط المنيرية والبيهقي (4 / 19 - 20 ط دار المعرفة)
جميعهم من حديث ابن مسعود.
(16/11)
الْجِنَازَةِ. . . فَيَحْمِلَهُ عَلَى
عَاتِقِهِ الأَْيْمَنِ، ثُمَّ الْمُؤَخَّرَ الأَْيْمَنَ لِلْمَيِّتِ عَلَى
عَاتِقِهِ الأَْيْمَنِ، ثُمَّ الْمُقَدَّمَ الأَْيْسَرَ لِلْمَيِّتِ عَلَى
عَاتِقِهِ الأَْيْسَرِ، ثُمَّ الْمُؤَخَّرَ الأَْيْسَرَ لِلْمَيِّتِ عَلَى
عَاتِقِهِ الأَْيْسَرِ.
وَيُكْرَهُ حَمْلُهَا بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ، بِأَنْ يَحْمِلَهَا رَجُلاَنِ
أَحَدُهُمَا يَحْمِل مُقَدَّمَهَا وَالآْخَرُ مُؤَخَّرَهَا؛ لأَِنَّهُ
يَشُقُّ عَلَى الْحَامِلَيْنِ، وَلاَ يُؤْمَنُ مِنْ سُقُوطِ الْجِنَازَةِ.
إِلاَّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، مِثْل ضِيقِ الْمَكَانِ (أَوْ قِلَّةِ
الْحَامِلِينَ) أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ حُمِل مَا رُوِيَ مِنَ
الْحَمْل بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ. (1)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الأَْفْضَل أَنْ يُجْمَعَ فِي حَمْل الْجِنَازَةِ
بَيْنَ التَّرْبِيعِ وَالْحَمْل بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ
فِعْل ابْنِ عُمَرَ وَسَالِمٍ، فَإِنْ أَرَادَ أَحَدَهُمَا فَالْحَمْل
بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ أَفْضَل، وَالتَّرْبِيعُ أَنْ يَحْمِلَهَا
أَرْبَعَةٌ مِنْ جَوَانِبِهَا الأَْرْبَعَةِ، وَالْحَمْل بَيْنَ
الْعَمُودَيْنِ أَنْ يَحْمِلَهَا ثَلاَثَةُ رِجَالٍ، أَحَدُهُمْ يَكُونُ
فِي مُقَدَّمِهَا، يَضَعُ الْخَشَبَتَيْنِ الشَّاخِصَتَيْنِ عَلَى
عَاتِقَيْهِ وَالْمُعْتَرِضَةَ بَيْنَهُمَا عَلَى كَتِفَيْهِ،
وَالآْخَرَانِ يَحْمِلاَنِ مُؤَخَّرَهَا، كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَشَبَةً
عَلَى عَاتِقِهِ، فَإِنْ عَجَزَ الْمُتَقَدِّمُ عَنْ حَمْل الْمُقَدَّمَ
وَحْدَهُ أَعَانَهُ رَجُلاَنِ خَارِجَ الْعَمُودَيْنِ فَيَصِيرُونَ
خَمْسَةً. (2)
__________
(1) الدر وابن عابدين 1 / 623، والهندية 1 / 59 واللفظ لها، والبدائع 1 /
308 - 309، والبحر 2 / 193.
(2) ابن أبي شيبة 4 / 97، والتنبيه ص 28، تصحيح التنبيه للنووي ص 28.
(16/11)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُسْتَحَبُّ
التَّرْبِيعُ فِي حَمْلِهِ، وَهُوَ أَنْ يَضَعَ قَائِمَةَ السَّرِيرِ
الْيُسْرَى الْمُقَدَّمَةَ (عِنْدَ السَّيْرِ) عَلَى كَتِفِهِ الْيُمْنَى،
ثُمَّ يَنْتَقِل إِلَى الْمُؤَخَّرَةِ، ثُمَّ يَضَعَ الْقَائِمَةَ
الْيُمْنَى عَلَى كَتِفِهِ الْيُسْرَى، ثُمَّ يَنْتَقِل إِلَى
الْمُؤَخَّرَةِ، وَإِنْ حَمَل بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ فَحَسَنٌ.
وَفِي غَايَةِ الْمُنْتَهَى: كَرِهَ الآْجُرِّيُّ وَغَيْرُهُ التَّرْبِيعَ
مَعَ زِحَامٍ، وَلاَ يُكْرَهُ الْحَمْل بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ كُل وَاحِدٍ
عَلَى عَاتِقٍ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَوْلَى. (1)
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: حَمْل الْمَيِّتِ لَيْسَ لَهُ
كَيْفِيَّةٌ مُعَيَّنَةٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَحْمِلَهُ أَرْبَعَةُ أَشْخَاصٍ،
وَثَلاَثَةٌ، وَاثْنَانِ بِلاَ كَرَاهَةٍ، وَلاَ يَتَعَيَّنُ الْبَدْءُ
بِنَاحِيَةٍ مِنَ السَّرِيرِ (النَّعْشِ (2)) .
13 - وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذَ
السَّرِيرَ بِيَدِهِ أَوْ يَضَعَ عَلَى الْمَنْكِبِ (يَعْنِي بَعْدَ أَخْذِ
قَائِمَةِ السَّرِيرِ بِالْيَدِ لاَ ابْتِدَاءً كَمَا تُحْمَل الأَْثْقَال)
، وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِحُرْمَةِ حَمْل الْجِنَازَةِ عَلَى هَيْئَةٍ
مُزْرِيَةٍ، كَحَمْلِهِ فِي قُفَّةٍ، وَغِرَارَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ،
وَيَحْرُمُ كَذَلِكَ حَمْلُهُ عَلَى هَيْئَةٍ يُخَافُ مِنْهَا سُقُوطُهُ.
وَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَضَعَ نِصْفَهُ عَلَى الْمَنْكِبِ وَنِصْفَهُ عَلَى
أَصْل الْعُنُقِ، وَيُكْرَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ حَمْلُهُ عَلَى
الظَّهْرِ وَالدَّابَّةِ بِلاَ عُذْرٍ. أَمَّا إِذَا
__________
(1) المقنع 1 / 279.
(2) الشرح الصغير 1 / 227، والمشرب الوردي 237.
(16/12)
كَانَ عُذْرٌ بِأَنْ كَانَ الْمَحَل
بَعِيدًا يَشُقُّ حَمْل الرِّجَال لَهُ، أَوْ لَمْ يَكُنِ الْحَامِل إِلاَّ
وَاحِدًا، فَحَمَلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ فَلاَ كَرَاهَةَ إِذَنْ وِفَاقًا
لِلشَّافِعِيَّةِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا لاَ يُكْرَهُ حَمْلُهَا
عَلَى دَابَّةٍ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ، وَذَكَرَ الإِْسْبِيجَابِيُّ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الصَّبِيَّ الرَّضِيعَ، أَوِ الْفَطِيمَ، أَوْ مَنْ
جَاوَزَ ذَلِكَ قَلِيلاً، إِذَا مَاتَ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَحْمِلَهُ رَجُلٌ
وَاحِدٌ عَلَى يَدَيْهِ، وَيَتَدَاوَلَهُ النَّاسُ بِالْحَمْل عَلَى
أَيْدِيهِمْ، وَلاَ بَأْسَ بِأَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى يَدَيْهِ وَهُوَ
رَاكِبٌ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا يُحْمَل عَلَى الْجِنَازَةِ، وَاتَّفَقُوا
عَلَى أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ حَمْل الطِّفْل عَلَى الْيَدَيْنِ بَل يُنْدَبُ
ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لاَ
يُكْرَهُ حَمْل جِنَازَةِ الْكَبِيرِ بِأَعْمِدَةٍ عِنْدَ الْحَاجَةِ.
وَيُسْرَعُ بِالْمَيِّتِ وَقْتَ الْمَشْيِ (1) بِلاَ خَبَبٍ (2) ،
وَحَدُّهُ أَنْ يُسْرَعَ بِهِ بِحَيْثُ لاَ يَضْطَرِبُ الْمَيِّتُ عَلَى
الْجِنَازَةِ، وَيُكْرَهُ بِخَبَبٍ (3) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ (4) أَيْ مَا دُونَ الْخَبَبِ كَمَا
فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، سَأَلْنَا رَسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ اللَّهِ عَنِ الْمَشْيِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 623، والبحر 2 / 191، والمجموع 5 / 270، والطحطاوي على
مراقي الفلاح 352، وغاية المنتهى 1 / 246.
(2) بخاء معجمه وموحدتين مفتوحات ضرب من العدو دون العنق، والعنق (بفتحتين)
خط فسيح.
(3) المراجع السابقة
(4) حديث: " أسرعوا بالجنازة " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 182 - 183 ط
السلفية) ومسلم (2 / 651 - 652 ط عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(16/12)
خَلْفَ الْجِنَازَةِ فَقَال: مَا دُونَ
الْخَبَبِ (1) قَال الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: نَقَل ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّ
الأَْمْرَ فِيهِ لِلاِسْتِحْبَابِ بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. (2)
وَأَمَّا مَا يُحْكَى عَنِ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ أَنَّهُ يُكْرَهُ
الإِْسْرَاعُ الشَّدِيدُ، فَقَال الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: مَال عِيَاضٌ
إِلَى نَفْيِ الْخِلاَفِ فَقَال: مَنِ اسْتَحَبَّهُ أَرَادَ الزِّيَادَةَ
عَلَى الْمَشْيِ الْمُعْتَادِ، وَمَنْ كَرِهَهُ أَرَادَ الإِْفْرَاطَ فِيهِ
كَالرَّمَل. (3)
وَكَذَا يُسْتَحَبُّ الإِْسْرَاعُ بِتَجْهِيزِهِ كُلِّهِ مِنْ حِينِ
مَوْتِهِ، فَلَوْ جُهِّزَ الْمَيِّتُ صَبِيحَةَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ
يُكْرَهُ تَأْخِيرُ الصَّلاَةِ عَلَيْهِ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ الْجَمْعُ
الْعَظِيمُ، وَلَوْ خَافُوا فَوْتَ الْجُمُعَةِ بِسَبَبِ دَفْنِهِ
يُؤَخَّرُ الدَّفْنُ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا،
بِالإِْسْرَاعِ بِتَجْهِيزِهِ إِلاَّ إِذَا شُكَّ فِي مَوْتِهِ،
وَيُقَدَّمُ رَأْسُ الْمَيِّتِ فِي حَال الْمَشْيِ بِالْجِنَازَةِ (4) .
تَشْيِيعُ الْجِنَازَةِ:
14 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ تَشْيِيعَ الرِّجَال
لِلْجِنَازَةِ سُنَّةٌ؛ لِحَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: أَمَرَنَا
__________
(1) حديث ما دون الخبب أخرجه أبو داود (3 / 525 ط عزت عبيد الدعاس)
والترمذي (3 / 323 مصطفى الحلبي) وضعفاه وهو حديث عبد الله بن مسعود
(2) فتح الباري 3 / 119.
(3) المرجع السابق.
(4) الشرح الصغير 1 / 226، وشرح البهجة 2 / 82، والهندية 1 / 159.
(16/13)
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ (1) وَالأَْمْرُ هُنَا لِلنَّدْبِ لاَ
لِلْوُجُوبِ لِلإِْجْمَاعِ، وَقَال الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ مِنَ
الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ اتِّبَاعَ الْجِنَازَةِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ عَلَى
الْكِفَايَةِ. (2)
وَقَال الشَّيْخُ مَرْعِي الْحَنْبَلِيُّ: اتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ سُنَّةٌ،
قَال الْحَنَفِيَّةُ اتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ أَفْضَل مِنَ النَّوَافِل
إِذَا كَانَ لِجِوَارٍ وَقَرَابَةٍ، أَوْ صَلاَحٍ مَشْهُورٍ، وَالأَْفْضَل
لِمُشَيِّعِ الْجِنَازَةِ الْمَشْيُ خَلْفَهَا، وَبِهِ قَال
الأَْوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ عَلَى مَا حَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ " لِحَدِيثِ
الْجِنَازَةُ مَتْبُوعَةٌ وَلاَ تُتْبَعُ لَيْسَ مَعَهَا مَنْ تَقَدَّمَهَا
(3) إِلاَّ أَنْ يَكُونَ خَلْفَهَا نِسَاءٌ فَالْمَشْيُ أَمَامَهَا
أَحْسَنُ، وَلَكِنْ إِنْ تَبَاعَدَ عَنْهَا (بِحَيْثُ يُعَدُّ مَاشِيًا
وَحْدَهُ أَوْ تَقَدَّمَ الْكُل، وَتَرَكُوهَا خَلْفَهُمْ لَيْسَ مَعَهَا
أَحَدٌ) أَوْ رَكِبَ أَمَامَهَا كُرِهَ، وَأَمَّا الرُّكُوبُ خَلْفَهَا
فَلاَ بَأْسَ بِهِ، وَالْمَشْيُ أَفْضَل، وَالْمَشْيُ عَنْ يَمِينِهَا أَوْ
يَسَارِهَا خِلاَفُ الأَْوْلَى، لأَِنَّ فِيهِ تَرْكَ الْمَنْدُوبِ وَهُوَ
اتِّبَاعُهَا. (4) وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ: الْمَشْيُ أَمَامَ الْجِنَازَةِ أَفْضَل،
__________
(1) حديث: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع الجنائز " أخرجه
البخاري (فتح الباري 3 / 112 ط السلفية) ومسلم (3 / 1635 ط عيسى الحلبي) من
حديث البراء بن عازب.
(2) ابن عابدين 1 / 624، والهندية 1 / 159، والفتح 3 / 125، وشرح مسلم
للنووي 1 / 188.
(3) حديث: " الجنازة متبوعة ولا تتبع، ليس معها من تقدمها " أخرجه أبو داود
(3 / 525 ط عزت عبيد الدعاس) والترمذي (3 / 323 ط مصطفى الحلبي) من حديث
ابن مسعود، وضعفا الحديث وعزا الترمذي كذلك تضعيفه للبخاري.
(4) الغاية 1 / 240، والهندية 1 / 159، والدر وابن عابدين 1 / 624.
(16/13)
لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانُوا يَمْشُونَ
أَمَامَ الْجِنَازَةِ (1) . وَرُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ كِلاَ
الأَْمْرَيْنِ وَقَدْ قَال عَلِيٌّ: إِنَّ فَضْل الْمَاشِي خَلْفَهَا عَلَى
الَّذِي يَمْشِي أَمَامَهَا كَفَضْل صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلاَةِ
الْفَذِّ. وَقَال الثَّوْرِيُّ: كُل ذَلِكَ فِي الْفَضْل سَوَاءٌ. (2)
15 - وَأَمَّا النِّسَاءُ فَلاَ يَنْبَغِي لَهُنَّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
أَنْ يَخْرُجْنَ فِي الْجِنَازَةِ، فَفِي الدُّرِّ يُكْرَهُ خُرُوجُهُنَّ
تَحْرِيمًا، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ: ارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ. (3)
وَلِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ: نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ،
وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا. (4) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ
__________
(1) حديث: " لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا
يمشون أمام الجنازة " أخرجه أحمد (7 / 266 / 6042 ط دار المعارف) (وأبو
داود 3 / 522 ط عزت عبيد الدعاس) والترمذي (3 / 329 ط مصطفى الحلبي) من
حديث ابن عمر، وصحح الحديث أحمد شاكر في المسند (7 / 266 ط دار المعارف) .
(2) بداية المجتهد 213، والأم 1 / 240، والغاية 1 / 246، والمرقاة 2 / 263،
والفتح 3 / 119، والزرقاني على الموطأ 2 / 156.
(3) حديث: " ارجعن مأزورات غير مأجورات " أخرجه ابن ماجه (1 / 502 - 503 ط
عيسى الحلبي) من حديث علي ابن أبي طالب. ضعفه البوصيري في الزوائد (2 / 44
ط الدار العربية) قال الهيثمي رواه أبو يعلى وفيه الحارث بن زياد، قال
الذهبي: ضعفوه (مجمع الزوائد 3 / 28 ط دار الكتاب العربي) .
(4) حديث: " نهينا عن اتباع الجنائز " أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 144 ط
السلفية) ومسلم (2 / 646 ط عيسى الحلبي) من حديث أم عطية.
(16/14)
لِفَاطِمَةَ: لَعَلَّكِ بَلَغْتِ مَعَهُمُ
الْكُدَى (الْمَقَابِرَ) (1) وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَقَال
النَّوَوِيُّ: مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَلَيْسَ
بِحَرَامٍ، وَفَسَّرَ قَوْل أُمِّ عَطِيَّةَ وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهُ نَهْيَ
كَرَاهِيَةِ تَنْزِيهٍ، لاَ نَهْيَ عَزِيمَةٍ وَتَحْرِيمٍ. (2)
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَفِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: جَازَ خُرُوجُ
مُتَجَالَّةٍ (كَبِيرَةُ السِّنِّ) لِجِنَازَةٍ مُطْلَقًا، وَكَذَا
شَابَّةٌ لاَ تُخْشَى فِتْنَتُهَا، لِجِنَازَةِ مَنْ عَظُمَتْ مُصِيبَتُهُ
عَلَيْهَا، كَأَبٍ، وَأُمٍّ، وَزَوْجٍ، وَابْنٍ، وَبِنْتٍ، وَأَخٍ،
وَأُخْتٍ، أَمَّا مَنْ تُخْشَى فِتْنَتُهَا فَيَحْرُمُ خُرُوجُهَا
مُطْلَقًا.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: كُرِهَ أَنْ تَتْبَعَ الْجِنَازَةَ امْرَأَةٌ
وَحَكَى الشَّوْكَانِيُّ عَنِ الْقُرْطُبِيِّ أَنَّهُ قَال: إِذَا أُمِنَ
مِنْ تَضْيِيعِ حَقِّ الزَّوْجِ وَالتَّبَرُّجِ وَمَا يَنْشَأُ مِنَ
الصِّيَاحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلاَ مَانِعَ مِنَ الإِْذْنِ لَهُنَّ، ثُمَّ
قَال الشَّوْكَانِيُّ: هَذَا الْكَلاَمُ هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي
اعْتِمَادُهُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الأَْحَادِيثِ الْمُتَعَارِضَةِ. (3)
قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَإِذَا كَانَ مَعَ الْجِنَازَةِ نَائِحَةٌ أَوْ
__________
(1) حديث: " لعلك بلغت معهم الكدى (المقابر) " أخرجه أبو داود (3 / 490 -
491 ط عزت عبيد الدعاس) والنسائي (4 / 27 ط دار البشائر الإسلامية) وأحمد
(10 / 106 - 107 ط دار المعارف. وقال أحمد شاكر: إسناده حسن) .
(2) ابن عابدين 1 / 208، 304، 624، وشرح مسلم 1 / 504.
(3) الشرح الصغير طبعة دار المعارف 1 / 566، وغاية المنتهى 1 / 246، ونيل
الأوطار 4 / 95.
(16/14)
صَائِحَةٌ زُجِرَتْ، فَإِنْ لَمْ
تَنْزَجِرْ فَلاَ بَأْسَ بِأَنْ يَمْشِيَ مَعَهَا؛ لأَِنَّ اتِّبَاعَ
الْجِنَازَةِ سُنَّةٌ فَلاَ يَتْرُكُهُ لِبِدْعَةٍ مِنْ غَيْرِهِ (لَكِنْ
يَمْشِي أَمَامَ الْجِنَازَةِ كَمَا تَقَدَّمَ) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: حَرُمَ أَنْ يَتْبَعَهَا الْمُشَيِّعُ مَعَ
مُنْكَرٍ، نَحْوَ صُرَاخٍ، وَنَوْحٍ، وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ إِزَالَتِهِ،
وَيَلْزَمُ الْقَادِرَ إِزَالَتُهُ. (1)
مَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْعَل مَعَ الْجِنَازَةِ وَمَا لاَ يَنْبَغِي:
اتِّبَاعُ الْجِنَازَةِ بِمِبْخَرَةٍ أَوْ نَارٍ:
16 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِنَازَةَ لاَ تُتْبَعُ بِنَارٍ
فِي مِجْمَرَةٍ (مِبْخَرَةٍ) وَلاَ شَمْعٍ، وَفِي مَرَاقِي الْفَلاَحِ: لاَ
تُتْبَعُ الْجِنَازَةُ بِصَوْتٍ وَلاَ نَارٍ، وَيُكْرَهُ تَجْمِيرُ
الْقَبْرِ.
إِلاَّ لِحَاجَةِ ضَوْءٍ أَوْ نَحْوِهِ. (2) لِحَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ
مَرْفُوعًا: لاَ تُتْبَعُ الْجِنَازَةُ بِصَوْتٍ وَلاَ نَارٍ. (3)
الْجُلُوسُ قَبْل وَضْعِ الْجِنَازَةِ:
17 - يُكْرَهُ لِمُتَّبِعِ الْجِنَازَةِ أَنْ يَجْلِسَ قَبْل وَضْعِهَا
لِلنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ. فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: مَنْ تَبِعَ
جِنَازَةً فَلاَ يَقْعُدَنَّ حَتَّى تُوضَعَ (4)
__________
(1) ابن عابدين 1 / 624، وغاية المنتهى 1 / 246.
(2) الهندية 1 / 158، 159، والبحر 2 / 177، والزرقاني 2 / 57، والشرح
الصغير 1 / 229، ومغني المحتاج 1 / 360، وغاية المنتهى 1 / 246.
(3) حديث: " لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار " أخرجه أبو دواد (3 / 517 - 518
ط عزت عبيد الدعاس) وأحمد (2 / 427 ط المكتب الإسلامي) من حديث أبي هريرة.
قال الأرناؤوط: (وهو حسن بشواهده. جامع الأصول 11 / 121 ط دار البيان) .
(4) حديث: " من تبع جنازة فلا يقعدن حتى توضع " أخرجه البخاري (فتح الباري
3 / 178 ط السلفية) ومسلم (2 / 660 ط عيسى الحلبي من حديث أبي سعيد) .
(16/15)
قَال الطَّحْطَاوِيُّ: إِنَّ فِي
الْجُلُوسِ قَبْل وَضْعِهَا ازْدِرَاءً بِهَا، قَال الْحَازِمِيُّ:
وَمِمَّنْ رَأَى ذَلِكَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ،
وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَالأَْوْزَاعِيُّ، وَأَهْل
الشَّامِ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَذَكَرَ النَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ
أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَجْلِسُوا حَتَّى تُوضَعَ عَنْ
مَنَاكِبِ الرِّجَال وَبِهِ قَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ.
قَال ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ. ذَهَبَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ إِلَى اسْتِحْبَابِ الْقِيَامِ، كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ
الْمُنْذِرِ، وَهُوَ قَوْل الأَْوْزَاعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ،
وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
اسْتِحْبَابُ الْقِيَامِ مَعَ الْجِنَازَةِ حَتَّى تُوضَعَ، قَال
الْحَازِمِيُّ: وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ آخَرُونَ، وَرَأَوُا الْجُلُوسَ
أَوْلَى، وَقَال بَعْضُ السَّلَفِ: يَجِبُ الْقِيَامُ.
فَإِذَا وُضِعَتِ الْجِنَازَةُ عَلَى الأَْرْضِ عِنْدَ الْقَبْرِ فَلاَ
بَأْسَ بِالْجُلُوسِ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ قَبْل أَنْ تُوضَعَ عَنْ
مَنَاكِبِ الرِّجَال.
وَالأَْفْضَل أَنْ لاَ يَجْلِسُوا مَا لَمْ يُسَوُّوا عَلَيْهِ التُّرَابَ
(1) لِرِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنْ سُهَيْل بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " حَتَّى تُوضَعَ فِي
__________
(1) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 333 ط دار الإيمان، وتحفة الأحوذي 2 /
145، والاعتبار 138، والفتح 3 / 116، والمجموع للنووي 5 / 280.
(16/15)
اللَّحْدِ " وَخَالَفَهُ الثَّوْرِيُّ
وَهُوَ أَحْفَظُ فَقَال: " فِي الأَْرْضِ ".
وَنَقَل حَنْبَلٌ (مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ) لاَ بَأْسَ بِقِيَامِهِ عَلَى
الْقَبْرِ حَتَّى تُدْفَنَ جَبْرًا وَإِكْرَامًا، وَكَانَ أَحْمَدُ إِذَا
حَضَرَ جِنَازَةً وَلِيَهَا لَمْ يَجْلِسْ حَتَّى تُدْفَنَ. (1)
الْقِيَامُ لِلْجِنَازَةِ:
18 - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَأَحْمَدَ لاَ يَقُومُ لِلْجِنَازَةِ (إِذَا
مَرَّتْ بِهِ) إِلاَّ أَنْ يُرِيدَ أَنْ يَشْهَدَهَا، وَكَذَا إِذَا كَانَ
الْقَوْمُ فِي الْمُصَلَّى، وَجِيءَ بِجِنَازَةٍ، قَال بَعْضُهُمْ: لاَ
يَقُومُونَ إِذَا رَأَوْهَا قَبْل أَنْ تُوضَعَ الْجِنَازَةُ عَنِ
الأَْعْنَاقِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ قَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا رَأَيْتُمُ الْجِنَازَةَ
فَقُومُوا لَهَا حَتَّى تَخْلُفَكُمْ أَوْ تُوضَعَ (2) مَنْسُوخٌ بِمَا
رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَامَ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَعَدَ (3) ، قَال
الْحَازِمِيُّ: قَال أَكْثَرُ أَهْل الْعِلْمِ: لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ
الْقِيَامُ لِجِنَازَةٍ، وَبِهِ قَال مَالِكٌ وَأَهْل الْحِجَازِ
وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ، وَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الأَْمْرَ
بِالْقِيَامِ مَنْسُوخٌ، وَكَذَا قَال الْقَاضِي عِيَاضٌ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: كُرِهَ قِيَامٌ لَهَا (أَيْ لِلْجِنَازَةِ) لَوْ
__________
(1) غاية المنتهى 1 / 247.
(2) حديث: " إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها. . . . " أخرجه البخاري (فتح
الباري 3 / 178 ط السلفية) ومسلم (2 / 659 ط عيسى الحلبي) من حديث عامر بن
ربيعة.
(3) حديث: " قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قعد " أخرجه مسلم (2 /
661 - 662 ط عيسى الحلبي) من حديث علي بن أبي طالب.
(16/16)
جَاءَتْ أَوْ مَرَّتْ بِهِ وَهُوَ جَالِسٌ،
وَقَال فِي الْمُغْنِي: كَانَ آخِرُ الأَْمْرَيْنِ مِنْ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْكُ الْقِيَامِ لِلْجِنَازَةِ،
وَالأَْخْذُ بِآخِرِ الأَْمْرَيْنِ أَوْلَى. (1)
وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِنَا أَنَّ الْقِيَامَ
لَيْسَ مُسْتَحَبًّا. وَقَالُوا: هُوَ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ ثُمَّ
قَال النَّوَوِيُّ: اخْتَارَ الْمُتَوَلِّي مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ
الْقِيَامَ مُسْتَحَبٌّ وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ، فَيَكُونُ الأَْمْرُ
بِهِ لِلنَّدْبِ، وَالْقُعُودُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَلاَ يَصِحُّ
دَعْوَى النَّسْخِ فِي مِثْل هَذَا؛ لأَِنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا يَكُونُ
إِذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ وَلَمْ يَتَعَذَّرْ. قَال الْقَلْيُوبِيُّ مِنَ
الشَّافِعِيَّةِ: وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ.
وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ حَبِيبٍ
وَابْنِ الْمَاجِشُونِ الْمَالِكِيِّينَ أَنَّهُمْ قَالُوا: هُوَ مُخَيَّرٌ
(2) .
الصَّمْتُ فِي اتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ:
19 - يَنْبَغِي لِمَنْ تَبِعَ الْجِنَازَةَ أَنْ يُطِيل الصَّمْتَ،
وَيُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ
وَغَيْرِهِمَا، لِمَا رُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادَةَ أَنَّهُ قَال:
كَانَ أَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَكْرَهُونَ رَفْعَ الصَّوْتِ عِنْدَ ثَلاَثَةٍ: عِنْدَ الْقِتَال،
وَعِنْدَ الْجِنَازَةِ، وَالذِّكْرِ (3) .
__________
(1) الهندية 1 / 160 والاعتبار للحازمي طبع حيدر آباد ص 138، والمجموع
للنووي 5 / 280، وغاية المنتهى وحواشيه 1 / 246.
(2) شرح مسلم 1 / 310، والقليوبي 1 / 330.
(3) حديث: " كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون رفع الصوت عند
ثلاثة. . . " أخرجه البيهقي (4 / 74 ط دار المعرفة) عن قيس بن عباد.
(16/16)
وَهَذِهِ الْكَرَاهَةُ قِيل: كَرَاهَةُ
تَحْرِيمٍ، وَقِيل: تَرْكُ الأَْوْلَى. فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ
اللَّهَ تَعَالَى فَفِي نَفْسِهِ، أَيْ سِرًّا بِحَيْثُ يُسْمِعُ نَفْسَهُ،
وَفِي السِّرَاجِ: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ تَبِعَ الْجِنَازَةَ أَنْ يَكُونَ
مَشْغُولاً بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوِ التَّفَكُّرِ فِيمَا يَلْقَاهُ
الْمَيِّتُ، وَأَنَّ هَذَا عَاقِبَةُ أَهْل الدُّنْيَا، وَلْيَحْذَرْ
عَمَّا لاَ فَائِدَةَ فِيهِ مِنَ الْكَلاَمِ، فَإِنَّ هَذَا وَقْتُ ذِكْرٍ
وَمَوْعِظَةٍ، فَتَقْبُحُ فِيهِ الْغَفْلَةُ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ
تَعَالَى فَيَلْزَمِ الصَّمْتَ، وَلاَ يَرْفَعْ صَوْتَهُ بِالْقِرَاءَةِ
وَلاَ بِالذِّكْرِ، وَلاَ يَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ مَنْ يَفْعَل ذَلِكَ،
وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ الْجُهَّال مِنَ الْقِرَاءَةِ مَعَ الْجِنَازَةِ
مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ وَالتَّمْطِيطِ فِيهِ فَلاَ يَجُوزُ بِالإِْجْمَاعِ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ الْمُغِيرَةِ قَال: كَانَ رَجُلٌ
يَمْشِي خَلْفَ الْجِنَازَةِ وَيَقْرَأُ سُورَةَ الْوَاقِعَةِ فَسُئِل
إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ عَنْ ذَلِكَ فَكَرِهَهُ (1) وَلاَ يَسَعُ
أَحَدًا يَقْدِرُ عَلَى إِنْكَارِهِ أَنْ يَسْكُتَ عَنْهُ وَلاَ يُنْكِرَ
عَلَيْهِ، وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُنْكِرُ أَنْ
يَقُول الرَّجُل وَهُوَ يَمْشِي مَعَهَا: اسْتَغْفِرُوا لَهُ يَغْفِرِ
اللَّهُ لَكُمْ (2) وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِذَا كَانَ هَذَا فِي
الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ فَمَا ظَنُّكَ بِالْغِنَاءِ الْحَادِثِ فِي
زَمَانِنَا. (3)
__________
(1) المصنف 3 / 108.
(2) رواه ابن أبي شيبة عن النخعي ومثله عن سعيد بن جبير وعطاء والحسن 4 /
97، 98.
(3) غاية المنتهى 1 / 247، ومغني المحتاج 1 / 360، والشرح الصغير 1 / 229،
288، والهندية 1 / 162، والبحر 2 / 192.
(16/17)
قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ
يَرْجِعَ مَنْ يَتْبَعُ جِنَازَةً حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهَا؛ لأَِنَّ
الاِتِّبَاعَ كَانَ لِلصَّلاَةِ عَلَيْهَا، فَلاَ يَرْجِعُ قَبْل حُصُول
الْمَقْصُودِ، وَبَعْدَمَا صَلَّى لاَ يَرْجِعُ إِلاَّ بِإِذْنِ أَهْل
الْجِنَازَةِ قَبْل الدَّفْنِ، وَبَعْدَ الدَّفْنِ يَسَعُهُ الرُّجُوعُ
بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ.
وَبِهِ قَال الْمَالِكِيَّةُ وَزَادُوا أَنَّ الاِنْصِرَافَ قَبْل
الصَّلاَةِ يُكْرَهُ وَلَوْ أَذِنَ أَهْلُهَا، وَبَعْدَ الصَّلاَةِ لاَ
يُكْرَهُ إِذَا طَوَّلُوا وَلَمْ يَأْذَنُوا. فَإِذَا وَضَعُوهَا
لِلصَّلاَةِ عَلَيْهَا وَضَعُوهَا عَرْضًا لِلْقِبْلَةِ، هَكَذَا
تَوَارَثَهُ النَّاسُ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: كُرِهَ صِيَاحٌ خَلْفَهَا بِ اسْتَغْفِرُوا لَهَا
وَنَحْوِهِ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا: يَكُونُ رَفْعُ الصَّوْتِ
بِالذِّكْرِ بِدْعَةً، وَقَالُوا: يُكْرَهُ اللَّغَطُ فِي الْجِنَازَةِ.
وَقَال الشَّيْخُ مَرْعِي الْحَنْبَلِيُّ: وَقَوْل الْقَائِل مَعَهَا:
اسْتَغْفِرُوا لَهُ وَنَحْوُهُ بِدْعَةٌ، وَحَرَّمَهُ أَبُو حَفْصٍ،
وَسُنَّ كَوْنُ تَابِعِهَا مُتَخَشِّعًا مُتَفَكِّرًا فِي مَآلِهِ،
مُتَّعِظًا بِالْمَوْتِ وَمَا يَصِيرُ إِلَيْهِ الْمَيِّتُ.
الصَّلاَةُ عَلَى الْجِنَازَةِ:
20 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الصَّلاَةَ عَلَى
الْجِنَازَةِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْل
الْمَالِكِيَّةِ فَقَال ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: فَرْضٌ عَلَى
__________
(1) ابن عابدين 1 / 608.
(16/17)
الْكِفَايَةِ وَهُوَ قَوْل سَحْنُونٍ،
وَعَلَيْهِ الأَْكْثَرُ وَشَهَرَهُ الْفَاكِهَانِيُّ، وَقَال أَصْبَغُ:
سُنَّةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ
الْجَمَاعَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصَّلاَةِ عَلَى الْجِنَازَةِ
وَإِنَّمَا هِيَ سُنَّةٌ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا
الْجَمَاعَةُ كَصَلاَةِ الْجُمُعَةِ، فَإِنْ صُلِّيَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ
إِمَامٍ أُعِيدَتِ الصَّلاَةُ مَا لَمْ يَفُتْ ذَلِكَ. (1)
21 - وَأَرْكَانُ صَلاَةِ الْجِنَازَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
التَّكْبِيرَاتُ وَالْقِيَامُ، فَلاَ تَصِحُّ مِنَ الْقَاعِدِ أَوِ
الرَّاكِبِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَلَوْ تَعَذَّرَ النُّزُول عَنِ
الدَّابَّةِ لِطِينٍ وَنَحْوِهِ جَازَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهَا رَاكِبًا
اسْتِحْسَانًا، وَلَوْ كَانَ الْوَلِيُّ مَرِيضًا فَأَمَّ قَاعِدًا
وَالنَّاسُ قِيَامٌ أَجْزَأَهُمْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ،
وَقَال مُحَمَّدٌ: تُجْزِئُ الإِْمَامَ فَقَطْ. (2)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: أَرْكَانُهَا خَمْسَةٌ: أَوَّلُهَا: النِّيَّةُ:
ثَانِيهَا: أَرْبَعُ تَكْبِيرَاتٍ، ثَالِثُهَا: دُعَاءٌ بَيْنَهُنَّ،
وَأَمَّا بَعْدَ الرَّابِعَةِ فَإِنْ أَحَبَّ دَعَا وَإِنْ أَحَبَّ لَمْ
يَدْعُ، رَابِعُهَا: تَسْلِيمَةٌ وَاحِدَةٌ يَجْهَرُ بِهَا الإِْمَامُ
بِقَدْرِ التَّسْمِيعِ، خَامِسُهَا: قِيَامٌ لَهَا لِقَادِرٍ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: أَرْكَانُهَا النِّيَّةُ، وَالتَّكْبِيرَاتُ
__________
(1) الهندية 1 / 162، والتنبيه للشافعية ص 37، وغاية المنتهى للحنابلة 1 /
230، 239، 247، ومقدمات ابن رشد 1 / 120، 171، والشرح الصغير 1 / 229.
(2) ابن عابدين 1 / 608، والهندية 1 / 161.
(16/18)
وَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ، وَالصَّلاَةُ
عَلَى النَّبِيِّ، وَأَدْنَى الدُّعَاءِ لِلْمَيِّتِ، وَالتَّسْلِيمَةُ
الأُْولَى، وَكَذَلِكَ يَجِبُ الْقِيَامِ عَلَى الْمَذْهَبِ إِنْ قَدَرَ
عَلَيْهِ، فَلَوْ صَلَّوْا جُلُوسًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ أَوْ رُكْبَانًا
أَعَادُوا.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: أَرْكَانُهَا قِيَامٌ لِقَادِرٍ فِي فَرْضِهَا،
وَتَكْبِيرَاتٌ أَرْبَعٌ، وَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ عَلَى غَيْرِ
الْمَأْمُومِ، وَالصَّلاَةُ عَلَى النَّبِيِّ، وَأَدْنَى دُعَاءٍ لِمَيِّتٍ
(وَيُتَّجَهُ) يَخُصُّهُ بِهِ بِنَحْوِ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ (فَلاَ
يَكْفِي قَوْلُهُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا) وَسَلاَمٌ،
وَتَرْتِيبٌ. (1)
شُرُوطُ صَلاَةِ الْجِنَازَةِ:
22 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ صَلاَةِ الْجِنَازَةِ مَا يُشْتَرَطُ
لِبَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ مِنَ الطَّهَارَةِ الْحَقِيقِيَّةِ بَدَنًا
وَثَوْبًا وَمَكَانًا، وَالْحُكْمِيَّةُ، وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ،
وَاسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ، وَالنِّيَّةُ، سِوَى الْوَقْتِ.
وَشَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا مَا يَلِي:
أَوَّلُهَا: إِسْلاَمُ الْمَيِّتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُصَل عَلَى
أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} . (2)
وَالثَّانِي: طَهَارَتُهُ مِنْ نَجَاسَةٍ حُكْمِيَّةٍ وَحَقِيقِيَّةٍ فِي
الْبَدَنِ، فَلاَ تَصِحُّ عَلَى مَنْ لَمْ يُغَسَّل، وَلاَ عَلَى مَنْ
عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ، وَهَذَا الشَّرْطُ عِنْدَ
__________
(1) التنبيه / 38، والأم 1 / 240، والمحلي على المنهاج 1 / 330، وغاية
المنتهى 1 / 242، 243، ومقدمات ابن رشد 1 / 171، والشرح الصغير 1 / 223.
(2) سورة التوبة / 84.
(16/18)
الإِْمْكَانِ فَلَوْ دُفِنَ بِلاَ غُسْلٍ
وَلَمْ يُمْكِنْ إِخْرَاجُهُ إِلاَّ بِالنَّبْشِ سَقَطَ الْغُسْل وَصُلِّيَ
عَلَى قَبْرِهِ بِلاَ غُسْلٍ لِلضَّرُورَةِ (هَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ
سَمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَصَحَّحَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ مَعْزِيًّا
إِلَى الْقُدُورِيِّ وَصَاحِبِ التُّحْفَةِ أَنَّهُ لاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ؛
لأَِنَّهَا بِلاَ غُسْلٍ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ) بِخِلاَفِ مَا إِذَا لَمْ
يُهَل عَلَيْهِ التُّرَابُ، فَإِنَّهُ يُخْرَجُ وَيُغَسَّل وَيُصَلَّى
عَلَيْهِ.
وَلَوْ صُلِّيَ عَلَيْهِ بِلاَ غُسْلٍ جَهْلاً مَثَلاً، ثُمَّ دُفِنَ وَلاَ
يُخْرَجُ إِلاَّ بِالنَّبْشِ أُعِيدَتِ الصَّلاَةُ عَلَى قَبْرِهِ
اسْتِحْسَانًا، وَيُشْتَرَطُ طَهَارَةُ الْكَفَنِ إِلاَّ إِذَا شَقَّ
ذَلِكَ؛ لِمَا فِي خِزَانَةِ الْفَتَاوَى مِنْ أَنَّهُ إِنْ تَنَجَّسَ
الْكَفَنُ بِنَجَاسَةِ الْمَيِّتِ لاَ يَضُرُّ، دَفْعًا لِلْحَرَجِ،
بِخِلاَفِ الْكَفَنِ الْمُتَنَجِّسِ ابْتِدَاءً.
وَكَذَا لَوْ تَنَجَّسَ بَدَنُهُ بِمَا خَرَجَ مِنْهُ، إِنْ كَانَ قَبْل
أَنْ يُكَفَّنَ غُسِّلَ، وَبَعْدَهُ لاَ. وَأَمَّا طَهَارَةُ مَكَانِ
الْمَيِّتِ، فَفِي الْهِنْدِيَّةِ وَالْفَوَائِدِ التَّاجِيَّةِ أَنَّهَا
لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، وَفِي مَرَاقِي الْفَلاَحِ وَالْقُنْيَةِ أَنَّهَا
شَرْطٌ، فَإِذَا كَانَ الْمَكَانُ نَجِسًا، وَكَانَ الْمَيِّتُ عَلَى
الْجِنَازَةِ (النَّعْشِ) تَجُوزُ الصَّلاَةُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى
الأَْرْضِ فَفِي الْفَوَائِدِ لاَ يَجُوزُ، (وَمَال إِلَى الْجَوَازِ
قَاضِي خَانْ) وَجَزَمَ فِي الْقُنْيَةِ بِعَدَمِهِ.
وَجْهُ الْجَوَازِ أَنَّ الْكَفَنَ حَائِلٌ بَيْنَ الْمَيِّتِ
وَالنَّجَاسَةِ، وَوَجْهُ عَدَمِ الْجَوَازِ أَنَّ الْكَفَنَ تَابِعٌ فَلاَ
يُعَدُّ حَائِلاً. وَالْحَاصِل أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِمَكَانِ
الْمَيِّتِ الأَْرْضَ، وَكَانَ الْمَيِّتُ عَلَى الْجِنَازَةِ، فَعَدَمُ
اشْتِرَاطِ طَهَارَةِ الأَْرْضِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (وَإِنْ كَانَ
(16/19)
الْمُرَادُ الْجِنَازَةَ فَالظَّاهِرُ
أَنَّهُ تَخْتَلِفُ الأَْقْوَال فِيهِ كَمَا اخْتَلَفَتْ فِيمَا إِذَا
كَانَ الْمَيِّتُ مَوْضُوعًا عَلَى الأَْرْضِ النَّجِسَةِ) . (1)
قَال فِي الْقُنْيَةِ: الطَّهَارَةُ مِنَ النَّجَاسَةِ فِي ثَوْبٍ وَبَدَنٍ
وَمَكَانٍ، وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ شَرْطَانِ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ
وَالإِْمَامِ جَمِيعًا، فَلَوْ أَمَّ بِلاَ طَهَارَةٍ، وَالْقَوْمُ بِهَا
أُعِيدَتْ، وَبِعَكْسِهِ لاَ؛ لِسُقُوطِ الْفَرْضِ بِصَلاَةِ الإِْمَامِ.
وَالثَّالِثُ: تَقْدِيمُ الْمَيِّتِ أَمَامَ الْقَوْمِ فَلاَ تَصِحُّ عَلَى
مَيِّتٍ مَوْضُوعٍ خَلْفَهُمْ.
وَالرَّابِعُ: حُضُورُهُ أَوْ حُضُورُ أَكْثَرِ بَدَنِهِ أَوْ نِصْفِهِ
مَعَ رَأْسِهِ.
وَالْخَامِسُ: وَضْعُهُ عَلَى الأَْرْضِ أَوْ عَلَى الأَْيْدِي قَرِيبًا
مِنْهَا.
وَالسَّادِسُ: سَتْرُ عَوْرَتِهِ - هَذَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الدُّرِّ
الْمُخْتَارِ.
وَالسَّابِعُ: قَال صَاحِبُ الدُّرِّ: بَقِيَ مِنَ الشُّرُوطِ بُلُوغُ
الإِْمَامِ، فَلَوْ أَمَّ صَبِيٌّ فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ يَنْبَغِي أَنْ
لاَ يَجُوزَ وَهُوَ الظَّاهِرُ؛ لأَِنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ،
وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْل أَدَاءِ الْفَرَائِضِ. وَلَكِنْ نُقِل فِي
الأَْحْكَامِ عَنْ جَامِعِ الْفَتَاوَى سُقُوطُ الْفَرْضِ بِفِعْلِهِ.
__________
(1) صرح في الفوائد التاجية أن طهارة مكان الميت ليست بشرط كما في البحر 3
/ 179، وفي مراقي الفلاح ص 340 وما بعدها صرح باشتراطها.
(16/19)
وَالثَّامِنُ: مُحَاذَاةُ الإِْمَامِ
جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْمَيِّتِ إِذَا كَانَ الْمَيِّتُ وَاحِدًا،
وَأَمَّا إِذَا كَثُرَتِ الْمَوْتَى فَيَجْعَلُهُمْ صَفًّا وَيَقُومُ
عِنْدَ أَفْضَلِهِمْ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الأَْقْرَبُ كَوْنُ
الْمُحَاذَاةِ شَرْطًا.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَجِبُ أَنْ يُسَامِتَ الإِْمَامُ الْمَيِّتَ
فَإِنْ لَمْ يُسَامِتْهُ كُرِهَ، وَفِي تَعْلِيقِ الْغَايَةِ: لَعَلَّهُ
مَا لَمْ يَفْحُشْ عُرْفًا، فَلاَ تَصِحُّ إِنْ فَحُشَ. (1)
23 - وَقَدْ وَافَقَ الْحَنَابِلَةُ الْحَنَفِيَّةَ عَلَى اشْتِرَاطِ
إِسْلاَمِ الْمَيِّتِ وَطَهَارَتِهِ، وَسَتْرِ عَوْرَتِهِ، وَحُضُورِهِ
بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى
الْمَيِّتِ، وَعَلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمُصَلِّي مُكَلَّفًا،
وَاجْتِنَابِهِ النَّجَاسَةَ، وَاسْتِقْبَالِهِ الْقِبْلَةَ، وَسَتْرِ
الْعَوْرَةِ، وَالنِّيَّةِ، مِنَ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى الْمُصَلِّي.
وَخَالَفُوهُمْ فِي اشْتِرَاطِ حُضُورِ الْجِنَازَةِ فَجَوَّزُوا
الصَّلاَةَ عَلَى غَائِبٍ عَنْ بَلَدٍ دُونَ مَسَافَةِ قَصْرٍ، أَوْ فِي
غَيْرِ قِبْلَتِهِ، وَعَلَى غَرِيقٍ وَأَسِيرٍ وَنَحْوِهِ، إِلَى شَهْرٍ
بِالنِّيَّةِ، وَأَمَّا مَا اشْتَرَطُوهُ مِنْ حُضُورِهِ بَيْنَ يَدَيِ
الْمُصَلِّي، فَمَعْنَاهُ أَنْ لاَ تَكُونَ الْجِنَازَةُ مَحْمُولَةً،
وَلاَ مِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ، كَحَائِطٍ قَبْل دَفْنٍ، وَلاَ فِي تَابُوتٍ
مُغَطًّى.
وَوَافَقَ الشَّافِعِيَّةُ الْحَنَابِلَةَ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ
حُضُورِهِ، وَتَجْوِيزِ الصَّلاَةِ عَلَى الْغَائِبِ، وَوَافَقَتِ
الْمَالِكِيَّةُ الْحَنَفِيَّةَ عَلَى اشْتِرَاطِ حُضُورِهِ، وَأَمَّا
__________
(1) القنية 1 / 214.
(16/20)
وَضْعُهُ أَمَامَ الْمُصَلِّي بِحَيْثُ
يَكُونُ عِنْدَ مَنْكِبَيِ الْمَرْأَةِ وَوَسَطِ الرَّجُل فَمَنْدُوبٌ
عِنْدَهُمْ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا، إِلاَّ أَنَّ مُحَاذَاةَ
الإِْمَامِ بِجُزْءٍ مِنَ الْمَيِّتِ شَرْطٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَخَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ الْحَنَفِيَّةَ فِي
اشْتِرَاطِ وَضْعِهِ عَلَى الأَْرْضِ، فَقَالُوا: تَجُوزُ الصَّلاَةُ عَلَى
الْمَحْمُول عَلَى دَابَّةٍ، أَوْ عَلَى أَيْدِي النَّاسِ، أَوْ عَلَى
أَعْنَاقِهِمْ. وَانْفَرَدَ الْمَالِكِيَّةُ بِاشْتِرَاطِ الإِْمَامَةِ فِي
صَلاَةِ الْجِنَازَةِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ رُشْدٍ، وَصَرَّحَ
غَيْرُهُ بِصِحَّةِ صَلاَةِ الْمُنْفَرِدِ عَلَيْهِ، فَفِي الشَّرْحِ
الصَّغِيرِ إِنْ صَلَّى عَلَيْهَا مُنْفَرِدًا أُعِيدَتْ نَدْبًا
جَمَاعَةً.
وَالْوَاجِبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ التَّسْلِيمُ
مَرَّتَيْنِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ التَّسْلِيمُ مَرَّةً وَاحِدَةً
رُكْنٌ، قَالُوا لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ فِي الصَّلاَةِ. (1)
وَوَرَدَ التَّسْلِيمُ مَرَّةً وَاحِدَةً عَلَى الْجِنَازَةِ عَنْ سِتَّةٍ
مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالتَّسْلِيمَةُ الثَّانِيَةُ مَسْنُونَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
جَائِزَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. (2)
__________
(1) حديث: " وتحليلها التسليم " أخرجه أبو داود (1 / 49 ط عزت عبيد الدعاس)
والترمذي (2 / 3 ط مصطفى الحلبي) وابن ماجه (1 / 275 ط عيسى الحلبي) من
حديث علي بن أبي طالب، وقال الترمذي حديث حسن.
(2) غاية المنتهى 1 / 243، وكشاف القناع 1 / 116.
(16/20)
24 - وَأَمَّا سُنَنُهَا فَتَفْصِيلُهَا
كَمَا يَلِي:
الأُْولَى: قِيَامُ الإِْمَامِ بِحِذَاءِ صَدْرِ الْمَيِّتِ ذَكَرًا كَانَ
الْمَيِّتُ أَوْ أُنْثَى سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي حَوَاشِي
الطَّحْطَاوِيِّ عَلَى الْمَرَاقِي مَا يَدُل عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَيْسَ لِصَلاَةِ الْجِنَازَةِ سُنَنٌ بَل لَهَا
مُسْتَحَبَّاتٌ، مِنْهَا وُقُوفُ الإِْمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ حِذَاءَ
وَسَطِ الرَّجُل، وَمَنْكِبَيْ الْمَرْأَةِ وَالْخُنْثَى.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهُمَا يَقُومَانِ عِنْدَ رَأْسِ الرَّجُل،
وَعِنْدَ عَجُزِ الْمَرْأَةِ أَوِ الْخُنْثَى، وَقَال الْحَنَابِلَةُ:
عِنْدَ صَدْرِ الرَّجُل، وَوَسَطِ الأُْنْثَى، وَسُنَّ ذَلِكَ مِنْ
خُنْثَى.
الثَّانِيَةُ: الثَّنَاءُ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الأُْولَى سُنَّةٌ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخَلاَّل مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ:
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى
جَدُّكَ، وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
وَالطَّحَاوِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ اسْتِفْتَاحَ مِنْهُ وَلَكِنِ
النَّقْل وَالْعَادَةُ أَنَّهُمْ يَسْتَفْتِحُونَ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ
الاِفْتِتَاحِ.
وَقَال فِي " سَكْبِ الأَْنْهُرِ " الأَْوْلَى تَرْكُ: " وَجَل ثَنَاؤُكَ "
إِلاَّ فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ، وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: مُقْتَضَى
ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حُصُول السُّنَّةِ بِأَيِّ صِيغَةٍ مِنْ صِيَغِ
الْحَمْدِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ ثَنَاءَ فِي التَّكْبِيرَةِ الأُْولَى،
وَلَكِنِ ابْتِدَاءُ الدُّعَاءِ بِحَمْدِ اللَّهِ وَالصَّلاَةِ عَلَى
(16/21)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَنْدُوبٌ، أَيْ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الثَّانِيَةِ، وَقَال
الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا: لاَ يَسْتَفْتِحُ.
وَجَاءَ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ بِقَصْدِ الثَّنَاءِ كَذَا نَصَّ عَلَيْهِ
الْحَنَفِيَّةُ، وَقَال عَلِيٌّ الْقَارِي: يُسْتَحَبُّ قِرَاءَتُهَا
بِنِيَّةِ الدُّعَاءِ خُرُوجًا مِنَ الْخِلاَفِ (1) .
الثَّالِثَةُ: وَمِنَ السُّنَنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الصَّلاَةُ عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ
الثَّانِيَةِ بِقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ صَل عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آل
مُحَمَّدٍ إِلَى آخِرِهِ؛ لأَِنَّ تَقْدِيمَ الصَّلاَةِ عَلَى الدُّعَاءِ
وَتَقْدِيمَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمَا سُنَّةٌ، قَالُوا: وَيَنْبَغِي أَنْ
يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ
الدُّعَاءِ أَيْضًا، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
اجْعَلُونِي فِي أَوَّل الدُّعَاءِ وَأَوْسَطِهِ وَآخِرِهِ. (2)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الصَّلاَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْدُوبَةٌ عَقِبَ كُل تَكْبِيرَةٍ قَبْل الشُّرُوعِ
فِي الدُّعَاءِ، بِأَنْ يَقُول: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَمَاتَ
وَأَحْيَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى
كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ صَل عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ،
وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ
وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آل إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ
إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، كَمَا يَدْعُو كَمَا
__________
(1) مراقي الفلاح ص 340 وابن عابدين 1 / 610، 615، غاية المنتهى 1 / 241،
والشرح الصغير 2 / 223.
(2) حديث: " اجعلوني في أول الدعاء وأوسطه وآخره " أخرجه عبد الرزاق وعبد
بن حميد عن جابر وضعفه. (كنز العمال 1 / 509 ط مكتبة التراث الإسلامي) .
(16/21)
سَيَأْتِي (1) ، وَهِيَ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ رُكْنٌ كَمَا مَرَّ.
25 - الرَّابِعَةُ: وَمِنَ السُّنَنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ دُعَاءُ
الْمُصَلِّي لِلْمَيِّتِ وَلِنَفْسِهِ (وَإِذَا دَعَا لِنَفْسِهِ قَدَّمَ
نَفْسَهُ عَلَى الْمَيِّتِ لأَِنَّ مِنْ سُنَّةِ الدُّعَاءِ أَنْ يَبْدَأَ
فِيهِ بِنَفْسِهِ) وَلِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ بَعْدَ
التَّكْبِيرَةِ الثَّالِثَةِ، وَلاَ يَتَعَيَّنُ لِلدُّعَاءِ شَيْءٌ سِوَى
كَوْنِهِ بِأُمُورِ الآْخِرَةِ، وَلَكِنْ إِنْ دَعَا بِالْمَأْثُورِ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ أَحْسَنُ وَأَبْلَغُ
لِرَجَاءِ قَبُولِهِ.
فَمِنَ الْمَأْثُورِ مَا حَفِظَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ مِنْ دُعَاءِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جِنَازَةٍ اللَّهُمَّ
اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ، وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ،
وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ،
وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَْبْيَضُ مِنَ
الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلاً خَيْرًا
مِنْ أَهْلِهِ، وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ، وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ،
وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ. (2)
وَفِي الأَْصْل رِوَايَاتٌ أُخَرُ، مِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ
فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ:
__________
(1) راجع لجميع ما في هذا الفصل الشرح الصغير في فقه المالكية، وشرح
البهجة، والأم ومختصر المزني في فقه الشافعية، وغاية المنتهى والمقنع ونيل
المآرب في فقه الحنابلة.
(2) حديث: " اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله. . . " أخرجه
مسلم (2 / 662 - 663 ط عيسى الحلبي) من حديث عوف بن مالك.
(16/22)
{اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا
وَمَيِّتِنَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا، وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا،
وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا. (1)
(وَزَادَ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ إِلاَّ النَّسَائِيُّ) اللَّهُمَّ
مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الإِْسْلاَمِ، وَمَنْ
تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الإِْيمَانِ (2) . وَفِي رِوَايَةٍ
اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ مُحْسِنًا فَزِدْ فِي إِحْسَانِهِ، وَإِنْ كَانَ
مُسِيئًا فَتَجَاوَزْ عَنْ سَيِّئَاتِهِ، اللَّهُمَّ لاَ تَحْرِمْنَا
أَجْرَهُ، وَلاَ تَفْتِنَّا بَعْدَهُ. (3)
فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ صَغِيرًا فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَنْبَغِي أَنْ
يَقُول: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا فَرَطًا، وَاجْعَلْهُ لَنَا أَجْرًا
وَذُخْرًا، اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا شَافِعًا وَمُشَفَّعًا مُقْتَصِرًا
عَلَيْهِ كَمَا هُوَ فِي مُتُونِ الْمَذْهَبِ، أَوْ بَعْدَ
__________
(1) حديث: " اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وذكرنا وأنثانا،
وصغيرنا وكبيرنا ". أخرجه ابن ماجه (1 / 480 ط عيسى الحلبي) والبيهقي (4 /
41 ط دار المعرفة) وأبو داود (3 / 539 ط عزت عبيد الدعاس) والترمذي (3 /
334 - 335 ط مصطفى الحلبي) من حديث أبي هريرة، وقال الترمذي: حديث حسن
صحيح.
(2) حديث: " اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام. . . " أخرجه الترمذي
(3 / 335 ط مصطفى الحلبي) وابن ماجه (1 / 480 ط عيسى الحلبي) قال الهيثمي:
رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد 3 / 33 ط دار الكتاب العربي) .
(3) حديث: " اللهم من كان محسنا فزد في إحسانه. . . " أخرجه مالك في الموطأ
(ص 182 - 183 ط دار الآفاق) موقوفا على أبي هريرة بإسناد صحيح وله شاهد
مرفوع عند أبي يعلى. قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد 3 / 33
ط دار الكتاب العربي) .
(16/22)
الدُّعَاءِ الْمَذْكُورِ كَمَا فِي
حَوَاشِي الطَّحْطَاوِيِّ عَلَى الْمَرَاقِي وَغَيْرِهَا.
وَقَال الشَّوْكَانِيُّ: إِذَا كَانَ الْمَيِّتُ طِفْلاً اسْتُحِبَّ أَنْ
يَقُول: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا سَلَفًا وَفَرَطًا وَأَجْرًا. (1)
وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ يُحْسِنُ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ لاَ يُحْسِنُ
يَأْتِي بِأَيِّ دُعَاءٍ شَاءَ، وَقَال فِي الدُّرِّ: لاَ يَسْتَغْفِرُ
فِيهَا لِصَبِيٍّ، وَمَجْنُونٍ، وَمَعْتُوهٍ؛ لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِمْ،
وَلاَ يُنَافِي هَذَا قَوْلَهُ: " وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا " لأَِنَّ
الْمَقْصُودَ الاِسْتِيعَابُ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ صَغِيرًا أَوِ اسْتَمَرَّ مَجْنُونًا
قَال: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ ذُخْرًا لِوَالِدَيْهِ - إِلَخْ وَظَاهِرُهُ
الاِقْتِصَارُ عَلَيْهِ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ يَكُونُ بَدَل
الدُّعَاءِ الْمَذْكُورِ لِلْبَالِغِينَ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ
الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا، فَكَأَنَّ أَقْوَال الأَْرْبَعَةِ اتَّفَقَتْ فِي
الدُّعَاءِ لِلصَّغِيرِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ. (2)
الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ:
26 - الدُّعَاءُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ رُكْنٌ، وَلَكِنْ
عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَدْعُو عَقِبَ كُل تَكْبِيرَةٍ حَتَّى
__________
(1) حديث: " اللهم اجعله لنا سلفا وفرطا وأجرا " أخرجه البيهقي (4 / 9 - 10
ط دار المعرفة) موقوفا على أبي هريرة.
(2) المصادر السابقة والطحطاوي على مراقي الفلاح 341، وابن عابدين 1 / 612،
والهندية 1 / 161.
(16/23)
الرَّابِعَةِ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ
عِنْدَهُمْ لاَ يَجِبُ بَعْدَ الرَّابِعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَقَل
الدُّعَاءِ أَنْ يَقُول: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ،
وَأَحْسَنُهُ أَنْ يَدْعُوَ بِدُعَاءِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ أَنْ
يَقُول: بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَالصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ عَبْدُكَ وَابْنُ
عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ، كَانَ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ
وَحْدَكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ
وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ، اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ مُحْسِنًا فَزِدْ فِي
إِحْسَانِهِ وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا فَتَجَاوَزْ عَنْ سَيِّئَاتِهِ،
اللَّهُمَّ لاَ تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ وَلاَ تَفْتِنَّا بَعْدَهُ.
وَيَقُول فِي الْمَرْأَةِ: اللَّهُمَّ إِنَّهَا أَمَتُكَ وَبِنْتُ عَبْدِكَ
وَبِنْتُ أَمَتِكَ، وَيَسْتَمِرُّ فِي الدُّعَاءِ الْمُتَقَدِّمِ بِصِيغَةِ
التَّأْنِيثِ، وَيَقُول فِي الطِّفْل الذَّكَرِ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ
عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ أَنْتَ خَلَقْتَهُ وَرَزَقْتَهُ، وَأَنْتَ
أَمَتَّهُ وَأَنْتَ تُحْيِيهِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لِوَالِدَيْهِ سَلَفًا
وَذُخْرًا، وَفَرَطًا وَأَجْرًا، وَثَقِّل بِهِ مَوَازِينَهُمَا،
وَأَعْظِمْ بِهِ أُجُورَهُمَا، وَلاَ تَفْتِنَّا وَإِيَّاهُمَا بَعْدَهُ،
اللَّهُمَّ أَلْحِقْهُ بِصَالِحِ سَلَفِ الْمُؤْمِنِينَ فِي كَفَالَةِ
إِبْرَاهِيمَ وَيَزِيدُ فِي الْكَبِيرِ: وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ
دَارِهِ وَأَهْلاً خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَعَافِهِ مِنْ فِتْنَةِ
الْقَبْرِ وَعَذَابِ جَهَنَّمَ.
فَإِنْ كَانَ يُصَلِّي عَلَى ذَكَرٍ وَأُنْثَى مَعًا يُغَلِّبُ الذَّكَرَ
عَلَى الأُْنْثَى فَيَقُول: إِنَّهُمَا عَبْدَاكَ وَابْنَا عَبْدَيْكَ
وَابْنَا أَمَتَيْكَ. . . إِلَخْ.
وَكَذَا إِذَا كَانَ يُصَلِّي عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ،
فَإِنَّهُ يُغَلِّبُ الذُّكُورَ عَلَى الإِْنَاثِ فَيَقُول: اللَّهُمَّ
إِنَّهُمْ عَبِيدُكَ وَأَبْنَاءُ عَبِيدِكَ. . . إِلَخْ. فَإِنْ
(16/23)
كَانَ يُصَلِّي عَلَى نِسَاءٍ يَقُول:
اللَّهُمَّ إِنَّهُنَّ إِمَاؤُكَ، وَبَنَاتُ عَبِيدِكَ، وَبَنَاتُ
إِمَائِكَ كُنَّ يَشْهَدْنَ. . إِلَخْ. وَيَزِيدُ عَلَى الدُّعَاءِ
الْمَذْكُورِ فِي حَقِّ كُل مَيِّتٍ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَِسْلاَفِنَا، وَأَفْرَاطِنَا، وَمَنْ سَبَقَنَا
بِالإِْيمَانِ، اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى
الإِْيمَانِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الإِْسْلاَمِ،
وَاغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ. (1)
وَالْفَرْضُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَدْنَى دُعَاءٍ لِلْمَيِّتِ كَمَا
تَقَدَّمَ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا
صَلَّيْتُمْ عَلَى الْمَيِّتِ فَأَخْلِصُوا لَهُ الدُّعَاءَ. (2)
وَيُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الثَّالِثَةِ،
وَأَنْ يَكُونَ مُشْتَمِلاً عَلَى طَلَبِ الْخَيْرِ لِلْمَيِّتِ
الْحَاضِرِ، فَلَوْ دَعَا لِلْمُؤْمِنِينَ بِغَيْرِ دُعَاءٍ لَهُ لاَ
يَكْفِي، إِلاَّ إِذَا كَانَ صَبِيًّا، فَإِنَّهُ يَكْفِي كَمَا يَكْفِي
الدُّعَاءُ لِوَالِدَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ بِهِ أَمْرًا
أُخْرَوِيًّا كَطَلَبِ الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ وَإِنْ كَانَ
الْمَيِّتُ غَيْرَ مُكَلَّفٍ، وَلاَ يَتَقَيَّدُ
__________
(1) الفقه على المذاهب الأربعة 1 / 403، والشرح الصغير 1 / 225، 226، وقد
عد فيه الدعاء من الأركان وكذا النية والتكبيرات والتسليمة الواحدة والقيام
لها
(2) حديث: " إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء " أخرجه أبو داود (3 /
538 ط عزت عبيد الدعاس) وابن ماجه (1 / 480 ط عيسى الحلبي) من حديث أبي
هريرة حسنه السيوطي (فيض القدير 1 / 393 ط المكتبة التجارية) ووافقه
المناوي. قال ابن حجر: فيه محمد بن إسحاق وقد عنعن لكن أخرجه ابن حبان (5 /
31 ط دار الكتب العلمية) من طريقين آخرين مصرحا بالسماع أ. هـ من تلخيص
الحبير 2 / 122 ط شركة الطباعة الفنية.
(16/24)
الْمُصَلِّي فِي الدُّعَاءِ بِصِيغَةٍ
خَاصَّةٍ، وَالأَْفْضَل أَنْ يَدْعُوَ بِالدُّعَاءِ الْمَشْهُورِ الَّذِي
انْتَخَبَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ مَجْمُوعِ أَحَادِيثَ وَهُوَ: اللَّهُمَّ
هَذَا عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدَيْكَ، خَرَجَ مِنْ رَوْحِ الدُّنْيَا
وَسِعَتِهَا، وَمَحْبُوبِهِ وَأَحِبَّائِهِ فِيهَا إِلَى ظُلْمَةِ
الْقَبْرِ وَمَا هُوَ لاَقِيهِ، كَانَ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ
أَنْتَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ،
اللَّهُمَّ إِنَّهُ نَزَل بِكَ وَأَنْتَ خَيْرُ مَنْزُولٍ بِهِ، وَأَصْبَحَ
فَقِيرًا إِلَى رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِهِ، وَقَدْ
جِئْنَاكَ رَاغِبِينَ إِلَيْكَ شُفَعَاءَ لَهُ، اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ
مُحْسِنًا فَزِدْ فِي إِحْسَانِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا فَتَجَاوَزْ
عَنْهُ، وَلَقِّهِ بِرَحْمَتِكَ رِضَاكَ وَقِهِ فِتْنَةَ الْقَبْرِ
وَعَذَابَهُ، وَافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَجَافِ الأَْرْضَ عَنْ
جَنْبَيْهِ، وَلَقِّهِ بِرَحْمَتِكَ الأَْمْنَ مِنْ عَذَابِكَ حَتَّى
تَبْعَثَهُ آمِنًا إِلَى جَنَّتِكَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ
الرَّاحِمِينَ. (1)
27 - وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُول قَبْلَهُ: الدُّعَاءَ الَّذِي رَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا، وَشَاهِدِنَا
وَغَائِبِنَا، وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا، وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا،
اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الإِْسْلاَمِ،
وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الإِْيمَانِ، اللَّهُمَّ
لاَ تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ. (2)
__________
(1) حديث: " اللهم هذا عبدك وابن عبديك خرج من روح الدنيا. . . " لم نعثر
عليه في المصادر الحديثية التي بين أيدينا.
(2) حديث: " اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا. . . " سبق تخريجه (ف
25) .
(16/24)
وَيُنْدَبُ أَنْ يَقُول: بَيْنَ
الدُّعَاءَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ،
وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ،
وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنَ
الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَْبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ،
وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلاً خَيْرًا مِنْ
أَهْلِهِ، وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ، وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ
الْقَبْرِ وَفِتْنَتِهِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يُلاَحِظَ الْمُصَلِّي فِي دُعَائِهِ التَّذْكِيرَ
وَالتَّأْنِيثَ، وَالتَّثْنِيَةَ وَالْجَمْعَ، بِمَا يُنَاسِبُ حَال
الْمَيِّتِ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْهِ، وَلَهُ أَنْ يُذَكِّرَ مُطْلَقًا
بِقَصْدِ الشَّخْصِ، وَأَنْ يُؤَنِّثَ مُطْلَقًا بِقَصْدِ الْجِنَازَةِ،
وَيَصِحُّ أَنْ يَقُول فِي الدُّعَاءِ عَلَى الصَّغِيرِ بَدَل الدُّعَاءِ
الْمَذْكُورِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ فَرَطًا لأَِبَوَيْهِ، وَسَلَفًا،
وَذُخْرًا وَعِظَةً، وَاعْتِبَارًا وَشَفِيعًا، وَثَقِّل بِهِ
مَوَازِينَهُمَا، وَأَفْرِغِ الصَّبْرَ عَلَى قُلُوبِهِمَا، وَلاَ
تَفْتِنْهُمَا بَعْدَهُ، وَلاَ تَحْرِمْهُمَا أَجْرَهُ. (1)
وَيَتَأَدَّى الرُّكْنُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بِأَدْنَى دُعَاءٍ
لِلْمَيِّتِ يَخُصُّهُ بِهِ نَحْوَ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ.
وَمَحَل الدُّعَاءِ عِنْدَهُمْ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الثَّالِثَةِ
وَيَجُوزُ عَقِبَ الرَّابِعَةِ، وَلاَ يَصِحُّ عَقِبَ سِوَاهُمَا.
وَالْمَسْنُونُ الدُّعَاءُ بِمَا وَرَدَ، وَمِنْهُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ
لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا، وَصَغِيرِنَا
وَكَبِيرِنَا، وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا، إِنَّكَ تَعْلَمُ مُنْقَلَبَنَا
وَمَثْوَانَا، وَأَنْتَ عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ مَنْ
__________
(1) شرح البهجة الوردية 2 / 111.
(16/25)
أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى
الإِْسْلاَمِ وَالسُّنَّةِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ
عَلَيْهِمَا، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ، وَعَافِهِ وَاعْفُ
عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ
بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنَ الذُّنُوبِ
وَالْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَْبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ،
وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ
زَوْجِهِ، وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ،
وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ وَنَوِّرْ لَهُ
فِيهِ، وَهَذَا الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ الْكَبِيرِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ
أُنْثَى إِلاَّ أَنَّهُ يُؤَنِّثُ الضَّمَائِرَ فِي الأُْنْثَى.
وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ صَغِيرًا أَوْ بَلَغَ مَجْنُونًا وَاسْتَمَرَّ
عَلَى جُنُونِهِ حَتَّى مَاتَ قَال فِي الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ
ذُخْرًا لِوَالِدَيْهِ، وَفَرَطًا وَأَجْرًا، وَشَفِيعًا مُجَابًا،
اللَّهُمَّ ثَقِّل بِهِ مَوَازِينَهُمَا، وَأَعْظِمْ بِهِ أُجُورَهُمَا،
وَأَلْحِقْهُ بِصَالِحِ سَلَفِ الْمُؤْمِنِينَ، وَاجْعَلْهُ فِي كَفَالَةِ
إِبْرَاهِيمَ، وَقِهِ بِرَحْمَتِكَ عَذَابَ الْجَحِيمِ، يُقَال ذَلِكَ فِي
الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى إِلاَّ أَنَّهُ يُؤَنَّثُ فِي الْمُؤَنَّثِ. (1)
28 - وَلَيْسَ لِصَلاَةِ الْجِنَازَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ سُنَنٌ بَل
لَهَا مُسْتَحَبَّاتٌ، وَهِيَ الإِْسْرَارُ بِهَا، وَرَفْعُ الْيَدَيْنِ
عِنْدَ التَّكْبِيرَةِ الأُْولَى فَقَطْ، حَتَّى يَكُونَا حَذْوَ
أُذُنَيْهِ، وَابْتِدَاءُ الدُّعَاءِ بِحَمْدِ اللَّهِ، وَالصَّلاَةُ عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُقُوفُ الإِْمَامِ عِنْدَ
وَسَطِ الرَّجُل،
__________
(1) الغرر البهية في شرح البهجة الوردية 2 / 111، وغاية المنتهى 1 / 241،
242.
(16/25)
وَعِنْدَ مَنْكِبَيِ الْمَرْأَةِ، وَأَمَّا
الْمَأْمُومُ فَيَقِفُ خَلْفَ الإِْمَامِ كَمَا يَقِفُ فِي غَيْرِهَا مِنَ
الصَّلاَةِ، وَجَهْرُ الإِْمَامِ بِالسَّلاَمِ وَالتَّكْبِيرِ بِحَيْثُ
يَسْمَعُ مَنْ خَلْفَهُ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَيُسِرُّ فِيهَا. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: سُنَّتُهَا التَّعَوُّذُ قَبْل الْفَاتِحَةِ،
وَالتَّأْمِينُ، وَالإِْسْرَارُ بِالْقِرَاءَةِ وَالدُّعَاءِ وَسَائِرِ
الأَْقْوَال فِيهَا وَلَوْ فُعِلَتْ لَيْلاً، عَدَا التَّكْبِيرِ
وَالسَّلاَمِ فَيَجْهَرُ بِهَا، وَفِعْل الصَّلاَةِ فِي جَمَاعَةٍ، وَأَنْ
يَكُونُوا ثَلاَثَةَ صُفُوفٍ فَأَكْثَر إِذَا أَمْكَنَ، وَأَقَل الصَّفِّ
اثْنَانِ وَلَوْ بِالإِْمَامِ، وَلاَ تُكْرَهُ مُسَاوَاةُ الْمَأْمُومِ
لِلإِْمَامِ فِي الْوُقُوفِ، حِينَئِذٍ وَاخْتِيَارُ أَكْمَل صِيَغِ
الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ
مَذْكُورٌ فِي سُنَنِ الصَّلاَةِ، وَالصَّلاَةُ عَلَى الآْل دُونَ
السَّلاَمِ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ، وَالتَّحْمِيدُ قَبْل الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالدُّعَاءُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
بَعْدَ الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالدُّعَاءُ الْمَأْثُورُ فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ وَالتَّسْلِيمَةُ
الثَّانِيَةُ، وَأَنْ يَقُول بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ قَبْل
السَّلاَمِ: اللَّهُمَّ لاَ تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ وَلاَ تَفْتِنَّا
بَعْدَهُ. ثُمَّ يَقْرَأُ {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ
حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} (2) وَأَنْ
يَقِفَ الإِْمَامُ أَوِ الْمُنْفَرِدُ عِنْدَ رَأْسِ الرَّجُل، وَعِنْدَ
عَجُزِ الأُْنْثَى أَوِ الْخُنْثَى، وَأَنْ يَرْفَعَ
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 223.
(2) سورة غافر / 7.
(16/26)
يَدَيْهِ عِنْدَ كُل تَكْبِيرَةٍ ثُمَّ
يَضَعَهُمَا تَحْتَ صَدْرِهِ، وَأَنْ لاَ تُرْفَعَ الْجِنَازَةُ حَتَّى
يُتِمَّ الْمَسْبُوقُ صَلاَتَهُ، وَإِنْ تَكَرَّرَ الصَّلاَةُ عَلَيْهِ
مِنْ أَشْخَاصٍ مُتَغَايِرِينَ، أَمَّا إِعَادَتُهَا مِمَّنْ أَقَامُوهَا
أَوَّلاً فَمَكْرُوهَةٌ.
وَمِنَ السُّنَنِ تَرْكُ دُعَاءِ الاِفْتِتَاحِ، وَتَرْكُ السُّورَةِ،
وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ قَبْل أَنْ يُكَفَّنَ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: سُنَنُهَا فِعْلُهَا فِي جَمَاعَةٍ، وَأَنْ لاَ
يَنْقُصَ عَدَدُ كُل صَفٍّ عَنْ ثَلاَثَةٍ إِنْ كَثُرَ الْمُصَلُّونَ،
وَإِنْ كَانُوا سِتَّةً جَعَلَهُمُ الإِْمَامُ صَفَّيْنِ، وَإِنْ كَانُوا
أَرْبَعَةً جَعَل كُل اثْنَيْنِ صَفًّا، وَلاَ تَصِحُّ صَلاَةُ مَنْ صَلَّى
خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ كَغَيْرِهَا مِنَ الصَّلاَةِ، وَأَنْ يَقِفَ
الإِْمَامُ وَالْمُنْفَرِدُ عِنْدَ صَدْرِ الرَّجُل وَوَسَطِ الأُْنْثَى،
وَأَنْ يُسِرَّ بِالْقِرَاءَةِ وَالدُّعَاءِ فِيهَا (2) وَقَدْ ذَكَرُوا
التَّعَوُّذَ وَالتَّسْمِيَةَ قَبْل قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَلَمْ
يُطَّلَعْ عَلَى تَصْرِيحٍ لَهُمْ بِسُنِّيَّتِهَا.
29 - وَإِذَا كَانَ الْقَوْمُ سَبْعَةً قَامُوا ثَلاَثَةَ صُفُوفٍ
يَتَقَدَّمُ وَاحِدٌ وَيَقُومُ خَلْفَهُ ثَلاَثَةٌ، وَخَلْفَهُمُ اثْنَانِ،
وَخَلْفَهُمَا وَاحِدٌ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُسَنُّ أَنْ لاَ تَنْقُصَ الصُّفُوفُ عَنْ
ثَلاَثَةٍ، وَلاَ يَنْقُصُ عَدَدُ كُل صَفٍّ عَنْ ثَلاَثَةٍ إِنْ كَثُرَ
الْمُصَلُّونَ، وَإِنْ كَانُوا سِتَّةً جَعَلَهُمُ الإِْمَامُ صَفَّيْنِ،
وَإِنْ كَانُوا أَرْبَعَةً جَعَل كُل اثْنَيْنِ صَفًّا،
__________
(1) شرح البهجة الوردية 2 / 110 - 114.
(2) غاية المنتهى 1 / 240.
(16/26)
وَلاَ تَصِحُّ صَلاَةُ مَنْ صَلَّى خَلْفَ
الصَّفِّ وَحْدَهُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مِنْ سُنَنِهَا أَنْ يَكُونَ ثَلاَثَةَ صُفُوفٍ
إِذَا أَمْكَنَ، وَأَقَل الصَّفِّ اثْنَانِ وَلَوْ بِالإِْمَامِ، وَلاَ
تُكْرَهُ مُسَاوَاةُ الْمَأْمُومِ لِلإِْمَامِ فِي الْوُقُوفِ حِينَئِذٍ.
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ هُبَيْرَةَ
مَرْفُوعًا: مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ ثَلاَثَةُ صُفُوفٍ فَقَدْ أَوْجَبَ،
وَفِي رِوَايَةٍ: إِلاَّ غُفِرَ لَهُ وَقَدْ كَانَ مَالِكُ بْنُ هُبَيْرَةَ
يَصُفُّ مَنْ يَحْضُرُ الصَّلاَةَ عَلَى الْجِنَازَةِ ثَلاَثَةَ صُفُوفٍ
سَوَاءٌ قَلُّوا أَوْ كَثُرُوا (1) .
صِفَةُ صَلاَةِ الْجِنَازَةِ:
30 - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الإِْمَامَ يَقُومُ فِي الصَّلاَةِ
عَلَى الْجِنَازَةِ بِحِذَاءِ الصَّدْرِ مِنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ،
وَهَذَا أَحْسَنُ مَوَاقِفِ الإِْمَامِ مِنَ الْمَيِّتِ لِلصَّلاَةِ
عَلَيْهِ، وَإِنْ وَقَفَ فِي غَيْرِهِ جَازَ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَال: يَقُومُ بِحِذَاءِ
الْوَسَطِ مِنَ الرَّجُل، وَبِحِذَاءِ الصَّدْرِ مِنَ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ
قَوْل ابْنِ أَبِي لَيْلَى.
__________
(1) الهندية، والمغني 2 / 482 ط الرياض، وغاية المنتهى 1 / 240، وفتح
الباري 3 / 121. وحديث: " من صلى عليه ثلاثة صفوف فقد أوجب " أخرجه أبو
داود (3 / 514 - 515 ط عزت عبيد الدعاس) والترمذي (3 / 338 ط مصطفى الحلبي)
وابن ماجه (1 / 478 ط عيسى الحلبي) من حديث مالك بن هبيرة. واللفظ للترمذي،
وقال: حديث حسن.
(16/27)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُنْدَبُ أَنْ
يَقِفَ الإِْمَامُ وَسْطَ الذَّكَرِ وَحَذْوَ مَنْكِبَيْ غَيْرِهِ،
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الإِْمَامَ يَقُومُ نَدْبًا عِنْدَ
رَأْسِ الرَّجُل، وَعَجِيزَةِ الْمَرْأَةِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَنَسًا
صَلَّى عَلَى رَجُلٍ فَقَامَ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَعَلَى امْرَأَةٍ فَقَامَ
عِنْدَ عَجِيزَتِهَا، فَقَال لَهُ الْعَلاَءُ بْنُ زِيَادٍ: هَكَذَا
كَانَتْ صَلاَةُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
الْمَرْأَةِ عِنْدَ عَجِيزَتِهَا وَعَلَى الرَّجُل عِنْدَ رَأْسِهِ؟ قَال:
نَعَمْ (1) قَالُوا: لأَِنَّهُ أَبْلَغُ فِي صِيَانَةِ الْمَرْأَةِ عَنِ
الْبَاقِينَ. فَإِنْ وَقَفَ مِنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ فِي أَيِّ مَكَانٍ
جَازَ وَخَالَفَ السُّنَّةَ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَقُومُ عِنْدَ صَدْرِ رَجُلٍ، وَقِيل عِنْدَ
رَأْسِهِ، وَوَسَطِ امْرَأَةٍ، وَبَيْنَ الصَّدْرِ وَالْوَسَطِ مِنَ
الْخُنْثَى، لِحَدِيثِ أَنَسٍ وَفِيهِ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى امْرَأَةٍ
فَقَامَ وَسَطَ السَّرِيرِ (2) .
31 - وَيَنْوِي الإِْمَامُ وَالْمَأْمُومُونَ، ثُمَّ يُكَبِّرُ وَمَنْ
خَلْفَهُ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ
الْفُقَهَاءِ، وَبِهِ قَال الثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَإِسْحَاقُ.
وَعَلَيْهِ الْعَمَل عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ كَمَا
__________
(1) حديث: " هكذا كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على المرأة "
أخرجه أبو داود (3 / 533 - 534 ط عزت عبيد الدعاس) والترمذي (3 / 343 ط
مصطفى الحلبي) وابن ماجه (1 / 479 ط عيسى الحلبي) من حديث أنس، وقال
الترمذي: (حديث حسن) .
(2) الهندية 1 / 161، وغاية المنتهى 1 / 343، والدسوقي 1 / 414، والمجموع 5
/ 224، ومغني المحتاج 1 / 341، والقليوبي 1 / 331، وكشاف القناع 2 / 112.
(16/27)
قَال التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ -
وَلَوْ تَرَكَ وَاحِدَةً مِنْهَا لَمْ تَجُزْ صَلاَتُهُ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَلَوْ كَبَّرَ الإِْمَامُ خَمْسًا لَمْ يُتْبَعْ؛
لأَِنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَلَكِنْ يُنْتَظَرُ سَلاَمُهُ فِي الْمُخْتَارِ
لِيُسَلِّمَ مَعَهُ عَلَى الأَْصَحِّ، وَفِي رِوَايَةٍ يُسَلِّمُ
الْمَأْمُومُ إِذَا كَبَّرَ إِمَامُهُ التَّكْبِيرَةَ الزَّائِدَةَ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ كَبَّرَ الإِْمَامُ خَمْسًا لَمْ يُتَابِعْهُ
الْمَأْمُومُ فِي الْخَامِسَةِ، بَل يُسَلِّمُ أَوْ يَنْتَظِرُ لِيُسَلِّمَ
مَعَهُ وَهَذَا هُوَ الأَْصَحُّ، وَخِلاَفُ الأَْصَحِّ أَنَّهُ لَوْ
تَابَعَهُ لَمْ يَضُرَّ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الأَْوْلَى أَنْ لاَ يُزَادَ عَلَى أَرْبَعِ
تَكْبِيرَاتٍ وَيُتَابِعُ إِمَامَهُ فِيمَا زَادَ إِلَى سَبْعٍ فَقَطْ،
وَيَحْرُمُ سَلاَمٌ قَبْلَهُ، إِنْ جَاوَزَ سَبْعًا.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: فَإِذَا كَبَّرَ الأُْولَى مَعَ رَفْعِ يَدَيْهِ
أَثْنَى عَلَى اللَّهِ كَمَا مَرَّ. (1)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِذَا كَبَّرَ الأُْولَى
تَعَوَّذَ وَسَمَّى وَقَرَأَ الْفَاتِحَةَ. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ: لَيْسَ فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ قِرَاءَةٌ.
وَإِذَا كَبَّرَ الثَّانِيَةَ يَأْتِي بِالصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ الصَّلاَةُ الإِْبْرَاهِيمِيَّةُ
الَّتِي يَأْتِي بِهَا فِي الْقَعْدَةِ الأَْخِيرَةِ مِنْ ذَوَاتِ
الرُّكُوعِ، وَإِذَا كَبَّرَ الثَّالِثَةَ يَدْعُو لِلْمَيِّتِ
وَيَسْتَغْفِرُ لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ يُكَبِّرُ الرَّابِعَةَ وَلاَ
دُعَاءَ بَعْدَ الرَّابِعَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ
__________
(1) المصادر السابقة.
(16/28)
الْحَنَفِيَّةِ وَمَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ،
وَقِيل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَقُول: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا
حَسَنَةً. . .} إِلَخْ (1) وَقِيل: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا}
إِلَخْ (2) ، وَقِيل: يُخَيَّرُ بَيْنَ السُّكُوتِ وَالدُّعَاءِ، وَعِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ يَدْعُو بَعْدَ الرَّابِعَةِ أَيْضًا -
ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً أَوْ تَسْلِيمَتَيْنِ عَلَى
الْخِلاَفِ الْمُتَقَدِّمِ. وَيَنْوِي التَّسْلِيمَ عَلَى الْمَيِّتِ مَعَ
الْقَوْمِ كَمَا فِي الدُّرِّ وَمَرَاقِي الْفَلاَحِ. وَفِي
الْهِنْدِيَّةِ: لاَ يَنْوِي التَّسْلِيمَ عَلَى الْمَيِّتِ.
وَلاَ يَجْهَرُ بِمَا يَقْرَأُ عَقِبَ كُل تَكْبِيرَةٍ سَوَاءٌ فِي
الْفَاتِحَةِ أَوْ غَيْرِهَا لَيْلاً كَانَتِ الصَّلاَةُ أَوْ نَهَارًا.
وَهَل يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّسْلِيمِ؟ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ
الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ
أَنَّهُ لاَ يَرْفَعُ؛ لأَِنَّهُ لِلإِْعْلاَمِ وَلاَ حَاجَةَ إِلَيْهِ؛
لأَِنَّ التَّسْلِيمَ مَشْرُوعٌ عَقِبَ التَّكْبِيرِ بِلاَ فَصْلٍ، لَكِنِ
الْعَمَل عَلَى خِلاَفِهِ، وَفِي جَوَاهِرِ الْفَتَاوَى: يَجْهَرُ
بِتَسْلِيمٍ وَاحِدٍ.
وَرَوَى مُحَمَّدٌ فِي مُوَطَّئِهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا صَلَّى
عَلَى جِنَازَةٍ سَلَّمَ حَتَّى يُسْمِعَ مَنْ يَلِيهِ، قَال مُحَمَّدٌ:
وَبِهَذَا نَأْخُذُ فَيُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ وَيُسْمِعُ
مَنْ يَلِيهُ وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: إِنَّهُ لاَ يَجْهَرُ كُل الْجَهْرِ وَلاَ يُسِرُّ
كُل الإِْسْرَارِ.
__________
(1) سورة البقرة / 201.
(2) سورة آل عمران / 8.
(16/28)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجْهَرُ
الإِْمَامُ بِالتَّسْلِيمِ بِقَدْرِ التَّسْمِيعِ، وَيُنْدَبُ لِغَيْرِ
الإِْمَامِ إِسْرَارُهَا. (1)
وَقَال النَّوَوِيُّ: قَال جُمْهُورُهُمْ: يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً
وَاحِدَةً. وَاخْتَلَفُوا هَل يَجْهَرُ الإِْمَامُ بِالتَّسْلِيمِ؟ فَأَبُو
حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ يَقُولاَنِ: يَجْهَرُ، وَعَنْ مَالِكٍ
رِوَايَتَانِ، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ قَال مَالِكٌ فِي السَّلاَمِ عَلَى
الْجَنَائِزِ: يُسْمِعُ نَفْسَهُ وَكَذَلِكَ مَنْ خَلْفَ الإِْمَامِ وَهُوَ
دُونَ سَلاَمِ الإِْمَامِ، تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً لِلإِْمَامِ وَغَيْرِهِ -
وَفِي رِوَايَةٍ يُسَلِّمُ الإِْمَامُ وَاحِدَةً قَدْرَ مَا يُسْمِعُ مَنْ
يَلِيهِ، وَيُسَلِّمُ مَنْ وَرَاءَهُ وَاحِدَةً فِي أَنْفُسِهِمْ، وَإِنْ
أَسْمَعُوا مَنْ يَلِيهِمْ لَمْ أَرَ بِذَلِكَ بَأْسًا، وَقَالَتِ
الْحَنَابِلَةُ: يُسَلِّمُ بِلاَ تَشَهُّدٍ وَاحِدَةً عَنْ يَمِينِهِ،
وَيَجُوزُ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، وَيَجُوزُ ثَانِيَةٌ.
وَلاَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي غَيْرِ التَّكْبِيرَةِ الأُْولَى عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَكَثِيرٌ مِنْ مَشَايِخِ بَلْخَ
اخْتَارُوا الرَّفْعَ فِي كُل تَكْبِيرَةٍ.
وَبِهِ قَال مَالِكٌ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ لاَ تُرْفَعُ الأَْيْدِي فِي
الصَّلاَةِ عَلَى الْجِنَازَةِ إِلاَّ فِي أَوَّل تَكْبِيرَةٍ، وَرُوِيَ
عَنْهُ أَنَّهُ يُعْجِبُنِي أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ فِي التَّكْبِيرَاتِ
الأَْرْبَعِ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 611، ومغني المحتاج 1 / 341، وكشاف القناع 2 / 112،
والطحطاوي على المراقي 242، وشرح مسلم 1 / 309، والشرح الصغير 1 / 556.
(16/29)
وَالرَّاجِحُ فِي مَذْهَبِهِمُ الأَْوَّل -
وَهُوَ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الثَّوْرِيُّ، وَفِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ:
نُدِبَ رَفْعُ الْيَدَيْنِ حَذْوَ الْمَنْكِبَيْنِ عِنْدَ التَّكْبِيرَةِ
الأُْولَى فَقَطْ، وَفِي غَيْرِ الأُْولَى خِلاَفُ الأَْوْلَى.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُسَنُّ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ
فِي كُل تَكْبِيرَةٍ. (1)
مَا يَفْعَل الْمَسْبُوقُ فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ:
32 - إِذَا جَاءَ رَجُلٌ وَقَدْ كَبَّرَ الإِْمَامُ التَّكْبِيرَةَ
الأُْولَى وَلَمْ يَكُنْ حَاضِرًا انْتَظَرَهُ حَتَّى إِذَا كَبَّرَ
الثَّانِيَةَ كَبَّرَ مَعَهُ، فَإِذَا فَرَغَ الإِْمَامُ كَبَّرَ
الْمَسْبُوقُ التَّكْبِيرَةَ الَّتِي فَاتَتْهُ قَبْل أَنْ تُرْفَعَ
الْجِنَازَةُ، وَهَذَا قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا (وَقَال أَبُو يُوسُفَ يُكَبِّرُ حِينَ يَحْضُرُ) وَكَذَا إِنْ
جَاءَ وَقَدْ كَبَّرَ الإِْمَامُ تَكْبِيرَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا، فَإِنْ
لَمْ يَنْتَظِرِ الْمَسْبُوقُ وَكَبَّرَ قَبْل تَكْبِيرِ الإِْمَامِ
الثَّانِيَةَ أَوِ الثَّالِثَةَ أَوِ الرَّابِعَةَ لَمْ تَفْسُدْ
صَلاَتُهُ، وَلَكِنْ لاَ يُعْتَدُّ بِتَكْبِيرَتِهِ هَذِهِ، وَإِنْ جَاءَ
وَقَدْ كَبَّرَ الإِْمَامُ أَرْبَعًا وَلَمْ يُسَلِّمْ لاَ يَدْخُل مَعَهُ
فِي رِوَايَةِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالأَْصَحُّ أَنَّهُ يَدْخُل، وَعَلَيْهِ
الْفَتْوَى، ثُمَّ يُكَبِّرُ ثَلاَثًا قَبْل أَنْ تُرْفَعَ الْجِنَازَةُ
مُتَتَابِعًا لاَ دُعَاءَ فِيهَا (وَهُوَ قَوْل
__________
(1) الهندية 1 / 161، وشرح مسلم 1 / 309، والمدونة 1 / 160، 170، وغاية
المنتهى 1 / 241، 242، نيل الأوطار 4 / 53، والشرح الصغير 1 / 224،
والتنبيه ص 37، ومغني المحتاج 1 / 342، والمغني 2 / 490 ط الرياض، شرح مسلم
7 / 14، المطبعة المصرية.
(16/29)
أَبِي يُوسُفَ) وَلَوْ رُفِعَتْ
بِالأَْيْدِي وَلَمْ تُوضَعْ عَلَى الأَْكْتَافِ ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لاَ يَأْتِي بِالتَّكْبِيرِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ إِنْ
كَانَتْ إِلَى الأَْرْضِ أَقْرَبُ يُكَبِّرُ وَإِلاَّ فَلاَ، وَهُوَ
الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّل عَلَيْهِ كَمَا فِي
الشُّرُنْبُلاَلِيَّةِ.
هَذَا إِذَا كَانَ غَائِبًا ثُمَّ حَضَرَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ حَاضِرًا
مَعَ الإِْمَامِ فَتَغَافَل وَلَمْ يُكَبِّرْ مَعَ الإِْمَامِ أَوْ
تَشَاغَل بِالنِّيَّةِ فَأَخَّرَ التَّكْبِيرَ، فَإِنَّهُ يُكَبِّرُ وَلاَ
يَنْتَظِرُ تَكْبِيرَةَ الإِْمَامِ الثَّانِيَةَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛
لأَِنَّهُ لَمَّا كَانَ مُسْتَعِدًّا جُعِل كَالْمُشَارِكِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا جَاءَ وَالإِْمَامُ مُشْتَغِلٌ بِالدُّعَاءِ
فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لاَ يُكَبِّرَ حَتَّى إِذَا كَبَّرَ
الإِْمَامُ كَبَّرَ مَعَهُ، فَإِنْ لَمْ يَنْتَظِرْ وَكَبَّرَ صَحَّتْ
صَلاَتُهُ وَلَكِنْ لاَ تُحْتَسَبُ تَكْبِيرَتُهُ هَذِهِ، سَوَاءٌ
انْتَظَرَ أَوْ لَمْ يَنْتَظِرْ، وَإِذَا سَلَّمَ الإِْمَامُ قَضَى
الْمَأْمُومُ مَا فَاتَهُ مِنَ التَّكْبِيرِ سَوَاءٌ رُفِعَتِ الْجِنَازَةُ
فَوْرًا أَوْ بَقِيَتْ، إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا بَقِيَتِ الْجِنَازَةُ دَعَا
عَقِبَ كُل تَكْبِيرَةٍ يَقْضِيهَا، وَإِنْ رُفِعَتْ فَوْرًا وَالَى
التَّكْبِيرَ وَلاَ يَدْعُو لِئَلاَّ يَكُونَ مُصَلِّيًا عَلَى غَائِبٍ،
وَالصَّلاَةُ عَلَى الْغَائِبِ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ عِنْدَهُمْ، أَمَّا
إِذَا كَانَ الإِْمَامُ وَمَنْ مَعَهُ قَدْ فَرَغُوا مِنَ التَّكْبِيرَةِ
الرَّابِعَةِ فَلاَ يَدْخُل الْمَسْبُوقُ مَعَهُ عَلَى الصَّحِيحِ؛
لأَِنَّهُ فِي حُكْمِ التَّشَهُّدِ، فَلَوْ دَخَل مَعَهُ يَكُونُ
مُكَرِّرًا الصَّلاَةَ
__________
(1) الهندية 1 / 162، وابن عابدين مع الدر 1 / 613، 614.
(16/30)
عَلَى الْمَيِّتِ وَتَكْرَارُهَا مَكْرُوهٌ
عِنْدَهُمْ. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا جَاءَ الْمَأْمُومُ وَقَدْ فَرَغَ
الإِْمَامُ مِنَ التَّكْبِيرَةِ الأُْولَى أَوْ غَيْرِهَا، وَاشْتَغَل
بِمَا بَعْدَهَا مِنْ قِرَاءَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، فَإِنَّهُ يَدْخُل مَعَهُ
وَلاَ يَنْتَظِرُ الإِْمَامَ حَتَّى يُكَبِّرَ التَّكْبِيرَةَ
التَّالِيَةَ، إِلاَّ أَنَّهُ يَسِيرُ فِي صَلاَتِهِ عَلَى نَظْمِ
الصَّلاَةِ لَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا، فَبَعْدَ أَنْ يُكَبِّرَ
التَّكْبِيرَةَ الأُْولَى يَقْرَأُ مِنَ الْفَاتِحَةِ مَا يُمْكِنُهُ
قِرَاءَتُهُ قَبْل تَكْبِيرِ الإِْمَامِ وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْبَاقِي،
ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ
الثَّانِيَةِ وَهَكَذَا، فَإِذَا فَرَغَ الإِْمَامُ أَتَمَّ الْمَأْمُومُ
صَلاَتَهُ عَلَى النَّظْمِ الْمَذْكُورِ، وَيَأْتِي بِالأَْذْكَارِ فِي
مَوَاضِعِهَا، سَوَاءٌ بَقِيَتِ الْجِنَازَةُ أَوْ رُفِعَتْ، وَإِذَا لَمْ
يُمْكِنْهُ قِرَاءَةُ شَيْءٍ مِنَ الْفَاتِحَةِ إِنْ كَبَّرَ إِمَامُهُ
عَقِبَ تَكْبِيرِ الْمَسْبُوقِ لِلإِْحْرَامِ كَبَّرَ مَعَهُ وَتَحَمَّل
الإِْمَامُ عَنْهُ كُل الْفَاتِحَةِ.
وَفِي التَّنْبِيهِ: مَنْ سَبَقَهُ الإِْمَامُ بِبَعْضِ التَّكْبِيرَاتِ
دَخَل فِي الصَّلاَةِ وَأَتَى بِمَا أَدْرَكَ، فَإِذَا سَلَّمَ الإِْمَامُ
كَبَّرَ مَا بَقِيَ مُتَوَالِيًا. (2)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَنْ سُبِقَ بِبَعْضِ الصَّلاَةِ كَبَّرَ وَدَخَل
مَعَ الإِْمَامِ حَيْثُ أَدْرَكَهُ وَلَوْ بَيْنَ تَكْبِيرَتَيْنِ نَدْبًا
كَالصَّلاَةِ، أَوْ كَانَ إِدْرَاكُهُ لَهُ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ
الرَّابِعَةِ قَبْل السَّلاَمِ، فَيُكَبِّرُ لِلإِْحْرَامِ مَعَهُ
وَيَقْضِي ثَلاَثَ تَكْبِيرَاتٍ اسْتِحْبَابًا، وَيَقْضِي
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 224.
(2) التنبيه ص 38.
(16/30)
مَسْبُوقٌ مَا فَاتَهُ قَبْل دُخُولِهِ
مَعَ الإِْمَامِ عَلَى صِفَتِهِ؛ لأَِنَّ الْقَضَاءَ يَحْكِي الأَْدَاءَ
كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَيَكُونُ قَضَاؤُهُ بَعْدَ سَلاَمِ الإِْمَامِ
كَالْمَسْبُوقِ فِي الصَّلاَةِ.
قَال الْبُهُوتِيُّ: قُلْتْ: لَكِنْ إِنْ حَصَل لَهُ عُذْرٌ يُبِيحُ تَرْكَ
جُمُعَةٍ وَجَمَاعَةٍ صَحَّ أَنْ يَنْفَرِدَ وَيُتِمَّ لِنَفْسِهِ قَبْل
سَلاَمِهِ، فَإِنْ أَدْرَكَهُ الْمَسْبُوقُ فِي الدُّعَاءِ تَابَعَهُ
فِيهِ، فَإِذَا سَلَّمَ الإِْمَامُ كَبَّرَ وَقَرَأَ الْفَاتِحَةَ بَعْدَ
التَّعَوُّذِ وَالْبَسْمَلَةِ، ثُمَّ كَبَّرَ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ كَبَّرَ وَسَلَّمَ؛ لِمَا
تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمَقْضِيَّ أَوَّل صَلاَتِهِ، فَيَأْتِي فِيهِ
بِحَسَبِ ذَلِكَ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا (1)
وَإِنَّمَا يَظْهَرُ إِذَا كَانَ الدُّعَاءُ بَعْدَ الرَّابِعَةِ أَوْ
بَعْدَ الثَّالِثَةِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهَا لِنَوْمٍ أَوْ سَهْوٍ
وَنَحْوِهِ. وَإِلاَّ لَزِمَ عَلَيْهِ الزِّيَادَةُ عَلَى أَرْبَعٍ،
وَتَرْكُهَا أَفْضَل. فَإِنْ كَانَ أَدْرَكَهُ فِي الدُّعَاءِ وَكَبَّرَ
الأَْخِيرَةَ مَعَهُ فَإِذَا سَلَّمَ الإِْمَامُ كَبَّرَ وَقَرَأَ
الْفَاتِحَةَ، ثُمَّ كَبَّرَ وَصَلَّى عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ثُمَّ سَلَّمَ مِنْ غَيْرِ تَكْبِيرٍ؛ لأَِنَّ الأَْرْبَعَ
تَمَّتْ. (2)
وَإِنْ كَبَّرَ مَعَ الإِْمَامِ التَّكْبِيرَةَ الأُْولَى وَلَمْ يُكَبِّرِ
الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ يُكَبِّرُهُمَا، ثُمَّ يُكَبِّرُ مَعَ
الإِْمَامِ الرَّابِعَةَ.
__________
(1) حديث: " وما فاتكم فأتموا. . . " أخرجه مسلم (1 / 420 - 421 ط عيسى
الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) غاية المنتهى 1 / 243 - 244، وكشاف القناع 2 / 120.
(16/31)
تَرْكُ بَعْضِ التَّكْبِيرَاتِ:
33 - وَلَوْ سَلَّمَ الإِْمَامُ بَعْدَ الثَّالِثَةِ نَاسِيًا كَبَّرَ
الرَّابِعَةَ وَيُسَلِّمُ. (1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ تَرَكَ غَيْرُ مَسْبُوقٍ تَكْبِيرَةً عَمْدًا
بَطَلَتْ، وَإِنْ تَرَكَ سَهْوًا فَإِنْ كَانَ مَأْمُومًا كَبَّرَهَا مَا
لَمْ يَطُل الْفَصْل (أَيْ بَعْدَ السَّلاَمِ) ، وَإِنْ كَانَ إِمَامًا
نَبَّهَهُ الْمَأْمُومُونَ فَيُكَبِّرُهَا مَا لَمْ يَطُل الْفَصْل،
وَصَحَّتْ صَلاَةُ الْجَمِيعِ، فَإِنْ طَال أَوْ وُجِدَ مُنَافٍ
اسْتَأْنَفَ، وَصَحَّتْ صَلاَةُ الْمَأْمُومِينَ إِنْ نَوَوُا
الْمُفَارَقَةَ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تَبْطُل صَلاَةُ الْجَمِيعِ إِنْ كَانَ النَّقْصُ
قَصْدًا مِنَ الإِْمَامِ، وَإِنْ كَانَ سَهْوًا تَدَارَكَهُ الإِْمَامُ
وَالْمَأْمُومُ كَالصَّلاَةِ، وَلاَ سُجُودَ لِلسَّهْوِ هُنَا.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَ النَّقْصُ مِنَ الإِْمَامِ عَمْدًا
بَطَلَتْ صَلاَةُ الْجَمِيعِ، وَإِنْ سَهْوًا سَبَّحَ لَهُ
الْمَأْمُومُونَ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ قُرْبٍ وَكَمَّل التَّكْبِيرَ
كَمَّلُوهُ مَعَهُ وَصَحَّتْ صَلاَةُ الْجَمِيعِ، وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ
أَوْ لَمْ يَتَنَبَّهْ إِلاَّ بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ كَمَّلُوا هُمْ،
وَصَحَّتْ صَلاَتُهُمْ وَبَطَلَتْ صَلاَتُهُ. (2)
الصَّلاَةُ عَلَى جَنَائِزَ مُجْتَمِعَةٍ:
34 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَتْ جَنَائِزُ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 613.
(2) غاية المنتهى 1 / 242، وشرح البهجة 2 / 113، والدسوقي على الشرح الكبير
1 / 411.
(16/31)
يَجُوزُ أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِمْ
مُجْتَمِعِينَ أَوْ فُرَادَى ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَال الْحَنَفِيَّةُ:
فَالإِْمَامُ إِنْ شَاءَ صَلَّى عَلَى كُل وَاحِدَةٍ عَلَى حِدَةٍ، وَإِنْ
شَاءَ صَلَّى عَلَى الْكُل دَفْعَةً وَاحِدَةً بِالنِّيَّةِ عَلَى
الْجَمِيعِ، كَذَا فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَالْبَدَائِعِ، وَفِي
الدُّرِّ: إِفْرَادُ الصَّلاَةِ عَلَى كُل وَاحِدَةٍ أَوْلَى مِنَ
الْجَمْعِ (لأَِنَّ الْجَمْعَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ) فَإِذَا أَفْرَدَ يُصَلِّي
عَلَى أَفْضَلِهِمْ أَوَّلاً، ثُمَّ عَلَى الَّذِي يَلِيهِ فِي الْفَضْل
إِنْ لَمْ يَسْبِقْهُ غَيْرُهُ، وَإِلاَّ يُصَلِّي عَلَى الأَْسْبَقِ
أَوَّلاً وَلَوْ كَانَ مَفْضُولاً.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الإِْفْرَادَ أَفْضَل مِنْ
أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِمْ دَفْعَةً وَاحِدَةً لأَِنَّهُ أَكْثَرُ عَمَلاً
وَأَرْجَى لِلْقَبُول.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْل صَاحِبِ التَّنْبِيهِ مِنَ
الشَّافِعِيَّةِ إِذَا اجْتَمَعَتْ جَنَائِزُ فَجَمْعُهُمْ فِي الصَّلاَةِ
عَلَيْهِمْ أَفْضَل مِنَ الصَّلاَةِ عَلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ
مُنْفَرِدًا، وَذَلِكَ لأَِجْل الْمُحَافَظَةِ عَلَى الإِْسْرَاعِ
وَالتَّخْفِيفِ. (1)
ثُمَّ قَال الْحَنَفِيَّةُ إِنْ صَلَّى عَلَيْهِمْ دَفْعَةً فَإِنْ شَاءَ
جَعَلَهُمْ صَفًّا وَاحِدًا عَرْضًا، وَإِنْ شَاءَ وَضَعَ وَاحِدًا بَعْدَ
وَاحِدٍ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ لِيَقُومَ بِحِذَاءِ الْكُل، هَذَا
جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الأُْصُول أَنَّ
الثَّانِيَ أَوْلَى؛ لأَِنَّ السُّنَّةَ هِيَ قِيَامُ الإِْمَامِ
__________
(1) كشاف القناع 2 / 112، والمجموع للنووي 5 / 225، 226، والزرقاني على
الموطأ 2 / 64.
(16/32)
بِحِذَاءِ الْمَيِّتِ، وَهُوَ يَحْصُل فِي
الثَّانِي دُونَ الأَْوَّل، فَإِذَا صَفَّهُمْ صَفًّا وَاحِدًا عَرْضًا
قَامَ عِنْدَ أَفْضَلِهِمْ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي الْفَضْل، وَإِنْ
تَسَاوَوْا قَامَ عِنْدَ أَسَنِّهِمْ، (أَكْبَرِهِمْ سِنًّا) .
وَقَال مَالِكٌ: أَرَى ذَلِكَ وَاسِعًا إِنْ جُعِل بَعْضُهُمْ خَلْفَ
بَعْضٍ، أَوْ جُعِلُوا صَفًّا وَاحِدًا، وَيَقُومُ الإِْمَامُ وَسْطَ
ذَلِكَ وَيُصَلِّي عَلَيْهِمْ. وَإِنْ كَانُوا غِلْمَانًا ذُكُورًا أَوْ
نِسَاءً جُعِل الْغِلْمَانُ مِمَّا يَلِي الإِْمَامَ وَالنِّسَاءُ مِنْ
خَلْفِهِمْ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ، وَإِنْ كُنَّ نِسَاءً صُنِعَ بِهِنَّ
كَمَا يُصْنَعُ بِالرِّجَال كُل ذَلِكَ وَاسِعٌ بَعْضُهُمْ خَلْفَ بَعْضٍ
صَفًّا وَاحِدًا.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ - فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ - وَالْحَنَابِلَةُ:
إِنَّ الْجَنَائِزَ تُوضَعُ أَمَامَ الإِْمَامِ بَعْضَهَا خَلْفَ بَعْضٍ،
وَالْقَوْل الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهَا تُوضَعُ بَيْنَ
يَدَيِ الإِْمَامِ صَفًّا وَاحِدًا عَنْ يَمِينِهِ فَيَقِفُ هُوَ فِي
مُحَاذَاةِ الآْخِرِ مِنْهُمْ، فَإِنْ كَانُوا رِجَالاً وَنِسَاءً
يَتَعَيَّنُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْقَوْل الأَْوَّل. (1)
وَإِنْ وُضِعُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ
يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَفْضَلُهُمْ مِمَّا يَلِي الإِْمَامَ، كَذَا
رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُوضَعُ أَفْضَلُهُمْ وَأَسَنُّهُمْ
مِمَّا يَلِي الإِْمَامَ، وَقَال أَبُو يُوسُفَ: الأَْحْسَنُ عِنْدِي أَنْ
يَكُونَ أَهْل الْفَضْل مِمَّا يَلِي الإِْمَامَ.
ثُمَّ إِنْ وُضِعَ رَأْسُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحِذَاءِ رَأْسِ صَاحِبِهِ
فَحَسَنٌ، وَإِنْ وُضِعَ شِبْهَ الدَّرَجِ كَمَا
__________
(1) المجموع 5 / 226، وغاية المنتهى 1 / 241، والأم 1 / 244، وشرح البهجة 1
/ 108.
(16/32)
قَال ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَهُوَ أَنْ
يَكُونَ رَأْسُ الثَّانِي عِنْدَ مَنْكِبِ الأَْوَّل فَحَسَنٌ أَيْضًا،
كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُوضَعُ بَعْضُهُمْ خَلْفَ بَعْضٍ لِيُحَاذِيَ
الإِْمَامُ الْجَمْعَ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ كُل وَاحِدٍ
مِنْهُمْ بِحِذَاءِ رَأْسِ صَاحِبِهِ إِنْ كَانُوا مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ،
فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ نَوْعٍ سَوَّى بَيْنَ رُءُوسِ كُل نَوْعٍ
وَيَجْعَل وَسَطَ الْمَرْأَةِ حِذَاءَ صَدْرِ الرَّجُل. (2)
وَتَرْتِيبُهُمْ فِي الْوَضْعِ عِنْدَ اخْتِلاَفِ النَّوْعِ لاَ خِلاَفَ
فِيهِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، فَتُوضَعُ الرِّجَال مِمَّا يَلِي الإِْمَامَ،
ثُمَّ الصِّبْيَانُ، ثُمَّ الْخَنَاثَى، ثُمَّ النِّسَاءُ، ثُمَّ
الْمُرَاهِقَاتُ. وَلَوْ كَانَ الْكُل رِجَالاً يُوضَعُ أَفْضَلُهُمْ
وَأَسَنُّهُمْ مِمَّا يَلِي الإِْمَامَ. (3)
وَهَذَا إِنْ جِيءَ بِهِمْ دُفْعَةً وَاحِدَةً فَإِنْ جِيءَ بِهِمْ
مُتَعَاقِبِينَ وَكَانُوا مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ يُقَدَّمُ الأَْسْبَقُ.
وَقَال مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: إِنْ افْتَتَحَ الْمُصَلِّي الصَّلاَةَ
عَلَى جِنَازَةٍ فَكَبَّرَ وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ، ثُمَّ أُتِيَ
بِجِنَازَةٍ أُخْرَى وُضِعَتْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنَ
__________
(1) البدائع 1 / 316، وابن عابدين 1 / 615، والهندية 1 / 162.
(2) كشاف القناع 2 / 112، والمجموع 5 / 226، ومغني المحتاج 1 / 348.
(3) الهندية 1 / 162، والمراجع السابقة في المذاهب.
(16/33)
الصَّلاَةِ عَلَى الْجِنَازَةِ الَّتِي
كَانَتْ قَبْلَهَا؛ لأَِنَّهُ افْتَتَحَ الصَّلاَةَ يَنْوِي بِهَا غَيْرَ
هَذِهِ الْجِنَازَةِ الْمُؤَخَّرَةِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى الْجِنَازَةِ
الْمُؤَخَّرَةِ. (1)
وَإِذَا كَبَّرَ الإِْمَامُ عَلَى جِنَازَةٍ فَجِيءَ بِأُخْرَى مَضَى عَلَى
صَلاَتِهِ عَلَى الأُْولَى، فَإِذَا فَرَغَ اسْتَأْنَفَ عَلَى
الثَّانِيَةِ، وَإِنْ كَانَ لَمَّا وَضَعُوا الثَّانِيَةَ كَبَّرَ
الأُْخْرَى يَنْوِيهِمَا فَهِيَ لِلأُْولَى أَيْضًا، وَلاَ يَكُونُ
لِلثَّانِيَةِ، وَإِنْ كَبَّرَ الثَّانِيَةَ يَنْوِي الثَّانِيَةَ
وَحْدَهَا فَهِيَ لِلثَّانِيَةِ وَقَدْ خَرَجَ مِنَ الأُْولَى، فَإِذَا
فَرَغَ أَعَادَ الصَّلاَةَ عَلَى الأُْولَى وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ
الْحَنَفِيَّةُ. (2)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ كَبَّرَ فَجِيءَ بِأُخْرَى كَبَّرَ ثَانِيَةً
وَنَوَاهُمَا، فَإِنْ جِيءَ بِثَالِثَةٍ كَبَّرَ ثَالِثَةً وَنَوَى
الْجَنَائِزَ الثَّلاَثَ، فَإِنْ جِيءَ بِرَابِعَةٍ كَبَّرَ رَابِعَةً
وَنَوَى الْكُل، فَيَصِيرُ مُكَبِّرًا عَلَى الأُْولَى أَرْبَعًا وَعَلَى
الثَّانِيَةِ ثَلاَثًا، وَعَلَى الثَّالِثَةِ اثْنَتَيْنِ، وَعَلَى
الرَّابِعَةِ وَاحِدَةً، فَيَأْتِي بِثَلاَثِ تَكْبِيرَاتٍ أُخَرَ،
فَيُتِمُّ التَّكْبِيرَاتِ سَبْعًا، يَقْرَأُ فِي خَامِسَةٍ وَيُصَلِّي
(عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بِسَادِسَةٍ،
وَيَدْعُو بِسَابِعَةٍ، فَيَصِيرُ مُكَبِّرًا عَلَى الأُْولَى سَبْعًا،
وَعَلَى الثَّانِيَةِ سِتًّا، وَعَلَى الثَّالِثَةِ خَمْسًا، وَعَلَى
الرَّابِعَةِ أَرْبَعًا.
فَإِنْ جِيءَ بِخَامِسَةٍ لَمْ يَنْوِهَا بَل يُصَلِّي عَلَيْهَا
__________
(1) الأم 1 / 244، والشرح الصغير 1 / 228، والمدونة 1 / 164.
(2) الهندية 1 / 162، والبدائع 1 / 314، 316.
(16/33)
بَعْدَ سَلاَمِهِ، وَكَذَا لَوْ جِيءَ
بِثَانِيَةٍ عَقِبَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَبْقَ
مِنَ السَّبْعِ أَرْبَعٌ، وَلاَ بُدَّ مِنْ أَرْبَعِ تَكْبِيرَاتٍ، وَلاَ
يَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى سَبْعِ تَكْبِيرَاتٍ. (1)
35 - وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ
لَوْ صَلَّى النِّسَاءُ جَمَاعَةً عَلَى جِنَازَةٍ قَامَتِ الَّتِي تَؤُمُّ
وَسْطَهُنَّ كَمَا فِي الصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ الْمَعْهُودَةِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ تُصَلِّي النِّسَاءُ جَمَاعَةً، بَل
يُصَلِّينَ فُرَادَى فِي آنٍ وَاحِدٍ؛ لأَِنَّهُنَّ لَوْ صَلَّيْنَ
وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ لَزِمَ تَكْرَارُ الصَّلاَةِ وَهُوَ مَكْرُوهٌ
عِنْدَهُمْ. (2)
الْحَدَثُ فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ:
36 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الإِْمَامُ عَلَى
غَيْرِ الطَّهَارَةِ تُعَادُ الصَّلاَةُ، وَإِنْ كَانَ الإِْمَامُ عَلَى
طَهَارَةٍ وَالْقَوْمُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ صَحَّتْ صَلاَةُ الإِْمَامِ
وَلاَ تُعَادُ الصَّلاَةُ عَلَيْهِ. وَقَال الشَّافِعِيُّ: لَوْ صَلَّى
الإِْمَامُ غَيْرَ مُتَوَضِّئٍ وَمَنْ خَلْفَهُ مُتَوَضِّئُونَ أَجْزَأَتْ
صَلاَتُهُمْ، وَإِنْ كَانُوا كُلُّهُمْ غَيْرَ مُتَوَضِّئِينَ أَعَادُوا،
وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ ثَلاَثَةٌ فَصَاعِدًا مُتَوَضِّئُونَ أَجْزَأَتْ.
وَقَال مَالِكٌ: إِذَا أَحْدَثَ إِمَامُ الْجِنَازَةِ يَأْخُذُ
__________
(1) غاية المنتهى وقد تصرفنا في العبارة بإيضاحها 1 / 243، 244.
(2) البدائع 1 / 314، والأم 1 / 244، والشرح الصغير 1 / 445.
(16/34)
بِيَدِ رَجُلٍ فَيُقَدِّمُهُ فَيُكَبِّرُ
مَا بَقِيَ عَلَى هَذَا الَّذِي قَدَّمَهُ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ رَجَعَ بَعْدَ
أَنْ يَتَوَضَّأَ فَصَلَّى مَا أَدْرَكَ وَقَضَى مَا فَاتَهُ، وَإِنْ شَاءَ
تَرَكَ ذَلِكَ (1) .
وَلَوْ أَحْدَثَ الإِْمَامُ فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ فَقَدَّمَ غَيْرَهُ
جَازَ وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَإِذَا عَادَ بَعْدَ التَّوَضُّؤِ بَنَى عَلَى
صَلاَتِهِ وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَقَال الشَّافِعِيُّ: إِنْ
أَحْدَثَ الإِْمَامُ انْصَرَفَ وَتَوَضَّأَ وَكَبَّرَ مَنْ خَلْفَهُ مَا
بَقِيَ مِنَ التَّكْبِيرِ فُرَادَى لاَ يَؤُمُّهُمْ أَحَدٌ. (2)
الصَّلاَةُ عَلَى الْقَبْرِ:
37 - لَوْ دُفِنَ الْمَيِّتُ قَبْل الصَّلاَةِ أَوْ قَبْل الْغُسْل
فَإِنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَهُوَ فِي قَبْرِهِ مَا لَمْ يُعْلَمْ
أَنَّهُ تَمَزَّقَ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ. (3)
وَقَال مَالِكٌ: لاَ يُصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ كَمَا فِي بِدَايَةِ
الْمُجْتَهِدِ، وَفِي مُقَدِّمَاتِ ابْنِ رُشْدٍ إِنْ دُفِنَ قَبْل أَنْ
يُصَلَّى عَلَيْهِ أُخْرِجَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَفُتْ، فَإِنْ
فَاتَ صُلِّيَ عَلَيْهِ فِي قَبْرِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ
وَابْنِ وَهْبٍ، وَقِيل: إِنَّهُ إِنْ فَاتَ لَمْ يُصَل عَلَيْهِ لِئَلاَّ
يَكُونَ ذَرِيعَةً لِلصَّلاَةِ عَلَى الْقُبُورِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَشْهَبَ
وَسَحْنُونٍ.
__________
(1) الهندية 1 / 162، والبدائع 1 / 316، والأم 1 / 144، والمدونة 1 / 171.
(2) المراجع السابقة.
(3) الشرح الصغير 1 / 445، وغاية المنتهى 1 / 240، والبدائع 1 / 314.
(16/34)
وَاخْتُلِفَ بِمَ يَكُونُ الْفَوْتُ؟
فَقِيل: يَفُوتُ بِأَنْ يُهَال عَلَيْهِ التُّرَابُ بَعْدَ نَصْبِ
اللَّبِنِ، وَإِنْ لَمْ يُفْرَغْ مِنْ دَفْنِهِ وَمَا لَمْ يُهَل عَلَيْهِ
التُّرَابُ، وَإِنْ نُصِبَ اللَّبِنُ فَإِنَّهُ يُخْرَجُ وَيُصَلَّى
عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْل أَشْهَبَ. وَقِيل: إِنَّهُ لاَ يَفُوتُ إِلاَّ
بِالْفَرَاغِ مِنَ الدَّفْنِ وَهُوَ قَوْل ابْنِ وَهْبٍ.
وَقِيل: إِنَّهُ لاَ يَفُوتُ وَإِنْ فَرَغَ مِنْ دَفْنِهِ وَيُخْرَجُ
وَيُصَلَّى عَلَيْهِ مَا لَمْ يُخْشَ عَلَيْهِ التَّغَيُّرُ وَهُوَ قَوْل
سَحْنُونٍ وَعِيسَى بْنِ دِينَارٍ وَرِوَايَةٌ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ،
وَإِنَّمَا يُصَلَّى عَلَيْهِ فِي الْقَبْرِ مَا لَمْ يَطُل حَتَّى
يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ قَدْ فَنِيَ بِالْبِلَى أَوْ غَيْرِهِ.
وَأَمَّا إِذَا صُلِّيَ عَلَى الْمَيِّتِ مَرَّةً فَلاَ تُعَادُ الصَّلاَةُ
عَلَيْهِ دُفِنَ أَوْ لَمْ يُدْفَنْ.
وَقَال مَالِكٌ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَيْهَا وَهِيَ فِي قَبْرِهَا.
(1) قَدْ جَاءَ هَذَا الْحَدِيثُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ الْعَمَل.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَجُوزُ الصَّلاَةُ عَلَى الْمَقْبُورِ لِكُل
مَنْ فَاتَتْهُ الصَّلاَةُ عَلَيْهِ قَبْل دَفْنِهِ، وَقِيل: يُصَلِّي
عَلَيْهِ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْل الصَّلاَةِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَوْتِ
أَبَدًا، وَقِيل: إِلَى شَهْرٍ، وَقِيل: مَا لَمْ يَبْل جَسَدُهُ،
وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَهُمُ الْجَوَازُ لِمَنْ كَانَ مِنْ أَهْل فَرْضِ
الصَّلاَةِ عَلَيْهِ وَقْتَ الْمَوْتِ. (2)
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليها وهي في قبرها " أخرجه
البخاري (فتح الباري 3 / 504 - 505 ط السلفية) ومسلم (2 / 569 ط عيسى
الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) التنبيه ص 38، والأم 1 / 244، ومغني المحتاج 1 / 346.
(16/35)
وَعِنْدَ أَحْمَدَ يَجُوزُ لِمَنْ
فَاتَتْهُ الصَّلاَةُ عَلَى الْمَيِّتِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى قَبْرِهِ
إِلَى شَهْرٍ مِنْ دَفْنِهِ وَزِيَادَةٍ يَسِيرَةٍ كَيَوْمَيْنِ وَيَحْرُمُ
بَعْدَهَا، وَحُكِيَ عَنِ الأَْوْزَاعِيِّ تَجْوِيزُهُ الصَّلاَةَ عَلَى
الْقَبْرِ وَلَمْ يُحْكَ عَنْهُ التَّحْدِيدُ.
وَحُكِيَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ أَنَّهُ قَال: يُصَلِّي
الْغَائِبُ إِلَى شَهْرٍ، وَالْحَاضِرُ إِلَى ثَلاَثٍ. وَحَكَى
التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قَال: إِذَا دُفِنَ
الْمَيِّتُ وَلَمْ يُصَل عَلَيْهِ صُلِّيَ عَلَى الْقَبْرِ (1) .
الصَّلاَةُ عَلَى الْجِنَازَةِ فِي الْمَسْجِدِ:
38 - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ تَجُوزُ الصَّلاَةُ عَلَى
الْجِنَازَةِ فِي الْجَبَّانَةِ وَالأَْمْكِنَةِ وَالدُّورِ وَهِيَ فِيهَا
سَوَاءٌ، وَيُكْرَهُ فِي الشَّارِعِ وَأَرَاضِي النَّاسِ، وَكَذَا تُكْرَهُ
فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي تُقَامُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ سَوَاءٌ كَانَ
الْمَيِّتُ وَالْقَوْمُ فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ كَانَ الْمَيِّتُ خَارِجَ
الْمَسْجِدِ وَالْقَوْمُ فِي الْمَسْجِدِ، أَوِ الْمَيِّتُ فِي
الْمَسْجِدِ، وَالإِْمَامُ وَالْقَوْمُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ
الْمُخْتَارُ. (2)
وَمُحَصَّل كَلاَمِ ابْنِ عَابِدِينَ فِي الصَّلاَةِ عَلَى الْجِنَازَةِ
فِي الْمَسْجِدِ، أَنَّ الْبِلاَدَ الَّتِي جَرَتْ فِيهَا الْعَادَةُ
بِالصَّلاَةِ عَلَيْهَا فِي الْمَسْجِدِ لِتَعَذُّرِ غَيْرِهِ أَوْ
__________
(1) مقدمات ابن رشد 1 / 170، والمدونة 1 / 164، وغاية المنتهى 1 / 244،
ونيل المآرب 1 / 66، والمحلى 5 / 139، 140، والترمذي 2 / 149.
(2) الهندية 1 / 162.
(16/35)
لِتَعَسُّرِهِ، بِسَبَبِ انْدِرَاسِ
الْمَوَاضِعِ الَّتِي كَانَتْ يُصَلَّى فِيهَا عَلَيْهَا، يَنْبَغِي
الإِْفْتَاءُ بِالْقَوْل بِكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ الَّذِي هُوَ خِلاَفُ
الأَْوْلَى، وَلاَ يُكْرَهُ لِعُذْرِ الْمَطَرِ وَنَحْوِهِ، كَاعْتِكَافِ
الْوَلِيِّ، وَمَنْ لَهُ حَقُّ التَّقَدُّمِ وَيُصَلِّي فِيهِ غَيْرُهُ
تَبَعًا لَهُ، وَأَمَّا الْمَسْجِدُ الَّذِي خُصِّصَ لأَِجْل صَلاَةِ
الْجِنَازَةِ فَلاَ يُكْرَهُ فِيهِ.
وَقَال مَالِكٌ: أَكْرَهُ أَنْ تُوضَعَ الْجِنَازَةُ فِي الْمَسْجِدِ،
فَإِنْ وُضِعَتْ قُرْبَ الْمَسْجِدِ لِلصَّلاَةِ عَلَيْهَا فَلاَ بَأْسَ
أَنْ يُصَلِّيَ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ عَلَيْهَا بِصَلاَةِ الإِْمَامِ
الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْهَا إِذَا ضَاقَ خَارِجُ الْمَسْجِدِ بِأَهْلِهِ،
وَفِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ كُرِهَ إِدْخَالُهَا الْمَسْجِدَ وَلَوْ
بِغَيْرِ صَلاَةٍ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تُنْدَبُ الصَّلاَةُ عَلَى الْمَيِّتِ فِي
الْمَسْجِدِ إِذَا أُمِنَ تَلْوِيثُهُ، أَمَّا إِذَا خِيفَ تَلْوِيثُ
الْمَسْجِدِ فَلاَ يَجُوزُ إِدْخَالُهُ، وَحُجَّةُ جَوَازِ الصَّلاَةِ
عَلَى الْجِنَازَةِ فِي الْمَسْجِدِ؛ لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ صَلَّى فِيهِ عَلَى سَهْلٍ وَسُهَيْلٍ ابْنَيْ بَيْضَاءَ كَمَا
رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قَال الشَّافِعِيَّةُ. فَالصَّلاَةُ عَلَيْهِ لِذَلِكَ؛
وَلأَِنَّ الْمَسْجِدَ أَشْرَفُ. (1)
__________
(1) ابن عابدين 1 / 619، 620، والهندية 1 / 162، والمدونة 1 / 161، والشرح
الصغير 1 / 229، وغاية المنتهى 1 / 240، وتعليق المقنع 1 / 279، والفقه على
المذاهب 1 / 412، وشرح البهجة 2 / 117، ولفظه " فعلها فيه أفضل ". والحديث:
" لأنه صلى الله عليه وسلم صلى فيه على سهل وسهيل ابني بيضاء " أخرجه مسلم
(2 / 669 ط عيسى الحلبي) من حديث عائشة.
(16/36)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: تُبَاحُ الصَّلاَةُ
عَلَى الْجِنَازَةِ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ أَمْنِ تَلْوِيثٍ، فَإِنْ لَمْ
يُؤْمَنْ لَمْ يَجُزْ.
الصَّلاَةُ عَلَى الْجِنَازَةِ فِي الْمَقْبَرَةِ:
39 - فِيهَا لِلْفُقَهَاءِ قَوْلاَنِ:
أَحَدُهُمَا: لاَ بَأْسَ بِهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا
تَقَدَّمَ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى قَبْرٍ (1) وَهُوَ فِي الْمَقْبَرَةِ.
وَقَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: ذَكَرَ نَافِعٌ أَنَّهُ صُلِّيَ عَلَى عَائِشَةَ
وَأُمِّ سَلَمَةَ وَسْطَ قُبُورِ الْبَقِيعِ، صَلَّى عَلَى عَائِشَةَ أَبُو
هُرَيْرَةَ وَحَضَرَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ، وَفَعَل ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: يُكْرَهُ ذَلِكَ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ
وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ
قَال عَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ
الْمُنْذِرِ وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالأَْرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلاَّ
الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ (2) وَلأَِنَّهُ لَيْسَ بِمَوْضِعٍ
لِلصَّلاَةِ غَيْرَ صَلاَةِ الْجِنَازَةِ فَكُرِهَتْ فِيهِ صَلاَةُ
الْجِنَازَةِ كَالْحَمَّامِ (3) .
__________
(1) حديث: " صلاته على قبر. . . " سبق تخريجه (ف / 37) .
(2) حديث: " الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام " أخرجه أحمد في المسند
(3 / 96 ط المكتب الإسلامي) وأبو داود (1 / 330 ط عزت عبيد الدعاس) وابن
ماجه (1 / 246 ط عيسى الحلبي) والترمذي (2 / 131 ط مصطفى الحلبي) من حديث
أبي سعيد. وصححه أحمد شاكر.
(3) الهندية 1 / 162، وغنية المتملي ص497 طبعة لاهور سنة 1316 هـ والشرح
الصغير 1 / 228، وشرح البهجة 2 / 99، 117، والمغني لابن قدامة 2 / 494،
والفقه على المذاهب الأربعة 1 / 417
(16/36)
مَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَمَنْ لاَ
يُصَلَّى عَلَيْهِ:
40 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَى كُل مُسْلِمٍ مَاتَ
بَعْدَ الْوِلاَدَةِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، ذَكَرًا كَانَ أَوْ
أُنْثَى، حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا، إِلاَّ الْبُغَاةَ وَقُطَّاعَ
الطَّرِيقِ وَمَنْ بِمِثْل حَالِهِمْ.
وَكَرِهَ مَالِكٌ لأَِهْل الْفَضْل الصَّلاَةَ عَلَى أَهْل الْبِدَعِ. قَال
الدَّرْدِيرُ: وَكُرِهَ صَلاَةُ فَاضِلٍ عَلَى بِدْعِيٍّ لَمْ يَكْفُرْ
بِبِدْعَتِهِ. وَقَال مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ: إِذَا قُتِل
الْخَوَارِجُ فَذَلِكَ أَحْرَى عِنْدِي أَنْ لاَ يُصَلَّى عَلَيْهِمْ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: حَرُمَ أَنْ يَعُودَ أَوْ يُغَسِّل مُسْلِمٌ
صَاحِبَ بِدْعَةٍ مُكَفِّرَةٍ، أَوْ يُكَفِّنَهُ، أَوْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ،
أَوْ يَتْبَعَ جِنَازَتَهُ، وَقَال أَحْمَدُ: أَهْل الْبِدَعِ إِنْ
مَرِضُوا فَلاَ تَعُودُوهُمْ، وَإِنْ مَاتُوا فَلاَ تُصَلُّوا عَلَيْهِمْ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ مَنْ قَتَل نَفْسَهُ وَلَوْ عَمْدًا يُغَسَّل
وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، بِهِ يُفْتَى وَإِنْ كَانَ أَعْظَمَ وِزْرًا مِنْ
قَاتِل غَيْرِهِ. وَقَال أَبُو يُوسُفَ: يُغَسَّل وَلاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ،
وَالْقَتْل أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِسَيْفٍ أَوْ إِلْقَاءٍ فِي بَحْرٍ
أَوْ نَارٍ. (1)
وَقَال مَالِكٌ: يُصَلَّى عَلَى الَّذِينَ كَابَرُوا (أَيِ
__________
(1) الهندية 1 / 162، والشرح الصغير 1 / 29، والمدونة 1 / 165، وغاية
المنتهى 1 / 232.
(16/37)
الْبُغَاةِ) وَلاَ يُصَلِّي عَلَيْهِمُ
الإِْمَامُ وَقَال: يُصَلَّى عَلَى قَاتِل نَفْسِهِ وَيُصْنَعُ بِهِ مَا
يُصْنَعُ بِمَوْتَى الْمُسْلِمِينَ وَإِثْمُهُ عَلَى نَفْسِهِ. وَقَال
الْحَنَابِلَةُ: لاَ يُسَنُّ لِلإِْمَامِ الأَْعْظَمِ وَإِمَامِ كُل
قَرْيَةٍ وَهُوَ وَالِيهَا فِي الْقَضَاءِ، الصَّلاَةُ عَلَى غَالٍّ (1)
وَقَاتِل نَفْسِهِ عَمْدًا، وَإِنْ صَلَّى عَلَيْهِمَا فَلاَ بَأْسَ بِهِ.
(2)
وَقَال الشَّوْكَانِيُّ: ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ
وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَى الْفَاسِقِ،
وَقَالُوا: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا
لَمْ يُصَل عَلَى مَنْ قَتَل نَفْسَهُ زَجْرًا لِلنَّاسِ، وَصَلَّتْ
عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ. (3)
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ مَنْ قَتَل أَحَدَ أَبَوَيْهِ لاَ يُصَلَّى
عَلَيْهِ إِهَانَةً، قَال أَبُو يُوسُفَ: لاَ يُصَلَّى عَلَى كُل مَنْ
يُقْتَل عَلَى مَتَاعٍ يَأْخُذُهُ، وَمَنْ قُتِل بِحَقٍّ بِسِلاَحٍ أَوْ
غَيْرِهِ كَمَا فِي الْقَوَدِ وَالرَّجْمِ يُغَسَّل وَيُصَلَّى عَلَيْهِ،
وَيُصْنَعُ بِهِ مَا يُصْنَعُ بِالْمَوْتَى، وَالَّذِي صَلَبَهُ الإِْمَامُ
فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَوَى أَبُو سُلَيْمَانَ عَنْهُ
أَنَّهُ لاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَقَال مَالِكٌ: كُل مَنْ قَتَلَهُ
الإِْمَامُ عَلَى قِصَاصٍ، أَوْ فِي حَدٍّ مِنَ الْحُدُودِ، فَإِنَّ
الإِْمَامَ لاَ يُصَلِّي عَلَيْهِ
__________
(1) وهو من كتم من الغنيمة شيئا ليختص به.
(2) المدونة 1 / 161، 166، والمغني 2 / 355.
(3) نيل الأوطار 1 / 41. والحديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل
على من قتل نفسه " أخرجه مسلم (2 / 672 ط عيسى الحلبي) من حديث جابر بن
سمرة.
(16/37)
وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ وَكَذَا
الْمَرْجُومُ. (1)
وَلاَ يُصَلَّى عَلَى مَنْ لَمْ يَسْتَهِل بَعْدَ الْوِلاَدَةِ كَمَا
تَقَدَّمَ.
وَإِذَا اخْتَلَطَ مَوْتَانَا بِكُفَّارٍ صُلِّيَ عَلَيْهِمْ مُطْلَقًا فِي
أَوْجَهِ الأَْقْوَال. أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَلَمْ يَسْتَثْنُوا مِنَ
الصَّلاَةِ عَلَى الْمَيِّتِ إِلاَّ الْكَافِرَ وَالْمُرْتَدَّ. (2)
مَنْ لَهُ وِلاَيَةُ الصَّلاَةِ عَلَى الْمَيِّتِ:
41 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِالصَّلاَةِ
عَلَى الْمَيِّتِ السُّلْطَانُ إِنْ حَضَرَ ثُمَّ نَائِبُهُ وَهُوَ أَمِيرُ
الْمِصْرِ، ثُمَّ الْقَاضِي، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَصَاحِبُ الشُّرَطِ (3)
ثُمَّ خَلِيفَةُ الْوَالِي، ثُمَّ خَلِيفَةُ الْقَاضِي، ثُمَّ إِمَامُ
الْحَيِّ.
قَال الْحَصْكَفِيُّ: فِيهِ إِيهَامٌ، وَذَلِكَ أَنَّ تَقْدِيمَ الْوُلاَةِ
وَاجِبٌ وَتَقْدِيمَ إِمَامِ الْحَيِّ مَنْدُوبٌ فَقَطْ بِشَرْطِ أَنْ
يَكُونَ أَفْضَل مِنَ الْوَلِيِّ، وَإِلاَّ فَالْوَلِيُّ أَوْلَى،
وَبِشَرْطِ أَنْ لاَ يَكُونَ سَاخِطًا عَلَيْهِ حَال حَيَاتِهِ لِوَجْهٍ
صَحِيحٍ.
__________
(1) المدونة 1 / 161.
(2) مغني المحتاج 1 / 350.
(3) في المعراج: الشرط بالسكون والحركة خيار الجند والمراد أمير البلدة
كأمير بخارى وظاهر كلام الكمال أن صاحب الشرط غير أمير البلد (ابن عابدين 1
/ 615) وفي الدر بفتح الشين والراء بمعنى العلامة وهو يعني صاحب الشرط الذي
يقال له الشحنة. . . . سمي بذلك لأن له علامة تميزه (الطحطاوي على المراقي
343) .
(16/38)
وَالْمُرَادُ بِإِمَامِ الْحَيِّ إِمَامُ
الْمَسْجِدِ الْخَاصِّ بِالْمَحَلَّةِ، وَإِمَامُ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ
(وَعَبَّرَ عَنْهُ فِي كِتَابِ الْمُنْيَةِ بِإِمَامِ الْجُمُعَةِ) أَوْلَى
مِنْ إِمَامِ الْحَيِّ، وَأَمَّا إِمَامُ مُصَلَّى الْجِنَازَةِ
فَاسْتَظْهَرَ الْمَقْدِسِيُّ أَنَّهُ كَالأَْجْنَبِيِّ فَالْوَلِيُّ
مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ.
ثُمَّ الْوَلِيُّ بِتَرْتِيبِ عُصُوبَةِ الإِْنْكَاحِ إِلاَّ الأَْبَ
فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى الاِبْنِ اتِّفَاقًا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ
الاِبْنُ عَالِمًا وَالأَْبُ جَاهِلاً فَالاِبْنُ أَوْلَى، فَلاَ وِلاَيَةَ
لِلنِّسَاءِ وَلاَ لِلزَّوْجِ إِلاَّ أَنَّهُ أَحَقُّ مِنَ الأَْجْنَبِيِّ،
وَالتَّقْيِيدُ بِالْعُصُوبَةِ لإِِخْرَاجِ النِّسَاءِ فَقَطْ، فَذَوُو
الأَْرْحَامِ وَهُمْ دَاخِلُونَ فِي الْوِلاَيَةِ وَهُمْ أَوْلَى مِنَ
الأَْجْنَبِيِّ.
وَالْمُرَادُ بِالْوَلِيِّ الذَّكَرُ الْمُكَلَّفُ فَلاَ حَقَّ لِلصَّغِيرِ
وَلاَ لِلْمَعْتُوهِ. (1)
42 - وَتَفْصِيل الإِْجْمَال أَنَّهُ يُقَدَّمُ فِي الصَّلاَةِ عَلَى
الْمَيِّتِ أَبُوهُ، ثُمَّ ابْنُهُ، ثُمَّ ابْنُ ابْنِهِ وَإِنْ سَفَل،
ثُمَّ الْجَدُّ وَإِنْ عَلاَ، ثُمَّ الأَْخُ الشَّقِيقُ، ثُمَّ الأَْخُ
لأَِبٍ، ثُمَّ ابْنُ الأَْخِ الشَّقِيقِ، وَهَكَذَا الأَْقْرَبُ
فَالأَْقْرَبُ كَتَرْتِيبِهِمْ فِي النِّكَاحِ.
وَمَنْ لَهُ وِلاَيَةُ التَّقَدُّمِ فَهُوَ أَحَقُّ بِالصَّلاَةِ عَلَى
الْمَيِّتِ مِمَّنْ أَوْصَى لَهُ الْمَيِّتُ بِالصَّلاَةِ عَلَيْهِ؛
لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ عَلَى الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ رُسْتُمَ الْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ
وَمَعَ ذَلِكَ يُقَدَّمُ مَنْ لَهُ حَقُّ التَّقَدُّمِ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 616.
(16/38)
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: الْقَرِيبُ أَوْلَى
مِنَ السُّلْطَانِ. (1)
وَلاَ وِلاَيَةَ لِلزَّوْجِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاِنْقِطَاعِ الصِّلَةِ
بِالْمَوْتِ لَكِنْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجَةِ الْمَيِّتَةِ وَلِيٌّ
فَالزَّوْجُ أَوْلَى، ثُمَّ الْجِيرَانُ أَوْلَى مِنَ الأَْجْنَبِيِّ.
وَلَوْ مَاتَتِ امْرَأَةٌ وَلَهَا زَوْجٌ وَابْنٌ عَاقِلٌ بَالِغٌ مِنْهُ،
فَالْوِلاَيَةُ لِلاِبْنِ دُونَ الزَّوْجِ، لَكِنْ يُكْرَهُ لِلاِبْنِ أَنْ
يَتَقَدَّمَ أَبَاهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّمَهُ، فَإِنْ كَانَ لَهَا
ابْنٌ مِنْ زَوْجٍ آخَرَ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَتَقَدَّمَ؛ لأَِنَّهُ هُوَ
الْوَلِيُّ، وَتَعْظِيمُ زَوْجِ أُمِّهِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الأَْحَقُّ بِالصَّلاَةِ عَلَيْهِ وَصِيُّ
الْمَيِّتِ إِنْ كَانَ أَوْصَى إِلَيْهِ رَجَاءَ بَرَكَتِهِ وَإِلاَّ
فَلاَ، ثُمَّ الْخَلِيفَةُ وَهُوَ الإِْمَامُ الأَْعْظَمُ، وَأَمَّا
نَائِبُهُ فَلاَ حَقَّ لَهُ فِي التَّقَدُّمِ إِلاَّ إِذَا كَانَ نَائِبَهُ
فِي الْحُكْمِ وَالْخُطْبَةِ، ثُمَّ أَقْرَبُ الْعَصَبَةِ فَيُقَدَّمُ
الاِبْنُ، ثُمَّ ابْنُهُ ثُمَّ الأَْبُ، ثُمَّ الأَْخُ، ثُمَّ ابْنُ
الأَْخِ، ثُمَّ الْجَدُّ، ثُمَّ الْعَمُّ، ثُمَّ ابْنُ الْعَمِّ وَهَكَذَا.
وَلاَ حَقَّ لِزَوْجِ الْمَيِّتَةِ فِي التَّقَدُّمِ وَيَكُونُ بَعْدَ
الْعَصَبَةِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ عَصَبَةٌ فَالأَْجَانِبُ سَوَاءٌ، إِلاَّ
أَنَّهُ يُقَدَّمُ الأَْفْضَل مِنْهُمْ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الأَْوْلَى بِالصَّلاَةِ عَلَيْهِ أَبُو
الْمَيِّتِ وَإِنْ عَلاَ، ثُمَّ ابْنُهُ وَإِنْ سَفَل، ثُمَّ الأَْخُ
الشَّقِيقُ، ثُمَّ الأَْخُ لأَِبٍ، ثُمَّ ابْنُ الأَْخِ الشَّقِيقِ،
__________
(1) مراقي الفلاح وحواشيه للطحطاوي 344، والبدائع 1 / 317.
(16/39)
ثُمَّ ابْنُ الأَْخِ لأَِبٍ، ثُمَّ
بَقِيَّةُ الْعَصَبَةِ عَلَى تَرْتِيبِ الْمِيرَاثِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
فَالإِْمَامُ الأَْعْظَمُ، أَوْ نَائِبُهُ عِنْدَ انْتِظَامِ بَيْتِ
الْمَال، ثُمَّ ذَوُو الأَْرْحَامِ الأَْقْرَبُ فَالأَْقْرَبُ.
وَإِذَا أَوْصَى بِالصَّلاَةِ لِغَيْرِ مَنْ يَسْتَحِقُّ التَّقَدُّمَ
مِمَّنْ ذُكِرَ فَلاَ تَنْفُذُ وَصِيَّتُهُ. وَلاَ حَقَّ لِلزَّوْجِ حَيْثُ
وُجِدَ مَعَهُ غَيْرُهُ مِنَ الأَْجَانِبِ، وَلاَ حَقَّ لِلزَّوْجَةِ
حَيْثُ وُجِدَ مَعَهَا ذَكَرٌ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَالزَّوْجُ مُقَدَّمٌ
عَلَى الأَْجَانِبِ. وَالْمَرْأَةُ تُصَلِّي وَتُقَدَّمُ بِتَرْتِيبِ
الذُّكُورِ. (1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الأَْوْلَى بِالصَّلاَةِ عَلَيْهِ إِمَامًا
وَصِيُّهُ الْعَدْل، ثُمَّ السُّلْطَانُ، ثُمَّ نَائِبُهُ، ثُمَّ أَبُو
الْمَيِّتِ وَإِنْ عَلاَ، ثُمَّ ابْنُهُ وَإِنْ نَزَل، ثُمَّ الأَْقْرَبُ
فَالأَْقْرَبُ عَلَى تَرْتِيبِ الْمِيرَاثِ، ثُمَّ ذَوُو الأَْرْحَامِ،
ثُمَّ الزَّوْجُ، وَنَائِبُ الْوَلِيِّ بِمَنْزِلَتِهِ بِخِلاَفِ نَائِبِ
الْوَصِيِّ فَلاَ يَكُونُ بِمَنْزِلَتِهِ. (2)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: وَلَوْ كَانَ الْوَلِيَّانِ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ
فَأَكْبَرُهُمَا سِنًّا أَوْلَى، وَلَهُمَا أَنْ يُقَدِّمَا غَيْرَهُمَا
فَلَوْ قَدَّمَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَجُلاً عَلَى حِدَةٍ فَالَّذِي
قَدَّمَهُ الأَْكْبَرُ أَوْلَى. وَلَيْسَ لأَِحَدِهِمَا أَنْ يُقَدِّمَ
إِنْسَانًا إِلاَّ بِإِذْنِ الآْخَرِ، إِلاَّ إِنْ قَدَّمَا الأَْسَنَّ
لِسِنِّهِ " لِقَوْل النَّبِيِّ
__________
(1) المدونة 1 / 161، والشرح الصغير 1 / 224، والتنبيه 31 وشرح البهجة 1 /
104 - 107.
(2) غاية المنتهى 1 / 240.
(16/39)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
الْكُبْرَ الْكُبْرَ (1) وَلِغَيْرِهِ مِنَ الأَْحَادِيثِ.
وَإِذَا أَرَادَ أَحَدُ الْوَلِيَّيْنِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ دَرَجَةً أَنْ
يَسْتَخْلِفَ غَيْرَهُ كَانَ الآْخَرُ أَوْلَى بِأَنْ يَسْتَخْلِفَهُ.
فَإِنْ تَشَاجَرَ الْوَلِيَّانِ فَتَقَدَّمَ أَجْنَبِيٌّ بِغَيْرِ
إِذْنِهِمَا فَصَلَّى، يُنْظَرُ إِنْ صَلَّى الأَْوْلِيَاءُ مَعَهُ جَازَتِ
الصَّلاَةُ وَلاَ تُعَادُ، وَإِنْ لَمْ يُصَلُّوا مَعَهُ فَلَهُمْ
إِعَادَةُ الصَّلاَةِ لِعَدَمِ سُقُوطِ حَقِّهِمْ وَإِنْ تَأَدَّى
الْفَرْضُ، وَلاَ يُعِيدُ مَعَ الأَْوْلِيَاءِ مَنْ صَلَّى مَعَ
غَيْرِهِمْ. (2)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ تَعَدَّدَتِ الْعَصَبَةُ الْمُتَسَاوُونَ فِي
الْقُرْبِ مِنَ الْمَيِّتِ، قُدِّمَ الأَْفْضَل مِنْهُمْ لِزِيَادَةِ
فِقْهٍ أَوْ حَدِيثٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَكَذَا الأَْجَانِبُ إِذَا لَمْ
يُوجَدْ غَيْرُهُمْ يُقَدَّمُ الأَْفْضَل مِنْهُمْ كَمَا فِي صَلاَةِ
الْجَمَاعَةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: بِتَقْدِيمِ الأَْسَنِّ إِذَا اسْتَوَى الْوُلاَةُ
وَتَشَاحُّوا، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ حَالَةُ الأَْسَنِّ غَيْرَ مَحْمُودَةٍ،
فَكَانَ أَفْضَلُهُمْ وَأَفْقَهُهُمْ أَحَبَّ، فَإِنْ تَقَارَبُوا
فَأَسَنُّهُمْ؛ لأَِنَّ الْغَرَضَ هُنَا الدُّعَاءُ وَدُعَاءُ الأَْسَنِّ
أَقْرَبُ لِلإِْجَابَةِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَرُدَّ دَعْوَةَ ذِي
الشَّيْبَةِ فِي الإِْسْلاَمِ (3)
__________
(1) حديث " الكبر الكبر " أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 229 ـ ط السلفية)
من حديث سهيل بن أبي خيثمة
(2) البدائع 1 / 317، والطحطاوي ص344
(3) حديث: " إن الله يستحي أن يرد دعوة ذي. . . . " قال الهيثمي: رواه
الطبراني في الأوسط، وفيه صالح بن راشد وثقه ابن حبان وفيه ضعف، وبقية
رجاله ثقات. (مجمع الزوائد 10 / 149 - ط دار الكتاب العربي) . وعزاه صاحب
كنز العمال إلى ابن النجار. (كنز العمال 15 / 666 - ط مؤسسة الرسالة) من
حديث أنس بن مالك.
(16/40)
وَإِنْ اسْتَوَوْا وَقَلَّمَا يَكُونُ
ذَلِكَ فَلَمْ يَصْطَلِحُوا أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا تَسَاوَى الأَْوْلِيَاءُ قُدِّمَ مَنْ كَانَ
أَوْلاَهُمْ بِالإِْمَامَةِ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، فَإِنِ اسْتَوَوْا
فِيهِ أَيْضًا أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ، وَتُكْرَهُ إِمَامَةُ غَيْرِ
الأَْوْلَى بِلاَ إِذْنِهِ مَعَ حُضُورِهِ، لَكِنْ يَسْقُطُ بِهِ
الْفَرْضُ، فَإِنْ صَلَّى الأَْوْلَى خَلْفَهُ صَارَ إِذْنًا، وَإِلاَّ
فَلَهُ أَنْ يُعِيدَهَا؛ لأَِنَّهَا حَقُّهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعِيدَهَا
مَنْ صَلاَّهَا تَبَعًا لِلأَْوْلَى. (1)
43 - وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: تُسَنُّ الصَّلاَةُ عَلَى
الْجِنَازَةِ لِكُل مَنْ لَمْ يُصَل أَوَّلاً، سَوَاءٌ أَكَانَ أَوْلَى
بِالصَّلاَةِ عَلَيْهِ أَمْ لَمْ يَكُنْ.
وَقَال فِي الأُْمِّ: إِنْ سَبَقَ الأَْوْلِيَاءُ بِالصَّلاَةِ عَلَى
الْجِنَازَةِ ثُمَّ جَاءَ وَلِيٌّ آخَرُ أَحْبَبْتُ أَنْ لاَ تُوضَعَ
لِلصَّلاَةِ ثَانِيَةً، وَإِنْ فَعَل فَلاَ بَأْسَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَعِنْدَ مَالِكٍ لاَ تُعَادُ الصَّلاَةُ عَلَى الْجِنَازَةِ مَرَّةً
أُخْرَى (2) .
__________
(1) الأم 1 / 243، ومختصر المزني 1 / 180، ونهاية المحتاج 2 / 481 - ط
المكتبة الإسلامية، وغاية المنتهى 1 / 240، والشرح الصغير باختصار جدا 1 /
225.
(2) الأم 1 / 244، وغاية المنتهى 1 / 240، والمدونة 1 / 164.
(16/40)
مَا يُفْسِدُ صَلاَةَ الْجِنَازَةِ وَمَا
يُكْرَهُ فِيهَا:
44 - تَفْسُدُ صَلاَةُ الْجِنَازَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِمَا تَفْسُدُ
بِهِ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ مِنَ الْحَدَثِ الْعَمْدِ وَالْكَلاَمِ،
وَالْعَمَل الْكَثِيرِ وَغَيْرِهَا مِنْ مُبْطِلاَتِ الصَّلاَةِ، إِلاَّ
الْمُحَاذَاةَ فَإِنَّهَا غَيْرُ مُفْسِدَةٍ فِي هَذِهِ الصَّلاَةِ؛
لأَِنَّ فَسَادَ الصَّلاَةِ بِالْمُحَاذَاةِ عُرِفَ بِالنَّصِّ، وَالنَّصُّ
وَرَدَ فِي الصَّلاَةِ الْمُطْلَقَةِ فَلاَ يَلْحَقُ بِهَا غَيْرُهَا،
وَلِهَذَا لَمْ يَلْحَقْ بِهَا سَجْدَةُ التِّلاَوَةِ حَتَّى لَمْ تَكُنِ
الْمُحَاذَاةُ فِيهَا مُفْسِدَةً، وَكَذَا الْقَهْقَهَةُ فِي هَذِهِ
الصَّلاَةِ لاَ تَنْقُضُ الطَّهَارَةَ؛ لأَِنَّ الْقَهْقَهَةَ مُبْطِلَةٌ
بِالنَّصِّ الْوَارِدِ فِي صَلاَةٍ مُطْلَقَةٍ، فَلاَ يُجْعَل وَارِدًا فِي
غَيْرِهَا.
وَتُكْرَهُ الصَّلاَةُ عَلَى الْجِنَازَةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ
وَعِنْدَ غُرُوبِهَا، وَعِنْدَ انْتِصَافِ النَّهَارِ، لِحَدِيثِ عُقْبَةَ
بْنِ عَامِرٍ: ثَلاَثُ سَاعَاتٍ نَهَانَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُصَلِّيَ فِيهَا وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهَا
مَوْتَانَا. (1) وَالْمُرَادُ بِقَبْرِ الْمَوْتَى الصَّلاَةُ عَلَى
الْجِنَازَةِ دُونَ الدَّفْنِ.
وَإِنَّمَا تُكْرَهُ الصَّلاَةُ عَلَى الْجِنَازَةِ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا حَضَرَتْ فِي هَذِهِ الأَْوْقَاتِ فِي ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ، كَمَا فِي مَرَاقِي الْفَلاَحِ، وَلَكِنْ فِي تُحْفَةِ
الْفُقَهَاءِ الأَْفْضَل أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى جِنَازَةٍ
__________
(1) حديث: " ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي. . . "
أخرجه مسلم (1 / 568 - ط عيسى الحلبي) من حديث عقبة بن عامر.
(16/41)
حَضَرَتْ فِي تِلْكَ الأَْوْقَاتِ وَلاَ
يُؤَخِّرَهَا، بَل قَال الزَّيْلَعِيُّ: إِنَّ التَّأْخِيرَ مَكْرُوهٌ
لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: ثَلاَثٌ لاَ تُؤَخِّرْهَا، الصَّلاَةُ إِذَا آنَتْ،
وَالْجِنَازَةُ إِذَا حَضَرَتْ، وَالأَْيِّمُ إِذَا وَجَدْتَ لَهَا
كُفْئًا. (1)
أَمَّا إِذَا حَضَرَتْ قَبْل الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ فَأَخَّرَهَا حَتَّى
صَلَّى فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ فَإِنَّهَا لاَ تَصِحُّ وَتَجِبُ
إِعَادَتُهَا. وَلاَ يُكْرَهُ أَنْ يُصَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ بَعْدَ
صَلاَةِ الْفَجْرِ، أَوْ بَعْدَ صَلاَةِ الْعَصْرِ، وَكَذَا بَعْدَ طُلُوعِ
الْفَجْرِ، وَبَعْدَ الْغُرُوبِ قَبْل صَلاَةِ الْمَغْرِبِ، لَكِنْ
يُبْدَأُ بَعْدَ الْغُرُوبِ بِصَلاَةِ الْمَغْرِبِ أَوَّلاً، ثُمَّ
بِالْجِنَازَةِ ثُمَّ بِالسُّنَّةِ. (2)
قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: وَلَعَلَّهُ لِبَيَانِ الأَْفْضَلِيَّةِ، وَفِي
الْحِلْيَةِ: الْفَتْوَى عَلَى تَأْخِيرِ صَلاَةِ الْجِنَازَةِ عَنْ
سُنَّةِ الْجُمُعَةِ، فَعَلَى هَذَا تُؤَخَّرُ عَنْ سُنَّةِ الْمَغْرِبِ؛
لأَِنَّهَا آكَدُ.
وَقَال ابْنُ الْمُبَارَكِ: مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ أَوْ أَنْ
__________
(1) حديث: " ثلاث لا تؤخروهن، الصلاة إذا آنت، والجنازة. . . " أخرجه
الترمذي (3 / 378 - ط مصطفى الحلبي) . وابن ماجه (1 / 476 - ط عيسى الحلبي)
من حديث علي بن أبي طالب. وقال الترمذي (هذا حديث غريب وما أرى إسناده
بمتصل) .
(2) المشرب الوردي ص 236، ومراقي الفلاح وحواشيه ص 107، 108، والدر مع ابن
عابدين 1 / 261 - 263.
(16/41)
نَقْبُرَ فِيهَا مَوْتَانَا يَعْنِي
الصَّلاَةَ عَلَى الْجِنَازَةِ، وَكَرِهَهَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عِنْدَ
طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا، وَإِذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ
حَتَّى تَزُول الشَّمْسُ (كَمَا قَال أَبُو حَنِيفَةَ) وَهُوَ قَوْل
أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَهُوَ قَوْل مَالِكٍ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَهُوَ قَوْل
ابْنِ عُمَرَ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا وَقَعَ الدَّفْنُ فِي هَذِهِ الأَْوْقَاتِ
بِلاَ تَعَمُّدٍ فَلاَ يُكْرَهُ.
وَالنَّهْيُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَحْمُولٌ عَلَى الصَّلَوَاتِ الَّتِي
لاَ سَبَبَ لَهَا. (1)
التَّعْزِيَةُ، وَالرِّثَاءُ، وَزِيَارَةُ الْقُبُورِ وَنَحْوُ ذَلِكَ:
45 - قَال الطَّحْطَاوِيُّ: إِذَا فَرَغُوا مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ
يُسْتَحَبُّ الْجُلُوسُ (الْمُكْثُ) عِنْدَ قَبْرِهِ بِقَدْرِ مَا يُنْحَرُ
جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهُ، (فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ
الْعَاصِ أَنَّهُ قَال: إِذَا دَفَنْتُمُونِي فَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ
شَنًّا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْل قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ
وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ، وَأَنْظُرَ مَاذَا
أُرَاجِعُ بِهِ رُسُل رَبِّي) (2) يَتْلُونَ الْقُرْآنَ وَيَدْعُونَ
لِلْمَيِّتِ. فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ
قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا
فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَال:
__________
(1)) شرح مسلم 1 / 276، وسنن الترمذي 2 / 144، والموطأ بشرح الزرقاني 2 /
63، وتحفة الأحوذي 2 / 144.
(2) أثر: " إذا دفنتموني فشنوا علي التراب شنا، ثم أقيموا. . . . " أخرجه
مسلم (1 / 112 - ط عيسى الحلبي) .
(16/42)
اسْتَغْفِرُوا لأَِخِيكُمْ وَسَلُوا لَهُ
التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الآْنَ يُسْأَل. (1)
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَ
الدَّفْنِ أَوَّل سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَخَاتِمَتَهَا (2) .
وَالتَّلْقِينُ بَعْدَ الدَّفْنِ لاَ يُؤْمَرُ بِهِ وَيُنْهَى عَنْهُ.
وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْهُ،
وَبِهِ قَالَتِ الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ التَّلْقِينَ
بَعْدَ الدَّفْنِ وَحَالِهِ مَكْرُوهٌ، وَإِنَّمَا يُنْدَبُ حَال
الاِحْتِضَارِ فَقَطْ، وَاسْتَحَبَّهُ الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا:
وَالتَّلْقِينُ هُنَا أَنْ يَقُول الْمُلَقِّنُ مُخَاطِبًا لِلْمَيِّتِ:
يَا فُلاَنُ بْنُ فُلاَنَةَ، إِنْ كَانَ يَعْرِفُ اسْمَ أُمِّهِ وَإِلاَّ
نَسَبَهُ إِلَى حَوَّاءَ عَلَيْهَا السَّلَامُ، ثُمَّ يَقُول بَعْدَ ذَلِكَ
اذْكُرِ الْعَهْدَ الَّذِي خَرَجْتَ عَلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا، شَهَادَةَ
أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ،
وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ، وَأَنَّ الْبَعْثَ حَقٌّ،
وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ
مَنْ فِي الْقُبُورِ، وَأَنَّكَ رَضِيتَ بِاللَّهِ رَبًّا،
وَبِالإِْسْلاَمِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
نَبِيًّا، وَبِالْقُرْآنِ إِمَامًا،
__________
(1) حديث: " استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل " أخرجه أبو
داود (3 / 550 - عزت عبيد الدعاس) والحاكم (1 / 370 - ط دار الكتاب العربي)
من حديث عثمان بن عفان. وقال الحاكم: (إسناده صحيح) ووافقه الذهبي.
(2) ذكره ابن عابدين وروى الطبراني والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر
مرفوعا وليقرأ عند رأسه أول سورة البقرة، وعند رجليه بخاتمة سورة البقرة في
قبره، كما في شرح الصدور للسيوطي ص 41.
(16/42)
وَبِالْكَعْبَةِ قِبْلَةً
وَبِالْمُؤْمِنِينَ إِخْوَانًا (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: اسْتَحَبَّ الأَْكْثَرُ تَلْقِينَهُ، فَيَقُومُ
عِنْدَ رَأْسِهِ بَعْدَ تَسْوِيَةِ التُّرَابِ فَيَقُول: " وَذَكَرُوا
نَحْوَ مَا ذَكَرَتْهُ الشَّافِعِيَّةُ مِنْ كَلِمَاتِ التَّلْقِينِ (2) ".
46 - قَال كَثِيرٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ: يُكْرَهُ
الاِجْتِمَاعُ عِنْدَ صَاحِبِ الْمَيِّتِ حَتَّى يَأْتِيَ إِلَيْهِ مَنْ
يُعَزِّي بَل إِذَا رَجَعَ النَّاسُ مِنَ الدَّفْنِ لِيَتَفَرَّقُوا
وَيَشْتَغِلُوا بِأُمُورِهِمْ، وَصَاحِبُ الْمَيِّتِ بِأَمْرِهِ.
وَيُكْرَهُ الْجُلُوسُ عَلَى بَابِ الدَّارِ لِلْمُصِيبَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ
عَمَل أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ، وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ (3) . وَفِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: لاَ بَأْسَ
بِالْجُلُوسِ لِلتَّعْزِيَةِ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: اسْتِعْمَال لاَ بَأْسَ هُنَا عَلَى حَقِيقَتِهِ
فَإِنَّهُ خِلاَفُ الأَْوْلَى صَرَّحَ بِهِ فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ. أَمَّا
فِي مَسْجِدٍ فَيُكْرَهُ كَمَا فِي الْبَحْرِ عَنِ الْمُجْتَبَى، وَجَزَمَ
بِهِ فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ وَالْفَتْحِ.
وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْجُلُوسُ مَعَ ارْتِكَابِ مَحْظُورٍ مِنْ
فَرْشِ الْبُسُطِ، وَاتِّخَاذِ الأَْطْعِمَةِ مِنْ أَهْل الْمَيِّتِ،
وَإِلاَّ كَانَتْ بِدْعَةً مُسْتَقْبَحَةً، كَمَا فِي مَرَاقِي الْفَلاَحِ
وَحَوَاشِيهِ.
__________
(1) شرح البهجة 2 / 122، والحديث في ذلك ضعيف الإسناد، لكن قال ابن الصلاح
وغيره: اعتضد بعمل أهل الشام قديما.
(2) غاية المنتهى ص 1 / 251.
(3) حديث: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الجلوس على باب الدار للمصيبة
" لم نعثر عليه في المصادر التي بين أيدينا.
(16/43)
وَنُقِل فِي النَّهْرِ عَنِ التَّجْنِيسِ
أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِالْجُلُوسِ لَهَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، وَكَوْنَهُ
عَلَى بَابِ الدَّارِ مَعَ فَرْشِ بُسُطٍ عَلَى قَوَارِعِ الطَّرِيقِ مِنْ
أَقْبَحِ الْقَبَائِحِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ لاَ تَنْتَفِي الْكَرَاهَةُ
بِالْجُلُوسِ فِي الْمَسْجِدِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، حَتَّى إِذَا
فَرَغُوا قَامَ وَلِيُّ الْمَيِّتِ وَعَزَّاهُ النَّاسُ كَمَا يُفْعَل فِي
زَمَانِنَا لِكَوْنِ الْجُلُوسِ مَقْصُودًا لِلتَّعْزِيَةِ لاَ
لِلْقِرَاءَةِ، وَلاَ سِيَّمَا إِذَا كَانَ هَذَا الاِجْتِمَاعُ
وَالْجُلُوسُ فِي الْمُصِيبَةِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ جَاءَتِ الرُّخْصَةُ
فِيهِ، وَلاَ تَجْلِسُ النِّسَاءُ قَطْعًا. وَفَرَّقَ صَاحِبُ
الظَّهِيرِيَّةِ بَيْنَ الْجُلُوسِ فِي الْبَيْتِ أَوِ الْمَسْجِدِ
وَالْجُلُوسِ عَلَى بَابِ الدَّارِ، فَحَكَمَ عَلَى الأَْوَّل أَنَّهُ لاَ
بَأْسَ بِهِ وَقَال فِي الثَّانِي: يُكْرَهُ الْجُلُوسُ عَلَى بَابِ
الدَّارِ لِلتَّعْزِيَةِ؛ لأَِنَّهُ عَمَل أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ وَقَدْ
نُهِيَ عَنْهُ، وَمَا يُصْنَعُ فِي بِلاَدِ الْعَجَمِ مِنْ فَرْشِ
الْبُسُطِ، وَالْقِيَامِ عَلَى قَوَارِعِ الطَّرِيقِ مِنْ أَقْبَحِ
الْقَبَائِحِ، وَوَافَقَ الشَّافِعِيَّةُ الْحَنَفِيَّةَ فِي كَرَاهِيَةِ
الْجُلُوسِ لِلتَّعْزِيَةِ.
وَكَذَا الْحَنَابِلَةُ قَالُوا: كُرِهَ جُلُوسُ مُصَابٍ لَهَا، وَجُلُوسُ
مُعَزِّيَةٍ كَذَلِكَ، لاَ بِقُرْبِ دَارِ الْمَيِّتِ لِيَتْبَعَ
الْجِنَازَةَ، أَوْ لِيَخْرُجَ وَلِيُّهُ فَيُعَزِّيَهُ، وَقَال
الْمَالِكِيَّةُ: يُبَاحُ الْجُلُوسُ لِقَبُول التَّعْزِيَةِ (1) .
__________
(1) مراقي الفلاح ص 359، 360 وفيه: (فلا يعتمد على ما في الظهيرية من أنه
لا بأس به لأهل الميت في البيت أو المسجد والناس باقون ويعزون) . وشرح
المنية ص 511، وابن عابدين 1 / 630، وشرح البهجة 2 / 125، وبلغة السالك 1 /
225.
(16/43)
47 - وَيُسْتَحَبُّ التَّعْزِيَةُ
لِلرِّجَال وَالنِّسَاءِ اللاَّتِي لاَ يَفْتِنَّ (1) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ عَزَّى أَخَاهُ بِمُصِيبَةٍ كَسَاهُ اللَّهُ
مِنْ حُلَل الْكَرَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. (2) وَتَفْصِيل بَاقِي
أَحْكَامِ التَّعْزِيَةِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَعْزِيَةٌ) .
صُنْعُ الطَّعَامِ لأَِهْل الْمَيِّتِ:
48 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى
أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِجِيرَانِ الْمَيِّتِ وَالأَْبَاعِدِ مِنْ
قَرَابَتِهِ تَهْيِئَةُ طَعَامٍ لأَِهْل الْمَيِّتِ يُشْبِعُهُمْ
يَوْمَهُمْ وَلَيْلَتَهُمْ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
اصْنَعُوا لآِل جَعْفَرٍ طَعَامًا فَقَدْ أَتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ (3)
وَيُلِحُّ عَلَيْهِمْ فِي الأَْكْل؛ لأَِنَّ الْحُزْنَ يَمْنَعُهُمْ
فَيُضْعِفُهُمْ، وَبِهِ قَالَتِ الْمَالِكِيَّةُ،
__________
(1) شرح البهجة 2 / 124، 125، والطحطاوي ص 361، ونيل المآرب ص 68، وبلغة
السالك 225.
(2) حديث: " من عزى أخاه بمصيبة كساه الله من. . . " أخرجه ابن ماجه (1 /
511 - ط عيسى الحلبي) . والبيهقي (4 / 59 - ط دار المعرفة) . قال البوصيري:
هذا إسناد فيه مقال، قيس أبو عمارة ذكره ابن حبان من الثقات، وقال الذهبي
في الكاشف: ثقة، وقال البخاري: فيه نظر وباقي رجال الإسناد على شرط مسلم.
والزوائد 2 / 50 - 51.
(3) حديث: " اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد أتاهم ما يشغلهم " أخرجه أبو داود
(3 / 497 - ط عزت عبيد الدعاس) والترمذي (3 / 314 - ط مصطفى الحلبي) وابن
ماجه (1 / 514 - ط عيسى الحلبي) . واللفظ له من حديث عبد الله بن جعفر.
وقال الترمذي: (حديث حسن صحيح) .
(16/44)
إِلاَّ إِذَا اجْتَمَعُوا عَلَى مُحَرَّمٍ
مِنْ نَدْبٍ وَلَطْمٍ وَنِيَاحَةٍ، فَلاَ يُنْدَبُ تَهْيِئَةُ الطَّعَامِ
لَهُمْ (1) .
وَيُسَنُّ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ ثَلاَثًا لأَِهْل الْمَيِّتِ لاَ
لِمَنْ يَجْتَمِعُ عِنْدَهُمْ، فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لَهُمْ، إِلاَّ أَنْ
يَكُونُوا ضُيُوفًا. وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ تُكْرَهُ
الضِّيَافَةُ مِنْ أَهْل الْمَيِّتِ لأَِنَّهَا شُرِعَتْ فِي السُّرُورِ
لاَ فِي الشُّرُورِ، وَهِيَ بِدْعَةٌ مُسْتَقْبَحَةٌ، وَقَال عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لاَ عَقْرَ فِي الإِْسْلاَمِ (2) وَهُوَ الَّذِي
كَانَ يُعْقَرُ عِنْدَ الْقَبْرِ مِنْ إِبِلٍ، أَوْ بَقَرٍ، أَوْ شَاءٍ (3)
.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُكْرَهُ الأَْكْل مِنْ طَعَامِ أَهْل
الْمَيِّتِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ تَرِكَةٍ وَفِي مُسْتَحِقِّيهَا مَحْجُورٌ
عَلَيْهِ حُرِّمَ فِعْلُهُ وَالأَْكْل مِنْهُ، وَكُرِهَ الذَّبْحُ
وَالأُْضْحِيَّةُ عِنْدَ الْقَبْرِ، وَالأَْكْل مِنْهُ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، بِأَنَّهُ يَحْرُمُ
تَهْيِئَةُ
__________
(1) مراقي الفلاح 300، والشرح الصغير 1 / 236، وشرح البهجة 2 / 135.
(2) حديث: " لا عقر في الإسلام " أخرجه أحمد (3 / 197 - ط المكتب الإسلامي)
وأبو داود (3 / 550 - 551 - ط عزت عبيد الدعاس) من حديث أنس بن مالك. وقال
الأرناؤوط: إسناده صحيح (شرح السنة 5 / 461 - ط المكتب الإسلامي) .
(3) الطحطاوي 360 والحديث رواه أبو داود مع تفسيره عن عبد الرزاق (كتاب
الجنائز) .
(16/44)
الطَّعَامِ لِنَائِحَاتٍ؛ لأَِنَّهُ
إِعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ
يُكْرَهُ اتِّخَاذُ الطَّعَامِ فِي أَيَّامٍ مُتَعَارَفٍ عَلَيْهَا
كَالْيَوْمِ الأَْوَّل، وَالثَّالِثِ، وَبَعْدَ الأُْسْبُوعِ. وَنَقْل
الطَّعَامِ إِلَى الْقَبْرِ فِي الْمَوَاسِمِ، وَاتِّخَاذُ الدَّعْوَةِ
لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَجَمْعُ الصُّلَحَاءِ وَالْقُرَّاءِ لِلْخَتْمِ،
أَوْ لِقِرَاءَةِ سُورَتَيِ الأَْنْعَامِ وَالإِْخْلاَصِ.
عَلَى أَنَّهُ إِذَا اتُّخِذَ الطَّعَامُ لِلْفُقَرَاءِ كَانَ حَسَنًا،
وَقَال فِي الْمِعْرَاجِ: هَذِهِ الأَْفْعَال كُلُّهَا لِلسُّمْعَةِ
وَالرِّيَاءِ، فَيُحْتَرَزُ عَنْهَا؛ لأَِنَّهُمْ لاَ يُرِيدُونَ بِهِ
وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى. وَفِي غَايَةِ الْمُنْتَهَى لِلْحَنَابِلَةِ:
وَمِنَ الْمُنْكَرِ وَضْعُ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ عَلَى الْقَبْرِ
لِيَأْخُذَهُ النَّاسُ (1) .
وُصُول ثَوَابِ الأَْعْمَال لِلْغَيْرِ:
49 - وَمَنْ صَامَ أَوْ صَلَّى أَوْ تَصَدَّقَ وَجَعَل ثَوَابَهُ
لِغَيْرِهِ مِنَ الأَْمْوَاتِ وَالأَْحْيَاءِ جَازَ، وَيَصِل ثَوَابُهَا
إِلَيْهِمْ عِنْدَ أَهْل السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَاسْتَثْنَى مَالِكٌ
وَالشَّافِعِيُّ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةَ الْمَحْضَةَ، كَالصَّلاَةِ
وَالتِّلاَوَةِ، فَلاَ يَصِل ثَوَابُهَا إِلَى الْمَيِّتِ عِنْدَهُمَا،
وَمُقْتَضَى تَحْرِيرِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ انْتِفَاعُ
الْمَيِّتِ بِالْقِرَاءَةِ لاَ حُصُول ثَوَابِهَا لَهُ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 629، 630، والشرح الصغير 1 / 226، وشرح البهجة 1 / 125،
وغاية المنتهى 1 / 257 - 258.
(16/45)
وَلِلْعَلاَّمَةِ ابْنِ الْقَيِّمِ كَلاَمٌ
مُشْبِعٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَرَاجِعْ كِتَابَ الرُّوحِ " لَهُ ".
وَقَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الْقِرَاءَةَ تَصِل لِلْمَيِّتِ
وَأَنَّهَا عِنْدَ الْقَبْرِ أَحْسَنُ مَزِيَّةٌ (1)
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَأَيُّ قُرْبَةٍ فَعَلَهَا وَجَعَل ثَوَابَهَا
لِلْمَيِّتِ الْمُسْلِمِ نَفَعَهُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَمَّا
الدُّعَاءُ وَالاِسْتِغْفَارُ وَالصَّدَقَةُ وَأَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ فَلاَ
أَعْلَمُ فِيهِ خِلاَفًا إِذَا كَانَتِ الْوَاجِبَاتُ مِمَّا يَدْخُلُهُ
النِّيَابَةُ، وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ
بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِِخْوَانِنَا الَّذِينَ
سَبَقُونَا بِالإِْيمَانِ (2) } وَقَال تَعَالَى: {وَاسْتَغْفِرْ
لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ (3) } وَدَعَا النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِبِي سَلَمَةَ حِينَ مَاتَ،
وَلِلْمَيِّتِ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ فِي حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ
(4) ، وَلِكُل مَيِّتٍ صَلَّى عَلَيْهِ، وَسَأَل رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ أُمِّي
مَاتَتْ فَيَنْفَعُهَا إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَال: نَعَمْ (5) ،
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ،
وَجَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) سورة الحشر / 10.
(3) سورة محمد / 19.
(4) حديث: " عوف بن مالك " أخرجه مسلم (2 / 662 - 663 ط عيسى الحلبي) .
(5) حديث: " قال: نعم " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 385 - ط السلفية) من
حديث ابن عباس.
(16/45)
اللَّهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي
شَيْخًا كَبِيرًا لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ
أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَال: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ
أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَال: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ
أَنْ يُقْضَى (1)
وَقَال لِلَّذِي سَأَلَهُ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ
أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَال: نَعَمْ (2) .
وَهَذِهِ أَحَادِيثُ صِحَاحٌ، وَفِيهَا دَلاَلَةٌ عَلَى انْتِفَاعِ
الْمَيِّتِ بِسَائِرِ الْقُرَبِ؛ لأَِنَّ الصَّوْمَ وَالْحَجَّ
وَالدُّعَاءَ وَالاِسْتِغْفَارَ عِبَادَاتٌ بَدَنِيَّةٌ وَقَدْ أَوْصَل
اللَّهُ نَفْعَهَا إِلَى الْمَيِّتِ فَكَذَلِكَ مَا سِوَاهَا مَعَ مَا
ذَكَرْنَا مِنَ الْحَدِيثِ فِي ثَوَابِ مَنْ قَرَأَ " يس "، وَتَخْفِيفِ
اللَّهِ تَعَالَى عَنْ أَهْل الْمَقَابِرِ بِقِرَاءَتِهِ، وَرَوَى عَمْرُو
بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: لَوْ كَانَ
أَبُوكَ مُسْلِمًا فَأَعْتَقْتُمْ عَنْهُ، أَوْ تَصَدَّقْتُمْ عَنْهُ، أَوْ
حَجَجْتُمْ عَنْهُ، بَلَغَهُ ذَلِكَ (3) وَهَذَا عَامٌّ فِي حَجِّ
التَّطَوُّعِ وَغَيْرِهِ؛ وَلأَِنَّهُ عَمَل بِرٍّ وَطَاعَةٍ، فَوَصَل
نَفْعُهُ وَثَوَابُهُ، كَالصَّدَقَةِ، وَالصِّيَامِ،
__________
(1) حديث: " فدين الله أحق أن يقضى " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 193 -
ط السلفية) ومسلم (2 / 804 - ط عيسى الحلبي) من حديث ابن عباس.
(2) حديث: " قال: نعم " سبق تخريجه (ف / 49) .
(3) حديث: " إنه لو كان أبوك مسلما فأعتقتم عنه أو تصدقتم عنه " أخرجه أبو
داود (3 / 302 - ط عزت عبيد الدعاس) والبيهقي (6 / 279 - ط دار المعرفة) .
وأحمد (10 / 230 / 6704 - ط دار المعارف) من حديث عبد الله بن عمرو وصححه
أحمد شاكر.
(16/46)
وَالْحَجِّ الْوَاجِبِ، وَقَال
الشَّافِعِيُّ: مَا عَدَا الْوَاجِبَ وَالصَّدَقَةَ وَالدُّعَاءَ
وَالاِسْتِغْفَارَ لاَ يُفْعَل عَنِ الْمَيِّتِ، وَلاَ يَصِل ثَوَابُهُ
إِلَيْهِ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِْنْسَانِ إِلاَّ
مَا سَعَى (1) } وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِذَا مَاتَ الإِْنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ:
إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ
صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ (2) وَلأَِنَّ نَفْعَهُ لاَ يَتَعَدَّى فَاعِلَهُ،
فَلاَ يَتَعَدَّى ثَوَابُهُ. وَقَال بَعْضُهُمْ: إِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ
عِنْدَ الْمَيِّتِ أَوْ أُهْدِيَ إِلَيْهِ ثَوَابُهُ كَانَ الثَّوَابُ
لِقَارِئِهِ، وَيَكُونُ الْمَيِّتُ كَأَنَّهُ حَاضِرُهَا وَتُرْجَى لَهُ
الرَّحْمَةُ (3) .
__________
(1) سورة النجم / 39.
(2) حديث: " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة إلا من صدقة جارية،
أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له ". أخرجه مسلم (3 / 1255 - ط عيسى
الحلبي) . من حديث أبي هريرة.
(3) المغني 2 / 567 - 568.
(16/46)
جَنَابَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجَنَابَةُ لُغَةً: ضِدُّ الْقُرْبِ وَالْقَرَابَةِ، وَجَنَبَ
الشَّيْءَ، وَتَجَنَّبَهُ، وَجَانَبَهُ، وَتَجَانَبَهُ، وَاجْتَنَبَهُ:
بَعُدَ عَنْهُ، وَالْجَنَابَةُ فِي الأَْصْل: الْبُعْدُ، وَيُقَال:
أَجْنَبَ الرَّجُل وَجَنُبَ - وِزَانُ قَرُبَ - فَهُوَ جُنُبٌ مِنَ
الْجَنَابَةِ، قَال الأَْزْهَرِيُّ: إِنَّمَا قِيل لَهُ جُنُبٌ؛ لأَِنَّهُ
نُهِيَ أَنْ يَقْرَبَ مَوَاضِعَ الصَّلاَةِ مَا لَمْ يَتَطَهَّرْ،
فَتَجَنَّبَهَا وَأَجْنَبَ عَنْهَا، أَيْ تَنَحَّى عَنْهَا، وَقِيل:
لِمُجَانَبَتِهِ النَّاسَ مَا لَمْ يَغْتَسِل.
وَالْجُنُبُ يَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالأُْنْثَى، وَالْوَاحِدُ،
وَالتَّثْنِيَةُ، وَالْجَمْعُ؛ لأَِنَّهُ عَلَى صِيغَةِ الْمَصْدَرِ (1) .
أَمَّا تَعْرِيفُهَا اصْطِلاَحًا فَقَدْ قَال النَّوَوِيُّ: تُطْلَقُ
الْجَنَابَةُ فِي الشَّرْعِ عَلَى مَنْ أَنْزَل الْمَنِيَّ، وَعَلَى مَنْ
جَامَعَ، وَسُمِّيَ جُنُبًا؛ لأَِنَّهُ يَجْتَنِبُ الصَّلاَةَ
وَالْمَسْجِدَ وَالْقِرَاءَةَ وَيَتَبَاعَدُ عَنْهَا (2) ، وَفِي
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير، ومختار الصحاح، والكليات 2 / 176 مادة:
(جنب) والهداية 1 / 16.
(2) المجموع 2 / 159 تحقيق المطيعي.
(16/47)
نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: الْجَنَابَةُ
شَرْعًا أَمْرٌ مَعْنَوِيٌّ يَقُومُ بِالْبَدَنِ يَمْنَعُ صِحَّةَ
الصَّلاَةِ حَيْثُ لاَ مُرَخِّصَ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحَدَثُ:
2 - الْحَدَثُ لُغَةً: الْحَالَةُ النَّاقِضَةُ لِلطَّهَارَةِ شَرْعًا (2)
.
وَاصْطِلاَحًا: الْوَصْفُ الشَّرْعِيُّ الْحُكْمِيُّ الَّذِي يَحِل فِي
الأَْعْضَاءِ وَيُزِيل الطَّهَارَةَ، وَقِيل: الأَْسْبَابُ الَّتِي تُوجِبُ
الْوُضُوءَ أَوِ الْغُسْل (3) .
فَالْحَدَثُ أَعَمُّ مِنَ الْجَنَابَةِ؛ لأَِنَّهَا تَخْتَصُّ بِمَا
يُوجِبُ الْغُسْل. أَمَّا الْحَدَثُ فَيُوجِبُ الْغُسْل أَوِ الْوُضُوءَ.
ب - الْخَبَثُ:
3 - الْخَبَثُ لُغَةً: النَّجَسُ. وَاصْطِلاَحًا: الْعَيْنُ
الْمُسْتَقْذَرَةُ شَرْعًا أَيِ النَّجَاسَةُ الْحَقِيقِيَّةُ. فَالْفَرْقُ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَابَةِ أَنَّهَا نَجَاسَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ (4) .
ج - النَّجَسُ:
4 - النَّجَسُ: اسْمٌ لِكُل مُسْتَقْذَرٍ، وَالنَّجِسُ
__________
(1) نهاية المحتاج 1 / 196.
(2) المصباح المنير مادة: (حدث)
(3) ابن عابدين 1 / 58، والدسوقي 1 / 32، ومغني المحتاج 1 / 17، وكشاف
القناع 1 / 28.
(4) ابن عابدين 1 / 57، وجواهر الإكليل 1 / 5، والمغني لابن قدامة 1 / 168.
(16/47)
ضِدُّ الطَّاهِرِ، وَهُوَ لُغَةً يَعُمُّ
الْحَقِيقِيَّ وَالْحُكْمِيَّ، وَعُرْفًا يَخْتَصُّ بِالْحَقِيقِيِّ
كَالْخَبَثِ، فَلاَ يُقَال فِي عُرْفِ الشَّارِعِ لِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ
الْغُسْل إِنَّهُ نَجَسٌ (1) ، فَبَيْنَهُمَا تَبَايُنٌ.
د - الطَّهَارَةُ:
5 - الطَّهَارَةُ لُغَةً: النَّزَاهَةُ وَالنَّظَافَةُ، وَاصْطِلاَحًا:
رَفْعُ مَا يَمْنَعُ الصَّلاَةَ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ حَدَثٍ أَوْ
نَجَاسَةٍ بِالْمَاءِ أَوْ بِالصَّعِيدِ الطَّاهِرِ، فَالطَّهَارَةُ ضِدُّ
الْجَنَابَةِ (2) .
أَسْبَابُ الْجَنَابَةِ:
لِلْجَنَابَةِ سَبَبَانِ:
6 - أَحَدُهُمَا: غَيْبُوبَةُ الْحَشَفَةِ أَوْ قَدْرِهَا مِنْ
مَقْطُوعِهَا فِي قُبُلٍ أَوْ دُبُرِ امْرَأَةٍ أَوْ رَجُلٍ، وَسَوَاءٌ
أَحَصَل إِنْزَالٌ أَمْ لَمْ يَحْصُل، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ
لِلْبَالِغِينَ مِنَ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ بِاتِّفَاقٍ، قَال
الشَّافِعِيُّ: وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْجِمَاعَ - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
مَعَهُ إِنْزَالٌ - جَنَابَةً، وَالْجَنَابَةُ تَحْصُل لِمَنْ وَقَعَ
الْوَطْءُ مِنْهُ، أَوْ وَقَعَ عَلَيْهِ.
وَزَادَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ - أَنَّ الْجَنَابَةَ تَحْصُل بِذَلِكَ وَلَوْ كَانَ
الْوَطْءُ لِغَيْرِ مُشْتَهًى كَمَيِّتَةٍ وَبَهِيمَةٍ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 205، والحطاب 1 / 45، ومغني المحتاج 1 / 17، كشاف
القناع 1 / 28.
(2) ابن عابدين 1 / 57، والحطاب 1 / 43، وأسنى المطالب 1 / 4، والمطلع على
أبواب المقنع ص 7.
(16/48)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ تَحْدُثُ
الْجَنَابَةُ بِذَلِكَ إِلاَّ إِذَا كَانَ مَعَ الإِْيلاَجِ إِنْزَالٌ؛
لأَِنَّ الْفِعْل فِي ذَلِكَ لَيْسَ نَظِيرَ الْفِعْل فِي فَرْجِ
الإِْنْسَانِ فِي السَّبَبِيَّةِ، وَبِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الْبَالِغِينَ
قَال الشَّافِعِيَّةُ: يَجْنُبُ الصَّغِيرُ بِإِيلاَجِهِ عَلَى الْوَصْفِ
السَّابِقِ، وَكَذَا الصَّغِيرَةُ تَجْنُبُ بِالإِْيلاَجِ فِيهَا،
وَسَوَاءٌ فِي هَذَا الْمُمَيِّزُ وَغَيْرُهُ، وَكَذَا قَال
الْحَنَابِلَةُ، إِلاَّ أَنَّهُمْ قَيَّدُوا ذَلِكَ بِمَا إِذَا كَانَ
غَيْرُ الْبَالِغِ مِمَّنْ يُجَامِعُ مِثْلُهُ وَهُوَ ابْنُ عَشْرٍ
وَبِنْتُ تِسْعٍ، قَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ: إِنْ كَانَ الْوَاطِئُ
صَغِيرًا، أَوِ الْمَوْطُوءَةُ صَغِيرَةً وَجَبَ عَلَيْهِمَا الْغُسْل
وَقَال: إِذَا أَتَى عَلَى الصَّبِيَّةِ تِسْعُ سِنِينَ وَمِثْلُهَا
يُوطَأُ وَجَبَ عَلَيْهَا الْغُسْل، وَسُئِل عَنِ الْغُلاَمِ يُجَامِعُ
مِثْلُهُ وَلَمْ يَبْلُغْ فَجَامَعَ الْمَرْأَةَ يَكُونُ عَلَيْهِمَا
جَمِيعًا الْغُسْل؟ قَال: نَعَمْ، قِيل لَهُ: أَنْزَل أَوْ لَمْ يُنْزِل؟
قَال: نَعَمْ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَحَمَل الْقَاضِي كَلاَمَ أَحْمَدَ عَلَى
الاِسْتِحْبَابِ، وَهُوَ قَوْل أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَأَبِي ثَوْرٍ؛
لأَِنَّ الصَّغِيرَةَ لاَ يَتَعَلَّقُ بِهَا الْمَأْثَمُ، وَلاَ هِيَ مِنْ
أَهْل التَّكْلِيفِ، وَلاَ تَجِبُ عَلَيْهَا الصَّلاَةُ الَّتِي تَجِبُ
الطَّهَارَةُ لَهَا، لَكِنْ قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ يَصِحُّ حَمْل
كَلاَمِ أَحْمَدَ عَلَى الاِسْتِحْبَابِ لِتَصْرِيحِهِ بِالْوُجُوبِ،
وَاحْتَجَّ بِفِعْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَرِوَايَتِهَا
لِلْحَدِيثِ الْعَامِّ فِي الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ؛ وَلأَِنَّهَا
أَجَابَتْ بِفِعْلِهَا وَفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِقَوْلِهَا: فَعَلْتُهُ أَنَا وَرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(16/48)
فَاغْتَسَلْنَا (1) فَكَيْفَ تَكُونُ
خَارِجَةً مِنْهُ.
وَبِقَوْل الْحَنَابِلَةِ قَال أَشْهَبُ وَسَحْنُونٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.
لَكِنِ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الصَّغِيرَ الْمُطِيقَ
لاَ يَجْنُبُ بِإِيلاَجِهِ أَوِ الإِْيلاَجِ فِيهِ، وَكَذَا الصَّغِيرَةُ
الْمُطِيقَةُ لاَ تَجْنُبُ بِالإِْيلاَجِ فِيهَا، وَيَجْنُبُ الْبَالِغُ
بِإِيلاَجِهِ فِي الصَّغِيرَةِ الْمُطِيقَةِ، وَتَجْنُبُ الْبَالِغَةُ
بِإِيلاَجِ الصَّغِيرِ فِيهَا إِذَا أَنْزَلَتْ، وَالْقَوْل بِالْغُسْل
عَلَى الصَّغِيرِ عِنْدَ مَنْ قَال بِهِ لَيْسَ مَعْنَاهُ التَّأْثِيمَ
بِتَرْكِهِ، بَل مَعْنَاهُ أَنَّهُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلاَةِ
وَالطَّوَافِ، وَهَكَذَا. وَلِذَلِكَ لَوْ أَخَّرَهُ لَمْ يَأْثَمْ،
وَإِنَّمَا يَبْقَى فِي حَقِّهِ شَرْطًا كَمَا فِي حَقِّ الْكَبِيرِ،
حَتَّى إِذَا بَلَغَ قَبْل أَنْ يَغْتَسِل كَانَ حُكْمُ الْحَدَثِ فِي
حَقِّهِ بَاقِيًا وَيَلْزَمُهُ الْغُسْل، وَيَسْتَوِي فِي حُصُول
الْجَنَابَةِ بِالإِْيلاَجِ أَنْ يَحْدُثَ ذَلِكَ مَعَ نَائِمٍ، أَوْ
مَجْنُونٍ، أَوْ مُكْرَهٍ (2) .
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْخُنْثَى الْمُشْكِل فَفِيهِ خِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي
(خُنْثَى مُشْكِلٌ، وَغُسْلٌ) .
7 - الثَّانِي: خُرُوجُ الْمَنِيِّ بِشَهْوَةٍ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ،
سَوَاءٌ أَكَانَ عَنِ احْتِلاَمٍ أَمِ اسْتِمْنَاءٍ، أَمْ
__________
(1) قول عائشة رضي الله عنها: " فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم
فاغتسلنا " أخرجه الترمذي (1 / 181 - ط الحلبي) وصححه ابن حبان (2 / 245 -
الإحسان - ط دار الكتب العلمية) .
(2) البدائع 1 / 36 - 37، ومنح الجليل 1 / 72 - 73، والشرح الصغير 1 / 62 -
63 ط الحلبي، ومغني المحتاج 1 / 69، والمجموع شرح المهذب 2 / 134 إلى 139
تحقيق المطيعي وشرح منتهى الإرادات 1 / 75، والمغني 1 / 204 - 205 - 206.
(16/49)
نَظَرٍ، أَمْ فِكْرٍ، أَمْ تَقْبِيلٍ، أَمْ
غَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.
وَاشْتِرَاطُ الشَّهْوَةِ لِحُصُول الْجَنَابَةِ هُوَ مَا قَال بِهِ
الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَلِذَلِكَ لاَ
تَحْصُل الْجَنَابَةُ عِنْدَهُمْ بِخُرُوجِهِ لِمَرَضٍ، أَمَّا
الشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّ الْجَنَابَةَ تَحْصُل عِنْدَهُمْ بِخُرُوجِ
الْمَنِيِّ مِنْ مَخْرَجِهِ الْمُعْتَادِ مُطْلَقًا بِشَهْوَةٍ أَوْ
غَيْرِهَا.
وَخُرُوجُ الْمَنِيِّ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ هُوَ بُرُوزُهُ إِلَى
مَحَل اسْتِنْجَائِهَا، وَهُوَ مَا يَظْهَرُ مِنْهَا عِنْدَ جُلُوسِهَا
لِقَضَاءِ حَاجَتِهَا وَهَذَا مَا قَال بِهِ الْمَالِكِيَّةُ خِلاَفًا
لِسَنَدٍ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلثَّيِّبِ،
وَقَالُوا بِالنِّسْبَةِ لِلْبِكْرِ لَوْ أَنْزَلَتِ الْمَنِيَّ إِلَى
فَرْجِهَا لَمْ يَلْزَمْهَا الْغُسْل حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ فَرْجِهَا؛
لأَِنَّ دَاخِل فَرْجِهَا فِي حُكْمِ الْبَاطِنِ، وَلِهَذَا لاَ
يَلْزَمُهَا تَطْهِيرُهُ فِي الاِسْتِنْجَاءِ وَالْغُسْل، فَأَشْبَهَ
إِحْلِيل الذَّكَرِ. وَلَمْ يُفَرِّقِ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ بِكْرٍ
وَثَيِّبٍ بَل هِيَ تَجْنُبُ عِنْدَهُمْ وَلَوْ لَمْ يَصِل الْمَنِيُّ
إِلَى ظَاهِرِ فَرْجِهَا.
قَالُوا: لأَِنَّ لَهُ دَاخِلاً وَخَارِجًا وَالْخَارِجُ مِنْهُمَا لَهُ
حُكْمُ الظَّاهِرِ.
وَمَنْ أَحَسَّ بِانْتِقَال الْمَنِيِّ عِنْدَ الشَّهْوَةِ فَأَمْسَكَ
ذَكَرَهُ فَلَمْ يَخْرُجِ الْمَنِيُّ فَلاَ يُعْتَبَرُ جُنُبًا عِنْدَ
الْجُمْهُورِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْل الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ
وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ أَحْمَدَ
أَنَّهُ يُعْتَبَرُ جُنُبًا وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْل، وَأَنْكَرَ أَنْ
يَكُونَ الْمَاءُ يَرْجِعُ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْقَاضِي خِلاَفًا فِي
وُجُوبِ الْغُسْل قَال: لأَِنَّ الْجَنَابَةَ تُبَاعِدُ الْمَاءَ عَنْ
(16/49)
مَحَلِّهِ، وَقَدْ وُجِدَ، فَتَكُونُ
الْجَنَابَةُ مَوْجُودَةً فَيَجِبُ الْغُسْل بِهَا؛ وَلأَِنَّ الْغُسْل
تُرَاعَى فِيهِ الشَّهْوَةُ وَقَدْ حَصَلَتْ بِانْتِقَالِهِ فَأَشْبَهَ مَا
لَوْ ظَهَرَ.
وَاسْتَدَل ابْنُ قُدَامَةَ عَلَى عَدَمِ وُجُودِ الْجَنَابَةِ لِعَدَمِ
خُرُوجِ الْمَنِيِّ، بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَّقَ الاِغْتِسَال عَلَى الرُّؤْيَةِ وَفَضْخِهِ بِقَوْلِهِ: إِذَا
رَأَتِ الْمَاءَ (1) وَإِذَا فَضَخْتَ الْمَاءَ فَاغْتَسِل (2) فَلاَ
يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِدُونِهِ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى جُنُبًا
لِمُجَانَبَتِهِ الْمَاءَ، وَلاَ يَحْصُل إِلاَّ بِخُرُوجِهِ مِنْهُ.
وَكَلاَمُ أَحْمَدَ إِنَّمَا يَدُل عَلَى أَنَّ الْمَاءَ إِذَا انْتَقَل
لَزِمَ مِنْهُ الْخُرُوجُ وَإِنَّمَا يَتَأَخَّرُ.
وَيُعْتَبَرُ جُنُبًا مَنِ انْتَقَل مَنِيُّهُ مِنْ مَحَلِّهِ بِشَهْوَةٍ
وَخَرَجَ لاَ عَنْ شَهْوَةٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ؛
إِذْ الْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُ هُوَ الاِنْفِصَال مَعَ الْخُرُوجِ عَنْ
شَهْوَةٍ (3) .
مَا تَرْتَفِعُ بِهِ الْجَنَابَةُ:
8 - سَبَقَ بَيَانُ أَنَّ الْجَنَابَةَ تَكُونُ بِالْجِمَاعِ وَلَوْ
بِدُونِ
__________
(1) حديث: " إذا رأت الماء. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 388 - ط
السلفية) ومسلم (1 / 251 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " إذا فضخت الماء فاغتسل " أخرجه أبو داود (1 / 142 - تحقيق عزت
عبيد دعاس) وصححه ابن حبان (2 / 218 - ط دار الكتب العلمية) .
(3) البدائع 1 / 36 - 37، والهداية 1 / 16، ومنح الجليل 1 / 71 - 72
والمجموع 2 / 141 - 142، والمغني 1 / 199 - 200.
(16/50)
إِنْزَالٍ أَوْ بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ مِنْ
غَيْرِ جِمَاعٍ عَلَى التَّفْصِيل السَّابِقِ، وَتَرْتَفِعُ الْجَنَابَةُ
بِمَا يَأْتِي:
أ - بِالْغُسْل، وَالدَّلِيل عَلَى وُجُوبِ الْغُسْل مِنَ الْجِمَاعِ
وَلَوْ مِنْ غَيْرِ إِنْزَالٍ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَْرْبَعِ وَمَسَّ الْخِتَانُ
الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْل مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَزَادَ مُسْلِمٌ
(1) : وَإِنْ لَمْ يُنْزِل.
وَالْمُرَادُ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ تَغْيِيبُ الْحَشَفَةِ فِي
الْفَرْجِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ، قَال
النَّوَوِيُّ: وَبِهَذَا قَال جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَكَانَ الْحُكْمُ عَلَى خِلاَفِ
ذَلِكَ فَنُسِخَ كَمَا قَال النَّوَوِيُّ وَابْنُ قُدَامَةَ، وَالآْثَارُ
الَّتِي رُوِيَتْ عَنِ الصَّحَابَةِ قَالُوهَا قَبْل أَنْ يَبْلُغَهُمُ
النَّسْخُ، قَال سَهْل بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ حَدَّثَنِي أُبَيُّ بْنُ
كَعْبٍ أَنَّ الْمَاءَ مِنَ الْمَاءِ (2)
كَانَ رُخْصَةً أَرْخَصَ فِيهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ثُمَّ نَهَى عَنْهَا (3) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (غُسْلٌ) .
وَالدَّلِيل عَلَى وُجُوبِ الْغُسْل بِنُزُول الْمَنِيِّ مِنْ
__________
(1) قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا جلس بين شعبها الأربع. . . "
أخرجه البخاري (الفتح 1 / 395 - ط السلفية) ومسلم (1 / 2271 - ط الحلبي)
واللفظ لمسلم.
(2) حديث " الماء من الماء " أخرجه مسلم (1 / 269 ـ ط الحلبي)
(3) البدائع 1 / 36 - 37، ومنح الجليل 1 / 71 - 72، والمجموع 2 / 137 إلى
141، ومغني المحتاج 1 / 69 - 70، والمغني 1 / 199 إلى 204، وشرح منتهى
الإرادات 1 / 74 - 75.
(16/50)
غَيْرِ جِمَاعٍ مَا رَوَتْهُ أُمُّ
سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ
امْرَأَةُ أَبِي طَلْحَةَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي
مِنَ الْحَقِّ هَل عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا هِيَ احْتَلَمَتْ.
قَال: نَعَمْ إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ (1) .
9 - ب - التَّيَمُّمُ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ التَّيَمُّمَ هَل
هُوَ رَافِعٌ لِلْجَنَابَةِ، أَوْ غَيْرُ رَافِعٍ لَهَا؟ وَمَعَ اخْتِلاَفِ
الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ إِلاَّ أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ فِي الْجُمْلَةِ
عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ يُبَاحُ بِهِ مَا يُبَاحُ بِالْغُسْل مِنَ
الْجَنَابَةِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضُ
الشَّافِعِيَّةِ وَابْنُ تَيْمِيَّةَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ
وَاخْتَارَهَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ إِلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ يَرْفَعُ
الْحَدَثَ؛ لأَِنَّهُ بَدَلٌ مُطْلَقٌ عَنِ الْمَاءِ، وَلِقَوْل النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورُ
الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ، فَإِذَا وَجَدَ
الْمَاءَ فَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ (2) فَقَدْ
سَمَّى التَّيَمُّمَ وُضُوءًا، وَالْوُضُوءُ مُزِيلٌ لِلْحَدَثِ، وَقَال
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جُعِلَتْ لِيَ
__________
(1) حديث: " إذا رأت الماء. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 388 - ط
السلفية) مسلم (1 / 251 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " إن الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا
وجد الماء فليمسه بشرته فإن ذلك خير " أخرجه الترمذي (1 / 212 - ط الحلبي)
والحاكم (1 / 176 - 177 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي ذر،
وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(16/51)
الأَْرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا (1) ،
وَالطَّهُورُ اسْمٌ لِلْمُطَهِّرِ فَدَل عَلَى أَنَّ الْحَدَثَ يَزُول
بِالتَّيَمُّمِ، إِلاَّ أَنَّ زَوَالَهُ مُؤَقَّتٌ إِلَى غَايَةِ وُجُودِ
الْمَاءِ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ يَعُودُ الْحَدَثُ السَّابِقُ، وَلَكِنْ
فِي الْمُسْتَقْبَل لاَ فِي الْمَاضِي، فَلَمْ يَظْهَرْ فِي حَقِّ
الصَّلاَةِ الْمُؤَدَّاةِ، وَلِهَذَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ قَبْل دُخُول
الْوَقْتِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَال الْقَرَافِيُّ: الْحَدَثُ هُوَ
الْمَنْعُ الشَّرْعِيُّ مِنَ الصَّلاَةِ، وَهَذَا الْحَدَثُ الَّذِي هُوَ
الْمَنْعُ مُتَعَلِّقٌ بِالْمُكَلَّفِ، وَهُوَ بِالتَّيَمُّمِ قَدْ
أُبِيحَتْ لَهُ الصَّلاَةُ إِجْمَاعًا وَارْتَفَعَ الْمَنْعُ إِجْمَاعًا؛
لأَِنَّهُ لاَ مَنْعَ مَعَ الإِْبَاحَةِ فَإِنَّهُمَا ضِدَّانِ
وَالضِّدَّانِ لاَ يَجْتَمِعَانِ، وَإِذَا كَانَتِ الإِْبَاحَةُ ثَابِتَةً
قَطْعًا، وَالْمَنْعُ مُرْتَفِعٌ قَطْعًا كَانَ التَّيَمُّمُ رَافِعًا
لِلْحَدَثِ قَطْعًا.
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - غَيْرِ مَنْ ذُكِرَ - أَنَّ
التَّيَمُّمَ لاَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ؛ لأَِنَّهُ بَدَلٌ ضَرُورِيٌّ، أَوْ
طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ، وَلِمَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ أَنَّ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى ثُمَّ رَأَى رَجُلاً
مُعْتَزِلاً لَمْ يُصَل مَعَ الْقَوْمِ فَقَال: يَا فُلاَنُ مَا مَنَعَكَ
أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ الْقَوْمِ؟ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ أَصَابَتْنِي
جَنَابَةٌ وَلاَ مَاءَ فَقَال: عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ فَإِنَّهُ
يَكْفِيَكَ، فَلَمَّا
__________
(1) حديث: " جعلت لي الأرض طهورا ومسجدا " أخرجه مسلم (1 / 371 - ط الحلبي)
من حديث أبي هريرة.
(16/51)
حَضَرَ الْمَاءُ أَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الرَّجُل إِنَاءً مِنْ مَاءٍ فَقَال:
اغْتَسِل بِهِ. (1)
وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ حِينَ تَيَمَّمَ وَهُوَ جُنُبٌ وَصَلَّى
بِالنَّاسِ فَقَال لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ. (2)
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَعْزُبُ فِي
الإِْبِل وَتُصِيبُهُ الْجَنَابَةُ فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال لَهُ: إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورُ
الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ فَإِذَا وَجَدَ
الْمَاءَ فَلْيُمِسُّهُ بَشَرَتَهُ (3) . قَال النَّوَوِيُّ: وَكُلُّهَا
أَحَادِيثُ صِحَاحٌ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ الْحَدَثَ مَا ارْتَفَعَ، إِذْ
لَوِ ارْتَفَعَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى الاِغْتِسَال (4) .
مَا يَحْرُمُ فِعْلُهُ بِسَبَبِ الْجَنَابَةِ:
10 - يَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ الصَّلاَةُ سَوَاءٌ أَكَانَتْ
__________
(1) حديث: " أعطى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل إناء من ماء فقال
اغتسل به. " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 447 - 448 - ط السلفية) ومسلم (1 /
475 - ط السلفية) .
(2) حديث: " صليت بأصحابك. . . . " أخرجه أبو داود (1 / 238 - تحقيق عزت
عبيد دعاس) عن عمرو بن العاص. وقواه ابن حجر في الفتح (1 / 454 - ط
السلفية) .
(3) حديث: " الصعيد الطيب طهور المسلم. . . " سبق تخريجه ف / 9.
(4) البدائع 1 / 44 - 45، 55، والفروق للقرافي 2 / 114، 116، الفرق الثاني
والثمانون، ومنح الجليل 1 / 86 إلى 89، ومغني المحتاج 1 / 97 - 98،
والمجموع 2 / 210، 223، والاختيارات الفقهية لابن تيمية ص 22، والمغني 1 /
252.
(16/52)
فَرْضًا أَمْ نَفْلاً؛ لأَِنَّ
الطَّهَارَةَ شَرْطُ صِحَّةِ الصَّلاَةِ وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُقْبَل صَلاَةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ. (1)
وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ. وَيَشْمَل ذَلِكَ سَجْدَةَ التِّلاَوَةِ وَصَلاَةَ
الْجِنَازَةِ (2) .
11 - وَيَحْرُمُ كَذَلِكَ الطَّوَافَ فَرْضًا كَانَ أَوْ نَفْلاً؛
لأَِنَّهُ فِي مَعْنَى الصَّلاَةِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلاَةٌ إِلاَّ أَنَّ اللَّهَ
أَحَل لَكُمْ فِيهِ الْكَلاَمَ (3) وَلِذَلِكَ لاَ يَصِحُّ الطَّوَافُ
مِمَّنْ كَانَ جُنُبًا، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ، أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّ طَوَافَ الْجُنُبِ
صَحِيحٌ وَلَكِنْ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ؛ لأَِنَّ الطَّهَارَةَ فِي الطَّوَافِ
عِنْدَهُمْ لَيْسَتْ شَرْطًا وَإِنَّمَا هِيَ وَاجِبَةٌ، وَقَدْ رُوِيَ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَال: الْبَدَنَةُ تَجِبُ فِي الْحَجِّ فِي
مَوْضِعَيْنِ: إِذَا طَافَ جُنُبًا، وَالثَّانِي: إِذَا جَامَعَ بَعْدَ
الْوُقُوفِ (4) .
__________
(1) حديث: " لا تقبل صلاة بغير طهور " أخرجه مسلم (1 / 204 - ط الحلبي) من
حديث عبد الله بن عمر.
(2) البدائع 1 / 33، 37، وجواهر الإكليل 1 / 21، 23، ومغني المحتاج 1 / 36،
71، والمجموع 2 / 68، 69، وشرح منتهى الإرادات 1 / 72، 83
(3) حديث: " الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أحل لكم فيه الكلام " أخرجه
الترمذي (3 / 284 - ط الحلبي) والحاكم (1 / 459 - ط دائرة المعارف
العثمانية) من حديث عبد الله بن عباس. واللفظ للحاكم، وصححه ووافقه الذهبي.
(4) البدائع 2 / 129، والاختيار 1 / 163، وجواهر الإكليل 1 / 21، 23، ومغني
المحتاج 1 / 36، 71، والمجموع 2 / 159، وشرح المنتهى 1 / 72، 83.
(16/52)
12 - وَيَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ مَسُّ
الْمُصْحَفِ بِيَدِهِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ
مُصْحَفًا جَامِعًا لِلْقُرْآنِ، أَمْ كَانَ جُزْءًا أَمْ وَرَقًا
مَكْتُوبًا فِيهِ بَعْضُ السُّوَرِ، وَكَذَا مَسُّ جِلْدِهِ الْمُتَّصِل
بِهِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ
الْمُطَهَّرُونَ (1) } وَفِي كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: أَنْ لاَ يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلاَّ
طَاهِرٌ (2) .
13 - وَيَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ كَذَلِكَ حَمْل الْقُرْآنِ إِلاَّ إِذَا
كَانَ بِأَمْتِعَةٍ، وَالأَْمْتِعَةُ هِيَ الْمَقْصُودَةُ، أَوْ كَانَ
حَمْلُهُ لِضَرُورَةٍ، كَخَوْفٍ عَلَيْهِ مِنْ نَجَاسَةٍ أَوْ غَيْرِ
ذَلِكَ.
وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ حَمْلَهُ بِعَلاَّقَةٍ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ:
يَجُوزُ حَمْل الْمُصْحَفِ بِعَلاَّقَتِهِ وَهَذَا قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَالشَّعْبِيِّ
وَالْقَاسِمِ وَأَبِي وَائِلٍ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ
مَاسٍّ لَهُ كَمَا لَوْ حَمَلَهُ فِي رَحْلِهِ.
14 - وَيَحْرُمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَسُّ كُتُبِ التَّفْسِيرِ؛
لأَِنَّهُ يَصِيرُ بِمَسِّهَا مَاسًّا لِلْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ
عَرَفَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْعِبْرَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
بِالْقِلَّةِ
__________
(1) سورة الواقعة / 79.
(2) حديث: " لا يمس القرآن إلا طاهر " أخرجه الحاكم (1 / 397 - ط دائرة
المعارف العثمانية) ثم أورد له شاهدا من حديث حكيم بن حزام (3 / 485) وصححه
ووافقه الذهبي.
(16/53)
وَالْكَثْرَةِ، فَإِنْ كَانَ الْقُرْآنُ
أَكْثَرَ كَبَعْضِ كُتُبِ غَرِيبِ الْقُرْآنِ حَرُمَ مَسُّهُ، وَإِنْ كَانَ
التَّفْسِيرُ أَكْثَرَ لاَ يَحْرُمُ مَسُّهُ فِي الأَْصَحِّ.
وَأَجَازَ ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ - غَيْرَ ابْنِ عَرَفَةَ -
وَالْحَنَابِلَةُ لأَِنَّهُ لاَ يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ مُصْحَفٍ.
15 - وَيَحْرُمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَفِي وَجْهٍ لِلشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ مَسُّ الدَّرَاهِمِ الَّتِي عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنَ
الْقُرْآنِ؛ لأَِنَّ الدَّرَاهِمَ كَالْوَرَقَةِ الَّتِي كُتِبَ فِيهَا
قُرْآنٌ، وَكَرِهَ ذَلِكَ عَطَاءٌ وَالْقَاسِمُ وَالشَّعْبِيُّ، وَأَجَازَ
ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الأَْصَحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ مَشْهُورَيْنِ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّهُ لاَ
يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ الْمُصْحَفِ فَأَشْبَهَتْ كُتُبَ الْفِقْهِ؛
وَلأَِنَّ فِي الاِحْتِرَازِ مِنْ ذَلِكَ مَشَقَّةً، وَالْحَاجَةُ تَدْعُو
إِلَى ذَلِكَ، وَالْبَلْوَى تَعُمُّ، فَعُفِيَ عَنْهُ.
16 - وَيَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ أَنْ يَكْتُبَ الْقُرْآنَ، وَذَلِكَ
عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ مَشْهُورٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ،
وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ لاَ يَكْتُبَ؛
لأَِنَّ كِتَابَةَ الْحُرُوفِ تَجْرِي مَجْرَى الْقِرَاءَةِ (1) .
17 - وَيَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عِنْدَ عَامَّةِ
الْعُلَمَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ
__________
(1) البدائع 1 / 33، 37، 38، ومنح الجليل 1 / 70 - 71، 78 - 79، والشرح
الصغير 1 / 57، 67 ط الحلبي، ومغني المحتاج 1 / 36 - 37، 72، والمجموع شرح
المهذب 2 / 69 - 73، 159 - 162، والمغني 1 / 143 - 144، 147 - 148.
(16/53)
لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لاَ يَحْجِزُهُ شَيْءٌ عَنْ قِرَاءَةِ
الْقُرْآنِ إِلاَّ الْجَنَابَةُ (1) وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لاَ تَقْرَأُ الْحَائِضُ وَلاَ الْجُنُبُ شَيْئًا
مِنَ الْقُرْآنِ (2) .
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ يَجُوزُ
لِلْجُنُبِ قِرَاءَةُ كُل الْقُرْآنِ. قَال الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ
وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُمَا: اخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ
وَيَجُوزُ عِنْدَ الْجَمِيعِ تِلاَوَةُ مَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الْقُرْآنُ
كَالأَْدْعِيَةِ وَالذِّكْرِ الْبَحْتِ (3) .
18 - وَيَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ دُخُول الْمَسْجِدِ وَاللُّبْثُ فِيهِ،
وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ
عُبُورَهُ، لِلاِسْتِثْنَاءِ الْوَارِدِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ
جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ (4) } . وَمَنَعَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ
الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الْعُبُورَ إِلاَّ بِالتَّيَمُّمِ (5)
.
19 - وَيَحْرُمُ الاِعْتِكَافُ لِلْجُنُبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {
__________
(1) حديث: " كان لا يحجزه شيء من قراءة القرآن إلا الجنابة " أخرجه أحمد (1
/ 84 - ط الميمنية) من حديث علي بن أبي طالب، والنووي في المجموع (2 / 159
- ط المنيرية) ، وقال الحفاظ المحققون: هو حديث ضعيف.
(2) حديث: " لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن " أخرجه الترمذي (1 /
236 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر، وضعفه ابن حجر في التلخيص (1 /
138 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) المراجع السابقة.
(4) سورة النساء / 43.
(5) الاختيار 1 / 13، ومنهج الجليل 1 / 78 - 79، ومغني المحتاج 1 / 71
ومنتهى الإردات 1 / 77.
(16/54)
وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ}
وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (اعْتِكَافٌ)
مَا يُسْتَحَبُّ وَمَا يُبَاحُ لِلْجُنُبِ:
20 - يُبَاحُ لِلْجُنُبِ الذِّكْرُ وَالتَّسْبِيحُ وَالدُّعَاءُ (1) لِمَا
رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُل
أَحْيَانِهِ (2) .
21 - يُسْتَحَبُّ لِلْجُنُبِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ أَوْ يَأْكُل أَوْ
يَشْرَبَ أَوْ يَطَأَ ثَانِيًا أَنْ يَغْسِل فَرْجَهُ وَيَتَوَضَّأَ
وُضُوءَهُ لِلصَّلاَةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ،
وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ: كَانَ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ جُنُبًا فَأَرَادَ
أَنْ يَأْكُل أَوْ يَنَامَ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ (3) . وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ ثُمَّ
أَرَادَ أَنْ يَعُودَ فَلْيَتَوَضَّأْ بَيْنَهُمَا وُضُوءًا رَوَاهُ
مُسْلِمٌ (4) .
وَفِي الْقَوْل الثَّانِي لِلْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الْوُضُوءَ لِلنَّوْمِ
أَوْ لِمُعَاوَدَةِ الأَْهْل وَاجِبٌ؛ لأَِنَّ الْجُنُبَ مَأْمُورٌ
__________
(1) الاختيار 1 / 13، ومغني المحتاج 1 / 71، وكشاف القناع 1 / 147 - 148.
(2) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه " أخرجه
مسلم (1 / 282 - ط الحلبي) من حديث عائشة.
(3) حديث: " كان إذا كان جنبا فأراد أن يأكل أو ينام توضأ وضوءه " أخرجه
مسلم (1 / 248 - ط الحلبي) .
(4) حديث: " إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ بينهما وضوءا "
أخرجه مسلم (1 / 249 - ط الحلبي) .
(16/54)
بِالْوُضُوءِ قَبْل النَّوْمِ، فَهَل
الأَْمْرُ لِلإِْيجَابِ أَوْ لِلنَّدْبِ؟ قَوْلاَنِ (1) .
وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ لِلْجُنُبِ إِذَا أَرَادَ النَّوْمَ أَوْ
مُعَاوَدَةَ الأَْهْل الْوُضُوءَ وَعَدَمَهُ، قَال الْكَاسَانِيُّ: لاَ
بَأْسَ لِلْجُنُبِ أَنْ يَنَامَ وَيُعَاوِدَ أَهْلَهُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: يَا رَسُول اللَّهِ أَيَنَامُ
أَحَدُنَا وَهُوَ جُنُبٌ؟ قَال: نَعَمْ (2) ، وَيَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ
لِلصَّلاَةِ، وَلَهُ أَنْ يَنَامَ قَبْل أَنْ يَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ
لِلصَّلاَةِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنَامُ وَهُوَ جُنُبٌ
مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّ مَاءً (3) وَلأَِنَّ الْوُضُوءَ لَيْسَ
بِقُرْبَةٍ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا هُوَ لأَِدَاءِ الصَّلاَةِ، وَلَيْسَ فِي
النَّوْمِ ذَلِكَ - وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْمُسَيِّبِ.
لَكِنِ اسْتَحَبَّ الْحَنَفِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ لِلأَْكْل وَالشُّرْبِ
لِمَنْ كَانَ جُنُبًا أَنْ يَتَمَضْمَضَ وَيَغْسِل يَدَيْهِ، وَهُوَ قَوْل
ابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ
وَإِسْحَاقَ، وَقَال مُجَاهِدٌ: يَغْسِل كَفَّيْهِ (4) .
__________
(1) المجموع 2 / 160، والمغني 1 / 229، ومنح الجليل 1 / 78.
(2) حديث عمر: " أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم، إذا توضأ أحدكم فليرقد وهو
جنب " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 392 - ط السلفية) .
(3) حديث: " كان ينام وهو جنب من غير أن يمس ماء " أخرجه الترمذي (1 / 202
- ط الحلبي) وأعله ابن حجر في التلخيص (1 / 140 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(4) البدائع 1 / 38، والمغني 1 / 229.
(16/55)
22 - يَصِحُّ مِنْ الْجُنُبِ أَدَاءُ
الصَّوْمِ بِأَنْ يُصْبِحَ صَائِمًا قَبْل أَنْ يَغْتَسِل (1) فَإِنَّ
عَائِشَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ قَالَتَا: نَشْهَدُ عَلَى رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أِنْ كَانَ لِيُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ
غَيْرِ احْتِلاَمٍ ثُمَّ يَغْتَسِل ثُمَّ يَصُومُ (2) .
23 - يَصِحُّ أَذَانُ الْجُنُبِ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَهَذَا فِي
الْجُمْلَةِ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَذَانٌ) .
24 - تَجُوزُ خُطْبَةُ الْجُمُعَةِ مِمَّنْ كَانَ جُنُبًا مَعَ
الْكَرَاهَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل الإِْمَامِ أَحْمَدَ، وَفِي الْقَدِيمِ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّ الطَّهَارَةَ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ
سُنَّةٌ عِنْدَ هَؤُلاَءِ وَلَيْسَتْ شَرْطًا؛ وَلأَِنَّهَا مِنْ بَابِ
الذِّكْرِ، وَالْجُنُبُ لاَ يُمْنَعُ مِنَ الذِّكْرِ، فَإِنْ خَطَبَ
جُنُبًا وَاسْتَخْلَفَ فِي الصَّلاَةِ أَجْزَأَهُ، كَمَا يَقُول
الْمَالِكِيَّةُ، وَقَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ فِيمَنْ خَطَبَ وَهُوَ جُنُبٌ
ثُمَّ اغْتَسَل وَصَلَّى بِهِمْ أَجْزَأَهُ، وَفِي الْجَدِيدِ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الأَْشْبَهُ بِأُصُول مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ،
كَمَا قَال ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّ الطَّهَارَةَ مِنَ الْجَنَابَةِ شَرْطٌ
فَلاَ تَصِحُّ الْخُطْبَةُ بِدُونِهَا (3) .
__________
(1) البدائع 1 / 38، والمغني 3 / 109، والمهذب 1 / 188 - 189، وجواهر
الإكليل 1 / 152 - 153.
(2) حديث: " أن عائشة وأم سلمة قالتا: نشهد على رسول الله صلى الله عليه
وسلم إن كان ليصبح جنبا من غير احتلام ثم يغتسل ثم يصوم " أخرجه البخاري
(الفتح 4 / 153 - ط السلفية) .
(3) البدائع 1 / 263، والشرح الصغير 1 / 182، والمهذب 1 / 118، والمغني 2 /
307.
(16/55)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (صَلاَةُ
الْجُمُعَةِ، خُطْبَةٌ) .
أَثَرُ الْجَنَابَةِ فِي الصَّوْمِ:
25 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجَنَابَةَ إِذَا كَانَتْ
بِالْجِمَاعِ عَمْدًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَإِنَّهَا تُفْسِدُ
الصَّوْمَ، وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ، وَكَذَلِكَ الْقَضَاءُ، إِلاَّ فِي
قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ الْقَضَاءُ مَعَ
الْكَفَّارَةِ؛ لأَِنَّ الْخَلَل الْحَاصِل قَدِ انْجَبَرَ
بِالْكَفَّارَةِ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْقَضَاءَ
لاَ يَسْقُطُ إِلاَّ إِنْ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ، وَلَكِنِ الأَْصَحُّ
عِنْدَهُمْ أَنَّ الْقَضَاءَ وَاجِبٌ مَعَ الْكَفَّارَةِ.
وَالدَّلِيل عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَال يَا رَسُول
اللَّهِ هَلَكْتُ، قَال: مَا لَكَ؟ قَال: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي
وَأَنَا صَائِمٌ.
فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَل تَجِدُ
رَقَبَةً تَعْتِقُهَا؟ قَال لاَ. قَال فَهَل تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ
شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَال لاَ. قَال: فَهَل تَجِدُ إِطْعَامَ
سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَال لاَ. قَال فَمَكَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ أُتِيَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِرْقٍ فِيهَا تَمْرٌ - وَالْعِرْقُ:
الْمِكْتَل - قَال: أَيْنَ السَّائِل؟ فَقَال أَنَا. قَال: خُذْ هَذَا
فَتَصَدَّقْ بِهِ. فَقَال الرَّجُل: عَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُول
اللَّهِ؟ فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا - يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ -
أَهْل بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْل بَيْتِي. فَضَحِكَ
(16/56)
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ ثُمَّ قَال: أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ (1)
.
وَالْكَفَّارَةُ فِيمَا سَبَقَ إِنَّمَا تَجِبُ إِذَا كَانَ الْجِمَاعُ
عَمْدًا، فَإِنْ كَانَ نِسْيَانًا فَلاَ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ عَنِ
الإِْمَامِ أَحْمَدَ لَكِنْ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ
الْعَمْدَ وَالنِّسْيَانَ سَوَاءٌ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَالْقَضَاءِ،
كَمَا أَنَّهُ لاَ يَجِبُ الْقَضَاءُ بِالنِّسْيَانِ أَيْضًا عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ،
قَال الْحَنَفِيَّةُ: عَدَمُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ اسْتِحْسَانٌ؛ لأَِنَّهُ
لَمْ يُفْطِرْ، وَالْقِيَاسُ وُجُوبُ الْقَضَاءِ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَهُوَ الْقَوْل الآْخَرُ لِلْحَنَابِلَةِ يَجِبُ الْقَضَاءُ. وَلاَ تَجِبُ
الْكَفَّارَةُ بِالْجِمَاعِ عَمْدًا فِي صَوْمِ غَيْرِ رَمَضَانَ وَهَذَا
بِاتِّفَاقٍ (2) .
26 - أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْجَنَابَةُ بِالإِْنْزَال بِغَيْرِ جِمَاعٍ
فِي نَهَارِ رَمَضَانَ. فَإِنْ كَانَ عَنِ احْتِلاَمٍ فَلاَ يَفْسُدُ
الصَّوْمُ بِالإِْجْمَاعِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: ثَلاَثٌ لاَ يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ: الْحِجَامَةُ، وَالْقَيْءُ
__________
(1) حديث: أبي هريرة: " بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ
جاءه رجل. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 163 - ط السلفية) .
(2) الاختيار 1 / 131، والهداية 1 / 122، والبدائع 2 / 90 - 98، وجواهر
الإكليل 1 / 150، والشرح الصغير 1 / 248، - 249 ط الحلبي، ومغني المحتاج 1
/ 442 - 444، والمهذب 1 / 190، والمغني 3 / 120 - 121، وشرح منتهى الإرادات
1 / 451 - 452.
(16/56)
وَالاِحْتِلاَمُ (1) . وَلأَِنَّهُ لاَ
صُنْعَ لَهُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْجَنَابَةُ بِالإِْنْزَال عَنْ
تَعَمُّدٍ بِمُبَاشَرَةٍ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، أَوْ قُبْلَةٍ، أَوْ
لَمْسٍ بِشَهْوَةٍ، أَوِ اسْتِمْنَاءٍ فَسَدَ الصَّوْمُ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَعَامَّةِ مَشَايِخِ
الْحَنَفِيَّةِ، وَبِفَسَادِ الصَّوْمِ يَجِبُ الْقَضَاءُ دُونَ
الْكَفَّارَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَظَاهِرُ
مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ، وَمُقَابِل الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وُجُوبُ
الْكَفَّارَةِ مَعَ الْقَضَاءِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلإِْمَامِ أَحْمَدَ،
وَالرَّجُل وَالْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.
أَمَّا الْجَنَابَةُ الَّتِي تَكُونُ بِالإِْنْزَال عَنْ نَظَرٍ أَوْ
فِكْرٍ فَلاَ تُفْسِدُ الصَّوْمَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ
الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِقَوْل النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأُِمَّتِي
عَمَّا وَسْوَسَتْ أَوْ حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَل بِهِ
أَوْ تَتَكَلَّمْ (2) .
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ كَرَّرَ النَّظَرَ فَأَنْزَل
فَسَدَ صَوْمُهُ، وَهُوَ قَوْل الإِْمَامِ أَحْمَدَ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنِ اعْتَادَ الإِْنْزَال بِالنَّظَرِ فَسَدَ
صَوْمُهُ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَفْصٍ الْبَرْمَكِيِّ
__________
(1) حديث: " ثلاث لا يفطرن الصائم الحجامة والقيء والاحتلام " أخرجه
الترمذي (3 / 88 - ط الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري، وضعفه ابن حجر في
التلخيص (2 / 194 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) حديث: " إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها ما لم تعمل
به أو تكلم " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 549 - ط السلفية) ومسلم (1 / 116 -
ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(16/57)
مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَوْ فَكَّرَ
فَأَنْزَل فَسَدَ صَوْمُهُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ دَاوَمَ الْفِكْرَ أَوِ النَّظَرَ فَأَنْزَل
فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، وَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهُ عَدَمَ
الإِْنْزَال فَأَنْزَل فَسَدَ صَوْمُهُ، وَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ
وَعَدَمِهَا قَوْلاَنِ، وَإِنْ لَمْ يُدِمِ النَّظَرَ أَوِ الْفِكْرَ
فَأَنْزَل فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَقَطْ، إِلاَّ إِذَا كَانَتْ عَادَتُهُ
الإِْنْزَال فَقَوْلاَنِ فِي الْكَفَّارَةِ وَعَدَمِهَا (1) .
أَثَرُ الْجَنَابَةِ فِي الْحَجِّ:
27 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجَنَابَةَ إِذَا كَانَتْ
بِجِمَاعٍ فَإِنْ كَانَتْ قَبْل الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَسَدَ الْحَجُّ
وَعَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِيهِ وَالْقَضَاءُ، وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ عِنْدَ
الْجُمْهُورِ، وَشَاةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَيَسْتَوِي فِي هَذَا الرَّجُل وَالْمَرْأَةُ، وَالْعَمْدُ وَالنِّسْيَانُ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَفِي
الْقَدِيمِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي الْجَدِيدِ لاَ يَفْسُدُ
بِالْجِمَاعِ نِسْيَانًا.
وَإِنْ كَانَتِ الْجَنَابَةُ بِالْجِمَاعِ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يَفْسُدُ الْحَجُّ وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ؛
لِقَوْل
__________
(1) البدائع 2 / 91 - 93 - 94، والزيلعي 1 / 323، والاختيار 1 / 131 - 132،
والهداية 1 / 122 - 123، ومنح الجليل 1 / 402 - 403، والشرح الصغير 1 /
249، وجواهر الإكليل 1 / 150، والمهذب 1 / 189 - 190، ومغني المحتاج 1 /
430 - 443 - 448 - 449، وشرح منتهى الإرادات 1 / 451 - 452، والمغني 3 /
111 - 112 - 113 - 114 - 115 - 116 - 124.
(16/57)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: الْحَجُّ عَرَفَةَ (1) فَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ
حَجُّهُ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْجُمْلَةِ، إِنْ كَانَتِ
الْجَنَابَةُ بِالْجِمَاعِ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَقَبْل
التَّحَلُّل الأَْوَّل فَسَدَ الْحَجُّ وَيَجِبُ الْمُضِيُّ فِيهِ
وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ مَعَ وُجُوبِ بَدَنَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
وَشَاةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَإِنْ كَانَتِ الْجَنَابَةُ بَعْدَ
التَّحَلُّل الأَْوَّل لَمْ يَفْسُدِ الْحَجُّ عِنْدَهُمَا وَعَلَيْهِ
كَفَّارَةٌ، قِيل بَدَنَةٌ وَقِيل شَاةٌ.
وَلاَ يَفْسُدُ الْحَجُّ بِالْجَنَابَةِ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ كَأَنْ كَانَ
بِمُبَاشَرَةٍ أَوْ قُبْلَةٍ أَوْ لَمْسٍ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ
الْجَنَابَةُ بِذَلِكَ قَبْل الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ أَمْ بَعْدَهُ مَعَ
وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْخِلاَفِ هَل هِيَ بَدَنَةٌ أَوْ شَاةٌ،
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَدْ
فَصَّل الْمَالِكِيَّةُ الْقَوْل فَقَالُوا: إِنَّ الْحَجَّ يَفْسُدُ
بِالْجَنَابَةِ بِالْجِمَاعِ وَمُقَدِّمَاتِهِ سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ
عَمْدًا أَمْ سَهْوًا وَذَلِكَ إِنْ وَقَعَتِ الْجَنَابَةُ عَلَى الْوَجْهِ
الآْتِي.
أ - إِذَا كَانَتْ قَبْل الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ.
ب - إِذَا كَانَتْ فِي يَوْمِ النَّحْرِ (أَيْ بَعْدَ الْوُقُوفِ
بِعَرَفَةَ) . وَلَكِنْ قَبْل رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَقَبْل
الطَّوَافِ.
__________
(1) حديث: " الحج عرفة " أخرجه أبو داود (2 / 486 - تحقيق عزت عبيد دعاس)
والحاكم (1 / 464 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عبد الرحمن بن يعمر
الديلمي، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(16/58)
وَلاَ يَفْسُدُ الْحَجُّ إِنْ وَقَعَ
الْجِمَاعُ أَوْ مُقَدِّمَاتُهُ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ
الْعَقَبَةِ أَوْ بَعْدَ الطَّوَافِ.
أَوْ وَقَعَ الْجِمَاعُ أَوْ مُقَدِّمَاتُهُ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ
وَلَوْ قَبْل الطَّوَافِ وَالرَّمْيِ وَعَلَيْهِ الْهَدْيُ. وَإِذَا فَسَدَ
الْحَجُّ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِيهِ وَالْقَضَاءُ.
وَالْعُمْرَةُ تَفْسُدُ بِمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي الْمَذَاهِبِ قَبْل
التَّحَلُّل مِنْهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَبْل
أَنْ يَطُوفَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ، فَإِنْ كَانَتْ الْجَنَابَةُ بَعْدَ
طَوَافِ أَرْبَعَةِ أَشْوَاطٍ فَلاَ تَفْسُدُ وَعَلَيْهِ شَاةٌ (1) .
وَفِي كُل مَا سَبَقَ تَفْصِيلاَتٌ كَثِيرَةٌ تُنْظَرُ فِي (حَجٌّ،
عُمْرَةٌ، إِحْرَامٌ) .
__________
(1) الاختيار 1 / 164، والهداية 1 / 164 - 165، والبدائع 2 / 195، 216 -
217، وجواهر الإكليل 1 / 192، والشرح الصغير 1 / 291 - 292 ط الحلبي، ومغني
المحتاج 1 / 522 - 523، والمهذب 1 / 220 - 222 - 223، وشرح منتهى الإرادات
2 / 31 - 32، 37، والمغني 3 / 334 وما بعدها
(16/58)
جِنَايَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجِنَايَةُ فِي اللُّغَةِ الذَّنْبُ وَالْجُرْمُ، وَهُوَ فِي
الأَْصْل مَصْدَرُ جَنَى، ثُمَّ أُرِيدَ بِهِ اسْمُ الْمَفْعُول، قَال
الْجُرْجَانِيِّ: الْجِنَايَةُ كُل فِعْلٍ مَحْظُورٍ يَتَضَمَّنُ ضَرَرًا
عَلَى النَّفْسِ أَوْ غَيْرِهَا، وَقَال الْحَصْكَفِيُّ: الْجِنَايَةُ
شَرْعًا اسْمٌ لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ حَل بِمَالٍ أَوْ نَفْسٍ. إِلاَّ أَنَّ
الْفُقَهَاءَ خَصُّوا لَفْظَ الْجِنَايَةِ بِمَا حَل بِنَفْسٍ وَأَطْرَافٍ،
وَالْغَصْبَ وَالسَّرِقَةَ بِمَا حَل بِمَالٍ (1) .
وَتُذْكَرُ الْجِنَايَةُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَيُرَادُ بِهَا كُل فِعْلٍ
مُحَرَّمٍ حَل بِمَالٍ، كَالْغَصْبِ، وَالسَّرِقَةِ، وَالإِْتْلاَفِ،
وَتُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهَا أَيْضًا مَا تُحْدِثُهُ الْبَهَائِمُ،
وَتُسَمَّى: جِنَايَةُ الْبَهِيمَةِ، وَالْجِنَايَةُ عَلَيْهَا كَمَا
أَطْلَقَهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى كُل فِعْلٍ ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ
بِسَبَبِ الإِْحْرَامِ أَوِ الْحَرَمِ.
فَقَالُوا: جِنَايَاتُ الإِْحْرَامِ، وَالْمُرَادُ بِهَا كُل فِعْلٍ لَيْسَ
لِلْمُحْرِمِ أَوِ الْحَاجِّ أَنْ يَفْعَلَهُ (2) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 339 ط دار إحياء التراث العربي، والطحطاوي 1 / 519 ط
دار المعرفة، والتعريفات للجرجاني مادة: (جناية)
، ولسان العرب، مادة: (جنى) .
(2) الاختيار 1 / 161، والبدائع 7 / 233، وابن عابدين 5 / 339، وفتح القدير
2 / 438 ط دار إحياء التراث العربي، والطحطاوي 1 / 519.
(16/59)
وَعَبَّرَ عَنْهَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ
بِمَمْنُوعَاتِ الإِْحْرَامِ أَوْ مَحْظُورَاتِهِ، أَوْ مُحَرَّمَاتِ
الإِْحْرَامِ، وَالْحَرَمِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْجَرِيمَةُ:
2 - الْجُرْمُ وَالْجَرِيمَةُ فِي اللُّغَةِ: الذَّنْبُ، وَفِي
الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَهَا الْمَاوَرْدِيُّ بِقَوْلِهِ: الْجَرَائِمُ
مَحْظُورَاتٌ شَرْعِيَّةٌ زَجَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا بِحَدٍّ أَوْ
تَعْزِيرٍ، فَالْجَرِيمَةُ أَعَمُّ مِنَ الْجِنَايَةِ (2)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - كُل عُدْوَانٍ عَلَى نَفْسٍ أَوْ بَدَنٍ أَوْ مَالٍ مُحَرَّمٍ شَرْعًا.
الْحُكْمُ الْوَضْعِيُّ:
4 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْجِنَايَةِ بِحَسَبِهَا فَيَكُونُ قِصَاصًا، أَوْ
دِيَةً، أَوْ أَرْشًا، أَوْ حُكُومَةَ عَدْلٍ، أَوْ ضَمَانًا عَلَى حَسَبِ
الأَْحْوَال، وَقَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى ارْتِكَابِ بَعْضِ أَنْوَاعِ
الْجِنَايَةِ، الْكَفَّارَةُ أَوِ الْحِرْمَانُ مِنَ الْمِيرَاثِ.
__________
(1) شرح الزرقاني 2 / 290، وجواهر الإكليل 1 / 186، والقوانين الفقهية /
134، والقليوبي 2 / 131، وكشاف القناع 2 / 421.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي / 192 ولسان العرب ومتن اللغة " جرم ".
(16/59)
أَقْسَامُ الْجِنَايَةِ:
5 - قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْجِنَايَةَ إِلَى أَقْسَامٍ ثَلاَثَةٍ:
1 - الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ وَهِيَ الْقَتْل.
2 - الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، وَهِيَ الإِْصَابَةُ الَّتِي
لاَ تُزْهِقُ الرُّوحَ.
3 - الْجِنَايَةِ عَلَى مَا هُوَ نَفْسٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ
كَالْجِنَايَةِ عَلَى الْجَنِينِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ كَمَا يَلِي:
أَوَّلاً - أَقْسَامُ الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ:
6 - ذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْل الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى
النَّفْسِ تَنْقَسِمُ بِحَسَبِ الْقَصْدِ وَعَدَمِهِ إِلَى: عَمْدٍ،
وَشِبْهِ عَمْدٍ، وَخَطَأٍ، فَالتَّقْسِيمُ عِنْدَهُمْ ثُلاَثِيٌّ.
وَهُوَ خُمَاسِيٌّ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ بِزِيَادَةِ مَا
أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَأِ، وَالْقَتْل بِسَبَبٍ. وَهِيَ عِنْدَ بَعْضِ
فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ؛ لأَِنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ
مَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَأِ، وَالْقَتْل بِسَبَبٍ قِسْمًا وَاحِدًا.
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: هَذَا الْقِسْمُ هُوَ مِنَ الْخَطَأِ،
فَالتَّقْسِيمُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا ثُلاَثِيٌّ،
وَأَنْكَرَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ شِبْهَ الْعَمْدِ، وَقَال: الْقَتْل
إِمَّا عَمْدٌ وَإِمَّا خَطَأٌ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ
تَعَالَى إِلاَّ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ، وَجَعَل شِبْهَ الْعَمْدِ فِي
حُكْمِ
(16/60)
الْعَمْدِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَال
بِشِبْهِ الْعَمْدِ (1) وَبَيَانُ كُلٍّ مِنْ أَقْسَامِ الْقَتْل
كَالآْتِي:
أ - الْقَتْل الْعَمْدُ:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْرِيفِ الْقَتْل الْعَمْدِ: فَذَهَبَ
الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، إِلَى أَنَّ الْقَتْل الْعَمْدَ هُوَ
الضَّرْبُ بِمُحَدَّدٍ أَوْ غَيْرِ مُحَدَّدٍ، وَالْمُحَدَّدُ، هُوَ مَا
يَقْطَعُ، وَيَدْخُل فِي الْبَدَنِ كَالسَّيْفِ وَالسِّكِّينِ
وَأَمْثَالِهِمَا مِمَّا يُحَدِّدُ وَيَجْرَحُ، وَغَيْرُ الْمُحَدَّدِ هُوَ
مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ حُصُول الزَّهُوقِ بِهِ عِنْدَ اسْتِعْمَالِهِ
كَحَجَرٍ كَبِيرٍ، أَوْ خَشَبَةٍ كَبِيرَةٍ وَبِهِ قَال النَّخَعِيُّ،
وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ وَحَمَّادٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ،
وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَإِسْحَاقُ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْقَتْل الْعَمْدَ هُوَ أَنْ
يَتَعَمَّدَ ضَرْبَ الْمَقْتُول فِي أَيِّ مَوْضِعٍ مِنْ جَسَدِهِ بِآلَةٍ
تُفَرِّقُ الأَْجْزَاءَ، كَالسَّيْفِ، وَاللِّيطَةِ، وَالْمَرْوَةِ
وَالنَّارِ؛ لأَِنَّ الْعَمْدَ فِعْل الْقَلْبِ؛ لأَِنَّهُ الْقَصْدُ،
وَلاَ يُوقَفُ عَلَيْهِ إِلاَّ بِدَلِيلِهِ، وَهُوَ مُبَاشَرَةُ الآْلَةِ
الْمُوجِبَةِ لِلْقَتْل عَادَةً. وَهَذَا بِخِلاَفِ الْمُثْقَّل فَلَيْسَ
الْقَتْل بِهِ عَمْدًا عِنْدَهُ (2) .
__________
(1) المنتقى للباجي 7 / 100 - 101.
(2) الاختيار 5 / 22، 25، وابن عابدين 5 / 339، والبدائع 7 / 233، والشرح
الصغير 4 / 338 وما بعدها، والقوانين الفقهية 339، والقليوبي 4 / 96، وروضة
الطالبين 9 / 123، 124، والمغني 7 / 639، ونيل المآرب 2 / 313، 314، وكشاف
القناع 5 / 504، 505. والليطة: قشرة القصب التي تقطع، والمروة: الحجر
المحدد.
(16/60)
وَأَمَّا حُكْمُهُ فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ
الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مُوجِبَ الْقَتْل الْعَمْدِ بِشُرُوطِهِ:
الْقَوَدُ، وَالإِْثْمُ، وَحِرْمَانُ الْقَاتِل مِنْ أَنْ يَرِثَ
الْقَتِيل. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قَتْلٌ عَمْدٌ) .
ب - الْقَتْل شِبْهُ الْعَمْدِ:
8 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ شِبْهَ الْعَمْدِ هُوَ: أَنْ
يَقْصِدَ الْفِعْل وَالشَّخْصَ، بِمَا لاَ يَقْتُل غَالِبًا كَالضَّرْبِ
بِالسَّوْطِ، وَالْعَصَا الصَّغِيرَةِ، فَيُؤَدِّي إِلَى مَوْتِهِ، وَهَذَا
لأَِنَّ مَعْنَى الْعَمْدِيَّةِ قَاصِرٌ فِي مِثْل هَذِهِ الأَْفْعَال؛
لأَِنَّهَا لاَ تَقْتُل عَادَةً، وَيُقْصَدُ بِهِ غَيْرُ الْقَتْل،
كَالتَّأْدِيبِ وَنَحْوِهِ، فَكَانَ شِبْهَ الْعَمْدِ وَقَال أَبُو
حَنِيفَةَ: شِبْهُ الْعَمْدِ أَنْ يَتَعَمَّدَ الضَّرْبَ بِمَا لاَ
يُفَرِّقُ الأَْجْزَاءَ كَالْحَجَرِ، وَالْعَصَا، وَالْيَدِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلاَ يَقُولُونَ بِشِبْهِ الْعَمْدِ فِي قَوْلٍ،
وَعَلَى الْقَوْل الآْخَرِ شِبْهُ الْعَمْدِ: هُوَ أَنْ يَقْصِدَ الضَّرْبَ
وَلاَ يَقْصِدَ الْقَتْل، فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ كَالْعَمْدِ، وَقِيل:
كَالْخَطَأِ، وَهُنَاكَ قَوْلٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّهُ تُغَلَّظُ فِيهِ
الدِّيَةُ. وَمُوجِبُهُ الإِْثْمُ وَالْكَفَّارَةُ وَدِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ
عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي قَوْل جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (1) .
__________
(1) الاختيار 5 / 24، 25، وابن عابدين 5 / 341، والمبسوط 26 / 64، 65،
والقوانين الفقهية 339، والقليوبي 4 / 96، والمغني 7 / 65، وكشاف القناع 5
/ 512، ونيل المآرب 2 / 315.
(16/61)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قَتْلٌ
شِبْهُ عَمْدٍ) .
ج - الْقَتْل الْخَطَأُ:
9 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْقَتْل الْخَطَأَ هُوَ
أَنْ لاَ يَقْصِدَ الضَّرْبَ وَلاَ الْقَتْل، مِثْل أَنْ يَرْمِيَ صَيْدًا
أَوْ هَدَفًا فَيُصِيبَ إِنْسَانًا، أَوْ يَنْقَلِبَ النَّائِمُ عَلَى
إِنْسَانٍ فَيَقْتُلَهُ (1) . وَمُوجِبُهُ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ
وَالْكَفَّارَةُ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قَتْلٌ خَطَأٌ) .
د - الْقَتْل بِالتَّسَبُّبِ أَوْ السَّبَبِ:
10 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقَتْل بِالتَّسَبُّبِ هُوَ
الْقَتْل نَتِيجَةَ حَفْرِ الْبِئْرِ، أَوْ وَضْعِ الْحَجَرِ فِي غَيْرِ
مِلْكِهِ وَفِنَائِهِ، وَأَمْثَالِهِمَا، فَيَعْطَبُ بِهِ إِنْسَانٌ
وَيُقْتَل، وَمُوجِبُ ذَلِكَ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لاَ غَيْرَ؛
لأَِنَّهُ مُتَعَدٍّ فِيمَا وَضَعَهُ وَحَفَرَهُ، فَجُعِل الْحَافِرُ
دَافِعًا مُوقِعًا، فَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَلاَ يَأْثَمُ
فِيهِ لِعَدَمِ الْقَصْدِ، وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ
يَقْتُل حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا أُلْحِقَ بِالْقَاتِل فِي حَقِّ الضَّمَانِ،
فَبَقِيَ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ عَلَى الأَْصْل، وَبِذَلِكَ قَضَى شُرَيْحٌ
بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.
__________
(1) الاختيار 5 / 24، 25، وابن عابدين 5 / 341، والمبسوط 26 / 64، 65،
والقوانين الفقهية 339، والقليوبي 4 / 96، والمغني 7 / 65، وكشاف القناع 5
/ 512، ونيل المآرب 2 / 315.
(16/61)
وَأَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَكْثَرُ الْحَنَابِلَةِ الْقَتْل بِسَبَبٍ
بِالْخَطَأِ فِي أَحْكَامِهِ إِذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْجِنَايَةَ،
فَإِنْ قَصَدَ بِهِ جِنَايَةً فَشِبْهُ عَمْدٍ، وَقَدْ يَقْوَى فَيَلْحَقُ
بِالْعَمْدِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (الْقَتْل بِالتَّسَبُّبِ) .
ثَانِيًا - الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ:
الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَمْدًا، أَوْ
خَطَأً.
أ - إِذَا كَانَتْ عَمْدًا:
11 - يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ
بِقَطْعِ عُضْوٍ، أَوْ إِحْدَاثِ جُرْحٍ، أَوْ إِزَالَةِ مَنْفَعَةٍ
عَمْدًا بِشَرَائِطَ خَاصَّةٍ، وَلاَ يَكُونُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ
شِبْهُ عَمْدٍ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ فُقَهَاءِ
الْحَنَابِلَةِ، فَمَا كَانَ شِبْهُ عَمْدٍ فِي النَّفْسِ فَهُوَ عَمْدٌ
فِيمَا دُونَ النَّفْسِ؛ لأَِنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ لاَ يُقْصَدُ
إِتْلاَفُهُ بِآلَةٍ دُونَ آلَةٍ عَادَةً، فَاسْتَوَتِ الآْلاَتُ كُلُّهَا
فِي الدَّلاَلَةِ عَلَى الْقَصْدِ، فَكَانَ الْفِعْل عَمْدًا مَحْضًا.
__________
(1) الاختيار 5 / 26، وابن عابدين 5 / 342، والبدائع 7 / 217 ط دار الكتاب
العربي، والقوانين الفقهية 339، والقليوبي 4 / 96 وما بعدها، وكشاف القناع
5 / 513، 514.
(16/62)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ:
(جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ) .
ب - إِذَا كَانَتْ خَطَأً:
12 - الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ إِذَا كَانَتْ خَطَأً
فَفِيهَا الدِّيَةُ، أَوْ أَرْشٌ، أَوْ حُكُومَةُ عَدْلٍ عَلَى حَسَبِ
الأَْحْوَال. وَفِي شُرُوطِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ
وَكَيْفِيَّةِ اسْتِيفَائِهِ، وَكَذَلِكَ فِي شُرُوطِ وُجُوبِ الدِّيَةِ،
وَمِقْدَارِ مَا يُؤْخَذُ مِنَ الدِّيَةِ فِي كُل نَوْعٍ مِنَ
الاِعْتِدَاءِ عَلَى الأَْطْرَافِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ (1) يُرْجَعُ فِيهِ
إِلَى مُصْطَلَحِ: (جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ) .
ثَالِثًا - الْجِنَايَةُ عَلَى مَا هُوَ نَفْسٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ:
13 - الْجِنَايَةُ عَلَى مَا هُوَ نَفْسٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَهُوَ
الْجَنِينُ بِأَنْ ضَرَبَ حَامِلاً فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، فَلاَ
خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ تَجِبُ فِيهِ الْغُرَّةُ وَهِيَ
نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: وُجُوبُ الْغُرَّةِ فِي الْجَنِينِ
__________
(1) الاختيار 5 / 37 وما بعدها، ابن عابدين 5 / 367، 373 وما بعدها،
والبدائع 7 / 233، 296، 297 وما بعدها، والشرح الصغير 4 / 349 وما بعدها،
والقوانين الفقهية 344، 345، والمغني 7 / 703، 8 / 1 وما بعدها، وكشاف
القناع 5 / 547.
(16/62)
اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لاَ
شَيْءَ عَلَى الضَّارِبِ؛ لأَِنَّهُ يُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ حَيًّا وَقْتَ
الضَّرْبِ، وَيُحْتَمَل أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ، بِأَنْ لَمْ تُخْلَقْ فِيهِ
الْحَيَاةُ بَعْدُ، فَلاَ يَجِبُ الضَّمَانُ بِالشَّكِّ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (جَنِينٌ وَحَمْلٌ) .
__________
(1) الاختيار 5 / 44، وابن عابدين 5 / 377، 378، والبدائع 7 / 325 وما
بعدها، وجواهر الإكليل 1 / 303، والشرح الصغير 4 / 377، 378، والقوانين
الفقهية / 341، والقليوبي 4 / 159، 160، ونيل المآرب 2 / 337.
(16/63)
جِنَايَةٌ
عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجِنَايَةُ فِي اللُّغَةِ الذَّنْبُ وَالْجُرْمُ. وَقَال
الْحَصْكَفِيُّ: الْجِنَايَةُ شَرْعًا: اسْمٌ لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ حَل
بِمَالٍ أَوْ نَفْسٍ، إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ خَصُّوا لَفْظَ
الْجِنَايَةِ بِمَا حَل بِنَفْسٍ أَوْ أَطْرَافٍ، وَالْغَصْبَ
وَالسَّرِقَةَ بِمَا حَل بِمَالٍ (1) .
وَالْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ كُل فِعْلٍ مُحَرَّمٍ وَقَعَ
عَلَى الأَْطْرَافِ أَوِ الأَْعْضَاءِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِالْقَطْعِ، أَمْ
بِالْجَرْحِ، أَمْ بِإِزَالَةِ الْمَنَافِعِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
كُل جِنَايَةٍ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ عَمْدًا عُدْوَانًا مُحَرَّمَةٌ
شَرْعًا.
الْحُكْمُ الْوَضْعِيُّ:
2 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْجِنَايَةِ بِاخْتِلاَفِ كَوْنِهَا عَمْدًا أَوْ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 339 ط دار إحياء التراث العربي، والطحطاوي 1 / 519 ط
دار المعرفة، والتعريفات للجرجاني مادة: (جناية) .
(16/63)
خَطَأً، فَإِذَا كَانَتْ عَمْدًا
فَمُوجِبُهَا الْقِصَاصُ إِذَا تَوَفَّرَتْ فِيهَا شُرُوطٌ مُعَيَّنَةٌ
يَأْتِي ذِكْرُهَا، وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ،
وَالإِْجْمَاعُ، وَالْمَعْقُول.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا
أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَْنْفَ
بِالأَْنْفِ وَالأُْذُنَ بِالأُْذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ
قِصَاصٌ (1) } ، وقَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ
فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْل مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ (2) } .
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال:
كَسَرَتِ الرُّبَيِّعُ، وَهِيَ عَمَّةُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، ثَنِيَّةَ
جَارِيَةٍ مِنَ الأَْنْصَارِ، فَطَلَبَ الْقَوْمُ الْقِصَاصَ، فَأَتَوْا
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِصَاصِ، فَقَال أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ
عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: لاَ: وَاللَّهِ لاَ تُكْسَرُ سِنُّهَا يَا
رَسُول اللَّهِ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
يَا أَنَسُ، كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ، فَرَضِيَ الْقَوْمُ وَقَبِلُوا
الأَْرْشَ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ
مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأََبَرَّهُ (3) .
__________
(1) سورة المائدة / 45
(2) سورة البقرة / 194.
(3) حديث: " أنس رضي الله عنه قال: كسرت الربيع، وهي عمة أنس بن مالك، ثنية
جارية من الأنصار، فطلب القوم القصاص، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم
فأمر. . . " أخرجه البخاري (الفتح 8 / 274 - ط السلفية) .
(16/64)
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ: فَقَدْ أَجْمَعَ
الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَرَيَانِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ إِذَا
أَمْكَنَ.
وَأَمَّا الْمَعْقُول: فَلأَِنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ كَالنَّفْسِ فِي
الْحَاجَةِ إِلَى حِفْظِهِ؛ لأَِنَّهُ خُلِقَ وِقَايَةً لِلنَّفْسِ
فَشُرِعَ الْجَزَاءُ صَوْنًا لَهُ.
وَإِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ خَطَأً أَوْ
عَمْدًا غَيْرَ مُسْتَجْمِعٍ لِسَائِرِ الشُّرُوطِ الْمُوجِبَةِ
لِلْقِصَاصِ فَمُوجِبُهَا الدِّيَةُ، أَوِ الأَْرْشُ، أَوْ حُكُومَةُ
عَدْلٍ، عَلَى حَسَبِ الأَْحْوَال (1) .
فَالْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ قِسْمَانِ: الْجِنَايَةُ
الْمُوجِبَةُ لِلْقِصَاصِ، وَالْجِنَايَةُ الْمُوجِبَةُ لِلدِّيَةِ
وَغَيْرِهَا.
الْقِسْمُ الأَْوَّل: الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ الْمُوجِبَةُ
لِلْقِصَاصِ:
3 - تَكُونُ الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ مُوجِبَةً لِلْقِصَاصِ
إِذَا تَحَقَّقَتْ فِيهَا الشُّرُوطُ الآْتِيَةُ:
(1) أَنْ يَكُونَ الْفِعْل عَمْدًا:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَمْدَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ
وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ:
فَذَهَبَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَابْنُ أَبِي مُوسَى
مِنْ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا دُونَ
__________
(1) البدائع 7 / 297، 311، 312، والمغني 7 / 702 - ط الرياض، وكشاف القناع
5 / 547 ط عالم الكتب.
(16/64)
النَّفْسِ شِبْهُ عَمْدٍ، فَمَا كَانَ
شِبْهَ عَمْدٍ فِي النَّفْسِ فَهُوَ عَمْدٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ؛
لأَِنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ لاَ يُقْصَدُ إِتْلاَفُهُ بِآلَةٍ دُونَ آلَةٍ
عَادَةً فَاسْتَوَتِ الآْلاَتُ كُلُّهَا فِي الدَّلاَلَةِ عَلَى الْقَصْدِ،
فَكَانَ الْفِعْل عَمْدًا مَحْضًا.
وَيَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ لِلْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ أَنْ
يَكُونَ الْجُرْحُ نَاتِجًا عَنْ قَصْدِ الضَّرْبِ عَدَاوَةً، فَالْجُرْحُ
النَّاتِجُ عَنِ اللَّعِبِ، أَوِ الأَْدَبِ لاَ قِصَاصَ فِيهِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَمَا يُعْتَبَرُ فِي الْقَتْل أَنْ يَكُونَ
عَمْدًا مَحْضًا، يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي الطَّرَفِ أَيْضًا، فَلاَ يَجِبُ
الْقِصَاصُ بِالْجِرَاحَاتِ وَإِبَانَةِ الأَْطْرَافِ إِذَا كَانَتْ خَطَأً
أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ، وَمِنْ صُوَرِ شِبْهِ الْعَمْدِ أَنْ يَضْرِبَ
رَأْسَهُ بِلَطْمَةٍ أَوْ حَجَرٍ لاَ يَشُجُّ غَالِبًا لِصِغَرِهِ،
فَيَتَوَرَّمُ الْمَوْضِعُ وَيَتَّضِحُ الْعَظْمُ (1) .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ شِبْهَ الْعَمْدِ لاَ
يُوجِبُ الْقِصَاصَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، وَهُوَ
أَنْ يَقْصِدَ ضَرْبَهُ بِمَا لاَ يُفْضِي إِلَى ذَلِكَ غَالِبًا، مِثْل
أَنْ يَضْرِبَهُ بِحَصَاةٍ لاَ تُوضِحُ مِثْلُهَا، فَلاَ يَجِبُ
الْقِصَاصُ؛ لأَِنَّهُ شِبْهُ عَمْدٍ (2) .
__________
(1) البدائع 7 / 233 ط دار الكتاب العربي، وشرح الزرقاني 8 / 14 ط دار
الفكر، والشرح الصغير 4 / 347، والقوانين الفقهية ص 344، وروضة الطالبين 9
/ 178، وكشاف القناع 5 / 547.
(2) المغني 7 / 703، وكشاف القناع 5 / 547.
(16/65)
(2) أَنْ يَكُونَ الْفِعْل عُدْوَانًا:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعُدْوَانَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ
وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ كَمَا هُوَ
شَرْطٌ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْجَانِي
مُتَعَدِّيًا فِي فِعْلِهِ، فَلاَ يُقْتَصُّ مِنْهُ. كَأَنْ يَكُونَ
الْجَانِي:
أ - غَيْرَ أَهْلٍ لِلْعُقُوبَةِ؛ لأَِنَّ الأَْهْلِيَّةَ هِيَ مَنَاطُ
التَّكْلِيفِ، وَيُعْتَبَرُ الشَّخْصُ كَامِل الأَْهْلِيَّةِ بِالْعَقْل
وَالْبُلُوغِ.
ب - إِذَا كَانَ ارْتِكَابُ الْفِعْل الضَّارِّ بِحَقٍّ أَوْ شُبْهَةٍ.
فَلاَ يُقْتَصُّ مِمَّنْ أَقَامَ الْحَدَّ، أَوْ نَفَّذَ التَّعْزِيرَ،
سَوَاءٌ أَكَانَ قَتْلاً أَمْ قَطْعًا، وَلاَ مِنَ الطَّبِيبِ بِشُرُوطِهِ؛
لأَِنَّ الْغَرَضَ مِنْ فِعْل الطَّبِيبِ هُوَ شِفَاءُ الْمَرِيضِ لاَ
الاِعْتِدَاءُ عَلَيْهِ، وَلاَ مِمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ دَفْعُ الصَّائِل
بِشُرُوطِهِ. وَلاَ مِمَّنِ ارْتَكَبَ الْجِنَايَةَ بِأَمْرٍ مِنَ
الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ، فَمَنْ قَال لآِخَرَ: اقْطَعْ يَدَيَّ وَلاَ شَيْءَ
عَلَيْكَ، فَقَطَعَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ مَعَ الإِْثْمِ عَلَيْهِمَا (1)
.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ إِنْ لَمْ يَسْتَمِرَّ
__________
(1) البدائع 7 / 64، 177، 180، 234، وابن عابدين 5 / 83، 342، 376، وشرح
الزرقاني 8 / 2، 4، 117، 118، وحاشية الدسوقي 4 / 237، 244، ونهاية المحتاج
7 / 267، 281، وكشاف القناع 5 / 518، 520، والمغني 8 / 326، 327، 332.
(16/65)
الْمَقْطُوعُ عَلَى إِبْرَاءِ الْقَاطِعِ،
بِأَنْ رَجَعَ عَنْهُ بَعْدَ الْقَطْعِ، أَمَّا إِنِ اسْتَمَرَّ عَلَى
الإِْبْرَاءِ فَلَيْسَ عَلَى الْقَاطِعِ إِلاَّ الأَْدَبُ، وَقِيل:
عَلَيْهِ الأَْدَبُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ اسْتِمْرَارِ
الْمَقْطُوعِ عَلَى الإِْبْرَاءِ وَالرُّجُوعِ عَنْهُ (1) .
(3) كَوْنُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مُكَافِئًا لِلْجَانِي فِي الصِّفَاتِ
الآْتِيَةِ عَلَى الْخِلاَفِ وَالتَّفْصِيل الآْتِيَيْنِ:
أ - التَّكَافُؤُ فِي النَّوْعِ (الذُّكُورَةُ وَالأُْنُوثَةُ) :
6 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ التَّكَافُؤُ بَيْنَ الْجَانِي وَالْمَجْنِيِّ
عَلَيْهِ فِي النَّوْعِ، فَيَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَ الذُّكُورِ
وَالإِْنَاثِ بِنَفْسِ أَحْكَامِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ (2) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ وَالْمُعْتَمَدِ أَنَّهُ يَجِبُ
أَنْ يُكَافِئَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ الْجَانِيَ فِي النَّوْعِ؛ لأَِنَّهُ
يُشْتَرَطُ لِلتَّكَافُؤِ أَنْ يَكُونَ أَرْشُ كُلٍّ مِنَ الْجَانِي
وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مُسَاوِيًا لِلآْخَرِ، فَيَجْرِي الْقِصَاصُ
عِنْدَهُمْ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ إِذَا كَانَا ذَكَرَيْنِ أَوْ
أُنْثَيَيْنِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا وَالآْخَرُ أُنْثَى، فَلاَ
قِصَاصَ؛ لأَِنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِي الأُْرُوشُ شَرْطُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ
فِيمَا دُونَ النَّفْسِ. وَفِي الْوَاقِعَاتِ: لَوْ قَطَعَتِ الْمَرْأَةُ
يَدَ رَجُلٍ كَانَ لَهُ الْقَوَدُ، إِذَا رَضِيَ بِالْقَوَدِ عَنِ
الأَْرْشِ.
وَنَصَّ مُحَمَّدٌ عَلَى جَرَيَانِ الْقِصَاصِ بَيْنَ
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 240.
(2) القوانين الفقهية ص 345، وروضة الطالبين 9 / 178، والمغني 7 / 679،
680.
(16/66)
الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ فِي الشِّجَاجِ
الَّتِي يَجْرِي فِيهَا الْقِصَاصُ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ فِي الشِّجَاجِ
تَفْوِيتُ مَنْفَعَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ إِلْحَاقُ شَيْنٍ وَقَدِ اسْتَوَيَا
فِيهِ، وَفِي الطَّرَفِ تَفْوِيتُ الْمَنْفَعَةِ، وَقَدِ اخْتَلَفَا فِيهِ
(1) .
ب - التَّكَافُؤُ فِي الدِّينِ:
7 - اخْتَلَفَتْ آرَاءُ الْفُقَهَاءِ فِي اشْتِرَاطِ التَّكَافُؤِ فِي
الدِّينِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجْرِي الْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ
النَّفْسِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ لِتَسَاوِيهِمَا فِي
الأَْرْشِ، وَكَذَا بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لاَ
يُقْتَصُّ مِنَ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ؛ لأَِنَّ جِنَايَةَ النَّاقِصِ
عَلَى الْكَامِل كَجِنَايَةِ ذِي يَدٍ شَلاَّءَ عَلَى صَحِيحَةٍ فِي
الْجِرَاحِ، وَيَلْزَمُهُ لِلْكَامِل مَا فِيهِ مِنَ الدِّيَةِ، وَإِلاَّ
فَحُكُومَةُ عَدْلٍ إِنْ بَرِئَ عَلَى شَيْنٍ، وَإِلاَّ فَلَيْسَ عَلَى
الْجَانِي إِلاَّ الأَْدَبُ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي قِصَاصِ الطَّرَفِ
التَّسَاوِي فِي الْبَدَل، فَيُقْطَعُ الذِّمِّيُّ بِالْمُسْلِمِ، وَلاَ
عَكْسَ فِيهِ. وَكَذَلِكَ قَال الْحَنَابِلَةُ: مَنْ لاَ يُقْتَل
بِقَتْلِهِ، لاَ يُقْتَصُّ مِنْهُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لَهُ أَيْضًا
كَالْمُسْلِمِ مَعَ الْكَافِرِ؛ لأَِنَّهُ لاَ تُؤْخَذُ نَفْسُهُ
بِنَفْسِهِ، فَلاَ يُؤْخَذُ طَرَفُهُ بِطَرَفِهِ، وَلاَ يُجْرَحُ
بِجُرْحِهِ كَالْمُسْلِمِ مَعَ الْمُسْتَأْمَنِ (2) .
__________
(1) الاختيار 5 / 30 ط دار المعرفة، وابن عابدين 5 / 355، 356، والبدائع 7
/ 302.
(2) ابن عابدين 5 / 356، والاختيار 5 / 30، وشرح الزرقاني 8 / 14، والشرح
الصغير 4 / 348، وروضة الطالبين 9 / 178، والمغني 7 / 703.
(16/66)
ج - التَّكَافُؤُ فِي الْعَدَدِ:
8 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ إِذَا اشْتَرَكُوا فِي جُرْحٍ
مُوجِبٍ لِلْقِصَاصِ وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى جَمِيعِهِمْ؛ لِمَا رُوِيَ
أَنَّ شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى
رَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ فَقَطَعَ يَدَهُ، ثُمَّ جَاءَا بِآخَرَ، فَقَالاَ:
هَذَا هُوَ السَّارِقُ وَأَخْطَأْنَا فِي الأَْوَّل فَرَدَّ شَهَادَتَهُمَا
عَلَى الثَّانِي وَغَرَّمَهُمَا دِيَةَ الأَْوَّل وَقَال: لَوْ عَلِمْتُ
أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُكُمَا. فَأَخْبَرَ أَنَّ الْقِصَاصَ
عَلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ تَعَمَّدَ؛ وَلأَِنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ
الْقِصَاصِ، فَتُؤْخَذُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ كَالأَْنْفُسِ.
هَذَا إِذَا لَمْ يَتَمَيَّزْ فِعْل كُل وَاحِدٍ، أَمَّا لَوْ تَمَيَّزَ:
بِأَنْ قَطَعَ هَذَا مِنْ جَانِبٍ، وَهَذَا مِنْ جَانِبٍ حَتَّى الْتَقَتِ
الْحَدِيدَتَانِ، أَوْ قَطَعَ أَحَدُهُمَا بَعْضَ الْيَدِ، وَأَبَانَهَا
الآْخَرُ، فَلاَ قِصَاصَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ. وَيَلْزَمُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكُومَةُ عَدْلٍ
تَلِيقُ بِجِنَايَتِهِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَبْلُغَ مَجْمُوعُ
الْحُكُومَتَيْنِ دِيَةَ الْيَدِ.
وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنَ الْكُل إِذَا
كَانُوا ثَلاَثَةً: قَلَعَ أَحَدُهُمْ عَيْنَهُ، وَالآْخَرُ قَطَعَ يَدَهُ،
وَالثَّالِثُ رِجْلَهُ وَلَمْ يُعْلَمْ مَنِ الَّذِي فَقَأَ الْعَيْنَ
(16/67)
وَقَطَعَ الرِّجْل أَوِ الْيَدَ، وَلاَ
تَمَالُؤَ بَيْنَهُمُ، اقْتُصَّ مِنْ كُلٍّ بِفَقْءِ عَيْنِهِ، وَقَطْعِ
يَدِهِ وَرِجْلِهِ، وَأَمَّا إِنْ تَمَيَّزَتْ جِنَايَةُ كُل وَاحِدٍ وَلاَ
تَمَالُؤَ بَيْنَهُمْ، فَيُقْتَصُّ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمْ كَفِعْلِهِ
بِالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ (1) .
وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي وَجْهٍ فَلاَ
تُقْطَعُ الأَْيْدِي بِالْيَدِ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ، كَالاِثْنَيْنِ إِذَا
قَطَعَا يَدَ رَجُلٍ، أَوْ رِجْلَهُ، أَوْ أَذْهَبَا سَمْعَهُ أَوْ
بَصَرَهُ، أَوْ قَلَعَا سِنًّا لَهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْجِنَايَاتِ
الَّتِي عَلَى الْوَاحِدِ مِنْهُمَا فِيهَا الْقِصَاصُ لَوِ انْفَرَدَ
بِهَا، فَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِمَا، بَل عَلَيْهِمَا الأَْرْشُ نِصْفَيْنِ،
وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنِ اثْنَيْنِ فَعَلَيْهِمُ الأَْرْشُ عَلَى
عَدَدِهِمْ بِالسَّوَاءِ، وَهَذَا؛ لأَِنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِيمَا دُونَ
النَّفْسِ مُعْتَبَرَةٌ، وَلاَ مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الأَْيْدِي وَيَدٍ
وَاحِدَةٍ لاَ فِي الذَّاتِ وَلاَ فِي الْمَنْفَعَةِ وَلاَ فِي الْفِعْل.
وَبِهِ قَال الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ
(2) .
(4) الْمُمَاثَلَةُ فِي الْمَحَل:
9 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ
الْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ تَوَافُرُ
التَّمَاثُل بَيْنَ مَحَل الْجِنَايَةِ، وَمَحَل الْقِصَاصِ، فَلاَ
يُؤْخَذُ شَيْءٌ مِنَ الأَْصْل إِلاَّ بِمِثْلِهِ، فَلاَ تُؤْخَذُ الْيَدُ
إِلاَّ بِالْيَدِ؛ لأَِنَّ غَيْرَ الْيَدِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا،
__________
(1) الشرح الصغير 4 / 349، وجواهر الإكليل 2 / 259، وروضة الطالبين 9 /
178، 179، والمغني 7 / 674، وكشاف القناع 5 / 559، 560.
(2) الاختيار 5 / 31، والمغني 7 / 674.
(16/67)
فَلَمْ يَكُنْ مِثْلاً لَهَا، إِذْ
التَّجَانُسُ شَرْطٌ لِلْمُمَاثِلَةِ، وَكَذَا الرِّجْل، وَالإِْصْبَعُ،
وَالْعَيْنُ، وَالأَْنْفُ وَنَحْوُهَا. وَكَذَا لاَ تُؤْخَذُ الأَْصَابِعُ
إِلاَّ بِمِثْلِهَا، فَلاَ تُؤْخَذُ الإِْبْهَامُ إِلاَّ بِالإِْبْهَامِ،
وَلاَ السَّبَّابَةُ إِلاَّ بِالسَّبَّابَةِ، وَهَكَذَا فِي الْبَاقِي؛
لأَِنَّ مَنَافِعَ الأَْصَابِعِ مُخْتَلِفَةٌ، فَكَانَتْ كَالأَْجْنَاسِ
الْمُخْتَلِفَةِ.
وَكَذَلِكَ لاَ تُؤْخَذُ الْيَمِينُ بِالْيَسَارِ فِي كُل مَا انْقَسَمَ
إِلَى يَمِينٍ وَيَسَارٍ، كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَالأُْذُنَيْنِ
وَالْمَنْخِرَيْنِ وَغَيْرِهَا. وَكَذَلِكَ فِي الأَْسْنَانِ لاَ تُؤْخَذُ
الثَّنِيَّةُ إِلاَّ بِالثَّنِيَّةِ لاِخْتِلاَفِ مَنَافِعِهَا، فَإِنَّ
بَعْضَهَا قَوَاطِعُ، وَبَعْضَهَا ضَوَاحِكُ، وَاخْتِلاَفُ الْمَنْفَعَةِ
بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ يُلْحِقُهُمَا بِجِنْسَيْنِ، وَلاَ مُمَاثَلَةَ
عِنْدَ اخْتِلاَفِ الْجِنْسِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الأَْعْلَى
وَالأَْسْفَل مِنَ الأَْسْنَانِ لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَ الأَْعْلَى
وَالأَْسْفَل، وَهُوَ الْحُكْمُ فِي كُل مَا انْقَسَمَ إِلَى أَعْلَى
وَأَسْفَل (1) .
(5) الْمُمَاثَلَةُ فِي الْمَنْفَعَةِ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ
فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ أَنْ تَتَمَاثَل مَنَافِعُهَا
عِنْدَ الْجَانِي وَعِنْدَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ،
__________
(1) الاختيار 5 / 30 وما بعدها، والبدائع 7 / 297، 298، وابن عابدين 5 /
355، والشرح الصغير 4 / 351، وحاشية الزرقاني 8 / 16، 18، وروضة الطالبين 9
/ 188 وما بعدها، ط المكتب الإسلامي، والمغني 7 / 723 وما بعدها، وكشاف
القناع 5 / 553.
(16/68)
وَإِذَا اتَّحَدَ الْجِنْسُ فِي
الأَْطْرَافِ كَالْيَدِ وَالرِّجْل لَمْ يُؤَثِّرِ التَّفَاوُتُ فِي
الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، وَالطُّول وَالْقِصَرِ، وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ،
وَالضَّخَامَةِ وَالنَّحَافَةِ؛ لأَِنَّ الاِخْتِلاَفَ فِي الْحَجْمِ لاَ
يُؤَثِّرُ فِي مَنَافِعِهَا. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِ
الأَْعْضَاءِ عَلَى تَفْصِيلٍ يَأْتِي عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ أَنْوَاعِ
الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ مِنَ الأَْعْضَاءِ وَالأَْطْرَافِ
(1) .
إِمْكَانُ الاِسْتِيفَاءِ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ:
11 - يَتَحَقَّقُ هَذَا بِأَنْ يَكُونَ الْقَطْعُ مِنْ مَفْصِلٍ، فَإِنْ
كَانَ مِنْ غَيْرِ مَفْصِلٍ فَلاَ قِصَاصَ فِيهِ مِنْ مَوْضِعِ الْقَطْعِ
بِغَيْرِ خِلاَفٍ، وَقَدْ رَوَى نَمِرُ بْنُ جَابِرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ
رَجُلاً ضَرَبَ عَلَى سَاعِدِهِ بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهَا مِنْ غَيْرِ
مَفْصِلٍ، فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَمَرَ لَهُ بِالدِّيَةِ، قَال: إِنِّي أُرِيدُ الْقِصَاصَ،
قَال: خُذِ الدِّيَةَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا (2) ، وَلَمْ يَقْضِ
لَهُ بِالْقِصَاصِ (3) .
__________
(1) الاختيار 5 / 30، والبدائع 7 / 298، وشرح الزرقاني 8 / 15، 16، وروضة
الطالبين 9 / 188، 0 189، والمغني 7 / 734، وكشاف القناع 5 / 556.
(2) حديث: " خذ الدية بارك الله لك فيها ". أخرجه ابن ماجه (2 / 880 ط
الحلبي) من حديث جارية بن ظفرة. وقال البوصيري في الزوائد: " في إسناده
دهثم بن قران اليماني، ضعفه أبو داود ".
(3) ابن عابدين 5 / 354، وشرح الزرقاني 8 / 18 و 19، ونهاية المحتاج 7 /
284، وروضة الطالبين 9 / 181، والمغني 7 / 707.
(16/68)
وَهَذَا مَا لَمْ يَرْضَ الْمَجْنِيُّ
عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ مِنْ مَفْصِلٍ أَدْنَى مِنْ مَحَل الْجِنَايَةِ عَلَى
مَا سَيَأْتِي فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْعَظْمِ. .
أَنْوَاعُ الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ:
(إِذَا كَانَتْ عَمْدًا) :
12 - الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ
بِالْقَطْعِ وَالإِْبَانَةِ، أَوْ بِالْجُرْحِ الَّذِي يَشُقُّ، أَوْ
بِإِزَالَةِ مَنْفَعَةٍ بِلاَ شَقٍّ وَلاَ إِبَانَةَ.
النَّوْعُ الأَْوَّل - أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ بِالْقَطْعِ
وَالإِْبَانَةِ:
13 - يَجِبُ الْقِصَاصُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الأَْعْضَاءِ وَالأَْطْرَافِ
إِذَا أَدَّتْ إِلَى قَطْعِ الْعُضْوِ أَوِ الطَّرَفِ بِشُرُوطٍ
مُعَيَّنَةٍ، وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيل الْكَلاَمِ عَلَى كُلٍّ:
1 - الْجِنَايَةُ عَلَى الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ تُؤْخَذُ الْيَدُ بِالْيَدِ،
وَالرِّجْل بِالرِّجْل، وَلاَ يُؤَثِّرُ التَّفَاوُتُ فِي الْحَجْمِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَْوْصَافِ، فَتُؤْخَذُ الْيَدُ الصَّغِيرَةُ
بِالْكَبِيرَةِ، وَالْقَوِيَّةُ بِالضَّعِيفَةِ، وَيَدُ الصَّانِعِ بِيَدِ
الأَْخْرَقِ. وَلَكِنْ يُؤَثِّرُ الْكَمَال وَالصِّحَّةُ عَلَى الْوَجْهِ
التَّالِي:
أ - الْكَمَال:
15 - اخْتَلَفَتْ آرَاءُ الْفُقَهَاءِ فِي قَطْعِ كَامِلَةِ الأَْصَابِعِ
مِنْ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ بِنَاقِصَةِ الأَْصَابِعِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ
(16/69)
تُؤْخَذُ كَامِلَةُ الأَْصَابِعِ
بِنَاقِصَةِ الأَْصَابِعِ، لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ وَعَدَمِ
الْمُسَاوَاةِ، فَلَوْ قَطَعَ مَنْ لَهُ خَمْسُ أَصَابِعَ، يَدَ مَنْ لَهُ
أَقَل مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزِ الْقِصَاصُ؛ لأَِنَّهَا فَوْقَ حَقِّهِ،
وَلاَ ذَاتُ أَظْفَارٍ بِمَا لاَ أَظْفَارَ لَهَا؛ لِزِيَادَتِهَا عَلَى
حَقِّهِ، وَلاَ بِنَاقِصَةِ الأَْظْفَارِ، سَوَاءٌ رَضِيَ الْجَانِي
بِذَلِكَ أَمْ لاَ؛ لأَِنَّ الدِّمَاءَ لاَ تُسْتَبَاحُ بِالإِْبَاحَةِ.
وَإِنْ كَانَتْ أَظْفَارُ الْمَقْطُوعَةِ مِنْ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ خَضْرَاءَ
أَوْ رَدِيئَةٍ أُخِذَتْ بِهَا السَّلِيمَةُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ عِلَّةٌ
وَمَرَضٌ، وَالْمَرَضُ لاَ يَمْنَعُ الْقِصَاصَ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ وَجْهٌ لَدَى
الْحَنَابِلَةِ أَنَّ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْطَعَ مِنْ أَصَابِعِ
الْجَانِي بِعَدَدِ أَصَابِعِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْمَقْطُوعَةِ، أَوْ
يَأْخُذَ دِيَتَهَا.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ النُّقْصَانُ فِي طَرَفِ الْجَانِي، فَالْمَجْنِيُّ
عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ أَرْشَ
الصَّحِيحِ؛ لأَِنَّ حَقَّهُ فِي الْمِثْل هُوَ السَّلِيمُ، وَلاَ
يُمْكِنُهُ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ مِنْ كُل وَجْهٍ مَعَ فَوَاتِ
السَّلاَمَةِ، وَأَمْكَنَهُ مِنْ وَجْهٍ، وَلاَ سَبِيل إِلَى إِلْزَامِ
الاِسْتِيفَاءِ حَتْمًا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إِلْزَامِ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ
نَاقِصًا، وَهَذَا لاَ يَجُوزُ فَيُخَيَّرُ: إِنْ شَاءَ رَضِيَ بِقَدْرِ
حَقِّهِ وَاسْتَوْفَاهُ نَاقِصًا، وَإِنْ شَاءَ عَدَل إِلَى بَدَل حَقِّهِ
وَهُوَ كَمَال الأَْرْشِ، وَلَيْسَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ
يَأْخُذَهُ، وَيُضَمِّنَهُ النُّقْصَانَ، خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ فِي وَجْهٍ.
وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ النُّقْصَانِ إِذَا كَانَ أُصْبُعًا،
(16/69)
أَوْ أَكْثَرَ مِنْ أُصْبُعٍ فَقَالُوا:
إِنْ نَقَصَتْ يَدُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوْ رِجْلُهُ أُصْبُعًا،
فَالْقَوَدُ عَلَى الْجَانِي الْكَامِل الأَْصَابِعِ وَلاَ غَرَامَةَ
عَلَيْهِ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ الأُْصْبُعُ النَّاقِصُ إِبْهَامًا. وَإِنْ
كَانَ النَّاقِصُ أَكْثَرَ مِنْ أُصْبُعٍ بِأَنْ نَقَصَتِ الْيَدُ
أُصْبُعَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَلاَ يُقْتَصُّ مِنَ الْكَامِلَةِ.
وَكَذَلِكَ تُقْطَعُ يَدُ أَوْ رِجْل الْجَانِي النَّاقِصَةُ أُصْبُعًا
بِالْكَامِلَةِ بِلاَ غُرْمٍ عَلَيْهِ لأَِرْشِ الأُْصْبُعِ، إِذْ هُوَ
نَقْصٌ لاَ يَمْنَعُ الْمُمَاثَلَةَ. وَلاَ خِيَارَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ
فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
وَيُخَيَّرُ إِنْ نَقَصَتْ يَدُ الْجَانِي أَوْ رِجْلُهُ أَكْثَر مِنْ
أُصْبُعٍ فِي الْقِصَاصِ، وَأَخْذِ الدِّيَةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ
يَقْتَصَّ وَيَأْخُذَ أَرْشَ النَّاقِصِ.
وَأَمَّا النَّاقِصَةُ بِالنَّاقِصَةِ، فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ
وَهُوَ مُقْتَضَى قَوَاعِدِ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى، بِأَنَّهُ تُؤْخَذُ
إِذَا تَسَاوَتَا فِيهِ، بِأَنْ يَكُونَ الْمَقْطُوعُ مِنْ يَدِ الْجَانِي
كَالْمَقْطُوعِ مِنْ يَدِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُمَا تَسَاوَتَا
فِي الذَّاتِ وَالصِّفَةِ، فَأَمَّا إِنِ اخْتَلَفَا فِي النَّقْصِ، بِأَنْ
يَكُونَ الْمَقْطُوعُ مِنْ يَدِ أَحَدِهِمَا الإِْبْهَامَ، وَمِنَ
الأُْخْرَى أُصْبُعَ غَيْرِهَا لَمْ يَجُزِ الْقِصَاصُ؛ لِعَدَمِ
الْمُسَاوَاةِ (1) .
ب - الصِّحَّةُ:
16 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ تُقْطَعُ يَدٌ أَوْ رِجْلٌ
__________
(1) البدائع 7 / 298، وروضة الطالبين 9 / 194، 202، وكشاف القناع 5 / 556،
557، والمغني 7 / 734، 735، وشرح الزرقاني 8 / 19.
(16/70)
صَحِيحَةٌ بِشَلاَّءَ وَإِنْ رَضِيَ
الْجَانِي؛ لأَِنَّ الشَّلاَّءَ لاَ نَفْعَ فِيهَا سِوَى الْجَمَال، فَلاَ
يُؤْخَذُ بِهَا مَا فِيهِ نَفْعٌ، وَالْوَاجِبُ فِي الطَّرَفِ الأَْشَل
حُكُومَةُ عَدْلٍ.
وَاخْتَلَفُوا فِي قَطْعِ الشَّلاَّءِ بِالصَّحِيحَةِ، وَقَطْعِ
الشَّلاَّءِ بِالشَّلاَّءِ عَلَى أَقْوَالٍ: فَفِي قَطْعِ الشَّلاَّءِ
بِالصَّحِيحَةِ: يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْمَجْنِيَّ
عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخَذَهَا، فَذَلِكَ لَهُ، وَلاَ شَيْءَ
لَهُ غَيْرُهَا، وَإِنْ شَاءَ عَفَا، وَأَخَذَ دِيَةَ يَدِهِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي وَجْهٍ لاَ تُقْطَعُ يَدُ
الْجَانِي إِذَا كَانَتْ شَلاَّءَ بِالْيَدِ الصَّحِيحَةِ؛ لأَِنَّ
الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِالْقِصَاصِ فِيهَا. وَعَلَيْهِ الْعَقْل أَيِ
الدِّيَةُ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْوَجْهُ الصَّحِيحُ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا تُقْطَعُ إِنْ قَال أَهْل الْخِبْرَةِ
وَالْبَصَرِ، بِأَنَّهُ يَنْقَطِعُ الدَّمُ، وَلاَ تُقْطَعُ إِنْ قَالُوا:
لاَ يَنْسَدُّ فَمُ الْعُرُوقِ بِالْحَسْمِ، وَلاَ يَنْقَطِعُ الدَّمُ،
وَتَجِبُ دِيَةُ يَدِهِ.
وَفِي قَطْعِ الشَّلاَّءِ بِالشَّلاَّءِ: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ،
وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ تُقْطَعُ، لأَِنَّ
الشَّلَل عِلَّةٌ، وَالْعِلَل يَخْتَلِفُ تَأْثِيرُهَا فِي الْبَدَنِ.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الصَّحِيحُ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ
أَنَّهُمَا إِنِ اسْتَوَيَا فِي الشَّلَل، أَوْ كَانَ شَلَل يَدِ
الْقَاطِعِ أَكْثَرَ قُطِعَتْ بِهَا بِشَرْطِ أَنْ لاَ يُخَافَ نَزْفُ
(16/70)
الدَّمِ. وَإِنْ كَانَ الشَّلَل فِي يَدِ
الْمَقْطُوعِ أَكْثَرَ لَمْ يُقْطَعْ بِهَا (1) .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ بَيْنَ
الأَْشَلَّيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْمَقْطُوعَةُ يَدُهُ أَقَل شَلَلاً
أَمْ أَكْثَرَهُمَا، أَمْ هُمَا سَوَاءٌ؛ لأَِنَّ بَعْضَ الشَّلَل فِي
يَدَيْهِمَا يُوجِبُ اخْتِلاَفَ أَرْشَيْهِمَا، وَذَلِكَ يُعْرَفُ
بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ، فَلاَ تُعْرَفُ الْمُمَاثَلَةُ.
وَقَال زُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ كَانَا سَوَاءً فَفِيهِمَا
الْقِصَاصُ، وَإِنْ كَانَتْ يَدُ الْمَقْطُوعَةِ يَدُهُ أَقَل شَلَلاً
كَانَ بِالْخِيَارِ، وَإِنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَ الْقَاطِعِ، وَإِنْ شَاءَ
ضَمَّنَهُ أَرْشَ يَدِهِ شَلاَّءَ، وَإِنْ كَانَتْ يَدُ الْمَقْطُوعَةِ
يَدُهُ أَكْثَرَ شَلَلاً، فَلاَ قِصَاصَ وَلَهُ أَرْشُ يَدِهِ (2) .
2 - الْجِنَايَةُ عَلَى الْعَيْنِ:
17 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى
الْعَيْنِ بِالْقَلْعِ مُوجِبَةٌ لِلْقِصَاصِ؛ لِلآْيَةِ الْكَرِيمَةِ
{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ
بِالْعَيْنِ. . .} ؛ وَلأَِنَّهَا تَنْتَهِي إِلَى مَفْصِلٍ فَجَرَى
الْقِصَاصُ فِيهَا كَالْيَدِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَسْرُوقٌ، الْحَسَنُ،
وَابْنُ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ،
وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، كَمَا
__________
(1) البدائع 7 / 298، وشرح الزرقاني 8 / 16، وروضة الطالبين 9 / 193،
والمغني 7 / 735، وكشاف القناع 5 / 557.
(2) البدائع 7 / 303.
(16/71)
رُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ.
وَتُؤْخَذُ عَيْنُ الشَّابِّ بِعَيْنِ الشَّيْخِ، وَعَيْنُ الصَّغِيرِ،
بِعَيْنِ الْكَبِيرِ؛ لأَِنَّ التَّفَاوُتَ فِي الصِّفَةِ لاَ يَمْنَعُ
الْقِصَاصَ، لَكِنْ إِنْ كَانَ الْجَانِي قَدْ قَلَعَ عَيْنَهُ
بِأُصْبُعِهِ لاَ يَجُوزُ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَصَّ
بِإِصْبَعِهِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ الْمُمَاثَلَةُ فِيهِ (1) .
وَأَمَّا أَخْذُ الْعَيْنِ السَّلِيمَةِ بِالْمَرِيضَةِ، فَقَدْ ذَهَبَ
الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ تُؤْخَذُ الْعَيْنُ
السَّلِيمَةُ بِالضَّعِيفَةِ الإِْبْصَارِ (2) .
وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - فِي الأَْرْجَحِ - إِلَى أَنَّهُ لَوْ
فَقَأَ شَخْصٌ عَيْنًا حَوْلاَءَ، وَكَانَ الْحَوَل لاَ يَضُرُّ بِبَصَرِهِ
يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَإِلاَّ فَفِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ. وَعَنْ أَبِي
يُوسُفَ لاَ قِصَاصَ فِي الْعَيْنِ الْحَوْلاَءِ مُطْلَقًا. وَعِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ لَوْ جَنَى عَلَى عَيْنٍ فِيهَا بَيَاضٌ يُبْصِرُ بِهَا،
وَعَيْنُ الْجَانِي كَذَلِكَ فَلاَ قِصَاصَ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ فَقَأَ
عَيْنَ رَجُلٍ، وَفِي عَيْنِ الْفَاقِئِ بَيَاضٌ يُنْقِصُهَا، فَلِلرَّجُل
أَنْ يَفْقَأَ الْبَيْضَاءَ، أَوْ أَنْ يَأْخُذَ أَرْشَ عَيْنِهِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ تُؤْخَذُ الْعَيْنُ السَّلِيمَةُ
بِالْحَدَقَةِ الْعَمْيَاءِ (3) .
__________
(1) الاختيار 5 / 31، وابن عابدين 5 / 354، والبدائع 7 / 296، 297، 307،
308، وشرح الزرقاني 8 / 5، وروضة الطالبين 9 / 197، والمغني 7 / 715، وما
بعدها، وكشاف القناع 5 / 549.
(2) الزرقاني 8 / 19، وكشاف القناع 5 / 549، والمغني 7 / 715.
(3) ابن عابدين 5 / 354، وشرح الزرقاني 8 / 5، وروضة الطالبين 9 / 197،
وكشاف القناع 5 / 549، والمغني 7 / 715.
(16/71)
جِنَايَةُ الأَْعْوَرِ عَلَى صَحِيحِ
الْعَيْنَيْنِ وَعَكْسُهَا:
18 - إِذَا قَلَعَ الأَْعْوَرُ الْعَيْنَ الْيُمْنَى لِصَحِيحِ
الْعَيْنَيْنِ، وَيُسْرَى الْفَاقِئِ ذَاهِبَةٌ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَيُتْرَكُ أَعْمَى،
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَسْرُوقٌ وَالشَّعْبِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَابْنُ
مُغَفَّلٍ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ.
وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: إِنْ فَقَأَ أَعْوَرُ مِنْ سَالِمٍ
مُمَاثَلَتَهُ فَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ: إِنْ شَاءَ اقْتَصَّ،
وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَةً كَامِلَةً، وَإِنْ فَقَأَ غَيْرَ مُمَاثَلَتِهِ
فَنِصْفُ دِيَةٍ فَقَطْ فِي مَال الْجَانِي، وَلَيْسَ لِلْمَجْنِيِّ
عَلَيْهِ الْقِصَاصُ؛ لاِنْعِدَامِ مَحَلِّهِ، وَإِنْ فَقَأَ الأَْعْوَرُ
عَيْنَيِ السَّالِمِ عَمْدًا فَالْقِصَاصُ فِي الْمُمَاثِلَةِ لِعَيْنِهِ،
وَنِصْفُ الدِّيَةِ فِي الْعَيْنِ الَّتِي لَيْسَ لَهُ مِثْلُهَا (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِنْ قَلَعَ الأَْعْوَرُ عَيْنَ صَحِيحٍ فَلاَ
قَوَدَ، وَعَلَيْهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ؛ لأَِنَّهُ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ
وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمَا مُخَالِفٌ
فِي عَصْرِهِمَا، فَصَارَ إِجْمَاعًا. وَلأَِنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ بِجَمِيعِ
بَصَرِهِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الاِقْتِصَاصُ مِنْهُ بِجَمِيعِ بَصَرِهِ،
كَمَا لَوْ كَانَ ذَا عَيْنَيْنِ.
وَصَرَّحَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ كَالْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ بِأَنَّهُ إِنْ
شَاءَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَخَذَ دِيَةً كَامِلَةً، وَإِنْ شَاءَ
اقْتَصَّ، وَأَعْطَاهُ نِصْفَ دِيَةٍ.
__________
(1) ابن عابدين 5 / 354، وشرح الزرقاني 8 / 20، والمغني 7 / 717 وما بعدها.
(16/72)
وَإِنْ قَلَعَ الأَْعْوَرُ عَيْنَيْ
صَحِيحٍ فَقَدْ صَرَّحَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّ
الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَلاَ شَيْءَ لَهُ
سِوَى ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ أَخَذَ جَمِيعَ بَصَرِهِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ
دِيَةً وَاحِدَةً وَهُوَ الصَّحِيحُ (1) ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ (2) .
وَإِذَا فَقَأَ صَحِيحُ الْعَيْنَيْنِ الْعَيْنَ السَّالِمَةَ مِنْ عَيْنِ
أَعْوَرَ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ وَجْهٌ لَدَى الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ
لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْقَوَدَ بِأَخْذِ نَظِيرَتِهَا مِنْ صَحِيحِ
الْعَيْنَيْنِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، أَوْ أَخْذِ الدِّيَةِ كَامِلَةً؛
لأَِنَّ عَيْنَهُ بِمَنْزِلَةِ عَيْنَيْنِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ لَهُ الْقِصَاصَ مِنْ
مِثْلِهَا، وَيَأْخُذُ نِصْفَ الدِّيَةِ؛ لأَِنَّهُ ذَهَبَ بِجَمِيعِ
بَصَرِهِ، وَأَذْهَبَ الضَّوْءَ الَّذِي بَدَلُهُ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَقَدْ
تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ جَمِيعِ الضَّوْءِ، إِذْ لاَ يُمْكِنُ أَخْذُ
عَيْنَيْنِ بِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ، وَلاَ أَخْذُ يُمْنَى بِيُسْرَى، فَوَجَبَ
الرُّجُوعُ بِبَدَل نِصْفِ الضَّوْءِ.
__________
(1) المغني 7 / 718 وما بعدها.
(2) شرح الزرقاني 8 / 20، والشرح الصغير 4 / 352، 356، وجواهر الإكليل 2 /
261 وما بعدها، والمغني 7 / 718، 719. وحديث: " وفي العينين الدية " أخرجه
النسائي (8 / 58 - ط المكتبة التجارية) من حديث عمرو بن حزم، وهو شطر من
حديث طويل سيأتي الاستشهاد ببعضه، وقال ابن حجر في التلخيص (4 / 18 - ط
شركة الطباعة الفنية) : " صحح الحديث بالكتاب المذكور جماعة من الأئمة ".
(16/72)
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَيُحْتَمَل أَنَّهُ
لَيْسَ لَهُ إِلاَّ الْقِصَاصُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ أَوِ الْعَفْوُ عَلَى
الدِّيَةِ كَمَا لَوْ قَطَعَ الأَْشَل يَدًا صَحِيحَةً، وَلِعُمُومِ قَوْله
تَعَالَى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} .
وَلَوْ قَلَعَ الأَْعْوَرُ عَيْنَ مِثْلِهِ فَفِيهِ الْقِصَاصُ بِغَيْرِ
خِلاَفٍ؛ لِتَسَاوِيهِمَا مِنْ كُل وَجْهٍ، إِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ مِثْل
الْعَيْنِ فِي كَوْنِهَا يَمِينًا أَوْ يَسَارًا، وَإِنْ عَفَا إِلَى
الدِّيَةِ فَلَهُ جَمِيعُهَا (1) .
19 - أَمَّا الأَْجْفَانُ، وَالأَْشْفَارُ، فَلاَ قِصَاصَ فِيهَا عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا
بِالدِّيَةِ وَالْمَالِكِيَّةَ بِحُكُومَةِ عَدْلٍ (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِيهَا الْقِصَاصُ؛ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ (3) } ، وَلأَِنَّهُ يُمْكِنُ الْقِصَاصُ
فِيهِ لاِنْتِهَائِهِ إِلَى مَفْصِلٍ، وَيُؤْخَذُ جَفْنُ الْبَصِيرِ
بِجَفْنِ الْبَصِيرِ وَالضَّرِيرِ، وَجَفْنُ الضَّرِيرِ بِكُل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا لأَِنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِي السَّلاَمَةِ مِنَ النَّقْصِ (4) .
3 - الْجِنَايَةُ عَلَى الأَْنْفِ:
20 - الْجِنَايَةُ عَلَى الْمَارِنِ - وَهُوَ مَا لاَنَ مِنَ الأَْنْفِ
__________
(1) البدائع 7 / 308، 314، والاختيار 5 / 38، والقوانين الفقهية / 345،
والشرح الصغير 4 / 353، وشرح الزرقاني 8 / 41، وجواهر الإكليل 2 / 261 وما
بعدها.
(2) المراجع السابقة
(3) سورة المائدة / 45.
(4) روضة الطالبين 9 / 179، والمغني 7 / 719، 720، وكشاف القناع 5 / 551.
(16/73)
- مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ عِنْدَ الأَْئِمَّةِ
الأَْرْبَعَةِ، لِلآْيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَالأَْنْفَ بِالأَْنْفِ (1) } ،
وَلأَِنَّ اسْتِيفَاءَ الْمِثْل فِيهِ مُمْكِنٌ؛ لأَِنَّ لَهُ حَدًّا
مَعْلُومًا وَهُوَ مَا لاَنَ مِنْهُ، وَإِنْ قَطَعَ الْمَارِنَ كُلَّهُ
مَعَ قَصَبَةِ الأَْنْفِ، فَفِي الْمَارِنِ الْقِصَاصُ، وَفِي الْقَصَبَةِ
حُكُومَةُ عَدْلٍ إِذْ لاَ قِصَاصَ فِي الْعَظْمِ وَلَكِنْ فِي الْمَارِنِ
قِصَاصٌ (2) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُؤْخَذُ الأَْنْفُ
الْكَبِيرُ بِالصَّغِيرِ، وَالأَْقْنَى بِالأَْفْطَسِ، وَأَنْفُ صَحِيحِ
الشَّمِّ بِالأَْخْشَمِ الَّذِي لاَ يَشُمُّ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ لِعِلَّةٍ فِي
الدِّمَاغِ، وَالأَْنْفُ صَحِيحٌ. وَكَذَلِكَ يُؤْخَذُ الصَّحِيحُ
بِالْمَجْذُومِ مَا لَمْ يَسْقُطْ مِنْهُ شَيْءٌ، لأَِنَّ ذَلِكَ مَرَضٌ،
فَإِنْ سَقَطَ مِنْهُ شَيْءٌ، يُقْطَعُ مِنْهُ مَا كَانَ بَقِيَ مِنَ
الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِنْ أَمْكَنَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَال
الْحَنَابِلَةُ: الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ: إِنْ شَاءَ قَطَعَ
مِثْل مَا بَقِيَ مِنْهُ، أَوْ أَخَذَ أَرْشَ ذَلِكَ.
وَفَصَّل الْبَغَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ فَقَال: يُؤْخَذُ الأَْنْفُ
السَّلِيمُ بِالْمَجْذُومِ إِنْ كَانَ فِي حَال الاِحْمِرَارِ، وَإِنِ
اسْوَدَّ فَلاَ قِصَاصَ؛ لأَِنَّهُ دَخَل فِي حَدِّ الْبِلَى، وَإِنَّمَا
تَجِبُ فِيهِ الْحُكُومَةُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ أَنْفُ الْقَاطِعِ
__________
(1) سورة المائدة / 45.
(2) ابن عابدين 5 / 354، والبدائع 7 / 308، وجواهر الإكليل 2 / 259، وروضة
الطالبين 9 / 196، والمغني 7 / 712، ونهاية المحتاج 7 / 284، 285.
(16/73)
أَصْغَرَ، خُيِّرَ الْمَقْطُوعُ أَنْفُهُ
الْكَبِيرُ إِنْ شَاءَ قَطَعَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الأَْرْشَ، وَكَذَا
إِذَا كَانَ قَاطِعُ الأَْنْفِ أَخْشَمَ، أَوْ أَصْرَمَ الأَْنْفِ، أَوْ
بِأَنْفِهِ نُقْصَانٌ مِنْ شَيْءٍ أَصَابَهُ، فَإِنَّ الْمَقْطُوعَ
مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقَطْعِ وَبَيْنَ أَخْذِ دِيَةِ أَنْفِهِ.
وَيُؤْخَذُ الْمَنْخِرُ الأَْيْمَنُ بِالأَْيْمَنِ، وَالأَْيْسَرُ
بِالأَْيْسَرِ، وَلاَ يُؤْخَذُ الْعَكْسُ، وَيُؤْخَذُ الْحَاجِزُ
بِالْحَاجِزِ؛ لأَِنَّهُ يُمْكِنُ الْقِصَاصُ فِيهِ لاِنْتِهَائِهِ إِلَى
حَدٍّ.
وَفِي قَطْعِ بَعْضِ الْمَارِنِ الْقِصَاصُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ، وَقُدِّرَ ذَلِكَ بِالأَْجْزَاءِ دُونَ الْمِسَاحَةِ،
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ قِصَاصَ فِيهِ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ
الْمِثْل (1) .
4 - الْجِنَايَةُ عَلَى الأُْذُنِ:
21 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الأُْذُنَ تُؤْخَذُ
بِالأُْذُنِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالأُْذُنَ بِالأُْذُنِ (2) } .
وَلأَِنَّهَا تَنْتَهِي إِلَى حَدٍّ فَاصِلٍ، فَأَشْبَهَتِ الْيَدَ، وَلاَ
فَرْقَ بَيْنَ الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ
أُذُنِ السَّمِيعِ وَالأَْصَمِّ؛ لِتَسَاوِيهِمَا، فَإِنَّ ذَهَابَ
السَّمْعِ نَقْصٌ فِي الرَّأْسِ؛ لأَِنَّهُ مَحَلُّهُ،
__________
(1) ابن عابدين 5 / 354، والبدائع 7 / 308، ونهاية المحتاج 7 / 290، وروضة
الطالبين 9 / 196، والمغني 7 / 712 - 713.
(2) سورة المائدة / 45
(16/74)
وَلَيْسَ بِنَقْصٍ فِيهَا، كَمَا نَصَّ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَخْذِ الأُْذُنِ الشَّلاَّءِ بِغَيْرِهَا،
لِبَقَاءِ مَنْفَعَتِهَا بِجَمْعِ الصَّوْتِ.
فَإِنْ قُطِعَ بَعْضُهَا، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
أَنَّهُ يُقْتَصُّ فِي بَعْضِ الأُْذُنِ، وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ
فِيهِ الْقِصَاصَ إِنْ كَانَ لَهُ حَدٌّ يُعْرَفُ وَتُمْكِنُ فِيهِ
الْمُمَاثَلَةُ، وَإِلاَّ سَقَطَ الْقِصَاصُ (1) .
وَتُؤْخَذُ الصَّحِيحَةُ بِالْمَثْقُوبَةِ؛ لأَِنَّ الثُّقْبَ لَيْسَ
بِعَيْبٍ، وَإِنَّمَا يُفْعَل فِي الْعَادَةِ لِلْقُرْطِ وَالتَّزَيُّنِ
بِهِ، فَإِنْ كَانَ الثُّقْبُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، أَوْ كَانَتْ أُذُنُ
الْقَاطِعِ مَخْرُومَةً، وَالْمَقْطُوعَةُ سَالِمَةً، فَذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ
قَطَعَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَتِ
الْمَقْطُوعَةُ نَاقِصَةً كَانَتْ لَهُ حُكُومَةُ عَدْلٍ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تُؤْخَذُ الْمَخْرُومَةُ بِالصَّحِيحَةِ،
وَيُؤْخَذُ مِنَ الدِّيَةِ بِقَدْرِ مَا ذَهَبَ مِنَ الْمَخْرُومَةِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: تُؤْخَذُ الْمَخْرُومَةُ بِالصَّحِيحَةِ، وَلاَ
تُؤْخَذُ الصَّحِيحَةُ بِهَا؛ لأَِنَّ الثُّقْبَ إِذَا انْخَرَمَ صَارَ
نَقْصًا فِيهَا، وَالثُّقْبُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ عَيْبٌ.
أَمَّا الأُْذُنُ الْمُسْتَحْشِفَةُ (الْيَابِسَةُ) فَتُؤْخَذُ
بِالصَّحِيحَةِ، وَكَذَلِكَ الصَّحِيحَةُ تُؤْخَذُ بِهَا فِي الأَْظْهَرِ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 354، والبدائع 7 / 308، وجواهر الإكليل 2 / 259، وروضة
الطالبين 9 / 189، 196، والمغني 7 / 711 وكشاف القناع 5 / 549.
(16/74)
الْمَقْصُودَ مِنْهَا جَمْعُ الصَّوْتِ،
وَحِفْظُ مَحَل السَّمْعِ وَالْجَمَال، وَهَذَا يَحْصُل بِهَا، كَحُصُولِهِ
بِالصَّحِيحَةِ بِخِلاَفِ سَائِرِ الأَْعْضَاءِ. وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ آخَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ
تُؤْخَذُ الصَّحِيحَةُ بِالْمُسْتَحْشِفَةِ؛ لأَِنَّهَا نَاقِصَةٌ،
فَتَكُونُ كَالْيَدِ الشَّلاَّءِ، وَسَائِرِ الأَْعْضَاءِ (1) .
5 - الْجِنَايَةُ عَلَى اللِّسَانِ:
22 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ
الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ - إِلَى أَنَّهُ يُؤْخَذُ اللِّسَانُ بِاللِّسَانِ،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ (2) } . وَلأَِنَّ لَهُ حَدًّا
يَنْتَهِي إِلَيْهِ، فَاقْتُصَّ مِنْهُ كَالْعَيْنِ، وَلاَ يُؤْخَذُ
لِسَانُ نَاطِقٍ بِلِسَانِ أَخْرَسَ؛ لأَِنَّهُ أَفْضَل مِنْهُ، وَيَجُوزُ
الْعَكْسُ بِرِضَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ، وَلاَ يَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - مَا عَدَا أَبَا يُوسُفَ - إِلَى أَنَّهُ لاَ
قِصَاصَ فِي اللِّسَانِ، وَلَوْ قُطِعَ مِنْ أَصْلِهِ، وَذَلِكَ لِعُسْرِ
اسْتِقْصَاءِ اللِّسَانِ مِنْ أَصْلِهِ (4) .
__________
(1) روضة الطالبين 9 / 195، 196، وكشاف القناع 5 / 549، والمغني 7 / 711.
(2) سورة المائدة / 45.
(3) شرح الزرقاني 8 / 16، وجواهر الإكليل 2 / 259، وروضة الطالبين 9 / 197،
وكشاف القناع 5 / 549، والمغني 7 / 723.
(4) ابن عابدين 5 / 357، والبدائع 7 / 308.
(16/75)
6 - الْجِنَايَةُ عَلَى الشَّفَةِ:
23 - يَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ
وَالْحَنَابِلَةُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ فِي الشَّفَةِ مُطْلَقًا لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ (1) } . وَلأَِنَّ لَهَا حَدًّا يَنْتَهِي
إِلَيْهِ، يُمْكِنُ الْقِصَاصُ مِنْهُ، فَوَجَبَ كَالْيَدَيْنِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الشَّفَةِ
إِذَا قَطَعَهَا جَمِيعًا؛ لِلْمُسَاوَاةِ، وَإِمْكَانِ اسْتِيفَاءِ
الْمِثْل.
7 - الْجِنَايَةُ عَلَى السِّنِّ:
24 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَةِ
عَلَى السِّنِّ إِذَا قُلِعَتْ.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى
السِّنِّ إِذَا كُسِرَتْ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:
{وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ (3) } ، وَلأَِنَّ الرُّبَيِّعَ كَسَرَتْ سِنَّ
جَارِيَةٍ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالْقِصَاصِ كَمَا تَقَدَّمَ؛ وَلأَِنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْل
فِيهِ، فَإِنْ قَلَعَتْ تُقْلَعُ، وَإِنْ كَسَرَتْ تُبْرَدُ بِقَدْرِهِ
تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ، أَمَّا لَوْ كَانَتِ السِّنُّ بِحَالٍ لاَ
يُمْكِنُ
__________
(1) سورة المائدة / 45.
(2) الاختيار 5 / 31، والبدائع 7 / 308، وابن عابدين 5 / 357، وروضة
الطالبين 9 / 182، وكشاف القناع 5 / 549، 553، 557، والمغني 7 / 723.
(3) سورة المائدة / 45.
(16/75)
بَرْدُهَا فَلاَ قِصَاصَ فِيهَا وَتَجِبُ
الدِّيَةُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِي
السِّنِّ إِذَا كَسَرَهَا، بِنَاءً عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي
كَسْرِ الْعِظَامِ إِلاَّ إِذَا أَمْكَنَ فِيهَا الْقِصَاصُ فَإِنَّهُ
يَجِبُ لأَِنَّ السِّنَّ عَظْمٌ مُشَاهَدٌ مِنْ أَكْثَرِ الْجَوَانِبِ
وَلأَِهْل الصَّنْعَةِ آلاَتٌ قَطَّاعَةٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا فِي
الضَّبْطِ فَلَمْ تَكُنْ كَسَائِرِ الْعِظَامِ.
وَلاَ اعْتِبَارَ بِالْكِبَرِ وَالصِّغَرِ، وَالطُّول وَالْقِصَرِ؛
لاِسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَنْفَعَةِ، وَتُؤْخَذُ الثَّنِيَّةُ
بِالثَّنِيَّةِ، وَالنَّابُ بِالنَّابِ، وَلاَ يُؤْخَذُ الأَْعْلَى
بِالأَْسْفَل، وَلاَ الأَْسْفَل بِالأَْعْلَى، وَلاَ تُؤْخَذُ السِّنُّ
الصَّحِيحَةُ بِالْمَكْسُورَةِ، وَتُؤْخَذُ الْمَكْسُورَةُ بِالصَّحِيحَةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي
السِّنِّ الزَّائِدَةِ إِذَا كَانَ لِلْجَانِي زَائِدَةٌ مِثْلُهَا.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إِلاَّ حُكُومَةُ عَدْلٍ (1)
.
8 - الْجِنَايَةُ عَلَى ثَدْيِ الْمَرْأَةِ:
25 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ تُقْطَعُ
حَلَمَةُ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 354، 355، والاختيار 5 / 31، وشرح الزرقاني 8 / 20،
والشرح الصغير 4 / 390، وروضة الطالبين 9 / 198، والمغني 7 / 722، ومغني
المحتاج 4 / 35.
(16/76)
الْمَرْأَةِ بِحَلَمَةِ الْمَرْأَةِ؛
لأَِنَّ لَهَا حَدًّا مَعْلُومًا، فَيُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْل فِيهَا،
وَلاَ قِصَاصَ فِي ثَدْيَيْهَا؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ لَهُمَا مَفْصِلٌ
مَعْلُومٌ، فَلاَ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْل.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَال النَّوَوِيُّ: تُقْطَعُ حَلَمَةُ
الْمَرْأَةِ بِحَلَمَةِ الْمَرْأَةِ، وَفِي " التَّتِمَّةِ " وَجْهٌ
أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَدَل الثَّدْيُ، فَلاَ قِصَاصَ؛ لاِتِّصَالِهَا
بِلَحْمِ الصَّدْرِ، وَتَعَذُّرِ التَّمْيِيزِ، وَالصَّحِيحُ الأَْوَّل،
قَال الْبَغَوِيُّ: وَلاَ قِصَاصَ فِي الثَّدْيِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ
الْمُمَاثَلَةُ، وَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهَا أَنْ تَقْتَصَّ فِي
الْحَلَمَةِ، وَتَأْخُذَ حُكُومَةَ الثَّدْيِ، وَلَكَ أَنْ تَقُول.
الْمُمَاثَلَةُ مُمْكِنَةٌ، فَإِنَّ الثَّدْيَ هَذَا الشَّاخِصَ، وَهُوَ
أَقْرَبُ إِلَى الضَّبْطِ مِنَ الشَّفَتَيْنِ وَالأَْلْيَتَيْنِ
وَنَحْوِهِمَا.
وَتُقْطَعُ حَلَمَةُ الرَّجُل بِحَلَمَةِ الرَّجُل إِنْ أَوْجَبْنَا فِيهَا
الْحُكُومَةَ أَوِ الدِّيَةَ، وَتُقْطَعُ حَلَمَةُ الرَّجُل بِحَلَمَةِ
الْمَرْأَةِ وَبِالْعَكْسِ، إِنْ أَوْجَبْنَا فِي حَلَمَةِ الرَّجُل
الدِّيَةَ، فَإِنْ أَوْجَبْنَا الْحُكُومَةَ، لَمْ تُقْطَعْ حَلَمَتُهَا
بِحَلَمَتِهِ وَإِنْ رَضِيَتْ، كَمَا لاَ تُقْطَعُ صَحِيحَةٌ بِشَلاَّءَ،
وَتُقْطَعُ حَلَمَتُهُ بِحَلَمَتِهَا إِنْ رَضِيَتْ، كَمَا تُقْطَعُ
الشَّلاَّءُ بِالصَّحِيحَةِ إِذَا رَضِيَ الْمُسْتَحِقُّ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ فِي قَطْعِ الثَّدْيَيْنِ الدِّيَةَ
سَوَاءٌ أَبْطَل اللَّبَنَ، أَوْ فَسَدَ، أَمْ لاَ. وَفِي قَطْعِ
حَلَمَتَيِ الثَّدْيَيْنِ الدِّيَةُ إِذَا بَطَل اللَّبَنُ أَوْ فَسَدَ.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ فِي انْقِطَاعِ اللَّبَنِ أَوْ فَسَادِهِ
(16/76)
بِغَيْرِ قَطْعٍ لِلثَّدْيَيْنِ، أَوْ
لِلْحَلَمَتَيْنِ الدِّيَةَ، فَإِنْ عَادَ اللَّبَنُ رُدَّتِ الدِّيَةُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ فِي ثَدْيَيِ الْمَرْأَةِ الدِّيَةَ
وَفِي الْوَاحِدِ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ كَالْجُمْهُورِ، وَأَنَّ فِي
قَطْعِ حَلَمَتَيِ الثَّدْيَيْنِ الدِّيَةَ، وَلاَ قِصَاصَ فِيهِمَا (1) .
9 - الْجِنَايَةُ عَلَى الذَّكَرِ:
26 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْقِصَاصَ يَجْرِي فِي
الذَّكَرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ (2) } ، وَلأَِنَّ
لَهُ حَدًّا يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَيُمْكِنُ الْقِصَاصُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ
حَيْفٍ، فَوَجَبَ فِيهِ الْقِصَاصُ كَالأَْنْفِ. وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ
ذَكَرُ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَالشَّيْخِ وَالشَّابِّ وَالْكَبِيرِ
وَالصَّغِيرِ، وَالْمَرِيضِ وَالصَّحِيحِ؛ لأَِنَّ مَا وَجَبَ فِيهِ
الْقِصَاصُ مِنَ الأَْطْرَافِ لَمْ يَخْتَلِفْ بِهَذِهِ الْمَعَانِي،
كَذَلِكَ الذَّكَرُ. وَيُؤْخَذُ الْمَخْتُونُ بِالأَْغْلَفِ وَعَكْسُهُ؛
لأَِنَّ الْغُلْفَةَ زِيَادَةٌ تُسْتَحَقُّ إِزَالَتُهَا فَهِيَ
كَالْمَعْدُومَةِ. وَيُؤْخَذُ ذَكَرُ الْخَصِيِّ بِذَكَرِ الْخَصِيِّ،
وَذَكَرُ الْعِنِّينِ بِمِثْلِهِ؛ لِحُصُول الْمُسَاوَاةِ.
أَمَّا ذَكَرُ فَحْلٍ بِذَكَرِ خَصِيٍّ أَوْ عِنِّينٍ فَعِنْدَ
__________
(1) البدائع 7 / 309، وروضة الطالبين 9 / 286، والدسوقي 4 / 273، والمغني 8
/ 30.
(2) سورة المائدة / 45.
(16/77)
الْمَالِكِيَّةِ وَجُمْهُورِ
الْحَنَابِلَةِ لاَ يُؤْخَذُ بِهِمَا؛ لأَِنَّهُ لاَ مَنْفَعَةَ فِيهِمَا؛
وَلأَِنَّ الْعِنِّينَ لاَ يَطَأُ، وَلاَ يُنْزِل، وَالْخَصِيَّ لاَ
يُولَدُ لَهُ، وَلاَ يُنْزِل، وَلاَ يَكَادُ يَقْدِرُ عَلَى الْوَطْءِ
فَهُمَا كَالأَْشَل؛ وَلأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَاقِصٌ، فَلاَ
يُؤْخَذُ بِهِ الْكَامِل، كَالْيَدِ النَّاقِصَةِ بِالْكَامِلَةِ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ لَدَى الْحَنَابِلَةِ
أَنَّهُ يُؤْخَذُ غَيْرُهُمَا بِهِمَا؛ لأَِنَّهُمَا عُضْوَانِ صَحِيحَانِ،
يَنْقَبِضَانِ، وَيَنْبَسِطَانِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ
لاَ قِصَاصَ فِي قَطْعِ ذَكَرٍ وَلَوْ مِنْ أَصْلِهِ؛ لأَِنَّهُ يَنْقَبِضُ
وَيَنْبَسِطُ، وَجَزَمَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِلُزُومِ الْقِصَاصِ فِي
الذَّكَرِ إِذَا قُطِعَ مِنْ أَصْلِهِ، وَقَال فِي الْمُحِيطِ: قَال أَبُو
حَنِيفَةَ: إِنْ قُطِعَ الذَّكَرُ مِنْ أَصْلِهِ، أَوْ مِنَ الْحَشَفَةِ،
اقْتُصَّ مِنْهُ، إِذْ لَهُ حَدٌّ مَعْلُومٌ، وَنَسَبَ صَاحِبُ
الْبَدَائِعِ هَذَا الْقَوْل إِلَى أَبِي يُوسُفَ. وَفِي قَطْعِ كُل
الْحَشَفَةِ قِصَاصٌ دُونَ خِلاَفٍ، وَلَوْ قَطَعَ بَعْضَهَا فَلاَ قِصَاصَ
فِيهَا (2) .
27 - وَأَمَّا الأُْنْثَيَانِ فَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ يَجْرِي
الْقِصَاصُ فِيهِمَا، لِلنَّصِّ وَالْمَعْنَى (3) .
فَإِنْ قَطَعَ إِحْدَاهُمَا - وَقَال أَهْل الْخِبْرَةِ إِنَّهُ
__________
(1) روضة الطالبين 9 / 195، وكشاف القناع 5 / 552، والمغني 7 / 714.
(2) الاختيار 5 / 30، وابن عابدين 5 / 356، والبدائع 7 / 308.
(3) الشرح الصغير 4 / 354، 388، وشرح الزرقاني 8 / 17.
(16/77)
مُمْكِنٌ أَخْذُهَا مَعَ سَلاَمَةِ
الأُْخْرَى - جَازَ، وَتُؤْخَذُ الْيُمْنَى بِالْيُمْنَى، وَالْيُسْرَى
بِالْيُسْرَى، وَإِلاَّ لَمْ تُؤْخَذْ، وَيَكُونُ فِيهَا نِصْفُ الدِّيَةِ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحَ الْكَاسَانِيُّ بِأَنَّهُ لاَ
يَجِبُ فِيهِمَا الْقِصَاصُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ مَفْصِلٌ
مَعْلُومٌ، فَلاَ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْل (1) .
28 - وَفِي شُفْرَيِ الْمَرْأَةِ قِصَاصٌ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
إِنْ بَدَا الْعَظْمُ؛ لأَِنَّ انْتِهَاءَهُمَا مَعْرُوفٌ، فَأَشْبَهَا
الشَّفَتَيْنِ، وَجَفْنَيِ الْعَيْنِ. وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ
وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ
فِيهِمَا؛ لأَِنَّ الشُّفْرَ لَحْمٌ لاَ مَفْصِل لَهُ يَنْتَهِي إِلَيْهِ
كَلَحْمِ الْفَخِذَيْنِ (2) .
29 - وَأَمَّا الأَْلْيَتَانِ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ
فِيهِمَا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ (3) } ، وَلأَِنَّ
لَهُمَا حَدًّا يَنْتَهِيَانِ إِلَيْهِ، فَجَرَى الْقِصَاصُ فِيهِمَا
كَالذَّكَرِ وَالأُْنْثَيَيْنِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ قَوْل الْمُزَنِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ
لاَ
__________
(1) البدائع 7 / 309.
(2) ابن عابدين 5 / 370، وشرح الزرقاني 8 / 17، والشرح الصغير 4 / 388،
وروضة الطالبين 9 / 182، والمغني 7 / 714، 715، وكشاف القناع 5 / 547، 548،
552.
(3) سورة المائدة / 45.
(16/78)
قِصَاصَ فِيهِمَا؛ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ
الْمِثْل؛ وَلأَِنَّهُمَا لَحْمٌ مُتَّصِلٌ بِلَحْمٍ فَأَشْبَهَ لَحْمَ
الْفَخِذِ (1) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَةٌ) .
10 - الْجِنَايَةُ عَلَى اللِّحْيَةِ وَشَعْرِ الرَّأْسِ وَالْحَاجِبِ:
30 - اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ
فِي حَلْقِ هَذِهِ الشُّعُورِ الثَّلاَثَةِ أَوْ نَتْفِهَا، وَإِنْ لَمْ
تَنْبُتْ؛ لأَِنَّ إِتْلاَفَهَا إِنَّمَا يَكُونُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى
مَحَلِّهَا، وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومِ الْمِقْدَارِ، فَلاَ تُمْكِنُ
الْمُسَاوَاةُ فِيهَا، فَلاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهَا. وَلأَِنَّهَا
لَيْسَتْ جِرَاحَاتٍ فَلاَ تَدْخُل فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ
قِصَاصٌ (2) } . وَذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ
وُجُوبُ الْقِصَاصِ إِذَا لَمْ تَنْبُتْ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا وَرَاءَ
ذَلِكَ مِنْ وُجُوبِ الدِّيَةِ أَوْ حُكُومَةِ عَدْلٍ، وَكَيْفِيَّةِ
اسْتِيفَائِهَا (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَةٌ) .
11 - الْجِنَايَةُ عَلَى الْعَظْمِ:
31 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِي كَسْرِ
__________
(1) البدائع 7 / 299، والشرح الصغير 4 / 390، وروضة الطالبين 9 / 182،
والمغني 7 / 715.
(2) سورة المائدة / 45.
(3) ابن عابدين 5 / 370، والبدائع 7 / 309، وجواهر الإكليل 2 / 260، وشرح
الزرقاني 8 / 17، وروضة الطالبين 9 / 273، والمغني 8 / 11، وكشاف القناع 5
/ 550.
(16/78)
الْعِظَامِ لِمَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لاَ قِصَاصَ فِي عَظْمٍ (1) ،
وَلِعَدَمِ الْوُثُوقِ بِالْمُمَاثَلَةِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُعْلَمُ
مَوْضِعُهُ، فَلاَ يُؤْمَنُ فِيهِ التَّعَدِّي.
وَمَنَعَ الْقِصَاصَ فِي الْعِظَامِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
وَعَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَابْنُ
شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيُّ، إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ نَصُّوا عَلَى
أَنَّ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْطَعَ أَقْرَبَ مَفْصِلٍ إِلَى
مَوْضِعِ الْكَسْرِ، وَيَأْخُذَ حُكُومَةً لِلْبَاقِي.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِي شَيْءٍ مِمَّا
يَعْظُمُ خَطَرُهُ كَائِنًا مَا كَانَ، كَكَسْرِ عَظْمِ الصَّدْرِ،
وَالرَّقَبَةِ، وَالظَّهْرِ، وَالْفَخِذِ، فَلاَ قِصَاصَ فِيهَا، وَفِيهَا
حُكُومَةٌ (2) .
النَّوْعُ الثَّانِي:
الْجِرَاحُ:
الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ قَدْ لاَ تَكُونُ بِالْقَطْعِ
وَالإِْبَانَةِ، بَل بِالْجُرْحِ، وَهُوَ نَوْعَانِ: الْجِرَاحُ
الْوَاقِعَةُ عَلَى الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، وَتُسَمَّى الشِّجَاجُ،
وَالْجِرَاحُ الْوَاقِعَةُ عَلَى سَائِرِ الْبَدَنِ.
__________
(1) حديث: " لا قصاص في عظم " ذكره الزيلعي في نصب الراية (4 / 350 - ط
المجلس العلمي) وقال: " غريب " يعني أنه لا أصل له مرفوعا إلى النبي صلى
الله عليه وسلم، وذكر في ذلك أحاديث موقوفة على عبد الله بن عمر وابن
مسعود.
(2) البدائع 7 / 308، وشرح الزرقاني 8 / 17، وجواهر الإكليل 2 / 260، وروضة
الطالبين 9 / 183، والمغني 7 / 710، 711، وكشاف القناع 5 / 548.
(16/79)
أَوَّلاً - الشِّجَاجُ:
32 - الشِّجَاجُ أَقْسَامٌ: أَشْهَرُهَا مَا يَلِي:
1 - الْحَارِصَةُ: وَهِيَ الَّتِي تَشُقُّ الْجِلْدَ قَلِيلاً، نَحْوَ
الْخَدْشِ، وَلاَ يَخْرُجُ الدَّمُ، وَتُسَمَّى الْحَرْصَةُ أَيْضًا.
2 - الدَّامِيَةُ: وَهِيَ الَّتِي تُدْمِي مَوْضِعَهَا مِنَ الشَّقِّ
وَالْخَدْشِ، وَلاَ يَقْطُرُ مِنْهَا دَمٌ، هَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ
الشَّافِعِيُّ وَأَهْل اللُّغَةِ، وَتَأْتِي بَعْدَهَا عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ الدَّامِعَةُ وَهِيَ مَا يَسِيل مِنْهَا الدَّمُ، أَمَّا
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَالدَّامِيَةُ مَا تُخْرِجُ الدَّمَ وَتُسِيلُهُ،
وَتَأْتِي عِنْدَهُمْ بَعْدَ الدَّامِعَةِ، وَهِيَ: الَّتِي تُظْهِرُ
الدَّمَ كَالدَّمْعِ وَلاَ تُسِيلُهُ.
وَالدَّامِيَةُ تُسَمَّى عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ الْبَازِلَةَ؛
لأَِنَّهَا تَبْزُل الْجِلْدَ أَيْ تَشُقُّهُ. وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ:
(بَازِلَةٌ) .
3 - الْبَاضِعَةُ: وَهِيَ الَّتِي تُبْضِعُ اللَّحْمَ بَعْدَ الْجِلْدِ،
أَيْ تَقْطَعُهُ، وَقِيل: الَّتِي تَقْطَعُ الْجِلْدَ (انْظُرْ مُصْطَلَحَ:
بَاضِعَةٌ) .
4 - الْمُتَلاَحِمَةُ: وَهِيَ الَّتِي تَغُوصُ فِي اللَّحْمِ، وَلاَ
تَبْلُغُ الْجِلْدَةَ بَيْنَ اللَّحْمِ وَالْعَظْمِ، وَتُسَمَّى
اللاَّحِمَةُ أَيْضًا.
5 - السِّمْحَاقَ: وَهِيَ الَّتِي تَبْلُغُ الْجِلْدَةَ الَّتِي بَيْنَ
اللَّحْمِ وَالْعَظْمِ، وَقَدْ تُسَمَّى هَذِهِ الشَّجَّةُ عِنْدَ بَعْضِ
الْفُقَهَاءِ الْمِلْطَى، وَالْمِلْطَاةَ، وَاللاَّطِئَةَ.
6 - الْمُوضِحَةُ: وَهِيَ الَّتِي تَخْرِقُ السِّمْحَاقَ وَتُوضِحُ
الْعَظْمَ.
(16/79)
7 - الْهَاشِمَةُ: وَهِيَ الَّتِي تَهْشِمُ
الْعَظْمَ أَيْ تَكْسِرُهُ سَوَاءٌ أَوْضَحَتْهُ أَمْ لاَ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ.
8 - الْمُنَقِّلَةُ: بِتَشْدِيدِ الْقَافِ وَفَتْحِهَا، أَوْ كَسْرِهَا،
وَهِيَ الَّتِي تَكْسِرُ الْعَظْمَ وَتَنْقُلُهُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى
مَوْضِعٍ سَوَاءٌ أَوْضَحَتْهُ وَهَشَّمَتْهُ أَمْ لاَ.
9 - الْمَأْمُومَةُ: وَهِيَ الَّتِي تَبْلُغُ أُمَّ الرَّأْسِ وَهِيَ
خَرِيطَةُ الدِّمَاغِ الْمُحِيطَةُ بِهِ، وَيُقَال لَهَا الآْمَّةُ أَيْضًا
(انْظُرْ مُصْطَلَحَ آمَّةٌ) .
10 - الدَّامِغَةُ: وَهِيَ الَّتِي تَخْرِقُ الْخَرِيطَةَ، وَتَصِل
الدِّمَاغَ.
فَهَذِهِ الأَْقْسَامُ الْعَشَرَةُ هِيَ الْمَشْهُورَةُ، وَذُكِرَ فِيهَا
أَلْفَاظٌ أُخْرَى تُؤَوَّل إِلَى هَذِهِ الأَْقْسَامِ.
وَتُتَصَوَّرُ جَمِيعُ هَذِهِ الشِّجَاجِ فِي الْجَبْهَةِ كَمَا
تُتَصَوَّرُ فِي الرَّأْسِ، وَكَذَلِكَ تُتَصَوَّرُ مَا عَدَا
الْمَأْمُومَةَ وَالدَّامِغَةَ فِي الْخَدِّ، وَفِي قَصَبَةِ الأَْنْفِ،
وَاللَّحْيِ الأَْسْفَل.
وَالتَّسْمِيَاتُ السَّابِقُ ذِكْرُهَا تَكَادُ تَكُونُ مَحَل اتِّفَاقٍ
بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ خِلاَفٌ يَسِيرٌ فِي
تَرْتِيبِهَا، فَمَرَدُّهُ الاِخْتِلاَفُ فِي تَحْدِيدِ الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ (1) .
__________
(1) الاختيار 5 / 41، 42، وابن عابدين 5 / 372، وشرح الزرقاني 8 / 34،
وجواهر الإكليل 2 / 259، 260، والشرح الصغير 4 / 349، 350، 351، 352، وروضة
الطالبين 9 / 179، 180، والمغني 7 / 703، 704، 709، 710، وكشاف القناع 5 /
558، 559.
(16/80)
33 - وَأَمَّا حُكْمُ هَذِهِ الشِّجَاجِ
فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقِصَاصَ وَاجِبٌ فِي
الْمُوضِحَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ (1) }
وَلِتَيْسِيرِ ضَبْطِهَا وَاسْتِيفَاءِ مِثْلِهَا؛ لأَِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ
يُنْهِيَ السِّكِّينَ إِلَى الْعَظْمِ فَتَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ، وَقَدْ
قَضَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْمُوضِحَةِ بِالْقِصَاصِ (2)
.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ
فِي الْمُوضِحَةِ مَا لَهُ بَالٌ وَاتِّسَاعٌ، فَيُقْتَصُّ وَإِنْ ضَاقَ
كَقَدْرِ مَغْرَزِ إِبْرَةٍ.
وَكَذَلِكَ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِيمَا فَوْقَ
الْمُوضِحَةِ، وَهِيَ الْهَاشِمَةُ، وَالْمُنَقِّلَةُ، وَالآْمَّةُ؛
لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ فِيمَا بَعْدَهَا؛
لأَِنَّ كَسْرَ الْعَظْمِ وَتَنَقُّلَهُ لاَ يُمْكِنُ الْمُسَاوَاةُ
فِيهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي
ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ، وَالْمَالِكِيَّةُ -
وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْبَاضِعَةِ
وَالْمُتَلاَحِمَةِ وَالسِّمْحَاقِ - إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيمَا
قَبْل الْمُوضِحَةِ أَيْضًا.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ (3) }
وَلأَِنَّهُ يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ فِيمَا قَبْلَهَا
__________
(1) سورة المائدة / 45.
(2) حديث: " قضى في الموضحة بالقصاص " قال الزيلعي في نصب الراية (4 / 374
- ط المجلس العلمي بالهند) : " غريب " يعني أنه لم يجد له أصلا.
(3) سورة المائدة / 45.
(16/80)
بِمَعْرِفَةِ قَدْرِ الْجِرَاحَةِ
فَيُسْتَوْفَى مِنْهُ مِثْل مَا فَعَل.
وَاسْتَثْنَى الشُّرُنْبُلاَلِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ السِّمْحَاقَ فَلاَ
يُقَادُ فِيهَا كَالْهَاشِمَةِ، وَالْمُنَقِّلَةِ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ عَدَمَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْحَارِصَةِ
مُطْلَقًا، وَفِي الْبَاضِعَةِ، وَالْمُتَلاَحِمَةِ، وَالسِّمْحَاقِ عَلَى
الْمَذْهَبِ، وَالدَّامِيَةُ كَالْحَارِصَةِ عِنْدَهُمْ، وَقِيل
كَالْبَاضِعَةِ.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلاَ قِصَاصَ عِنْدَهُمْ فِيمَا دُونَ
الْمُوضِحَةِ مُطْلَقًا،
وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحَارِصَةَ، وَالدَّامِيَةَ،
وَالدَّامِغَةَ؛ لأَِنَّ الْحَارِصَةَ وَالدَّامِيَةَ لاَ يَبْقَى لَهُمَا
أَثَرٌ فِي الْعَادَةِ، وَالشَّجَّةُ الَّتِي لاَ يَبْقَى لَهَا أَثَرٌ،
لاَ حُكْمَ لَهَا فِي الشَّرْعِ. وَالدَّامِغَةُ لاَ يَعِيشُ مَعَهَا
عَادَةً، فَلاَ مَعْنَى لِبَيَانِ حُكْمِ الشَّجَّةِ (1) .
ثَانِيًا - الْجِرَاحَاتُ الْوَاقِعَةُ عَلَى سَائِرِ الْبَدَنِ:
34 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِي الْجَائِفَةِ
لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
لاَ قَوَدَ فِي الْمَأْمُومَةِ، وَلاَ فِي الْجَائِفَةِ، وَلاَ فِي
الْمُنَقِّلَةِ (&# x662 ;)
.
__________
(1) ابن عابدين 5 / 373، والاختيار 5 / 42، والشرح الصغير 4 / 349، وما
بعدها، وشرح الزرقاني 8 / 34، وجواهر الإكليل 2 / 259، 260، والقوانين
الفقهية / 344، وروضة الطالبين 9 / 180، 181، والمغني 7 / 710، وكشاف
القناع 5 / 558.
(2) حديث: " لا قود في المأمومة، ولا في الجائفة، ولا المنقلة " أخرجه ابن
ماجه (2 / 881 - ط الحلبي) من حديث العباس بن عبد المطلب، وقال البوصيري: "
في إسناده رشدين بن سعد المصري، ضعفه جماعة، واختلف فيه كلام أحمد، فمرة
ضعفه ومرة قال: أرجو أنه صالح الحديث ".
(16/81)
وَلأَِنَّهَا جِرَاحٌ لاَ تُؤْمَنُ
الزِّيَادَةُ فِيهَا، فَلَمْ يَجِبْ فِيهَا قِصَاصٌ، كَكَسْرِ الْعِظَامِ.
وَالْجَائِفَةُ هِيَ الَّتِي تَصِل إِلَى الْجَوْفِ، وَالْمَوَاضِعُ
الَّتِي تَنْفُذُ فِيهَا الْجِرَاحَةُ إِلَى الْجَوْفِ هِيَ الصَّدْرُ
وَالظَّهْرُ، وَالْبَطْنُ، وَالْجَنْبَانِ، وَالدُّبُرُ، وَلاَ تَكُونُ فِي
الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَلاَ فِي الرَّقَبَةِ جَائِفَةٌ؛ لأَِنَّ
الْجُرْحَ لاَ يَصِل إِلَى الْجَوْفِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ
مَا وَصَل مِنَ الرَّقَبَةِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي لَوْ وَصَل إِلَيْهِ
مِنَ الشَّرَابِ فِطْرُهُ، تَكُونُ جَائِفَةً؛ لأَِنَّهُ لاَ يُفْطِرُ
إِلاَّ إِذَا وَصَل إِلَى الْجَوْفِ (1) .
أَمَّا غَيْرُ الْجَائِفَةِ فَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
بِأَنَّ مَا لاَ قِصَاصَ فِيهِ إِذَا كَانَ عَلَى الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ،
لاَ قِصَاصَ فِيهِ إِذَا كَانَ عَلَى غَيْرِهِمَا، وَأَمَّا الْمُوضِحَةُ
الَّتِي تُوضِحُ عَظْمَ الصَّدْرِ فَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيهَا
وَجْهَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: الأَْصَحُّ أَنَّهُ يَجِبُ، فَعِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْجِرَاحَةِ عَلَى أَيِّ مَوْضِعٍ
كَانَتْ بِشَرْطِ أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى عَظْمٍ وَلاَ تَكْسِرَهُ (2) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 374، وجواهر الإكليل 2 / 259، وروضة الطالبين 9 / 181
وما بعدها، والمغني 7 / 709، 710.
(2) روضة الطالبين 9 / 181، والمغني 7 / 709، 710.
(16/81)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ
الْجِرَاحَاتِ الَّتِي فِي غَيْرِ الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ لاَ قِصَاصَ
فِيهَا، بَل فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ إِذَا أَوْضَحَتِ الْعَظْمَ
وَكَسَرَتْهُ، وَإِذَا بَقِيَ لَهَا أَثَرٌ، وَإِلاَّ فَلاَ شَيْءَ فِيهَا
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَلْزَمُهُ
قِيمَةُ مَا أَنْفَقَ إِلَى أَنْ يَبْرَأَ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُقْتَصُّ مِنْ جِرَاحِ الْجَسَدِ وَإِنْ كَانَتْ
هَاشِمَةً، قَال ابْنُ الْحَاجِبِ: فِي جِرَاحِ الْجَسَدِ مِنَ
الْهَاشِمَةِ وَغَيْرِهَا الْقَوَدُ، بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَعْظُمَ الْخَطَرُ
كَعَظْمِ الصَّدْرِ، وَالْعُنُقِ، وَالصُّلْبِ، وَالْفَخِذِ، وَيَكُونُ
الْقِصَاصُ فِي الْجِرَاحِ بِالْمِسَاحَةِ طُولاً، وَعَرْضًا، وَعُمْقًا،
إِنِ اتَّحَدَ الْمَحَل (2) .
النَّوْعُ الثَّالِثُ:
إِبْطَال الْمَنَافِعِ بِلاَ شَقٍّ وَلاَ إِبَانَةٍ:
35 - قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى الاِعْتِدَاءِ بِالضَّرْبِ أَوِ الْجَرْحِ
زَوَال مَنْفَعَةِ الْعُضْوِ مَعَ بَقَائِهِ قَائِمًا، كَمَنْ يَلْطِمُ
شَخْصًا عَلَى وَجْهِهِ أَوْ يَجْرَحُهُ فِي رَأْسِهِ، فَيَنْشَأُ عَنْ
ذَلِكَ ذَهَابُ الْبَصَرِ أَوْ السَّمْعِ، مَعَ بَقَاءِ الْعُضْوِ
سَلِيمًا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي ذَهَابِ
مَنْفَعَةِ الْعُضْوِ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
أَنَّهُ يُقْتَصُّ فِي الْبَصَرِ وَالسَّمْعِ وَالشَّمِّ، وَكَذَلِكَ
الشَّافِعِيَّةُ فِي الْبَصَرِ وَالسَّمْعِ اتِّفَاقًا، وَفِي
__________
(1) ابن عابدين 5 / 374.
(2) جواهر الإكليل 2 / 259.
(16/82)
الْبَطْشِ وَالذَّوْقِ وَالشَّمِّ فِي
الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ؛ لأَِنَّ لَهَا مَحَال مَضْبُوطَةً، وَلأَِهْل
الْخِبْرَةِ طُرُقٌ فِي إِبْطَالِهَا. وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ غَيْرَ
ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي، فَإِنَّهُ يَجْرِي عِنْدَهُمُ الْقِصَاصُ فِي
هَذِهِ الْمَعَانِي وَغَيْرِهَا (1) .
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُمُ الْقِصَاصُ إِلاَّ فِي
زَوَال الْبَصَرِ دُونَ سِوَاهُ؛ لأَِنَّ فِي ذَهَابِ الْبَصَرِ قِصَاصًا
فِي الشَّرِيعَةِ، أَمَّا إِذَا أَدَّى الاِعْتِدَاءُ إِلَى ذَهَابِ
الْعَقْل، أَوِ السَّمْعِ، أَوِ الْكَلاَمِ، أَوِ الشَّمِّ، أَوْ
لُزُومِهِ، أَوِ الْجِمَاعِ، أَوْ مَاءِ الصُّلْبِ، أَوْ إِلَى شَلَل
الْيَدِ أَوِ الرِّجْل، فَلاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ (2) .
الْقِسْمُ الثَّانِي:
الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ الْمُوجِبَةُ لِلدِّيَةِ أَوْ
غَيْرِهَا:
36 - إِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ خَطَأً، أَوْ
لَمْ تَتَوَفَّرْ فِيهَا الشُّرُوطُ الْمُوجِبَةُ لِلْقِصَاصِ فَتَجِبُ
فِيهَا الدِّيَةُ، أَوْ حُكُومَةُ عَدْلٍ، عَلَى حَسَبِ الأَْحْوَال،
وَهِيَ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ: لأَِنَّهَا لاَ تَخْلُوا إِمَّا أَنْ تَكُونَ
بِالْقَطْعِ وَإِبَانَةِ الأَْطْرَافِ، أَوْ بِالْجُرْحِ، أَوْ بِإِزَالَةِ
الْمَنَافِعِ.
__________
(1) شرح الزرقاني 8 / 17، وروضة الطالبين 9 / 186، وكشاف القناع 5 / 552،
553.
(2) البدائع 7 / 307، 309.
(16/82)
النَّوْعُ الأَْوَّل: إِبَانَةُ
الأَْطْرَافِ:
37 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ كُل عُضْوٍ لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ
تَعَالَى فِي بَدَنِ الإِْنْسَانِ مِنْهُ إِلاَّ وَاحِدًا كَاللِّسَانِ
وَالأَْنْفِ، وَالذَّكَرِ، وَالصُّلْبِ، وَغَيْرِهَا، فَفِيهِ دِيَةٌ
كَامِلَةٌ، وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ: أَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال: فِي النَّفْسِ الدِّيَةُ، وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ، وَفِي
الذَّكَرِ الدِّيَةُ، وَفِي الأَْنْفِ الدِّيَةُ، وَفِي الْمَارِنِ
الدِّيَةُ (1) .
لأَِنَّ إِتْلاَفَ كُل عُضْوٍ مِنْ هَذِهِ الأَْعْضَاءِ كَإِذْهَابِ
مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ، وَإِذْهَابُ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ كَإِتْلاَفِ
النَّفْسِ، فَإِتْلاَفُ كُل عُضْوٍ مِنْ هَذِهِ الأَْعْضَاءِ كَإِتْلاَفِ
النَّفْسِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الأَْنْفَ يَشْتَمِل عَلَى ثَلاَثَةِ
أَشْيَاءَ: الْمَنْخِرَيْنِ، وَالْحَاجِزِ بَيْنَهُمَا، فَفِي الأَْنْفِ
الدِّيَةُ، وَفِي كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثُهَا. وَبِهَذَا قَال
إِسْحَاقُ وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَمَا خُلِقَ فِي الإِْنْسَانِ مِنْهُ شَيْئَانِ كَالْيَدَيْنِ
وَالرِّجْلَيْنِ، وَالْعَيْنَيْنِ وَالأُْذُنَيْنِ، وَالْمَنْخِرَيْنِ،
وَالشَّفَتَيْنِ، وَالأُْنْثَيَيْنِ، وَالثَّدْيَيْنِ، وَالأَْلْيَتَيْنِ
وَغَيْرِهَا، فَفِيهِمَا الدِّيَةُ كَامِلَةً؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ لِعَمْرِو بْنِ حَازِمٍ
فِي كِتَابِهِ: وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفُ
الدِّيَةِ، وَفِي
__________
(1) حديث: " في النفس الدية، وفي اللسان الدية، وفي الذكر الدية، وفي الأنف
الدية، وفي المارن الدية " يشهد لهذا المرسل حديث عمرو بن حزم المتقدم
ذكره. ف / 18.
(16/83)
الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي إِحْدَاهُمَا
نِصْفُ الدِّيَةِ. . . (1)
وَلأَِنَّ فِي إِتْلاَفِهِمَا إِذْهَابَ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ، وَفِي
أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لأَِنَّ فِي إِتْلاَفِ إِحْدَاهُمَا
إِذْهَابَ نِصْفِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَيْنِ الأَْعْوَرِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ فِيهَا نِصْفَ الدِّيَةِ وَبِهِ قَال
مَسْرُوقٌ وَعَبْدُ اللَّهُ بْنُ مُغَفَّلٍ، وَالنَّخَعِيُّ،
وَالثَّوْرِيُّ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَفِي
الْعَيْنِ خَمْسُونَ مِنَ الإِْبِل (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ فِي إِتْلاَفِ
عَيْنِ الأَْعْوَرِ دِيَةً كَامِلَةً وَبِهِ قَال الزُّهْرِيُّ،
وَاللَّيْثُ، وَقَتَادَةُ، وَإِسْحَاقُ؛ لأَِنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ
وَعَلِيًّا وَابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَضَوْا فِي عَيْنِ
الأَْعْوَرِ بِالدِّيَةِ، وَلَمْ يُعْلَمْ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ
مُخَالِفٌ فَيَكُونُ إِجْمَاعًا؛ وَلأَِنَّ قَلْعَ عَيْنِ الأَْعْوَرِ
تَضْمَنَّ إِذْهَابَ الْبَصَرِ كُلِّهِ، فَوَجَبَتِ الدِّيَةُ كَمَا لَوْ
أَذْهَبَهُ مِنَ الْعَيْنَيْنِ.
وَمَا خُلِقَ فِي الإِْنْسَانِ مِنْهُ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ فَفِيهَا
الدِّيَةُ، وَفِي كُل وَاحِدٍ مِنْهَا رُبُعُ الدِّيَةِ، وَهُوَ أَجْفَانُ
الْعَيْنَيْنِ وَأَهْدَابُهَا.
__________
(1) حديث: " في العينين الدية، وفي إحداهما نصف الدية، وفي اليدين الدية
وفي إحداهما نصف الدية " أخرجه النسائي (8 / 59 - ط المكتبة التجارية) من
حديث عمرو بن حزم، وقد تقدم ف / 18.
(2) حديث: " في العين خمسون من الإبل " أخرجه النسائي (8 / 60 - ط المكتبة
التجارية) من حديث عمرو بن حزم.
(16/83)
وَمَا فِيهِ مِنْهُ عَشَرَةٌ فَفِيهَا
الدِّيَةُ، وَفِي كُل وَاحِدٍ مِنْهَا عُشْرُهَا، فَفِي أَصَابِعِ
الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ الدِّيَةُ أَيْضًا،
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ إِصْبَعٍ وَإِصْبَعٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي كُل إِصْبَعٍ عَشْرٌ مِنَ الإِْبِل (1)
وَالأَْصَابِعُ كُلُّهَا سَوَاءٌ، فَالْخِنْصَرُ وَالإِْبْهَامُ سَوَاءٌ،
وَفِي كُل سُلاَمَى مِنَ السُّلاَمِيَّاتِ الثَّلاَثِ ثُلُثُ دِيَةِ
الأُْصْبُعِ مَا عَدَا الإِْبْهَامَ فَإِنَّهَا مَفْصِلاَنِ، وَفِي كُل
مَفْصِلٍ نِصْفُ دِيَةِ الإِْصْبَعِ.
وَلَيْسَ فِي الْبَدَنِ شَيْءٌ مِنْ جِنْسٍ يَزِيدُ عَلَى الدِّيَةِ إِلاَّ
الأَْسْنَانُ فَإِنَّ فِي كُل سِنٍّ خَمْسًا مِنَ الإِْبِل، أَيْ نِصْفُ
عُشْرِ الدِّيَةِ، وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: فِي كُل سِنٍّ خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل (2)
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ سِنٍّ وَسِنٍّ؛ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ (3) .
38 - وَأَمَّا إِزَالَةُ شَعْرِ الرَّأْسِ، وَاللِّحْيَةِ،
وَالْحَاجِبَيْنِ إِذَا لَمْ يَنْبُتْ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ،
وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ فِيهَا الدِّيَةَ، وَبِهِ قَال الثَّوْرِيُّ؛
لأَِنَّهُ أَذْهَبَ الْجَمَال عَلَى الْكَمَال، فَوَجَبَ فِيهِ دِيَةٌ
كَامِلَةٌ كَأُذُنِ الأَْصَمِّ، وَأَنْفِ الأَْخْشَمِ.
__________
(1) حديث: " في كل إصبع عشر من الإبل " أخرجه النسائي (8 / 60 - ط المكتبة
التجارية) من حديث عمرو بن حزم.
(2) حديث: " في كل سن خمسون من الإبل " أخرجه النسائي (8 / 60 - ط المكتبة
التجارية) من حديث عمرو بن حزم.
(3) الاختيار 5 / 37 وما بعدها، وابن عابدين 5 / 369 وما بعدها، والبدائع 7
/ 311 وما بعدها، وجواهر الإكليل 2 / 260 وما بعدها، وروضة الطالبين 9 /
271 وما بعدها، وكشاف القناع 6 / 34 وما بعدها، والمغني 8 / 1 وما بعدها.
(16/84)
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
أَنَّ فِيهِ حُكُومَةَ عَدْلٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لأَِنَّهُ
إِتْلاَفُ جَمَالٍ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ، فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الدِّيَةُ
كَالْيَدِ الشَّلاَّءِ، وَالْعَيْنِ الْقَائِمَةِ (1) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ
كُلِّهِ فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَةٌ) .
النَّوْعُ الثَّانِي: الْجِرَاحُ:
39 - قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ فِي
الْمُوضِحَةِ إِذَا كَانَتْ فِي الْوَجْهِ أَوِ الرَّأْسِ خَمْسًا مِنَ
الإِْبِل، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ، وَلَيْسَ فِي
جِرَاحَاتِ غَيْرِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فِي قَوْل
أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ.
وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ مِنَ الإِْبِل، وَفِي كُلٍّ مِنَ
الْمَأْمُومَةِ وَالْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ
كُلِّهِ كِتَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو
بْنِ حَزْمٍ الْمَعْرُوفُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْل ذَلِكَ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ فِي الدَّامِغَةِ مَا فِي
الْمَأْمُومَةِ؛ لأَِنَّهَا أَبْلَغُ مِنَ الْمَأْمُومَةِ، وَلاَ يَسْلَمُ
صَاحِبُهَا فِي الْغَالِبِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْهُ مُحَمَّدُ بْنُ
الْحَسَنِ بَيْنَ الشِّجَاجِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَعِيشُ مَعَهَا، وَلَيْسَ
لَهَا حُكْمٌ.
وَأَمَّا الْهَاشِمَةُ: فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُوجِبِهَا:
__________
(1) المراجع السابقة.
(16/84)
فَقَدَّرَهَا الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ بِعُشْرِ الدِّيَةِ، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ
الْهَاشِمَةَ تُرَادِفُ الْمُنَقِّلَةَ.
وَقَدَّرَهَا الشَّافِعِيَّةُ - فِي الأَْصَحِّ - وَالْحَنَابِلَةُ
وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ بِعَشْرٍ مِنَ الإِْبِل إِنْ كَانَتْ
مَعَ إِيضَاحٍ أَوِ احْتِيجَ إِلَيْهِ بِشَقٍّ لإِِخْرَاجِ عَظْمٍ أَوْ
تَقْوِيمِهِ، فَإِنْ لَمْ تُوضِحْ فَخَمْسٌ مِنَ الإِْبِل وَقِيل:
حُكُومَةٌ.
وَأَمَّا مَا قَبْل الْمُوضِحَةِ مِنَ الشِّجَاجِ وَهِيَ الْحَارِصَةُ
وَالسِّمْحَاقُ وَمَا بَيْنَهُمَا فَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ؛ لأَِنَّهُ
لَمْ يَثْبُتْ فِيهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ بِتَوْقِيفٍ، وَلاَ لَهُ قِيَاسٌ
فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَى الْحُكُومَةِ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَاتٌ) .
النَّوْعُ الثَّالِثُ: إِبْطَال الْمَنَافِعِ:
40 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ تَجِبُ بِإِزَالَةِ الْعَقْل
كَمَال الدِّيَةِ؛ لأَِنَّهُ أَكْبَرُ الْمَعَانِي قَدْرًا، وَأَعْظَمُ
الْحَوَاسِّ نَفْعًا، وَبِإِبْطَال السَّمْعِ مِنَ الأُْذُنَيْنِ أَوِ
الْبَصَرِ مِنِ الْعَيْنَيْنِ، أَوِ الشَّمِّ مِنَ الْمَنْخِرَيْنِ كَمَال
الدِّيَةِ، وَبِإِبْطَال الْمَنْفَعَةِ مِنْ إِحْدَى الأُْذُنَيْنِ، أَوِ
الْعَيْنَيْنِ، أَوِ الْمَنْخِرَيْنِ، نِصْفُ الدِّيَةِ، مِنْ إِحْدَاهَا.
وَكَذَلِكَ بِإِبْطَال الصَّوْتِ، وَالذَّوْقِ،
__________
(1) الاختيار 5 / 41، 42 وما بعدها، وجواهر الإكليل 2 / 267، والقوانين
الفقهية ص 344، والشرح الصغير 4 / 381 وما بعدها، وروضة الطالبين 9 / 263
وما بعدها، والمغني 8 / 42 وما بعدها، وكشاف القناع 6 / 51 - 56.
(16/85)
وَالْمَضْغِ، وَالإِْمْنَاءِ
وَالإِْحْبَال، وَالْجِمَاعِ، وَالْبَطْشِ، وَالْمَشْيِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْمَذَاقَ مُشْتَمِلٌ عَلَى خَمْسَةِ
أَشْيَاءَ: الْحَلاَوَةِ، وَالْمَرَارَةِ، وَالْحُمُوضَةِ، وَالْعُذُوبَةِ،
وَالْمُلُوحَةِ، فَفِيهِ الدِّيَةُ، وَفِي أَحَدِ أَقْسَامِهَا خُمُسُهَا
(1) . وَفِي شَرَائِطِ وُجُوبِ الدِّيَةِ وَكَيْفِيَّتِهَا خِلاَفٌ
وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ مُصْطَلَحِ: (دِيَاتٌ) .
__________
(1) الاختيار 5 / 43، وابن عابدين 5 / 319 وما بعدها، والبدائع 7 / 311 وما
بعدها، والقوانين الفقهية ص 344، وجواهر الإكليل 2 / 267، وروضة الطالبين 9
/ 289 وما بعدها، والمغني 8 / 37 وما بعدها.
(16/85)
جِنْسٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجِنْسُ فِي اللُّغَةِ الضَّرْبُ مِنْ كُل شَيْءٍ.
قَال فِي اللِّسَانِ: الإِْبِل جِنْسٌ مِنَ الْبَهَائِمِ الْعُجْمِ،
فَإِذَا وَالَيْتَ سِنًّا مِنْ أَسْنَانِ الإِْبِل عَلَى حِدَةٍ فَقَدْ
صَنَّفْتَهَا تَصْنِيفًا، كَأَنَّكَ جَعَلْتَ بَنَاتِ الْمَخَاضِ مِنْهَا
صِنْفًا، وَبَنَاتِ اللَّبُونِ صِنْفًا، وَالْحِقَاقِ صِنْفًا، وَكَذَلِكَ
الْجَذَعُ وَالثَّنِيُّ. وَالْحَيَوَانُ أَجْنَاسٌ، فَالنَّاسُ جِنْسٌ،
وَالإِْبِل جِنْسٌ، وَالْبَقَرُ جِنْسٌ، وَالشَّاءُ جِنْسٌ. (1)
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ عَرَّفَهُ الْجُرْجَانِيُّ بِأَنَّهُ اسْمٌ
دَالٌّ عَلَى كَثِيرِينَ مُخْتَلِفِينَ بِالأَْنْوَاعِ. وَقَال
الشِّرْبِينِيُّ: الْجِنْسُ: كُل شَيْئَيْنِ أَوْ أَشْيَاءَ جَمَعَهَا
اسْمٌ خَاصٌّ تَشْتَرِكُ فِي ذَلِكَ الاِسْمِ بِالاِشْتِرَاكِ
الْمَعْنَوِيِّ (2) .
وَعَرَّفَهُ الْمَنَاطِقَةُ بِأَنَّهُ مَا صَدَقَ
__________
(1) انظر الصحاح، والقاموس، واللسان، والمصباح مادة (جنس)
.
(2) التعريفات للجرجاني في المادة ومغني المحتاج 2 / 23.
(16/86)
فِي جَوَابِ مَا هُوَ عَلَى كَثِيرِينَ
مُخْتَلِفِينَ بِالْحَقِيقَةِ، وَالنَّوْعُ مَا صَدَقَ فِي جَوَابِ مَا
هُوَ عَلَى كَثِيرِينَ مُتَّفِقِينَ بِالْحَقِيقَةِ. (1)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْجِنْسِ:
أ - اتِّحَادُ الْجِنْسِ فِي الزَّكَاةِ:
2 - قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي زَكَاةِ
الْخُلْطَةِ: إِنَّ الْخُلَطَاءَ يُعَامَلُونَ فِي الزَّكَاةِ مُعَامَلَةَ
الْمَالِكِ الْوَاحِدِ فِي زَكَاةِ الْمَاشِيَةِ وَغَيْرِهَا عَلَى خِلاَفٍ
بَيْنَهُمْ فِيمَا يَثْبُتُ فِيهِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ بِالشُّرُوطِ الَّتِي
تُذْكَرُ فِي بَابِهَا، وَبِشَرْطِ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، سَوَاءٌ كَانَتِ
الْخُلْطَةُ خُلْطَةَ أَعْيَانٍ، أَوْ خُلْطَةَ أَوْصَافٍ، (2) لِخَبَرِ
أَنَسٍ لاَ يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلاَ يُفَرَّقُ مُجْتَمِعٌ
خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخُلْطَةَ لاَ أَثَرَ لَهَا فِي
الْقَدْرِ الْوَاجِبِ، وَلاَ فِي النِّصَابِ فِي الزَّكَاةِ، فَلَوْ
كَانَتْ سَائِمَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ لاَ تَجِبُ
الزَّكَاةُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يَبْلُغَ نَصِيبُ كُل
شَرِيكٍ نِصَابًا (4) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
__________
(1) حاشية الصبان على السلم ص 60، 62 - ط الأولى.
(2) الزرقاني 2 / 123 - ط دار الفكر، نهاية المحتاج 3 / 59 - ط المكتبة
الإسلامية، وحاشية القليوبي 2 / 11 - 12 - ط الحلبي، والمغني 2 / 607 - 608
- ط الرياض.
(3) حديث: " لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق مجتمع خشية الصدقة " أخرجه
البخاري (فتح الباري 3 / 314 - ط السلفية) من حديث أنس بن مالك.
(4) الاختيار 1 / 110 - ط المعرفة.
(16/86)
فَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُل
نَاقِصَةً مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً وَاحِدَةً فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ (1)
.
وَأَمَّا اتِّحَادُ الْجِنْسِ عِنْدَ الْمَالِكِ الْوَاحِدِ بِأَنْ مَلَكَ
إِبِلاً، بَعْضُهَا أَرْحَبِيَّةٌ، وَبَعْضُهَا مُهْرِيَّةٌ، أَوْ مَلَكَ
بَقَرًا بَعْضُهَا عِرَابٌ، وَبَعْضُهَا جَوَامِيسُ، أَوْ مَلَكَ غَنَمًا
بَعْضُهَا مِنَ الضَّأْنِ، وَبَعْضُهَا مِنَ الْمَعْزِ، فَإِنَّهُ يَضُمُّ
بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ، وَيَجُوزُ الإِْخْرَاجُ مِنْ أَيِّ نَوْعٍ مَا
دَامَ الْجِنْسُ مُتَّحِدًا. وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَوْجُهٌ أُخْرَى
مَحَلُّهَا مُصْطَلَحُ: (زَكَاةٌ) .
وَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَتِ الأَْجْنَاسُ فَالأَْصْل أَنْ لاَ يُضَمَّ
بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، فَلاَ تُضَمُّ الْبَقَرُ إِلَى الإِْبِل، وَلاَ
إِلَى الْغَنَمِ، وَلاَ يُضَمُّ الْقَمْحُ إِلَى التَّمْرِ فِي تَكْمِيل
النِّصَابِ. وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ صُوَرٌ مُعَيَّنَةٌ يَأْخُذُ بِهَا
بَعْضُ الْمَذَاهِبِ (2) (وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: زَكَاةٌ) .
ب - أَثَرُ اتِّحَادِ الْجِنْسِ وَاخْتِلاَفِهِ فِي الْبُيُوعِ
الرِّبَوِيَّةِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الشَّيْئَيْنِ إِذَا كَانَا مِنْ
جِنْسٍ وَاحِدٍ وَكَانَا رِبَوِيَّيْنِ، فَإِذَا بِيعَ أَحَدُهُمَا
بِالآْخَرِ فَلاَ يَجُوزُ فِيهِمَا النَّسَاءُ، أَيْ تَأْخِيرُ
التَّسْلِيمِ
__________
(1) حديث: " فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة. . . ". أخرجه
البخاري (فتح الباري 3 / 317 - 318 - ط السلفية) من حديث أنس بن مالك.
(2) الزرقاني 2 / 123 - ط دار الفكر، وحاشية القليوبي 2 / 9 - 12 - ط
الحلبي، وروضة الطالبين 2 / 172 - ط المكتب الإسلامي، والمغني 2 / 607 -
608 - ط الرياض.
(16/87)
لِكِلاَ الْعِوَضَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا؛
لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذَّهَبُ
بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ،
وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، وَالتَّمْرُ
بِالتَّمْرِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا
اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَْصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ
يَدًا بِيَدٍ (1) .
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي بَعْضِ الأَْشْيَاءِ الْمُتَشَابِهَةِ هَل هِيَ
جِنْسٌ وَاحِدٌ فَيَحْرُمُ فِيهَا التَّفَاضُل، أَمْ جِنْسَانِ فَلاَ
يَحْرُمُ؟
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ كُل شَيْئَيْنِ اتَّفَقَا فِي الاِسْمِ
الْخَاصِّ مِنْ أَصْل الْخِلْقَةِ كَالتَّمْرِ الْبَرْنِيِّ وَالتَّمْرِ
الْمَعْقِلِيِّ فَهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَكُل شَيْئَيْنِ اخْتَلَفَا فِي
الاِسْمِ مِنْ أَصْل الْخِلْقَةِ كَالْحِنْطَةِ وَالتَّمْرِ فَهُمَا
جِنْسَانِ بِدَلاَلَةِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ.
وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا، إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا:
إِنَّ الطَّعَامَيْنِ إِنِ اسْتَوَيَا فِي الْمَنْفَعَةِ كَأَصْنَافِ
الْحِنْطَةِ، أَوْ تَقَارَبَا فِيهَا كَالْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ وَالسُّلْتِ
فَهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ تَبَايَنَا فِي الْمَنْفَعَةِ كَالتَّمْرِ
وَالْقَمْحِ فَهُمَا جِنْسَانِ. (2) وَيُنْظَرُ تَفْصِيل الْقَوْل فِي
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مُصْطَلَحِ: (رِبًا) .
__________
(1) حديث: " الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر. . . " أخرجه مسلم (3
/ 1211 - ط عيسى الحلبي) من حديث عبادة بن الصامت.
(2) الزيلعي 4 / 85، 86، وجواهر الإكليل 2 / 18، والمجموع 1 / 175، وكشاف
القناع 3 / 254، 255.
(16/87)
ج - الْجِنْسُ فِي السَّلَمِ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ لاَ بُدَّ أَنْ
يَكُونَ مَضْبُوطًا بِالصِّفَاتِ الَّتِي يَخْتَلِفُ الثَّمَنُ
بِاخْتِلاَفِهَا ظَاهِرًا؛ لأَِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ عِوَضٌ مَوْصُوفٌ فِي
الذِّمَّةِ، فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا بِالصِّفَةِ، كَالثَّمَنِ
فَيَذْكُرُ جِنْسَهُ بِأَنْ يَقُول تَمْرٌ، وَنَوْعُهُ كَتَمْرٍ بَرْنِيِّ
أَوْ مَعْقِلِيٍّ، فَإِنْ أَتَى بِغَيْرِ جِنْسِ الْمُسْلَمِ فِيهِ لاَ
يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ؛ إِذْ لاَ يَجُوزُ الاِعْتِيَاضُ عَنْهُ، وَإِنْ
أَتَى بِجِنْسِهِ وَعَلَى صِفَتِهِ الْمَشْرُوطَةِ وَجَبَ قَبُولُهُ
قَطْعًا. (1)
د - الاِخْتِلاَفُ فِي جِنْسِ الْمَغْصُوبِ:
5 - إِذَا اخْتَلَفَ الْغَاصِبُ وَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ فِي جِنْسِ
الْمَغْصُوبِ، أَوْ صِفَتِهِ، أَوْ قَدْرِهِ، أَوْ وَزْنِهِ، أَوْ
تَلَفِهِ، فَالْقَوْل قَوْل الْغَاصِبِ بِيَمِينِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ،
وَكَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ وَهُوَ
أَيْضًا قَوْل الْحَنَابِلَةِ فِي غَيْرِ الإِْتْلاَفِ بِلاَ خِلاَفٍ،
وَفِي الإِْتْلاَفِ عَلَى الصَّحِيحِ، مِنَ الْمَذْهَبِ؛ لأَِنَّهُ
غَارِمٌ، (2) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (غَصْبٌ) .
__________
(1) البناية 6 / 661 - 662 - ط دار الفكر، وجواهر الإكليل 2 / 68، 70 - ط
دار المعرفة، والدسوقي 3 / 200، والإقناع 1 / 268 - ط دار المعرفة، وروضة
الطالبين 4 / 29 - 30 - ط المكتب الإسلامي، ونهاية المحتاج 4 / 209 - ط
المكتبة الإسلامية، وكشاف القناع 3 / 292 - ط النصر، والمغني 4 / 310 - ط
الرياض.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 138 - ط المكتبة الإسلامية، الخرشي 6 / 145 - ط
صادر، الزرقاني 6 / 152 - ط دار الفكر، جواهر الإكليل 2 / 152 - ط دار
المعرفة، وروضة الطالبين 5 / 28 - ط المكتب الإسلامي، والإنصاف 6 / 211 ط
التراث.
(16/88)
هـ - الْوَصِيَّةُ لِجِنْسِ فُلاَنٍ:
6 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ قَال فِي وَصِيَّتِهِ "
أَوْصَيْتُ لِجِنْسِ فُلاَنٍ " فَهُمْ أَهْل بَيْتِ أَبِيهِ دُونَ أَهْل
بَيْتِ أُمِّهِ؛ لأَِنَّ الإِْنْسَانَ يَتَجَنَّسُ بِأَبِيهِ وَلاَ
يَتَجَنَّسُ بِأُمِّهِ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ جِنْسَهُ فِي النَّسَبِ.
بِخِلاَفِ مَا لَوْ أَوْصَى لِقَرَابَتِهِ، فَيَدْخُل أَيْضًا أَقَارِبُهُ
مِنْ جِهَةِ الأُْمِّ؛ لأَِنَّ الْقَرَابَةَ مَنْ يَتَقَرَّبُ إِلَى
الإِْنْسَانِ بِغَيْرِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي الطَّرَفَيْنِ
بِخِلاَفِ الْجِنْسِ. (1) وَالتَّفْصِيل فِي: (وَصِيَّةٌ) .
و شُرْبُ مَا يُسْكِرُ جِنْسُهُ:
7 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ يُحَدُّ بِشُرْبِ مَا
يُسْكِرُ جِنْسُهُ وَإِنْ لَمْ يُسْكِرْ مَا شَرِبَهُ لِقِلَّتِهِ أَوِ
اعْتِيَادِ الشَّارِبِ لَهُ، سَوَاءٌ كَانَ عَصِيرَ عِنَبٍ، أَوْ نَقِيعَ
زَبِيبٍ، أَوْ تَمْرٍ، أَوْ رُطَبٍ، أَوْ بُسْرٍ، أَوْ عَسَلٍ، أَوْ
حِنْطَةٍ، أَوْ شَعِيرٍ، أَوْ ذُرَةٍ، أَوْ أُرْزٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
أَمَّا الْخَمْرُ الَّتِي هِيَ مِنَ الْعِنَبِ فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ
الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْقَلِيل وَالْكَثِيرَ مِنْهَا سَوَاءٌ فِي
الْحُرْمَةِ وَفِي وُجُوبِ الْحَدِّ، (2) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ
وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا مَا أَسْكَرَ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 350 - ط الجمالية، والهداية مع تكملة فتح القدير 8 /
475.
(2) جواهر الإكليل 2 / 295 - ط المعرفة، والدسوقي 4 / 352 - ط دار الفكر،
الزرقاني 8 / 112 - ط دار الفكر، الاختيار 4 / 98 - دار المعرفة، حاشية
القليوبي 4 / 202 - ط الحلبي، وكشاف القناع 6 / 116 - 117 - ط النصر.
(16/88)
كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ (1)
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ
وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَنْ شَرِبَ
الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ (2) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (أَشْرِبَةٌ)
.
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
8 - يَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ الْجِنْسَ فِي مَوَاطِنَ أُخْرَى
فَيَذْكُرُونَهُ فِي تَعْيِينِ النِّيَّةِ فِي الْكَفَّارَةِ إِذَا كَانَتْ
أَسْبَابُهَا مُخْتَلِفَةً أَوْ مُتَّحِدَةَ الْجِنْسِ، وَفِي الْبَيْعِ
كَاخْتِلاَطِ الْمَبِيعِ بِجِنْسِهِ، وَفِي الإِْجَارَةِ كَعُدُولِهِ عَنِ
الْجِنْسِ الْمَشْرُوطِ فِيهَا إِلَى غَيْرِهِ، وَفِي الإِْقْرَارِ كَمَا
لَوْ كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَوْ مِنْ
غَيْرِهِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُصْطَلَحَاتِ الْخَاصَّةِ بِتِلْكَ
الْمَوَاطِنِ.
__________
(1) حديث: " ما أسكر كثيره فقليله حرام " أخرجه أبو داود (4 / 87 - ط عزت
عبيد دعاس) . والترمذي (4 / 292 - ط مصطفى الحلبي) من حديث جابر بن عبد
الله. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وصححه ابن حجر (التلخيص الحبير 4 /
73 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) حديث: " من شرب الخمر فاجلدوه " أخرجه أحمد (14 / 184 ط دار المعارف،
وجمعه أحمد شاكر) . وأبو داود (4 / 625 ط عزت عبيد دعاس) والحاكم (4 / 371
ط دار الكتاب العربي) من حديث أبي هريرة، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين.
(16/89)
|